يوما ما دخل نبي على صديّقة ( عليهما السلام ) فوجد عندها من الفاكهة ألواناً فعلم أنها من نفائس كرامات الله تعالى فتحرك فيه غيرة النبوة وسكن هناك في الخلوة وطلب من الله تعالى ولداً فاعطاه الله ما سأله وايضاً نظر بنور النبوة في السيدة المقدسة فأبصر فيها النور القادم ( كلمة الله المقدسة ) فتمنى نبي الله أن يكون له ولداً مثل عيسى عليه سلام الله .
فناجى ربه بلسان الاضطرار وسال عنه يحيى عليه السلام مشكاة الأنوار فاستجاب الله تعالى دعوة شيخ الانبياء شفقة على غيرته واظهاراً لكرامته وهذا حسن الأدب للأولياء وأهل المعرفة إذا كانوا يحتاجون إلى الله تعالى بشئ من مرادهم خلوا عن الخلق ودخلوا في زوايا الصدق حتى ينالوا بالاعتزال عن الخلق والاشتغال بالدنيا والإخلاص في النجوى حقيقة مقام استجابة الدعوة لان من لزم باب سيده في الخلوات والمراقبات يكشف له المقامات السنية والأحوال الشريفة من أسرار الآخرة وأنوار المعرفة ...
فكان طلب الشيخ النبي عليه سلام الله أن يهبه الله الولد الذي يعينه على طاعة الله ويكون له خليفة في أداء الرسالة والنصح للأمة وأيضا يكون له مشاورات السير في عالم الربوبية والعبودية ومؤنساً من الله في الكشف والحقيقة والعشق والمحبة طيبة يعنى مطهراً من أشغال الكونين منفرداً عن إرادته مقدساً من شهواته فإذا علم الحق سبحانه صدق نيته أعطاه مأموله على الفور ليكون له معجزة وكرامة الإشارة .... ( إلا رمزا )..
فما أن يطلب من الله شيئاً يعينه في طاعته وسبباً لمرضاته فيحصل له استجابة الدعوة في الساعة لقوله تعالى { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ }..
إيه يا محراب الأولياء الأصفياء ....
وصلاة وسلاما على صاحب الغار ... صاحب لي ساعة مع ربي ... وإنه ليغان على قلبي ..
إإإإإإيه يا محراب ....
يا محل تجليات الحق لأن فيها ما فيها من نزول الوحي .
فمن دخل فيها بشرط التفريد وخلوص النية ألهمه الحق خصائص الخطاب واخبره بما يكون قبل أن يكون ...
والمحراب محل لزوم المراقبين فيه لأجل تعرض السر نفحات أسرار الحق وبروز نور التوحيد وكشف جمال مشاهدة الحضرة ...
والمحراب محل الأنس وتصفية السر وذم الجوارح وإشراق اليقين وسبب الزلفة ووجدان حلاوة العبادة واسترواح الروح من أداء صحبة الخلق بوجدان صحبة الحق والمحراب فقر العبّاد ومحل الزهاد ومعصم المتوكلين ومجلس المشتاقين ومسند الراضين وبستان المحبين وسرور المريدين ورياض العاشقين وكعبة المستأنسين وحرم المؤمنين ونور التائبين وقيد الموحدين وستر الشاطحين إذا أراد الله أن يستر أحدا من خاصة معرفته أعاده إليه ليكون له مقوياً في مقاصده من الله .
فما فتح الله على عبد من عبيده حالة سنية إلا بإتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب ..
فالمحراب باب كل بر وموضع الإجابة واستفتاح الطريق الانبساط والمناجاة والإعراض عن المحراب سبب إغلاق الباب دونك ..
فإن ملازمة الخدمة يورث آداب الخدمة وآداب الخدمة تورث منازل القربة ومنازل القربة تورث حلاوة الأنس ...
فبشرى لمن أتاه الله يحياه ( يحي ) ....... لتحي روحه ويطيب قلبه .. غير أن هذا حاصل لمن هو قائمٌ في الحراب .....
هنا تتجلى موارد السيادة .. ويظهر على قلب العبد الصالح خلعة ربه بأن يكون (( سيداً ))
وأي سيد هذا أعظم من سيدٍ سيده مولاه (( سيداً وحصورا ))
هذا هو السيد الذي قد غلب عليه نور هيبة عزة الحق جل وعلا والذي عصم عن جميع الشهوات بعصمة الازلية (( حصورا )) ...
هذا هو السيد الذي خلعه ربه نور الأنانية وكساه لباس الفردانية وتوّجه بتيجان البهاء حتى يستحق أن يستحيي منه جميع الخلق ويضعوا تحت أمره ونهيه أعناق الجبرية ..
هذا هو الحصور المقدس عن شوائب التقليد وعن الإلتفات إلى الكونين ...
لقد صار سيداً لأنه لم يطلب لنفسه مقاما ولا شاهد لنفسه قدراً ...
هذا الذي عرف ربه وأنكر ما دونه ...
هذا الذي يملك ولا يُملك .... الذى يألف ولا يؤلف ...
هذا الذي لا يعرف سوى الله .....
بل السيد الذي ساد أهل زمانه بأخلاقه .....
والحصور الذى حصر ماءه عن النساء ....
وسمي يحيى حصورا لأنه قرع في قلبه تلك العظمة فخذ فيه ماء الشهوات وصار حصورا ومحصورا منزهاً عن الأكوان ...
وكان لابد للشيخ النبي .. عليه سلام الله .. أن تكون له آية .. بل تكون آيته الخالدة .....
فهنا .. ( أو هنالك ) ... تخلى عن أوصاف البشرية واظهر بنعوت الربوبية في قوله تعالى { قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً } ......
لما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام بيحيى طلب من الله تعالى علامة وقت ظهوره ولا يشك فى وعد الله لكن غرضه طمأنينه قلبه ليتهيأ أسباب الأدب لزمان ظهور موهبة الله استقبالا إلى الله بشكر نعمته ليدوم عليه مواهب الالهية { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } حصر لسان نبيه عليه السلام عن المكالمة والمحادثة مع غير الله ليتجرد سره وحاله عن ازدحام الخلق وذكرهم والأدب فيه أن من يطلب من الله تعالى شيئا من معاني الغيب ورؤية معجزته وكرامته ولا يتجرد لسانه وقلبه لا يخطر به من طوارقات الوسواس حتى يكون ظاهره وباطنه مشغولا بالحق لان التفرق اذا وقع فى الظاهر يتشوش به الباطن واجاز له الرمز ليدفع به ضيق قلبه ..
ومن دخل عليه من أهله والرمز من الانبياء للأولياء والرمز من الأولياء الخاصة المريدين وحقيقة الرمز من تعريض السر إلى السر وإظهار التفرس إلى التفرس وإعلام الخاطر إلى الخاطر بنعت تحريك سلسلة المواصلة بين المخاطب والمخاطَب ...
وهي لغة الصامتين في حضرة أنس رب العالمين ... هي الإشارة التي تغني عن العبارة .. الممنوحة لأهل المعرفة .. بمقياس "" إلا رمزا " ....
ولهذا قال سادتنا :
" افتقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء في الصلاة والذكر والقراءة ( يعني القرآن ) فان وجدتم و إلا فاعملوا أن الباب مغلق.
ولهذا أمر الله نبيه زكريا عليه السلام : " واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار " ..
قيل إذا تمكن الذكر من قلب إنسان فان دنا منه الشيطان صرخ كما يصرخ الإنسان إذا دنا منه الشيطان فيجتمع عليه الشياطين فيقولون ما لهذا فيقول قد مسه الإنس.
وقد سلَك هذا المسلك القطبُ بن مشيش في طلب الولد الروحاني، حيث قال في تَصْلِيَته المشهورة: (اسمه ندائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا). فأجابه الحق تعالى بشيخ المشايخ القطب الشاذلي. وغير واحد من الأولياء دخل محراب الحضرة، ونادى نداءً خفيّاً في صلاة الفكر، فأجابته الهواتف في الحال، بلسان الحال أو المقال: إن الله يبشرك بمن يحيي علمك ويرث حالك، مصدقاً بكلمة من الله، وهم أولياء الله، وسيداً وحصوراً عن شواغل الحس، مستغرقاً في مشاهدة القرب والأنس، ينبئ بعلم الغيوب، ويصلح خلل القلوب، فإذا استعظم ذلك واستغربه، قيل له: الأمر كذلك، (الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون)
فحسبنا الاشتغال بذكر الله، والغيبة عما سواه. ولعله قد آن أن تكون آيتنا ألا نكلم الناس إلا رمزا ...
وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
الدرويش