بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي.
رحم الله والدنا الشيخ عبد الله البابلي الرفاعي القادري, وأسأل الله ان يلحقه بمن يتولى محمد وآل محمد وأوليائهم.
أخونا وحبيبنا الوصال , أسأل الله أن يلهمك ومحبو الشيخ جميعا الصبر والسلوان على فراقه, وأعزي أهل المودة, بهذا النجم في سماء, الأمة المحمدية.
وأحب ان أذكر أخوتي وأحبتي أهل الطريق, بأن يرون تقلبات تلك الدار بعين الله ليعرفوا حقيقتها, ويسلموا من الاندساس فيها, فأقول:
قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ).
وقال تعالى: (وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ), وكثير من الآيات غيرهما, قد ذمت الكثرة, ومدحت القلة, وأهل هذا الطريق هم القلة الممدوحة, الذين عرفوا ذنب وجوداتهم السرابية فاستغفروا الله وفتحوا أعين بصائرهم فوجدوا الله عندهم, فلا تغرنكم اخوتي الكثرة وما هم عليه, فان علي ابن ابي طالب عليه السلام يقول: (اولياء الله سلم ما عادى الناس وعدو ما سالم الناس), فان الفقر عند الناس غنى والغنى فقر, والعز ذل والذل عز, والموت حياة والحياة موت, ومن هنا أبدء مع أخوتي, لأنبه الى حقيقة الموت وان لا تمتزج نظرتكم له بنظرة أسرى الفكر والتصورات, وانه في الحقيقة ولادة وحياة اتم واكمل من هذه الحياة الدنيا بما لا يقاس, واني انزهكم ان يكون إرث أهل الاحساس من ركام التصورات والتقليد قد وصل اليكم.
أيتها القلة الممدوحة في القرآن
اعلموا ان الحكماء يرون ان النفس قد وصلت على كره اليك لبعد المناسبة, ولذا كرر تعالى الأمر بالهبوط, وكأنها انفت اول امرها مواصلة مغاور هذا العالم وكهوفه المظلمة, ولانها كانت ضعيفة القوى, لم تستطع ان تباشر قواها الا بالآلة الجسمانية, التي هي صورة النفس, في هذا العالم, فالنفس هي الحاملة للبدن, ولأن هذا العالم قد انتظم من أعلاه الى أدناه بالحب الالهي وطلبه, فكل الجواهر الشريفة متجهة الى غايتها, قاصدة الرحيل الى موطنها الأول, فكلما ازدادت قواها, ضعف تعلقها بالحس, في طور بعد طور, فتنصرف النفس عن تدبير هذا البدن شيئا فشيئا, متجهة الى باريها, وتتطلع الى عالمها, وكلما مدت عينها الى عوالم النور ذبل البدن لانها تنصرف عنه في نضوجها وتكاملها, ولان هذا الجسد الذي هو ثفل كثيف لا طاقة له بعوالم النور تراه يزداد ذبولا, سواء أشعر الانسان بذلك ام لا, الى ان يحصل للنفس الاستقلال التام في قواها واستيفاء فعلياتها بحسب استعدادها, فتلقي بهذا الجسد الكثيف الترابي, وتتنفس حياة أسمى وأوسع وأكمل بما لا يقاس.
ولو صح لنا التمثيل للمقارنة بين عالمنا وبين النشأة الآخرة, لمثلنا بأجنّة كانوا في رحم أمهم قال لهم أحدهم ان هناك عالما شاسع الأبعاد مضيئا لا تحتاجون فيه الى ارتباط بتلك المشيمة, يسمى الدنيا وسنخرج اليه وسنجوب في آفاقه ونذرع مسالكه, من دون علقة بهذا الرحم المظلم الضيق, ربما سيكذبه من معه في الرحم, بل ربما يحاربوه, ويثبتوا جنونه, ويستدلون على ذلك بعشرات الادلة, فهكذا أخوتي النشأة الآخرة نسبة الى هذا العالم المظلم الضيق الذي يسميه أهل الله الدرك الأسفل من النار, والقرية الظالم أهلها, وكذا فهمنا للذّات عالمنا المقبل ولحياتنا ووعينا وحضورنا هو مثل فهم الجنين للذّات عالمنا وحياته ووعيه وحضوره.
وتستمر النفس في طريقها الى موطنها الاول, الى ان يتصل مبدأها بمعادها, قال تعالى: ( اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ), فالنفس في مسيرة في كل نفس لا تنفك تطلب أصلها الذي تغربت عنه بهذا السكر الدنيوي وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد, ولابد من اللقاء, (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ).
فاعلموا اخوتي ان هذا الموت الذي تشهدونه في انعتاق الارواح من الابدان ليس في التمثيل الا خطوة لكمال ودخول في باب من أبواب الآخرة, وكشف غطاء, فلا يحزن أحدكم ان سافر أحد أحبته الى مكان لا تقاس سعادته بهذا العالم, فليس الموت الا تنحية ما لا يستطيع البقاء, لطور آخر من المسير, الى الله, ليتمكن زيت الحياة ان يضيئكم, فالدموع اخوتي لدنياكم, والفرح لمن رحلوا الذين سيرتعون بمباهج الحبيب, وينطقون بالف باء الحرية.
الا ترون دموع من كان قبلكم على ماذا سكبت, يقول الحلاج :
ابكي على شجني من فرقتي وطني
طوعا ويسعدني بالنوح أعدائي
أخوتي الأحبة
قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.
وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)
فجعل الموت امنية الاولياء وعلامتهم, فأعيذكم ان تكونوا كهؤلاء زعموا انهم أولياء لله, ثم لما دعاهم وليهم للقاءه نكصوا, وقال علي ابن ابي طالب : (لابن ابي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه).
وقال عليه السلام ( لا راحة كالموت) ولا هنا تسمى نافية للجنس, فهي تفيد نفي جنس الراحة عن أي شئ يمكن ان تتوهم فيه الراحة, فلا يكون مثل الموت في راحته, الا تكون تلك اشارة لنا ان الناس تبحث عن الراحة في المكان الخطأ.
وكان جعفر الصادق عليه السلام يريد ان يأكل وقد اجتمع ندماؤه, فنعي اليه ولده اسماعيل عليه السلام, فتبسم ثم دعا بطعامه, وقعد مع ندماؤه, وجعل يأكل ويضع الطعام بين أيديهم ويتعجبون منه انهم لا يرون للحزن عليه أثرا, فلما فرغ قالوا, يا ابن رسول الله لقد رأينا عجبا , أصبت بمثل هذا الأبن , وأنت كما نرى, قال: وما لي لا أكون كما ترون؟ وقد جاء في خبر أصدق الصادقين اني ميت وإياكم, ان قوما عرفوا الموت فجعلوه نصب أعينهم ولم ينكروا من يخطفه الموت منهم وسلموا لأمر خالقهم عز وجل .
فشدوا اخوتي مئزر التسليم, وتحققوا بروح الموت, وما الرهبة الموهومة التي في النفوس من الموت الا تعشق لكمال دنيوي موهوم, وقلة يقين يخافون معها ان يفقدوا أعيانهم, مع ان الحديث القدسي ينادي مصرحا بقوله (خلقتكم للبقاء ولم أخلقكم للفناء).
انهم يشفقون على حدهم, فيتشبثون بعقائدهم وتصوراتهم التي تثبت وتركز أناهم الموهوم, وهو سر التعصب, متمسكين بنظم الفكر الذي يحفظ لهم صورة العالم, يخافون ان يجذبهم رباط الغيب الكامن في قلوبهم, فيجعلهم وجها لوجه مع بحر النور فتضيع هوياتهم, فلا يزال الانسان مشفقا على طمأنينته الزائفة ان تموت اذا خرج من بيت تصوراته, مهاجرا الى الله, والله تعالى يقول : (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)
وهكذا تجد التصورات تلقي ظلا كئيبا على بوابة العالم الاخر, فتتشكل في وهم الناس للموت صورة قاتمة, ويؤثرون الاعتقال على الانتقال, وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: ( لا تعادوا ما تجهلون فان أكثر العلم فيما لا تعرفون) وكم من الا رواح التي تذوقت الحقائق في ذلك العالم وقد خاطبت أبناء هذا العالم بان الموت ليس الا انعتاقا , وخطوة في طريقكم الى محبوبكم الاول.
فلا تخف يا حبيبي من الموت فان أمرّ ما فيه الخوف منه, واستعجل لقاء الحبيب فمت في عين هذه الحياة المجازية حتى اذا جاءك الموت الطبيعي وجد حياتك لا زوال لها, ووجدك قد انكشف عنك الغطاء, فلا تذوق موتا الا الموتة الاولى, وكيف يتطرق الموت لمن هو بين يدي الله غائبا عن كل غير, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (موتوا قبل ان تموتوا وحاسبوا انفسكم قبل ان تحاسبوا), وقال المسيح عيسى عليه السلام: (لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين), وقال الشيخ الأكبر: ( الفضلاء من العقلاء العارفين يطلبون الموت للتخلص من هذا الحبس وتطلبه الأنبياء للقاء الله الذي يتضمنه وكذلك أهل الله ولذلك ما خير نبي في الموت إلا اختاره لأن فيه لقاء الله فهو نعمة منه عليه ومنة), وكان ابو السعود ابن الشبل يردد بيتا من الشعر يقول: (وأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من دون أخمصك الحشر) يشير الى المطلع, الذي ما غاب عنه شئ, حتى ان الحشر عند أخمصه, وكان يقول: (ما هو إلا الصلوات الخمس وانتظار الموت). وبموت الاختيار الذي هو موت اهل الله يكون الخروج من الخيال الذي أشار اليه الحديث النبوي الشريف: (الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا), قال الشيخ ابن عربي : (ان الأجسام نواويس الأرواح ومذاقتها وهي التي حجبتها ان تشهد وتشهد, فلا ترى ولا ترى الا بمفارقة هذه الضرائح فناءا عنها لا انفصالا, فاذا فنيت عن شهودها وهي ذات بصر شهدت موجدها بشهودها نفسها, فمن عرف نفسه عرف ربه, فانتقل من يقين علم الى يقين عين).
ومن لم يقيده هيكله وكان كالماء الذي ذكره الجنيد, في قوله في وصف العارف لون الماء لون الإناء, فمثل هذا لا يهلك في ليلته القدرية, لان الهلاك لمن يكون له قدر محدود, وهذا مع كل المقادير, فيكون كله وجه, وكان صلى الله عليه وآله وسلم يرى من أمامه كما يرى من خلفه.
أخوتي أحبتي لا تغلبنكم بقية بشريتكم على نور الله الذي يملأ قلوبكم, واعرفوا سر الموت والحياة في انفسكم, فلا يكون الموت من بعده الا طورا من أطوار حياتكم, واقول لاخي وحبيبي الوصال, ان والدكم قد استراح من هم الدنيا وغمها, وسيرد على دار هي أنسب لأوليائه من هذه الدار, أسأل الله أن يجعلك أهلا لمعرفته حق معرفته وان لا يغفلك عنه طرفة عين أبدا.