إله المعتقدات
مبحث صوفي : ( إله المعتقدات ) في اصطلاح ابن عربي
تقول الدكتورة سعاد الحكيم :
" إن فكرة ( إله المعتقدات ) ليست استنباطاً جديداً وإنما هي في الواقع عملية عزل وتسمية .
لقد لاحظ ابن عربي أنه لابد لكل إنسان من عقيدة في ربه يرجع بها إليه ويطلبه فيها
كما لاحظ تعدد هذه العقائد بعدد معتقديها ، وإذ لا يمكن أن يتعدد ( الله ) حقيقة بعدد عبيده
فليس للعبد منه إلا صورة ، وهكذا بعدما عزل عملية خلق الإنسان لصورة إلهه الذي يعبده
سمي هذا الإله أو بالأحرى هذه الصورة بـ ( إله المعتقدات ) .
فالله حقيقة لا يصل إلى أعتاب إطلاقه مخلوق ، فهو المجهول ، ولا يزيد نصيب العبد منه عن صورة مخلوقه
فالإنسان لم يعبد في الحقيقة سوى نفسه ، لأن الصورة من خلقه هو ، فما ثمة إلا عابد وثناً .
ويؤكد ما ذهب إليه بهذا الحديث الشريف الذي يردده في أكثر من نص :
إن الحق يتجلى يوم القيامة للخلق في صورة منكرة ، فيقول : أنا ربكم الأعلى ، فيقولون : نعوذ بالله منك
فيتجلى في صورة عقائدهم فيسجدون له .
ولكن ابن عربي لا يترك المخلوق أمام هذه النتيجة ، يدور في حلقة ذاته
لا يخرج منها بفعل الإيمان إلى الخالق ، وإلا قضى على الإنسان بعزلة أبدية
بل نجده بما أوتي من عبقرية في قمة البعد بين الحق والخلق ، يخرج من مأزق الفصل
هذا بجانب من جوانب نظريته في وحدة الوجود . إذ أن ( إله المعتقدات ) هو مخلوق من جملة المخلوقات
إذن تجل من جملة التجليات الإلهية التي رحمها الله أي أوجدها .
وإذن ، كل صورة أو معبود عُبِد ، هو مجلى من المجالي الإلهية ، علم العابد من ذلك أم لم يعلمه
فلا يخرج شيء عن الدائرة ، فما ثمة إلا ذات وتجلياتها ، فكل من عبد شجرة أو نجماً أو صنماً
فهو في الحقيقة لم يعبد سوى الله في مجلى من مجاليه ، وهكذا يفسر ابن عربي الآية : وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعْبُدوا إِلّا إِيّاهُ .
ولكن ابن عربي ليس من عداد الذين يكتفون بصورة أو مجلى من مجالي الألوهية يتعبدون الله فيه
بل يحاول من خلال تجربته الخاصة ومراقبته لما توصل إليه السالكون إلى الحق
أن يضع يده على العقبات ، ويطرح حلولاً مناسبة .
فأبرز خطأ وقع به عبدة الإله المخلوق هو أنهم أصحاب عقل
فالعقل للحصر والتقييد ليس من طاقته أن يتقلب في أنواع الصور ، أي يتقلب مع تجليات الحق
على حين أن القلب يتقلب مع تجليات الحق ، وبذلك يخالف ابن عربي كل من سبقه من المتصوفة الذين يثبتون أن :
الحق يتجلى لقلب العبد بقدر طاقته واستعداده ، فالقلب عنده هو الذي يتقلب مع تجليات الحق .
إذن الخطوة الأولى هي استبدال العقل بالقلب ، والوصول به إلى مرتبة
الكمال ، أي ( القابلية المحضة ) كما يشير إلى ذلك قائلاً :
" لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان وديراً لرهبان "
وعندما يصل القلب إلى مرتبة الكمال لا يتقيد بعقد مخصوص ، بل يصبح هيولي لصور المعتقدات كلها .
ونورد فيما يلي نصوص ابن عربي التي تثبت تعريف ( إله المعتقدات ) الذي ابتدرنا به كلامنا :
" إن الناظر في الله خالق في نفسه بنظره ما يعتقد ، فما عبد إلا إلهاً خلقه بنظره ، وقال له كن فكان
ولهذا امرنا الناس أن يعبدوا الله الذي جاء به الرسول ونطق به الكتاب ، فإنك إذا عبدت ذلك الإله
عبدت ما لم تخلق بل عبدت خالقك ... فإن العلم بالله لا يصح أن يكون علماً إلا عن تقليد ... " .
" ... قال كل صاحب نظر بما أداه إليه نظره ، فتقرر عنده أن الإله هو الذي له هذا الحكم وما علم أن ذلك عين جعله
فما عبد إلا إلهاً خلقه في نفسه واعتقده ...
فما ترى أحداً يعبد إلهاً غير مجعول فيخلق الإنسان في نفسه ما يعبده وما يحكم عليه والله هو الحاكم "
" الحق الذي يخلقه العبد في قلبه بنظره الفكري أو بتقليده الإله المعتقد " .
" فكان موسى أعلم بالأمر من هارون ، لأنه علم ما عبده أصحاب العجل ، لعلمه بأن الله قد قضى إلا يعبد إلا إياه
وما حكم الله بشي إلا وقع ... فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء " .
في النص الأخير يبين ابن عربي أن العلم هو الفيصل الدقيق بين الكفر والإيمان
فعبادة أصحاب العجل للعجل كفر ، لأنهم غير عارفين بما يعبدون
أما العارف فهو من يرى الحق في كل شيء ، حتى في العجل .
ثم يختتم ابن عربي فصوص الحكم بجملة فيها مكانة الإله المطلق من إله المعتقدات
يقول : " إله المعتقدات تأخذه الحدود وهو الإله الذي وسعه قلب عبده ، فإن الإله المطلق لا يسعه شيء
لأنه عين الأشياء وعين نفسه ، والشيء لا يقال فيه نفسه ولا لا يسعها " " .