سرد الغرام
أحكي عن قلوبٍ عرفت .. طافت شافت .. نهمت همت .. ثم اغتمت من شرد السهد .. وهجر البعد .. فطاشت ماجت .. ثم اهتاجت .. ثم اصطلمت .. ثم بدا في الأفق وجع .. والقلب رجع .. عند الفجر تناجي .. ويحنو لبعض الندى .. فتتثاقل خطى الصباح في البوح فتنجو عينٌ ساهرة ترقب مظهر التجلي النوراني في افق النفس المطمئنة .. وكيف لا ومن هموا .. وهموا من هاموا وتتيموا...
فالقرب له دولة .. ولدولته رجالا .. لا ينام لهم جفن ولا تغمض لهم عين .. طوافون بأبواب مولاهم .. وفي دولتهم ما فيها ..
فيها الشوق قصبة مملكة المحبين ، و عرش عذاب الفراق منصوب للواجدين، وسيف الهجران مسلول للواصلين ، وغصن نرجس الوحدة على كف الأمل موضوع ، وفي كل آن يطيح السيف بألفٍ من الرقاب ، ولكن النرجس لا يزال غضاً طرياً لم يصل إليه كف لم يمسسه سوء وحاشاه . ( يا اااا أبا يزيد ) .. ولا نزيد ...
قومٌ إذا شربوا بكأس حبه وقعوا في بحار الأنس، وتلذذوا بروح المناجاة ، وإذا عرفوه حق معرفته ولهوا في عظمته .
ونرى فيها أهل الصدق هاموا ، فارقوا طيب المنامُ ، وغدوا في إصطلامُ ، أبداً ما تركوا حماها ، من رأى ليلاً جميلا، من رأى ليلى لليلة ، ريقها يشفي العليلَ ، في الذي عنها الدليلَ ، دنها ندم الخليلَ ، لما ترى النبي تراها ، فهو الباب وهو حامي حماها ، ترى فيها الليل الزكيَّ ، في مشاهدها العليَّ فكم متيم راح ، وكم صريع باح . في انتظار الصباح المباح ..
فليس من نوه بالوصال كالذي سير به حتى وصل ، لا ولا الواصل كالذي طرق الباب وللدار دخل ، لا ولا الداخل كالذي أجلسوه عندهم في المستهل ، لا ولا من أجلسوه كمن سارروه فهو للسر محل ، لا ولا من سارروه كالذي صار إياهم فدع عنك الجدل ، قل لمن يدعي الحب ويزعم أن الهوى قد علق ، لو كان فيما أدعى صادقاً ، لكان على الغصن بعض الورق ، فأين النحول ، وأين الذبول ، وأين الغرام وأين القلق ، وأين الخشوع وأين الركوع وأين الدموع وأين الأرق ، وأين المخاض لبحر الهلاك إذا لمعت نارنا بالغسق ، وأين الفطام وأين الصيام وأين الآلام وأين الشفق ، وأين الحنين وأين الضنين وآين الآنين وأين انطلق .
نطقهم همس وخرس وسكوت ، ومن يبوح يموت ، ومن فارق غارق ، ومن نجا سبح في بحر اللجة ، وتنعم بالعليل من لطائف النسمات ، فلا يرى الغادي ولا من فات ، يبصر ولا يرى ، وينظر ولا تطوف بخيالاته الصور . في انتظار ظهور القمر .
من زاد في الوجد ذاق ، ومن ذاق شرب ، ومن شرب روي ، ومن روي سكر .. ومن سكر صاح .. ومن صاح في حب الجلالة باح .. ومن باح كان في الحمى وإن تقطعت أوصاله .. ووداده منا .. ومن ود عد .. ومن عد ساد ومن ساد في حب الأسياد تمايلت الغصون على الأيك وناح الحمام .. وسر في المنام .. ورأى خير الأنام ..
ولما خلق الله القلوب جعل داخلها سره ، وخلق الأنفاس وجعل مجراها من داخل القلب ، وبين السر والقلب تجلت معرفة الرب .. فجعل التوحيد في السر ، وجعل المعرفة إضطراب على بساط الأمر .. وجعل الحياة أنفاس .. وكل نفس خلا عن سر الربوبية فهو معلول ولا يعول عليه .. لأنه منه فيه إليه ، ولا مهرب منه إلا إليه .
وحرام على قلوب العارفين أن يحبوا سوى مولاهم .. لا ولا من يناجي بالسر أن يناجي سوى من ناجاهم ونجّاهم وتولاهم وعلاهم ..
لا ولا من عرفه تعرف إليه ، لا ولا من وحده توحد به ، لا ولا من آمن به تلطف له ، لا ولا من وصفه تجلى لسره ، لا ولا من أخلص له جذبه إليه ، لا ولا من أصلح له اصطنعه لنفسه ..لا ولا من أوقفه عرفه .
لا ولا من كان فقيراً كان عابداً ، لا ولا من كان عابداً كان زاهداً ، لا ولا من كان زاهداً كان أميناً ، لا ولا من كان أميناً كان مؤتمناً ، ولا ولامن كان مؤتمنا لم يأب ولا ولا من يأب كان جبلا قريبا ، ولا ولا من كان قريباً كان حبيباً ، لا ولا من كان حبيباً كان محدثاً ، لا ولا من كان محدثاً كان خليلاً ، لا ولا من كان خليلاً كان مسامراً ، لا ولا من كان مسامراً كان وارثاً ، لا ولا من كان وارثاً كان نبياً .
وليل الغرام له مع الندام أنساً ، وله من الرجال أصنافاً طوافون بالبيت والحل والحرم .. والمجد والكرم .. فأهل المراعاة غير أهل الطاعات ، وأهل الطاعات غير أهل الخلوات ، وأهل الخلوات غير أهل المجاهدات ، وأهل المجاهدات غير أهل الصراط .. وكلهم في الحضرات في فلوات الذكر والتسبيح والتهليل والتبريح .. وأنس المراقبة ، وغيبة الغفلة .. وشهود الحق في حضرة الخلق بين المعايش والنهارية .. وإعتراك افلاك اليومية .. فكانوا أهلة .. وكانوا أقماراً وكانوا بدوراً ، وكانوا كواكب ، وكانوا براقاً .. وكانوا شموساً .. فزادوا كؤوساً .. وطاشت نفوساً ..وسكروا في حضرة المحبوب بلا شراب ولا ري ولا ظمأ ..وعز المنام على العيون .. والدمع على المقل ... ونصبوا خيام السكون على بساط المعرفة .. ونسوا الحروف في حضرة الإشارات .. وطاشت العبارات .. واعتكفوا في الحضرة بكمال النظرة .. وسجود الغيبة عن الدنيا .
وقالت الملائكة الآن فهمنا ووعينا وعرفنا .. ألهذا خلقتهم .. ليحبوك .. وأسجدتنا لهم .. لأنك خلقت فيهم روحا ونفس .. فعانوا وتألموا .. حتى وصلوا .. لما تركوا النفس وتخلوا وتخلللوا وتجلت عليهم أنوارك .. فهتكوا الحجب وتهتكوا وهاموا وهمّوا بالمسير إليك .. هلا شرفتنا بالسجود إليهم مرةً أخرى ..
فتبسم العارفون ونظروا ، فكان لهم نظرتان نظرة إلى أنفسهم فافتقروا .. ونظرة إلى ربهم فافتخروا ..