منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 20, 2019 12:10 pm

تفسير الآية رقم "1" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي جمع وتأليف محمود محمود الغراب

( 2 ) سورة البقرة مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم
سميت سورة البقرة وآل عمران الزهراوين ، وورد أنهما يأتيان يوم القيامة صورة قائمة ، ولهما عينان ولسانان وشفتان ، يشهدان لمن قرأهما بحق .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 1 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ألم ( 1 )
[ الحروف ] 
اعلم وفقنا اللّه وإياكم ، أن الحروف أمة من الأمم مخاطبون ومكلفون ، وفيهم رسل من
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من هذه السورة ، والباء من بسم اللّه متعلقة بما في المتقين من معنى الفعل ، كأنه يقول « الذين اتقوا اللّه بأسمائه » وإن شئت علقتها بفعل أمر محذوف ، وهو قولك « اقرأ بسم اللّه » لا ينبغي أن يضمر له غير ذلك ، وإن كان يجوز ، ولكن اتباع اللّه فيما أوحى به أولى .
قال تعالى :« اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ » فالعالم الأديب لا يضمر إلا هذا الفعل على هذه الصيغة ، فأما ما يتضمنه من الرحمة ، فهو رحمته سبحانه بمحمد عليه السلام بالكتاب الذي أنزله عليه حين سأل الكفار إنزاله .
فقالوا« وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ » فأعطاه الأمرين المعراج والقرآن .
فقال له « ألم » ذلك الكتاب الذي سألوه منك هو هذا الكتاب لا شك فيه ، فهذا من أثر الرحمة من ( بسم الله الرحمن الرحيم )
ص 42

جنسهم ولهم أسماء من حيث هم ، وهم عوالم ولكل عالم رسول من جنسهم ، ولهم شريعة تعبدوا بها ، ولهم لطائف وكثائف ، وعليهم من الخطاب الأمر ليس عندهم نهي ، وفيهم عامة وخاصة وخاصة الخاصة وصفاء خلاصة خاصة الخاصة ، وحروف أوائل السور من الخاصة التي فوق العامة ، ولا يعرف حقيقة مبادئ السور المجهولة .
الا أهل الصور المعقولة [ هم الذين لهم حظ من خلق اللّه آدم على صورته ، وهم الذين وصلوا مرتبة الكمال والخلافة ] وجعل تبارك وتعالى أوائل السور تسعا وعشرين سورة ، وهو كمال الصورة ، كما قدر منازل القمر ، وجعل الحروف على تكرارها ثمانية وسبعين حرفا ، فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها . 
قال عليه السلام : « والإيمان بضع وسبعون شعبة » كما أنه إذا علمها من غير تكرار علم تنبيه اللّه فيها على حقيقة الإيجاد وتفرد القديم سبحانه بصفاته الأزلية ، ثم إنه سبحانه جعل أولها الألف في الخط ، والهمزة في اللفظ ، وآخرها النون.
فالألف لوجود الذات على كمالها لأنها غير مفتقرة إلى حركة ، والنون لوجود الشطر من العالم وهو عالم التركيب ، وذلك نصف الدائرة الظاهرة لنا من الفلك ، والنصف الآخر النون المعقولة عليها ، التي لو ظهرت للحس وانتقلت من عالم الروح لكانت دائرة محيطة ، ولكن أخفى هذه النون الروحانية - التي بها كمال الوجود - وجعلت نقطة النون المحسوسة دالة عليها .
فالألف كاملة من جميع وجوهها والنون ناقصة ، وجعلت هذه الحروف على أفراد في بعض السور مثل « ص ، ق ، ن » وثنيت في « طس ، طه » وأخواتها.
وجمعت في ثلاثة فصاعدا حتى بلغت خمسة حروف متصلة ومنفصلة ولم تبلغ أكثر ، ولا يعرف هذا العلم الا أولياء اللّه تعالى كشفا ، وسماه الحكيم الترمذي علم الأولياء .
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
قوله" ألم " وقع النطق بأسماء هذه الحروف المعينة على طريق البناء على السكون الذي هو الثبوت ، فلا يتغير ، وأما ما تدل عليه فلا يعرف ذلك على الحقيقة إلا من جانب الحق ، وليس هذا مما يدرك بالرأي .
وكل ما قيل فيه فليس بمرضي ، ولا يفيد علما ، وكلام اللّه لا ينبغي أن يترجم بالحدس ولا بالظن والتخمين ، والعرب لا تعرفه ، وكل ما ذكره المفسرون في ذلك ونسبوه للعرب فلا يشبه هذا إذا حققته ، وكان سبب نزول هذه الحروف أن الكفار قالوا( لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ).
فكانوا إذا رأوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم يوحى إليه يكثرون اللغط ، فلما سمعوا التلفظ بأسماء حروف المعجم ، أرادوا أن يعرفوا ما أريد بها ، عساه يفسر ذكرها ما يدل على المراد بها ، فيسكتون وتتوفر
ص 43

واعلم أن للّه ثمانية وعشرين اسما على عدد منازل الفلك وهي :
 الرفيع الدرجات ، الجامع ، اللطيف ، القوي ، المذل ، رزاق ، عزيز ، مميت ، محيي ، حي ، قابض ، مبين ، محص ، مصور ، نور ، قاهر ، عليم ، رب ، مقدّر ، غني ، شكور ، محيط ، حكيم ، ظاهر ، باطن ، باعث ، بديع . 
ولكل اسم من هذه الأسماء روحانية ملك تحفظه وتقوم به وتحفظها ، لها صور في النفس الإنساني تسمى حروفا في المخارج عند النطق وفي الخط عند الرقم ، فتختلف صورهما في الكتابة والرقم ولا تختلف في النطق ، وتسمى هذه الملائكة الروحانيات في عالم الأرواح بأسماء هذه الحروف .
فلنذكرها على ترتيب المخارج حتى تعرف رتبتها فأولهم : 
ملك الهاء ثم الهمزة ، وملك العين المهملة ، وملك الحاء المهملة ، وملك العين المعجمة ، وملك الخاء المعجمة ، وملك القاف ، وملك الكاف ، وملك الجيم ، وملك الشين المعجمة ، وملك الياء ، وملك الضاد المعجمة ، وملك اللام ، وملك النون ، وملك الراء ، وملك الطاء المهملة ، وملك الدال المهملة ، وملك التاء المعجمة باثنتين من فوقها ، وملك الزاي ، وملك السين المهملة ، وملك الصاد المهملة ، وملك الظاء المعجمة ، وملك الثاء المعجمة بالثلاث ، وملك الذال المعجمة ، وملك الفاء ، وملك الباء ، وملك الميم ، وملك الواو ، وهذه الملائكة أرواح هذه الحروف ، وهذه الحروف أجساد تلك الملائكة لفظا وخطا بأي قلم كانت ، فبهذه الأرواح تعمل الحروف لا بذواتها ، أعني صورها المحسوسة للسمع والبصر المتصورة في الخيال .
فلا يتخيل أن الحروف تعمل بصورها وإنما تعمل بأرواحها ، ولكل حرف تسبيح وتمجيد وتهليل وتكبير وتحميد يعظم بذلك كله خالقه ومظهره ، وروحانيته لا تفارقه وبهذه الأسماء يسمون هذه الملائكة في السماوات .
وكذلك الكواكب التي ترونها إنما هي صور لها أرواح ملكية تدبرها مثل ما لصورة الإنسان ، فبروحه يفعل الإنسان وكذلك الكوكب ، والحرف لولا الروح ما ظهر منه فعل ، فإن اللّه سبحانه ما يسوي صورة محسوسة في الوجود على يد من كان ، من إنسان أو ريح إذا هبت فتحدث أشكالا في كل ما تؤثر فيه ، حتى الحية والدودة تمشي في الرمل فيظهر طريق ، فذلك الطريق صورة أحدثها اللّه بمشي هذه الدودة أو غيرها ، فينفخ اللّه فيها روحا من أمره لا يزال يسبحه
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
دواعيهم إلى ذلك ، فيسمعون ما أراد الحق أن يخاطبهم به من القرآن ، فهذا وجه إنزالها ، ومع هذا فلها معان لا يعلمها إلا هو ، ومن أنزلت عليه ، ثم إنه ما كتبت على صورة ما تلفظ بها ،
ص 44


ذلك الشكل بصورته وروحه إلى أن يزول فتنتقل روحه إلى البرزخ ، وذلك قوله« كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ » ،وكذلك الأشكال الهوائية والمائية لولا أرواحها ما ظهر منها في انفرادها ولا في تركيبها أثر ، وكل من أحدث صورة وانعدمت وزالت وانتقل روحها إلى البرزخ فإن روحها الذي هو ذلك الملك يسبح اللّه ويحمده ، ويعود ذلك الفضل على من أوجد تلك الصورة الذي كان هذا الملك روحها ، فما يعرف حقائق الأمور إلا أهل الكشف والوجود من أهل اللّه ، ولهذا نبه اللّه قلوب الغافلين ليتنبهوا على الحروف المقطعة في أوائل السور .
فإنها صور ملائكة وأسماؤهم ، فإذا نطق بها القارئ كان مثل النداء بهم فأجابوه ، فيقول القارئ « ألف ، لام ، ميم » فيقول هؤلاء الثلاثة من الملائكة مجيبين « ما تقول » فيقول القارئ ما بعد هذه الحروف تاليا فيقولون « صدقت » إن كان خبرا ، ويقولون « هذا مؤمن حقا نطق حقا وأخبر بحق » فيستغفرون له .
وهم أربعة عشر ملكا ، « ألف ، لام ، ميم ، صاد ، راء ، كاف ، هاء ، ياء ، عين ، طاء ، سين ، حاء ، قاف ، نون » ظهروا في منازل من القرآن مختلفة ، فمنازل ظهر فيها واحد مثل « ق ، ن ، ص » ومنازل ظهر فيها اثنان مثل « طس ، يس ، حم » وهي سبعة أعني الحواميم ، طه ، ومنازل فيها ثلاثة وهم ، « ألم البقرة ، وألم آل عمران ، وألم يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر .
وطسم الشعراء والقصص والعنكبوت ولقمان والروم والسجدة » ومنها منازل ظهر فيها أربعة وهم « المص الأعراف ، والمر الرعد » ومنازل ظهر فيها خمسة وهي « مريم والشورى » وجميعها ثمان وعشرون سورة على عدد منازل السماء سواء ، فمنها ما يتكرر في المنازل ومنها ما لا يتكرر .
فصورها مع التكرار تسعة وسبعون ملكا بيد كل ملك شعبة من الإيمان ، وإن الإيمان بضع وسبعون شعبة أرفعها لا إله إلا اللّه ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق - والبضع من واحد إلى تسعة - فقد استوفى غاية البضع ، فمن نظر في هذه الحروف يرى عجائب ، وتكون هذه الأرواح الملكية التي هذه الحروف أجسامها تحت تسخيره ، وبما بيدها من شعب الإيمان تمده وتحفظ عليه إيمانه . 
واعلم أن هذه الحروف الأربعة عشر التي في أوائل السور ، كل حرف منها له ظاهر
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ولما كتبت ما قيدت بحركات مخصوصة ، بل تركت مهملة ، وهذا كله يدلك على أنه من فسر
ص 45


وهو صورته وله باطن وهو روحه ، ولكل حرف ليلة من الشهر أعني الشهر الذي يعرف بالقمر ، فإذا مشى القمر وقطع في سيره أربع عشرة منزلة أعطى في كل حرف من هذه الحروف من حيث صورها قوتين من حيث ذاته ، ومن حيث نوره ، وأعطاه قوتين أخريين من حيث المنزلة التي نزل بها ، ومن حيث البرج الذي لتلك المنزلة ، ولكن بقدر ما لتلك المنزلة من البرج ، فيصير في ذلك الحرف أربع قوى ، فيكون عمله أقوى ، فإذا أخذ القمر في النقص فقد أخذ في روحانية هذه الحروف إلى أن يكملها بكمال المنازل .
فتلك ثمان وعشرون والقوى مثل القوى إلا أنه يكون العمل غير العمل ، فالعمل الظاهر في المنافع ، والعمل الثاني في دفع المضار . وفي قوة النور الذي للقمر لهذه الحروف مراتب بحسب المنزلة والبرج الذي تكون فيه الشمس ، واتصالات القمر بالمنزلة في تسديسها وتربيعها وتثليثها ومقابلتها ومقارنتها ، فتختلف الأحكام باختلاف هذا للحرف من قوة النور القمري .
وأما لام ألف فهو من الحروف المركبة ، أنزلوه منزلة الحرف الواحد لكمال نشأة الحروف ، ولهذا الحرف ليلة السرار الذي يكون للقمر ، فالعمل بالحروف يحتاج إلى علم دقيق ، فهذه القوى تحصل للحروف من سير القمر ، فإن اللّه ما قدر هذا القمر منازل حتى عاد كالعرجون القديم واختصه بالذكر سدى .
بل ذلك لحكمة إلهية يعلمها من أوتي الحكمة التي هي الخير الكثير الإلهي .
فإن الستة الجواري الباقية قدّرها أيضا منازل في نفس الأمر وما خصها بالذكر ، فلما دخل القمر في الذكر كان له من القوة الإلهية والشرف في الولاية والحكم الإلهي ما ليس لغيره ، فإنه ما ذكر إلا بالحروف وبها نزل إلينا الذكر ، فكان نسبته إلى الحروف أتم من نسبة غيره ، فصار إمداده للحروف إمدادين ، إمداد جزاء وشكر لأن بها حصل له الذكر ، وإمدادا طبيعيا كإمداد سائر الستة لهذه الحروف - راجع والقمر قدرناه منازل . 
« تفسير من باب الإشارة » : « الألف » من( ألم )إشارة إلى التوحيد فمهما نظرت إلى الوجود جمعا وتفصيلا ، وجدت التوحيد يصحبه ، لا يفارقه البتة ، صحبة الواحد الأعداد ، فالواحد ليس العدد ، وهو عين العدد ، أي به ظهر العدد ، فالألف ليس من الحروف عند من شم رائحة من الحقائق ، ولكن قد سمته العامة حرفا ، فإذا قال المحقق إنه
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
برأيه فما أصاب ، واللّه أعلم ، أو قد اجترأ فيما ذكره ولو أصاب ، فإن ذلك مما لا يدرك بالاجتها
ص 46


حرف فإنما يقول ذلك على سبيل التجوز في العبارة ، ومقام الألف مقام الجمع ، له من الأسماء اسم اللّه ، وله من الصفات القيومية ، وله المراتب كلها ، وله مجموع عالم الحروف ومراتبها ، ليس فيها ولا خارجا عنها ، نقطة الدائرة ومحيطها ، ومركب العوالم وبسيطها . « والميم » للملك الذي لا يهلك « واللام » بينهما واسطة لتكون رابطة بينهما ، فالألف إشارة إلى الذات المنزهة عن قيام الحركات بها ، واللام إشارة إلى الصفات التي لا تعقل إلا بالأفعال ، لذلك اتصلت اللام بالميم الذي هو أثرها وفعلها .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات "2 - 3" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 20, 2019 12:11 pm

تفسير آلآيات "2 - 3" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي جمع وتأليف محمود محمود الغراب

تفسير سورة البقرة ( 2 ) : آية 2 

"ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ" ( 2 )
« ذلِكَ »مبتدأ ليس بفاعل ولا مفعول لما لم يسم فاعله ، ولا يصح أن يكون فاعلا لقوله« لا رَيْبَ فِيهِ »فلو كان فاعلا لوقع الريب ، لأن الفاعل إنما هو منزله لا هو ، ولا يقال فيه أيضا مفعول لم يسم فاعله لأنه من ضرورته أن يتقدمه كلمة على بنية مخصوصة محلها النحو و« الْكِتابُ »هنا نفس الفعل والفعل لا يقال فيه فاعل ولا مفعول ، وهو مرفوع فلم يبق إلا أن يكون مبتدأ ، وجاء بعد قوله« ألم »إشارة إلى موجود بيد أن فيه بعدا ، وسبب البعد لما أشار إلى الكتاب ، وهو المفروق محل التفصيل والإشارة نداء على رأس البعد عند أهل اللّه ( 1 ) فقوله « ذا » حرف مبهم فبيّن ذلك المبهم بقوله« الْكِتابُ »وهو حقيقة ذا
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
قوله:  " ذلِكَ الْكِتابُ " ( 3 )الآية . 
ذا إشارة ، والألف واللام للعهد ، فالإشارة للكتاب المسؤول المعهود هو هذا ، ولا وجه لقوله( ألم )في الإعراب ، ومن أعربه فقد أخطأ ، فإن إعراب الكلام تابع لمعرفة معانيه ، وهذا مجهول المعنى ، ولا سيما في الخط حيث لم يقيد بحركة ، وقوله« لا رَيْبَ فِيهِ »يقول لا شك فيه ، فيحتمل أن يكون العامل في« فِيهِ »ما في الريب من معنى الفعل ، أو في الهدى من كائن ، فإن له تعلقا بالريب وتعلقا بالهدى ، وفي القرآن من ذلك كثير مثل« هذَا »في( يس )في قوله( مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ، هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ )فله وجه إلى ما ، ووجه إلى مرقدنا ، وكذلك( وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ )في سورة النور يطلبه« يُسَبِّحُ »بالفاعلية ، ويطلبه الابتداء بالمبتدئية ، وضمير لا تلهيهم يعود عليهم في الوجهين معا ، وكذلك هذا يجوز الوقف على
ص 47


وساق الكتاب بحر في التعريف والعهد ، فذلك الكتاب هو الكتاب المرقوم ، لأن أمهات الكتب ثلاثة : الكتاب المسطور والكتاب المرقوم والكتاب المجهول . والكتاب ضم معنى إلى معنى ، والمعاني لا تقبل الضم إلى المعاني حتى تودع في الحروف والكلمات ، فإذا حوتها الكلمات والحروف قبلت ضم بعضها إلى بعض فانضمت بحكم التبع لانضمام الحروف ، وانضمام الحروف تسمى كتابة ، فذلك الكتاب المرقوم المنزل عليك هو علمي لا علمك« لا رَيْبَ فِيهِ »عند أهل الحقائق أنزله في معرض الهداية« هُدىً لِلْمُتَّقِينَ »فهو في معرض الهداية لمن اتقاني وأنت المنزل فأنت محله ، ولا بد لكل كتاب من أم ، وأمه ذلك الكتاب المجهول لا تعرفه أبدا ، وقال تعالى« ذلِكَ »ولم يقل تلك آيات الكتاب ، فالكتاب للجمع والآيات للتفرقة ، وذلك مذكر مفرد ، وتلك مفرد مؤنث ، فأشار تعالى بذلك الكتاب أولا لوجود الجمع أصلا قبل الفرق ، كما أشار بالآيات إلى محل الأحكام والقضايا . 
- إشارة - الكتاب المرقوم هو هذا القرآن ، والكتاب المسطور هو الوجود كله ، والكتاب المجهول هو علم اللّه تعالى .


 سورة البقرة ( 2 ) : آية 3 
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 )

[ بحث في الإيمان ] 
بحث في الإيمان : إن الإيمان عبارة عن نور حاصل من قبل الحق تعالى ، قابل لكل ما
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
" فِيهِ " ويجوز الابتداء به فيقرأ : فيه« هُدىً لِلْمُتَّقِينَ »هدى أي بيان ، أي أن الكتاب يتضمن بيان ما أراد اللّه أن يخبر به عباده ، من طريق السعادة التي من سلك عليها نجا ، وخص المتقين بالذكر ، فإن المتقي هو الذي يحذر ويخاف ، فيؤديه حذره إلى البحث والتفتيش عن الأمر الذي تكون فيه سعادته ، فيتبين له من القرآن ذلك ، فيما هو معجز يحصل له التصديق بالمخبر به ، وهو النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وبما يتضمنه من المعاني يحصل له التصديق بها ، فإن اللّه هو الصادق في خبره ، لا يجوز عليه الكذب ، ولا يشترط في المتقي هنا أن يكون مؤمنا في حال تقواه .
فإنه صاحب نظر وطلب واستكشاف عن بيان الأمر ، فإذا تبين له آمن ، وإذا آمن استصحبه التقوى والحذر من مخالفة اللّه فيما أمر به ونهى ، وفيما يطرأ على القلوب من الشكوك والشبه المضلة ، فلا تزال التقوى له صفة ، قوله ( 4 )« الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ »هو نعت للمتقين ، وقد يكون مبتدأ ، ويكون الخبر الجملة من قوله« أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ » .ثم اعلم أن المعلومات على قسمين :
ص 48




يرد منه من دين وشرع ونحوهما ، فيستحق حامله بوصف قبوله المذكور الأمن من سخط الرحمن ، فيسمى بهذا الوصف والحكم الخاص إيمانا وتصديقا ، وعلى التحقيق إنما هو أول اعتبار من العلم متعلق بالدين والشرع وحداني النعت ، من غير اعتبار تأيد بدليل وبرهان عقلي أو سمعي أو كشفي ، فإذا تأيد بشيء من ذلك صار علما وإيقانا ، وخرج من كونه إيمانا ، ثم إن محل هذا النور يختلف بحسب رقة حجب العادة والطبع الحائل بين النفس والقلب ، وبين قبولهما الدين والشرع وبحسب كثافتهما ، فمهما رقّت الحجب وشفت يرد هذا النور من ضمن إخبار مخبر صادق عن الحق تعالى ، رغما منه بطريق السمع غالبا ، ويخلص إلى القلب فيتلقاه القلب بالقبول ، وذلك يكون نفس التصديق الذي محله القلب .
والدليل على كونه نورا قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم : [ فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور ] وذلك في آخر حديث تمثيل اليهود والنصارى والمسلمين وتمثيل إجارتهم وأجورهم .
وأما الدليل على وروده على القلب قوله عزّ من قائل [ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ] فيظهر القلب وآثاره ، ويتميز بعد أن كان مغمورا ومستورا ومقهورا تحت سلطنة النفس وآثارها ، ثم بعد هذا الورود يسري أثره من الباطن والقلب إلى ظاهر النفس ، حتى إلى صورتها البدنية وسائر قواها وأعضائها ، فتنقاد وتستسلم وتلين بعد انشراح الصدر له ولأحكامه الظاهرة والباطنة .
كما قال تعالى [ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه ] ويسمى هذا النور بحكم سرايته في الظاهر وتليينه إياه وانقياد الظاهر له ولأحكامه إسلاما ، ومهما تراكمت الحجب لم يرد هذا النور من ضمن الأخبار المذكورة إلا على ظاهر النفس من قبل أن ينشرح الصدر ، فتتلقاه النفس بقبول مختلس ، فتنقاد له ولأحكامه الظاهرة الحسية ، رغبة أو رهبة متعلقة بالظاهر ، كحقن الدم وصون المال والعرض ، ويسمى هذا النور بهذا القدر اليسير من الانقياد الظاهري إسلاما ، لكن لما لم يخلص ذلك إلى القلب ، لكثافة الحجب وعدم سرايته إلى الباطن أصلا ، لم ينشرح له الصدر ، ولم ينبسط لقبوله كما قال تعالى [ قالت
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
معلومات تستقل العقول بإدراكها ، كالعلم بوجود الحق سبحانه وتوحيده ، ونسب نعوت الكمال والجلال إليه ، وما يجب له وما يستحيل عليه ، وما يجوز أن يكون منه في خلقه ، كل ذلك لا يفتقر إلى خبر ولا مخبر ، وقسم آخر لا تستقل العقول بإدراكه ، وهو وقوع ما يجوز
ص 49


الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ] فأما إذا سرى أثر قبول الظاهر إلى الباطن وحكم قبول القلب إلى النفس ، بتلطيف الحجب وغلبة حكم العبادة على أحكام العادة ، فيحصل إما تمام شرح الصدر أو بعضه ، وذلك قول اللّه تعالى [ أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه ] .
ويعم حكم القبول للقلب من النفس ، ويتحد وصفهما الذي هو الإسلام والإيمان ، كما أخبر اللّه تعالى عن حال مؤمني قوم لوط في ذلك بقوله عزّ وجل من قائل : [ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ] فعلى هذا يكون لهذا النور بحسب محليه - أعني النفس والقلب - ظاهر وباطن فظاهره الانقياد القائم بالنفس وآلاتها التي هي القوى والأعضاء البدنية ، وله ثلاث مراتب فمبدؤها وصف المنافقين وذلك قبل شرح الصدر ، وهو انقياد النفس الأمارة بالسوء رغبة أو رهبة دنيوية فحسب ، ووسطها نعت الأبرار من المسلمين ، وهو انقياد النفس اللوامة للأوامر والنواهي ظاهرا وباطنا ، ولكن عن رغبة ورهبة متعلقة بالآخرة ، واستيفاء حظوظ النفس من الجنة بنعمها المحسوسة ودرجاتها ، وذلك في أثناء شرح الصدر ، وغايتها صفة المؤمنين الموقنين المقربين المخلصين ، وهو انقياد النفس المطمئنة ، ظاهرا وباطنا خالصا مخلصا من غير شائبة حظ النفس أصلا دنيا وآخرة .
وهو المراد بقول الخليل عليه السلام( إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ « أَسْلِمْ » قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) .
وبما وصى بنيه يعقوب عليه السلام بقوله( فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )وذلك بعد تمام شرح الصدر وفتح القلب ، وهو ظهوره من مشيمة النفس والروح ، وهذا النور الإيماني من هذه الحيثية الظاهرة ومن حيثية عموم الحكم واتحاد الوصف المذكورين قبيل هذا أيضا قابل للزيادة والنقصان ، لكون الأعمال البدنية منها ، فيزيد بزيادتها وينتقص بانتقاصها ، وأما باطنه وحقيقته المكتوب في القلب ، فهو مجرد التصديق ، وحداني النعت ، غير قابل من هذه الحيثية زيادة ونقصانا ، نعم قد يقوى ويضعف ظهوره برقة الحجب وكثافتها ، وربما يتأيد ويتقوى ويتفرع منه أشعة في الظاهر والباطن ، ولكن القوة والضعف والتأييد والظهور والأشعة ، كلها من نعوته وصفاته ، لا من أجزاء حقيقته ومقوماته ، ثم إن هذه الحيثية الباطنية التصديقية أيضا لها ثلاث
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أن يكون منه أو عدم وقوعه ، فهذا القسم مغيب عن العقول ، فلا تدركه إلا بالخبر الصدق ،
ص 50


درجات : أولها إيمان العوام ، وهو الاعتقاد الصحيح السليم الذي هو أصل الصراط المستقيم ، ووسطاها سرايتها في النفس وجميع قواها وآلاتها البدنية واستصحابها مع كل حركة وسكنة قولا وفعلا ، وثمرة ذلك الائتمار لجميع الأوامر والانتهاء عن جميع النواهي ظاهرا وباطنا .
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن « الحديث » 
من هذه المرتبة الوسطى الإيمانية ، فإنه نفى الإيمان عمن لم يستصحبه في جميع حركاته وسكناته ، ولو صحبه حال فعل الزنا والسرقة باستحضار الحق تعالى ولزوم أوامره ونواهيه لما أقدم على ذلك ، فكان الإيمان المنفي من هذه المرتبة الوسطى لا الأعلى والأدنى .
وأعلى مراتب الإيمان ظهور عروقه الكلية الضاربة إلى الروح الروحانية ، وثمرة ذلك تعديل الأخلاق وتبديلها ، أو صرفها فيما ظهر حسنا جميلا بالنسبة إلى تلك المصارف ، ويؤول الأمر من هذه المرتبة إلى أن تزول الحجب كلها أو أكثرها ، ويظهر القلب فتصحو سماؤه عن غمام الشك والريب ، وتنجلي فيه آيات الرب تعالى وتقدس ، ويصير الإيمان إحسانا ، ويعود الكشف عيانا ، وهنالك الولاية للّه الحق ، فدخل في مرتبة الإحسان .
واعلم أيدك اللّه أن الإيمان بمعناه اللغوي ، الذي هو إعطاء الأمان .
إنما يتعدى بنفسه فيقال : « آمنته » وأما ما يتضمن معنى التصديق والاعتراف الباطن فيعدى بالباء ، كقوله تعالى : ( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ )وذلك باطنه المتعلق بالقلب وهو الأصل .
وأما ما يتضمن معنى الانقياد والاستسلام المتعلق بالنفس فيعدى باللام كقوله عزّ وجل« أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ »فالذي يقبل التشعب والانقسام والزيادة والنقصان من هذا النور إنما هو الظاهري المعدّى باللام ، الذي هو حقيقة الإسلام لا الباطن المعدى بالباء الذي هو الأصل الذي تفرعت منه الأغصان ، والتشعب المذكور في الحديث ( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا اللّه وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من شعب الإيمان ) وقد ذكر الإمام أبو القاسم الراغب في ذريعته في معنى انقسام الإيمان المذكور في هذا الحديث كلاما بليغا ، وحصر شعبه في اثنين وسبعين شعبة .
وحاصل كلامه : أن الإيمان شيئان ، تصديق وأعمال .
فالتصديق على ثلاث مراتب : أعلى وهو المراد بقوله« الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا »وأوسط وهو الظن المقارب لليقين بسبب
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فإذا وردت عليه صدّقت به ، فهو قوله« الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ » وهو ما وقع به الإخبار من اللّه
ص 51


أمارة قوته ، كما قال تعالى« يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ».
وأدنى وهو التقليد المحض ، والأعمال أيضا ثلاثة : خلافة معينة بقوله« وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ »وعبادة مرادة بقوله« إِلَّا لِيَعْبُدُونِ »وعمارة أرض كقوله تعالى« وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها »فهذه ستة ، وكل واحد منها صدوره إما أن يكون عن رغبة ورهبة أو عن إخلاص فهذه اثنتا عشرة ، وكل واحد منها إما يكون المؤمن في مبدئه أو في وسطه أو في منتهاه ، فإن كل فضيلة ورذيلة لا تنفك عنها .
فاثنتا عشرة في ثلاث صارت ستا وثلاثين ، وكل واحد منها إما أن يكون باجتباء وهبي ، وإما باهتداء كسبي ، فصارت اثنتين وسبعين شعبة من غير زيادة ونقصان ، هذا حاصل كلام الراغب رحمة اللّه تعالى ، وقد أجاد في هذا الحصر والتقسيم ، إلا أنه حمل البضع الذي هو العدد المجهول على الاثنين ، وقد اختلف في الاثنين هل هو من العدد أم لا ، على أن الأكثر مالوا إلى أن البضع لا يقع إلا على العدد المجهول من الثلاثة إلى التسعة ، فقد عين واختار أمرا مختلفا فيه ، وأيضا يصير الفرع على ما قرره أفضل وأعلى من الأصل .
ويلوح لي في هذا الحصر والتقسيم وجه آخر مناسب لأفضلية هذا القول وحمل البضع الوضع إجماعا ، وذلك أنا قد قررنا آنفا أن حقيقة الإيمان باطنا أمر وحداني غير قابل للتجزئة والقسمة والتشعب ، وإنما ينقسم من حيث ظاهره وصفاته ونعوته الظاهرة وذلك هو الإسلام وهو المعدى باللام ، وحسبت حروف البضع بحساب الجمل ، فرأيت أن دلالة لفظ البضع على عدد الثمانية أشد وأقوى من دلالتها على غير ذلك من الأعداد فحملناه هاهنا على ذلك ، فانحصرت شعب الإيمان وانقسمت على ثمان وسبعين شعبة ، ووجه ذلك أن كل ما يصدر من ظاهر نفس الإنسان من حيث قواها وآلاتها ، التي تصلح إضافة العمل إليها مبنيا على نية منتشئة من أصل الإيمان وماهيته ، التي بسراية تلك النية يقع ذلك التصادر في معرض المجازاة شرعا . 
ينقسم ثلاثة أقسام : 
أحدها قولي محض ، مثل قول« لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ » *مثلا . 
ثانيها عملي محض كالجهاد والزكاة . 
وثالثها متركب منهما كالصلاة ، ثم إن العملي إما أن يكون باجتماع القوى والآلات ، أو بتفرد كل قوة وآلة بما يخصه من العمل ، فالقولي وحده والمتركب منه ومن العملي والمتركب من العمليات ثلاثة أقسام ، وبقي ما تفرد
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
مجملا ومفصلا ، مثل ( فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) ومثل قوله
ص 52


كل قوة وآلة بما يخصه من العمل ، وذلك نوعان : نوع غايته والمقصود منه العلم والإدراك لا غير ، وذلك منحصر في خمسة أصناف : هي الحواس الخمس ، السمع والبصر والشم والذوق واللمس . والنوع الثاني ما لا يكون غايته العلم والإدراك بل غايته منحصرة في أمرين : أحدهما جلب المنفعة أو اللذة ، وذلك يكون بالقوة الشهوية ، والأمر الثاني دفع المضرة والألم وذلك بالقوة الغضبية ، وآلات هاتين القوتين ومظاهرها خمسة أيضا إحداها اليد التي ينتهي إليها إعلاء كلمة الحق بضرب أعناق مخالفيه ، وثانيها الرجل التي بها يسارع إلى الائتمار بأمر( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ) ،وثالثها الرأس الذي به يتقرب إلى اللّه تعالى بأمر( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) ،ورابعها البطن الذي به يقوم بقاء الشخص بالمبادرة إلى أمر ( كلوا ) ، وخامسها الفرج الذي تعلق به بقاء النوع بواسطة الانتداب بأمر ( تناكحوا ) وليس غير ما أحصيناه قوة وآلة في الظاهر يعمل ويتقرب بها إلى اللّه تعالى أصلا ، فهذه العشرة مع الثلاثة المذكورة آنفا صارت ثلاثة عشر ، وكل واحد منها ينقسم قسمين : أحدهما فعلي كما وصفنا ، والثاني تركي كالصوم وجميع مقتضيات الحياة ، فتصير ستا وعشرين ، وكل واحد منها إما أن يكون صدوره ابتغاء مرضاة اللّه تعالى وخالصا لوجهه غير مشوب بعلة نفسانية أصلا أو يكون مشوبا بعلة .
والعلة النفسية نوعان : 
رغبة ورهبة باقتضاء قوتي الشهوة والغضب وبحسبها ، فهذه الثلاثة تضرب في ست وعشرين تصير ثمانيا وسبعين .
فانحصرت شعب ظاهر الإيمان التي أفضلها قول لا إله إلا اللّه بسراية أصلها الذي هو القصد والنية المنتشئة من باطن الإيمان وأصله ومنبعثة في ثمان وسبعين شعبة ، ويحتمل أن يعد باطن الإيمان الوحداني من جملة شعبه الظاهرة ، تسمية للأصل والذات باسم الفرع والصفة ، فتصير الشعب تسعا وسبعين ويحمل البضع على أكثر ما يحتمله في العدد ، كما أن الراغب حمله على أقل العدد من وجه ، واللّه تعالى أعلم . وإذا علمت أن الإيمان نور وارد على القلب والنفس ، قابل لكل ما يرد من الحق من أنوار الأمر والنهي المقربة إلى اللّه تعالى ، المزيلة لظلمة الطبيعة العنصرية ، والمظهرة سبيل القرب إليه تعالى وتقدس ، علمت أن التقوى هي السلوك في ذلك السبيل ، والتقرب إليه عزّ وجل بإتيان الأوامر وأداء الواجبات والمندوبات التي هي مقتضاها ، وبالانتهاء عن النواهي وترك المحرمات والشبهات والانحرافات التي هي من
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
( حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ )و( فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ )وما أشبه ذلك ، ومن الغيب أيضا
ص 53


مقتضياتها ، والدخول بواسطة ذلك الإتيان والانتهاء في وقاية رضى اللّه تعالى وهدايته ونفعه


[ شعب الإيمان ] 
ولطفه - شعب الإيمان - اعلم أن الإيمان بضع وسبعون شعبة أدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأعلاها لا إله إلا اللّه ، وما بينهما على قسمين من اللّه : عمل وترك ، أي مأمور به ومنهي عنه ، فالمنهي عنه هو الذي يتعلق به الترك وهو قوله لا تفعل ، والمأمور به هو الذي يتعلق به العمل وهو قوله افعل ، وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .
وقال صلّى اللّه عليه وسلم : [ ما نهيتكم عنه فانتهوا ] وأطلق ولم يقيد وقال في الأمر « وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم » فهذا من رحمته بأمته ، وهو لا ينطق عن الهوى فهذا من رحمة اللّه تعالى بعباده : وأمره بما وجب به الإيمان على نوعين : فرض ومندوب ، والنهي على قسمين نهي حظر ونهي كراهة ، والفرض على نوعين : فرض كفاية وفرض عين .
وكذلك الواجب أقول فيه : واجب موسع وواجب مضيق ، فالواجب الموسع موسع بالزمان وموسع بالتخيير وهو الواجب المخير فيه مثل كفارة المتمتع ، وإتيان ما يؤتى من هذا كله وترك ما يترك من هذا كله هو الإيمان الذي فيه سعادة العباد ، فالبضع والسبعون من الإيمان هو الفرض منه من عمل وترك وأما غير الفرض كالمندوبات والمكروهات فيكاد لا ينحصر عند أحد ، فابحث عليها في الكتاب والسنة . 
ومن شعب الإيمان : 
الشهادة بالتوحيد وبالرسالة ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والجهاد ، والوضوء والغسل من الجنابة والغسل يوم الجمعة ، والصبر ، والشكر ، والورع والحياء ، والأمان ، والنصيحة ، وطاعة أولي الأمر ، والذكر ، وكف الأذى ، وأداء الأمانة ، ونصرة المظلوم وترك الظلم ، وترك الاحتقار ، وترك الغيبة ، وترك النميمة ، وترك التحسس ، والاستئذان ، وغض البصر ، والاعتبار ، وسماع الأحسن من القول واتباعه ، والدفع بالتي هي أحسن ، وترك الجهر بالسوء من القول ، والكلمة الطيبة ، وحفظ الفرج ، وحفظ اللسان ، والتوبة ، والتوكل ، والخشوع ، وترك اللغو ، والاشتغال بما يعني وترك ما لا يعني ، وحفظ العهد والوفاء بالعقود ، والتعاون على البر والتقوى وترك التعاون على الإثم والعدوان ، والتقوى ، والبر ، والقنوت ، والصدق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإصلاح ذات البين وترك إفساد ذات البين ، وخفض الجناح ، واللين ، وبر الوالدين ، وترك العقوق ، والدعاء ، والرحمة بالخلق ، وتوقير الكبير
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ما هو من مجازات العقول ، وهو ما وقفت فيه ، فلم تحكم عليه بوجوب ولا جواز ولا إحالة ،
ص 54


ومعرفة شرفه ورحمة الصغير ، والقيام بحدود اللّه ، وترك دعوى الجاهلية فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول : دعوها فإنها منتنة ، والتودد ، والحب في اللّه والبغض في اللّه ، والتؤدة ، والحلم ، والعفاف ، والبذاذة ، وترك التدابر ، وترك التحاسد ، وترك التباغض ، وترك التناجش ، وترك شهادة الزور وترك قول الزور ، وترك الهمز واللمز والغمز ، وشهود الجماعات ، وإفشاء السلام ، والتهادي ، وحسن الخلق ، وحسن العهد ، والسمت الصالح ، وحفظ السر ، والنكاح والإنكاح ، وحب الفأل ، وحب أهل البيت ، وترك الطيرة ، وحب النساء ، وحب الطيب ، وحب الأنصار ، وتعظيم الشعائر ، وتعظيم حرمات اللّه ، وترك الغش ، وترك حمل السلاح على المؤمن ، وتجهيز الميت والصلاة على الجنائز ، وعيادة المريض ، وإماطة الأذى ، وأن تحب لكل مؤمن ما تحب لنفسك .
وأن يكون اللّه ورسوله أحب إليك مما سواهما ، وأن تكره أن تعود في الكفر ، وأن تؤمن بملائكة اللّه ، وكتبه ، ورسله ، وبكل ما جاءت به الرسل من عند اللّه ، من ذلك نعلم أن الإيمان نور شعشعاني ، ظهر عن صفة مطلقة لا تقبل التقييد ، فإذا خالط هذا النور بشاشة القلوب لا يتصور في صاحبه شك ، لأن الشك لا يجد محلا يعمره ، فإن محله الدليل ولا دليل ، فما ثم على ما يرد عليه الدخل ولا الشك بل هو في مزيد ، فالإيمان لا تعطيه إقامة الدليل بل هو نور إلهي يلقيه اللّه في قلب من شاء من عباده ، وقد يكون عقيب الدليل وقد لا يكون هناك دليل أصلا .
كما قال تعالى : ( وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا )فنور الإيمان وهب إلهي ليس فيه من الكسب شيء ، ولا أثر للدلالة فيه البتة ، فإن الإيمان كشف نوري لا يقبل الشبهة ، وهو لا يقبل الزوال لأنه نور إلهي ، وصاحب الدليل لا يقدر على عصمة نفسه من الدخل عليه في دليله القادح ، فيرده هذا الداخل إلى محل النظر ، فصاحب الإيمان يصف الحق بما لا تقبله الأدلة ، ويتأوله المؤمن به من حيث الدليل ، فينقصه من الإيمان بقدر ما نفاه عنه دليله ، وموطن الدنيا اقتضى أن ينحجب الخلق عن اللّه ، إذ لو أشهدهم نفسه في الدنيا لبطل حكم القضاء والقدر ، الذي هو علم اللّه في خلقه بما يكون عنهم وفيهم ، فكان حجابه رحمة بهم وإبقاء عليهم ، فإن تجليه سبحانه يعطي بذاته القهر فلا يتمكن معه دعوى ، والإيمان لا يكون إلا بالخبر لا بالعيان« الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ »فليس المؤمن إلا من يؤمن بالغيب ، وهو الخبر الذي جاء من عند اللّه ، فإن الخبر بما هو خبر يقبل الصدق والكذب ،
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وقد يمكن أن يكون من ذلك رؤية اللّه سبحانه ، فإذا قررها الخبر الصدق تعين الحكم وأن ذلك
ص 55


فالصدق متعلقه الخبر ، ومحله الصادق ، وليس بصفة لأصحاب الأدلة العلماء الذين آمنوا بما أعطتهم الآيات والمعجزات من الدلالة على صدق دعواه فذلك علم ، والصدق نور يظهر على قلب العبد ، يصدق به هذا المخبر ، ويكشف بذلك النور أنه صدق ، ويرجع عنه برجوع المخبر ، لأن النور يتبع المخبر حيث مشى ، والمصدق بالدليل ليس هذا حكمه ، إن رجع المخبر لم يرجع لرجوعه ، فالمؤمنون على قسمين : مؤمن عن نظر واستدلال وبرهان ، فهذا لا يوثق بإيمانه ولا يخالط نوره بشاشة القلوب ، فإن صاحبه لا ينظر إليه إلا من خلف حجاب دليله ، وما من دليل لأصحاب النظر إلا وهو معرض للدخل فيه والقدح ولو بعد حين ، فلا يمكن لصاحب البرهان أن يخالط الإيمان بشاشة قلبه وهذا الحجاب بينه وبينه ، والمؤمن الآخر الذي كان برهانه عين حصول الإيمان في قلبه لا أمر آخر . ثم إن المؤمن على نوعين : 
مؤمن له عين فيه نور ، بذلك العين إذا اجتمع بنور الإيمان أدرك المغيبات التي متعلقها الإيمان ، ومؤمن ما لعينه سوى نور الإيمان ، فنظر إليه به ونظر إلى غيره به ، فالأول يمكن أن يقوم بعينه أمر يزيل عنه النور الذي إذا اجتمع بنور الإيمان أدرك الأمور التي ألزمه الإيمان القول بها ، وهو المؤمن الذي لا دليل له وينظر الأشياء بذاته ، فيدخله الشك ممن يشككه فإن فطرته تعطي النظر في الأدلة ، إلا أنه لم ينظر فإذا نبّه تنبه ، فمثل هذا إن لم يسرع إليه الذوق وإلا خيف عليه ، والمؤمن الآخر هو بمنزلة الجسد الذي قد تسوت بنيته ، واستوت آلات قواه ، وتركبت طبقات عينه ، غير أنه ما نفخ فيه الروح فلا نور لعينه .
فإذا كان الإنسان بهذه المثابة من الطمس ، فنفخ فيه روح الإيمان ، فأبصرت عينه بنور الإيمان الأشياء ، فلا يتمكن له إدخال الشكوك عليه جملة ورأسا ، فإنه ما لعينه نور سوى نور الإيمان ، والضد لا يقبل الضد ، فما له نور في عينه يقبل به الشك والقدح فيما يراه ، ومتى لم يكن الإيمان بهذه المثابة وإلا فقليل أن يجيء منه ما جاء من الأنبياء والأولياء من الصدق بالإلهيات ، فالفطر الذكية التي تقبل النظر في المعقولات من أكبر الموانع لحصول ما ينبغي
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
من قبيل الممكنات ، قوله« وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ »يقول : يتمون نشأتها كما أمروا بها ، والألف واللام للتعريف بالصلاة المشروعة لا اللغوية ، وإتمام نشأتها وكمال صورتها يختلف باختلاف الحالات ، يحصرها ثلاثة أحوال : الواحدة أن يصلي الرجل وحده فيتم ركوعها وسجودها وما تحوي عليه
ص 56


أن يحصل من العلم الإلهي ، والفطر المطموسة هي القابلة التي لا نور لعينها من ذاتها إلا من نور الإيمان ، فلا تعطي فطرته النظر في الأمور على اختلافها ، ومنزلة الأنبياء فيما يأخذونه من الغيب بطريق الإيمان من الملائكة منزلة المؤمنين مع ما يأخذونه من الأنبياء ، فالأنبياء مؤمنون بما يلقي إليهم الروح ، والروح مؤمن بما يلقي إليه من يلقي إليه .
فالمؤمن هو الذي لا نور لعين بصيرته إلا نور الإيمان ، وليس الإيمان المعتبر عندنا إلا أن يقال الشيء لقول المخبر على ما أخبر به ، أو يفعل ما يفعل لقول المخبر لا لعين الدليل العقلي .
« وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ »وقعت الصلاة في الرتبة الثانية من قواعد الإيمان التي بني الإسلام عليها .
في الخبر الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللّه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، والحج ) فعلم الصحابة أنه صلّى اللّه عليه وسلم راعى الترتيب لما يدخل الواو من الاحتمال .
ولهذا لما قال بعض رواة هذا الحديث من الصحابة لما سرده فقال : والحج وصوم رمضان ، أنكر عليه وقال له ( وصوم رمضان والحج ) فقدّمه ، وعلمنا أنه أراد الترتيب ، ونبه على أن لا ننقل عنه صلّى اللّه عليه وسلم إلا عين ما تلفظ به ، فإنه من العلماء من يرى نقل الحديث المتلفظ به من النبي صلّى اللّه عليه وسلم على المعنى .
فالصلاة ثانية في القواعد ، مشتقة من المصلي في الخيل ، وهو الذي يلي السابق في الحلبة ، والسابق من القواعد الشهادة ، والمصلي هي الصلاة ، وجعل الزكاة تلي الصلاة لأن الزكاة التطهير فناسبت الصلاة ، فإن الصلاة لا يقبلها اللّه بغير طهور ، والزكاة تطهير الأموال ، ومن شروط الصلاة طهارة الثياب والأبدان والبقعة التي توقع الصلاة عليها وفيها كانت ما كانت ، وجعل الصوم يلي الزكاة ، لما شرع اللّه في صوم رمضان عند انقضائه من زكاة الفطر فلم يبق الحج إلا أن يكون آخرا . 
واعلم أن الصلاة تضاف إلى ثلاثة وإلى رابع ثلاثة بمعنيين بمعنى شامل وبمعنى غير شامل ، فتضاف الصلاة إلى الحق بالمعنى الشامل وهو الرحمة - فإن اللّه وصف نفسه بالرحيم - ووصف عباده بها فقال( أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) *وقال تعالى( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ )فوصف نفسه بأنه يصلي أي يرحمكم . وتضاف الصلاة إلى الملائكة بمعنى الرحمة ،
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
من الأقوال والأفعال كما علمنا الشارع لنا ، وهذا سار في كل مصل على كل حال ، والثانية أن يكون المصلي مع إمام وحده ، فمن تمام صلاته وإقامته الاقتداء به ، فلا يرفع حتى يرفع ، ولا
ص 57


والاستغفار ، والدعاء للمؤمنين ، قال تعالى:  ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ )فصلاة الملائكة ما ذكرناه ، قال اللّه عزّ وجل في حق الملائكة :( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا )وتضاف الصلاة إلى البشر بمعنى الرحمة ، والدعاء والأفعال المخصوصة المعلومة شرعا ، فجمع البشر هذه الثلاث المراتب المسماة صلاة ، قال تعالى آمرا لنا« وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ » *وتضاف الصلاة إلى كل ما سوى اللّه ، من جميع المخلوقات : ملك وإنسان وحيوان ونبات ومعدن بحسب ما فرضت عليه وعينت له .
 قال تعالى :( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ )فأضاف الصلاة إلى الكل ، والتسبيح في لسان العرب الصلاة .
 وإقامة الصلاة ظهور نشأتها على أتم خلقها ، وخلقها يختلف باختلاف من تنسب إليه ، وكل صلاة مما ذكرنا تامة الخلقة ، حتى الصلاة المنسوبة إلى الجماد والنبات والحيوان ، ما عدا الإنس والجان .
فإن صلاتهما إذا أنشئاها قد تكون مخلقة أو غير تامة الخلقة ، لذلك أمرهما تعالى بقوله« وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ » *وإقامة البشر للصلاة المنسوبة إلى الإنسان والجن هو أن تنسب إليهم بمعنى الرحمة ، كما نسبت إلى الحق ، وبمعنى الدعاء والرحمة ، كما نسبت إلى الملائكة . وبمعنى الدعاء والرحمة وإتمام التكبير والقيام والركوع والسجود والجلوس كما ورد في الخبر ، فمن أتم ركوعها وسجودها وما شرع فيها ، وإن كان في جماعة مما تستحقه صلاة الجماعة والائتمام فقد أكمل خلقها ، وإن كان انتقص منها شيء كانت له بحسب ما انتقص منها ، واللّه لا يقبلها ناقصة .
 فيضم بعض الصلوات إلى بعض فإن كانت له مائة صلاة وفيها نقص كملت بعضها من بعض ، وأدخلت على الحق كاملة ، فتصير المائة صلاة مثلا ثمانين صلاة أو خمسين أو عشرة أو زائدا على ذلك أو ناقصا عنه ، هكذا هي صلاة الثقلين ، وربط إقامة الصلاة بأزمان هي الأوقات المفروض فيها إقامة الصلوات المفروضات ، قال تعالى( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً )أي مفروضة في وقت معين سواء كان موسعا أو مضيقا ، وربطها بأماكن وهي المساجد ، والمبادرة إلى أول الأوقات في العبادات هو الأحوط والمطلوب من العباد في حال التكليف ،
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يفعل شيئا قبل فعل إمامه ، والحالة الثالثة أن يكون في جماعة ، فمن تمام صلاته التراص في الصف وإلزاق المناكب وتسوية الصف ، فهذا إقامة الصلاة ، وسميت صلاة لأنها في المرتبة الثانية من شهادة
ص 58


قال تعالى:  ( أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ )ولهذا الاحتراز والاحتياط يحمل الأمر الإلهي - إذا ورد معرى عن قرائن الأحوال التي يفهم منه الندب أو الإباحة - على الوجوب ، ويحمل النهي كذلك على الحظر إذا تعرى عن قرينة حال تعطيك الكراهة ، ولا تتوقف عن حمل الأمر والنهي على ما قلناه ، إلا بقرينة حال تخرجهما عن حكم الوجوب في الأمر ، وحكم الحظر في النهي .« وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ »فرضا كان أو تطوعا ، فالفرض من ذلك قد عين اللّه أصنافه ، ورتّبه على نصاب وزمان معين ، والتطوع من ذلك لا يقف عنده شيء ، وجعله تعالى إنفاقا لأنه له وجه ونسبة إلى الحق ، ووجه ونسبة إلى الخلق ، لأنه من النفق وهو جحر اليربوع ويسمى النافقاء ، له بابان إذا طلب من باب ليصاد خرج من الباب الآخر ، كالكلام المحتمل إذا قيدت صاحبه بوجه ، أمكن أن يقول لك إنما أردت الوجه الآخر من محتملات اللفظ . ورد أن الصدقة تقع بيد الرحمن قبل وقوعها بيد السائل فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ، فهذه نسبة إلهية مع الغنى المطلق الذي يستحقه ، والنسب الإلهية لا ينكرها إلا من ليس بمؤمن خالص .
فإن اللّه يقول :( وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً ) *واليد العليا هي المنفقة ، فهي خير بكل وجه من اليد السفلى التي هي الآخذة ، فلما كان العطاء له نسبة إلى الحق والغنى ، ونسبة إلى الخلق والحاجة سماه اللّه إنفاقا ، فالعلماء ينفقون بالوجهين فيرون الحق فيما يعطونه معطيا وآخذا ، ويشاهدون أيديهم هي التي يظهر فيها العطاء والأخذ ، ولا يحجبهم هذا عن هذا ، والمعطي بحق والآخذ بحق ليسا على السواء في المرتبة ولا في الاسم ولا في الحال .
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
التوحيد ، وتلك السابقة . وهذه متأخرة عنها ، تأخر المصلي عن السابق في الحلبة ، فإنه يليه ، في الحديث الصحيح ( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا اللّه ، وإقام الصلاة ) فأتى بها ثانية تابعة بلفظة الإقامة ، وهكذا جاءت هنا« يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ »وإذا وقع الإيمان باللّه ، فليس من حيث الدليل .
وإنما هو من حيث ما جاء به الخبر من قوله: ( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ )وشبه ذلك ، فصدّقنا قوله ، فذلك التصديق هو الإيمان ، وهو نور يقذفه اللّه في قلب من شاء من عباده ، قوله تعالى« وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ »من هنا للتبيين ، ولها وجه إلى التبعيض ، والآية وردت على جهة المدح بصفة الكرم ، فعلى هذا سواء كان ذلك الرزق حراما أو حلالا ، ومن حمل الرزق على أنه الحلال خاصة وهو قوله تعالى( بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )
ص 59
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 20, 2019 12:16 pm

تفسير آلآيات من "4 - 15" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي...

سورة البقرة ( 2 ) : آية 4
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 4 )
حكم اليقين سكون النفس بالمتيقن أو حركتها إلى المتيقن ، وهو ما يكون الإنسان فيه على بصيرة أي شيء كان ، فإذا كان حكم المتيقن من النفس حكم الحاصل فذلك اليقين ، سواء حصل المتيقن أو لم يحصل في الوقت .
________________________________________________________________________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وهو الأظهر ، فإنه جاء هذا المدح للذين يؤمنون بالغيب ، وقد نقول إن المؤمن إذا عصى بكسب المال الحرام فله التصرف فيه ، والتصرف فيه رده إلى من غصبه ، أو إلى ذريته أو إلى بيت المال ، وإن لم يوجد شيء من هذا كله تصدق به عن صاحبه ، فتعمه هذه الآية ، وأتى بلفظ« يُنْفِقُونَ »من نفقت الدابة إذا هلكت ، وقد ورد في الصحيح فيمن آتاه اللّه مالا ، فسلّطه اللّه على هلكته في اللّه ، فهو يخرجه هكذا وهكذا ، وقوله« مِمَّا رَزَقْناهُمْ »ولم يقل ( من أموالهم ) فأضاف الرزق إليه لقوله( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ )فهم فيما في أيديهم وكلاء للّه تعالى في التصريف فيه على حد ما شرعه الموكل ، كالسلطان على بيت المال ، فأجرهم في ذلك أجر الوكيل الموفي حق مرتبة الوكالة ، فلنفقته وإنفاقه وجهان ، وجه من حيث أنه المباشر بالعطاء ، ووجه أنه معط ما هو موكّل فيه ، ليس هو ماله ، من النافقاء وهو الجحر الذي له بابان ، قال تعالى( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ )واختلف الناس في مسمى الرزق ، هل يسمى الحرام رزقا أم لا ؟
فمن جعله رزقا لمن هو بيده كان المدح بصفة الكرم ، ومن منع ذلك كان المدح أيضا بصفة الكرم ، والمدح بالوقوف عندما حد له رب المال .
قوله : ( 5 )« وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ »يقول : والذين يصدقون بما أنزل إليك ، وهو ما أوحي به إليه من القرآن ، وقوله( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ )فرأيه شرع ، وأن اللّه أراه ذلك ، فالمؤمنون يؤمنون بذلك كله ، وقوله« ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ »يعني من الكتب والصحف والشرائع المنزلة ، ولا يلزم من الإيمان بالشيء العمل به ، إلا حتى يكون فيما أنزل العمل بما أنزل أو ببعض ما أنزل ، فالتصديق يعم .
قال تعالى( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ )فآمنا بما أنزل من قبلنا من حيث ما أنزل على نبينا ، لا من حيث ما نقل إلينا ، وقد يدخل في هذه الآية من أسلم من أهل الكتب ، وهو قوله( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا )بما أخبركم به محمد صلّى اللّه عليه وسلم ،


ص 60

سورة البقرة ( 2 ) : آية 5
"أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "( 5 )
عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ »أي على بيان وتوفيق حيث صدقوا ربهم فيما أخبرهم به مما هو غيب في حقهم« وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »أي الناجون من عذاب اللّه الباقون في رحمة اللّه ، فإن الفلاح هو البقاء ، والآخرة هي دار البقاء .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 6
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 6 )
كما آمنتم به من حيث أخبركم به موسى وعيسى ، قال تعالى« يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ »فالضمير يعود عليهم بأنه نبي مبعوث إليهم أيضا في كتبهم ، فمن إيمانهم بكتبهم إيمانهم به صلّى اللّه عليه وسلم ، وما من آية إلا ولنزولها سبب ، ولكن ليس المقصود معرفة السبب إلا إذا كان مقصورا على السبب ، فيتعين عند ذلك ذكر السبب ، وكون المنزل مقصورا عليه ، فلذلك لا نتعرض في هذا التفسير لأسباب النزول في أكثره .« وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ »من يقن الماء في الحفرة إذا استقر فيها ، فلما استقر الإيمان بالغيب وبما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة ، سماهم موقنين ، فأخبر عنهم بفعل الحال ، وإلى هنا انتهت جملة المبتدأ إذا كان« الَّذِينَ »مبتدأ ، وقوله« بِالْآخِرَةِ »لما قال« وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ »وذكر ما كان قبله ، قال« وَبِالْآخِرَةِ »وهو ما يكون بعد مما لم يكن ، وهو من وقته إلى قيام الساعة ، إلى دخول الجنة والنار ، إلى الخلود فيها ، إلى ما لا يتناهى ولا ينقطع ، مما وردت به الأخبار الإلهية ، قوله ( 6 )« أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »أولاء حرف إشارة يشار به إلى المتقين ، لقوله« فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ »فهو قوله« أُولئِكَ »يعني المتقين على هدى من ربهم في توقيهم الداعي لهم إلى البحث عن طريق نجاتهم حتى يتبين ، فهم على هدى من ربهم في ذلك( أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) *وهو الهدى ، والرب هنا بمعنى المصلح ، وهو الأوجه من سائر مدلولاته ، والمربي أيضا .
وقوله : « وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »حرف إشارة يشار به أيضا إلى المتقين وإلى الذين يؤمنون ، سواء كان نعتا أو مبتدأ ، وفيه بشرى ونوع تقوية لمن يقول إن المجتهد مأجور وإن أخطأ ، وإن الاجتهاد في الأصول كما هو في الفروع ، والمفلحون : معناه الناجون من عذاب اللّه ، الباقون في دار كرامة اللّه .
قال تعالى : ( وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ )وفي هذه الآيات من أول السورة إلى هنا تكذيب لقول من قال :( لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى )فكذبهم في التحجير . قوله ( 7 )« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا »
ص 61

لأنهم قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين فكأن اللّه حكى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم وعرفه بأن حالهم ما ذكروه عن نفوسهم ، فهذه ظلمة قد تكون ظلمة جهل ، وقد تكون ظلمة جحد لهوى قام بهم ، وهو أشد الظلم .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 7
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ( 7 )
« خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »بخاتم الكفر فلا يدخله الإيمان مع علمهم به ،« وَعَلى سَمْعِهِمْ »أي ختم على سمع فهمهم فهم الجهلاء ، لا يعلمون ما أراد اللّه بما قاله« وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ »وعلى أبصار عقولهم غشاوة ، حيث نسبوا ما رأوه من الآيات إلى


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الآية ، يقول : بكل ما تقدم ذكره ، الكافر هو الساتر للحق ، والساترون الحق على قسمين :
قسم يسترون الحق مع معرفتهم بأنه الحق ، فلا يتمكن أن يستروه عن نفوسهم ، بل يستروه عن الغير بما يوردونه من الشبه المضلة والتشكيكات الصارفة عن ظهوره ، وهو قوله تعالى( يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) *وقوله( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ )فهؤلاء جاحدون ، والقسم الآخر هو الذي ستر الحق عن نفسه بما ظهر له من الشبه ، فقامت له سترا بينه وبين الحق ، فيسمى أيضا هذا كافرا لأنه ما وفّى النظر حقه في الأدلة ، فالأول معاند ، والثاني مفرّط ، قال اللّه لنبيه عليه السلام« سَواءٌ عَلَيْهِمْ »ولم يقل عليك« أَ أَنْذَرْتَهُمْ »يقول : خوفتهم وأعلمتهم بأسباب السعادة والشقاء« أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ »يقول : أو سكت عنهم« لا يُؤْمِنُونَ »يقول : لا يصدقون ، إما عنادا وجحدا ، وإما جهالة ، والأظهر هنا إرادة القسم الواحد وهم الجاهلون ، من أجل ما يأتي بعد من ذكر القلوب ، فالمعاند عالم ومصدق في الباطن ، غير مظهر لما هو به مصدق ، فإنه لا يقدر في نفسه أن ينكر علمه بالشيء ، ولا أن يجعله جهلا ، فهؤلاء أيضا هم الذين جعل اللّه جزاءهم عدم المغفرة في قوله تعالى( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )ولم يقل عليك فإنه ليس عليه صلّى اللّه عليه وسلم سواء ، وهم سواء دعاؤه إياهم أو سكوته عنهم ، ما يتغير عليهم الحال في نفوسهم ، وهذا يؤيد أن المراد بالذين كفروا هنا من جهل لا من عاند مع علمه( لا يُؤْمِنُونَ )
أي لا يصدقون بما أعلمتهم ، والتصديق حالة قلبية . قوله ( 8 )« خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »الآية ، العالم بالشيء ما ختم على قلبه ، لكن الجاهل بالشيء مختوم على قلبه ، قوله« خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »وما ذكر الطبع هنا ، بل ذكره في موضع آخر ، قال تعالى( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ )والطبع النقش الذي يكون في الختم ، والختم هو القفل . فقال
ص 62

السحر [ طب ]
طب  إذا استرخت الطبقة الصلبة التي في البصر حصل الضرر ، فالرخاوة غشاوة ،« وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ »العذاب إنما سماه اللّه بهذا الاسم إيثارا للمؤمن ، فإنه يستعذب ما يقوم بأعداء اللّه من الآلام ، فهو عذاب بالنظر إلى هؤلاء ، ومن وجه آخر سمي عذابا ما يقع به الآلام بشرى من اللّه لعباده ، أن الذي تتألمون به لا بد إذا شملتكم الرحمة أن تستعذبوه وأنتم في النار ، كما يستعذب المقرور حرارة النار والمحرور برودة الزمهرير ، ولهذا جمعت جهنم النار والزمهرير لاختلاف المزاج ، فما يقع به الألم لمزاج مخصوص يقع به النعيم في مزاج آخر يضاده ، فلا تتعطل الحكمة ، ويبقي اللّه على أهل جهنم الزمهرير على المحرورين والنار على المقرورين فينعمون في جهنم ، فهم على مزاج لو دخلوا به الجنة تعذبوا بها لاعتدالها ، فسمى العذاب عذابا لأن المآل إلى استعذابه لمن قام به بعد شمول الرحمة ، كما يستحلي الجرب من يحكه ، فإذا حكه من غير جرب أو حاجة من يبوسة تطرأ على بعض بدنه تألم لحكه .عناية ربي أدركت كل كائن * من الناس في ختم القلوب وفي الطبعومن أجل ذا لم يدخل الكبر قلبهم * على موجد الصنع الذي جل من صنعولولا وجود السمع في الناس ما اهتدوا * وليس سوى علم الشريعة والوضعفكم بين أهل النقل والعقل يا فتى * وهل تبلغ الألباب منزلة السمع




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
تعالى: ( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) ،وقال هنا« خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »أي الذين قالوا( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ )هو منّا ، ثم قال« وَعَلى سَمْعِهِمْ »أي وختم على سمعهم حين قالوا( وَفِي آذانِنا وَقْرٌ )أي هو منّا ، وقال تعالى« وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ »لقولهم : ( وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ )أي هو منّا ثم قالوا: ( فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ )فقال اللّه :« وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ »وهو العمل الذي قالوه وطلبوه ، والختم الذي على السمع هو بينه وبين القلب ، لا بينه وبين الكلام ، فإنه سمع الكلام من الرسول بلا شك ، ولكن لجهله بما سمع أنه حق في نفس الأمر وعدم تصديقه ، كان عنده كمثل الصوت من الإنسان عند البهائم التي لا تعقل معناه ، وهو قوله تعالى : ( كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً ، صُمٌّ ، بُكْمٌ ، عُمْيٌ ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ )أن ذلك المصوّت به حق فيما يدعو إليه ، وكذلك قوله« وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ »وما جعله ختما ، أي حائل بينه وبين القلب أن يعلم القلب أن ذلك المبصر من المعجزات الموقوفة على إدراك البصر أنها حق ، مثل نبع الماء من بين أصابعه ، ورؤية الطعام القليل حين أشبع الكثير ، فإن العلم به لا يحصل إلا من جهة
ص 63

سورة البقرة ( 2 ) : آية 8
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ( 8 )
[ حول الناس ]
لم سمى اللّه تعالى البشر الناس ؟
- من باب الإشارة - الناس اسم فاعل من النسيان معرّف بالألف واللام لأنه نسي أن الحق سمعه وبصره وجميع قواه في حال كونه كله نورا ، فلما لم يتذكر الناسي هذه الحال وهو في نفسه عليها غافل عنها ، خاطبه الحق مذكرا له بهذا القرآن الذي تعبده بتلاوته ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ما كانوا قد نسوه .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
البصر فعاين ، فلو كان الغشاء بينه وبين المبصر ما صدق هذا القول ، فكان الغشاء بلا شك على البصر من جهة القلب ، فلا يبصر البصر القلب الذي يقبل ما جاء به ، بل جعله القلب من قبيل السحر والخيال ، فتعظيم العذاب هو العذاب من وجهين فصاعدا ، فلهم عذاب الجهل وعذاب التكذيب .
قال تعالى( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ )فإنها أدركت بلا شك ( وإنما تعمى القلوب ) أعين البصائر وهو النظر في مقدمات الأدلة وترتيبها( الَّتِي فِي الصُّدُورِ )قد يكون من الرجوع عن الحق قال تعالى( يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ )لهم قوله : ( 9 )« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »الناس : اسم جنس لا واحد له من لفظه ، كقوم ومعشر ورهط ، وقد قيل في تصغيره نويس ، فلا أصل له في الهمز ، وقد تكلموا في اشتقاقه وقالوا إنه من النوس وهو الصوت ، وهذا كله لا فائدة فيه ، إذ قد علمنا لفظة الناس على من ينطلق ، فأقول :
وإن كان سبب نزولها قوم مخصوصون ، فلا حاجة لذكرهم بما بيّن اللّه من صفتهم ، فكل من قامت به تلك الصفة فهو المراد بالآية إلى يوم القيامة قال تعالى :« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ »فلم يخبر تعالى أنهم قالوا : لا إله إلا اللّه ، ولا أنهم قالوا : اليوم الآخر حق ، وإنما أخبر عنهم أنهم قالوا« آمَنَّا بِاللَّهِ »فالمفهوم الأول التصديق بوجود اللّه ووجود اليوم الآخر ، فيتصور أن يكون هنا طائفتان ، ثم أخبر تعالى بنفي الإيمان عنهم فيما ادعوه ، قولا واعتقادا ، فقال« وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »بوجود اللّه ، فيكون الإخبار عن المعطلة ، وهم على قسمين : معطلة من حيث الأصل ، ومعطلة بعد وجود ، فقوله« وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »أي بمصدقين اعتقادا ، ولا ذكر أنهم تلفظوا به ، فتحقق نفي الإيمان عن قلوبهم ، وبقي الاحتمال في هل تلفظوا أم لا ؟ واليوم الآخر ، وأما الطائفة الأخرى ، فقد يكونون مؤمنين باللّه من حيث وجوده وإن كانوا مشركين ، ولا يؤمنون باليوم الآخر ولو كانوا موحدين من حيث الدليل ، فيكون الحق قد نفى بقوله تعالى :« وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »يعني بما جئت به من الغيب عنا وباليوم الآخر ، والأظهر أنه أراد المثبتين وجوده
ص 64

سورة البقرة ( 2 ) : آية 9
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ( 9 )
« يُخادِعُونَ اللَّهَ »بجهلهم القائم بهم بأن اللّه لا يعلم« وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ »في خداعهم الذين آمنوا ، فإن من خادع المؤمن فما خدع إلا نفسه ، وأما من يخادع اللّه فهو جاهل باللّه حيث تخيل أنه يلبّس على الحق وأن اللّه لا يعلم كثيرا مما يعملون ، فهو من الخاسرين فإن اللّه هو خادعهم بخداعهم ، أي هو خداع اللّه بهم لكونهم اعتقدوا أنهم يخادعون اللّه ، فما يشعرون اليوم بأن اللّه يرد عليهم أعمالهم .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
سبحانه سواء وحدوا أو أشركوا بقوله فيهم ( 10 )
« يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا »وهذا وأيضا قوله« وَالَّذِينَ آمَنُوا »يقوي ما ذهبنا إليه في تفسير نفي الإيمان أنه الإيمان بوجود اللّه ، فيكون« يُخادِعُونَ اللَّهَ »على دعواكم أن ثم إلها« وَالَّذِينَ آمَنُوا »يخادعون حقيقة فإنهم موجودون ، ولا يبعد جميع ما ذكرناه ، فإن هؤلاء الأصناف كلهم موجودون ، وقد دخلوا فيمن بعث إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فإن رسالته عامة ، فينسحب الخطاب عليهم ، والخداع مأخوذ من المخدع ، فدخلوا فيه ليعصموا دماءهم وأموالهم لما رأوا دين اللّه ظاهرا ، فدل بقوله« يُخادِعُونَ اللَّهَ »على جهلهم باللّه ، وصورة الجهل ، إن كان يعلم ما تلفظوا به من كلمتي الشهادة فهو يعلم ما في نفوسهم من عدم التصديق بها ، وإن كان لا يعلم عدم تصديقهم فلا يعلم أيضا أنهم تلفظوا بالشهادة ، والأظهر أن مخادعتهم للّه على زعمكم أن ثم إلها ، فيبقى الخداع على الحقيقة للذين آمنوا ، الذين يخافون منهم أن يقتلوهم ، ولذلك قال« وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ »أي أمثالهم .
مثل قوله( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ )ومثل قوله( كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ )يريد أمثالكم ، ويحتمل أن يريد بقوله« إِلَّا أَنْفُسَهُمْ »أن يكون الخداع راجعا عليهم ، قال اللّه تعالى( يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ) ،أي خداعهم هو خداع اللّه بهم ، يؤيد ذلك قوله« وَما يَشْعُرُونَ »أي لا يتفطنون لذلك أنه من خداعنا بهم ، وأما قوله« يُخادِعُونَ اللَّهَ »ببنية المفاعلة لأن المخادعة فعل فاعلين ، وذلك أن من شرط الخداع أن لا يعلم به المخدوع ، واللّه بكل شيء عليم .
فقال تعالى( وَهُوَ خادِعُهُمْ )اسم فاعل من خدع ولم يقل مخادعهم ، فإنه يخدعهم حقيقة ، وهم لا يقدرون أن يخدعوه ، فلم تختلف القراءة في الأول واختلف في الثاني وهو قوله« وَما يَخْدَعُونَ »و« يُخادِعُونَ »فإن المفاعلة تصح منهم في جنسهم ، لكن العالم قد يصح أن ينخدع ، فهو منخدع ، بمعنى أن يظهر لهم أنه مخدوع ،
ص 65

سورة البقرة ( 2 ) : آية 10
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )
« فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ »شك مما جاءهم به رسولي ، وهذا المرض هو الشبه المضلة القادحة في الأدلة وفي الإيمان ، تحول بين العقل من العاقل وبين صحة الإيمان« فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً »شكا وحجابا« وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ »يوم القيامة ، وسمي ما يتألم به أهل الشقاء عذابا لأن السعداء يستعذبون آلام أهل الشقاء ، إيثارا لجناب الحق حيث أشركوا ، فلهم في أسباب الآلام نعيم ، فسمى الحق ذلك عذابا إيثارا لهم حين آثروه ، وقوله تعالى« أَلِيمٌ »اعلم أن قيام الألم ووجوده في نفس المتألم ، ما هو السبب المربوط به عادة ، كوجود الضرب بالسوط ، والحرق بالنار ، والجرح بالحديد ، وما أشبه ذلك من الآثار الحسية مما يكون عنها الآلام الحسية ، وكذلك ضياع المال ، والمصيبة في الأهل والولد ، والتوعد بالوعيد ، وجميع الأسباب الخارجة عنه الموجبة للآلام النفسية عادة ، إذا حصلت بهذا الشخص فتسمى هذه الأسباب عذابا ، وليس في الحقيقة عذابا ، وإنما العذاب هو وجود الألم عند هذه الأسباب ، لا عين الأسباب .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بعدم المؤاخذة في الحال ، فيتوهمون لحلمه أنهم خدوعه ، قوله ( 11 )« فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ »يقول في قلوبهم مرض الجهل باللّه ، فزادهم اللّه مرضا بإنزاله سور القرآن ، قال تعالى( فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ )كما قال في المؤمنين( زادَهُمْ هُدىً )و ( زادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) وهؤلاء بذلك يتألمون ، والألم هو المرض عينه ، وهو أيضا قوله تعالى( وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ )
وما قال : باللّه ، أي انقبضت لما وجدت من ألم نسبة الوحدة للّه في الألوهية ، ومما يدل على جهلهم بالتوحيد ، قوله( أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ )فبعث الرسل للكفار زادهم مرضا ، لخطاب الوقت ، فزادهم ألما« وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ »أي موجع ، والألم هو العذاب نفسه ، وقد يطلق العذاب على سبب الألم ، كما أن النعيم إنما هو اللذة نفسها ، وقد يطلق على سببها المعهود ، وقوله تعالى« بِما كانُوا يَكْذِبُونَ »هذه باء السبب ، أي بسبب تكذيبهم ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلم من الخبر عنا ، فإن التكذيب متعلقه الخبر ، فهذا عذاب مخصوص من أجل صفة مخصوصة ، وما قال : ولهم عذاب أليم بمرضهم الأول والمزاد ، وجاء بلفظة العذاب ولم يكتف به حتى قال« أَلِيمٌ »وذلك
ص 66



سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 11 إلى 12
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( 11 ) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ ( 12 )
الشعور علم إجمالي قطعي أن ثم مشعورا به لكن لا يعلم ما هو ذلك المشعور به .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 13
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ ( 13 )
السفيه : هو الضعيف الرأي ، يقولون إنهم ما آمنوا الا لضعف رأيهم وعقلهم فجاز


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لأن العذاب فيه ضرب من اللذة ، ومنه في صفة الماء( عَذْبٌ فُراتٌ ) *ولما كان في إيلام الكفار باللّه ورسوله سرور المؤمنين قال( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ )( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ )سماه عذابا للعذوبة التي تحصل منه للمؤمن .
ومن قرأ « يكذبون » مخففا من الكذب في قوله( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ )فهي زيادة مرض آخر ، والمرض الأول اعتقادهم التكذيب بقلوبهم ، فزادهم اللّه مرضا آخر نكرة ، وهو أن نطّقهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، ولكل جنس من المرضين عذاب مخصوص ، فلذلك وردت القراءتان معا ، أي أنهم مجازون على التكذيب بالنار التي تطلع على الأفئدة ، وعلى الكذب بالنار التي تتسلط على الجوارح .
قوله ( 12 )« وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ »الضمير في لهم يعود على الذين كفروا خاصة« قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ »في زعمهم ، قال تعالى( أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً )وقال تعالى :( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) *الذي هو قول اللّه« لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ »فلما كانوا على عمل هو فساد عند اللّه تعالى ، وصلاح في نظرهم ، اعتقدوا أن ما خالف عملهم من الأعمال المقابلة لها وترك أعمالهم هو الفساد ، فاعتقدوا أن المؤمنين على فساد لمخالفتهم ما هم عليه ، فقال تعالى في مقابلة هذا الاعتقاد وإن لم يجر له لفظ : ( 13 )« أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ »دل عليه المعنى« وَلكِنْ »استدراك« لا يَشْعُرُونَ »أي لا يفطنون لذلك ، فلم يكونوا معاندين ولا جاحدين ، بل هم جاهلون ، قوله ( 14 )« وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا . . . »الآية ، الضمير أيضا يعود على الذين كفروا

ص 67


ذلك عليهم لقول اللّه« أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ »أي الذين ضعفت آراؤهم ، فحال ذلك الضعف بينهم وبين الإيمان« وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ » .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 14
(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ 14 )
كان المنافقون في زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يأتون إلى المؤمنين بوجه يظهرون أنهم معهم ، ويأتون إلى المشركين بوجه يظهرون به أنهم معهم ، ويقولون« إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »وما أخذ اللّه المنافقين إلا بما زادوا به على صورة النفاق ، ولو أنهم بقوا على صورة النفاق من غير زيادة لسعدوا يقول تعالى :« وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا »لو قالوا ذلك حقيقة لسعدوا ،« وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ »لو قالوا ذلك وسكتوا ما أثر فيهم الذم الواقع ، وإنما زادوا« إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »فشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كاذبين ، فما أخذوا إلا بما أقروا به ، يدلنا على ذلك ما أخبر اللّه به عن نفسه في مؤاخذته إياهم فقال :


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
خاصة ، فإن الآخرين قالوا( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ )وإن كانوا كاذبين في مقالتهم تلك« كَما آمَنَ النَّاسُ »يعني المؤمنين« قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ »السفه عدم الرشد ، والتصرف على ما لا تقتضيه الحكمة ، وضعف الرأي .
قال اللّه لهم مخبرا لنا« أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ » .يقول :
هم الضعفاء الرأي لا أنتم ، فعاد ما نسبوه للمؤمنين إليهم ، قال عليه السلام ( إنما هي أعمالكم ترد عليكم ) وجاء في الصحيح ( من قال لأخيه : كافر فقد باء به أحدهما ) أي بوصف الكفر ، إن كان كما قال فصح الوصف ، وإن لم يكن كما قال جاز ذلك على القائل لأنه من قال إن الإسلام كفر فقد كفر ، والسعيد من استبرأ لدينه ولا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ، والعلم واسع والوجوه كثيرة ، ثم قال« وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ »أنهم هم السفهاء ، فإن السفه عندهم ترك ما هم عليه ومخالفته .
قوله ( 15 )« وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا »إلى قوله« يَعْمَهُونَ » .الضمير في لقوا يعود على الناس الذين قالوا آمنا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ، كانوا ويكونون إلى يوم القيامة من هذه صفتهم« إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا »أي صدقنا بالذي صدقتم به ليعصموا دماءهم وأموالهم( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً )فهؤلاء سجدوا كرها ، وآمنوا

ص 68


سورة البقرة ( 2 ) : آية 15
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 15 )
فأخبر اللّه تعالى أنه يستهزئ بهم بذلك الفعل الذي يفعلونه مع المؤمنين ، وهم لا يشعرون ، فهذا من مكر اللّه بهم ، فما أخذهم بقولهم« إِنَّا مَعَكُمْ »وإنما أخذهم بما زادوا به على النفاق وهو قولهم :« إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »وما عرفك اللّه بالجزاء الذي جازى به المنافق إلا لتعلم من أين أخذ من أخذ ، حتى تكون أنت تجتنب موارد الهلاك« وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ »حيث تمادوا على غيهم بعد ما عرفوا من بيده الاقتدار ، وعدلوا عنه ، وعملوا


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
كرها ، لظهور أهل الإيمان بالسيف عليهم« وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ »إلى هنا بمعنى مع ، يقول : وإذا خلوا مع شياطينهم من الإنس الباقين على كفرهم ، أو خلا بعضهم مع بعض يقولون ذلك ، فإنهم كلهم شياطين قال تعالى( شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً )وهو قدحهم في أهل الإيمان من حيث إيمانهم ، وتزيين ما هم عليه من الباطل ، قال تعالى في اليهود والنصارى( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ )أي ينصر بعضهم بعضا« قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ »أي على الذي أنتم عليه ، ما غيّرنا ولا بدلنا« إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »بهم وتقيّة لما ينجر في ذلك إلينا من المصالح في أنفسنا وأموالنا وذرارينا ، يقولون : نسخر بهم ، فقال اللّه تعالى ( 16 )
« اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ »أي يسخر بهم ، وذلك على وجهين : الوجه الواحد أن استهزاءهم بالمؤمنين هو عين استهزاء اللّه تعالى بهم من حيث لا يشعرون ، ومنه( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ )أن عين ما اعتقدوه أنه مكرهم هو مكري بهم ، ومن هذا الباب( إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ )وقوله تعالى( يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ) ،والوجه الآخر ينقسم إلى وجهين : وجه يقتضيه العدل فيكون جزاء ، ووجه يقتضيه الاستهزاء ، جزاء أيضا في عمل واحد ، وذلك أنه إذا كان يوم القيامة وهو قوله تعالى( كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )فخلصه للاستقبال ، وهو يوم القيامة ، يحشر اللّه هذه الأمة وفيها منافقوها ، فإذا اتبعت كل أمة ما كانت تعبد ، ودخلت الأمم النار ، ونصب الصراط على جسر جهنم ، أتي بهؤلاء المنافقين الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وصلوا وصاموا وقاموا بفروع الشريعة في الصورة الظاهرة كما قام المؤمنون ، أتى بهم اللّه تعالى حتى [ انفهقت ] « * » لهم الجنة بما تحويه من الخير والسرور ، فتنعموا برؤيتها


( * ) [ . . . ] جاءت في الأصل وفي الفتوحات المكية في الباب الأخير ، باب الوصايا ، الوصية رقم 58 ( انفقهت ) والصواب ( انفهقت ) .

ص 69


لغيره مما نصبوه بأيديهم وأيدي من هو من جنسهم إلها ، وظهر لهم عجزه مما يزيد في شقاوتهم.
[ تنبيه في الذكر ]
-نبيه : إذا ذكرت فاعلم بلسان من تذكر ، وإذا تلوت فاعلم بلسان من تتلو ، وما تتلو ، وعمن تترجم .
مثال ذلك قوله تعالى :« وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا »إلى هنا قول اللّه« آمَنَّا »حكاية عن المنافقين« وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا »إلى هنا قول اللّه« إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »حكاية فهكذا فلتعرف الأمور إذا وردت ، حتى يعلم قول اللّه من قول ما يحكيه لفظا أو معنى كل إنسان بما هو عليه ، فإن اللّه قد ترجم لنا قول أقوام مثل فرعون وغيره باللسان العربي والمعنى واحد ، فهذه الحكاية على المعنى .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وظنوا أنهم داخلوها ، فكانت تلك النظرة والفرح الذي قام لهم بالطمع بدخلوها جزاء لما جاءوا به من الأعمال الظاهرة ، ظاهرا بظاهر ، عدلا منه سبحانه ، فإذا طابق الجزاء أعمالهم وأخذوا حقهم ، وهم لا يعلمون أنهم يصرفون عنها .
ضرب اللّه بينهم وبين الجنة سورا باطنه الجنة ، وظاهره من قبله العذاب ، فيؤمر بهم إلى النار ، فهذا هو استهزاء اللّه بهم وسخرية اللّه بهم ، فجمع سبحانه في هذا الفعل الواحد بين العدل والاستهزاء ، كما جمعوا بين الإسلام والكفر ، وليس للمنافقين من النار إلا الدرك الأسفل ، وهي النار التي تطلع على الأفئدة ، قال تعالى( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ )وليس لهم في أعلاها مكان إلا على قدر معاصيهم الظاهرة .
والكافر يتعذب في النار علوا وسفلا ، بخلاف المنافق ، وكلهم في جهنم جميعا ، وهذا من عدل اللّه ، فإنه ليس في الجنة موضع ولا في النار موضع إلا وله عمل يطلبه من فعل وترك ، إلا ما في الجنة من أمكنة الاختصاص ، وليس في النار ذلك ، ولهذا ما ورد في القرآن يختص بنقمته من يشاء ، وورد يختص برحمته من يشاء ، فالنار ينزل فيها بالأعمال ، والجنة ينزل فيها بالأعمال والاختصاص الإلهي .
ولذا قال ( سبقت رحمتي غضبي ) إلى الاختصاص ، واللّه واسع الرحمة كما قال ، ولم يقل ذلك في النقمة ، فتحقق ما ذكرناه ، ثم قال« وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ »يقول : يملي لهم مما هم فيه .
قال تعالى( إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً )( وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ )وقوله« فِي طُغْيانِهِمْ »أي في تغاليهم ، أي فيما ارتفعوا فيه من الضلالة في بواطنهم إذا كانوا مع المؤمنين ، وفي ظواهرهم إذا كانوا مع أشكالهم من شياطينهم ، من طغى الماء إذا ارتفع وزاد على حده( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ )أي ارتفع ، وقوله تعالى« يَعْمَهُونَ »أي يحارون ، والعمة الحيرة والضلال ،

ص 70

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "16 - 29" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 20, 2019 12:20 pm

تفسير آلآيات من "16 - 29" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 16
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ( 16 )
« أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى » :أي باعوا الهدى بالضلالة ، واشتروا الحيرة بالبيان فخسروا .« فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ »المؤمن ممدوح في القرآن بالتجارة والبيع فيما يملك بيعه ، قال تعالى : ( لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ )وقال تعالى : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )وقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ )وما صرح اللّه في المؤمن بأنه يشتري خاصة ، وما وصف الشراء في القرآن إلا من أشهدهم اللّه عن جناية.
فقال :« أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى »والسبب في أن المؤمن ما وصفه اللّه بالشراء فإنه خلقه اللّه ، وملكه جميع ما خلق اللّه في أرضه الذي هو مسكنه ومحله( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً )فجميع ما في الأرض ملكه فما بقي له ما يشتريه ، وحجر عليه الضلالة وهي صفة عدمية ، فإنها عين الباطل وهو عدم ، ولم يأمرنا اللّه باتباعه فإذا اشترينا الضلالة فقد اخترنا العدم على الوجود ، والباطل على الحق الذي خلقنا له ، فلم يوصف المؤمن بالشراء ، وشرع له البيع فيما أبيح له بيعه ، ومما ملكه اللّه ما هو مباح له ، وما هو واجب عليه أن لا يخرجه ولا يبيعه ، فكأن المؤمن ملك حلة الإباحة ، وحلة الوجوب ، فخلع عن نفسه حلة الإباحة ، ولبس حلة الوجوب ، وكلاهما له ، فسمى خلعه لها بيعا ، وما سمى لباسه للوجوب شراء ، فإنها ملكه ورحله ومتاعه والإنسان لا يشتري ما يملكه ، ولما حجر اللّه الضلالة على خلقه ورجح من


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
قوله ( 17 )« أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ »الآية ، أولاء حرف إشارة ، أشار بها إلى كل من تقدم ذكره من منافق وكافر ، وأما إخبار اللّه تعالى عنهم أنهم« اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى »دل على أنه كان عندهم هدى باعوه بهذه الضلالة ، وأن الذين اشتروا منهم الهدى كان عندهم ضلالة ، فالترجمة عن ذلك ، كل مولود يولد على الفطرة ، وأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، والفطرة التي فطر الناس عليها هي الإقرار منهم للّه بالربوبية عليهم في قوله تعالى( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى )فهذا هو الهدى ،
ص 71

رجح منهم الضلالة على الهدى اشتروا« الضَّلالَةَ »فإنهم لم يكونوا يملكونها« بِالْهُدى »الذي ملكهم اللّه إياه« فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ »في ذلك الشراء لأن اللّه ما شرع لعباده الشراء فاعتبر الحق جانب البيع ولم يعتبر في حق المؤمن جانب الابتياع .

سورة البقرة ( 2):  آية 17 
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ( 17 )
ذهب اللّه بنوره أي أزاله عن أبصارهم أي أن اللّه أعدم النور من أبصارهم ، وتركهم


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
كان بأيديهم ، وما من هدى إلا وفي مقابلته ضلالة ، وهو تركه ، فجاء المؤمنون الذين بقوا على هداهم ، أو رجعوا إلى هداهم بإجابتهم دعوة الحق بلسان الرسول صلّى اللّه عليه وسلم حين دعاهم ، وجاء الذين لم يجيبوا داعي اللّه ، فأخذ المؤمنون هداهم وعوضهم عن ذلك الضلال الذي في مقابلة هداهم لو لم يهتدوا ، فضلّ هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بما عوّضوا به زيادة على ضلالتهم ، قال تعالى( فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ )يعني هذه الصفقة ، وهي السورة المنزلة ، وازداد المؤمنون هدى إلى هداهم ، قال تعالى( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا )يعني بهداهم الذي كان لهم( زادَهُمْ هُدىً )وهو الهدى الذي باعه الكفار منهم ، فكان للمؤمنين نور على نور ، وكان للكافرين ظلمات بعضها فوق بعض ، فهم في ظلمات لا يبصرون ، والمؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم ، فقال تعالى في صفة الكفار« فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ »أي خسروا في متجرهم لكونهم سفهاء ، وهو تأكيد لقوله تعالى( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ )وأي صفة أعظم من سفه تاجر لا يدري كيف يحفظ رأس ماله ، الذي هو الدين هنا ، قال تعالى( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ )قيل وما هي ؟
قال: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) فأبوا واختاروا العمى على الهدى ، واشتروا الكفر بالإيمان من المؤمنين ، ليزداد المؤمنون إيمانا مع إيمانهم ، قال تعالى( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ )( يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ) ،فقوله« وَما كانُوا مُهْتَدِينَ »هنا ، أي ما رشدوا ولا اتخذوا سبيل الرشد سبيلا ، ثم إن اللّه تعالى ضرب لنا فيهم إذا لقوا المؤمنين مثلا ، وضرب لنا مثلا آخر فيهم وفيما أنزل من القرآن ، فقال تعالى ( 18 )« مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ »هذا هو المثل الأول ، قوله« مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ »أي صفتهم كصفة« الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً »ومنه( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ )أي صفة
ص 72

في ظلمات لا يبصرون . فأصحاب الشهوات في هذه الظلمات تائهون ، كما أن أصحاب الحضور التام في الأنوار ينعمون .


سورة البقرة ( 2 ) : آية 18
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 18 )
وصف الحق هؤلاء الناس بذلك الوصف فهم صم وإن كانوا يسمعون ، بكم وإن كانوا يتكلمون ، عمي وإن كانوا يبصرون ، صم عن سماع ما ذكرهم اللّه به ، بكم عن الكلام بالحق ، عمي عن النظر في آيات اللّه ، فهم صم فلم يسمعوا فلم يرجعوا ، فإنهم لم يعقلوا ما سمعته آذانهم ، وما سمع من سمع منهم إلا دعاء ونداء ، وهو قوله : يا فلان وما سمع أكثر من ذلك« فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ »لما سمعوا ، ولا يرجعون في الاعتبار إلى ما أبصروا ، ولا في الكلام إلى الميزان الذي به خوطبوا ، فلا يرجعون عندما يبصرون ، ولا يعقلون عندما يسمعون ، ولا يصيبون عندما يتكلمون .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الجنة ، ومنه( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى )أي الوصف ، فقال : مثلهم إذا لقوا المؤمنين - قد يمكن أن يكون اللقاء هنا منهم عن قصد - ليؤكدوا عندهم إيمانهم ، فإن المؤمن الحقيقي يدل بإيمانه ، والذي في قلبه خلاف ما تلفظ به يتخيل أنه يطّلع على ما في باطنه ، فتراه أبدا يحرص على إظهار الإيمان ابتداء من غير استدعاء ، ليؤكد عند السامع أنه بتلك الصفة ، وإن كان من لقيك فقد لقيته ، ولكن ما قال : إذا لقيهم المؤمنون ، ويؤكد ما ذهبنا إليه ما ذكره في التشبيه في قوله« كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً »وما قال : كمثل الذي وجد نارا ، والوقود من الواقد لا يكون إلا بقصد ، فلهذا رجحنا أن اللقاء كان عن قصد لما ذكرناه ، فقال تعالى : مثلهم إذا لقوا المؤمنين كمثل من استوقد نارا ، أي أوقد ، أو طلب وقود نار ، وهو ما يشرعون فيه مع المؤمنين إذا لقوهم من قولهم( آمَنَّا )فما داموا مجتمعين على ذكر الإيمان وفضائله ، هو قوله« أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ »في التشبيه وقال : ما حوله ولم يقل فيه ، لأنه ما عنده من الإيمان إلا ذكره ، ليس فيه منه شيء ، ولذلك عصم ظاهره ، فإنه حوله ، ولم يعصم باطنه ، فإنه ليس فيه إيمان ، ثم شبه انصراف المؤمنين عنهم فينصرف نور ذكر الإيمان لانصرافهم بقوله« ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ »ثم شبه رجوعهم إلى أنفسهم وشياطينهم من أمثالهم بقوله« وَتَرَكَهُمْ »يعني المنافقين بانصراف النور عنهم« فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ »يقول في طغيانهم لا يهتدون ، لأنه من لا يبصر لا يهتدي ، ولا يعلم ما حدث له في طريقة ، ثم قال ( 19 )« صُمٌّ »عن سماع داعي الحق« بُكْمٌ »لا يتكلمون في حق« عُمْيٌ »
ص 73

سورة البقرة ( 2 ) : آية 19
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ( 19 )
الصواعق هواء محترق ، والبروق هواء مشتعل تحدثه الحركة الشديدة ، والرعود هو هبوب الهواء تصدع أسفل السحاب إذا تراكم« وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ »وهي إحاطة عامة ، فهي الأخذ الكلي من غير تقييد بجهة خاصة ، لكن هو أخذ بتقييد صفة وهو الكفر .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لا ينظرون في الأشياء نظر اعتبار ، كما قال( وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )وقال تعالى( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ) ،ثم قال« فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ »إلى طريق الهدى ، لأن اللّه ختم على قلوبهم وسمعهم وعلى أبصارهم ، قوله ( 20 )« أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ »أتى بأو للتشكيك اتساعا ، فعدلوا بها عن الشك ، والأولى أن لا يعلل كلام العرب مثل هذا ، بل يقال :
ترد في اللسان للشك ، وترد للتخيير ، وكلاهما لغة ، تقول جالس فلانا أو فلانا ، فمعناه انظر في هذا المثل إن شئت ، أو في هذا المثل إن شئت ، أو فيهما ، فالمشبّه الكتاب المذكور في أول السورة الذي أنزل إليه صلّى اللّه عليه وسلم ، والمشبّه به الصيّب ، الذي هو المطر المنحدر من السماء ، وهو السحاب هنا ، نزل به الروح الأمين على قلب محمد ، وشبّه القرآن في حياة القلوب به للمؤمنين بالمطر الذي به حياة الأرض ، ثم قال« فِيهِ »يعود الضمير على السماء وهو السحاب« ظُلُماتٍ »شبه بها ما يحوي عليه القرآن من الأخبار التي أخبر الحق بها عن الكفار من قولهم( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ )و( نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ )و( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) *و( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ )فهذه الأقوال ظلمات القرآن« وَرَعْدٌ »ما فيه من الآيات الزواجر« وَبَرْقٌ »ما فيه من الآيات الدالة على التوحيد والتنزيه ، والذي وقع التشبيه بها هنا واللّه أعلم في البرق إنما هي آيات مكارم الأخلاق وصنائع المعروف التي هي محبوبة لكل نفس ، ولذا قال تعالى( كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ )والكافر لا تضيء له آية التوحيد حتى يمشي فيها ، وإنما ذلك آيات الوعد والرغبة ومكارم الأخلاق ، وقوله« يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ »من أجل سماع الآيات الزواجر ، جمع صاعقة أي سماع هذه الآيات يجعلهم يصعقون ويخافون الصعق لئلا يكون فيه موتهم ، أي تنصدع قلوبهم بما سمعوه ، كما اتفق لبعض زعماء المشركين وذلك أنه لما سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلم يتلو ( فإن أعرضوا فقد أنذرتكم
ص 74

سورة البقرة ( 2 ) : آية 20
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 )
« وَلَوْ شاءَ اللَّهُ »من نسبة الأفعال إلى اللّه لا يجب عليه فعلها ولا تركها ، ولهذا جعل المشيئة في ذلك وعلقها بلو فامتنع عن نفوذ الاقتدار ، وهذا موضع إبهام لا يفتح أبدا ، فوصف الحق نفسه بما يقوم الدليل العقلي على تنزيهه عن ذلك ، فما يقبله إلا بطريق الإيمان والتسليم ، فإنه سبحانه قيد مشيئته وإرادته بلو ، وهو حرف امتناع فيه سر خفي لأهل العلم باللّه ، فإذا علمت هذا أقمت عذر العالم عند اللّه ، فالكل بيده وإليه يرجع الأمر كله« إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »بالإيجاد .[ سورة البقرة ( 2 ) : آية 21 ]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 21 )صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ )ضرط وتخبط في عقله ، وقال : إن هذا كلام جبار ، ثم قال« وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ »بالأخذ ، من أحاط بهم العدو ، فلا يجدون مفلتا ولا منقذا ، قال تعالى( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ )( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ )فالمثل الأول في المنافقين ، وهذا المثل الآخر في الجميع ، وفي نزول القرآن وما يحويه ، ثم قال ( 21 )« يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ »يقول : يكاد ما يسمعونه من آيات الوعد والتحضيض على مكارم الأخلاق« يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ »عن العمى ، ويردهم إلى الحق مما يفرحون بسماعه ، ثم قال« وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا »يقول :
وإذا سمعوا الآيات التي حكاها الحق عنهم رجعوا إليها وقاموا على دينهم وكفرهم ، أي ثبتوا« وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ »عن الباطل ، وعن رؤية الظلمات إلى الحق وإلى النور ، كأنه يقول : ولو شاء اللّه لهداهم ،« إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »أي على كل مقدور ، أن يوجده إن كان معدوما ، أو يعدمه إن كان موجودا ، قال تعالى( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ) *إعدام الموجود( وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) *إيجاد المعدوم( وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) *بممتنع ، قوله ( 22 )« يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا


ص 78

" يا أَيُّهَا" إذا أيه اللّه بأحد في كتابه فكن أنت ذلك المؤيه به ، فإن أخبر فافهم واعتبر ، فإنه ما أيه بك إلا لما سمعت ، وإن أمرك أو نهاك فامتثل ، وما ثم قسم رابع ، إنما هو خبر أو أمر أو نهي ، وأنزله تعالى في خطابه إياك منزلة الأم في الشفقة ، فتلقّى منه بالقبول ما يورده عليك ، فإنه ما خاطبك إلا لينفعك ، وكن أنت المخاطب في خطاب الحق بسمعك لا بسمع الحق ، فإنه لا يأمر نفسه ولا ينهاها« يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ »أي الأسباب التي وجدتم عندها« لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »ثم قال لمن يرى أنا وجدنا بالأسباب لا عندها .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »نادى الشاردين من عباده الذين تمادوا في إعراضهم عن توحيد خالقهم ، فإن لفظة « يا » في النداء وضعت للبعد ، وكذلك ( أيا ) و ( هيا ) كما أن الهمزة وأي للقرب ، وأي حرف مبهم ، والهاء للتنبيه ، ولا بد من مفسّر يأتي بعد « يا أيها » فكان الناس هنا ، فقال« يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ »أي تذللوا وأطيعوا مصلحكم ومربيكم ، تعريفا بالنعم« الَّذِي خَلَقَكُمْ »أوجدكم« وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ »وخلق من قبلكم ، فذكر الخلق تنبيها لاعتكافهم على عبادة آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، قال تعالى( أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) ،فلما تمدح بالخلق دل من مضمون الكلام أن لا خالق للأشياء كلها إلا هو ، من أفعال العباد وغيرها ، ولو كانت أفعال العباد خلقا لهم ، لم يكن ذكره للخلق تمدحا خاصا لوقوع الاشتراك ، فتحقق مذهب أهل الحق في أن لا موجد ولا فاعل إلا هو ، وقوله« وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ »أي أنها مخلوقة له أيضا تأكيد لما ذكرناه ، ومن قبلنا كل من تقدمنا في الخلق من مخلوقات اللّه ، من عقول ونفوس وأجسام وجسمانيات ، فإن كثيرا من الناس يضيفون الأفعال بطريق الإيجاد إلى نفوس الأفلاك والعقول ، فبيّن اللّه أن الكل من خلقه ، ثم قال« لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »لعل كلمة ترج وتوقع ، وكذلك عسى ، وهي من الكرماء واجبة ، واللّه أكرم الأكرمين ، والعامل في هذا الترجي عند الجماعة( اعْبُدُوا رَبَّكُمُ )وما بعده ، وفيه بعد لغموضه وما يحتاج إليه من التقدير فيه ، والأظهر عندي أن ضرب الأمثال المتقدمة تطلبه بقرائن الأحوال ، ومدلول المعاني وسياق الكلام ، أي ضربنا لكم هذه الأمثال لعلكم تتقون ، أي تحذرون وتخافون ، فيردكم حذركم إلى الحق ، فيطابق معنى التقوى ، ولا يظهر مثل هذا في قوله( اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ )ولا سيما ويأتي بعد تتقون ما يناسب الأول ، وهو قوله( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً )إلى
ص 79

سورة البقرة ( 2 ) : آية 22
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )
« وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ »أنه أوجد الأسباب ، وأوجدكم عندها لا بها ، فإن اللّه وضع الأسباب وجعلها له كالحجّاب ، فهي توصل إليه تعالى كل من علمها حجّابا ، وهي تصد عنه كل


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
قوله( رِزْقاً لَكُمْ )كلها من باب تقرير النعم التي أنعم بها على عباده ، فكأن« لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »صار مقحما ، وإن لم يسم مثل هذا مقحما ، ولكنه في المعنى كذلك ، وربما لا يعرف إنزال هذه اللفظة في هذا الموضع وفصلها بين المناسبين إلا من يعرف إعجاز القرآن ، وأما حرف الترجي في هذه التقوى مع علمه بما يكون منهم ، فمثل قوله( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ )وهو عالم بما يكون منهم ، وغلّب المخاطب على الغائب في« لَعَلَّكُمْ »لأنه المقصود بالخطاب ، وهو الأوجه من طريق المعنى ، لأن اللّه هو المخاطب ولا يغيب شيء عن اللّه ، فينسحب هذا الخطاب على جميع المخلوقات من مضى ، ومن هو الآن ، ومن يكون ، وبلا شك أن من يكون مخاطب بهذه الآية وهو الآن لم يكن ، ولكن ما جاء فيه بضمير الغائب ، وكذلك من قبلنا ، والكلام قديم ، والسامع محدث ، والمتكلم به كذلك ، قال تعالى( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ )والذي جاءهم إنما هو المتكلم به .
ثم قال ( 23 )« الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً »خص ذكر الفراش على المهاد والقرار والبساط للتوالد الذي يذكره فيما بعد ، من إخراج الثمرات بإنزال الماء من السماء في الأرض ، وذكر السماء بلفظة البناء للابتناء ، فجعله شبيها بالنكاح فقال« الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً »فعلى السماء على الأرض وهي مفترشة قابلة ، فأنزل فيها الماء فاهتزت وتحركت وربت ، حملت شبه حمل المرأة« فَأَخْرَجَ بِهِ »أي بسبب هذا النكاح« مِنَ الثَّمَراتِ »الألف واللام لاستغراق الجنس« رِزْقاً لَكُمْ »ما تغتذون به« فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ »الذي خلق هذه الأشياء كلها« أَنْداداً »آلهة تعبدونها ، مخلوقة تنحتونها بأيديكم ، أو تتخذون الكواكب وغيرها آلهة مع اللّه« وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ »أنهم لا يخلقون شيئا وأن اللّه هو خالقهم وخالق كل شيء ، والند المثل المخالف المناوي ، وهذا لا يتصور إلا فيمن يدّعي الألوهية ، كفرعون وغيره من الجبابرة ، لا في كل من يدّعى فيه الألوهية ، وهو واللّه أعلم من ندّ أي شرد ، فإنه شرد من موطن العبودة التي هي حقيقته إلى الربوبية التي ليس له منها وصف ، ولا له فيها قدم ، فلهذا سمي ندا ، فكأنه يقول لهم : من ندّ وادعى لكم أنه إله ، فلا تجعلوه لي ندا ، أي مثلا ، قال عليه


ص 80

من اتخذها أربابا ، فذكرت الأسباب في إنبائها ، أن اللّه من ورائها ، وأنها غير متصلة بخالقها ، فإن الصنعة لا تعلم صانعها ، ولا منفصلة عن رازقها ، فإنّها تأخذ عنه مضارها ومنافعها ، فالعلاقة بين الأسباب والمسببات لا تنقطع ، فإنها الحافظة لكون هذا سببا ، وهذا مسببا عنه ، فسببية السماء فيما يظهر على الأرض من النبات من توجهها عليها بما تلقيه من الغيث فيها ، وتلقيها ، كذلك كل حركة فلكية ونظر كوكب في العالم العلوي وإمداد الطبيعة ، كل ذلك أسباب لوجود زهرة تظهر على وجه الأرض ، والسبب الحادث قد يعلم أن أثره وحكمه في المسبّب عن أمر إلهي فله فيه إرادة ، فهو سبب عرضي ، وقد لا يعلم أن أثره وحكمه في المسبب عن أمر إلهي فهو سبب ذاتي ، ومن جهة أخرى نقول : إن الغنى باللّه لا يصح عن اللّه ، ولا عن المخلوقين من حيث العموم ، لكنه يصح من حيث تعيين مخلوق ما ، يمكن أن يستغنى عنه بغيره ، فإن اللّه ما وضع الأسباب سدى ، فمنها أسباب ذاتية لا يمكن رفعها هنا ، ومنها أسباب عرضية يمكن رفعها ، فمن المحال رفع التأليف والتركيب عن الجسم ، مع بقاء حكم الجسمية فيه ، فهذا سبب لا يمكن زواله إلا بعدم عين الجسم من الوجود ، وإذا كانت الأسباب الأصلية لا ترتفع فلنقر الأسباب العرضية أدبا مع اللّه ، فإنه ما وضعها إلا وهو يعلم الحكمة في وضعها ، ولا نركن إليها ، ونبقي الخاطر معلقا باللّه ، فلا يرفع الأسباب إلا جاهل بالوضع الإلهي ، ولا يثبت الأسباب إلا عالم كبير أديب في العلم الإلهي ، ومع ذلك يجب أن نعلم أن للّه في كل موجود وجها خاصا وفي كل ما وجد فيه ، وعن ذلك الوجه الخاص وجد ، ولا يعرف السبب قط ذلك الوجه الخاص الذي لمسبّبه المنفعل عنه ، فلا يعلمه إلا اللّه خاصة وهو رقيقة الجود ، وكل خلق أضيف إلى خلق فمجاز وصورة حجابية ، ليعلم العالم من الجاهل ، وفضل الخلق بعضهم على بعض.

[ كيفيته كون الأرض فراشا ]
إشارة لطيفة - إن فهمت معاني القرآن ، وكيف جعل الأرض فراشا ، وكيف خلق آدم منها ، علمت قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : الولد للفراش يريد المرأة ، أي لصاحب الفراش ، كما كان آدم عليه السلام حيث جعله خليفة فيمن خلق فيها ، ليكون أيضا صاحب فراش لأنه على صورة من أوجده ، فأعطاه قوة الفعل ، كما أعطاه قوة الانفعال ، فإن اللّه ما خلق الألفاظ حين عينها بالذكر سدى ، ولولا هذه الحكمة المطلوبة لا كتفي بالمهاد ولم


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
السلام : من الكبائر أن تجعل للّه ندا وهو خلقك ، فمن عجز عن الخلق فليس بإله ، فالخلق أخص


ص 81

يذكر الفراش ، فإن ذلك حرف جاء لمعنى وهو ما قلنا ولا يقتصر ، فجعل سبحانه بين السماء والأرض التحاما معنويا ، وتوجها لما يريد سبحانه أن يوجده في هذه الأرض من المولدات ، من معدن ونبات وحيوان ، فجعل الأرض كالأهل ، والسماء كالبعل ، والسماء تلقي إلى الأرض من الأمر الذي أوحى اللّه فيها ، كما يلقي الرجل الماء بالجماع في المرأة ، وتبرز الأرض عند الإلقاء ما خبأه الحق فيها من التكوينات على طبقاتها .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 23
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ( 23 )

[ إعجاز القرآن ]
انظر في إعجاز القرآن تجده حسن النظم ، مع توفير المعنى وحسن مساقه وجمع المعاني بعضها إلى بعض من اللفظ الحسن النظم الوجيز ، مع وجود تكرار القصة الموجب للملل ، ولا تجد هذا في القرآن ، فتجد مع تكرار القصة الواحدة ، مثل قصص الأمم كآدم وموسى ونوح وغيرهم ، مما تكرر بزيادة لفظ أو نقصه ، ما تجد إخلالا في المعنى جملة واحدة ، وسبب ذلك أنه قول حق ، ما فيه تزوير .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أوصاف الإله الذي تميز به عن عباده ، فليس لمخلوق خلق فعل أصلا ، ثم قال ( 24 )« وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »هذا خطاب لفصحاء العرب خاصة ، الذين يعرفون نظم الكلام العربي وإعجازه ، يقول : إن كنتم في شك من القرآن أنه منزل على محمد عبدنا من عندنا ، عارضوه في سورة مثله ، حتى تعرفوا أنه ليس في مقدور البشر أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، أي معينا من الجن والإنس ، والظاهر في هذه المعجزة أنه ليس من مقدور البشر ، لا أنهم صدوا مع القدرة قبل طلب المعارضة ، وهو الوجه الآخر من الإعجاز ، فترجح الوجه الواحد بقوله« نَزَّلْنا »يؤيد ذلك( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ )فهكذا أنزل عليه بهذه الألفاظ المخصوصة ، فإن لم تقدروا ، كما أنه خارج عن مقدور عبدنا ،« وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ »الذين اتخذتموهم آلهة« مِنْ دُونِ اللَّهِ »يأتونكم بمثل ما نزلنا على عبدنا« إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »أنهم آلهة إذ الإله هو الذي لا يعتاص عليه شيء ، بل


ص 82

سورة البقرة ( 2 ) : آية 24
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ( 24 )
ثبت أنه ما من أحد إلا سيكلمه اللّه ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّم ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار ، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ، والنار تتقى لما يكون من الألم عند تعلقها بنا ، فقوله تعالى« فَاتَّقُوا النَّارَ »أي اجعلوا بينكم وبينها وقاية حتى لا يصل إليكم أذاها يوم القيامة« الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ »المشركون ومنهم من ادعى الألوهية ، فدعاكم إلى عبادة نفسه ، أو عبدتموه وكان في وسعه أن ينهاكم عن ذلك فما نهاكم ، فمثل هؤلاء يكون من حصب جهنم« وَالْحِجارَةُ »المعبودة التي كانوا يصورونها في الكنائس وغيرها ، فالمشركون والحجارة المعبودة جمر جهنم .

سورة البقرة ( 2) :  آية 25
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ ( 25 )
هو على كل شيء قدير ، قوله ( 25 )« فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ »يقول فإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم عن المعارضة ، ولن تفعلوا ولن تأتوا بمثله ، فنفى بلن الإتيان في المستقبل كما انتفى في الحال ، فجاء شبه المقحم ، وفيه فائدة الإخبار بعدم المعارضة في المستقبل ، وتأييد أنه خارج عن مقدور البشر ، فتبيّن صدق الرسول عندكم بعدم المعارضة ، فصح عنادكم إن لم تؤمنوا وترجعوا عن ضلالتكم ، فإن لم تفعلوا« فَاتَّقُوا النَّارَ »أي اتخذوا الإيمان بما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلم وقاية من النار« الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ »الذين كفروا بما أنزل عليه« وَالْحِجارَةُ »الآلهة التي عبدوها من دون اللّه ، نكاية لهم حيث زعموا أنها تشهد لهم أنهم على الحق عند اللّه تعالى.
قالوا( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى )فاتخذوهم شهداء ، ولذا قال( وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ )فدخولها معهم زيادة في عذابهم ، وقوله« أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ »يعني النار ، وقد يحتمل أن يقول : أعدت الحجارة هنا ، أي هي معدة لعذابهم في النار ، ثم قال ( 26 )« وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ »الآية ، يقول : وقل للمؤمنين


ص 83

"وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ »الأعمال الصالحة رأسها الإيمان فهي تابعة له ، فالشرط المصحح لقبول جميع الفرائض فرض الإيمان .
فإن الإيمان والإسلام واجب على كل إنسان ، والأحكام كلها الواجبة واجبة على كل إنسان ، ولكن يتوقف قبول فعلها أو فعلها من الإنسان على وجود الإسلام منه ، فلا يقبل تلبسه بشيء منها إلا بشرط وجود الإسلام عنده ، فإن لم يؤمن أخذ بالوجهين جميعا يوم القيامة« أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ »الجنة وهي دار السعادة ثماني جنات ، وهي : جنة عدن ، وجنة الفردوس ، وجنة النعيم ، وجنة المأوى ، وجنة الخلد ، وجنة السلام ، وجنة المقامة ، والوسيلة ، وهي أعلى جنة في الجنات ، فإنها في كل جنة من جنة عدن إلى آخر جنة ، فلها في كل جنة صورة .
وهي مخصوصة برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وحده ، نالها بدعاء أمته ، حكمة من اللّه حيث نال الناس السعادة ببركة بعثته ودعائه إياهم إلى اللّه ، وتبيينه ما نزل اللّه إلى الناس من أحكامه ، جزاء وفاقا ، وأرض هذه الجنات سطح الفلك المكوكب ، الذي هو سقف النار ، وجعل اللّه في كل جنة مائة درجة ، بعدد الأسماء الحسنى والاسم الأعظم المسكوت عنه لوترية الأسماء ، وهو الاسم الذي يتميز به الحق عن العالم ، هو الناظر إلى درجة الوسيلة خاصة . ومنازل الجنة على عدد آي القرآن ما بلغ إلينا منه نلنا تلك المنزلة بالقراءة ، وما لم يبلغ إلينا نلناه بالاختصاص في جنات الاختصاص ، كما نلنا بالميراث جنات أهل النار الذين هم أهلها ، وأبواب الجنة ثمانية على عدد أعضاء التكليف فلكل عضو باب ، والأعضاء الثمانية : العين والأذن واللسان واليد


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الذين عملوا الصالحات قولا يظهر منه السرور على بشرتهم ، وهو« أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ »يعني الأنهار المعروفة ، فأتى بحرف العهد والتعريف ، قال تعالى( فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى )وسيأتي الكلام عليها في السورة التي تذكر فيها ، ولم يعرّف الجنات لأن الأعمال التي تقتضيها لم تفصل ، فتتعرف جنة كل عمل ، وهذه مسئلة عظيمة جليلة الخطب ، عظيمة الفائدة ، لنا فيها باع متسع ، وقد أهملها الناس لعدم استقصائهم على مراتب الآخرة في دار السعادة والشقاء ، ثم قال« كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً »أي كل وقت ، وما هنا ظرفية« قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ »لشبهه في الصورة ، فإن المثل يشبه المثل ، ولا سيما في الأسماء ، فيقولون : هذا تفاح ورمان وغير ذلك ، فإذا طعموه تبيّن لهم الفرق بين المثلين ، كالصلاة تشبه الصلاة الأخرى في


ص 84

والبطن والفرج والرجل والقلب ، فقد يقوم الإنسان في زمن واحد بأعمال هذه الأعضاء كلها ، فيدخل من أبواب الجنة الثمانية في حال دخوله من كل باب منها ، فإن نشأة الآخرة تشبه البرزخ وباطن الإنسان ، وأما خوخات الجنات فهي تسعة وسبعون خوخة وهي شعب الإيمان ، فلكل شعبة من الإيمان طريق إلى الجنة ، ولأهل الجنات الرؤية متى شاءوا ، والذي تولى بناء الجنات كلها هم الاثنا عشر ملكا ، ملائكة البروج ، إلا جنة عدن فإن اللّه خلقها بيده ، وجعل بأيديهم غراس الجنات ، إلا شجرة طوبى فإن الحق تعالى غرسها بيده في جنة عدن ، وأطالها حتى علت فروعها سور الجنة جنة عدن ، وتدلت مطلة على سائر الجنات كلها ، وليس في أكمامها ثمر إلا الحلي والحلل ، لباس أهل الجنة وزينتهم ،زائدا في الحسن والبهاء على ما تحمل أكمام شجر الجنات من ذلك .
لأن لشجرة طوبى اختصاص فضل بكون اللّه خلقها بيده ، فإن لباس أهل الجنة ما هو نسج ينسج ، وإنما تشقق عن لباسهم ثمر الجنّة كما تشقق الأكمام هنا عن الورد ، وعن شقائق النعمان وما شاكلهما من الأزهار كلها ، هكذا ورد في الحديث الحسن نقلا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم . وأدار بجنة عدن سائر الجنات ، وبين كل جنة وجنة سور يميزها عن صاحبتها ، وسمى كل جنة باسم معناه سار في كل جنة ، وإن اختصت هي بذلك الاسم ، فإن ذلك الاسم الذي اختصت أمكن ما هي عليه من معناه وأفضله« كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً »أي يشبه بعضه بعضا ، فيتخيل أن الثاني عين الأول وليس كذلك بل هو مثله ، والفارق بين المثلين في أشياء يعسر إدراكه بالمشاهدة .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

إقامة نشأتها ، ولكن الذي يجده المصلي في كل صلاة مختلف باختلاف الأحوال ، فكما كانت الأعمال هنا متشابهة الصور ، كذلك ثمراتها متشابهة الصور ، وكل ذائق يعرف الفرق في الآخرة كما عرفه في العمل في الدنيا« وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ »ولم يقل مطهرات لأن تطهير كل زوجة ما هو تطهير الزوجة الأخرى ، كالجنات سواء وما فيها ، فيقول : كل زوجة مطهرة ، ولو لم يكن كذلك لكان الذوق له من كل واحدة على نسبة واحدة ، ولا تكرار فيها أصلا ، بل ولا في العالم للاتساع الإلهي ، بل نعيم مجدد مع تجدد الأنفاس ، وليس اجتماعه بها الأول شبه الثاني« وَهُمْ فِيها »يعني في الجنة« خالِدُونَ »أي لا يخرجون منها ، قال تعالى( وَما هُمْ مِنْها

ص 85
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: الفقرة الثانية تفسير آلآيات من "16 - 30" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 20, 2019 12:22 pm

تفسير آلآيات من "16 - 30" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفقرة الثانية
سورة البقرة ( 2 ) : آية 26  
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ ( 26 )
الحياء : معناه الترك ، ورد في الخبر : أن اللّه حيي ، لكن للحياء موطن خاص ، فإن اللّه قد قال في الموطن الذي لا حكم للحياء فيه :« إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي »أي إن اللّه لا يترك« أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً »فالوجود كله عظيم فلا يترك منه شيء ، لأن الحياء ترك ، فما ثمّ تافه ولا حقير ، فإن الكل شعائر اللّه ، وذلك لقول من ضلّ بهذا المثل من المشركين الذين تكلموا فيه ، فلو وجد الحق عند السامع ما هو أخفى من البعوضة لجاء بها ، كما جاء بذلك مجملا في قوله« فَما فَوْقَها »يعني في الصغر ، يعني أنه لا يترك ضرب المثل بالأدنى والأحقر عند الجاهل ، فإنه ما هو حقير عند اللّه ، وكيف يكون حقيرا من هو عين الدلالة على اللّه ، فيعظم الدليل بعظمة المدلول.
لذلك قال تعالى :« فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا »فالقرآن له وجه نفع في المؤمن فإنه يزيده إيمانا ، وفيه وجه ضرر للكافر لأنه يزيده ، رجسا إلى رجسه ، ولذلك قال تعالى :« يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً »أي بهذا المثل المضروب به في القرآن أي بسببه وهو من القرآن ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بِمُخْرَجِينَ" )( 27 ) إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا »الآية ، الأوجه في قوله« لا يَسْتَحْيِي »نفي الحياء عن اللّه ، فمن قال بالمفهوم من الخطاب ، أو احتج في أن اللّه ذو حياء بحديث ( إن اللّه يستحي من ذي الشيبة ) فالأوجه في التأويل في هذه الآية ، أن يكون قول اللّه جوابا بحكم المطابقة لكلام تقدم من الكفار ، وهو : أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلا بالمحقرات ، كبيت العنكبوت والذباب ؟
وهم طائفة من الكفار لا حرمة للحق عندهم ، أو يقولون : اللّه أعلى وأجل وأعظم حياء أن يضرب مثلا بما يعاب عليه من ذكره هذه المحقرات ، فقال اللّه« إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما »فيكون جوابا بحكم التطابق لكلامهم ، وهل يتصف بالحياء أم لا ؟
مسئلة أخرى ، فإن ورد بذلك نص عنه أجريناه مجرى ما نسب إليه من اليد والعين وغير ذلك ، على


ص 86

ومعلوم أن القرآن مهداة كله ، ولكن بالتأويل في المثل المضروب ضل من ضل ، وبه اهتدى من اهتدى ، فهو من كونه مثلا لم تتغير حقيقته ، وإنما العيب وقع في عين الفهم ، فاحذر من القرآن إلا أن تقرأه فرقانا فإن اللّه« يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً »أي يحيرهم« وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً »أي يرزقهم الفهم فيه بما هو عليه من البيان ، فعلّمك في هذه الآية أن لا تترك شيئا إلا وتنسبه إلى اللّه ولا يمنعك حقارة ذلك الشيء ولا ما تعلق به من الذم عرفا وشرعا في عقدك ، ثم تقف عند الإطلاق ، فلا تطلق ما في العقد على كل شيء ولا في كل حال وقف عندما قاله لك الشارع ، قف عنده فإن ذلك هو الأدب الإلهي الذي جاء به الشرع .
« وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ »فإنهم حاروا فيه ، والضلالة الحيرة ، ورأوا عزة اللّه وجلاله وكبرياءه وحقارة البعوضة في المخلوقات ، فاستعظموا جلال اللّه أن ينزل في ضرب المثل لعباده هذا النزول ، وذلك لجهلهم بالأمور فإنه لا فرق بين أعظم المخلوقات وهو العرش المحيط ، وبين


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الوجهين ، على ما تتأوله الأشاعرة ، أو على ما ذهب إليه السلف من الوقوف عند ذلك من غير تأويل ، قال تعالى« إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما »فأبهمه بقوله « ما » أي بكل ما يجوز أن يضرب به المثل ، لأن القصد من المثل إيصال المعنى إلى المخاطب السامع ، حتى يفهم المراد منه إذا كان لا يصل إلى معرفة المعاني بغامضات الأدلة لبعدها ، فينزل لهم المتكلم في العبارات بضرب الأمثال لذلك ، ولا يتصور أن ينكر ضرب الأمثال بالمحقرات أهل الكتاب ، لأنه في كتبهم من ذلك كثير ، وهم مؤمنون به إلا أن يباهتوا ، وأما ما عدا أهل الكتاب فقد يسوغ منهم ذلك على الطريقين اللذين ذكرناهما ، من التعظيم للّه ، وعدم التعظيم أو التعليل ، ثم قال« بَعُوضَةً فَما فَوْقَها »في الصغر كالذرة .
ثم قال« فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا »يريد أصحاب الكتب ، ونحن وكل من أنزل عليه كتاب وآمنوا بكتبهم« فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ »المثل« الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ »أي حق مطابق للممثل به ، وأن اللّه قاله« وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا »الذي ذكره« مَثَلًا »أي لأي شيء ضرب المثل ، وقد يتصور هذا القول من العالم أنه من الحق ومن غيره .
فيقوله معنى : إنه على زعمكم أنه قاله سبحانه ، فقال تعالى« يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً »يعني بالمثل يقول ليضل به« وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً »ولم يذكر المؤمنين وذكر الفاسقين« وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ »الذين خرجوا عما دخل فيه المؤمنون من الإيمان باللّه مطلقا ، وبرسوله في حق البراهمة ، وبمحمد في حق من كفر به من أهل الكتب ، على الخصوص ، وما جاء به ، والفسوق الخروج عن الشيء ، وفي الشرع الخروج عن


ص 87

الذرة في الخلق ، والبعوضة وإخراجها من العدم إلى الوجود ، فما هي حقيرة إلا في صغر جسمها إذا أضفته إلى ذي الجسم الكبير ، بل الحكمة في البعوضة أتم ، والقدرة أنفذ ، فإن البعوضة على صغرها خلقها اللّه على صورة الفيل على عظمه ، فخلق البعوضة أعظم في الدلالة على قدرة خالقها من الفيل لأهل النظر والاعتبار ، ولهذا لم يصف نفسه بالحياء في ذلك لما فيها من الدلالة على تعظيم الحق ، ثم إن من رحمته تعالى بخلقه أن قال« وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ »الخارجين عن حكم إما العقل السليم أو الشرع المعصوم ، وهم الذين خرجوا عن حدوده ورسومه ، فأعطانا العلامة ، فمن وجد في نفسه تلك العلامة علم أنه من أهل الضلال .


سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 27 إلى 28
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ( 27 ) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 28 )
الوجه الأول : « كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً »وهو الموت الأصلي لا عن حياة متقدمة في الموصوف بالموت ، وهو العدم الذي للممكن إذ كان معلوم العين للّه ولا وجود


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أوامر اللّه ، ثم وصفهم فقال تعالى ( 28 )« الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ »مطلقا ، يريد ميثاق أخذ الذرية بالإقرار ، وأخذ العهد على أهل الكتاب ، وقوله« وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ »من وصل الإيمان بالرسل مع الإيمان باللّه في حق البراهمة ومن قال بقولهم ، وفي حق أهل الكتاب الذين جحدوا نبوة محمد عليه السلام ولم يصلوا إيمانهم به بإيمانهم باللّه ورسلهم« وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ »أن يفعلوا فيها بخلاف أمر اللّه مطلقا« أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ »يقول :

هم الذين ما ربحت تجارتهم ، بل خسروا رأس مالهم ، وبعد أن ذكرنا أصول هذه الآية من الإيمان ، فالمقصود أيضا منها فروع الأحكام ، فكل عهد مشروع بيننا بعضنا في بعض ، وبين الكفار وبيننا مما ألزمنا الحق الوفاء به ، يدخل تحت هذا النقض ، وأنه عهد اللّه الذي شرعه لنا ، وكذلك ما أمرنا اللّه به أن نوصله من الأرحام وأهل ودّ آبائنا ، فيلزمنا إيصاله ، وتلحقنا المذمة من هذه الآية بقطع ذلك« أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ »حيث اشتروا الضلالة بالهدى ، والعذاب بالمغفرة ، والكفر

ص 88


له في نفسه ،« فَأَحْياكُمْ »فأخرجكم إلى الوجود« ثُمَّ يُمِيتُكُمْ »وهو الموت العارض ، الذي يطرأ على الحي فيزيل حياته ، فإن حياة الجسم الظاهرة من آثار حياة الروح كنور الشمس الذي في الأرض من الشمس ، فإذا مضت الشمس تبعها نورها وبقيت الأرض مظلمة ، كذلك الروح إذا رحل عن الجسم إلى عالمه الذي جاء منه تبعته الحياة المنتشرة منه في الجسم الحي ، وبقي الجسم في صورة الجماد في رأي العين ، فيقال مات فلان وتقول الحقيقة رجع إلى أصله( مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى )
كما رجع أيضا الروح إلى أصله ، حتى البعث والنشور يكون من الروح تجل للجسم بطريق العشق ، فتلتئم أجزاؤه ويتركب أعضاؤه بحياة لطيفة جدا تحرك الأعضاء للتأليف ، فإذا استوت البنية وقامت النشأة الترابية تجلى له الروح بالرقيقة الإسرافيلية في الصور المحيط ، فتسري الحياة في أعضائه ، فيقوم شخصا سويا كما كان أول مرة ، وهو قوله تعالى :« ثُمَّ يُحْيِيكُمْ »« ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ »فإما شقي وإما سعيد - الوجه الثاني - لما كان الموت سببا لتفريق المجموع ، وفصل الاتصالات وشتات الشمل سمي التفريق الذي هو بهذه المثابة موتا ، فقال تعالى :« كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ »أي كنتم متفرقين في كل جزء من عالم الطبيعة ، فجمعكم وأحياكم ثم يميتكم أي يردكم متفرقين ، أرواحكم مفارقة لصور أجسامكم التي أخذ عليها الميثاق« ثُمَّ يُحْيِيكُمْ »الحياة الدنيا« ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ »بعد مفارقة الدنيا –

[ صلاة الجنازة على الطفل ]
صلاة الجنازة على الطفل - أطلق اللّه علينا اسم الموت قبل نفخ الروح ، ولذلك يصلى على صورة الجنين ولو كان أصغر من البعوضة بحيث تكون أعضاؤه مصورة حتى يعلم أنه إنسان ، وإن


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

بالإيمان ، والفساد بالصلاح ، والقطيعة بالوصل ، ونقض العهد بالوفاء ، ثم أخذ سبحانه يقرر نعمته عليهم ، فقال ( 29 )« كَيْفَ »حرف استفهام مثل الهمزة بضرب من التوبيخ والتقرير والإنكار عليهم ، بما قررهم عليه من النعم التي يذكرها ، فقال كيف« تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً »بلا حياة« فَأَحْياكُمْ »فخلق فيكم الحياة بخلق الروح الذي هو المقصود من الإنسان« ثُمَّ يُمِيتُكُمْ »أي يقبض أرواحكم اللّه ، لتلقوه فتشرفون بلقائه« ثُمَّ يُحْيِيكُمْ »ثم يرد أرواحكم إلى أجسادها ، ليكون العبد عند ربه بكليته روحا وجسما ، كما كان بالموت روحا دون جسم ، فكان نعمة على نعمة ، فركب أرواحكم في أجسادكم لترجعوا إليه سبحانه ، فقال« ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ »وجعله رجوعا لأنه خرج من عنده روحا عبدا ، فرده إلى تدبير جسده ، فرجع إليه واليا مليكا ،

ص 89


كان قبل نفخ الروح فيه ، فإنه ينطلق بالشرع على تلك الصورة أنها ميتة ، فإذا خرج الجنين بالطرح ، وشاهدناه صورة وإن لم ينفخ فيه روح للصورة الظاهرة ، وتحقق اسم الموت ، فلا مانع للصلاة عليه بوجه من الوجوه ، ولم يقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إنه لا يصلى على ميت إلا بعد أن تتقدمه حياة ، ما تعرض لذلك ، وإن كان لم يقع الأمر إلا فيمن تقدمت له حياة ، وما يدل عدم النقل على رفع الحكم ، بل المفهوم من الشرع الصلاة على الميت من غير تخصيص ، إلا ما خصصه الشارع من النهي عن الصلاة على الكافر وغير ذلك ، ممن نص ترك الصلاة عليه ، وليس للطفل فيه مدخل . بل قد ذكر الترمذي عن جابر بن عبد اللّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن الطفل يصلى عليه ، ولا يرث ولا يورث حتى يستهل صارخا ، فقد حكم بالصلاة عليه وما حكم بالميراث مثل ما حكم على من مات عن حياة ، فهذا الخبر يقوي ما ذهبنا إليه ، من وجود صورة الإنسان وإن لم يعلم أن موته عن حياة ولا عن غير حياة ، وحديث المغيرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أن الطفل يصلى عليه .


سورة البقرة ( 2 ) : آية 29
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 29 )
إن الرزق على نوعين في الميزان الموضوع في العالم لإقامة العدل وهو الشرع : النوع الواحد يسمى حراما ، والنوع الآخر يسمى حلالا ، وهو بقية اللّه التي جاء نصها في القرآن . قال تعالى : ( بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )فهذه هي التي بقيت للمؤمنين


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بما ولاه اللّه عليه من تدبير جسده ، ومن ملكه الذي يصل إليه في جواره في دار الكرامة ، فإن كنتم مؤمنين كنتم بهذه المثابة من الكرامة ، وإن كفرتم كنتم على النقيض من هذه الصفة ، وكان خلق الحياة والموت في حقكم ابتلاء ، فقال تعالى( خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا )فأحسن المؤمنون فربحوا ، ولم يحسن الكفار فخسروا ، حيث لم يقوموا بشكر هذه النعم ، ثم أردف هذه النعم بنعم أخر فقال ( 30 )« هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً »ردا على القائلين بنسبة الخلق المولد في الأرض للطبيعة ، فأضافه إليه سبحانه ، وخلق هنا خاصة بمعنى قدّر ، وهو

ص 90


من قوله« هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً »وقد ورد في الخبر أن ما سكت عن الحكم فيه بمنطوق فهو عافية ، أي دارس لا أثر له ولا مؤاخذة فيه ، فإن اللّه قد بيّن للناس ما نزّل إليهم من الأحكام في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلم ، والساكت لا ينسب إليه أمر حتى يتكلم ولا مذهب ، ولهذا لا يدخل في الإجماع بسكوته . وهذه مسألة خلاف ، والصحيح ما قلناه ، كما أن ترك النكير ليس بحجة إلا في بقاء ذلك الأمر على الأصل المنطوق به في قوله تعالى« خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً »وكلام بني آدم مما خلق في الأرض وجميع أفعالهم ، فإذا رأينا أمرا قد قيل ، أو فعل بمحضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ولم ينكره ، فلا نقول إن حكمه الإباحة ، فإنه لم يحكم فيه بشيء ، إذ يحتمل أنه لم ينزل فيه شيء عليه ، وهو لا يحكم إلا بما أوحى اللّه فيه إليه ، فيبقى ذلك على الأصل وهو التصرف الطبيعي الذي تطلبه هذه النشأة من غير تعيين حكم عليه بأحد الأحكام الخمسة وهو الأصل الأول ، أو نرده إلى الأصل الثاني وهو قوله تعالى« خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً »وليس بنص في الإباحة ، وإنما هو ظاهر لأن حكم المحظور خلق أي حكم به من أجلنا ، أي نزل حكمه من أجلنا ابتلاء من اللّه هل نمتنع منه أم لا ، كما نزل الوجوب والندب والكراهة والإباحة ، فالأصل أن لا حكم ، وهو الأصل الأول الذي يقتضيه النظر الصحيح« ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ »فالسّماوات من العناصر ، فهي أجسام عنصريات وإن كانت فوق الأركان بالمكان ، فالأركان فوقهن بالمكانة . - بحث في الاستواء - من الآيات المتشابهة آيات الاستواء ، والأحاديث الواردة فيه ، ومرجعها فيه عند المحققين إلى الآيات المحكمات ،

[في الاستواء ]
وأول ما ينبغي تقديمه معنى الاستواء لغة ، وأصله افتعال من السواء والسواء في اللغة العدل والوسط ، وله وجوه في الاستعمال ترجع إلى ذلك ، منها استوى يعني أقبل ، نقله الهروي عن الفراء ، فإن العرب يقولون استوى إلي يخاصمني أي أقبل إلي - الثاني :
بمعنى قصد ، قاله الهروي - الثالث : بمعنى استولى - الرابع : بمعنى استقام - الخامس :


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
قوله تعالى( وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها )وسيأتي في ( فصلت ) وإنما قلنا خلق هنا بمعنى قدر ، لأنه قال بعد هذا« ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ »فجاء بثم ، يؤذن بالبعدية ، فخلق الأرض وقدر فيها أقواتها علما ، ثم استوى إلى السماء وكانت واحدة ففتقها وسواها سبع سماوات طباقا

ص 91


بمعنى اعتدل - السادس : بمعنى علا - قال الشاعر :ولما علونا واستوينا عليهم * تركناهم صرعى لنسر وكاسرقال الحسن بن سهل : إذا علم أصل الوضع وتصاريف الاستعمال فنزل على ذلك الاستواء المنسوب إلى ربه سبحانه وتعالى ، وقد فسره الهروي بالقصد ، وفسره ابن عرفة بالإقبال كما نقل عن الفراء ، وفسره بعضهم بالاستيلاء ، وأنكره ابن الأعرابي وقال : العرب لا تقول استولى إلا لمن له تضادد ، وفيما قاله نظر لأن الاستيلاء من الولي وهو القرب أو من الولاية وكلاهما لا يفتقر إطلاقه بالمضادد ، ونقل الحسن بن سهل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه فسر قوله تعالى« ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ »قال : علا أمره ، وهذه التفاسير كلها ومنه قوله تعالى( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ )

وقوله تعالى( لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ )الآية فلا يليق نسبة مثله إلى استواء ربنا تعالى على العرش ، مع أنا نقول قد علمت أصل اشتقاق الاستواء ولا مدخل فيه لمعنى الاستقرار ، وإنما الحق أن معنى استوى على الدابة جاء على الأصل ، ويكون معناه اعتدل ، أو علا عليها ، والاستقرار لازم ذلك بحسب خصوصية المحل ، لا أن للاستقرار مدخلا في معنى اللفظ مطلقا ، وحينئذ فلا يصح نسبة مثله إليه تعالى لاستحالته في حقه ، وعدم وضع اللفظ له ، وقد ثبت عن الإمام مالك رضي اللّه عنه أنه سئل كيف استوى ؟

فقال : كيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، فقوله كيف غير معقول ، أي : كيف من صفات الحوادث وكلما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات اللّه تعالى ينافي ما يقتضيه العقل ، فيجزم على نفيه عن اللّه تعالى ، وقوله : والاستواء غير مجهول ، أي أنه معلوم المعنى عند أهل اللغة ، : والإيمان به على الوجه الأليق به تعالى واجب ، لأنه من الإيمان باللّه تعالى وبكتبه ، : والسؤال عنه بدعة : أي حادث لأن الصحابة رضي اللّه عنهم كانوا عالمين بمعناه الأليق بحسب اللغة ، فلم يحتاجوا للسؤال عنه ، فلما جاء من لم يحط بأوضاع لغتهم ، ولا له نور كنورهم ، يهديه لصفات ربهم ، شرع يسأل عن ذلك ، فكان سؤاله سببا لاشتباهه


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

فدارت بكواكبها ، ففتق الأرض بما أخرج فيها ومنها من معدن ونبات وحيوان ، فكان إيجادا عند دوران الأفلاك بعد تقدير ، وجعل سبحانه هذا الخلق كله من أجلنا ، فأية نعمة أو أية عناية أعظم

ص 92

على الناس وزيغهم عن المراد ، وتعين على العلماء حينئذ أن لا يهملوا البيان ، قال اللّه تعالى :( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ )ولا بد في إيضاح البيان الزيادة فنقول : قد قررنا أن الاستواء مشتق من السواء وأصله العدل ، وحينئذ الاستواء المنسوب إلى ربنا تعالى في كتابه بمعنى اعتدل أي قام بالعدل ، وأصله من قوله تعالى : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ )إلى قوله( قائِماً بِالْقِسْطِ )فقيامه بالقسط والعدل هو استواؤه ، ويرجع معناه إلى أنه أعطى بعدله كل شيء خلقه ، موزونا بحكمته البالغة في التعرف لخلقه بوحدانيته ، ولذلك قرنه بقوله : ( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )
والاستواء المذكور في كتابه استواءان :
استواء سماوي
واستواء عرشي
فالأول تعدى بإلى قال تعالى :« هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ »وقال« ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ »ومعناه - واللّه أعلم - اعتدل أي : قام بقسطه وتسويته إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، ونبّه على أن استواءه هذا هو قيامه بميزان الحكمة ، وتسويته بقوله أولا عن الأرض( وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ )وبقوله آخرا( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .
وأما الاستواء العرشي : فهو أنه تعالى قام بالقسط ، متعرفا بوحدانيته في عالمين :
عالم الخلق ، وعالم الأمر وهو عالم التدبير ،( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )فكان استواؤه على العرش للتدبير بعد انتهاء عالم الخلق لقوله تعالى : ( الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) وبهذا يفهم سر تعدية الاستواء العرشي بعلى ، لأن التدبير للأمر لا بد فيه من استعلاء واستيلاء« وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ »وعلمه تعالى ذاته ، فإنه يستحيل عليه أن يقوم بذاته أمر زائد ، أو عين زائدة ما هي ذاته ، تعطيها حكما لا يصح لها ذلك الحكم دونها مما يكون كمالا لها في ألوهيتها ، بل لا تصح الألوهة إلا بها وهو كونه عالما بكل شيء ، ذكر ذلك عن نفسه بطريق المدحة لذاته ، ودل عليه دليل العقل . –

[ القصد من خلق الثقلين ]
رقيقة - لما خلق اللّه الثقلين في المقام الذي قصده بخلقهم وهو أجلية الحق ، من قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )فرغهم لذلك


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

من هذه العناية ، التي لأجلها خلق هذا الخلق العظيم الكبير ، ومصداق كونه من أجلنا أنه إذا انتقلنا إلى الدار الآخرة مارت السماء وانشقت ، وزالت الأرض وسارت الجبال بزوالنا من الدنيا


ص 93

حتى لا يقوم لهم حجة بالاشتغال بما به قوامهم ، فخلق الأشياء التي بها قوامهم خاصة من أجلهم ليتفرغوا لما قصد بهم ، فقامت عليهم حجة اللّه إذا لم يقوموا بما خلقوا له ، جاء في الأثر أن الحق يقول لابن آدم : خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلي ، فلا تهتك ما خلقت من أجلي ، فيما خلقت من أجلك.

[ العالم لا يرمي بشيء من الوجود ]
تحقيق العالم لا يرمي بشيء من الوجود ، وإنما يبرز إليه ما يناسبه منه ، ولا يغلب عليه حال من الأحوال ، بل هو مع كل حال بما يناسبه ، فإن أكثر الناس لا يعلمون ذلك ، بل هم بهذا القدر جاهلون ، وهذا هو الذي أداهم إلى ذم الدنيا وما فيها ، والزهد في الآخرة ، وفي كل ما سوى اللّه ، وانتقدوا على من شغل نفسه بمسمى هذه كلها ، وجعلهم في ذلك ما حكي عن الأكابر في هذا النوع ، وحملوا ألفاظهم على غير وجه ما تعطيه الحقيقة ، ورأوا أن كل ما سوى اللّه حجاب عن اللّه ، فأرادوا هتك هذا الحجاب فلم يقدروا عليه إلا بالزهد فيه .

والحق كل يوم في شأن الخلق ، والجنة وهي دار القربة ومحل الرؤية ، هي دار الشهوات وعموم اللذات ، ولو كانت حجابا لكان الزهد والحجاب فيها ، وكذلك الدار الدنيا ، فاللّه خلق أجناس الخلق وأنواعه ، وما أبرز من أشخاصه لننظر فيه نظرا يوصلنا إلى العلم بخالقه ، فما خلقه لنزهد فيه ، فوجب علينا الانكباب عليه ، والمثابرة والمحبة فيه ، لأنه طريق النظر الموصل إلى الحق ، فمن زهد في الدليل فقد زهد في المدلول ، وخسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين .

وجهل حكمة اللّه في العالم وجهل الحق وكان من الخاسرين ، فالرجل كل الرجل من ظهر بصورة الحق في عبودة محضة ، فأعطى كل ذي حق حقه ، ويبدأ بحق نفسه فإنها أقرب إليه من كل من توجه له عليه حق من المخلوقين ، وحق اللّه أحق بالقضاء ، وحق اللّه عليه إيصال كل حق إلى من يستحقه ، فيطلبه أصحاب الحقوق بحقوقهم نطقا وحالا ظاهرا وباطنا ، فيطلبه السمع بحقه ، والبصر واللسان واليدان والبطن والفرج والقدمان والقلب والعقل والفكر والنفس النباتية ، والحيوانية والغضبية والشهوانية والحرص ، والأمل والخوف والرجاء والإسلام والإيمان والإحسان ، وأمثال هؤلاء من عالمه المتصل به ، وأمره الحق أن لا يغفل


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

وكان أيضا هذا ابتلاء مدرجا في نعمة ، أو نعمة مدرجة في ابتلاء ، مثل خلق الحياة والموت ، فقال تعالى( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ

ص 94


عن أحد من هؤلاء أوّلا ، ويصرفهم في المواطن التي عين له الحق ، وجعل هذه القوى كلها متوجهة على هذه النفس الناطقة بطلب حقوقها ، وجعلها كلها ناطقة بتسبيح اللّه تعالى جعلا ذاتيا لا تنفك عنه ، وجعل هذه الحقوق التي توجهت لها على النفس الناطقة الحاكمة على الجماعة ثابتة الحق جزاء لما هي عليه من تسبيح اللّه بحمده دنيا وآخرة ، فالعارف المكمّل المعرفة يعلم أن فيه من يطلب مشاهدة ربه ومعرفته الفكرية والشهودية ، فتعين عليه أن يؤدي إليهم حقهم من ذلك ، وعلم أن فيه من يطلب المأكل الشهي الذي يلائم مزاجه ، والمشرب والمنكح والمركب والملبس والسماع والنعيم الحسي المحسوس ، فتعين عليه أيضا أن يؤدي إليهم حقوقهم من ذلك الذي عين لهم الحق ، ومن كان هذا حاله كيف يصح له أن يزهد في شيء من الموجودات ؟ وما خلقها اللّه إلا له . إلا أنه مفتقر إلى علم ما هو له وما هو لغيره لئلا يقول كل شيء هو له ، فلا ينظر من الوجوه الحسان إلا ما يعلم أنه له ، وما يعلم أنه لغيره يكف بصره ويغضه عنه ، فإنه محجور عليه ما هو لغيره ، فهذا حظه من الورع والاجتناب ، والزهد إنما متعلقة الأولوية بخلاف الورع وكل ترك ، فأما الأولوية فينظر في الموطن يعمل بمقتضاه ، ومقتضاه قد عينه له الحق بما أعلمه به بلسان الشرع ، فسموا من طريق الأخذ بالأولوية زهادا ، حيث أخذوا بها ، فإن لهم تناول ذلك في الحياة الدنيا فما فعلوا ، لأن اللّه خيرهم فما أوجبه عليهم ولا ندبهم إليه ولا حجر عليهم ولا كرهه فاعلم ذلك ، ثم إنه ينظر في هذا المخير فيه فلا يخلو حاله في تناوله أن يحول بينه هذا التناول وبين المقام الأعلى الذي رجحه له أو لا يحول ، فإن حال بينه وبينه تعين عليه بحكم العقل الصحيح السليم تركه والزهد فيه ، وإن كان على بينة من ربه أن ذلك لا يقدح ، ولا يحول بينه وبين الرتبة العليا من ذلك فلا فائدة لتركه ، كما قال لنبيه سليمان عليه السلام :« هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ »ولا تكون ممن تلتبس عليه الأمور فيتخيل أنه بزهده فيما هو حق لشخص ما من رعيته ، ينال حظ ما يطلبه به منه شخص آخر من رعيته ، فإن


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:


أَحْسَنُ عَمَلًا ) *وقال( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ )فقال تعالى« وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ »أي بما خلق ، وبما لأجله خلق ، وبما يكون ممن خلق ، وقال تعالى( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ )فهو قوله« خَلَقَ لَكُمْ » *أي من أجلكم ، وجعل ذلك آيات لقوم يتفكرون ليعلموا ما مراد

ص 95

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "30 - 31" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 20, 2019 12:25 pm

تفسير آلآيات من "30 - 31" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 30
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ( 30 )
خلق الخليفة من العناصر

[ خلق الخليفة من العناصر ]
لما خلق اللّه الأفلاك والسماوات ، وأوحى في كل سماء أمرها ، ورتب فيها أنوارها وسرجها ، وعمرها بملائكته وحركها فتحركت ، وخلق الجان من النار ، والطير والدواب البرية والبحرية والحشرات ، وقدر في الأرض أقواتها من أجل المولدات ، فجعلها خزانة لأقواتهم ، واستوت المملكة وتهيأت ، ما عرف أحد من هؤلاء المخلوقات كلها من أي جنس يكون هذا الخليفة ؟ الذي مهد اللّه هذه المملكة لوجوده ، بترتيب اللّه الخلق بالإيجاد ، إلى أن انتهت النوبة والترتيب الإلهي إلى ظهور هذه النشأة الإنسانية الآدمية ، فلما وصل الوقت المعين في علمه لإيجاد هذا الخليفة ، أمر بعض ملائكته بأن يأتيه بقبضة من كل أجناس تربة الأرض ، فأتاه بها - في خبر طويل معلوم عند الناس - فأخذها سبحانه وخمرها بيديه في قوله « لما خلقت بيدي » فلما خمر الحق تعالى بيديه طينة آدم حتى تغير ريحها وهو المسنون ، وذلك الجزء الهوائي الذي في النشأة ، وكان الجزء الناري الذي أنشأه اللّه منه في قوله تعالى :« مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ »والجزء المائي هو الذي عجن به التراب فصار طينا ، فلما سوى نشأته جعل ظهره محلا للأشقياء والسعداء من ذريته ، فأودع فيه ما كان في قبضتيه ، فإنه سبحانه أخبر أن في قبضة يمينه السعداء ، وفي قبضة اليد الأخرى الأشقياء ، وكلتا يدي ربي يمين مباركة ، فقال : هؤلاء للجنة ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
اللّه من ذلك ، فمن وجوهه عندنا الابتلاء الذي نبهنا عليه ، ثم أردف هذه الآية بنعمة الاستخلاف وتعليم الأسماء والسجود لهذه النشأة الإنسانية ، فقال تعالى ( 31 )« وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ».


ص 93

وبعمل أهل الجنة يعملون ، وهؤلاء إلى النار ، وبعمل أهل النار يعملون ، وأنشأ الحق هذه النشأة الإنسانية في أحسن تقويم ، ثم نفخ فيها من روحه المضاف إليه ، فحدث عند هذا النفخ فيه بسريانه في أجزائه الحياة وما يتبعها من كونه حيوانا ، وبذلك جمع اللّه في الإنسان الكامل بين الصورتين الطبيعيتين في نشأته ، فخلقه بجسم مظلم كثيف ، وبجسم لطيف محمول في هذا الجسم الكثيف سماه روحا له ، به كان حيوانا وهو البخار الخارج من تجويف القلب المنتشر في أجزاء البدن المعطي فيه النمو والإحساس ، ثم خصه بما يتميز به عن الحيوان بالقوة المصورة والعاقلة ، ثم أنشأه خلقا آخر وهو الإنسانية فجعله درّاكا بهذه القوى ، حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا على حد معلوم معتاد في اكتسابه ، وخصه دون العالم كله بالقوة المفكرة التي بها يدبر الأمور ويفصلها ، وليس لغيره من العالم ذلك فإنه على الصورة الإلهية ، ومن صورتها يدبر الأمر يفصل الآيات فتبارك اللّه أحسن الخالقين

- البحث الثاني :
[ ما هو الإنسان ؟ ]
ما هو الإنسان ؟
اعلم أن الناس اختلفوا في مسمى الإنسان ما هو ؟
فقالت طائفة : هو اللطيفة
وطائفة قالت : هو الجسم ، وطائفة قالت : هو المجموع وهو الأولى .
وقد وردت لفظة الإنسان على ما ذهبت إليه كل طائفة ، ثم اختلفنا في شرفه هل هو ذاتي ؟
أو هو بمرتبته نالها بعد ظهوره في عينه وتسويته كاملا في إنسانيته إما بالعلم وإما بالخلافة والإمامة ؟
فمن قال : إنه شريف لذاته ، نظر إلى خلق اللّه إياه بيديه ، ولم يجمع ذلك لغيره من المخلوقين ، وقال : إنه خلقه على صورته ، فهذه حجة من قال شرفه شرف ذاتي ، ومن خالف هذا القول قال : لو أنه شريف لذاته لكنا إذا رأينا ذاته علمنا شرفه ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لما اقتضى عند اللّه خلقنا صلاحا في نفس الأمر ، قرن التعريف لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم بالاسم الرب الذي هو المصلح ، وأضافه إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم اعتناء به أنه المقصود من هذه النشأة ، إذ كان سيد الناس يوم القيامة ، وأخفى في الدنيا ما يجب من تعظيمه لعلو منزلته ، كما أخفى ما يستحقه جل جلاله من تعظيم عباده إياه ، وأطلق الألسنة عليه بأن له صاحبة وولدا ، وما وقع به التعريف مما لا يليق به ، كذلك قيل فيه صلّى اللّه عليه وسلم إنه ساحر مجنون كذاب ، وغير ذلك ، فإذا كان يوم القيامة وظهر الحق سبحانه في عزته وكبريائه ، فذلّ كل موجود تحت عزته على الكشف ، وذهبت الدعاوى وتبرأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا ، ظهر أيضا في ذلك اليوم مقام محمد صلّى اللّه عليه وسلم وسيادته على الناس ، وافتقار
ص 94

والأمر ليس كذلك ، ولم يكن يتميز الإنسان الكبير الشريف بما يكون عليه من العلم والخلق على غيره من الأناسي ويجمعهما الحد الذاتي ، فدل أن شرف الإنسان بأمر عارض يسمى المنزلة أو المرتبة ، فالمنزلة هي الشريفة ، والشخص الموصوف بها نال الشرف بحكم التبعية ، كمرتبة الرسالة والنبوة والخلافة والسلطنة ، فما علم شرف الإنسان إلا بما أعطاه اللّه من العلم والخلافة ، فليس لمخلوق شرف من ذاته على غيره إلا بتشريف اللّه إياه . وأرفع المنازل عند اللّه أن يحفظ اللّه على عبده مشاهدة عبوديته دائما ، سواء خلع عليه من الخلع الربانية شيئا أو لم يخلع ، فهذه أشرف منزلة تعطى لعبد .
وهو قوله تعالى : ( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي )وقوله سبحانه : ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ )فقرن معه تنزيهه ، فليس لصنعة شرف أعلى من إضافتها إلى صانعها ، ولهذا لم يكن لمخلوق شرف إلا بالوجه الخاص الذي له من الحق ، لا من جهة سببه المخلوق مثله ، وفي هذا الشرف يستوي أول موجود - وهو القلم أو العقل أو ما سميته - وأدنى الموجودات مرتبة ، فإن النسبة واحدة في الإيجاد ، والحقيقة واحدة في الجميع من الإمكان ، فآخر صورة ظهر فيها الإنسان الصورة الآدمية ، وليس وراءها صورة أنزل منها ، وبها يكون في النار من شقي لأنها نشأة تركيب تقبل الآلام والعلل ، وأما أهل السعادة فينشئون نشأة وتركيبا لا يقبل ألما ولا مرضا ولا خبثا ، ولهذا لا يهرم أهل الجنة ولا يتمخطون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يسقمون ولا يجوعون ولا يعطشون ، وأهل النار على النقيض منهم ، وهي نشأة الدنيا وتركيبها فهي أدنى صورة قبلها الإنسان وقد أتت عليه أزمنة ودهور قبل أن يظهر في هذه الصورة الآدمية ، وهو في الصورة التي له في كل مقام وحضرة من فلك وسماء وغير ذلك مما تمر عليه الأزمان والدهور ، ولم يكن قط في صورة من تلك الصور مذكورا بهذه الصورة الآدمية العنصرية ، ولهذا ما




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الخلق إليه من سائر الأمم في فتح باب الشفاعة ، وبان فضله على سائر الأنبياء والرسل ، فعلم هنالك عظم منزلته عند ربه ، كما تظهر عزة كل مقرب عند سلطان عند ظهور سلطانه ودولته ، فأخبر سبحانه نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بما كان بينه جل علاه وبين ملائكته في حق آدم صلّى اللّه عليه وسلم ، فمن جعل لفظة الملائكة بمعنى الرسل كان صفة ، فدخل فيهم إبليس ، ومن جعله اسما لهم من حيث نشأتهم وإن كانوا سموا به لاستتارهم ، لم يدخل إبليس في هذا الخطاب ، وقد يكون الخطاب عاما لهم ولغيرهم من المخلوقين في ذلك الوقت ، وخصوا الملائكة بالذكر اعتناء بهم وتهمما وتشريفا ، فيدخل إبليس
ص 95

ابتلاه قط في صورة من صوره في جميع العالم إلا في هذه الصورة الآدمية ، ولا عصى الإنسان قط خالقه إلا فيها ، ولا ادعى رتبة خالقه إلا فيها ولا مات إلا فيها ، ولهذا يقبل الموت أهل الكبائر في النار ، ثم يخرجون فيغمسون في نهر الحياة فيتركبون تركيبا لا يقبل الآلام ولا الأسقام ، فيدخلون بتلك الصورة الجنة


- البحث الثالث -
[ خلق الانسان الكامل ]
خلق آدم عليه السلام الإنسان الكامل الأول ، والخليفة الأول ، باليدين وعلى الصورة الإلهية : لما أراد اللّه بالإنسان الخلافة والإمامة بدأ بإيجاد العالم ، وهيأه وسواه وعدله ورتبه مملكة قائمة ، فلما استعد لقبول أن يكون مأموما أنشأ اللّه جسم الإنسان الطبيعي ونفخ فيه من الروح الإلهي ، فخلقه على صورته لأجل الاستخلاف ، فظهر بجسمه فكان المسمى آدم فجعله في الأرض خليفة ، وكان من أمره وحاله مع الملائكة ما ذكر اللّه في كتابه لنا ، وجعل الإمامة في بنيه إلى يوم القيامة ، فالإنسان الكامل هو المقصود الذي به عمرت الدنيا وقامت ، وإذا رحل عنها زالت الدنيا ، ومارت السماء ، وانتثرت النجوم ، وكورت الشمس ، وسيرت الجبال ، وعطلت العشار ، وسجرت البحار ، وذهبت الدار الدنيا بآخرها ، وانتقلت العمارة إلى الدار الآخرة ، بانتقال الإنسان ، فعمرت الجنة والنار ، وما بعد الدنيا من دار : إلا الجنة والنار .
واعلم أن اللّه جمع لنشأة جسد آدم بين يديه فقال « لما خلقت بيدي » فإنه لما أراد اللّه كمال هذه النشأة الإنسانية جمع لها بين يديه ، وأعطاها جميع حقائق العالم ، وتجلى لها في الأسماء كلها ، فحازت الصورة الإلهية ، والصورة الكونية ، وجعلها روحا للعالم وجعل أصناف العالم له كالأعضاء من الجسم للروح المدبرة له ، فلو فارق العالم هذا الإنسان مات العالم ، فالدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه ، فلما قابل الإنسان الحضرتين بذاته ( الحضرة الإلهية والحضرة الكونية ) صحت له الخلافة ، وتدبير العالم




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
في التعريف وإن لم يجر له ذكر ، وأما قوله تعالى« إِنِّي جاعِلٌ »أي خالق وناصب« فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »فإن أراد في ذلك من يخلف من مضى في الأرض من الأمم قبلنا أو الملائكة ، وهو الأظهر ، فيدخل تحت هذه اللفظة آدم وذريته الكافر والمؤمن ، وإن أراد بالخلافة النيابة عنه في خلقه ، فتختص بذلك الرسل صلوات اللّه عليهم ، والوجهان صالحان لذلك« قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ »فلهذا تقوى عندنا وظهر أنا خلف من الملائكة في الأرض ، لأنهم لو فهموا من الحق في خطابه أن المراد غيرهم لما أجابوا بهذا الجواب ، هذا جواب
ص 96

وتفصيله ، فإذا لم يحز الإنسان رتبة الكمال فهو حيوان تشبه صورته صورة الإنسان .
فالإنسان الكامل من تممت له الصورة الإلهية ، ولا يكمل إلا بالمرتبة ، ومن نزل عنها فعنده من الصورة بقدر ما عنده ، ألا ترى الحيوان يسمع ويبصر ويدرك الروائح والطعوم والحار والبارد ولا يقال فيه إنسان ! بل هو حمار وفرس وطائر وغير ذلك ، فلو كملت فيه الصورة قيل فيه إنسان ، كذلك الإنسان لا يكمل فيزول عنه الاسم العام إلى الاسم الخاص فلا يسمى خليفة إلا بكمال الصورة الإلهية فيه ، إذ العالم لا ينظرون إلا إليها ، وهو الآخر بخلقه الطبيعي فإنه آخر المولدات فإن اللّه ما خلق أولا من هذا النوع إلا الكامل ، وهو آدم عليه السلام ، وهو لم يكن مبعوثا لأنه لم يكن مرسلا إلى أحد ، وإنما كان في الأرض لوجود عالم التركيب ، فهو مفتتح وجودنا ، فالإنسان الكامل ظاهره خلق ، وباطنه حق ، وما عدا هذا فهو الإنسان الحيواني ، ورتبة الإنسان الحيواني من الإنسان الكامل رتبة خلق النسناس من الإنسان الحيواني ، ثم أبان الحق عن مرتبة الكمال لهذا النوع ، فمن حازها منه فهو الإنسان الذي أريده ، ومن نزل عن تلك الرتبة فعنده من الإنسانية بحسب ما تبقى له ، وليس في الموجودات من وسع الحق سواه ، وما وسعه إلا بقبول الصورة ، فهو مجلى الحق فيرى الحق صورته في الإنسان الكامل ، ومعنى رؤية الحق صورته فيه هو : إطلاق جميع الأسماء الإلهية عليه . كما جاء في الخبر « فبهم تنصرون » واللّه الناصر « وبهم ترزقون » واللّه الرازق « وبهم ترحمون » واللّه الراحم ، فإنه سبحانه ما سمى نفسه باسم من الأسماء إلا وجعل للإنسان في التخلق بذلك الاسم حظا منه يظهر به في العالم على قدر ما يليق به ، وأنزله خليفة عنه في أرضه ، والخليفة معلوم أنه لا يظهر إلا بصفة من استخلفه ، فلا مخلوق أعظم رحمة من الإنسان الكامل الذي هو مجلى حقائق العالم ، فهو آخر نوع ظهر ، فأوليته حق وآخريته خلق ، فهو


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
على أنهم أجابوا من حيث ما فهموا ، وقد يكون الأمر في نفسه على ما فهموا وقد لا يكون ، وذلك أن كل كلام يحكيه الحق أو يخبر به أنه قول لأحد من خلقه ، لا يلزم منه أن يكون صحيحا مدلول ذلك القول ، ولا فاسدا ولا إصابة ولا خطأ ، وإنما تتبين صحته وفساده من دليل آخر سمعي أو عقلي ، والأظهر ما ذهبنا إليه في مفهومهم ، ولما أبصرت الملائكة نشأة الإنسان مركبة من طبائع متنافرة ، دلهم ذلك على أنه في جبلة هذا المخلوق المنازعة في جنسه ومع غير جنسه ،


ص 97

الأول من حيث الصورة الإلهية ، والآخر من حيث الصورة الكونية ، والظاهر بالصورتين والباطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية ، وقد ظهر حكم هذا في عدم علم الملائكة بمنزلته مع كون اللّه قد قال لهم : إنه خليفة ، فكيف بهم لو لم يقل لهم ذلك ؟ فلم يكن ذلك إلا لبطونه عن الملائكة ، وهم من العالم الأعلى العالم بما في الآخرة وبعض الأولى ، فإنهم لو علموا ما يكون في الأولى ما جهلوا رتبة آدم عليه السلام مع التعريف الإلهي لهم بقوله :« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »وما عرفه من العالم إلا اللوح والقلم وهم العالون ، ولا يتمكن لهم إنكاره والقلم قد سطره واللوح قد حواه ، فإن القلم لما سطره سطر رتبته وما يكون منه ، واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه . أما الملائكة فلم تر من آدم إلا صورته الطبيعية الجسمية المظلمة العنصرية الكثيفة ، لذلك قالت ما قالت ، وكان آدم عند العالم من الملائكة فمن دونهم مجهول الباطن ، فحكموا عليه بالفساد ، أي بالإفساد من ظاهر نشأته لمّا رأوها قامت من طبائع مختلفة متضادة متنافرة ، فعلموا أنه لا بد أن يظهر أثر هذه الأصول على من هو على هذه النشأة ، فلو علموا باطنه وهو حقيقة ما خلقه اللّه عليه من الصورة حيث قال صلّى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه خلق آدم على صورته » لعلمت الملائكة ما جهلته من آدم ، فلما أعلمهم اللّه بكمال الصورة فيه وأمرهم بالسجود له سارعوا بالسجود ، ولا سيما وقد ظهر لهم بالفعل في تعليمه الأسماء إياهم ، ولو لم يعلمهم وقال لهم اللّه إني أعطيته الصورة والسورة لأخذوها إيمانا وعاملوه بما عاملوه به لأمر اللّه ، فلولا أن اللّه تعالى جمع لآدم في خلقه بين يديه فحاز الصورتين وإلا كان من جملة الحيوان الذي يمشي على رجليه ، وإنا وإن حزنا بخلقنا الصورة الربانية فنحن بحكم الأصل عبيد عبودية لا حرية فيها ، فما نحن سادة ولا أرباب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : كمل من الرجال كثيرون ولم يكمل من النساء إلا آسية


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ويدخل في هذا الجان والإنس ، وإنما لم يذكروا ذلك وإن كانوا من طبائع متنافرة غير أنهم غلب عليهم عنصر النار كما غلب علينا عنصر التراب ، فهم أشد منازعة منا للحركة السريعة التي في لهب النار والسكون الذي في التراب ، فكل منازعة تقع منا فمن غلبة طبيعة النار في ذلك الوقت ، وهو الغضب والحمية ، وهو المرة الصفراء ، لكن الجان لما لم يقل لهم الحق إنهم يخلفونكم في الأرض لم يقولوا شيئا ، وإنما القول في الجان بالمنازعة أولى لما ذكرناه ف« قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها


ص 98

امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران . فلكون الإنسان الكامل على الصورة الكاملة صحت له الخلافة والنيابة عن اللّه تعالى في العالم ، فبالإنسانية والخلافة صحت له الصورة على الكمال ، وما كل إنسان خليفة ، فإن الإنسان الحيوان ليس بخليفة عندنا ، وليس المخصوص بها أيضا الذكورية فقط ، فكلامنا في صورة الكامل من الرجال والنساء ، فإن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى ، والذكورية والأنوثة إنما هما عارضان ليستا من حقائق الإنسانية لمشاركة الحيوانات كلها في ذلك ، وقد شهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالكمال للنساء كما شهد به للرجال فقال في الصحيح : كمل من الرجال كثيرون ، وكملت من النساء مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون . فالكمل هم الخلائف ، فإن اللّه قد اعتنى بالإنسان دون العالم غاية العناية ما لم يعتن بمخلوق بكونه جعله خليفة ، وأعطاه الكمال بعلم الأسماء ، وخلقه على الصورة الإلهية ، وأكمل من الصورة الإلهية ما يمكن أن يكون في الوجود . فالإنسان الكامل مثل ، ضد ، خلاف ، فهو مثل من حيث الصورة الإلهية ، ضد من حيث أنه لا يصح أن يكون في حال كونه عبدا ربا لمن هو له عبد ، خلاف من حيث أن الحق سمعه وبصره وقواه فأثبته وأثبت نفسه ، والإنسان الكامل الظاهر بالصورة الإلهية لم يعطه اللّه هذا الكمال إلا ليكون بدلا من الحق ، ولهذا سماه خليفة ، وما بعده من أمثاله خلفاء له ، فالأول وحده هو خليفة الحق ، وما ظهر عنه من أمثاله في عالم الأجسام فهم خلفاء هذا الخليفة وبدل منه في كل أمر يصح أن يكون له . واعلم أن المراتب كلها إلهية بالأصالة ، وظهرت أحكامها في الكون ، وأعلى رتبة إلهية ظهرت في الإنسان الكامل ، فأعلى الرتب رتبة الغنى عن كل شيء ، وتلك الرتبة لا تنبغي إلا للّه من حيث ذاته ، وأعلى الرتب في العالم الغنى بكل شيء وإن


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وَيَسْفِكُ الدِّماءَ »فإن أرادوا بالفساد إزالة ترتيب بعض ما نظم اللّه عليه بعض العالم مما لهم تسلط عليه وقوة ، ويسفك الدماء فيهم وفيما يذبحونه من الحيوانات ويقتلونها ، فغيرة منهم على جناب الحق ، لأن له في كل ترتيب تسبيح مخصوص ، فإذا فسد ذلك النظام ذهب عين تلك الصورة فزال ذلك التسبيح والتقديس بزوال المسبح والمقدس ، فقالوا حقا وغيرة وإيثارا لجناب الحق ، وهو الظن بهم ، وإن أرادوا بالفساد وسفك الدماء غير ما تشرع لهم ، فينتهكون حرمة الحق المشروع ، ويتعدون حدوده ، ويخالفون أمره ، فيريدون المخالفين من بني آدم ، وسبب وجود الذرية وجود الأب الأول الذي هو الأصل ، وإنما لم يتعرضوا له ولكن يتضمنه الكلام ،


ص 99

شئت قلت : الفقر إلى كل شيء ، وتلك رتبة الإنسان الكامل ، فإن كل شيء خلق له ومن أجله وسخر له ، لما علم اللّه من حاجته إليه ، فليس له غنى عنه ، ولذلك استخدم اللّه له العالم كله ، فما من حقيقة صورية في العالم الأعلى والأسفل إلا وهي ناظرة إليه نظر كمال ، أمينة على سر أودعها اللّه إياه لتوصله إليه . -


[ حكم الصورة الإلهية ]
حكم الصورة الإلهية التي خلق عليها الإنسان : إن العالم وإن كان على صورة الحق فما كان العالم على الكمال في صورة الحق حتى وجد الإنسان فيه ، فبه كمل العالم ، فالإنسان الأول بالمرتبة الآخر بالوجود ، والإنسان من حيث رتبته أقدم من حيث جسميته ، فالعالم بالإنسان على صورة الحق ، والإنسان دون العالم على صورة الحق ، والعالم دون الإنسان ليس على الكمال في صورة الحق ، ولذلك لما خلق اللّه الإنسان الكامل وخلفاءه من الأناسي على أكمل صورة ، وما ثم كمال إلا صورته تعالى ، أخبر أن آدم خلقه على صورته ليشهد فيعرف من طريق الشهود ، فأبطن في صورته الظاهرة أسماءه سبحانه التي خلع عليه حقائقها ، ووصفه بجميع ما وصف به نفسه ، ونفى عنه المثلية فلا يماثل وهو قوله :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )من العالم ، أي ليس مثل مثله شيء من العالم ، ولم يكن مثلا إلا بالصورة ، لهذا كان الخليفة على صورة من استخلفه ، فالنسبة الجامعة بين الحق والخلق ، هي الصورة التي خلق عليها الإنسان ، ولما كان للصورة حكم ، ومن ظهر في صورة كان له حكمها ، من هنا تعرف مرتبة الإنسان الكامل الذي خلقه على صورته ، ولتلك الصور حكم فتتبع الحكم الصورة ، فلم يدّع الألوهية لنفسه أحد من خلق اللّه إلا الإنسان الذي ظهر بأحكام الأسماء والنيابة ، ومن سواه ادعيت فيه وما ادعاها ، قال فرعون: ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى )وما في الخلق من يملك سوى الإنسان ، وما سوى الإنسان من ملك وغيره لا يملك شيئا ، يقول اللّه تعالى في إثبات الملك للإنسان( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ )وما ثم موجود ما يقرّ له بالعبودية إلا الإنسان فيقال هذا عبد فلان ، ولهذا شرع اللّه له العتق ورغّبه فيه وجعل له ولاء المعتق إذا مات من غير وارث ، كما أن الورث للّه من عباده قال تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها )وما ثم موجود


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وإن كان القصد بإنزال المطر في طلب العباد له سقي زراعاتهم ، فيتخرب بيت العجوز الضعيفة بذلك المطر ، قالت عائشة ( يا رسول اللّه أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كثر الخبث بالمدينة ، فيعم الهلاك الصالح والطالح ويمتازون في القيامة )( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ )ثم قالوا عن
ص 100

يقبل التسمية بجميع الأسماء الإلهية إلا الإنسان ، وقد ندب إلى التخلق بها ولهذا أعطي الخلافة والنيابة وعلم الأسماء كلها ، وكان آخر نشأة في العالم جامعة لحقائق العالم ، مما اختص اللّه بها ملكه كله وصورته ، ولما كان للإنسان الكامل هذا المنصب العالي ، كان العين المقصودة من العالم وحده ، وظهر هذا الكمال في آدم عليه السلام في قوله تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها )


[ الخليفة واحد ]
الخليفة واحد :جمع الأنام على إمام واحد * عين الدليل على الإله الواحدقال اللّه عزّ وجل : ( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ )وقال تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا )وقال سبحانه : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما وقال صلّى اللّه عليه وسلم :

[ الخلفاء من قريش ]
والتقريش التقبض والاجتماع ، كذلك الإمام إن لم يكن متصفا بأخلاق من استخلفه جامعا لها مما يحتاج من استخلف عليهم وإلا فلا تصح خلافته ، فهو الواحد المجموع

[ تتابع الخلفاء في الأرض ]
تتابع الخلفاء في الأرض : اعلم أن اللّه تعالى لما شاء أن يجعل في أرضه خلفاء على من يعمرها من الإنس والجان وجميع الحيوانات ، وقدمهم ورشحهم للإمامة دون غيرهم من جنسهم جعل بينه وبينهم سفيرا وهو الروح الأمين ، وسخر لهم ما في السماوات من ملك وكوكب سابح في فلك ، وما في الأرض وما بينهما من الخلق جميعا منه ، وأباح لهم جميع ما في الأرض أن يتصرفوا فيه ، وأيد هؤلاء الخلفاء بالآيات البينات ليعلم المرسلون إليهم أن هؤلاء خلفاء اللّه عليهم ، ومكنهم من الحكم في رعيتهم بالأسماء الإلهية على وجه يسمى التعلق ، وشرع لهم في نفوسهم شرائع ، وحد لهم حدودا ، ورسم لهم مراسم ، يقفون عندها يختصون بها ، لا يجوز لأحد من رعاياهم أن يتخذوها لأنفسهم شرائع ، ولا يقتدون بهم فيها ، ثم نصب لهم شرائع يعملون بها هم ورعيتهم وكتب لهم كتبا بذلك نزلت بها السفراء عليهم ، ليسمعوها رعيتهم فيعلموا حدود ما أنزل اللّه الذي استخلف عليهم فيقفوا عندها ، ويعملوا بها سرا وجهرا ، فمنها ما كتبه


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
نفوسهم تحدثا وثناء على اللّه بما أنعم عليهم ، فقالوا« وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ »أي من أجلك« قالَ »اللّه تعالى« إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ »من قولكم فيكم وفيمن يخلفكم ، وذلك أن قولهم« نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ »فأضاف وأخر التعريف ، ولم يقولوا بالحمد الذي لك ، فالمفهوم منه تعميم


ص 101

بيده تعالى وهو التوراة ، ومنها ما نزل به الروح الأمين عليهم من الكتاب المكنون الذي نزل من اللّه من عرشه المنقول من الدفتر الأعظم ، وهو الإمام المبين فهو معه على عرشه ، ونقل منه في اللوح المحفوظ قدر ما يقع به التصريف في الدنيا إلى يوم القيامة ، ويتضمن ما في العالم من حركة وسكون ، واجتماع وافتراق ، ورزق وأجل وعمل ، ثم أنزل ذلك كله في كتاب مكنون إلى السماء الدنيا ، وجعله بأيدي سفرة ، كرام بررة ، مطهرين أرواح قدس ، صحفا مكرمة ، مرفوعة مطهرة فيها توقيعات إلهية بما وعد اللّه المؤمنين باللّه وملائكته وكتبه ورسله وما جاءت به رسله من اليوم الآخر والبعث الآخر وما يكون في ذلك اليوم من حكم اللّه في خلقه ، وتولى اللّه ذلك كله بنفسه على صورة الحق الذي بعث به رسله ، ليصدقهم عند عبيده ، فعلا بحكمه ذلك فيهم ، كما صدقهم في حال احتجابه بما أيدهم به من الآيات ، فآمن من آمن ، وكفر من كفر ، ثم إنه أنزل في الكتب والصحف على ألسنة الخلفاء صلوات اللّه عليهم وسلامة من الوعيد والتهديد ، وأخذ من كفر باللّه ونافق أو آمن ببعض وكفر ببعض مما أنزله اللّه ، وجحد وأشرك ، وكذب وظلم ، واعتدى وأساء ، وخالف وعصى ، وأعرض وفسق ، وتولى وأدبر ، وأخبر في التوقيع أنه من كان بهذه المثابة وقامت به هذه الصفات في الحياة الدنيا أو بعضها ثم تاب إلى اللّه منها ، ومات على توبة من ذلك كله ، فإنه يلقى ربه وهو راض عنه ، فإن فسح له وأنسأ اللّه في أجله بعد توبته فعمل عملا صالحا بدّل اللّه سيئاته حسنات ، وغفر له جميع ما كان وقع منه قبل ذلك ، ولم يؤاخذه بشيء منه ، وما زالت التوقيعات الإلهية تنزل من اللّه على خلفائه بما يعدهم اللّه به من آمن باللّه ورسله من الخير ، وما توعد به لمن كفر به من الشر ، مدة إقامة ذلك الخليفة المنزل عليه وهو الرسول إلى حين موته ، فمن زمان خلافته إلى انتهاء مدة عمره لا تزال التوقيعات الإلهية تنزل عليه ، فإذا مات واستخلف من شاء بوحي من اللّه له في ذلك ، أو ترك الأمر شورى بين أصحابه ، فيولون من يجمعون عليه ، إلى أن يبعث اللّه من عنده رسولا ، فيقيم فيهم خليفة آخر ، إلا إذا كان خاتم الخلفاء فإن اللّه يقيم نوابا عنه ، فيكونون خلفاء الخليفة من عند اللّه ، لا أنهم


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الحمد الذي يليق باللّه ، فإن التنكير أعم ، أي أبين في العموم من الألف واللام ، وإن كان يقتضي استغراق أجناس الثناء ، فيقتضي أيضا التعريف والعهد ، فلا يختص بأحد الوجهين إلا بدليل ، ومن جملة ما يثنى عليه سبحانه به معرفة أسماء الثناء ، فإن الثناء لا يقع إلا بعد معرفة الأسماء 


ص 102


في منزلة الرسل خلفاء من عند اللّه ، وهم الأقطاب وأمراء المؤمنين إلى يوم القيامة ، فمن هؤلاء النواب من يكشف اللّه عنه الغطاء فيكون من أهل العين والشهود ، فيدعو إلى اللّه على بصيرة ، كما دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ولولا أن الزمان اقتضى أن لا يكون مشرع بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لكان هؤلاء مشرعين ، وإن لم يأتوا إلا بشرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فإنهم كانوا يكونون فيه كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في شرع من قبله إذا حكم به في أمته ، فهو بمنزلة الأول الذي كان قبله ، لا خليفة عنه في ذلك وإن قرره ، فلما منع اللّه ذلك في هذه الأمة ، علمنا أنهم خلفاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وإن دعوا إلى اللّه على بصيرة ، كما دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، كما ورد في القرآن العزيز عنه في قوله :« أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي »فالعبد إذا أقيم في خروجه من حضرة الحق إلى الخلق بطريق التحكم فيهم من حيث لا يشعرون ، وقد يشعرون في حق بعض الأشخاص من هذا النوع كالرسل عليهم السلام ، الذين جعلهم اللّه خلائف في الأرض ، يبلغون إليهم حكم اللّه فيهم ، وأخفى ذلك في الورثة فهم خلفاء من حيث لا يشعر بهم ، ولا يتمكن لهذا الخليفة المشعور به وغير المشعور به أن يقوم في الخلافة إلا بعد أن يحصل معاني حروف أوائل السور سور القرآن المعجمة .
مثل « ألف لام ميم » وغيرها الواردة في أوائل بعض سور القرآن ، فإذا أوقفه اللّه على حقائقها ومعانيها تعينت له الخلافة ، وكان أهلا للنيابة ، هذا في علمه بظاهر هذه الحروف ، وأما علمه بباطنها فعلى تلك المدرجة يرجع إلى الحق فيها ، فيقف على أسرارها ومعانيها من الاسم الباطن إلى أن يصل إلى غايتها ، فيحجب الحق ظهوره بطريق الخدمة في نفس الأمر ، فيرى مع هذا القرب الإلهي خلقا بلاحق ، كما يرى العامة بعضهم بعضا ، ولا يكون في الزمان إلا واحدا يسمى الغوث والقطب ، وهو الذي ينفرد الحق ويخلو به دون خلقه ، فإذا فارق هيكله المنور انفرد بشخص آخر لا ينفرد بشخصين في زمان واحد ، وذلك العبد عين اللّه في كل زمان ، لا ينظر الحق في زمانه إلا إليه.

[ لم كان الخليفة في الأرض ؟ ]
لم كان الخليفة في الأرض ؟
: لما كان الاختصاص الإلهي الكامل في الجمع بين السعادة والصورة ، كان الكمال للمؤمن بالخلافة في المكان الذي من شأنه أن يظهر فيه كمال الصورة ، من نفوذ الاقتدار عند الإغضاب ، وليست الجنة بمحل لهذه الصفة


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فإنها تدل على المسميات ، سواء كانوا حاضرين أو غير حاضرين ، فإن كانوا حاضرين فيغني الثناء بالإشارة ، وإن كانوا غير حاضرين ولا علم لهم بأسماء من غاب ويريدون الثناء على اللّه بهم ،


ص 103

فليست بدار خلافة بل هي دار ولاية ، ونشأة الدنيا على مزاج يقبل الغضب ولهذا قال :« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »ولم يقل في العالم - الوجه الثاني في قوله تعالى« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »ورد في الخبر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال 
[ أنا سيد ولد آدم ولا فخر ] وفي صحيح مسلم 
[ أنا سيد الناس يوم القيامة ] فثبتت له السيادة والشرف على أبناء جنسه من البشر ، 
وقال عليه السلام : « كنت نبيا وآدم بين الماء والطين » يريد على علم بذلك ، فأخبره اللّه تعالى بمرتبته وهو روح قبل إيجاده الأجسام الإنسانية ، كما أخذ الميثاق على بني آدم قبل إيجاد أجسامهم ، فكانت الأنبياء في العالم نوابه صلّى اللّه عليه وسلم ، من آدم إلى آخر الرسل عليهم السلام .
وقد أبان صلّى اللّه عليه وسلم عن هذا المقام بأمور : منها قوله صلّى اللّه عليه وسلم « واللّه لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني » .
وقوله في نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان إنه يؤمنا بسنة نبينا عليه السلام ، ولو كان محمد صلّى اللّه عليه وسلم قد بعث في زمان آدم لكانت الأنبياء وجميع الناس تحت شريعته إلى يوم القيامة حسا ، ولهذا لم يبعث عامة إلا هو خاصة ، فهو الملك والسيد وكل رسول سواه بعث إلى قوم مخصوصين ، فمن زمان آدم عليه السلام إلى زمان بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلم إلى يوم القيامة ملكه ، وتقدمه في الآخرة على جميع الرسل وسيادته فمنصوص على ذلك في الصحيح عنه ، فروحانيته صلّى اللّه عليه وسلم موجودة وروحانية كل نبي ورسول ، فكان الإمداد يأتي إليهم من تلك الروح الطاهرة بما يظهرون به من الشرائع والعلوم في زمان وجودهم رسلا ، فنسب كل شرع إلى من بعث به ، وهو في الحقيقة شرع محمد صلّى اللّه عليه وسلم وإن كان مفقود العين من حيث لا يعلم ذلك ، فهو صلّى اللّه عليه وسلم الحاكم غيبا وشهادة ، فبنو آدم سوقة وملك لهذا السيد محمد صلّى اللّه عليه وسلم وهو المقصود فهو ملك وسيد على جميع بني آدم ، وجميع من تقدمه كان ملكا له وتبعا ، والحاكمون فيه نوّاب عنه .
والملك عبارة عما مهد اللّه من آدم إلى زمان محمد صلّى اللّه عليه وسلم من الترتيبات في هذه النشأة الإنسانية بما ظهر من الأحكام الإلهية فيها ، فكانوا خلفاء الخليفة السيد ، وأول موجود ظهر من الأجسام الإنسانية كان آدم عليه السلام ، فكان آدم عليه السلام أول خليفة ونائب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقد ورد في الحديث


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لا يتمكن لهم ذلك لعدم معرفتهم بأسمائهم ، فقد نقص من عموم ذلك الحمد ما ادعوه ، فقال« إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ »والثناء كلام ، والكلام إنما هو بالأسماء والمسميات ، وقولهم« وَنُقَدِّسُ لَكَ


ص 104

المروي أن اللّه يقول : ( لولاك يا محمد ما خلقت سماء ولا أرضا ، ولا جنة ولا نارا ) فكان آدم أول خليفة عنه ثم ولد واتصل النسل ، وعين في كل زمان خلفاء ، إلى أن وصل زمان نشأة الجسم الطاهر محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فظهر مثل الشمس الباهرة ، فاندرج كل نور في نوره الساطع ، وغاب كل حكم في حكمه ، وانقادت جميع الشرائع إليه ، وظهرت سيادته التي كانت باطنة ، فإن الإنسان آخر موجود من أجناس العالم .
فإنه ما ثم إلا ستة أجناس وكل جنس تحته أنواع وتحت الأنواع أنواع :
فالجنس الأول الملك
والثاني الجان
والثالث المعدن
والرابع النبات
والخامس الحيوان ، وانتهى الملك واستوى
وكان الجنس السادس جنس الإنسان وهو الخليفة .
وإنما وجد آخرا ليكون إماما بالفعل حقيقة ، لا بالصلاحية والقوة ، فعند ما وجد عينه لم يوجد إلا واليا سلطانا ملحوظا ، فجعل الحق للرسول صلّى اللّه عليه وسلم نوابا ، حين تأخرت نشأة جسده ، فكان آدم عليه السلام أول نائب عنه صلّى اللّه عليه وسلم .
فقال تعالى :« وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »يحتمل أن يكون المراد بالخلافة أن يخلف من كان قبله فيها لما فقد ، فإن اللّه لما نفخ في آدم من روحه ، وأمر الملائكة بالسجود له ، فوقعت ساجدة عن الأمر الإلهي بذلك ، فجعله قبلة للملائكة .
وذلك قوله تعالى : ( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ )ثم عرفهم بخلافته في الأرض فلم يعرفوا عمن هو خليفة ، فربما ظنوا أنه خليفة في عمارتها عمن سلف ، ويحتمل أن تكون الخلافة أي النيابة عن الحق في أرضه ، وعليه الكلام وكان المقصود بقوله خليفة أي نائب الحق الظاهر بصورته .
لقول الملائكة :« أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ »وهذا لا يقع إلا ممن له حكم ، ولا حكم إلا لمن له مرتبة التقدم وإنفاذ الأمر ، فخلقه على صورته قال صلّى اللّه عليه وسلم : إن اللّه خلق آدم على صورته ، ولما كان عالم الخلق والتركيب يقتضي الشر لذاته ، لهذا قال عالم الأمر - الذي هو الخير الذي لا شر فيه - حين رأى خلق الإنسان وتركيبه من الطبائع المتنافرة ، والتنافر هو عين التنازع ، والنزاع أمر مؤد إلى الفساد قالوا :« أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ »


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يقولون ونقدس ذواتنا من أجلك ، فلا يقوم بنا جهل بك ، فيقال لهم : هل تعلمون أسماء هؤلاء ؟ فيقولون لا ، فيقال لهم : فلم لم تقدسوا ذواتكم من جهلكم بما ينسب إلينا من هذه


ص 105

فاعترضت الملائكة لنشأة آدم من الطبيعة ، لما تحمله الصورة من الأضداد ، ولا سيما وقد جعل آدم من العناصر ، فلم تشاهد الملائكة الأسماء الإلهية التي هي أحكام هذه الصورة ، وهي كون الحق سمعه وبصره وجميع قواه ، فلو شهدت ذلك ما اعترضت ، ولكنها اعترضت لما رأوا من تقابل طبائعه في نشأته ، فعلموا أن العجلة تسرع إليه ، وأن تقابل ما تركب منه جسده ينتج عنه نزاعا فيؤثر فسادا في الأرض وسفك دماء ، فقالت ما قالت ، من غير تعرض لمواقع الأحكام المشروعة.
وكذلك وقع مثل ما قالوه فإنهم رأوا الحق سبحانه يقول : ( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )
وقال :« وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ »فكرهوا ما كره اللّه ، وأحبوا ما أحب اللّه ، وجرى حكم اللّه في الخلق بما قدره العزيز العليم ، فما ظهر من عالم التركيب من الشرور فمن طبيعته التي ذكرتها الملائكة ، فإن الغالب على عالم الأرض سلطان الهوى ، وهو يورث الفساد ، فعلمت الملائكة ما يقع لعلمهم بالحقائق ، لأن المولد من الأضداد المتنافرة لا بد فيه من المنازعة ، ولا سيما المولد من الأركان ، وكذا وقع الأمر ، وإنما وقع الغلط عندهم في استعجالهم بهذا القول ، من قبل أن يعلموا حكمة اللّه في هذا الفعل ما هي ، وحملهم على ذلك الغيرة التي فطروا عليها في جناب اللّه . فما ذكرت الملائكة إلا مساوينا وما تعرضت للحسن من ذلك ، إلا لأن الملأ الأعلى تغلب عليه الغيرة على جناب اللّه أن يهتضم ، وعلمت من هذه النشأة العنصرية أنها لا بد أن تخالف ربها لما هي عليه من حقيقتها ، وذلك عندها بالذوق من ذاتها فإنها مخلوقة من عالم الطبيعة ، وإنما هي في نشأتنا أظهر ، فإن اعتراض الملائكة من حيث طبيعتهم وغيرتهم على الجناب الإلهي ، فبالذي وقع من الإنسان من الفساد وغيره مما يقتضيه عالم الطبع ، به بعينه وقع اعتراض الملائكة ، فرأوه في غيرهم ولم يروه في نفوسهم ، فإن الملائكة غلب عليها الطبع ، ولم ترد الخير إلا لنفسها ، وما وافقت الحق فيما أراد أن يظهره في الكون ، من جعل آدم خليفة في الأرض ، فعرفهم بذلك ، فلم يوافقوه ، لحكم الطبع في الطمع في أعلى المراتب ، وقامت لهم صورة الغيرة على جناب الحق ، والإيثار لعظمته ، وذهلوا عن تعظيمه ، إذ لو وقفوا مع ما ينبغي له من العظمة لوافقوه ؛ وما وافقوه ، وإن كانوا قصدوا الخير ، فقالوا :« وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الأسماء ؟
فقالوا( سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا )فرجعوا إلى العجز وطلب العلم ، ولهذا


ص 106

وَنُقَدِّسُ لَكَ »تعني ذواتها وقولها :« لَكَ »أي من أجلك ، وكونهم ذوات مقدسة لذاتها أنها لم تلتفت قط إلى غير الاسم الإلهي الذي عنه تكونت ، فلم يطرأ عليها حجاب يحجبها عن إلهها ، فتتصف لذلك الحجاب بأنها غير مقدسة.
ولذلك قال تعالى في الملائكة : ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ )ولا يكون ذلك إلا من ذاته مقدسة بالشهود الدائم ، فقولها يعني نحن أولى من هذا ، فرجحوا نظرهم على علم اللّه في خلقه ، لذلك قال لهم :« إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ »فوصفهم بنفي العلم ، الذي علم الحق من هذا الخليفة مما لم يعلموا ، وأثنوا على أنفسهم ، فمسألتهم جمعت ذلك حيث أثنوا على أنفسهم ، وعدلوها ، وجرحوا غيرهم ، وما ردوا العلم في ذلك إلى اللّه ، وهذا يؤيد أن الملائكة تحت حكم الطبيعة ، وأن لها أثرا فيهم وفي ذلك نقول:


[ شعر في اعتراض الملائكة ]
فعجبت منهم كيف قال جميعهم  .... بفساد والدنا وسفك دماء !
إذ كان يحجبهم بظلمة طينه  .... عما حوته من سنا الأسماء
وبدا بنور ليس فيه غيره   .... لكنهم فيه من الشهداء
أن كان والدنا محلا جامعا   .... للأولياء معا وللأعداء
ورأى المويهة والنويرة جاءتا   .... كرها بغير هوى وغير صفاء
فبنفس ما قامت به أضداده   .... حكموا عليه بغلظة وبذاء
وأتى يقول أنا المسبح والذي   .... ما زال يحمدكم صباح مساء
وأنا المقدس ذات نور جلالكم   .... وأتوا في حق أبي بكل جفاء
لما رأوا جهة الشمال ولم يروا   .... منه يمين القبضة البيضاء
ورأوا نفوسهم عبيدا خشعا   .... ورأوه ربا طالب استيلاء
لحقيقة جمعت له أسماء من   .... خص الحبيب بليلة الإسراء
ورأوا منازعة اللعين بجنده   .... يرنو إليه بمقلة البغضاء
وبذات والدنا منافق ذاته   .... حظ العصاة وشهوتا حواء
علموا بأن الحرب حتما واقع   ....[/size
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "32 - 40" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 20, 2019 12:28 pm

تفسير آلآيات من "32 - 40" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 32
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 32 )
« قالُوا »أي قالت الملائكة :« سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا »فمن علمهم باللّه أنهم ما أضافوا التعليم إلا إليه تعالى« إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ »بما لا يعلم« الْحَكِيمُ »بترتيب الأشياء مراتبها ، فأعطيت هذا الخليفة ما لم تعطنا مما غاب عنا . والأسماء الإلهية منها ما كانت الملائكة تعلمه ، وما اختص آدم إلا بالكل ، وما عرض من المسميات إلا ما كانت الملائكة تجهله ، وما صحت الخلافة للعبد الإنسان الكامل إلا بقبوله لجميع الأسماء الإلهية التي بأيدينا ، وبها صحت الخلافة ، وفضل على الملائكة ، فالخليفة إن لم يظهر فيمن هو خليفة عليه بأحكام من استخلفه وصورته في التصرف فيه وإلا فما هو خليفة له ، واستخلاف الرب عبده خلافة مقيدة بحسب ما تعطيه ذاته ونشأته ، بعكس استخلاف العبد ربه لما اتخذه وكيلا ، فهي خلافة مطلقة ووكالة مفوضة . 

سورة البقرة ( 2 ) : آية 33   
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 33 )
اعلم أن للأسماء أنوارا تظهر مسمياتها حقا وخلقا ، وهذه الأنوار كانت لآدم عليه السلام


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أن المعروض هو المسميات ، بقوله تعالى« أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ"    ( 33 ) " قالُوا " قالت الملائكة« سُبْحانَكَ »أي أنت المنزه أن تتصف بجهل شيء من المعلومات بمثل ما اتصفنا« لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ »بكل شيء« الْحَكِيمُ »أي المرتب للأشياء على ما ينبغي لها أن تكون ، ومنها جعلك هذا الإنسان خليفة في الأرض ، ولولا قرائن الأحوال لكان قولهم( أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها )استعلاما من الحق عن ذلك لا على جهة الإنكار والاعتراض ، ولهذا عدلنا به إلى غلبة الغيرة عليهم ، بما علموه من مخالفتهم لأوامر اللّه ، وقد أرى اللّه الملائكة سفك الدماء في ذات اللّه ، والفساد في مرضاة اللّه ، وأنزلهم يوم بدر مقاتلين فقاتلوا ، فوقع منهم ما ذكروه مما يقع من الإنسان من سفك الدماء ، وفساد الأعيان عن ترتيب ما كانت عليه بطريق مقرب إلى اللّه تعالى ، فصدّقهم اللّه في الواقع لأنهم أهل علم وكشف ، وغيّب عنهم كون ذلك يقع قربة إلى اللّه ( 34 )« قالَ

ص 113


حين علم جميع الأسماء بالوضع الإلهي لا بالاصطلاح ، وفي ذلك تكون الفضيلة والاختصاص ، فإن للّه أسماء أوجد بها الملائكة وجميع العالم ، وللّه أسماء أوجد بها جامع حقائق الحضرة الإلهية وهو الإنسان الكامل ، ظهر ذلك بالنص في آدم ، وخفي في غيره فقال تعالى للملائكة في فضل آدم وفي فضل هذا المقام وقد أحضر الملائكة المسميات أعني أعيانهم :« أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »أي بالأسماء الإلهية التي صدروا عنها .
فلم يعلموا ذلك فقال اللّه :« يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ »أي بأسماء هؤلاء الذين عرضناهم عليهم ، وهي الأسماء الإلهية التي أوجدتهم واستندوا إليها في إيجاد أعيانهم ، لا أسماء الاصطلاح الوضعي الكوني فإنه لا فائدة فيه ، فأنبأ آدم الملائكة بأسماء تلك التجليات فكان هؤلاء المسمون المعروضة على الملائكة تجليات إلهية في صورة ما في آدم من الحقائق ، وجعل اللّه تعالى آدم أستاذا للملائكة فعلمهم الأسماء كلها ، فلما علمهم آدم عليه السلام وهو قوله تعالى :« فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ »« قالَ »أي قال لهم اللّه« أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ »وهو ما علا من علم الغيوب« وَالْأَرْضِ »وهو ما في الطبيعة من الأسرار« وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ »أي ما هو من الأمور ظاهر« وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »أي ما تخفونه على أنه باطن مستور . واعلم أنه مع أنه ليس فوق مرتبة الإنسان مرتبة إلا مرتبة الملك في المخلوقات ، وقد تلمذت الملائكة له حين علمهم الأسماء ، فلا يدل هذا على أنه خير من الملك ، ولكنه يدل على أنه أكمل نشأة من الملك.

سورة البقرة ( 2 ) : آية 34
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ( 34 )
ثم قال تعالى للملائكة بعد التعليم :« اسْجُدُوا لِآدَمَ »سجود المتعلمين للمعلم من أجل


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ » يقول أعلمهم « بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ »أعلمهم بأسمائهم« قالَ »اللّه للملائكة« أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »لكلام قد تقدم له سبحانه مع ملائكته لم يذكره لنا ، ثم قال« وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ »يقول ما تظهرون« وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »يقول ما هو
ص 114


ما علمهم ، فلآدم هنا لام العلة والسبب أي من أجل آدم ، فالسجود للّه من أجل آدم سجود شكر لما علمهم اللّه من العلم به ، وبما خلقه في آدم عليه السلام ، فعلموا ما لم يكونوا يعلمون فأمر اللّه سبحانه للملائكة بالسجود لمعلمهم سجود أمر - كسجود الناس إلى الكعبة - وتشريف ، لا سجود عبادة ، نعوذ باللّه فيكون في هذا العالم الإنساني ثمرة السجود ، لا نفس السجود ، وإنما هو التواضع والخضوع والإقرار بالسبق والفخر والشرف والتقدم له ، كتواضع التلميذ لمعلمه . فنال آدم عليه السلام التقدمة عليهم بكونه علمهم ، فهو أستاذهم في هذه المسألة ، وبعده فما ظهرت هذه الحقيقة في أحد من البشر إلا في محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال عن نفسه : إنه أوتي جوامع الكلم ، وهو قوله تعالى في حق آدم عليه السلام« الْأَسْماءَ كُلَّها »وكلها بمنزلة الجوامع ، والكلم بمنزلة الأسماء ، فنال التقدمة بها وبالصورة التي خلقه اللّه عليها ، عند ذلك علمت الملائكة أن آدم عليه السلام خليفة اللّه في أرضه ، لا خليفة عن سلف ، ثم ما زال يتلقاها كامل عن كامل حتى انتهت إلى السيد الأكبر المشهود له بالكمال محمد صلّى اللّه عليه وسلم الذي عرف بنبوته وآدم بين الماء والطين ، وأوتي صلّى اللّه عليه وسلم جوامع الكلم ، كما أوتي آدم جميع الأسماء ، ثم علمه اللّه الأسماء التي علمها آدم ، فعلم علم الأولين والآخرين ، فكان محمد صلّى اللّه عليه وسلم أعظم خليفة وأكبر إمام .« فَسَجَدُوا »ولم يزل حكم السجود فيهم لآدم وللكامل من أبنائه أبدا دائما ، فإن الملأ الأعلى عنده ازدحام لرؤية الإنسان


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
مكتوم فيكم مما لا تعلمونه أنتم ، وما هو مكتوم عندكم بعضكم من بعض ، وهو قوله( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى )فالسر ما بين العبد والحق ، والأخفى ما يعلمه سبحانه من العبد ولا يعلمه العبد من نفسه أنه يكون فيه ، ثم أعلم سبحانه نبيه فقال أيضا ( 35 )« وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ »الآية ، تقدم قبل هذا أن ضمير الجماعة في جانب الحق يعود على الأسماء من جهة ما تطلبه الحقائق في تلك القصة ، فقد أنعم على آدم بأشياء متعددة ، بإيجاد عينه ، وبما علّمه من العلم ، مع أنه لا يقوى في تصفية نشأته تصفية الملائكة ، فإنهم مخلوقون من نور ، وآدم مخلوق من حمأ مسنون ومن صلصال ، ثم نفخ فيه روحا ملكيا في مثل هذه النشأة الترابية ، وخلقها بيديه ، وهذه كلها أسباب أسماء مختلفة النسب ، فكل اسم له نسبة أثر في آدم ، له أن يقول أنا ، فإذا اجتمعت الأسماء صدق القائل أن يقول« قُلْنا »فقال« وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ »فأحدث لهم حرمة بالسجود للّه سبحانه من أجل خلق آدم ، وما أنعم به عليه ، حيث أبدى لهم في وجوده من العلم
ص 115



الخليفة ، وأمروا بالسجود فطأطئوا عن أمر اللّه ، ناظرين إلى مكان هذا الخليفة حتى يكون السجود له ، لأن اللّه أمرهم بالسجود له ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : أطت السماء بعمارها وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك ساجد للّه ، واستصحاب سجود الملائكة للإمام دنيا وآخرة ونقول في الملائكة :قدّسهمو أن يجهلوا حق من * قد سخر اللّه له العالمين كيف لهم وعلمهم أنني * ابن الذي قد خروا له ساجدينواعترفوا بعد اعتراض علي * والدنا بكونهم جاهلين وأبلس الشخص الذي قد أبى * وكان للفضل من الجاحدينقدّسهمو قدّسهمو أنهم * قد عصموا من خطأ المخطئين.

كيف توجه الخطاب على إبليس وهو ليس من صنف الملائكة ؟
والسؤال هنا : كيف توجه الخطاب على إبليس وهو ليس من صنف الملائكة ؟ فقال تعالى :« إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ » .فنقول إن معنى الملائكة : الرسل وهو من المقلوب ، وأصله مألكة ، والألوكة الرسالة والمألكة الرسالة ، فما تختص بجنس دون جنس ، فالرسالة جنس حكم يعم الأرواح الكرام البررة السفرة ، والجن ، والإنس ، فمن كل صنف من أرسل ، ومنه من لم يرسل ، ولهذا دخل إبليس في الخطاب بالأمر بالسجود لما قال اللّه للملائكة :« اسْجُدُوا »لأنه ممن كان يستعمل في الرسالة ، فهو رسول ، فأمره اللّه فأبى واستكبر فكان ذلك سببا لبعده عن القرب الإلهي ، فصح الاستثناء وجعله منصوبا بالاستثناء المنقطع ، فقطعه عن الملائكة كما قطعه عنهم في خلقه من نار ، ولكنه تعالى شرّك بينهم في


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بالأسماء ما لم يكونوا يعلمون ، والسجود للّه ، وجرت العادة في الملوك إذا أنعموا على شخص بحضور خاصته ، أن يخدموه بما جرت العادة أن يخدموه به ، ولا سيما إذا عاد عليهم من ذلك الشخص منفعة من جانب الملك لهم بسببه ، فتكون تلك الخدمة من أجل ذلك الشخص للملك« فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ »وأبى إبليس واستكبر حسدا وظلما وعلوا للجنسية ، فإنه رأى نفسه مخلوقا مثله من الطبائع الأربع ، ورأى أن العنصر الذي غلب عليه أشرف من العنصر الذي غلب على نشأة الإنسان ، فهذا استكباره ، وأما إبايته فقد نبهنا أن النارية تقتضي له ذلك ، ويكون الاستثناء متصلا بوجه ، ومنقطعا بوجه ، فمن راعى نشأته وجنسه ، قال : إنه استثناء منقطع ، ومن رأى أنه في الملائكة كالمستهلك فيهم لكثرتهم ، واتصاله بهم في جماعتهم في عباداتهم
ص 116


الرسالة ، فكأنه تعالى يقول :« إِلَّا إِبْلِيسَ »إلا من أبعده اللّه من المأمورين بالسجود« أَبى وَاسْتَكْبَرَ »وقال :« أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » *ثم قال تعالى :« وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ »فطمع إبليس في الرحمة التي وسعت كل شيء ، وطمعه فيها من عين المنة لإطلاقها ، لأنه علم في نفسه أنه موحد ، وسماه اللّه كافرا فقال :« وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ »ولم يقل من المشركين لأنه يخاف اللّه رب العالمين ويعلم أن اللّه واحد ، وقد علم مآل الموحدين إلى أين يصير ، سواء كان توحيدا عن إيمان أو عن نظر من غير إيمان ، وعلم أن جهنم لا تقبل خلود أهل التوحيد وإنما سماه اللّه كافرا لأنه يستر عن العباد طرق سعادتهم التي جاء بها الشرع في حق كل إنسان .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 35  
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 35 )
سمي آدم بآدم لحكم ظاهره عليه فإنه ما عرف منه سوى ظاهره ، فلا يعرف مخلوق من الإنسان سوى ظاهره ، وأما باطنه فمجهول . ومن هذه الآيات نعلم أن أول أمر ظهر في العالم الطبيعي هو قول اللّه تعالى لإبليس : اسجد لآدم ، فظهر الأمر فيه ، وأول نهي قوله تعالى لآدم وحواء :« لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ »فظهر النهي فيهما ، وقوله تعالى :« هذِهِ الشَّجَرَةَ »


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ومشاركته لهم فيها ، جعله استثناء متصلا ، ودل على أنه كان مأمورا بالسجود قوله تعالى« أَبى »ولا يقع الامتناع إلا بعد توجه تكليف ، وقد يجوز أن يكون السجود سجود تحية ، كسجود أبوي يوسف وإخوته له ، والأول أوجه ، يعضد ما قلناه الحديث الصحيح ، قال عليه السلام :
لو أذن لأحد أن يسجد لأحد ، لأذنت للمرأة أن تسجد لزوجها ، وأما سجود التحية فغير منكور فيمن تقدم ، وهو من فعل الأعاجم ، وهو هذا الانحناء الذي يكون منهم عند التقاء بعضهم بعضا ، وكون السجود مكروها لغير اللّه أو محرما هو أمر مشروع ليس لذاته بخلاف العبودية فإنه ممتنع بذاته أن يكون عبدا لغير اللّه حقيقة« وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ »هنا أي من الفاسقين الخارجين عن أمر اللّه بدليل قوله( كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ )فسماه كافرا ، ثم قال ( 36 )« وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ »الآية ، قال يا آدم اسكن« أَنْتَ وَزَوْجُكَ »يعني حواء ،« الْجَنَّةَ »أي اتخذها مسكنا
ص 117


بحرف الإشارة تعيين لشجرة معينة ، فتقدم الأمر لآدم عليه السلام بسكنى الجنة والأكل منها حيث شاء ، ثم نهاه عن قرب شجرة مشار إليها أن يقربها ، فوقع التحجير والنهي في قوله حيث شئتما لا في الأكل ، فما حجر عليه الأكل وإنما حجر عليه القرب منها الذي كان أطلقه في حيث شئتما ، فما أكلا منها حتى قربا ، فتناولا منها ، فأخذا بالقرب ، لا بالأكل ، فالتكليف مقسم بين : أمر ونهي ، وهما محمولان على الوجوب حتى تخرجهما عن مقام الوجوب قرينة حال - وإن كان مذهبنا فيهما التوقيف - فتعين امتثال الأمر والنهي فإن قلت : كيف اقتحم النهي على المعصية ؟ قلنا : لظهور هذه الحكمة ، وهي الخلافة في الأرض وتمييز القبضتين ، لذلك لم يكن النجم ، وكان الشجر ، لوجود الخلاف الذي ظهر ، فالشجر من التشاجر والخلاف .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ومنزلا ، وعطف زوجك على أنت ، وإنما تعريف الجنة بالألف واللام فيمكن أن يريد جميع الجنات ، ويمكن أن يكون جنة معينة ، وعلى أي وجه كانت فهو يتبوأ منها حيث يشاء ، أي يسكن منها حيث شاء ،« وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما »وحيث شئتما معمول لاسكن ، يقول : اسكن أنت وزوجك الجنة حيث شئتما منها ، وكلا رغدا أي اتسعا في عيشكما ، لأن الرغد هو الاتساع في العيش ، وهذا أوجه من أن يكون العامل في الظرف« كُلا »ومنها قد يكون متعلقا بكلا ، وقد يكون بقوله اسكن ، وأما في الأعراف فقد بيّن هنالك أن قوله فكلا هو العامل في قوله( مِنْ حَيْثُ شِئْتُما )والجمع بين الآيتين إن كانت القصة واحدة ، أن المعنى اسكن من الجنة حيث شئت ، وكلا من حيث شئتما من ثمرها ، وهو معنى قوله في الزمر( نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ )فرفع التحجير ، ثم قال« وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ »عيّنتها الإشارة ، والأظهر تعيين واحدة من الجنس ، ودون هذا تعيين الجنس ، وما ذكر اللّه تعالى أية شجرة هي ، ولا صحّ عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، ومثل هذا لا يدرك بالاجتهاد ، لكني أشير إلى اللفظ بهذا الاسم ، وذلك أن الشجرة مشتقة من التشاجر ، لتداخل أغصانها بعضها على بعض ، كالمتشاجرين يدخل كلام بعضهم في كلام بعضهم بالمخالفة والمنازعة ، وربما أنه ما في الجنة شجرة على هذه الصفة إلا هذه ، وسائر شجر الجنة لا تدخل أغصانها بعضها على بعض ، ولذلك ما ذكر اللّه تعالى في القرآن إلا ثمرات الجنة ، فإنه جعلها منزل موافقة ، فقد يكون أغصانها تخرج على الاعتدال والاستقامة ، وذكر ذلك في النار فقال( إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ )وقال( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ )فإن جهنم دار نزاع وتشاجر ، قال تعالى( إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ )فوصفهم بالمخاصمة وهي المشاجرة ، ومنها ( قالت أولاهم
ص 118

سورة البقرة ( 2 ) : آية 36   
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ( 36 )
أضيف الزلل إلى الشيطان ، وقد علم أنه ليس له على ذلك سلطان ، لأن اللّه جعله في الشاهد صفة نقص ، ودليل خسران ، تنزه الجناب العالي أن يضاف إليه ، أو إلى من شهد له بالكمال كالأنبياء صلوات اللّه عليهم . شرك اللّه بين إبليس وآدم وحواء من ضمير واحد ، وهو كان أشد العقوبة على آدم ، فقيل لهم :« اهْبِطُوا »بضمير الجماعة فكانت العقوبة في حق آدم في جمعه مع إبليس من الضمير ، حيث خاطبهم الحق بالهبوط ، بالكلام الذي يليق بجلاله ، ولكن لا بد أن يكون في الكلام الصفة التي يقتضيها لفظ الضمير ، فإن صورة اللفظ يطلب المعنى الخاص ، ولم يكن الهبوط عقوبة لآدم وحواء ، وإنما كان عقوبة لإبليس ، فإن آدم أهبط لصدق الوعد ، بأن يجعل في الأرض خليفة ، بعد ما تاب عليه واجتباه ، وتلقي الكلمات من ربه تصديقا لما قاله تعالى للملائكة :« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » ،وأهبطت حواء للنسل ، وأهبط إبليس للإغواء ، ليحور عليه جميع ما يغوي به بني آدم .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لأخراهم ) ( وقالت أخراهم لأولاهم ) ( وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا ) ( وقال الذين استكبروا للذين استضعفوا ) ولم يقل شيء من هذا في أهل الجنة ، فكأنه سبحانه أشار لهما بالشجرة النهي عن مخالفته فيما نهاهما عنه وموافقته ، تنبيها لهما على ذلك ، وأخبرهما أنهما إن خالفا أمره سبحانه كانا من الظالمين ، فقال« فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ »لأنفسهما حيث عرضا بأنفسهما للعقوبة ، وهذا يدلك على أن لنفسك عليك حقا ، وكذا قالا( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا )وكان غرضنا أن نجمع في هذه السورة ذكر قصص آدم كلها في سائر السور ، وهكذا كل قصة تكرر ، ثم أني رأيت من الأدب أن اللّه فرّقها في السور لحكمة علمها ، فينبغي لنا أن نذكر الترجمة عنها في المواضع التي ذكرها الحق من سور القرآن ، حتى لا أحدث شيئا ، والاتباع أولى بأهل السعادة من الابتداع ، فنقول قال تعالى ( 37 )« فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها »الآية ، لما كان متعلق النهي القرب لا الأكل ، لذلك عدل إبليس إلى الأكل ، ولم يقل لهما اقربا منها ، فيتذكران نهي اللّه عن القرب ، وعلم أنهما لا يقطعان منها ثمرة حتى يقربا ، وهذا من علمه بمواقع
ص 119


وصية - قال اللّه تعالى لإبراهيم الخليل عليه السلام ،
[ معصية الحبيب على الحبيب شديدة ]
يا إبراهيم ما هذا الوجل الشديد الذي أراه منك ؟ فقال له إبراهيم : يا رب كيف لا أوجل ولا أكون على علىوجل ، وآدم أبي كان محله من القرب منك ، خلقته بيديك ، ونفخت فيه من روحك ، وأمرت الملائكة بالسجود له ، فبمعصية واحدة أخرجته من جوارك ، فأوحى إليه : يا إبراهيم أما علمت أن معصية الحبيب على الحبيب شديدة ؟


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الشرور ، وكانت الشجرة المنهي قربها كان ذلك سببا لوسوسة إبليس ، فضمير« عَنْها »يعود على الشجرة ، أي عنها صدرت الوسوسة من إبليس لعنه اللّه ، كما سيأتي ( أن حب الخير ) لسليمان عن ذكر ربه ، أي صدر ذلك الحب من سليمان عن ذكر ربه ، ولذلك مسح بسوقها وأعناقها فرحا بها ، وسيأتي ذلك في سورة ص ، فقوله تعالى« فَأَزَلَّهُمَا »أي ذهب بهما ، وأزالهما انتزعهما ، والمعنى متقارب« فَأَخْرَجَهُما »يعني حواء وآدم« مِمَّا كانا فِيهِ »من النعيم والكرامة لسعادتهما وشقاوته« وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ »الضمير يعود على آدم وحواء وإبليس ، وجمع بينهم في ضمير واحد لاشتراكهم في المخالفة ، فإن إبليس خالف الأمر ، وآدم وحواء خالفا النهي ، وقد انحصر التكليف الذي يوجب الوعد والوعيد فعله أو تركه بينهما ، واشتركوا في الهبوط ، غير أن آدم هبط إلى الأرض للخلافة كما تقدم لا عقوبة ، فإن المؤاخذة وقعت بظهور السوآت لهما ، وهبطت حواء لأنها محل الولادة للتناسل ، وأهبط إبليس عقوبة ، لأنه لا يعود إليها وأن مصيره إلى دار الشقاء ، وإن اشتركوا في الهبوط ولكن المقاصد مختلفة ، وقوله( جَمِيعاً )تأكيد ، لم يتأخر بعضهم عن بعض ، ولم نستوف تمام القصة هنا لأن اللّه تعالى ما استوفاها هنا ، ويقع الاستيفاء لها بالوقوف على تكرار ذكرها في كل سورة إن شاء اللّه تعالى ، وقوله« بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ »أي يعدو بعضكم على بعض ، فيعدو الشيطان على بني آدم بتزيين مخالفة أوامر اللّه ونواهيه ، ويعدو بنو آدم على الشيطان بأن يردوا وسوسته في نحره وكلامه في وجهه ويمتثلون أمر اللّه ( ويجتنبون ) نواهيه ، فيغيظه ذلك ، فهذه عداوة بني آدم لإبليس ، وأما الذين يسمعون منه فهم أولياؤه وأحباؤه ورفقاؤه في النار ، فالمؤمنون كلهم أعداؤه ، وما عدا المؤمنين كلهم أولياؤه ، فالمخالفات الصادرة من المؤمنين غير مؤثرة في إيمانهم ، لأنهم ليسوا على يقين من مؤاخذة اللّه بها ، فإن اللّه قال( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً )ولو دخل المؤمن النار في الآخرة فكما يمرض في الدنيا ويتألم حسا ومعنى ، ومقره ومآله السعادة الأبدية في النعيم الدائم ، وليس مقصود إبليس هذه المخالفات الواقعة من المؤمنين ، وإنما مقصوده الإشراك باللّه ، وكل ما يؤديهم
ص120


سورة البقرة ( 2 ) : آية 37   
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 37 )
وهذه الكلمات هي قوله« رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ »« فَتابَ عَلَيْهِ »بكله وذريته فيه فأسعد اللّه الكل ، فله النعيم في أي دار كان منهم ما كان ، بعد عقوبة وآلام ، تقوم بهم دنيا وآخرة« إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ »إذا اتفق أن يؤاخذ التائب فما يأخذه إلا الحكيم لا غير من الأسماء ، فإذا لم يؤاخذ فإنما يكون الحكم فيه للرحيم ، فإن اللّه تواب رحيم بطائفة وتواب حكيم بطائفة ، فوصف الحق نفسه بأنه التواب الرحيم ، أي الذي يرجع على عباده في كل مخالفة بالرحمة له ، فيرزقه الندم عليها ، فيتوب العبد بتوبة اللّه عليه لقوله« ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ».
إشارة - تاب الحق على آدم بتلقيه الكلمات العلية ، لأنه تلقاها من حضرة الربوبية ، حضرة الإصلاح .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
إلى الخلود معه في الشقاء في دار البوار ، فأهل النار الذين هم أهلها هم أولياء الشيطان ، ولهذا سماهم اللّه شياطين الإنس والجن ، وقال( مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ )وقوله تعالى« وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ »يقول إقامة وقرار« وَمَتاعٌ »يقول :
استمتاع ، وهو كل ما يستمتع به من أكل وشرب ولباس ونعيم« إِلى حِينٍ »يقول : إلى حلول آجالكم ، يقول : مدة أعماركم ، فإن القبر أول منزل من منازل الآخرة ، ثم قال ( 38 )« فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ »الآية ، قرئ برفع آدم ونصب كلمات وبالعكس ، أي من تلقاك فقد تلقيته ، فإن الملاقاة فعل فاعلين ، والأولى بمنصب آدم أن تكون الكلمات تستقبله لوجهين ، الوجه الواحد التعريف بعناية اللّه به حيث أعطاه ما أداه استعماله إلى إعادة السعادة إليه ، والوجه الثاني التعليم ، لأنه ليس له أن يدعوه بنية التقريب والقربة إلا بوحي منزل عليه ، فإذا رفعت آدم فمن حيث أنه استقبل الكلمات حين استقبلته من عند اللّه ، ويحتمل عدم ذكر واسطة الملك أنه سبحانه أوحى اللّه بها منه إليه بلا واسطة ، تشريفا له وتعريفا بالحال ، أن الوصلة بيني وبينك ما انقطعت بمخالفتك نهيي ، والأظهر في ماهية الكلمات أنها المذكورة في سورة الأعراف( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ )فلما قال آدم الكلمات التي تلقاها من ربه أخبره تعالى أنه تاب عليه« فَتابَ عَلَيْهِ »أي رجع عليه بالسعادة بأن مآله بعد موته إلى الجنة في جوار الرحمن« إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ »الرجّاع بالرحمة على عباده ، وهو الذي يكثر منه الرجوع في
ص 121


سورة البقرة ( 2 ) : آية 38  
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 38 )
قال تعالى :« اهْبِطُوا »فجمع ولم يثن ولا أفرد ، فأهبط آدم وحواء وإبليس ، فنزل آدم من الجنة إلى أصله الذي خلق منه ، فإنه مخلوق من التراب ، فأهبطه اللّه للخلافة ، لقوله تعالى :« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »فما أهبط عقوبة لما وقع منه ، وإنما جاء الهبوط عقيب ما وقع منه ، لأنه لما كانت نشأة الإنسان ظهرت في الجنان أولا اتفق هبوطها إلى الأرض من أجل الخلافة لا عقوبة المعصية ، فإن العقوبة حصلت بظهور السوآت ، والاجتباء والتوبة قد حصلا بتلقي الكلمات الإلهية ، فلم يبق النزول إلا للخلافة ، فكان هبوط تشريف وتكريم ، ليرجع إلى الآخرة بالجم الغفير من أولاده السعداء ، من الرسل والأنبياء ، والأولياء والمؤمنين ، فكان هبوط آدم هبوط ولاية واستخلاف ، لا هبوط طرد ، فهو هبوط مكان ، لا هبوط رتبة ، وأهبط الحق تعالى حواء للتناسل ، وأهبط إبليس عقوبة لا رجوعا إلى أصله ، فإنها ليست داره ولا خلق منها ، فسأل اللّه الإغواء أن يدوم له في ذرية آدم ، لما عاقبه اللّه بما يكرهه من إنزاله إلى الأرض ، وكان سبب ذلك في الأصل وجود آدم ، لأنه بوجوده وقع الأمر بالسجود ، وظهر ما ظهر من إبليس ، وكان من الأمر ما كان .« فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »من قامت قيامته في حياته الدنيا ، واستعجل حسابه ، يأتي يوم القيامة آمنا لا خوف عليه ولا يحزن ، لا في الحال


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
مقابلة كل مخالفة تقع من العبد ، لأن كل مخالفة خروج ، فإذا عاد بالاستغفار وطلب الرحمة من اللّه عند كل ذنب ، عاد الحق إليه بالرحمة والمغفرة ، فلذلك جاء ببنية المبالغة في التواب ، ( 39 ) قوله« قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً »الآية ، كرر ذكر الهبوط ، لأنه فصل بين الهبوط المذكور أولا وبين ما أهبط له من إتيان الهدى بالكلام الذي قد تقدم من العداوة والاستقرار والتمتع ، فطالت القصة وبعد الذي أهبط له منه ، فكرر الهبوط ، وليدل أيضا على الفصاحة والإعجاز حيث زاد الكلام تكراره جمالا وبلاغا ، تعرف ذلك فصحاء الأعراب لا نحن ، فقال تعالى« فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً »هذا شرط ، وجوابه الشرط الثاني وجوابه وهو قوله
ص 122


ولا في المستقبل ، ولهذا أتى سبحانه بفعل الحال في قوله :« وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »فإن هذا الفعل يرفع الحزن في الحال والاستقبال ، بخلاف الفعل الماضي والمخلص للاستقبال بالسين أو سوف 

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 39 إلى 40
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ( 39 ) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( 40 )
« فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ »فالفاء جواب الشرط الأول ، وقوله« فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ »فالفاء جواب الشرط الثاني الذي هو من ، فمعنى الكلام اهبطوا فإن جاءكم مني هدى واتبعتموه فلا خوف عليكم ، والفاء في إما جواب الأمر ، وجاء بلفظة الشك مع تحقق إتيان الهدى عند اللّه ، لكن في نفس الأمر هو من الممكنات ، فيستوي بالنظر إليه الطرفان ، وجود الإتيان وعدمه ، وتارة يرد الخطاب بما هو الكائن في علم اللّه ، وتارة يرد الخطاب بما هو الأمر عليه في نفسه ، فيؤذن بأن ذلك الإتيان ليس بواجب على اللّه ، إذ لا يجب عليه شيء ، كما يقوله مخالفو أهل الحق ، مع أنّا لا ننكر أن يوجب على نفسه ، فمن جملة الهدى الذي جاء من عند اللّه تلقي الكلمات ، ولذلك الهبوط الثاني هو الهبوط الأول عينه ، ثم قال« فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ »أي من اتبع ما شرعت له على حد ما شرعت له ، ارتفع عنه خوف العذاب ولم يحزن« وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »ولم يذكر الجنة ولا الخلود كما ذكر فيمن كفر وكذب بآياته ، لأن أهل السعادة على قسمين ، قسم يعملون لما يقتضيه حق الربوبية وهم الأعلون ، وقسم يعملون لأجل الجنة وهم دونهم ، ولهؤلاء خوف الحجاب ، ولهؤلاء خوف فقد النعيم وحزنه فذكر ارتفاع الخوف والحزن لكونه يعم الطائفتين ولم يذكر الجنة ، لئلا ييأس الأعلون من الطائفتين ، فتهمم الحقق بهم إذ كانوا الطبقة العليا ، والهدى هنا ما بينه لهم في التعريف المنزل المشروع لهم ، ثم قال ( 40 )« وَالَّذِينَ كَفَرُوا »أي ستروا ، على ما تقدم في أول السورة في قوله( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )وقوله« وَكَذَّبُوا »يريد المعاندين وغير المعاندين« بِآياتِنا »أي بالعلامات التي جعلناها ونصبناها أدلة على القربة إلينا ومعرفتنا ( وفي كل شيء له آية : تدل على أنه واحد ) غير أن الآيات على قسمين : معتادة وغير معتادة ، فأرباب الفكر والمستبصرون
ص 123



" وَأَوْفُوا بِعَهْدِي »أوفوا بما عاهدتكم عليه في الدنيا في موطن التكليف« أُوفِ بِعَهْدِكُمْ »في الدارين معا ، دنيا وآخرة وأدخلكم الجنة ، وهو حق عرضي لا ذاتي ، لأنه حق على اللّه أوجبه على نفسه لمن وفي بعهده ، ومن لم يف فليس له عند اللّه عهد ، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ، وأدخلنا تحت العهد إعلاما بأنا جحدنا عبوديتنا له ، إذ لو كنا عبيدا


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الموفقون هي عندهم سواء ، يتخذونها أدلة ، وما عدا هؤلاء فلا ينظرون إلا في الآيات غير المعتادة ، فيحصل لهم استشعار الخوف ، فيردهم ذلك القدر إلى اللّه ، قال تعالى( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ )ثم إن الذين يتخذون غير المعتادة آية ، منهم من يخلصها دليلا على اللّه ، ومنهم من يشرك( وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ )لمعرفتهم بالأسباب المولدة لتلك الآيات ، كالزلازل والكسوفات وما يحدث من الآثار العلوية ، واللّه ينور أبصارنا ويرزقنا التوفيق ، قال تعالى« أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ »باقون ، وقوله« أَصْحابُ النَّارِ »أي أهلها ، كما ورد في الصحيح ( أما أهل النار الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ) وقال في الذين يخرجون منها ( ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم ، أو قال بخطاياهم ، فأماتهم اللّه فيها إماتة ) ثم ذكر خروجهم من النار - الحديث بكماله - فعمّ سبحانه بقوله« الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا »جميع الأشقياء ، وأما قوله« اهْبِطُوا »فحظي إبليس من هذا الهبوط لما تكبر وعلا عند نفسه ، لأن أصله من لهب النار ، ولهب النار يطلب العلو ، فلهذا تكبر ، ولما كان لهبا كان إذا جاءه الهواء من أعلاه عكس رأس اللهب إلى أسفل قسرا وقهرا ، كذلك إبليس لما جاءه هواه من تكبره على آدم لنشأته ، عكسه إلى الأرض ، فأهبط ، ولم يقف الأمر هنا ، بل أهبط إلى أسفل سافلين في دار الخزي والهوان ، فهواه أهبطه ، ولما كانت الملائكة نورا عمت جميع الجهات فلا أثر للهواء في النور ، ألا ترى النور الذي في الشمس والسراج وفي كل جسم مستنير نسبته إلى العلو والسفل والجنبات نسبة واحدة ، والملائكة مخلوقون من النور ، فلا أثر للهوى فيهم ، فلا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ولما غلب على آدم في نشأته التراب وله السكون ، بخلاف لهب النار ، ثبت على عبوديته وتواضعه ، فسعد ، وكان هبوطه رجوعا إلى أصله ، وسيأتي الكلام على نشأته في موضعها إن شاء اللّه ، وكونه من حمأ مسنون ، ولهذا يتغير كل ما يحل فيه من الأطعمة والأشربة ويستحيل إلى الروائح القبيحة ، ويندرج في هذا الكلام النشأة الأخراوية ، واستحالة ما يحل فيها من الطعام والشراب إلى الروائح الطيبة ، وتحقيق ذلك في موضعه إن شاء اللّه ، قوله ( 41 )« يا بَنِي إِسْرائِيلَ »الآية ، أضافهم إلى يعقوب ، فهو إسرائيل ، أي صفوة اللّه« اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ »وقد ذكر اللّه ما أنعم اللّه به على بني إسرائيل ، من
ص 124

لم يكتب علينا عهده ، فإنا بحكم السيد ، فلما أبقنا بخروجنا عن حقيقتنا وادعينا الملك والتصرف ، والأخذ والعطاء ، كتب بيننا وبينه عقودا ، وأخذ علينا العهد والميثاق ، وأدخل نفسه معنا في ذلك ، والعبد لا يكتب عليه شيء ولا يجب له حق ، فإنه ما يتصرف إلا عن إذن سيده ، فإذا وفي العبد حقيقة عبوديته ، لم يؤخذ عليه عهد ولا ميثاق ، فمن أصعب آية تمر على العارفين كل آية فيها« أَوْفُوا بِالْعُقُودِ »أو العهود فإنها آيات أخرجت العبيد من عبوديتهم للّه . فإن قلت : كيف كلف الحق نفسه وقيدها ، مع أنه مطلق ، والمطلق ، لا يقبل التقييد بوجه من الوجوه ؟ قلنا : إن للمطلق أن يقيد نفسه إن شاء ، وأن لا يقيدها إن شاء ، فإن ذلك من صفة كونه مطلقا إطلاق مشيئة ، ومن هنا أوجب الحق على نفسه ، ودخل تحت العهد لعبده فقال في الوجوب :« كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ »أي أوجب فهو الموجب على نفسه ، ما أوجب غيره عليه ذلك فيكون مقيدا بغيره ، فقيد نفسه لعبيده رحمة بهم ولطفا خفيا ، وقال في العهد :« أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ »فكلفهم ، وكلف نفسه ، لما قام الدليل عندهم بصدقه في قيله ، ذكر لهم ذلك تأنيسا لهم سبحانه وتعالى ، ولكن هذا كله أعني دخوله في التقييد لعباده من كونه إلها ، لا من كونه ذاتا ، فإن الذات غنية عن العالمين ، والملك ما هو غني عن الملك ، إذ لولا الملك ما صح اسم الملك ، فالمرتبة أعطت التقييد ، لا ذات الحق جل وتعالى - تنبيه - احذر أن تفي ليفي إليك ، أوف أنت بعهدك واتركه يفعل ما يريد ، فإنه من وفي بعهده ليفي له الحق بعهده ، لم يزده على ميزانه شيئا ، حيث ورد في الحديث « كان له عند اللّه عهدا أن يدخله الجنة » لم يقل غير ذلك ، وقد قال تعالى :« وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ »ولم يطلب الموازنة ولا ذكرها هنا أنه ليفي له بعهده ، وإنما قال :« فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً »وما عظمه الحق فلا أعظم منه ، فاعمل


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
المنّ والسلوى وتفجير الماء من الحجر ومشيهم على البحر وإنجائهم من عدوهم وتظليل الغمام وغير ذلك ، فإن اللّه يمن على عباده بما يمتن عليهم من المنن الجسام ، ولذا سميت مننا ، وليس للعباد أن يمتنوا ، لأن النعم ليست إلا لمن خلقها ، فلهذا كان المن من اللّه محمودا ، لأنه ينبه عباده بما أنعم عليهم ليرجعوا إليه ، وكان مذموما من العباد لأنه كذب محض ، قال تعالى( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ )ثم قال تعالى لهم« وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ »أي أوفوا بما أخذت عليكم من الميثاق ، فأخبرنا بذلك لنسمع
ص 128



على وفائك بعهدك من غير مزيد ، فإن من طلب من الحق الوفاء ، فقد ناط به الجفا ، وليس برب جاف بلا خلاف

إشارة -[ الرب رب ، والعبد عبد ]
الرب رب ، والعبد عبد ، وإن اشتركا في العهد .
فلا تنظر لما عندي * فإن الأمر من عندك
ولا تطلب وفى عهدي * إذا ما خنت في عهدك
فوعدي صادق مني * إذا صدقت في وعدك
وما أتيت إلا من * فساد كان في عقدك
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "41 - 57" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 20, 2019 12:30 pm

تفسير آلآيات من "41 - 57" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 41 إلى 42
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ( 41 ) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 42 )
العلم حاكم ، فإن لم يعمل العامل بعلمه فليس بعالم ، العلم لا يمهل ولا يهمل ، العلم أوجب الحكم ، لما علم الخضر حكم ، ولما لم يعلم صاحبه اعترض عليه ونسي ما كان قد




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
حتى نفي بما عاهدنا عليه اللّه ، وهذا من لطفه سبحانه بنا في الخطاب ، فهو مثل القائل ( إياك أعني فاسمعي يا جاره ) فهذا تكليف بتعريف ، وقوله« أُوفِ بِعَهْدِكُمْ »جزاء بطريق المناسبة ، وفاء بوفاء ، فإنه عهد إلينا إذا آمنا به ووقفنا عند حدوده ، أن يدخلنا دار كرامته في جواره وينجينا من عذابه ، قال عليه السلام ( فمن جاء بهن - يعني الصلوات - لم يضع من حقهن شيئا ، كان له عند اللّه عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن استخفافا بحقهن ، فليس له عند اللّه عهد ، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ) فجعل لعبده عهدا عنده سبحانه ، وقوله« وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ »من الرهب والرهبانية ، وإن كانتا ترجعان إلى معنى واحد ، وإياي فخافوني وفاعبدوني ، ولهذا رفع عنهم الخوف في قوله ( لا خوف عليهم ) وهو خصوص وصف في العبودية ، ثم قال ( 42 )« وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ »الآية ، الضمير في آمنوا ، يحتمل أن يعود علينا وعلى غيرنا من أهل الكتاب وغيرهم ، لأنه قال« وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ »مصدقا حال لأنزلت ، فلنا من هذا الخطاب الإيمان بما أنزل من قبلنا مصدقا لما معنا ، مما أنزل إلينا وهو القرآن ، ولأهل الكتاب من هذا الخطاب ، وآمنوا بما أنزلت على محمد مصدقا لما معكم مما أنزلته عليكم ، ولغير أهل الكتاب ،
ص 126


التزمه فالتزم ، لما علّم آدم الأسماء علم وتبرز في صدر الخلافة وتقدم ، العلم بالأسماء كان العلامة ، على حصول الإمامة :العلم يحكم والأقدار جارية * وكل شيء له حد ومقدارإلا العلوم التي لا حد يحصرها * لكن لها في قلوب الخلق آثارفحدها ما لها في القلب من أثر * وعينها فيه أنجاد وأغوار.

سورة البقرة ( 2 ) : آية 43
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ( 43 )
إقامة الصلاة - راجع آية رقم 4 -« وَآتُوا الزَّكاةَ »سميت الزكاة زكاة لما فيها من




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وآمنوا بما أنزلت من كل كتاب ، مصدقا لما معكم من الأدلة والبراهين على وحدانيتي في ألوهيتي ، وما ينبغي لي من صفات الجلال ، فيكون إيمانكم بما أنزلت مضافا لما معكم من العلوم المستفادة من البراهين ، فهو خطاب يعم الجميع ، وهذا من جوامع الكلم ، وقوله« وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ »صفة لمحذوف ، يعني كل مخاطب به في كل زمان ، حتى يبقى العموم في الضمير على أصله ، فيكونون أولا في أهل زمانهم في الكفر به ، أي بما أنزل ، قال تعالى( فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ )وإن كان له وجود قبل مجيئه إليهم ، وقوله« وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا »لما كانوا هم أهل الكتاب حيث أنزله الحق إليهم ، فصار ملكا لهم ، ولما كان الكتاب حاكما عليهم بالانقياد والسمع والطاعة لمن جاء به وهم الرسل ، وفي المخاطبين رؤساء وأكابر وممن يسمع له ويطاع ، وصعب عليهم أن ينقادوا لما أمرهم به في الكتاب المنزل ، فاستبدلوا به رئاسة الدنيا ، فإن البيع والشراء استبدال ومعاوضة ، فاختاروا برئاسة الدنيا على رئاسة الآخرة التي أعطتهم اتباع هذا الكتاب ، فأقام الآيات مقام ما تدل عليه من رئاسة الآخرة وغيرها لمن عمل بها ، فكانوا كمن اشترى الحصى بالياقوت ، والتراب بالمسك والعنبر ، وجعله ثمنا قليلا لكونه ينقطع بالموت أو بالعزل ، ورئاسة الآخرة باقية دائمة ، ثم قال« وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ »أي اتخذوني وقاية ، وهو قوله( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) *قال صلّى اللّه عليه وسلم ( أعوذ برضاك من سخطك ) فجعل الرضاء وقاية من السخط ، وقال ( وبمعافاتك من عقوبتك ) فجعل المعافاة وقاية تحول بينه وبين العقوبة ، ولما عزت أسماء الحق تعالى أن تنخرط مع الآثار في سلك واحد قال ( وبك منك ) وإنما أحدث لنا استعاذة أخرى ، فقال عليه السلام ( وأعوذ بك ) فجعله وقاية ، وليس له سبحانه ما يقابله ، والاستعاذة تستدعي
ص 127


الربو والزيادة ، ولذلك تعطي قليلا وتجدها كثيرا ، والزكاة طهارة للأموال من حيث إضافة المال إلى العبيد ، وطهارة لأربابها من صفة البخل .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 44  
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ( 44 )
العقل قيد وما خاطب تعالى إلا العقلاء ، وهم الذين تقيدوا بصفاتهم وميزوها عن صفات خالقهم ، ولهذا أدلة العقول تميز بين الحق والعبد ، والخالق والمخلوق ، فقال تعالى :« أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ »البر هو الإحسان والخير« وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ »ولا يتمكن لعبد التزم




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
مستعاذا منه ، فقال ( منك ) فجعله سبحانه في مقابلة نفسه إذ لا مثل له ، وهو قوله تعالى( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ )فهو المتكبر سبحانه الجبار ، والعبد إذا اتصف بما تناقض حقيقته من أوصاف العظمة والكبرياء التي تستحقها الربوبية [ يقع في سخط اللّه ] « * » فلهذا قال ( منك ) أي أن أكون متكبرا جبارا ، فهو يستعيذ من كبريائه أن يقوم به بكبريائه سبحانه ، ثم قال تعالى ( 43 )« وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ »الآية ، يقول : لا تخلطوا الحق بالباطل ، وهو قوله سبحانه عنهم( نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ )وهو الحق( وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ )وهو الباطل فخلطوا بينهما« وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ »حال من الضمير وهو الأوجه ، أي لا تلبسوا الحق بالباطل كاتمين للحق ، ويؤيد هذا قوله« وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ »أنه الحق ، قال تعالى( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ )وهم هؤلاء( لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )يقول : إن الحق أبلج ، لا لبس فيه لقوة الدلالة عليه ، ولذلك قال( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ )أي لا شك ولا لبس ، فهم يتخيلون أن الحق يختلط بالباطل وليس كذلك ، ولذلك كثيرا ما يصف سبحانه الآيات أنها بينات ومبينات ، اسم فاعل واسم مفعول ، وهو قوله« وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ »أنه الحق وأنه لا يلتبس ، فهما معلومان لهم ، ثم قال ( 44 )« وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ »الآية ، تقدم الكلام في إقامة الصلاة في أول السورة« وَآتُوا الزَّكاةَ »المفروضة عليكم ، التي يؤدي إعطاؤها إلى نمو أموالكم وزيادتها ، وإلى تطهيركم مما يلزمكم من إمساكها ، وقوله« وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ »أي صلوا في الجماعة ، ففي ذلك الحث على حضور الجماعة في الصلاة ، وإن كان الضمير يعود على أهل الكتاب ، فإن صلاتهم على ما قيل لا ركوع فيها ، فيقال لهم صلوا صلاة المسلمين ، وقد يريد« ارْكَعُوا »أي انقادوا لهذا الدين كانقياد المؤمنين ، إذ الركوع الانقياد والخضوع ، ( 45 )« أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ »الآية ، خطاب لكل من أمر بالبر ولم يعمل به ، البر الإحسان أجمعه ، وكل من أحسن لمن أمر




( * ) [ . . . ] ساقطة من الأصل .
ص 128


الحياء من اللّه أن يأمر أحدا ببر وينسى نفسه منه ، بل يبتدئ بنفسه ، فقد قال له ربه على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلم : ابدأ بنفسك ، وشرع له ذلك حتى في الدعاء إذا دعا اللّه لأحد أن يبدأ بنفسه ، فإن جميع الخيرات صدقة على النفوس ، أي خير كان حسا ومعنى ، فينبغي للمؤمن أن يتصرف في ذلك بشرع ربه لا بهواه ، فإنه عبد مأمور تحت أمر سيده ، فإن تعدى شرع ربه في ذلك لم يبق له تصرف إلا هوى نفسه ، فسقط عن تلك الدرجة العلية إلى ما هو دونها عند العامة من المؤمنين ، وأما عند الأكابر العارفين فهو عاص ، فإذا خرج الإنسان بصدقته فأول محتاج يلقاه نفسه ، قبل كل نفس محتاجة ، وهو إنما أخرج الصدقة للمحتاجين ، فإن تعدى أول محتاج فذلك لهواه لا للّه ، فإن اللّه قال : ابدأ بنفسك وهو أول من يلقاه من أهل الحاجة ، وقد شرع له في الإحسان أي يبدأ بالجار الأقرب فالأقرب ، فإن رجح الأبعد في الجيران على الأقرب مع التساوي في الحاجة فقد اتبع هواه ، وما وقف عند حد ربه ، وهذا سار في جميع أفعال البر ، وسبب ذلك الغفلة عن اللّه تعالى ، فأمر العبد بالصفة التي تحضره مع اللّه وهي الصلاة ، فهي مناجاة العبد لربه ، وتشير هذه الآية إلى توبيخ اللّه لمن أمر غيره بإقامة الصلاة ، وإتمام نشأتها ونسي نفسه ، وجعله إياه بمنزلة من لا عقل له . والبر من جملة أحوال الصلاة فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : أقرت الصلاة بالبر والسكينة« وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ »فإنكم تجدون فيه قوله« كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ »وهذه حالة من أمر بالبر غيره ونسي نفسه ، فالغافل القليل الحياء من اللّه يأمر غيره بالطاعات وهو على الفجور ، وينسى نفسه فلا يأمرها بذلك« أَ فَلا تَعْقِلُونَ »يقول :
أما لكم عقول تنظرون بها قبيح ما أنتم عليه ؟ فإذا قلت خيرا ، أو دللت على خير ، فكن أنت أول عامل به ، والمخاطب بذلك الخير ، وانصح نفسك فإنها آكد عليك ، فإن نظر الخلق إلى فعل الشخص أكثر من نظرهم إلى قوله ، والاهتداء بفعله أعظم من الاهتداء بقوله ، فإن اللّه تعالى يقول في نقصان عقل من هذه صفته :« أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بالإحسان إليه فقد أحسن لنفسه ، والأمر بالإحسان من الإحسان ، فقال تعالى منكرا على من يأمر بالإحسان ولا يأتيه« أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ »أي غيركم« بِالْبِرِّ »بالأفعال الحسنة« وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ »أي وتتركون أنفسكم ، يقول : ألا تأمرون أنفسكم بالفعل الحسن« وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ »أي تجدون في الكتاب إذا قرأتموه أنكم مخاطبون بأن تأتوا البر في كل حال ،« أَ فَلا تَعْقِلُونَ »
ص 129

وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ »فإذا تلا الإنسان القرآن ولا يرعوي إلى شيء منه ، فإنه من شرار الناس بشهادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فإن الرجل يقرأ القرآن والقرآن يلعنه ، ويلعن نفسه فيه ، يقرأ« أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ »وهو يظلم فيلعن نفسه ، ويقرأ « لعنة اللّه على الكاذبين » وهو يكذب فيلعنه القرآن ، ويلعن نفسه في تلاوته ، ويمر بالآية فيها ذم الصفة وهو موصوف بها فلا ينتهي عنها ، ويمر بالآية فيها حمد الصفة فلا يعمل بها ولا يتصف بها ، فيكون القرآن حجة عليه لا له ، قال صلّى اللّه عليه وسلم في الثابت عنه : « القرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو فبائع نفسه ، فمعتقها أو موبقها » .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 45
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ ( 45 )
فأمر من هذه صفته بأن يستعين بالصبر يعني بالصبر على الصلاة ، فقدّم حبس النفس عليها ، ثم ذكر الصلاة فقال :« وَالصَّلاةِ »فإن المصلي يناجي ربه ، فإذا ما حصل العبد في محل المناجاة مع ربه استلزمه الحياء من اللّه فلا يتمكن له أن يأمر أحدا ببر وينسى نفسه منه ، بل يبتدئ بنفسه . ثم ذكر خشوع الصلاة فقال :« وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ »يعني الصلاة ثقيلة شاقة« إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ »وخشوع كل خاشع على قدر علمه بربه ، وقد جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الخشوع للقلب ولا سيما في الصلاة فقال : لو خشع قلبه لخشعت جوارحه ، والخشوع لا يكون إلا للّه فمن لم يخشع في صلاته فما صلى .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يقول : ليس لكم عقل تفهمون به عن اللّه ما أنزله في كتابه إليكم ، والنسيان الترك عن غفلة ، فكأنه يقول : وتغفلون عن أنفسكم ، وإذا لم يكن عن غفلة فهو التناسي ( 46 )« وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ »الآية ، لما كان من قول العبد فيما شرع له( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )بيّن الحق له ما يقع له به المعونة على عدوه إبليس ، فقال لعباده« وَاسْتَعِينُوا »على عدوكم" بِالصَّبْرِ " يقول :
بحبس نفوسكم على طاعتي وامتثال ما أمرتكم به ونهيتكم عنه مطلقا ، فإن ذلك مما يقمع عدوكم« وَالصَّلاةِ »فإنه ما ثم عبادة ذكر فيها أنه فيها مناج ربه غير الصلاة ، فلهذا خصها بالذكر دون جميع الأعمال ، ليثابر العبد عليها ، فيكون ممن قال اللّه( الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ )وفي موضع آخر( عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ )فإن الشيطان لا يتمكن له التمكن من قلب العبد في حال مناجاته ، لأن أنوار هيبة الحضرة تحرقه ، ولقد نشاهد هذا فيمن يحادث منا ملكا عظيما ذا جلال وكبرياء ،
ص 130

سورة البقرة ( 2 ) : آية 46   
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ ( 46 )
فظن خيرا تلقه ، فإن اللّه ما يوجد إلا عند ظن العبد به فليظن به خيرا .

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 47 إلى 48
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ( 47 ) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 48 )
وهي فروض الأعيان لا تجزى نفس عن نفس شيئا ، فإن الفروض حقوق اللّه ، وحق اللّه أحق بالقضاء .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لا يقدر أحد يقطع عليه كلامه ، ولا يدخل بينه وبين الملك ، لما تقتضيه الحضرة من الهيبة والجلال ، فجناب الحق أولى بهذه الصفة ، ولهذا جاء إبليس لعنه اللّه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم بقبس من نار فرماه في وجهه وهو في الصلاة ، لما لم يكن له سبيل إلى قلبه لما ذكرناه من حضوره مع الحق ومناجاته ،.
ثم قال« وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ »يقول : إن المتكبرين يستكبرونها حيث تنزلهم عن كبريائهم ، وأما الخاشع فما تطأمن وخضع وذل إلا لتجلي الحق على قلبه في كبريائه وعظمته ، فلا يكبر على الخاشع الوقوف عند أوامر سيده ، ثم وصفهم فقال ( 47 )« الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ »الآية ، العلم القطع على أحد الأمرين ، والشك التردد بين الأمرين من غير ترجيح ، والظن ترجيح أحد الأمرين من غير قطع ، والظن هنا على بابه ، وله وجهان هنا ، الوجه الواحد أن المؤمنين قاطعون بأنهم إلى ربهم راجعون ، فإنه قال( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ) والكافر والمؤمن كلهم يرجعون إلى اللّه ، غير أنه ما كل من يرجع إليه يلقاه ، قال تعالى( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ )فلذا قيل فيهم« الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ »أي يغلب على ظنهم أن اللّه بكرمه يختم لهم بما هم عليه من أعمال أهل السعادة ، فيكونون ممن يلقى ربه ، والوجه الآخر أنهم يظنون أنهم ملاقوا ربهم من حيث هذا الاسم ، فإن العبد المطيع لسيده يغلب على ظنه أن سيده لا يلقاه بمكروه ، فإن مدلول هذا الاسم خير كله ، فإنه يجوز أن يلقوا يوم القيامة الاسم المنتقم أو الضار ، فالأدب والمعرفة حكمت عليهم بأن يظنوا« وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ »فإن عاد الضمير في « إليه »
ص 131

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 49 إلى 52
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 49 ) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ( 50 ) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ( 51 ) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 52 )
الشكر هنا : هو الثناء على اللّه بما يكون منه خاصة ، لصفة هو عليها من حيث ما هو مشكور ، فإن شكر المنعم يجب عقلا وشرعا ، ولا يصح الشكر إلا على النعم .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
إِلَيْهِ راجِعُونَ »فتكون واو العطف تشرك في الظن ، وإن كان الضمير يعود عليه من كونه إلها ، فيكون« وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ »الواو بمعنى مع ، أي مع علمهم بأنهم إليه راجعون ، وقد تكون الجملة في موضع الحال ، تقدير الكلام : يظنون أنهم ملاقوا ربهم في حال رجوعهم إليه الذي لا بد منه ، ثم قال ( 48 )« يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا »الآية - ذكرهم بهذا النسب نعمته عليهم فيه حيث نسبهم بالبنوة إلى صفوته وهو يعقوب ، وحظنا من التعريف أن نذكر نعمته علينا أيضا ، فلهذا عرفنا فقال« اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ »ولها وجهان ، الأول اذكروا أي تذكروا ولا تغفلوا ولا تنسوا ذلك ، والوجه الآخر اذكروا ، من الذكر ، أن تحدّثوا بما أنعمت عليكم ، قال تعالى( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )والنعم التي أنعم بها على بني إسرائيل مذكورة في القرآن ، فلا أحتاج إلى ذكرها ، وقوله« وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ »فيه إنباه لنا أن نذكر ذلك في قوله( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )وأما قوله لبني إسرائيل أنه فضلهم على العالمين ، أي زادهم أمورا ظهرت عامة ، لم يعط عمومها لسائر الملل ، وإن لخواص هذه الأمة ما أعطى سائر الأمم ، من الكشف وطي الأرض والمشي على الماء وفي الهواء وتظليل الغمام والطير وتسخير الرياح وتفجير المياه ، وقد رأينا كثيرا من هذا على المنقطعين من عباد اللّه في حال سياحاتي وطلبي الاجتماع بهم ، وكان ذلك في بني إسرائيل يظهر للعام والخاص ، فالفضيلة في هذا ، ثم قال ( 49 )« وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي »الآية ، الخطاب عام لجميع العباد ، فالضمير عام ، وقوله« يَوْماً »يريد يوم القيامة ، وفي الحقيقة الأيام كلها بهذه المثابة ، وأنه ما أراد اللّه إمضاءه في خلقه لا تقتضيه نفس عن نفس شيئا ، وقوله« لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً »هو قوله( إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً )بل كل نفس بما
ص 132

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 53 إلى 55   
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 53 ) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 54 ) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ( 55 )
الصواعق أهوية محترقة لا شعلة فيها فما تمر بشيء إلا أثرت فيه .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
كسبت رهينة ،( وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى )وقوله( وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ )فذلك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، وقوله« وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ »أي من شفع من أجلها لا تقبل شفاعته فيها ، فإنهم في ذلك اليوم يعرفون - بل عند موتهم - أنهم ليسوا ممن يقبل كلامهم ، فثبت ما قلناه ، وهو قوله( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) ،وقوله« وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ »يقول : فداء ، تعريفا لهم هنا ، وهو قوله( فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ )وقوله( فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ،وقوله« وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ »هو قوله( وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ )أي لا ناصر لهم ، فإن الآخذ هو اللّه ولا مقاوم له سبحانه( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ )( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) *( 50 )« وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ »الآية ، ثم رجع إلى ذكر ما أنعم به عليهم ، فقال : واذكروا« إِذْ نَجَّيْناكُمْ »قوله( يا بَنِي إِسْرائِيلَ )وضمير الخطاب ، يحتمل أن يكون من اللّه إخبارا لنا على الحكاية بما خاطبهم به في زمانهم بما أنعم عليهم ، ويمكن أن يكون الضمير يعود على بني إسرائيل الحاضرين في زمان النبي عليه السلام ، يعدد عليهم ما أنعم به على أسلافهم ومن مضى من آبائهم في زمان موسى عليه السلام ، وقد يكون للحاضرين هذا الخطاب حيث أنعم عليهم إذ لم يوجدهم في زمان من أولى أسلافهم سوء العذاب ، وقد يكون ذلك كله مرادا للّه تعالى في الخطاب ، واللّه أعلم ، وقوله تعالى« مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ »ولم يقل من فرعون ، لأن آله كانوا المباشرين لعذابهم ، ولم يكن لفرعون إلا الأمر بذلك ، وكذا جرت العادة في الرؤساء والملوك ولهذا جوزوا ، فقال تعالى( أَدْخِلُوا آلَ
ص 133

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 56 إلى 57   
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 56 ) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 57 )
يعني يظلمون أنفسهم بما كانوا عليه في سابق العلم .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فرعون ) الذين تولوا عذابهم( أَشَدِّ الْعَذابِ ) *في مقابلة سوء ، وقرئ بكسر الخاء ، فقد يمكن أن يقال لبني إسرائيل يوم القيامة ذلك ليولوهم أشد العذاب بأنفسهم ، كما فعلوا هم بهم في الدنيا حين ساموهم سوء العذاب ، وآل الرجل أهله وخوله وأنصاره وأتباعه ، سمعت شيخنا الإمام أوحد زمانه في معرفة كلام العرب ، أبا ذر مصعب بن محمد بن مسعود الخطيب يقول : الآل لا يضاف إلا للأكابر الزعماء ، وأما من دونهم فيقال أهل فلان ، وقوله« يَسُومُونَكُمْ سُوءَ »يقول يولونكم ما يسوؤكم من« الْعَذابِ »فمن ذلكم قتل أولادهم ذبحا ، وجعل إبقاء النساء عذابا لهم ، مع أن إبقاءهم ينبغي أن يكون من فرعون نعمة عليهم ، وذلك أن الرجل في الغالب يسرع إليه ذهاب الحزن منه بخلاف النساء ، فأبقى النساء حتى يتجدد على الآباء العذاب بما يجدونه من الحزن لحزن نسائهم وبكائهم على أولادهم دائما ، وشغلهم بذلك عن مصالح أزواجهم ، فيتجدد العذاب عليهم ، هذا يسوغ في إبقاء الأمهات ، وأما إبقاء الإناث فيزيد بذلك من قتل ولده حسرة إلى حسرته ، وحزنا إلى حزنه ، قال تعالى« يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ »قال تعالى« وَفِي ذلِكُمْ »خطاب لنا« بَلاءٌ »أي ابتلاء« مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ » ،نشكر أو نكفر ، كما قال سليمان عليه السلام( لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ )فكل عذاب في الدنيا يكون بلاء إذ كانت دار اختبار( إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ )وأما في الدار الآخرة فلا يقال له بلاء وإنما هو عذاب خالص . ولهذا ما أظن واللّه أعلم أن اللّه ذكر عذاب الآخرة بلفظ البلاء ، على أني ما بحثت على ذلك ، لما لم تكن دار تكليف ، وكان سبب قتل الأبناء أنه رأى ورئي له أن مولودا من بني إسرائيل يولد في دولته يكون هلاكه وهلاك أتباعه على يديه ، ثم من نعمة اللّه على بني إسرائيل قوله ( 51 )« وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ »الآية ، وهذا يؤيد ما ذكرناه أنه سبحانه يحكي ما خاطبهم به في زمانهم من تقرير النعم عليهم ، فمن ذلك« وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ »أي بسببكم« الْبَحْرَ »لتنجوا من عدوكم ، فزال البحر بعضه عن بعض وافترق ، فظهرت الأرض وسكن البحر عن جريته« فَأَنْجَيْناكُمْ »بما أهلكنا به
ص 134
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "58 - 73" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 20, 2019 12:31 pm

تفسير آلآيات من "58 - 73" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 58 إلى 60  
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( 58 ) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ( 59 ) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 60 )

[ في اثنتا عشرة عينا  ]
إشارة - علم الاثنتي عشرة عينا التي في العلم بها العلم بكل ما سوى اللّه ، وهو علم




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
عدوكم ، فإن رؤيتهم لذلك الطريق غرهم فاتبعوكم حتى غشيهم من اليم ما غشيهم ، فانطبق البحر عليهم فأهلكهم« وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ »وأنتم تشهدون ذلك ، ولنا وجه في« أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ »وهو أن خرج من الحكاية إلى خطاب الحاضرين من بني إسرائيل وذلك بأن يكون« تَنْظُرُونَ »بمعنى تنتظرون ، فقال لهم وأنتم تنظرون أي تنتظرون أن يحل بكم إن لم تؤمنوا بمحمد عليه السلام ما حل بآل فرعون لما لم يؤمنوا بموسى عليه السلام ، وأما نسب موسى ، فهو موسى ابن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللّه ، وقيل سمّي موسى لأنه وجد التابوت الذي كان فيه بين الشجر في الماء ، والمو بالقبطية الماء ، والسا الشجر ، فركبوا من ذلك اسم موسى ، وأما فرعون فقالوا اسمه الوليد بن مصعب ، وقالوا مصعب بن الريّان ، ثم ذكر من النعم قوله ( 52 )« وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً »الآية ، لما كان من نعم اللّه عليهم ما أنعم به على رسولهم ، إذ لهم الشرف بذلك ، ذكر من جملة النعم مواعدته لموسى في مناجاته ، فقال« وَإِذْ واعَدْنا »فعل فاعلين ، وهو أتم في التشريف حيث قرنه بنفسه في المواعدة ، وكذا أنزلت وتليت ، وقد قرأنا « وعدنا » بغير ألف ، فهو الوعد من جانب الحق تعالى خاصة ، وهذا أنزه ، والأول أشرف في حق موسى ، وقوله« أَرْبَعِينَ لَيْلَةً »يمسكه عنده فيها مناجيا مقربا ، ويحتمل أنه بعد انقضاء الميقات يكون الكلام ، ليس في هذه الآية دليل على ترجيح أحد الوجهين ، وقوله« ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ »أي من بعد ما فارقكم وجاء لميقاتنا الذي وعدناه
ص 135


الحياة التي يحيا بها كل شيء ، وهو العلم المتولد بين النبات والجماد من المولدات بصفة القهر ، فإن العيون الاثنتي عشرة إنما ظهرت بضرب العصا الحجر ، فانفجرت منه بذلك الضرب




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
" وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ " أنفسكم ، أي ظلم بعضكم بعضا ، حيث لم يأخذ بعضكم على بعض ، ولا نهى بعضكم بعضا في اتخاذكم العجل إلها من دون اللّه ( 53 )« . "ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ »
إشارة إلى الاتخاذ ، أي لم ندخر لكم العقوبة إلى الآخرة ، وجعلنا عقوبتكم في الدنيا ، وفرضنا لكم التوبة ، وهو الرجوع من شرككم إلى توحيد اللّه كما سيأتي ، ثم قال« لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »على هذه النعمة في قبول التوبة ورفع العقوبة عنكم في الآخرة ، وقد ندخل نحن في قوله« لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »حيث قصصنا عليكم ما كان منا في حق الأمم من قبلكم ، فتشكرون نعمة اللّه عليكم حيث عافيناكم مما ابتلينا به من كان قبلكم ، وسنأتي على شرح هذه القصة في مكانها من الأعراف وطه .
ثم قال ( 54 )« وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ »الآية ، ومن النعم أيضا على نبيكم موسى وعليكم ، أن آتيناه ، أي أعطيناه وأنزلنا عليه الكتاب ، يعني التوراة ، يقول : الجامعة لما فيه سعادتكم إن عملتم بها« وَالْفُرْقانَ »فيها ، أي وكتبت الفرقان فيها ، وهو من بعض ما فيها ، يقول : جعلت لكم ما تفرقون به بين الحق والباطل« لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ »تتبينون ذلك عند تلاوتكم إياها فتعملون عليه ، ثم من نعمه قوله تعالى ( 55 ).
« وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ »الآية ، فنبههم على ذنبهم وعلى ما شرع الحق في ذلك ، فقال« وَإِذْ قالَ »أي يا بني إسرائيل واذكروا أيضا إذ قال« مُوسى لِقَوْمِهِ »الذين عبدوا العجل ، فأضافهم إليه وإن كانوا قد كفروا وخالفوا دينه« يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ »أي ظلم بعضكم بعضا حيث لم يرده عما شرع فيه من مخالفة أمر اللّه« بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ »إلها من دون اللّه ، فهؤلاء كفار وليسوا مشركين إن كانوا لم يتخذوه شريكا ، ثم قال« فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ »فارجعوا إلى الذي خلقكم وبرأكم ، فإن العجل ما يخلق شيئا ، فذكر أخص وصف الإله ، ليدل أن الخلق لا يكون إلا للّه ، خلافا لمخالفي أهل الحق الذين ينسبون الخلق إلى غير اللّه« فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ »أي فتوبتكم أن يقتل بعضكم بعضا عقوبة لكم مناسبة كما لم يرد بعضكم بعضا عن عبادة العجل ، وكما لم يرد بعضكم بعضا في ذلك لظلمة الجهل التي أعمت بصائركم ، كذلك أنزل عليكم ظلمة حتى يقتل بعضكم بعضا فيها ، فأرسل اللّه عليهم ظلمة بحيث لا يبصر بعضهم بعضا ، وتقاتلوا فيها حتى رفع اللّه عنهم ذلك ، وقصتهم في التاريخ مذكورة ، وغرضنا التنبيه والإيجاز وما يدل عليه اللفظ وكيفية الوقائع موقوف على كتب التواريخ ، ولو وصلت إلينا من طريق صحاح ربما ذكرناها ، ومما ظهر لنا أيضا في إرسال الظلمة عليهم في وقت قتالهم لئلا يدرك الرجل رأفة في أبيه أو ابنه أو أخيه أو ذي قربى ، فيؤديه ذلك إلى الفتور في إقامة
ص 136




اثنتا عشرة عينا ، يريد علوم المشاهدة عن مجاهدة ، بسبب الضرب ، وعلوم ذوق ، لأن الماء من الأشياء التي تذاق ، ويختلف طعمها في الذوق ، فيعلم بذلك نسبة الحياة كيف




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
حد اللّه الذي شرع لهم ، كما ورد في شرعنا في جلد الزاني والزانية( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )وهذا أيضا من أكبر النعم على بني إسرائيل ، وقال تعالى« ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ »أي التوبة والقتل خير لكم عند بارئكم ، فأضافهم إلى البارئ عقيب القتل ، ليتنبهوا على الإعادة ورجوع الحياة إليهم ، ونبههم أيضا بذلك على أنهم شهداء ، فهم أحياء عند ربهم يرزقون« فَتابَ عَلَيْكُمْ »أي رجع عليكم برحمته التي كان الكفر قد سلبها عنكم« إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ »الرجّاع« الرَّحِيمُ »بالرحمة إليكم ، وقد تقدم تفسير التواب في قصة آدم ، ثم أردف أيضا هذه النعم بنعمة أخرى فقال تعالى وجل ( 56 )« وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ »الآية ، إلى قوله« تَشْكُرُونَ »قص اللّه علينا هذه الأمور ليري اللّه تعالى نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم ما قاسى موسى من أمته فيعزي نفسه بذلك ، قال تعالى( وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ )وقال( وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى )لنا لنشكر اللّه على ما أولانا من نعمه حيث آمنا واستسلمنا ، ولم نكلف نبينا أن يسأل ربه شيئا ، مثل ما كلفت الأمم رسلها ، فنشكره سبحانه على هذه النعمة ، إذ لو شاء لألقى في قلوبنا ما ألقاه في قلوب الأمم قبلنا ، ولهذا نشرك أنفسنا معهم في الضمير المذكور في قوله( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )فقال تعالى إخبارا عن بني إسرائيل ، والعامل في إذ كما في أمثاله« وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ »أي لن نصدق بك« حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً »فالعامل في جهرة يحتمل أن يكون قلتم ، ويحتمل أن يكون العامل نرى ، وهذا من أعظم ما اجترءوا به على اللّه تعالى ، وأعظم ما كلفوه لموسى ، فعاقبهم اللّه بأن أرسل عليهم صاعقة ، أمرا من السماء هائلا أصعقهم لم ينقل إلينا من طريق صحيحة ما كان ذلك الأمر« فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ »أي فأخذتهم الصاعقة جهرة ، وهو قوله« وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ »قال ( 57 )« ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ »أي من بعد ما صعقتم ، فقد يكون موت غشي ، وقد يكون موتا حقيقة ، والأقرب أن يكون موت غشي وصعق ، لأن اللّه يقول( لا يَذُوقُونَ فِيهَا )يعني في الجنة( إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى )فأفردها ، وليس بنص ، ولكن يتقوى به وجه التأويل على هذا المعنى ، وسنومئ في إحياء من مات في ضرب الميت بالبقرة فحيي ، ما كانت تلك الحياة ، وفي كل حي يحيى في الدنيا بعد موته قبل حياة البعث ، فإنه سر لطيف لا يدرك إلا من جهة الكشف ، ثم قال« لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »خطابا لنا ولهم ، فهذا تعريف يتضمن تكليفا بالشكر ، ومن النعم قوله ( 58 )« وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ »الآية ، لما دعا موسى على قومه بالتيه حين قالوا ما ذكر في سورة المائدة ، قال أصحابه المؤمنون به : ما يقينا من حر الشمس في
ص 137


اتصف بها المسمى جمادا ، حتى أخبر عنه الصادق أنه يسبح بحمد اللّه ، لأن الحق أضاف ذلك إلى الحجر بقوله « منه » ، ومن لا كشف له ولا إيمان لا يثبت للجماد حياة ، فكيف




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
هذا التيه ؟
فظلل اللّه عليهم الغمام ، وهو الضباب أو السحاب ، فقالوا : ما نأكل ؟ فأنزل اللّه عليهم المن ، وهو هذا الذي ينزل على الشجر ويجمعه الناس ، جعل اللّه لهم فيه غذاء وهو المعروف عندنا ، وقد قيل فيه إنه شيء شبه الخبز النقي ، وقيل شبه الذرة ، وأما السلوى فهو طائر واحده سلواة ، فقال تعالى« وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ »من جعل من للتبيين جعل الطيبات الحلال من الرزق ، وأطلق الرزق على الحلال والحرام ، ومن جعل من للتبعيض يريد التقليل من الأكل وهو مشروع ، جعل الرزق هنا الحلال ، فإن اللّه نهى عن أكل الحرام في غير ما موضع من كلامه في كل كتاب ، وقوله« وَما ظَلَمُونا »أي وما تضررنا بمعصيتهم ولا بمخالفتهم ، إذ كان كل مظلوم متضررا« وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ »أي ما يكون من الضرر في ذلك يعود عليهم ، وهذا يدلك أيضا على أنه لنفسك عليك حق ، وهو أن تسلك بها سبيل النجاة ، فإذا لم تفعل فقد ظلمتها وأورثتها الضرر والشقاء ، ثم قال تعالى ( 59 )« وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ »الآية ، ومن نعمه أيضا عليهم بعد أن فرغوا من إقامتهم في التيه أن قال لهم« ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ »يعني بيت المقدس أو أريحا ، ما ثبت عندنا أية قرية هي ، غير أنا زرنا قبر موسى عليه السلام على قرب من أريحا على قارعة الطريق الكبرى وقرب من الكثيب الأحمر ، بأرض يقال لها البريصا ، ظاهر حجارتها بيض وباطنها أسود نفطية ، كنا نوقدها كما يتقد النفط ، ورائحتها كرائحته وفيها دهن ، والقبر على يمين الطريق إذا طلبت أريحا ، ثم قال« فَكُلُوا مِنْها »الضمير يعود على القرية« حَيْثُ شِئْتُمْ »أي مما فيها ، فأباح لهم الدخول والأكل كيف شاءوا ومما شاءوا وحيث شاءوا« رَغَداً »في اتساع عيش من غير تضييق ولا تحجير« وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً »كلفهم التواضع عبادة بالسجود عند الدخول« وَقُولُوا حِطَّةٌ »بالرفع ، أي قولوها كما أمرتم حكاية على الرفع ، وحطة مثل قعدة وجلسة ، وقد يكون دعاء ، أي حط عنا ذنوبنا حطة ، وقد يكون المعنى إذا دخلتم سجدا وفرغتم من عبادتكم فحطوا ، أي أنزلوا رحالكم حطة ، ومعناه يتداعوا بها على الرفع بينهم : حطة حطة ، ليحطوا ، فإذا فعلتم ذلك« نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ »جمع خطيئة ، وهو ما كان منكم مما تقدم مما ذكرناه من الذنوب ،« وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ »إحسانا على إحساننا لهم ، لكونهم ما خالفوا أمر اللّه واحترموا جانب الحق ، قال تعالى( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ )فإن تركهم للمخالفة زيادة عمل مشروع إذا اقترنت به نية الترك ، وسواء كان الترك لمباح أو ندب أو فرض ، على أنه عندنا إذا أتى المباح من حيث أنه مباح شرعا أجر ( 60 )« فَبَدَّلَ

ص 138

وبضربه بها ظهر ما ظهر ، ومن لا كشف له لا يعلم أن النبات حي ، إلا من يصرف الحياة إلى النمو ، فعلم الاثنتي عشرة عينا على الكشف والمشاهدة هو علم ما يتعلق بمصالح العالم« قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ »من تلك العيون ، فمن علمها علم حكم الاثني عشر برجا ، وعلم منتهى أسماء الأعداد وهي اثنا عشر ، وعلم الإنسان بما هو ولي للّه تعالى .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ »الآية ، قيل لهم قولوا : حطة ، فبدلوا ، قيل المعنى فاستهزءوا ، وقيل اللفظ ، فقالوا : حطا سمقا ، بالقبطية معناه حنطة حمراء استهزاء ، فعاقبهم اللّه على ذلك ، فقال« فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ »بيّن أن الرجز إنما نزل بالظالمين ، ولم يقل عليهم لئلا يدخل فيه غير الظالمين ، لأن العذاب قد ينزل فيعم الصالح والطالح ، ويحشر كل إنسان على عمله ، فلهذا أخبر اللّه أن الرجز الذي هو العذاب اختص بالذين ظلموا« بِما كانُوا يَفْسُقُونَ »أي بخروجهم عن أمرنا فيما بدلوه من قولنا قولوا حطة ، ومن نعمه أيضا قوله ( 61 )« وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ »الآية ، لما أعطاهم ما يقيهم من حر الشمس وما يأكلون طلبوا ما يشربون ، فاستسقى اللّه لهم موسى« فَقُلْنَا »فقال له ربه« اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ » *فإن الحجارة في الغالب موضع تفجير الماء« فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً »وكانوا اثني عشر سبطا ، لكل سبط عين ، والحجر قد يكون الألف واللام لحجر بعينه ، وكذا ذكر في التاريخ ، وأنه كان صغيرا يحمله في مخلاة ، فحيثما نزلوا من التيه أخرجه وضربه بعصاه ، فتفجر عيونا اثنتي عشرة ، وقد يحتمل أن يكون للجنس ، وقوله« قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ »كان لكل سبط عين تخصه ، وكل سبط يرجع إلى ولد من أولاد يعقوب ، وهم الأسباط ، فسبط يرجع إلى روبيل ومعناه بالعربية الأبيض ، وسبط يرجع إلى يهود ومعناه بالعربية شاكر ، وسبط يرجع إلى شمعون وهو بالعربية سمعان ، وسبط يرجع إلى نفنوان ومعناه المنطيق ، وسبط يرجع إلى رنوان ويقال فيه ربالون ولم نر له تفسيرا ، وسبط يرجع إلى آشر ومعناه الطيب ، وسبط يرجع إلى أنساخر ومعناه المتأخر ، وسبط يرجع إلى جاد ومعناه الفياض ، وسبط يرجع إلى دان ومعناه بالعربية الحكم ، وسبط يرجع إلى يوسف ومعناه يزيد ، وسبط يرجع إلى لاوى ومعناه العطاف ، وسبط يرجع إلى بنيامين ومعناه شداد ، وكلهم أولاد يعقوب وهو إسرائيل ومعناه صفوة اللّه ، ثم قال لهم« كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ »تقدم الكلام في الرزق« وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ »اسم فاعل من أفسد يفسد فهو مفسد ، يقال عاث في الأرض إذا أفسد فيها ، وبه سمى العوث وهي الدودة التي تأكل الثياب
ص 139


سورة البقرة ( 2 ) : آية 61
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ( 61 )
« أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى »وهو ما ذكروه« بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ »وهو ما أنزل اللّه عليهم من المن والسلوى ، فأشار إلى دناءة همتهم




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والكتب ، ويقال لها الأرضة ، فقال لهم : لا تفسدوا في الأرض ، فتسموا مفسدين ، ثم قال تعالى ( 62 )« وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ »الآية ، لما كان في طبع هذه النشأة الدنيوية إذا استصحبها أمر تمله ، خلق اللّه له من الأرزاق أنواعا مختلفة المطاعم والألوان والروائح ، ولما فرض عليهم العبادات جعلها مختلفة بالنوع ، وجعل لها أوقاتا متفرقة من أجل الملل الذي جبلهم اللّه عليه ، ولو كان الرزق من ألذ المطاعم واستصحبه سئمه وطلب غيره أو تباعد عنه الزمان ، حتى تدعو الحاجة إليه وإن كان واحدا ، ولما ألفوا تكاثر الآلهة عندهم لم يلتذوا بالتوحيد التذاذهم بالكثرة ، ومن حكمة اللّه في وحدانيته سبحانه أن جعل له أسماء كثيرة ندعوه بها في عموم أحوالنا ، فننتقل من اسم إلى اسم لتتنوع علينا الأدعية والأذكار مع أحدية المدعو والمذكور ، كل ذلك للملل الذي في جبلتنا ، فسبحان اللطيف بعباده ، وهذا من خفايا ألطافه التي لا يعرفها إلا القليل من عباده ، فقالوا لموسى« فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ »في تيههم« مِنْ بَقْلِها »يقول من أنواع بقولها ، ثم خصوا بالذكر ما كان لهم فيه رغبة ، حتى يكون ذلك المعيّن من جملة ما يخرج لهم« وَقِثَّائِها »بضم القاف وكسره وهو معروف« وَفُومِها »قيل هو الثوم وهو الأقرب ، وقيل الحنطة ، وقيل الخبز« وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ »اللّه لموسى قل لهم« أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى »أي أخس وأوضع وأحقر« بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ »منه ، وهو ما كانوا فيه من اللحم والحلواء ، ولا شك أن أمرهم متناسب في الشكل ، فمن اشترى الضلال بالهدى ، والعذاب بالمغفرة ، والكفر
ص 140


سورة البقرة ( 2 ) : آية 62
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 62 )
يقال : صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بالإيمان ، وكله استبدال ، لا ينكر عليه في نفسه القذرة أن يستبدل المن والسلوى بالثوم والبصل ، فقال لهم اللّه« اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ »لأنهم سألوا دنيّا ، فأهبطوا من عز رفعتهم بعناية اللّه بهم وما اختاره من الطعام الطيب ، وقوله« مِصْراً »منونا ، أي مصرا من الأمصار ، ومن لم ينوّن أراد البلدة المسماة بمصر ، فلما هبطوا وكفروا بآيات اللّه ، وقتلوا النبيين بغير الحق وعصوا واعتدوا« ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ »أي ألصقت بهم ، من ضربت الطين على الحائط إذا ألصقته ، يقول لزمتهم الذلة وهي الصغار ، والمسكنة الخضوع والسكون تحت صولة الإيمان ، فلم يرفع اللّه لهم علما ، ولا قام منهم ملك ، حيث كانوا في جميع الملل لا يزالون أذلاء صاغرين« وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ »أي استحقوا الغضب من اللّه ، يقال باء فلان بفلان إذا كان حقيقا أن يؤخذ به لمساواته إياه في الكفاءة في ذلك ، وقال عليه السلام : من قال لأخيه كافر فقد باء به أحدهما ، أي استحق ذلك الإطلاق أحد الرجلين ، إما المقول فيه إن كان كافرا ، وإما القائل إن كان المقول فيه مسلما ، لأنه سمى الإسلام كفرا ، ومن اعتقد بذلك فقد كفر ، ذهب إلى هذا بعض العلماء ، ثم قال« ذلِكَ بِأَنَّهُمْ »هذه باء السبب« كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ »قد تقدم شرح الكافر في أول السورة ، وقوله« بِآياتِ اللَّهِ »يقول بما نصبه الحق من الدلالات على تصديق ما جاءت به رسله من كتاب وغيره« وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ »سبب آخر زائد على الكفر بالآيات ، يقول عنادا ، أي لم يقتلوهم بحق من عندهم فيما يرجع إلى دينهم ، فالألف واللام للحق المعهود عندهم ، لا للحق الذي جاءت به الأنبياء صلوات اللّه عليهم ، فإن ذلك معلوم بلا شك ، وإنما فائدة ذكر الحق فيما ترجمنا عنه« ذلِكَ بِما عَصَوْا »في ردهم الآيات« وَكانُوا يَعْتَدُونَ »يتجاوزون الحق الذي اتخذوه دينا ، ما وقفوا عنده ، بل تعدوه وجاوزوه بالمخالفة في قتلهم الأنبياء ( 63 )« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا »الآية ، يقول : إن الذين آمنوا أي أقروا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، فيكون على هذا من آمن منهم باللّه يعود الضمير عليهم ، وعلى الذين هادوا والنصارى والصابئين مخلصا من قلبه ، وقد يريد« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا »خالصا من قلبه« وَالَّذِينَ هادُوا »يعني اليهود ، يقال هاد يهود وتهوّد إذا دخل في دين اليهودية« وَالنَّصارى »جمع نصران« وَالصَّابِئِينَ »
ص 141




سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 63 إلى 65  
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 63 ) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ( 64 ) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ( 65 )
ظهر المسخ في بني إسرائيل بالصورة فمسخهم اللّه قردة وخنازير .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
من صبأ إذا مال من دينه إلى دين آخر ، يقول« مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ »صدق من هؤلاء المذكورين بقلبه « وآمن باللّه » يقول بتوحيده ، أي بوحدانيته« وَالْيَوْمِ الْآخِرِ »يقول بالبعث ، أي بوجود يوم القيامة« وَعَمِلَ صالِحاً »ولم يدخل في عمله خللا من شرك خفي ولا جلي« فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ »جزاء عملهم« عِنْدَ رَبِّهِمْ »أي عند سيدهم الذي استخدمهم وكلفهم بالأعمال ، وهو اللّه تعالى« وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »زائد على الجزاء بما حصّلوا من النعيم في مقابلة ما فعلوا من الخير الذي له عين موجودة ، وما وصفوا به من نفي الخوف والحزن عنهم فيما تركوا مما أمروا بتركه ، فسلب لسلب ، وإثبات لإثبات ( 64 )« وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ »أما قوله« وَإِذْ أَخَذْنا »بنون الجمع لوساطة الرسل في ذلك ، فهم الذين أخذوا المواثيق للّه على أممهم ، فأخذ الميثاق من اللّه ورسوله ، فلهذا كنّى سبحانه بالنون ، وليس لنا ذلك إلا بأمر منه سبحانه .
وقد قال عليه السلام لمن جمع بين اللّه ورسوله في الضمير في خطبته ( بئس الخطيب أنت ) ، فهذا ضمير المخاطبين يعود على كل من أخذ عليه الميثاق مطلقا ، من أخذ الذرية إلى نبوة محمد عليه السلام ، وهو الإقرار بالوحدانية وبما يجيء من عند اللّه في كتبه أو على ألسنة رسله مما يجب الإيمان به ، ثم خصص في الخطاب بعض من أخذ عليه الميثاق في قوله« وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ »أراد بني إسرائيل بهذا الخطاب خاصة ، وذلك لما امتنعوا من قبول كتابهم والحفظ له والعمل به لما فيه من التكاليف الشاقة عليهم ، فاقتلع اللّه الجبل ورفعه عليهم كالظلة ، إن لم يقبلوا الكتاب ويوفوا بعهد اللّه وميثاقه وإلا أوقع عليهم الجبل ، وقال لهم والجبل على رؤوسهم« خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ »أي اقبلوا ما أعطيناكم بجد وعزم على حفظه والعمل به ، وقد يكون العامل في الباء من بقوة« آتَيْناكُمْ »أي خذوا ما أعطيناكم تقوية على ما كلفتموه لما يتضمن من الوعد الجميل والثواب الجزيل لمن عمل فيه ، ولما يتضمن من الوعيد
ص 142


سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 66 إلى 67
فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ( 66 ) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ( 67 )
المناسبة بين البقر والإنسان قوية عظيمة السلطان ، وكما أن البقر برزخ بين الإبل والغنم




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والتهديد لمن ترك العمل بما فيه ، فيكون وقوفكم عليه وقراءتكم له محرضا وتقوية على العمل به ، ويؤيد هذا قوله« وَاذْكُرُوا ما فِيهِ »ثم جاء بلفظة« اذْكُرُوا ما فِيهِ »مما تقدم من أخذ المواثيق في ذلكم عليكم ، ومما يتضمنه من نعم اللّه عليكم ، إذ أوجدكم واصطفاكم بما ذكره فيه زائدا على ما فيه مما شرع لكم« لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »يقول لهم الرسول بأمر اللّه« لَعَلَّكُمْ »فيكون الترجي من الرسول أن تتقوا أو منهم أن يكونوا من المتقين ، وقد ذكرنا تفسير« لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »والمتقي من هو في أول السورة ، ثم قال تعالى ( 65 )« ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ »أي أعرضتم لما رفعنا عنكم ما ظننتم أنه واقع بكم ، وهو الجبل .
وإليه الإشارة « بذلك » وهو قوله تعالى( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ )« فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ »بكم حيث لم يعاقبكم بسقوط الجبل عليكم فتموتون ناكثين ، فتكونون من الذين لم تربح تجارته وكنتم خاسرين« لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ »قال لهم ذلك ليرجعوا عن توليهم وإعراضهم ونكثهم ، فإن احتجوا بالفاء في قوله« فَلَوْ لا »أنها للتعقيب ، قلنا : كذا وردت ، فإنه سبحانه لما رفع الجبل على رؤوسهم ، لولا فضله ورحمته أسقطه عليهم ، ولم ينتظر بهم أن يأخذوا الكتاب ، لا أنهم بعد التولي الثاني تفضل عليهم بالتوبة ، ثم قال تعالى ( 66 )« وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ »خطابا لبني إسرائيل« الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ »بعّضهم ، أي جاوزوا ما حد لهم أن يفعلوه ويتركوه« فِي »يوم« السَّبْتِ »من ترك الصيد فيه والمثابرة على طاعته ، وهم الذين تولوا ونكثوا ، وما ذكر أنه تاب عليهم ، ثم قال« فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا »هو قوله( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )وقال عليه السلام وهو في غزوة تبوك وقد أبصر شخصا مقبلا على بعد وهو في أصحابه : كن أبا ذر ، فكان أبو ذر ، فكان ، والكون حرف وجودي عند الجماعة ، وعندنا حرف ثبوتي ، فإنه يتوجه على الإيجاد والإعدام ، والعدم يثبت للمعدوم ولا يكون له ، وهذه مسئلة عظيمة القدر ، فإنه ليس في قوتهم أن يكوّنوا أنفسهم« قِرَدَةً »وإنما اللّه يكونهم أي يقلب صورهم قردة ، والحقائق لا تتبدل ، فمن المخاطب بأن يرجع قردا ؟ فقد يصح هنا قول من يقول إن الجواهر متماثلة والصور أعراض فيها ، فسلخ اللّه

ص 143


في الحيوان المذكى ، فالإنسان برزخ بين الملك والحيوان ، ثم إن البقرة التي ظهر الإحياء بموتها والضرب بها برزخية أيضا في سنها ولونها ، فهي لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ، فهذا مقام برزخي ، وهي لا بيضاء ولا سوداء بل صفراء ، والصفرة لون برزخي بين البياض والسواد ، فقويت المناسبة بين البقر والنفوس الإنسانية« قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ »لأن الجهل صفة مذمومة منهي عنها بقوله تعالى : « فلا تك من الجاهلين » مستعاذ باللّه منها .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الصورة الإنسانية من الجوهر وكساه صورة القرد ، فإن الحرارة لا ترجع برودة ، لكن الحار بقبوله للحرارة إذا زالت عنه زال عنه اسم الحار وقبل البرودة ، فصح عليه اسم البارد ، وما ثبت عندنا من طريق صحيحة أن ظواهرهم رجعت في صورة القردة ، والقدرة صالحة ، فقد يحتمل أن يكون مسخ بواطنهم قردة مع بقاء الصورة الإنسانية ، ويحتمل أن يكون مسخ ظواهرهم قردة مع بقاء علمهم بأنهم ذلك ، ليذوقوا العذاب ، فيكون قردا في الظاهر إنسانا في الباطن ، واللّه على كل شيء قدير ، وما يقع التوقف إلا من عدم صحة النقل لا من حيث الإمكان ، وقوله« خاسِئِينَ »أي مبعودين مطرودين من رحمة اللّه ، ، وقوله ( 67 )« فَجَعَلْناها »يعني هذه الكائنة« نَكالًا »قيدا وحدا يوقف عنده إذ كان النكل القيد يقف عنده الماضي والآتي معتبرا ، وقد يكون قيدا أي ثباتا للممسوخين على هذه الصورة « ل » لأجل « مابَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَ »جعلناها« مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ »للذين يخافون مثل هذه الأشياء ، وقد يكون نكالا من النكول وهو العدول ، عدل بهم عن رحمة اللّه لما عدلوا عن طاعته والوفاء بعهده وميثاقه ، وجعلناها بمعنى صيّرناها في عينها للحاضرين الذين يشاهدونها ، وفي الذكر بالخبر عنها لمن يأتي بعدهم ، وذلك أن اللّه لما خلق الإنسان خلقه مستقبلا الآخرة ، فهو يطلبها في سيره ، ومدة ذلك عمره ، وأول منزل يلقاه منها القبر ، وأول حالة تدركه منها الموت ، والساعة أيضا تستقبله ولذا سميت ساعة أي تسعى إليه ، فعند الموت يكون اللقاء بين الإنسان والقيامة .
قال عليه السلام ( من مات فقد قامت قيامته ) ولا يزال في منازلها يتقلب ويقطعها إلى يوم البعث ، ثم يقطع منازل ذلك اليوم إلى أن يصل إلى الجنة أو إلى النار ، فلهذا ثبت له الأمام لما يستقبله ، والخلف لما يأتي بعده ( 68 )« وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً »القصة : كان سبب هذا أن رجلا قتل عمه وجعله في أرض قوم ليأخذ ديته ، ثم استعدى على أهل تلك الأرض ، وتدافعوا معه بالخصومة فارتفعوا إلى موسى عليه السلام وسألوه أن يبين لهم عن الأمر ، فسأل ربه ، فأمره أن يأمرهم أن يذبحوا بقرة ، فيضرب الميت ببعضها ، فيحييه اللّه ، ليريهم كيف يحيي اللّه الموتى ، ولتبرأ ذمة البريء مما نسب إليه من ذلك ،
ص 144

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 68 إلى 72  
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ ( 68 ) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ( 69 ) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ( 70 ) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ( 71 ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 72 ) 
« فَادَّارَأْتُمْ فِيها »أي تدافعتم فيها« وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ » .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فـ" قالُوا" لموسى« أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً »أي تسخر بنا« قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ »فإن الجاهل هو الذي يسخر بعباد اللّه ( 69 )« قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ »أي لا هرمة« وَلا بِكْرٌ »وهي التي ولد لها ولد واحد« عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ »والعوان التي ولد ولدها ، قد يفهم من هذا ما يخرج في الصدقة من الماشية ، حتى لا يعتدي فيها من الطرفين ، من رب المال يأخذ الأنفس ، ومن جهة المتصدق عليه من أخذ الأخس« فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ »( 70 )« قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها »أي بالغ في الصفرة حسنا وجمالا ، يقال أصفر فاقع ، وأسود حالك ، وأبيض يقق ، وأحمر ناصع ، وقال« تَسُرُّ النَّاظِرِينَ »أي يستحسنها من نظر إليها ( 71 )« قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا »أي هذا الجنس كثير ويشتبه علينا فزدنا بيانا« وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ »فلما تأدبوا مع اللّه في الاستثناء رزقهم الهداية إلى ما سألوه من ذلك ، فلم يسألوا بعد ذلك ، ( 72 )« قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ »أي صعبة القياد« تُثِيرُ الْأَرْضَ »أي لا تنقاد للحرث ، يقول : ما هي ذلول تثير الأرض ، أي يحرث بها« وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ »ولا

ص 145


سورة البقرة ( 2 ) : آية 73   
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 73 )
ولذلك فإن بين البقر والنفس نسبة ، إذ الغنم تناسب الأرواح ، والبدن أي الإبل تناسب الأجسام ، والبقر تناسب الأنفس ، لذلك قال تعالى :« اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى »فتحيا بإذن اللّه تلك النفس المقتولة للمناسبة ، فإنه لما كانت المناسبة بين البقر والإنسان قوية عظيمة السلطان ، لذلك حي بها الميت لما ضرب ببعض البقر ، فجاء بالضرب إشارة إلى الصفة القهرية لما شمخت النفس الإنسانية أن تكون سبب حياته بقرة ، ولا سيما وقد ذبحت وزالت حياتها ، فحيي بحياتها هذا الإنسان المضروب ببعضها ، وكان قد أبى لما عرضت عليه فضرب ببعضها فحيي بصفة قهرية ، للأنفة التي جبل اللّه الإنسان عليها ، وفعل اللّه ذلك ليعرفه أن الاشتراك بينه وبين الحيوان في الحيوانية محقق بالحد والحقيقة ، ولهذا هو كل حيوان جسم متغذ حساس ، فالإنسان وغيره ، من الحيوان . وانفصل كل نوع من الحيوان عن غيره بفصله المقوم لذاته الذي به سمي هذا إنسانا ، وهذا بقرا ، وهذا غنما ، وغير ذلك من الأنواع ، وما أبى الإنسان إلا من حيث فصله المقوم ، وتخيل أن حيوانيته مثل فصله




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يسقى بها الحرث ، أي تدور بالسانية لصعوبتها« مُسَلَّمَةٌ »صحيحة« لا شِيَةَ فِيها »أي لا لون فيها من عير لونها« قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ »المطلوب لنا ، أي استوفيت الصفة« فَذَبَحُوها »ومن كثرة تفتيشهم على صفتها كادوا لا يجدونها فلا يفعلون ، فهو قوله« وَما كادُوا يَفْعَلُونَ »( 73 )« وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »( 74 )« فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ، كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ »« فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها »واختلف الناس في ذلك البعض ما هو ؟ فمن جملة ما قالوه فخذها ، ولسانها ، وفيه مناسبة ، فإن اللسان محل الكلام ، والمراد من الميت النطق ليعرفوا الأمر ، وأما الفخذ خاصته فقد ورد أنه لا تقوم الساعة حتى تكلم الرجل فخذه بما فعل أهله بعده ، فخص الفخذ بذلك في الدنيا دون غيره من الأعضاء ، وهذا الإحياء إنما وقع في الدنيا ، وأما في الآخرة فتنطق الجلود والأيدي والأرجل والألسنة قال تعالى« كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى »يعني في قيام الميت حيا من قبره ، أي تظهر يوم القيامة حياته القائمة بجسمه ، التي نحن اليوم محجوبون عن إدراكها ، السارية في كل موجود من جماد ونبات وحيوان ، التي أدركها النبيون وأهل الكشف ، قال تعالى( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ

ص 146



المقوم ، فأعلمه اللّه بما وقع أن الحيوانية في الحيوان كله حقيقة واحدة ، فأفاده ما لم يكن عنده ، وكذلك ذلك الميت ما حيي إلا بحياة حيوانية لا بحياة إنسانية من حيث إنه ناطق ، وكان كلام ذلك الميت مثل كلام البقرة في بني إسرائيل . 
قال الصحابة تعجبا : بقرة تكلم ؟
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : آمنت بهذا ، وما رأوا أن اللّه قد قال ما هو أعجب من هذا أن الجلود قالت : أنطقنا اللّه الذي أنطق كل شيء ، فهذه الحياة التي تظهر لأعين الخلق عند خرق العوائد في إحياء الموتى هي الحياة الذاتية للأشياء.
إشارة - لا يقوم تركيب إلا بحل تركيب ، انظر سره لما ذبحت البقرة قام الميت بحياتها من قبره ، والبقرة من عالم الوسط كالبرزخ بين الدنيا والآخرة ، فهي فوق الكبش ودون البدنة في الأجر ، فبذبحها سرّحت في الحضرة البرزخية ، فكان سببا في نقل حياتها إلى حياة البرزخ ، وهو إحياء هذا الميت ، فإن الميت في عالم البرزخ ، فوقعت المناسبة .

[الحياة بالضرب ]
إشارة - من الحياة بالضرب قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم : « فضرب بيده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، فعلمت علم الأولين والآخرين » فأضاف العلم إلى الضرب باليد الإلهية ، وهي الحياة المعنوية .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ )لا تعلمون تسبيحهم( إِنَّهُ كانَ حَلِيماً )فلم يؤاخذكم عاجلا بإنكاركم ذلك ( غفورا ) بما ستر من إدراك حياتها لأبصاركم ، ولنا حياة منسوبة إلى ارتباط الروح الناطق بهذا الجسم ، وهو الذي يظهر حياته في الجسم ، وافتراقه من الجسم يسمى الموت ، ولنا حياة أخرى نشرك بها جميع الأجسام ، وهي التي أخذ اللّه بأبصارنا عنها ، فقد يمكن أن يكون حياة صاحب البقرة ظهور تلك الحياة ، ثم قال« وَيُرِيكُمْ آياتِهِ »أي دلالاته على أنه على كل شيء قدير« لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ »أي تمسكون على ذلك ، مأخوذ من العقال ، وتثبتون عليه من غير شبهة تزلزلكم عنه ، وقوله« وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »وهو ما أظهر من كذب ولي المقتول ، وفيه تنبيه على إظهار ما استتر عن عيوننا من حياة الأجسام ، وهو ما نبّهنا عليه آنفا ، ونسب الكتمان إليهم لأن الأمر مستور فيهم ، وقوله« بَقَرَةً »بلفظ التنكير حتى لو أخذوا أية بقرة كانت ، وقع الغرض ، ذلك محتمل بالنظر إلينا ، وأما في علم اللّه فبقرة مخصوصة بهذا الوصف ، ولو فهموا منه بقرة على الإطلاق لبادروا إليها ، فإن النفوس قد طبعت على طلب التيسير ، وقوله« فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ »من أول سؤال سألوه يؤذن بالزجر عن السؤال وكثرته ، قال عليه السلام ( إنما أهلك

ص 147
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "74 - 89" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 20, 2019 12:33 pm

تفسير آلآيات من "74 - 89" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 74   
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 74 )
« ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً »وإنما كانت أشد قسوة من الحجارة  
لأن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية اللّه ، وأنتم ما عندكم في قلوبكم من هذا شيء ، يذمهم بذلك - تحقيق - اعلم أن الحجارة عبيد محققون ، ما خرجوا عن أصولهم في نشأتهم ، فالحجر يهرب من مزاحمة الربوبية في العلو ، فيهبط من خشية اللّه ، ومن خشي فقد علم من يخشى . ثم إن اللّه جعل هذه الأحجار محلا لإظهار المياه التي هي أصل حياة كل حي في العالم الطبيعي ، وهي معادن الحياة وبالعلم يحيا الإنسان الميت بالجهل ، فجمعت الأحجار بالخشية وتفجر الأنهار ، بين العلم والحياة ، قال تعالى : « وإن منها لما يتفجر منه الأنهار » مع اتصافها بالقساوة ، وذلك لقوتها في مقام العبودية ، فلا تتزلزل عن ذاتها ، لأنها لا تحب مفارقة موطنها ، لما لها فيه من



من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ) ، ولذلك جرى لهؤلاء لما كثر سؤالهم مضى « 1 » فيها من أموالهم كثير على ما حكي ، وأما قوله« وَإِذْ قَتَلْتُمْ »وما قتله إلا واحد ، فهو راجع إلى قول بعضهم لبعض : أنتم قتلتم هذا القتيل ، وتدافعهم في ذلك ، فكأنه يقول : وإذ يقول بعضكم لبعض قتلتم نفسا فادار أتم فيها ، وأما قوله« اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها »لما كان الضرب يتضمن صفة القهر لذلك جاء به ، إذ إخراج الشيء من العدم إلى الوجود لا يكون إلا من قاهر ، كما جاء في قوله( اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ )( اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً )ومن هذا الباب قوله تعالى( أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )فقرن الإيجاد بالأمر ، إذ في ضمن مخالفته الوعيد ، وهو من صفة القاهر ، ثم أخبر تعالى أنهم بعد ما عاينوا ذلك قست قلوبهم ، فقال تعالى ( 75 )« ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ »أي من بعد ما رأيتم الآيات ، فما وقع ما ترجاه موسى منكم من عقلها والثبات عليها« فَهِيَ »يعني قلوبكم« كَالْحِجارَةِ »في الصلابة والشدة ، أو
____________________________________________________________________
(1) ضاع

ص 148

العلم والحياة اللتين هما أشرف الصفات .
[ في ( قست قلوبكم ) ]
أما وصفه تعالى لقلوب من كفر من بني إسرائيل بقوله :« أَشَدُّ قَسْوَةً »فإن الحجر لا يقدر أن يمتنع عن تأثيرك فيه ، والقلب يمتنع عن أثرك فيه بلا شك ، فإنه لا سلطان لك عليه ، فلهذا كان القلب أشد قسوة أي أعظم امتناعا وأحمى ، وإن أحسنت في ظاهره ، فلا يلزم أن يلين قلبه إليك فذلك إليه ، فالصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة ، فإن الحجارة تكسرها وتكلسها النار ولا تلينها . وأما قوله تعالى :« وَإِنَّ مِنْها »يعني من الحجارة« لَما يَهْبِطُ »الهبوط سقوط بسرعة عن غير اختيار« مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ »فوصفها بالخشية وهذه الآية تدل على أن اللّه أخذ بأكثر أبصار جنس الإنس والجان عن إدراك النفوس المدبرة الناطقة التي تسمى جمادا ونباتا وحيوانا ، وكشف لبعض الناس عن ذلك ، فإن الخشية المنعوت بها الأحجار هي التي أدتها إلى الهبوط ، وهو التواضع من الرفعة التي أعطاها اللّه ، فإنه لما وصفها بالهبوط علمنا أن الأحجار التي في الجبال يريد ، والجبال والأوتاد التي سكن اللّه بها ميد الأرض ، فلما جعلها أوتادا أورثها ذلك فخرا لعلو منصبها ، فنزلت هذه الأحجار هابطة من خشية اللّه لما سمعت اللّه يقول :« تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ »والإرادة من صفات القلوب ، فنزلت من علوها ، وإن كان بربها ، هابطة من خشية اللّه حذرا أن لا يكون لها حظ في الدار الآخرة التي تنتقل إليها ، وأعني بالدار الآخرة هنا دار سعادتها ، فإن في الآخرة منزل شقاوة ومنزل سعادة« وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ »فإن اللّه ليس بغافل فإنه معنا في جميع المحافل.
تفسير من باب الإشارة :« ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً »والقسوة هو ما ينبغي أن تتطهر منها القلوب من النجاسات كانت ما كانت ، فإن منها المأخوذ بها والمعفو عنها« وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ »وهي من القلوب العلوم الغزيرة الواسعة ، وتفجرها خروجها على ألسنة العلماء للتعليم في الفنون المختلفة « وإن من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء » ، وهي القلوب التي تغلب عليها الأحوال فتخرج في الظاهر على ألسنة أصحابها بقدر ما يشقق منها وبقدر العلم الذي فيها ، فينتفع بها الناس ،



من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أَشَدُّ قَسْوَةً »يقول أقوى في الصلابة من الحجارة ، قال تعالى( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ )وذلك لمعرفته بقدر ما أنزل عليه ، وما زالت بنو إسرائيل

ص 149
وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ »وهبوط القلوب المشبهة بالحجارة في هبوطها هو نزولها من عزتها إلى عبوديتها ، ونظرها في عجزها وقصورها بالأصالة ، فالخشية من خصائص العلماء باللّه .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 75
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 75 )
هذه الآية تدل على أن التوراة ما تغيرت في نفسها ، وإنما كتابة اليهود إياها وتلفظهم بها لحقه التغيير ، فنسب ذلك إلى كلام اللّه فقال :« ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ »أن كلام اللّه معقول عندهم ، وأبدوا في الترجمة عنه خلاف ما هو في صدورهم عندهم وفي مصحفهم المنزل عليهم ، فإنهم ما حرفوا إلا عند نسخهم من الأصل ، وأبقوا



من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

مع كثرة الآيات والنعم تكثر منهم المخالفات وسوء الأدب مع اللّه ، فعقوبة القاتل إخراج مكتومه بإحياء الميت ، وعقوبة قومه على قولهم( أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً )لمثل موسى عليه السلام ما ابتلوا به من السؤال عن البقرة حتى رزءوا في أموالهم بما وزنوه من ثمنها ، وأما قوله« وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ »وكل ما يقع منها مما ذكره« مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ »أي من رجائهم وخوفهم ، لأن الخشية تتضمن الرجاء والخوف ، فأما وصفها بتفجير الأنهار فهو كثرة بكائها ، والماء الخارج من التشقق للبكاء الذي لم يبلغ في الكثرة مبلغ الأنهار ، ومنها بكاء فرح وبكاء حزن ، فبكاء الحزن من خوف التفريط فيما كلفته من التسبيح ، كالمياه الكبريتية الحارة المالحة ، وبكاء الفرح والسرور بما وفقت له من ذكر اللّه كالمياه الباردة العذبة ، وما بينهما من أصناف المياه كما بينهن من الأحوال في امتزاجاتها ، من خلط الحزن بالسرور والفرح على حسب ما يغلب عليها ، والمياه شبيه الدموع ، وذكر ما هبط منها في مقابلة ما تكبروا به على أمر اللّه ، ثم هددهم وأوعدهم مجملا فقال« وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ »بالتاء والياء على الغيبة والحضور ، فالحضور له سبحانه ، والغيبة خطاب لموسى ولمن عرفهم بذلك ، ثم قال لمحمد عليه السلام وأمته ( 76 )« أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ »الآية ، هذه مسئلة مشكلة وليس لها مخرج إلا ما روي عن عيسى عليه السلام لما لقيه إبليس وكان غرضه أن يطيعه ولو في الدلالة على الخير ، فقال له ( يا عيسى قل لا إله إلا اللّه ) فقال عيسى عليه السلام ( أقولها لا لقولك لا إله

ص 150

الأصل على ما هو عليه ليبقى لهم العلم ولعلمائهم ، فما هو عند علمائهم محرف ، وهم يحرفونه لأتباعهم فأضلهم اللّه على علم ، فالتوراة مع اختصاصها بأن اللّه كتبها بيده لم يحفظها من التبديل والتحريف الذي حرفه اليهود . وحفظ كلام اللّه ، وعصمته إنما يعصم لأنه حكم ، والحكم معصوم ومحله العلماء به ، وتولى اللّه فينا حفظ ذكره واستحفظ كتابه غير هذه الأمة فحرفوه وهم يعلمون بمخالفتهم ( راجع المائدة - 14 ) .



من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

إلا اللّه ) وهؤلاء المنافقون قد قالوا آمنا بألسنتهم وهم يعلمون أنه رسول اللّه حقا ، لا يشكون فيه كما لا يشكون في أبنائهم ، وهم مصدقون بقلوبهم لأنهم لا ينكرون علمهم ، وأقروا بألسنتهم للمؤمنين إذا لقوهم ، فلم يبق سلب الإيمان عنهم إلا كونهم لم يقولوا : لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ، لقوله صلى اللّه عليه وسلم ، قال تعالى( إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ )لا في قولهم ، فإنهم قالوا حقا ، ولا في بواطنهم ، فإنهم عالمون أنه رسول اللّه من كتابهم ، فلم يبق تكذيب اللّه لهم إلا أنهم أظهروا أنهم قالوها لقوله صلى اللّه عليه وسلم ، ولم يكن كذلك ، فهذا معنى قوله لنبيه عليه السلام وأصحابه« أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ »فيكون سرهم وعلانيتهم أن قالوها لقولك سواء ، هذا لا يكون منهم ، بل يجرون على ما كان عليه بعض أسلافهم ، وهو قوله« وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ »فيحتمل إضافة سماع الكلام لهم وجهان ، الواحد أن يكون سماعهم من تلاوة موسى عليهم كتابهم ، مثل قوله تعالى( فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ )ويحتمل أنهم سمعوا كلام اللّه كما سمعه موسى حين كلمه ربه على الطور وقد ذكر ذلك ، ووقع الإشكال من قوله« ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ »ما ضبطوه ، فلو لم يذكر التحريف كان يتقوى أنهم سمعوا كلام اللّه حين كلم موسى ، وكان يتعين أنهم السبعون الذين اختارهم ، وقوله« ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ »يغيرونه إما بحذف بعض الكلام ليزول المعنى ، مثل قولهم 

[ ومن يبتغ الإسلام دينا ] 
فأزالوا غير ، وإما أن يزيدوا فيه كلاما حتى يتغير المعنى إلى ما يريدونه ، وقوله« وَهُمْ يَعْلَمُونَ »يحتمل أن يكون الضمير يعود على قوم موسى أنهم عالمون بما حرفوا ، ويحتمل أن يعود على يهود المدينة« وَهُمْ يَعْلَمُونَ »أنك رسول اللّه وأنك على الحق ، كما علم أسلافهم وغيّروا ، كذلك هؤلاء إذا فارقوكم يظهرون لإخوانهم أنهم بخلاف ما ظهروا لكم به من الإقرار والانقياد ، ثم قال تعالى ( 77 )« وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا »كان المنافقون إذا لقوا الذين آمنوا« قالُوا آمَنَّا »أي صدقنا« وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ »كان المسلم إذا خلا بأحد من ذوي رحمه من المنافقين يقول له المسلم : إن رسول

ص 151

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 76 إلى 79
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ( 76 ) أَ وَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ( 77 ) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ( 78 ) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ( 79 )   
« ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ »وهو ما توسوس به نفوسهم ، وما تسول لهم شياطينهم ،« لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا »من الجاه والرئاسة عليهم ، وما يحصلوه من المال .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

اللّه يقول إن اللّه قد ذكر لكم في كتابكم نعته ، فيقول له المنافق : نعم إنه لكما قال وإنه لنبي حق ، فإذا بلغ ذلك إلى رؤسائهم مثل حيي بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ، وغيرهم ، يعظم ذلك عليهم ، فإذا خلوا مع هؤلاء الذين تحدثوا مع المسلمين أن اللّه قد أخبر في التوراة بصدقه ، وأنه نبي ، يقولون لهم« قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ »يعني من العلم به ويروا أن الشرف في العلم« لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ »ليحتجوا بكتابكم عليكم بإقراركم ، أي عند ذكركم أنه في كتاب ربكم ، ويحتمل أن يريدوا بذلك يوم القيامة ، قال تعالى( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ )وهو الأوجه ، يقول« أَ فَلا تَعْقِلُونَ »إنكار ، أي ليس لكم عقول تعرفون بها هذا القدر أنه حجة عليكم ، فأخبر اللّه نبيه بجهلهم باللّه تعالى فقال ( 78 )« أَ وَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ »بعضهم لبعض فيخبرك به« وَما يُعْلِنُونَ »وما يظهرون به عندكم ، مما يكذبون فيه أنهم مصدقون لقولك ، ثم قال تعالى ( 79 )« وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ »الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب ولا يحسب« لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ »فيعلمهم علماؤهم وأحبارهم بما يشتهون ، ولا يخبرونهم بما أنزل فيها من الحق في نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فيقلدونهم في ذلك ، وقوله« إِلَّا أَمانِيَّ »إلا أن لهم قدرة على الاختلاق وتنظيم الكلام لمن لا يفهم حتى يعتقد أنه حق ، يقال منّى إذا قدر


ص 152
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 80 إلى 81
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ( 80 ) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ( 81 )
فهم الذين تمسهم النار فإنه ما كل من دخل النار تمسه ، فإن ملائكة العذاب في النار وهي دارهم وما تمسهم النار .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

" وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ »فذمهم لأنهم متمكنون أن يتعلموا الكتاب حتى يكونوا مثل الذين يعلمون الكتاب فلا يقلدونهم ، و« إِلَّا أَمانِيَّ »استثناء منقطع ، وقد يكون عندي استثناء متصل ، وإن كانوا لا يعلمون إلا أنهم قادرون على الاختلاق ، ثم قال ( 80 )« فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ »أخبر أن لهم الويل يوم القيامة والنشور بما كتبت أيديهم من تغيير نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلم وأمته من التوراة ، وقولهم لمن لم يعرف منهم أن هذا الذي نزل من عند اللّه ، وهو قوله« ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا »من متاع الدنيا ، أو يكون الثمن رياستهم وافتقار الناس إليهم فيما يشرعون لهم« فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ »من أجل ذلك« وَوَيْلٌ لَهُمْ »زائد على ذلك« مِمَّا يَكْسِبُونَ »أي مما حصل لهم من ذلك من المال والرئاسة ( 81 )« وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً »يقولون وإن دخلنا النار على زعمكم ، فإن اللّه عادل لا يعذبنا في النار إلا أيام كفرنا وبعد ذلك نخرج ، وصدقوا فيما قالوه من الأيام المعدودة ، وكذبوا في انقضاء ذلك ، وذلك أن اللّه لا يعذبهم إلا على قدر كفرهم بالنوع الذي وعد على كل سيئة من العذاب الخاص بتلك السيئة ، فإذا انتهى الزمان الذي كان قدر ما كفروا فيه رجع عوده على بدئه ، فلا يزال يدور عليهم عودا على بدء إلى غير نهاية ، كما تدور أيام الجمعة وكما تدور فصول السنة وإن كانت محصورة فدورانها ليس بمحصور ، إلا أن يشاء اللّه ذلك كما شاء بانقضاء الدنيا ، ولأنه ما مر عليهم يوم من أيام الجمعة إلا والكفر والنفاق يستصحبهم فيه ، فتتعاقب الأيام السبعة عليهم دائما بما عملوه ، ألا ترى في الخبر الوارد أن أبا لهب عم النبي عليه السلام يخفف عنه العذاب ليلة الاثنين لوليدة أعتقها فرحا بمولد النبي عليه السلام ، فجوزي بذلك في اليوم الذي أوقع فيه هذا الخير ، فإن أنكر منكر وجود الأيام في الدار الآخرة فاللّه يقول( لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا )إلى غير ذلك من الأخبار ، ثم نرجع ونقول والسبب الموجب لذلك هو ما نذكره ، وذلك أن الجنة والنار تتضمن

ص 153

سورة البقرة ( 2 ) : آية 82
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ( 82 )

الجنة دار بقاء السعادة والنظر ، وهي الساترة لأهلها عن كل مكروه يكون في الدار التي تقابلها ، وما يعطيه سلطان أسماء الانتقام .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

ثلاثة أحوال : دخولا ، ونزولا فيها على طبقات مخصوصة ، وخلودا بلا خروج ، فأما الدخول فيها فبرحمة اللّه .
قال عليه السلام 
[ لا يدخل الجنة أحد بعمل ، قيل له : ولا أنت ؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه برحمته ] 
فإن الدخول حالة متوهمة ، وذلك كالخط الفاصل بين الظل والشمس الذي ليس من الظل ولا من الشمس وهو متوهم فهو حال الدخول ، فإنه إن كنت في أول الشمس الملاصق للظل فقد دخلت وأنت في الشمس ، وإن كنت في الظل الذي في الحد المجاور للشمس فما دخلت ، فلما لم يكن لهذا الفاصل المتوهم وجود حسي لم يقترن به عمل يوجبه إلا رحمة اللّه ، فإذا دخل السعيد أو الشقي داره نزل فيها بحسب عمله في الدرجات والدركات زمانا وحالا ، وأما الخلود فموجبه النيّات ، وهو أن كل فريق منهم كان في نيته لو بقي في الدنيا أبد الآبدين لا يخرج منها لبقي على اعتقاده ذلك ، كفرا كان أو إيمانا ، فكان الخلود في مقابلة هذا الاستمرار ، فصدقوا في قولهم« أَيَّاماً مَعْدُودَةً »وغاب عنهم أن ذلك يدور عليهم دائما ، وهذا في أهل النار الذين هم أهلها ، وأما الرحمة في دخول النار فهي بالنار وما فيها من الحيوانات المعدة للعذاب ، فرحمها اللّه بما جعل فيها من الإنس والجن ، فتأكل جلودهم وتعذبهم ، فإنها تتنعم بالانتقام من أعداء اللّه ، مثل التشفي ، وقد صح عندنا هنا أنها اشتكت إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا ، فرحمها بأن أذن لها بنفسين ، نفس في الشتاء وهو ما نجده من شدة البرد ، ونفس في الصيف وهو ما نجده من شدة الحر ، وإن شئنا قلنا إنهم يدخلونها بعدل اللّه ، فقال اللّه حين قالوا« لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً »« قُلْ »لهم يا محمد« قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً »أنزله عليكم في الكتاب ففعلتم به ، فإن كان هذا« فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ »ففي الكلام حذف« أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ »يقول : أم تفترون على اللّه الكذب ، أما حرف« أَمْ »هنا قد يكون بمعنى أي ، وقد يكون منقطعا ، ثم قال ( 82 )« بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً »جواب قولهم( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً )« بَلى »تمسكم دائما يفسره قوله« مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ »على الجمع والإفراد وإذا أحاطت به فلم يكن له عمل صالح شرعا وعرفا يخرجه من النار ، فإنه لو تخلل هذا أمر ما صالح ما كان محيطا ، وهؤلاء أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون فيها ولا يحيون ، فهم شر محض ليس فيهم من الخير المشروع ولا المعروف شيء ، إما بأنهم جوزوا على ذاك في الدنيا ،

ص 154

سورة البقرة ( 2 ) : آية 83
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ( 83 )

الزكاة : ربو من زكا يزكو إذا ربا ، والزكاة طهارة بعض الأموال .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

وإما لم يعملوه ، فهذا معنى« وَأَحاطَتْ بِهِ »« فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ »وأصحاب النار هم أهلها الذين خلقوا لها ، وأما الدوام فيها إلى ما لا يتناهى فلا يقبل موحدا ، أخرج مسلم في الصحيح من رواية عثمان ، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم [ من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا اللّه دخل الجنة ولو دخل النار ] وهذا خبر ، والخبر الإلهي لا يدخله النسخ ، ويخرج اللّه يوم القيامة من لم يعمل خيرا قط ، والتوحيد ليس بعمل وإنما العمل طلب تحصيله ، فهؤلاء الذين أخرجهم اللّه حصل لهم نور من عنده سبحانه من غير عمل ولا تعمل ، ولكن عملوا أعمالا استوجبوا بها العقاب ما شاء اللّه ، ثم أخرجهم سبحانه بالعناية التي سبقت لهم ، ثم قال في مقابلة هؤلاء في أهل الجنة الذين هم أهلها ( 83 )« وَالَّذِينَ آمَنُوا »باللّه وما أنزله من الكتب والرسل« وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ »في مقابلة ( وأحاطت به خطيئاته ) فإن الأعمال الصالحة هي التي لا يدخلها خلل يزيل عنها اسم الصلاح ، قال« أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ »فخصهم بالذكر دون من يدخل الجنة بالشفاعة وبعد العذاب ، تهمما بهم واعتناء ، وإن كان الخلود في الجنة يشمل العاصي والطائع ، ثم قال ( 84 )« وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ »جميع ما يأتي هو شرح الميثاق الذي أخذه عليهم ، فهو إخبار بما عهد إليهم وتعليم لنا ، فقوله« لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ »أي لا تقروا بالوحدانية في الألوهية ولا تتقربوا بالعبادات إلا اللّه ، وقرئ بالتاء والياء على الإخبار وعلى حكاية الخطاب الذي قال لهم ، ومن ذلك قوله« وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً »أي برا بهما عاما ، وهو حجتنا على من يلزمنا الوقوف عند التأفيف لهما من التنبيه بالأدنى على الأعلى في تأويلهم ، وأن ما عدا التأفيف يجوز أن نعاملهما به ، فنلتزم لهم ذلك ونجعل حجتنا« وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً »وما عدا التأفيف من قبيح الأفعال ومما يؤدي إلى العقوق يدخل في الإحسان اجتنابه ، وقوله« وَذِي الْقُرْبى »يريد صلة الرحم ، وقوله« وَالْيَتامى »يخاطب الأوصياء بحفظ أموالهم ، وغير الأوصياء بالشفقة عليهم وجبر انكسارهم ليتمهم ، وقوله« وَالْمَساكِينِ »وهم الذين أذلهم


ص 155
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 84 إلى 85
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ( 84 ) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 85 )
يوم القيامة هو يوم قيام الناس من قبورهم لرب العالمين لفصل القضاء .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

الفقر ، فيتصدق عليهم برؤية المنة لهم علينا في قبولهم منا ما نواسيهم به ، وأن نعرفهم أنا مستخلفون من اللّه فيما بأيدينا ، فهو رزقكم ، ونحن أمناء اللّه عليه ، حتى يأخذه المسكين بعزة ولا يظهر عليه ذلة الحاجة لما في أيدينا ، وقوله« وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً »أي ألقوهم بالبشاشة وطلاقة الوجه والقول الحسن ، قال تعالى( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ )وقوله أيضا( وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً )هذا كله من القول الحسن المأمور به ، ثم قال« وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ »قد تقدم الكلام على ذلك فيما مضى« ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ »عن كل ما أخذنا عليكم الميثاق فيه« إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ »عن ذلك ، لأنه قد يكون توليهم عند فراغ الخطاب تولي مفارقة إلى منازلهم ليعملوا بما كلفوا ، فأخبر تعالى أن توليهم كان إعراضا عن الحق ، واستثنى قليلا منهم ، وهو من أسلم وانقاد إلى الحق وعمل به ، كعبد اللّه بن سلام وابن أخته قيس بن زيد وغيرهما ، وهذا يرجح من قرأ بالتاء المنقوطة من فوق من« لا تَعْبُدُونَ »وقد يحتمل أن يكون ضمير المخاطب في« تَوَلَّيْتُمْ »و« أَنْتُمْ »يهود المدينة ، أي توليتم عند إخبارنا إياكم ما أخذناه على أسلافكم أن يكونوا عليه وذريتهم وأعقابهم ، إلى أن جاء زمانكم فتوجه إليكم الخطاب بما تتضمنه توراتكم من ذلك وغيره ، من الإيمان بمحمد واتباعه من نفس كتابكم ، فتوليتم وأنتم معرضون إلا قليلا منكم ، ثم قال ( 85 )« وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ »يقول مخاطبا يهود المدينة ، وقد

ص 156


سورة البقرة ( 2 ) : آية 86
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 86 )
لولا نحن ما قيل : دنيا ولا آخرة ، وإنما كان يقال ممكنات وجدت وتوجد كما هو الأمر ، فلما عمرنا نحن من الممكنات المخلوقة أماكن معينة إلى أجل مسمى من حين ظهرت أعياننا ، ونحن صور من صور العالم ، سمينا ذلك الموطن الدار الدنيا ، أي الدار القريبة التي عمرناها في أول وجودنا لأعياننا ، وقد كان العالم ولم نكن نحن ، مع أن اللّه تعالى جعل لنا في عمارة


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

أخذنا ميثاقكم على ما وجدتموه في التوراة وتقرونه بينكم« لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ »أي لا تقتلوا أنفسكم ، ولا يقتل بعضكم بعضا ، يقول اللّه فيمن قتل نفسه

[ بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة ]
« وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ »أي لا يخرج بعضكم بعضا من منزله تعديا عليه« ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ »بأن ما ذكرناه حق« وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ »أنه في كتابكم كما أخبركم به محمد عليه السلام ، وهو أمي لا يقرأ كتابكم ، فتعلمون أنه نبي أرسلناه من عندنا ، فكفرتم ببعض ما أنزل إليكم في كتابكم ، وهو قوله ( 86 )« ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ »يقول يقتل بعضكم بعضا« وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ »أي تتعاونون عليهم بما تأثمون بفعله« وَالْعُدْوانِ »من التعدي لحدود اللّه« وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ »من ديارهم ، فهذا مما كفرتم به فغيرتم الصفة التي أقررتم ، بما فعلتم من القتل والإخراج ، فغير اللّه بكم بما نذكره في الخزي الذي نالهم في الحياة الدنيا ، قال تعالى( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ )وكتبنا عليكم في التوراة أن تفدوا من أسر منكم ، وهو قوله« وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ »فهذا مما أنتم به من التوراة مؤمنون ، يقول اللّه لهم« أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ »وهو قوله أيضا في سورة النساء( وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا )أي يحدثوا طريقا أخرى من عند أنفسهم ، أولئك هم الكافرون حقا ، فقال تعالى« فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ »وهو الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه« إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا »وهو ما كان من قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير ، وما ضرب اللّه عليهم من الذلة والمسكنة أينما كانوا إلى يوم القيامة« وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ »وهو الدرك الأسفل من النار الذي أعده اللّه للمنافقين« وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ »وعيد وتهديد من اللّه لهم ( 87 )" أُولئِكَ "إشارة إليهم« الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ

ص 157

الدنيا آجالا ننتهي إليها ، ثم ننتقل إلى موطن آخر يسمى آخرة ، فيها ما في هذه الدار الدنيا ، ولكن متميز بالدار كما هو هنا متميز بالحال ، ولم يجعل لإقامتنا في تلك الدار الآخرة أجلا تنتهي إليه مدة إقامتنا ، وجعل تلك الدار محلا للتكوين دائما أبدا إلى غير نهاية ، وبدل الصفة على الدار الدنيا فصارت بهذا التبديل آخرة والعين باقية« فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ »لما قال تعالى في حق أهل الشقاء :« إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ »ما قال إن الحال التي هم فيها لا تنقطع كما قال في السعداء والذي منع من ذلك قوله :« وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ »وقوله : « إن رحمتي سبقت غضبي » في هذه النشأة فإن الوجود رحمة في حق كل موجود ، وإن تعذب بعضهم ببعض ، فتخليدهم في حال النعيم غير منقطع ، وتخليدهم في حال الانتقام موقوف على الإرادة ، فقد يعود الانتقام منهم عذابا عليهم لا غير ويزول الانتقام ، ولهذا فسره في مواضع بالألم المؤلم وقال :« عَذابٌ أَلِيمٌ »و« الْعَذابَ الْأَلِيمَ » *وفي مواضع لم يقيد العذاب بالأليم وأطلقه فقال :« فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ »يعني وإن زال الألم وقال :« فِي عَذابِ جَهَنَّمَ »ولم ينعته بأنه أليم .


سورة البقرة ( 2) : آية 87   وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ( 87 )  
وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ »أي قويناه فإن الخوف مما تطلبه حكم الطبيعة في هذه النشأة ، فإن لها خورا عظيما لكونها ليس بينها وبين الأرواح التي لها القوة والسلطان عليها واسطة


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ »يعني ما عصموا به دماءهم وأموالهم من كلمتي الشهادة ، فكانوا في الدنيا معافين ، والكفار بالجزية ، فاشتروا عافية الدنيا وتركوا عافية الآخرة ، وقد تقدم معنى ذلك في تفسير( اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى )في أول السورة ، قال« فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ »إذ لم يعملوا ما يوجب لهم التخفيف عنهم من ذلك« وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ »ولا لهم ناصر ينصرهم ، ثم قال ( 88 )« وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ »يعني التوراة« وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ »يقول بعد موت موسى

ص 158

ولا حجاب ، فلازمها الخوف ملازمة الظل للشخص ، فلا يتقوى صاحب الطبيعة إلا إذا كان مؤيدا بالروح ، فلا يؤثر فيه خور الطبيعة ، فإن الأكثر فيه أجزاء الطبيعة ، وروحانيته التي هي نفسه المدبرة له موجودة أيضا عن الطبيعة فهي أمها ، وإن كان أبوها روحا ، فللأم أثر في الابن فإنه في رحمها تكوّن ، وبما عندها تغذى ، فلا تتقوى النفس بأبيها إلا إذا أيدها اللّه بروح قدسي ينظر إليها ، فحينئذ تقوى على حكم الطبيعة فلا تؤثر فيها التأثير الكلي وإن بقي فيه أثر ، فإنه لا يمكن زواله بالكلية ، ولما كان عيسى عليه السلام روحا كما سماه اللّه أنشأه روحا في صورة إنسان ثابتة ، فكان يحيي الموتى بمجرد النفخ ، ثم إنه أيده بروح القدس فهو روح مؤيد بروح طاهرة من دنس الأكوان .


سورة البقرة ( 2 ) : آية 88
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ ( 88 )


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

أرسلنا رسلا تترى ، يقال قفاه إذا اتبعه من قفاه ، كما يقال واجهه إذا جاءه من جهة وجهه ، فإنه جاء بغده يوشع وشمويل وشعيا وأورميا وداود وغيرهم ، وكلما جاء أمة رسولها كذبوه إلى أن جاء عيسى ابن مريم« وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ »وهو أيشوع بالسريانية ، والمريم من النساء كالزير من الرجال ، فأعطاه اللّه من البينات ما جاء ذكره في القرآن« وَأَيَّدْناهُ »يقول وقويناه« بِرُوحِ الْقُدُسِ »فيه وجهان ، الواحد أنا خلقناه مطهرا من الشهوة الطبيعية التي تكون عن النكاح ، فإنه لم يكن عن نكاح ، فليس للطبيعة فيه أثر ، فكأنه خلق مؤيدا بأصل نشأته ، فلم يجدوا له قومه ما يثلبونه به ، والوجه الثاني يعني جبريل عليه السلام ، فجعلناه له ركنا يأوي إليه ويتقوى جأشه به عند منازعة قومه ، فكانت اليهود قد قالت لمحمد عليه السلام : إن من جاء قبلك من الرسل جاءوا بالبينات ، فأت أنت بمثل ما جاءوا به ، فأنزل اللّه عليه« أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ »يعني أن طلبهم البينات كان دفعا لنبوته حتى لا يؤمنوا به ، فإنه من أعظم البينات له كونه مذكورا في كتابهم بنعته واسمه ، وفي الإنجيل ، كما أخبر اللّه تعالى أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يقول« اسْتَكْبَرْتُمْ »عن اتباع أمثال الرسل وعن اتباعي« فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ »وما سلطتم عليهم« وَفَرِيقاً »أيضا من الأنبياء« تَقْتُلُونَ »قتلتم كيحيى وزكريا وغيرهما ، وأردتم قتلي بما جعلتم في ذراع الشاة من السم ، ولكن عصمني اللّه منكم ، ولكن مع هذا قال عليه السلام [ ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري ] لتحصل له الشهادة التي هي أشرف الموتات ، فلما عرفت اليهود أن الذي قاله حق ولم تكن لهم حجة يحتجون بها ( 89 )« وَقالُوا

ص 159

" وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ »أي في غلاف ، وهو الكن الذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 89
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ ( 89 )
يعني بذلك كل كافر به في كل زمان ، حتى يبقى العموم في الضمير على أصله ، كما قال تعالى :« وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ »صفة لمحذوف فيكونون أولا في أهل زمانهم في الكفر به فقوله تعالى :« فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ »وإن كان له وجود قبل مجيئه إليهم فيعم كل من كفر به في كل زمان .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

قُلُوبُنا غُلْفٌ »قالوا قلوبنا غلف أي هي في غلاف ، مثل قولهم( فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ )ففي هذا الكلام رائحة من الرجوع إلى القضاء والقدر ، أي لو أراد اللّه أن نتبعك لأزال هذا الغلاف عن قلوبنا فأبصرت نور النبوة ، فأضرب اللّه عن قولهم فقال« بَلْ »حرف إضراب« لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ »باء السبب ، فأوقع اللعنة عليهم لأنهم كفروا ، أي ستروا الحق الذي يعلمونه من نبوة محمد ، ويحتمل أن يكون قولهم« قُلُوبُنا غُلْفٌ »أي هي نفس الغلاف لما تحوي عليه من العلوم ، فلو كنت نبيا لكان في قلوبنا العلم بك ، فأخبر تعالى أن الكفر في قلوبهم بنبوته فلعنهم اللّه لذلك ، وصدقهم في قولهم إن قلوبنا غلف ولكن للكفر« فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ »فمنهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ، ولتكذيبهم أيضا وجه في قولهم« قُلُوبُنا غُلْفٌ »( وفي أكنة مما تدعونا إليه ) فإنه مما يدعوهم إليه الإيمان باللّه وقد فطروا عليه ، إذ كل مولود يولد على الفطرة ، فبطل أن تكون قلوبهم في غلاف وكن من الإيمان باللّه ، ولهذا جعلنا ذلك الإيمان بنبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم قال ( 90 )« وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ »يعني القرآن و« مِنْ عِنْدِ اللَّهِ »في موضع الصفة للكتاب« مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ »أي لما في الكتاب الذي معهم وهو التوراة والإنجيل« وَكانُوا مِنْ قَبْلُ »أن يأتيهم محمد بالقرآن يؤمنون به من كتابهم ، وإذا اجتمعوا بالكفار في قتال« يَسْتَفْتِحُونَ »أي يستنصرون اللّه« عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا »به ، فيقولون : اللهم بحق هذا النبي الذي يأتي ووصفته لنا في كتابنا فانصرنا عليهم ، وهذا معنى قوله« وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا »« فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا »الذي كانوا يستنصرون به ، وهو قوله( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ )« كَفَرُوا بِهِ »

ص 160

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "90 - 106" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 20, 2019 12:35 pm

تفسير آلآيات من "90 - 106" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 90 إلى 91
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ ( 90 ) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 91 )
اليهود لم يؤمنوا بكل ما أتى به موسى ، ولو آمنوا بكل ما أتى به موسى لآمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم وبكتابه« قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »اعلم أن اللّه مع الأنبياء بتأييد الدعوى ، لا بالحفظ والعصمة إلا إن أخبر بذلك في حق نبي معين ، فإن اللّه قد عرفنا أن الأنبياء قتلتهم أممهم وما عصموا ولا حفظوا .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فكفروا جواب « لما جاءهم ما عرفوا » وجواب لمّا في« لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ »محذوف ، تقديره كذّبوا به ، أي بالكتاب ، فجمعوا بين كفرين ، وخص الاستفتاح دون الافتتاح لأنه بالسين أبلغ« فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ »الألف واللام للجنس ، وهو أولى من العهد ، ثم قال ( 91 )« بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ »لما جاء الشرع ببيع النفوس في قوله( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ )وسبب ذلك هذه الإضافة ، وهي دعوى الملك فيها ، والعالم باللّه لا نفس له بل كله ملك للّه ، فإذا أضافها العالم باللّه إليه في مثل قوله( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي )وقوله( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا )فبتمليك اللّه لا تمليك استحقاق ، فوقع البيع على هذا القدر الذي لحق المؤمن غير العالم من الملك ، فصح بيع النفس لكل ذي نفس من المؤمنين من اللّه تعالى ، فالمؤمن لا نفس له ، وأما غير المؤمن وغير العالم باللّه فنفسه باقية في ملكه في دعواه ، فلهذا صح لهؤلاء وثبت أن يبيعوا أنفسهم بعرض من الدنيا ب« أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ »من الكتب« بَغْياً »أي حسدا« أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ »من أجل أن أنزله اللّه على موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام تفضلا منه دونهم ، فنازعوا اللّه تعالى وكفروا ، وكذبوا بما جاءت به الأنبياء« فَباؤُ بِغَضَبٍ »من الكفر والتكذيب« عَلى غَضَبٍ »من المنازعة ، فهذا دليل على أنهم صدقوا بالإنزال أنه من عند اللّه ، وقد يستروح

ص 161

سورة البقرة ( 2 ) : آية 92
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ( 92 )




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
من قوله« عَلى مَنْ يَشاءُ »أن اليهود حسدت العرب حيث كان محمد الذي يجدونه مكتوبا عندهم من العرب ولم يكن من بني إسرائيل ، فأداهم ذلك إلى الكفر بالقرآن ، ثم قال« وَلِلْكافِرِينَ »الجنس أيضا« عَذابٌ مُهِينٌ »في مقابلة إهانتهم للقرآن ومن جاء به ، من قوله( لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ )وغير ذلك ، فهو خصوص عذاب لصفة مخصوصة في كل من ظهرت منه وعوقب بها ، ثم قال ( 92 )« وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ »الضمير يعود على اليهود ، وما هنا فيما أنزل اللّه يريد القرآن والإنجيل« قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ »يؤيد ذلك قوله« وَهُوَ الْحَقُّ »الضمير يعود على المنزل ،« مُصَدِّقاً »أي جاء مصدقا لما معهم ، يريد التوراة التي أنزلت عليهم ، فقالت اليهود : نؤمن بما أنزل علينا ، يعني التوراة ، ونكفر بما وراءه ، تقول :
وراء كتابنا ، أي بما جاء بعده من الكتب ، فقال اللّه لمحمد« قُلْ »لهم« فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ »وكتابكم لا يتضمن قتل من قتلتموه من الأنبياء ، فقولكم« نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا »ليس بصحيح ، ولهذا قال لهم« إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »في إيمانكم بما أنزل عليكم ، فقرينة الحال تدل على أنهم قتلوا الأنبياء تكذيبا لهم مع إتيانهم بالبينات والقربان ، لأنهم لو لم يقتلوهم تكذيبا ما كان قول محمد صلّى اللّه عليه وسلم لهم« فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ »حجة عليهم ، لأن المؤمن لا يلزم أن يكون معصوما من وقوع الذنب منه ، والقتل فعل ظاهر ، وقد يكون من المصدّق والمكذب ، وقد يكون قوله« إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »أي مصدقين في أن اللّه عهد إليكم في كتابكم ( ألا تؤمنوا لرسول حتى يأتيكم بقربان تأكله النار ) فقد جاءوا ، فلم قتلتموهم ؟ ( 93 )« وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ »حين مشى إلى ميقات ربه« وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ »أنفسكم في ذلك ، وظالمون بعضكم لبعض حيث لم تتناهوا عن منكر فعلتموه ، ثم قال ( 94 )« وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ، قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ، قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »لما ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور ظلة عليهم لما امتنعوا من أخذ الكتاب ، ذكر في القصة الأولى بعض الأسباب وهو ترجي التقوى ، فقال( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )

ص 162

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 93 إلى 96
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 93 ) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ( 94 ) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 95 ) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ( 96 )
الحرص يتعلق به الذم من جهة متعلقه إذا كان مذموما شرعا وعقلا ، وقوله تعالى :« وَلَتَجِدَنَّهُمْ »الضمير يعود على قوم مذمومين ، وقرينة الحال تدل على أن مساقه الحرص فيها على الذم تكذيبا لهم فيما ادعوه من أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
إذ ذكرتم ما فيه عند أخذكم إياه بجد وعزم ، وزاد في هذا التعريف الثاني لنا أنه قال لهم« وَاسْمَعُوا »وهذا أقوى من الأول وأشد في التكليف ، أراد« وَاسْمَعُوا »لتعملوا بما سمعتم ،« قالُوا سَمِعْنا »ما قال ربك لنا في التوراة« وَعَصَيْنا »لأنه شدد علينا ووضع علينا من التكاليف ما يشق علينا فعلها ، ونحن نطلب الرفق ، ولهذا أحببنا عبادة العجل لأنه لم يكلفنا ووسع علينا ، فأخبر تعالى أنهم« أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ »أي خالط لحمهم ودمهم حبه ، قال اللّه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم« قُلْ »لهم« بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ »في زعمكم إن صح كونكم مؤمنين ، فهو قوله« إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »وقوله« بِكُفْرِهِمْ »بالتكاليف الشاقة عليهم . لما ثبت عندنا وعند اليهود أن الجنة خالصة للمؤمنين باللّه بلا شك ، وأنها دار راحة لا تعب فيها ولا نصب ، وأن الدنيا دار تعب ونصب ، والنفس مجبولة على طلب الراحة ، والجنة لا تحصل إلا بعد الموت ، فالموت مطلوب للمؤمن لتخليصه من المشقة وحصوله على الراحة ، وأنتم تزعمون أنكم مؤمنون ، وأن لكم الدار الآخرة ، يريد الجنة خالصة من دون الناس ، يريد الناس كلهم أو المسلمين خاصة ، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في القطع بسعادتكم ، فقال اللّه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ( 95 )« قُلْ »لهم« إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »ثم أخبر نبيه عن حال اليهود فقال ( 96 )« وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ »وهذا من آياته صلّى اللّه عليه وسلم نطقه بالغيب ، فأخبر بما يكون منهم من عدم تمني الموت قبل وقوع ذلك منهم ، فكان كما قال ، قال عليه السلام

ص 163

سورة البقرة ( 2 ) : آية 97  
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 97 )
راجع نزول القرآن على القلب آية 121 .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لو تمنوا الموت ما قام أحد من مجلسه حتى يموت غصصا بريقه   
فأخبر عليه السلام بالأمر قبل كونه ، وقال« وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ »وعيد وتهديد لليهود لأنهم يعلمون أنهم ظالمون ، فإنهم على يقين من صدق ما كفروا به ، ويعلمون أن اللّه يعلم ذلك ، وعملهم يقتضي بالحال أنهم يعتقدون أن اللّه لا يعلم ذلك ، كما يذهب إليه بعض النظار من الفلاسفة أن اللّه لا يعلم الجزئيات ، فهذا فائدة قوله لهم« وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ » ،ثم قال لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ( 97 )« وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ »هما معمولان لهذا الفعل ، أي أشد الناس حرصا ، والألف واللام للجنس ، فأنهم أحرص على الحياة من كل أحد وخصوصا « و » أحرص« مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا »فإنه لا أحد أحرص على الحياة ممن لا يقول بالبعث ، فيستغنم الحياة الدنيا ، فهو شديد الحرص على طلبها ، وهؤلاء اليهود المنكرون ما تيقنوا أنه صدق ، وقد تيقنوا العقوبة على ذلك من كتابهم ، فهم قاطعون بالوعيد ، فحرصهم على الحياة أشد من حرص من لا يؤمن بالبعث لما يؤلون إليه في الدار الآخرة من العذاب ، وهو الأوجه في الترجمة عن هذه الآية ، وقوله« عَلى حَياةٍ »منكّرة أي حياة بهذه الصفة من الطول« يَوَدُّ أَحَدُهُمْ »أي يتمنى« لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ »والمعنى أبدا ، لعلمه بما يصير إليه بعد الموت ، قال تعالى« وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ »فهنا وجهان - الواحد :
أن الدنيا لا بد من تناهيها ، فلا بد من الموت واللحوق بما ذكرناه من الوعيد لهم ، ففيه أنهم لا يتوبون ولا يتوب اللّه عليهم ، فهذا يأس من اللّه لهم وهو سديد ، والوجه الآخر : أنه وإن كانت الإقامة في الدنيا لهم سرمدا ولا تكون آخرة فليس هذا مما ينجيهم من عذابنا ، فإن العمر الطويل وغير الطويل لا ينجي من العذاب« وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ »أي يبصر ويرى ما يكون من أعمالهم ، تنبيه على الخوف والحياء منه سبحانه ، وفيه هنا تهديد ( 98 )« قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ »زعمت اليهود أن اللّه أمر جبريل أن يجعل النبوة في بني إسرائيل فجعلها في العرب ، فاتخذوه عدوا ، كما فعلت الرافضة حيث قالوا : إن اللّه أمر جبريل أن يجعل النبوة في علي ، فجعلها في محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وهذا من جملة ما ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه يكون في أمته ، فقال في الحديث الصحيح [ إنكم لتتبعون سنن من

ص 164

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 98 إلى 102  
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ( 98 ) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ ( 99 ) أَ وَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 100 ) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 101 ) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ( 102 )

[ قصه هاروت وماروت ]
تكلم بعض المفسرين بما لا ينبغي في حق الملكين ، وبما لا يليق بهما ، ولا يعطيه ظاهر




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ] الحديث ، وفيه [ قالوا يا رسول اللّه أاليهود والنصارى ؟ قال :
فمن ] فهذا من ذلك ، اتباع الروافض اليهود في نسبة الخيانة لجبريل ، فقال تعالى« قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ »لأجل هذا ، فإن جبريل ما فعل شيئا ولا تعدى أمر اللّه ، فإن اللّه أنزله على قلب محمد بإذن اللّه ، أي بأمره قال تعالى( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ )« مصدقا » يعني الكتاب الذي هو القرآن« لِما بَيْنَ يَدَيْهِ »من الكتب المنزلة« وَهُدىً »وبيانا لما فيها« وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ »لمن آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله ولم يفرق في الرسالة بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا ، ( 99 ) ثم زعمت اليهود أن من أراد أمرا وأراد الآخر خلافه ، فإن كل واحد منهما عدو للآخر ،

ص 165

الآية ، وقد شهد اللّه للملائكة بأنهم لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فقد كذب هؤلاء المفسرون ربهم في قوله في حق الملائكة ، قال تعالى :« وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ »من علم السحر الذي مزجوه بما أنزل على الملكين هاروت وماروت من علم الحق« وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا »له« إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ »فإن مقلوب الحمد كفر وهو الذم« فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما »أي من العلمين« ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ »وهو القدر من السحر الذي يعطي التفرقة ، واللّه قد كره ذلك وقد ذمه ، وندب إلى الألفة




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وجبريل صاحب العذاب والشدائد ، وميكائيل صاحب الخصب والخير فيما يزعمون ، فكل واحد منهما عدو للآخر ، فأخبر تعالى أنهم إن صدقوا ، فإنهم عدو للاثنين معا ، ومن كان عدوا لهما فهو عدو للّه وملائكته ، فيكون اللّه عدوا له وللكافرين ، وتنزيل صورة العداوة منهم لجبريل وميكائيل ، أنهم يريدون بالمؤمنين إنزال العذاب عليهم بالجوع ونقص من الثمرات ، فيرون الخصب فيهم والخير لهم ، وذلك بيد ميكائيل فيكونون عدوا له لأنه أنعم على أعدائهم ، ويرون ما نزل بهم من رفع الطور والصاعقة وغير ذلك وهو من جبريل ، فهم أيضا عدو له ، فلذلك قال تعالى « من كان عدوا للّه وملائكته وجبريل وميكال » فخصهما بالذكر مع دخولهم في عموم ملائكته« فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ »الفاء جواب من ، ثم قال ( 100 )« وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ »يعني في القرآن ، تظهر صدقك في أنك نبي« وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ »الخارجون عن أمر اللّه من أهل الكتب ، حيث أمرهم اللّه في كتبهم أن يؤمنوا بك وبما أنزل إليك فعصوه ، وخرجوا عن أمره ، وهو الفسوق ، والفسوق الآخر في حق الذين خرجوا عما تعطيهم دلالات المعجزات من التصديق بمن جاء بها فلم يؤمنوا ، والفسوق الثالث من المقلدين حيث مكّنهم اللّه من النظر والبحث بما أعطاهم من العقل والفكر فلم يفعلوا وقلدوا ، فهؤلاء أيضا فسقوا أي خرجوا عما تقتضيه عقولهم من أن يكونوا علماء بما هم فيه مقلدون ، فعمّ الفسوق جميع الفرق ، وهذا من جوامع الكلم ، ثم قال ( 101 )« أَ وَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ »هو قوله( ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ )فأخبر تعالى أنه أخذ عليهم مواثيق مرارا ونكثوا عهد اللّه مرارا ، فقد يكون المعنى( وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ )أي إلا الذين فسقوا ونقضوا عهد اللّه ، وأو بمعنى الواو العاطفة المعنى ، وكلما عاهدوا عهدا مع اللّه ورسوله نبذه أي رمى به فريق منهم« بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ »يريد المقلدين لعلمائهم ، فإن العلماء قليلون والمقلدين كثيرون ، فالمقلد ليس بموقن حقا ، وعالمهم ليس كذلك فإنه يعرف الحق ولا يقول به ويكتمه عن المقلد له ، فيتضاعف العذاب على العالم ، فإن عليهم إثم البرسيين وهم الأتباع ، ثم قال ( 102 )« وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ »يريد

ص 166

وانتظام الشمل . ولما علم سبحانه أن الافتراق لا بد منه لكل مجموع مؤلف لحقيقة خفيت عن أكثر الناس شرع الطلاق رحمة بعباده ليكونوا مأجورين في أفعالهم غير مذمومين إرغاما للشياطين ، ومع هذا فقد ورد في الخبر النبوي أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ما خلق اللّه حلالا أبغض إليه من الطلاق ،« وَما هُمْ »أي السحرة« بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ »فإنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه سبحانه .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
محمدا صلّى اللّه عليه وسلم« مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ »أي لما بأيديهم من التوراة« نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ »يعني اليهود« كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ »قد يريد بالكتاب المنبوذ هنا التوراة والقرآن ، وقد يريد أحدهما ، وهو كناية عن ترك العمل به حيث ألقوه خلف ظهورهم« كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ »شبههم بالمقلدة في فعلهم ، وقد يحتمل أن يكون المعنى ، كأنهم لا يعلمون ، تقريرا لعلمهم بذلك ولكنهم نقضوا عهد اللّه وفسقوا ، يقول نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم فلم يعملوا به ( 103 )« وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ »من السحر والشعوذة« عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ »على عهد سليمان ، أي في زمن ملكه« وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ »أي لم يكن علمه سحرا ولا شعوذة ، بل علمه حق من عند اللّه« وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا »بما دونوه من علم السحر وخلطوه بما أنزل على الملكين هاروت وماروت من الحق ، والشياطين« يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ »الأمرين معا ممزوجا« بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ »فإذا أتى السائل إلى الملكين ليعلماه ، يقولان له« إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ »أي إنما نزلنا للتعليم اختبارا ، فإن الشياطين يعلمون الناس السحر ممزوجا بما أنزل علينا« فَلا تَكْفُرْ »أي لا تأخذ من الشياطين فإنك لا تفرق بين الحق من ذلك والباطل ، ثم قال« فَيَتَعَلَّمُونَ »يعني الناس« مِنْهُما »أي من العلمين ، علم السحر والعلم الذي أنزل على الملكين« ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ »الرجل« وَزَوْجِهِ »أي امرأته ، وإنما قبله منهم المتعلم لأمرين : الواحد لامتزاجه بالحق الذي أنزل على الملكين ، فإن الشياطين تتصور في صور علمائهم وتقول لهم : هذا هو الذي أنزل على الملكين ، فيصدقونهم ، فيلقون إليهم ما يضرهم ولا ينفعهم من علم السحر ، وأما من اقتصر على الملكين ولم يتعداهما فما علّم إلا حقا منزلا من عند اللّه ، وما نزل من عند اللّه لا يكون كفرا وضلالا ، وهو قوله« وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ »وكل لفظة كفر في هذه القصة قد يكون ضد الإيمان ، وقد يكون بمعنى ستر الحق ، فإن الكفر الستر في اللغة ، وكلا الوجهين في الترجمة عن ذلك صالح ، ثم قال« وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ »يناقض قوله« لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ »

ص 167

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 103 إلى 104
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ( 103 ) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ( 104 )
تختلف الأحكام باختلاف الألفاظ التي وقع عليها التواطؤ بين المخاطبين ، وإن كان المعنى واحدا فالمصرف ليس بواحد .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بعد هذا فيما يظهر ، فقوله« وَلَقَدْ عَلِمُوا »يعود الضمير على من سأل الملكين فقالا له لا تكفر« ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ »فإن من كفر لا خلاق له في الآخرة ، فكأنهم قالوا نحن نتعلم منهم ذلك ولا نعمل به ، فإن العلم بالشيء يورث التوقي مما فيه من الضرر لمن جهله ، فلما علموه قامت لهم الأغراض وطلب الرئاسة وتحصيل ما يشتهون بهذا العلم فعملوا به ، فكفروا ، فهو قوله« وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ »أي باعوا به« أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ »أن ذلك يقودهم إلى العمل لما في طيه مما في عمله من تقدمهم على أبناء جنسهم ، والافتقار إليهم في آثار ذلك ونيل أغراضهم ، فهذا هو الذي جهلوه ، والذي علموا هنالك لم يكن هذا الذي جهلوه ، وقد بان المقصود من الآية على غاية الاختصار ونزهنا الملائكة فإن اللّه قد أثنى عليهم ، وما بلغنا قط عن اللّه تعالى أنه جرح أحدا من الملائكة ، ثم قال ( 104 )« وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا »قد يعود الضمير في آمنوا على الذين سألوا الملكين وما سمعوا منهم ، ولا اتقوا اللّه حين قالوا لمن سألهم لا تكفر باتباع الشياطين لأنهم خلطوا الحق بالباطل ، فقال اللّه فيهم« وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا »أي صدقوا الملكين« وَاتَّقَوْا »واتخذوا ما قالاه لهم وقاية« لَمَثُوبَةٌ »لحصلت لهم من ذلك مثوبة من اللّه وخير« مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ »وقد يحتمل أن يعود الضمير على اليهود في الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم قال ( 105 )« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا »هذا خطاب للمؤمنين ، فإن اليهود كانت تقول هذه الكلمة بلسانها على طريق السب ، فلما سمع اليهود يخاطب بها المؤمنون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فرحوا بذلك ، ليقولوها كما يقولها المؤمنون على المعنى الذي تريده اليهود من السب ، وسيأتي شرحها في سورة النساء إن شاء اللّه ، فنهى المؤمنين عن أن يخاطبوا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ومعناها اسمع منا يا رسول اللّه غرضا لحفظهم ما خاطبهم به ، فقال لهم« وَقُولُوا انْظُرْنا »أي انتظرنا حتى نحفظ ما خاطبتنا به من كلام اللّه ، يقول اللّه للمؤمنين« قُولُوا انْظُرْنا »« وَاسْمَعُوا »ما تؤمرون به« وَلِلْكافِرِينَ »يعني الذين يقولون راعنا على غير المعنى الذي قاله المؤمنون« عَذابٌ أَلِيمٌ »موجع من الألم ، وهو الوجع ، ويقال بالسريانية والعبرانية ( راعينا ) بالياء والنون ، وأما من قرأ

ص 168

سورة البقرة ( 2 ) : آية 105   
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 105 )«
وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ »جاء تعالى بلفظة من وهي نكرة فدخل تحتها كل شيء ، لأن كل شيء حي ناطق فيدخل تحت قوله من ، لأن بعض النحاة يعتقدون أن لفظة من لا تقع إلا على من يعقل ، وكل شيء يسبح بحمد اللّه ولا يسبح إلا من يعقل من يسبحه ، ويثني عليه بما يستحقه ، فمن تقع على كل شيء إذ كل شيء يعقل عن اللّه سبحانه ، واللّه تعالى ما عرفنا أنه اختص بنقمته من يشاء كما أخبرنا أنه يختص برحمته من يشاء وبفضله ، فإن أهل النار معذبون بأعمالهم لا غير ، وأهل الجنة ينعمون بأعمالهم وبغير أعمالهم في جنات الاختصاص ، فلأهل السعادة ثلاث جنات : جنة أعمال وجنة اختصاص وجنة ميراث ، فينزل أهل الجنة في الجنة على قدر أعمالهم ، ولهم جنات الميراث وهي التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة ، ولهم جنات الاختصاص فالحكم للّه العلي الكبير ، فإن الاختصاص الإلهي لا يقبل التحجير ولا الموازنة ولا العمل ، وإن ذلك من فضل اللّه ، يختص برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
"راعنا " بالتنوين في الشاذ ، فهو من الرعن ، وهو الهوج ، أي لا تقولوا قولا راعنا ، ومنه الرعونة ، وقد روى أن سعد بن عبادة من الأنصار لما قالت اليهود لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم راعنا حين سمعوا المؤمنين يخاطبون محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بذلك ، قال : لئن قالها رجل منكم للنبي لأضربن عنقه ، فإنه كان عارفا بما تواطئوا عليه في كلامهم ، إذ كانوا حلفاء لهم ، وقيل بل كان سعد بن معاذ ، ثم قال ( 106 )« ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ »دخل في ذلك المنافق والذي لم ينافق« وَلَا الْمُشْرِكِينَ »عطف على أهل الكتاب ، وحذف من لدلالة الأول عليه« أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ »حسدا من عندهم حيث لم يكن لهم ذلك الخير« وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ »في هذا تنبيه على رد من يقول إن النبوة مكتسبة ، فأخبر اللّه أنها اختصاص ، وكنّى عنها بالرحمة لكونه رحم بها نبيه عليه السلام ، ورحم بها من بعث إليه من الأمة ، حتى سلكوا به طريق هداهم ، ثم قال« وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ »أي مزيد الخير الذي يعظم وروده وقدره في قلوب العلماء باللّه ،

ص 169

سورة البقرة ( 2 ) : آية 106  
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(106).
"ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ "
[ في النسخ والانساء ]
أي علامة على صدق ما ادعاه ، فالآيات منسوخة في الأولياء لأنهم مأمورون بسترها ، محكمة في الأنبياء والرسل« أَوْ نُنْسِها »أي نتركها آية للأولياء كما كانت آية للأنبياء« نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها »من باب المفاضلة أي بأزيد منها في الدلالة ، وهي آيات الإعجاز فلا تكون إلا لأصحابها ، أو لمن قام فيها بالنيابة على صدق أصحابها ، فلا يكون لولي قط هذه العلامة من حيث صحة مرتبته ، وأما قوله« أَوْ مِثْلِها »الضمير يرجع إلى الآية المنسوخة ، فلم يكن لها صفة الإعجاز ، بل هي مثل الأولى ، ولا يصح حمل هذه الآية على أنها آي القرآن التي نزلت في الأحكام ، فنسخ بآية ما كان ثبت حكمه في آية قبلها ، فإن اللّه ما قال في آخر هذه الآية « ا لم تعلمإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » *ولا حكيم ، ومثل هذه الأسماء هي التي تليق بنظم القرآن الوارد بآيات الأحكام ، وإنما قال اللّه تعالى :« أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ثم قال ( 107 )« ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »« * » سبب نزول هذه الآية فيما قيل ، أن اليهود قالت : ألا تنظرون إلى محمد يأمر بأمر ثم ينهى عنه ويأمر بخلافه ؟ فنزلت هذه الآية ، وهذا السبب كأنه لا يصح عندي ، فإن مساق الآية لا يعطيه ، فإنه قال في الآية« أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »على جهة المدح ، وإبدال حكم بحكم من طريق التكليف ما فيه ذلك المدح من جهة القدرة ، إذ كان هذا تحت قدرة كل من له أمر مطاع في عشيرته ، بل الإنسان في بيته ، بل في نفسه ، وإنما الذي يقوي أنه سبحانه أراد بالآية هنا آيات الأنبياء صلوات اللّه عليهم التي نصبها دلالات بحكم الإعجاز على صدقهم ، وقد تقدم تكرارها كثيرا فقال تعالى« ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ »أي من دلالة على صدق نبي ، ونسخها ذهابها ورفعها ، إذا كانت فعلا ، فإنه ينقضي ، ولهذا أتى بها نكرة« أَوْ نُنْسِها »يقول : أو نتركها ، مثل القرآن الذي هو آية مستمرة إلى يوم القيامة فلا يعارض ، وكذلك من قرأ « أو ننساها » أو نؤخرها ، وهو ما بقي من الدلالات والآيات ولم يذهب مثل القرآن وغيره ، والذي رفع كعصا موسى وإحياء الموتى ، وقوله« نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها »يقول : أقوى منها في الدلالة ، لأن الآيات قد تظهر للعام والخاص ، فتكون أقوى من الآيات التي لا يظهر كونها آية إلا للعلماء ، وقوله« أَوْ مِثْلِها »




( * ) تفسير هذه الآية بهذا المعنى الوارد هنا ، نسب إلى الشيخ محمد عبده كما جاء في تفسير المنار ، والثابت كما هو واضح أن الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي هو السابق لهذا المعنى الذي لم يرد في تفسير آخر من كتب المفسرين .
ص 170



فأراد الآيات التي ظهرت على أيدي الأنبياء عليهم السلام لصدق دعواهم في أنهم رسل اللّه ، فمنها ما تركها آية إلى يوم القيامة كالقرآن ، ومنها ما رفعها ولم تظهر إلى يوم القيامة ، واعلم أن آيات الأنبياء تختلف باختلاف الأعصار لاختلاف الزمان واختلاف الأحوال ، فيعطي هذا الحال والزمان ما لا يعطيه الزمان والحال الذي كان قبله ، والذي يكون بعده ، فآية كل خليفة ورسول من نسب الغالب على ذلك الزمان وأحوال علمائه ، أي شيء كان ، من طب أو سحر أو فصاحة وما شاكل هذا ، والرسل أوجب اللّه عليهم إظهار الآيات لكونهم مأمورين بالدعاء إلى اللّه ابتداء ، وهو ينشئ التشريع وينسخ بعض شرع مقرر على يد غيره من الرسل ، فلا بد من إظهار آية وعلامة تكون دليلا على صدقه أنه يخبر عن اللّه إزالة ما قرره اللّه حكما على لسان رسول آخر ، إعلاما بانتهاء مدة الحكم في تلك المسألة .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "107 - 115" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:28 am

تفسير آلآيات من "107 - 115" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 107   
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 107 )
الأولياء هم الذين تولاهم اللّه بنصرته على الأعداء الأربعة : الهوى والنفس والدنيا والشيطان .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أي بآية مثلها في القوة في الدلالة من الظهور وغيره ، فتكون هذه الأخرى مقوية للأولى ، فإن الأدلة إذا توالت وإن خفيت يقوي بعضها بعضا ، فما من رسول أتى بآية إلا وقوى بها آية الرسول الأول ، والآيات التي هي دلالات على صدق الرسل هي التي لا يقدر عليها إلا اللّه تعالى على وجهين من الإعجاز : الوجه الأول ، أن يأتي بآية يعجز البشر عن الإتيان بها أو مثلها ، والوجه الآخر ، الصرف وهو أن تكون تلك الآية في مقدور البشر ويتحدى الآتي بها أنه لا يقدر أحد أن يأتي بها فيصرفوا عنها ، وعلى كلتا الحالتين يثبت كونها آية ويعلم أن اللّه على كل شيء قدير ، فيأتي ختم الآية بالمدح بالقدرة في موضعه ، ولا يكون هذا على ما ذهب إليه من تقدمنا من المترجمين ، وما رأيت من تنبه لهذا مع وضوحه وبيانه ، إلا أن يكون ولم يصل إلينا علمه ، فهذا لا يمنع ، فإني ما أحطت بأقوال الناس في ذلك ، واللّه يقول الحق وهو يهدي السبيل ، والحمد للّه على نعمه التي لا تحصى ، وأما ترجمتي على مسئلة هاروت وماروت فعلمتها في النوم في رؤيا رأيتها ، فوقفت عندها ، وجاءت الترجمة عن الكلام مطابقة له ، ثم قال تعالى مؤيدا لما ذهبنا إليه في هذا ( 108 )« أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »والآيات ليست بخارجة عنهما

ص 171

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 108 إلى 109   
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ( 108 )
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 109 )« حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ »للواسطة فإن الحسد في الجنس ، فإن اللّه تعالى لم يزل ربا ، ولم نزل عبيدا في حال عدمنا ووجودنا ، فكل ما أمر سمعنا وأطعنا ، في حال عدمنا ووجودنا ، إذا لم يخاطبنا بفهوانية الأمثال والأشكال ، فإذا خاطبنا بفهوانية الأمثال والأشكال وألسنة الإرسال ، فمن كان مشهوده ما وراء الحجاب وهو المثل والرسول سمع فأطاع من حينه ، ومن كان مشهوده المثل سمع ضرورة ولم يطع للحسد الذي خلق عليه من تقدم أمثاله عليه ، فظهر المطيع والعاصي ، أي عصيّ على مثله لكونه ما نفذ فيه أمره بالطاعة ، ما عصيّ على اللّه ، فإنه لا يتمكن أن يخالف أمره على الكشف ، فانحجب بالإرسال انحجابه بالأسباب .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فهي في ملكه وتحت قدرته ، وهو الذي عجزكم عن الإتيان بأمثالها ،« وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ »ممن يتولاكم بالمعونة على الإتيان بمثلها ، كما توليت أنا أنبيائي ورسلي بها« وَلا نَصِيرٍ » *ولا من ينصركم بحجة على دفع ما جاءت به رسلي من الآيات كما نصرت أنا رسلي بها حجة عليكم ، قال تعالى : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ )وقال تعالى : ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ )ومما يؤيد ما ذهبنا إليه قوله أيضا متصلا بهذا ( 109 )« أَمْ تُرِيدُونَ »يعني اليهود« أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ »يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلم ، وأضافه إليهم لأنه ممن بعث إليهم وإلى جميع الخلق« كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ »كما سأل أسلافكم موسى من قبل ، فقالوا( أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً )وغير ذلك مما قد ذكرناه فيما تقدم مما سألوه ، فهذا يدلك أنه أراد نسخ الآيات المعجزات لا آيات الأحكام ، إذ ليس للحكم هنا مدخل ولا يدل عليه وصف ، فصح ما ذكرناه ، ثم قال :« وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ

ص 172

سورة البقرة ( 2 ) : آية 110  
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 110 )
تضاف الصلاة إلى البشر بمعنى الرحمة والدعاء والأفعال المعلومة شرعا ، فجمع البشر هذه المراتب الثلاث المسماة صلاة .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بِالْإِيمانِ »وهو قوله : ( اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى ) *وقد شرحناه قبل« فَقَدْ ضَلَّ »يقول : فقد حاد عن« سَواءَ السَّبِيلِ »أي عدل والتفت عن الطريق المستقيم الموصل إلى السعادة ، وهو قوله فيما ندعوه به( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ )( 110 )« وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً »يقول : يتمنى اليهود أن تصغوا إليهم فيما يلقونه إليكم من الكفر في معرض النصيحة « ليردوكم » أي ليرجعوكم« مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ »بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم« كُفَّاراً »به مثلهم« حَسَداً »أي يفعلوا ذلك حسدا لعلمهم بأنكم على الحق وأنكم تسعدون بذلك ، وقوله :« مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ »يقول : إن الذي جاءوا به لم يكن من كتابهم ، فما قالوه إلا من عندهم ، لأنه قال :« مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ »الذي أنتم عليه ، وقوله :« فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا »دليل على تقدم ذنب ظهر للمؤمنين منهم ، إذ التمني من عمل القلب فيكون الذنب الذي أمر المؤمنون بأن لا يؤاخذوهم عليه ، هو ما روي أنهم اجتمعوا بطائفة من الصحابة بعد وقعة أحد وقالوا لهم :
"لو كنتم على الحق ما نصر عليكم عدوكم من المشركين ، فارجعوا إلى ما نحن عليه واتركوا ما جاءكم بهم محمد "
صلّى اللّه عليه وسلم فأبت الصحابة ، وقالوا : [ رضينا باللّه ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ] وأرادوا مجازاتهم ، فأنزل اللّه« فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ »يحتمل وجهين : الواحد ، يوم القيامة قال تعالى : ( أَتى أَمْرُ اللَّهِ )والوجه الآخر ، ما أمروا به بعد ذلك من قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير« إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »أي أنه القدير على مجازاتهم على ذلك ، ولكن أمهلهم إلى وقت يحكم اللّه فيهم لئلا تشترك الصحابة في مجازاتهم من غير أمر اللّه ، بل من عند أنفسهم ، كما فعلوا هم بما قالوه من عند أنفسهم لا من كتابهم ، فنزه اللّه أولياءه المؤمنين عن أن يشاركوهم في هذا القدر ، وليقتدوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم في قوله : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ) *ثم أتبع ذلك بقوله لهم : ( 111 )« وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ »يقول لهم : واشتغلوا بما كلفتموه من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وقد تقدم شرحهما ، ثم أخبرهم فقال :« وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ »أي ما تقدمونه بين أيديكم لآخرتكم من أجل نفوسكم أن يعود عليها من خير مما شرعناه

ص 173


سورة البقرة ( 2 ) : آية 111
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ( 111 )
فأكذبهم في التحجير بما ذكره اللّه تعالى في أول سورة البقرة في قوله :« أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »« قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »البراهين لا تخطئ في نفس الأمر ، وإن أخطأ المبرهن عليه ، فذلك راجع إليه ، وأما البرهان ، فقوي السلطان .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لكم من الأعمال المقربة إلينا« تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ »كما ورد في الصحيح [ إن الصدقة تقع بيد الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ]
وقوله : [ إن فلانا استطعمك - الحديث ] وفيه [ فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي ] وقوله :« فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ »إذا كان بالياء المنقوطة من أسفل فهو وعيد لهم ، أي اشتغلوا بما كلفتم عنهم وعن عقوبتهم ، فإن اللّه بما يعملون بصير ، والعامل في الباء بصير ، وبصير هنا عالم بأعمالهم ، أي بقصدهم فيها ، هل يسعدهم ذلك أو يشقيهم ، إذ ليس للرؤية بمعنى البصر فائدة ، ومن قرأ بالتاء فهو للمؤمنين خطاب من اللّه على ذلك الحد من علمه بالقصد في العمل ، ثم أخبر عنهم فقال : ( 112 )« وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى »جمع بالضمير بين القولين لاتحاد المقول ، وهو دخول الجنة ، إذ كل واحد من الطائفتين يضلل الأخرى كما سيأتي في قولهم : ( لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ )عن اليهود ، ومثل ذلك من النصارى ، فكأنه قال : وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، جمع هائد ، كعوذ جمع عائذ ، وحول جمع حائل ، ويقال للمذكر والمؤنث بلفظ واحد ، وقد يكون هودا مصدر يؤدي عن الجمع ، كما يقال رجل صوم ، وزور ، وفطر ، للواحد والاثنين والجمع ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ، فقال تعالى :« تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ »أي لم يكن الإخبار عما يجدونه في كتبهم ، وإنما هو شيء يتمنونه ، يعلم اللّه ذلك منهم ، فتلك إشارة إلى القولة إنها من أمانيهم المتقدمة ، كقوله : ( ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا )و( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ )و( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ )فتلك الأماني ، وأما احتجاجنا على التمني بقوله : ( ما يَوَدُّ )وهو نفي التمني فلما يتضمنه من تمني النقيض ، ثم قال اللّه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم« قُلْ »يا محمد لهم« هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »فإن الذي جاءوا به هو خبر محتاج إلى دليل على صدقه ، وليس لهم حجة ، لأنه خبر عن تمنيهم ، وليس في اللفظ ما يدل على التمني ، وإنما عرفنا ذلك من كون اللّه

ص 178

سورة البقرة ( 2 ) : آية 112  
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(112).
اعلم أن الإحسان أعلى درجة في الإيمان ، وأعلى الإحسان المشاهدة ، وأدناه المراقبة ، والمحسن قد تحقق الصدق في دعوى قوله« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »والصدق في هذه الدعوى إنما يكون بالإخلاص للّه سبحانه وحده ، فقوله :« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »خطاب لموجود يشاهد مع العبادة ، ويراقب مع الاستعانة ، لأننا مع المشاهدة نرى أفعال اللّه تعالى فينا وفي غيرنا ، ومع المراقبة نعلم أنه الذي أسمعنا ما نسمعه في أنفسنا ومن غيرنا ، وهو الذي أوجد حركاتنا وحركات غيرنا وسكناتهم ، فالمشاهدة على هذا رؤية تقع موقع العيان ، والمراقبة رؤية قلب ، ولا تتحقق العبادة والاستعانة إلا ممن يعرف المشاهدة والمراقبة ، فمن أسلم وآمن وأحسن فقد عرف معالم الدين الذي نزل به جبريل على النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، ليعلم الأمة معالم دينهم ، ولا يظفر بهذه الصفة إلا من أسلم وجهه للّه وهو محسن .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
تعالى أخبر أن ذلك من أمانيهم ، فشرحنا لكلام اللّه ، فهو شرح الشرح ، لعلمنا بأن اللّه صادق فيما يخبر به ، ولا حجة لهم ولا برهان على صدق ما أخبروا به ، ثم أكذبهم اللّه فقال : ( 113 )« بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ »قوله :« بَلى »إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ، ولم يقل سبحانه إن اليهود والنصارى لا يدخلون الجنة ، فإن اليهود والنصارى الذين آمنوا بنبيهم وأسلموا للّه وأحسنوا وماتوا قبل بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلم إنهم يدخلون الجنة ، فلهذا أضرب عن تعيين طائفة بعينها منا أو منهم ، وأتى بمن لفظة عامة ، تعم كل من عينه الوصف الذي وصفت به من إسلام الوجه للّه والإحسان ، فكأنه يقول ليهود المدينة القائلين هذا والنصارى : إنما يدخل الجنة من كان بهذه الصفة ، وهم أعلم بنفوسهم ، هل هم بهذه الصفة أم لا ، وقوله :« فَلَهُ »الفاء جواب من ، والضمير يعود عليه ، « وأسلم » بمعنى انقاد و « وجهه » عينه وذاته « للّه » من أجل اللّه ، أي لأمر اللّه حيث أمره« وَهُوَ مُحْسِنٌ »يعني في انقياده ، وهو أن يعبد اللّه كأنه يراه ، وقد يخرج محسن على إتيان مكارم الأخلاق« فَلَهُ أَجْرُهُ »على عمله ذلك الذي فرض له ، سواء طلبه أو لم يطلبه« عِنْدَ رَبِّهِ »« وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »قد تقدم شرحه في أول السورة ( 114 )« وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ »الآية ، يتوجه في هذه المقالة ثلاثة أوجه ،

ص 175

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 113 إلى 114   
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 113 ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ( 114 )
الدنيا هي الدار القريبة إلينا ، نشأنا فيها وما رأينا سواها ، فهي المشهودة وهي الحفيظة علينا والرحيمة بنا ، فيها عملنا الأعمال المقربة إلى اللّه ، وفيها ظهرت شرائع اللّه ، وهي الدار الجامعة لجميع الأسماء الإلهية فظهرت فيها آلاء الجنان وآلام النار ، ففيها العافية والمرض ،




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الوجه الواحد ، مباهتة بعضهم لبعض مع معرفة كل فريق منهم أن الفريق الآخر على حق ، إذ كان كل فريق أهل كتاب ، وأن في التوراة نبوة عيسى ، وفي الإنجيل نبوة موسى ، والوجه الثاني ، أن يقول كل فريق ليس الآخر على شيء من دينه ، أي أنه لا يعمل بدينه ولا بما أنزل عليه ، فإن النصارى لو آمنت بالإنجيل لصدقتنا ، فإن الإنجيل يصدقنا ، وتقول النصارى لو آمنت اليهود بالتوراة لعرفت أنا على الحق ، فإن التوراة تصدقنا ، والوجه الثالث ، أن يكونوا صادقين فيما قالوه ، فإنه ببعث محمد صلّى اللّه عليه وسلم ارتفعت كل شريعة قبله ، فقالت اليهود وصدقت ليست النصارى على شيء فإن بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلم والقرآن نسخ شرعهم ، فإن الإنجيل يدلهم على ذلك ،« وَقالَتِ النَّصارى »وصدقت« لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ »لأن بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلم والقرآن نسخ دينهم وهو في التوراة عندهم ، وهو أصدق الوجوه فيما يرجع إلى علمهم بما في كتابهم ، فهو اعتقادهم وإن لم يتلفظوا به ، ولهذا قال اللّه تعالى :« وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ »يعني التوراة والإنجيل ، فيعلمون الحق بيد من هو ، وهو بيد محمد عليه السلام ، فوبخهم اللّه تعالى أشد التوبيخ حيث شبههم بمشركي العرب الذين ليسوا أهل كتاب وأنكروا نبوة محمد عليه السلام ، ثم قال :« كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ »وهم المقلدة« مِثْلَ قَوْلِهِمْ »يعني قول علمائهم ، ثم قال :« فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ »الضمير يعود على المتنازعين من جهة المعنى المقصود كانوا من كانوا ، ولهذا لم يثن على إرادة الطائفتين قال تعالى : ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) ،وهو قوله :« يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ »( 115 )
« وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ »الآية ، وإن نزلت

ص 176

وفيها السرور والحزن ، وفيها السر والعلن ، وما في الآخرة أمر إلا وفيها منه مثل ، وهي الأمينة الطائعة للّه ، أودعها اللّه أمانات لعباده لتؤديها إليهم وهي ترقب أحوال أبنائها ما يفعلون بتلك الأمانات التي أدتها إليهم ، هل يعاملونها بما تستحق كل أمانة لما وضعت له ، فمنها أمانة توافق غرض نفوس الأبناء ، فترقبهم هل يشكرون اللّه على ما أولاهم من ذلك على يديها ، ومنها أمانات لا توافق أغراضهم ، فترقب أحوالهم هل يقبلونها بالرضى والتسليم لكونها هدية من اللّه ، فيقولون في الأولى : الحمد للّه المنعم المفضل ، ويقولون فيما لا يوافق الغرض : الحمد للّه على كل حال ، فيكونون من الحامدين في السراء والضراء ، فتعطيهم الدنيا هذه الأمانات نقية طاهرة من الشوب ، فبعض أمزجة الأبناء الذين هم كالبقعة للماء والأوعية لما يجعل فيها ، فيؤثر مزاج تلك البقعة في الماء والماء كله طيب عذب في أصله ، قال قتادة : ما أنصف الدنيا أحد ، ذمت بإساءة المسئ فيها ، ولم تحمد بإحسان المحسن فيها ، فلو كانت بذاتها تعطي القبح والسوء ما تمكن أن يكون فيها نبي مرسل ولا عبد صالح ، كيف واللّه قد وصفها بالطاعة فقال : إن علوها وسفلها قالا : أتينا طائعين ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إذا قال أحدكم : لعن اللّه الدنيا قالت الدنيا : لعن اللّه أعصانا لربه ، فهذا ابن




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
هذه الآية في سبب خاص ولكن الحكم عام ، فقال :« وَمَنْ »فأتى بصيغة النكرة ، يقول : ومن أشد ظلما من شخص منع من أراد« أَنْ »يذكر اللّه في المساجد ، وهي البيوت التي جعلها معبدا تؤدى فيها فرائضه و« يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ »وأمر برفعها عما يجوز من العمل في البيوت ، فقال : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ )أي يصلي ( له ) للّه( فِيهَا )في المساجد ، فهل ترفع عن دخول الكفار فيها ؟
هي مسألة خلاف فيما يحرم من ذلك ، وأما تنزيهها عن ذلك على جهة الندب فلا خلاف فيه ، فمن خرج« أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ » ،أي أمر وحمله على الوجوب ، منع من دخول الكفار جميع المساجد ، المشركين وغيرهم ، وأما المسجد الحرام الذي بمكة فقد ورد النص بأن لا يقربه مشرك وأنه نجس ، فمن علل المنع بالنجاسة وجعل النجاسة لكفره وعلل المسجد لكونه مسجدا منع الكفار كيفما كانوا من جميع المساجد ، ومن رأى أن ذلك خاص بالمسجد الحرام ولهذا خص بالذكر وأن ما عدا المشرك وإن كان كافرا لا يتنزل منزلته ، منع دخول المشرك المسجد الحرام وكل مسجد ، لقوله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ )وجوز الدخول فيه لمن ليس بمشرك ، ومن أخذ بالظاهر ولم يعلل منع المشرك خاصة من المسجد الحرام خاصة ، فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم حبس في المسجد في المدينة ثمامة بن أثال حين أسر وهو مشرك ، وهو الأوجه ، ومنع « 1 » غير المشرك من




( 1 ) هكذا في الأصل والصواب ولم يمنع .
ص 177

عاق لها ، كيف لعنها وصرح باسمها ، والدنيا من حنوها على أبنائها لم تقدر أن تلعن ولدها ، فقالت : لعن اللّه أعصانا لربه ، وما قدرت أن تسميه باسمه ، فهذا من حنو الأم وشفقتها على ولدها ، فيا عجبا فينا لم نقف عندما أمرنا اللّه به من طاعته ، ولا وفقنا ولا وفينا ما رأيناه من أخلاق هذه الأم وحنوها علينا ومحبتها ، وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : نعمت الدنيا مطية ، عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر ، فوصفها بأن حذرها على أبنائها تذكرهم بالشرور وتهرب بهم منها ، وتزين لهم الخير وتشوقهم إليه ، فهي تسافر بهم وتحملهم من موطن الشر إلى موطن الخير وذلك لشدة مراقبتها إلى ما أنزل اللّه فيها من الأوامر الإلهية المسماة شرائع ، فتحب أن يقوم بها أبناؤها ليسعدوا . فهذا صلّى اللّه عليه وسلم قد وصفها بأحسن الصفات وجعلها محلا للخيرات ، والناس نسبوا ما كانوا عليه من أحوال الشرور التي عيّنها الشارع إلى الدنيا ، وهي أحوالهم ما هي أحوال الدنيا ، لأن الشر هو فعل المكلف ما هو الدنيا ، ونسبوا ما كانوا عليه من أحوال الخير ومرضات اللّه التي عينها الشارع للآخرة ، وهي أحوالهم ما هي أحوال الآخرة ، لأن الخير هو فعل المكلف ما هو الآخرة ، فللدنيا أجر المصيبة في أولادها من أولادها ، فمن عرف الدنيا بهذه المثابة فقد عرفها ، ومن لم يعرفها بهذه المثابة وجهلها مع كونه فيها مشاهدا لأحوالها شرعا وعقلا فهو بالآخرة أجهل ، فراقبوا اللّه هنا عباد اللّه ، مراقبة الدنيا أبناءها ، فهي الأم الرقوب ، وكونوا على أخلاق أمكم تسعدوا .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
المسجد الحرام ومن المساجد ومنع المشرك من سائر المساجد أولى ، لقوله تعالى : ( أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ )إلا أن يقترن بذلك أمر أو حالة فلا بأس ، فوصف اللّه بالظلم الشديد من منع المسجد ممن أراد أن يذكر اللّه فيه بصلاة وغيرها ، ولم يخص أهل دين من أهل دين إذا كان قصد الداخل إليها ذكر اللّه فيها ، فهذا قوله : ( أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) ،وقوله :« وَسَعى فِي خَرابِها »وجهان : الوجه الواحد هدمها وإزالة رسمها ، حتى لا يبقى لها حد يعرف من غيرها من المواضع ، وقد لعن اللّه من غير منار الأرض لما يؤدي ذلك إليه من إبطال الوقوف وأكل الأموال بالباطل ، فإن خرب سلطان أو أحد مسجدا لما في بقائه من الضرر لمنازلة عدو ومحاصرة بلد ، أو لمنفعة لاتساع خندق أو موضع قتال ، ففيه نظر ، وهل يبني المخرب له عوضا منه في موضع آخر ويرد الوقف الذي كان له إلى ما بناه بدلا منه ؟ أو لمن يرجع الوقف هل لصاحبه أو لبيت المال أو لما يبنى بدله ؟ والوجه الآخر منع الذكر فيها سعي في خرابها ، إذ كان بناؤها لإقامة ذكر اللّه ، وأما

ص 178

سورة البقرة ( 2 ) : آية 115
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ ( 115 )
« فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ »هذه حقيقة منزهة بلا خلاف ، فإن اللّه جل جلاله عن التقييد ، فهو قبلة القلوب ، فوجه اللّه موجود في كل جهة يتولى أحد إليها ، ولا بد لكل مخلوق من التولي إلى أمر ما ، ووجه الشيء ذاته وحقيقته ، فكما نسب الحق الفوقية لنفسه من سماء وعرش ، نسب لنفسه الإحاطة بالجهات كلها بقوله :« فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ »لحكم المراتب ، فإن اللّه تعالى جعل وجهه في كل جهة ليعصم من شاء ويحفظ من شاء ، فإن الحق مع بعض عباده بالولاية والعناية وبالكلاءة والرعاية ، فله تعالى عين في كل أين ، ومع هذا لو تولى الإنسان في صلاته إلى غير الكعبة مع علمه بجهة الكعبة لم تقبل صلاته ، لأنه ما شرع له إلا استقبال هذا البيت الخاص ، بهذه العبادة الخاصة ، فإذا تولى في غير هذه العبادة التي لا تصح إلا بتعيين هذه الجهة الخاصة ، فإن اللّه يقبل ذلك التولي مثل الصلاة على الراحلة ، فالمستقبل لا يتقيد فهو بحسب ما تمشي به الراحلة ، كما أنه لو اعتقد أن كل جهة يتولى إليها ما فيها وجه اللّه لكان كافرا وجاهلا ، ولولا أن الإجماع سبق في أن التوجه إلى القبلة أعني الكعبة شرط من شروط صحة الصلاة ، لما كان ذلك شرطا في صحتها ، فإن قوله تعالى :« فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ »نزلت بعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة ، وهي




قوله :« أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ »يعني الكفار المذكورين« أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ »أي هذا كان الأولى ، وفيه إباحة الدخول للكفار في المساجد على هذه الحالة من ظهور الإسلام عليهم ، ثم قال :« لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ »ومن فعل هذا فله في الدنيا خزي أي ثناء سوء ، فإنه مؤلم لهم ما يذكرون به من القبيح ، فإنهم يقرءون في كتبهم أنه مذموم من فعل ذلك ، فيتألمون به وإن فعلوه ، وأما غير أهل الكتاب فخزيهم ما يرون من تعظيم المسلمين لمساجدهم وطردهم عنها ، فيجدون لذلك حزنا ولا سيما إذا دخلوا دار الإسلام« وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ »مضاعف للمنع والتخريب ، فيمنعوا أن تنالهم رحمة اللّه وتخرب أجسادهم في النار بإنضاج الجلود وغير ذلك ، وأما سبب النزول فإنها نزلت في أنطاخوس بن برسيس الرومي ومن معه من نصارى الروم ، حين منعوا بيت المقدس أن يصلى فيه ، وظهروا على اليهود فقتلوهم وخربوا بيت المقدس ، وقوله :
( 116 )" وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ »هذه الآية محكمة

ص 179

آية محكمة غير منسوخة ، ولكن انعقد الإجماع على هذا وعلى قوله تعالى« فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ »محكما في الحائر الذي جهل القبلة ، فيصلي حيث يغلب على ظنه باجتهاد بلا خلاف ، ولا خلاف أن الإنسان إذا عاين البيت أن الفرض عليه هو استقبال عينه ، وأما إذا لم ير البيت فعندنا أن استقبال الجهة هو الفرض لا العين ، فإن في ذلك حرجا ، ومعلوم أن الصف الطويل قد صحت صلاتهم مع القطع بأن الكل منهم ما استقبلوا العين ، وإصابة الجهة في غير الغيم المتراكم ليلا أو نهارا في البراري لا يقع إلا بحكم الاتفاق ، فأحرى إصابة العين ، فلا إعادة على من صلى ولم يصب الجهة إذا تبين له ذلك بعد ما صلى ، واعلم أنه قد جاء ذكر وجه الحق في آيات كثيرة ، فإذا أردت أن تعلم حقيقته ومظهره من الصورة التي يتجلى فيها الحق ، فاعلم أن حقيقته من غمام الشريعة ، بإرث نور التوحيد ، ومظهره من العمل وجه الإخلاص« فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ » *الآية ويدل على أن وجهه تعالى الإخلاص مظهر قوله تعالى :« يُرِيدُونَ وَجْهَهُ » *وقوله تعالى :« إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ »وقوله تعالى :« إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى »والمراد في ذلك كله الثناء بالإخلاص على أهله تعبيرا بإرادة الوجه عن إخلاص النية ، وتنبيها على أن مظهر وجهه سبحانه يدل على أن حقيقة الوجه هو بارق نور التوحيد لقوله تعالى :« وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ »أي إلا نور توحيده ، وهو نور السماوات والأرض بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلم : « أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة » وبهذا يفهم سر قوله تعالى :« فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ »ولوجه ربنا سبحانه رداء ، وله حجب وله سبحات ، فأما رداؤه سبحانه فقد نبه عليه قوله صلّى اللّه عليه وسلم : « جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن » فالرداء هنا واللّه أعلم هو ما يحجب القلب عن رؤية الرب




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فيمن جهل القبلة ، فاجتهد وصلى على أنه مواجهة القبلة ثم تبين له بعد ذلك أنه لم يستقبلها ، أن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه ، وفي المصلي على الراحلة ، وفي السفينة حيث توجهت به راحلته ، وما من جهة إلا وقد كانت قبلة في أمة من الأمم ، وفي هذه الآية دليل على أن اللّه لا يختص بجهة ، وأن نسبة الجهات إليه نسبة واحدة ، ولهذا جاء بالاسم الواسع والعليم ، لاتساعه في حكم جميع

ص 180

سبحانه ، وهو أن يكون في قلبك كبرياء لغيره ، فأهل الجنة ليس لهم مانع من نعيم الرؤية ، وشهود نور التوحيد إلا رداء الكبرياء ، فمن كبر في قلبه غير اللّه تعالى من غرف أو تحف أو حور أو مأكول أو مشروب أو شيء سواه حجب عن اللّه تعالى . ومن عرف اللّه صغر عنده كل شيء فارتفع عن بصره رداء الكبرياء لكل شيء فشهد اللّه في كل شيء ، وبهذا يظهر لك سر افتتاح الصلاة بالتكبير ، لأن الصلاة حضرة التجلي والمناجاة والمراقبة لأنوار سبحات وجهه سبحانه ، وأما حجبه فقد ثبت في الصحيح « حجابه النور » وفي رواية « حجابه النار » وليس بين الروايتين تناف ، ولك في تأويله سبيلان : أحدهما أن وجهه سبحانه هو الباقي ذو الجلال والإكرام ، فله تجل بجلاله في حجاب النار ، كما تجلى سبحانه لموسى صلّى اللّه عليه وسلم حين آنس من جانب الطور نارا ، وله تجل بإكرامه في حجاب النور ، كما تجلى تعالى لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ليلة الإسراء في قوله صلّى اللّه عليه وسلم : « رأيت نورا » وهذان الحجابان لأهل الخصوص ، والتأويل الثاني ، وهو لأرباب العموم ، يؤخذ مما قررناه أنه لا فاعل في الكون غيره ، ولا هادي ولا مضل سواه ، يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فوجه توحيده هو الذي ينعم ويهدي بإقباله ، ويعذب ويضل بإعراضه ، وله في هدايته النور وهويته المتجلية للقلوب بواسطة شرائع رسله قال تعالى :« قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ »وحجابه في إضلاله النار وهو الاكتساب المغشي للقلوب من وساوس الشيطان المخلوق من النار« كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ »قد بيّن بذلك أن وجه توحيده ، هو الهادي بإقباله ، في حجاب نور الاتباع للرسل« فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى »وأنه هو المضل بإعراضه في حجاب الاتباع لوسواس الشيطان ، فإنه لا تنافي بين قوله حجابه النور وبين قوله حجابه النار ، وبذلك يفهم سر قوله صلّى اللّه عليه وسلم : « اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا إلى قوله واجعلني نورا » أي اجعلني من جميع الوجوه نورا دالا ، وحجابا يتنعم برؤيتي من أراد التنعم بحسن النظر إليك ، وقد جاء في




النسب إليه ، عليم بكم أينما توليتم أن قصدكم التوجه إليه سبحانه على طريق القربة ، وفي قوله :« الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ »وأين ما تولوا ، تنبيه أن كل من سجد إلى جهة معينة ليس مقصده الجهة

ص 181

الصحيح « إن للّه سبعين حجابا من نور » وذلك لا تنافي بينه وبين قوله : « حجابه النور » لأنه جنس يصلح لشمول الأفراد وإن تعددت ، والحق أن حجب أنواره تعالى لا حصر لها ، لأنه ما من شيء إلا وهو حجاب من وجه ربنا ، وآية من آيات وحدانيته « وفي كل شيء له آية ، تدل على أنه واحد » وبذلك يعرف أن عدد السبعين ليس للحصر ، قال الأزهري وغيره من علماء اللغة : العرب تضع السبع موضع التضعيف وإن جاوز السبع ، وأصل اعتبار هذا العدد في تضعيف حجبه أن للّه تعالى صفات ذاتية وهي العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، فهذه سبع صفات ذاتية يتجلى سبحانه في حجب أنوارها بوجه توحيده فكانت هي مبدأ التضعيف في حجب أنواره تعالى ، ثم إن آيات صفاته تعالى في تجلياتها تتضاعف برتبة العشرة ، ورتبة المائة ، ورتبة الألف ، وأما سبحات وجهه سبحانه فقد ثبت في الصحيح « لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » وقد أولها العلماء رضي اللّه عنهم بجلاله تعالى وهو تأويل صحيح ، لكن وجه ربنا ذي الجلال والإكرام له بجلاله سبحات ، وله بإكرامه سبحات ، وإذا أردت أن تجري في التأويل على وفق الاستعمال اللغوي والقواعد التي مهدناها ، فاعلم أن السبحات جمع سبحة ، والسبحة في اللغة : ما يتطوع به من ذكر وصلاة وتسبيح ونحوها مما لا يحصر أفراده ، وقد ثبت أن أنوار الطاعات حجب وجهه سبحانه ، ونور الذكر شامل لجميعها ومهيمن على سائر سبحات الإكرام والجلال ، وقد قال تعالى :« فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ »فذكر اللّه تعالى لنفسه ولعبده سبحة وجهه شاملة لأنواع سبحاته ، وذكر العبد له نور حجابه ، فما دام العبد يشهد ذكره لربه ، فوجه ربه متجل عليه في حجابه بسبحة ذكره ، كما ثبت في الصحيح « أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني » ولا يزال العبد يذكر اللّه ، وذكره له يبعده عن شهود نفسه ونسبتها ، ويقربه من شهود توحيد ربه ، حتى ينكشف حجاب ذكره للّه ، وتتجلى له سبحة ذكر اللّه له ، هناك تحرق سبحته نسبة الأفعال والأذكار للعبد ، وتظهر نسبتها للرب ، كما ثبت في الصحيح : « ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي




من حيث عينها ، وإنما قصده وجه اللّه بتلك العبادة ، والإنسان لا ينفك عن الجهات لنفسه ، فلا بد أن يكون مستقبلا جهة من الجهات ، فدخل في « أين ما تولوا » ما عدا المشرق والمغرب من

ص 182

يمشي بها » ، وأما قوله : " لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ".
فاعلم أن بصره سبحانه لا يتناهى مبصوراته ، ولا يحجبه عن خلقه حجاب ، وإنما ينكشف لك معنى الحديث لمراجعة ما قررته لك ،.
وبقوله صلّى اللّه عليه وسلم : " أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فنبه بالشرط على أن العبد لا يشهد رؤية اللّه له حتى يغيب عن صفته ورؤيته ومراقبته لربه ، فكل عبادة تصحبها المراقبة فهي نور من حجب وجهه ينظر العبد منه إلى ربه تعالى ، وينظر اللّه منه إلى عبده ، فإذا كشف للعبد فيها حجاب المراقبة شهد رؤية اللّه سبحانه له ، فانتهاء بصره عبارة عن انتهائه بحسب كشف العبد وشهوده ، لا بحسب نفسه ، فإنه لا انتهاء له ، أو خلقه هو صفة العبد ، ورؤيته وإحراقه هو محوه بثبوت صفة الرب للعبد ، وصفة الرب ورؤيته هي سبحة " كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ".

[ أوتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على الراحلة حيث توجهت ]
رقيقة - أوتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على الراحلة حيث توجهت ، فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كله وجه بلا قفا ، فإنه قال صلّى اللّه عليه وسلم إني أراكم من خلف ظهري ، فأثبت الرؤية لحاله ومقامه فثبتت الوجهية له ، وذكر الخلف والظهر لبشريته ، فإنهم ما يرون رؤيته ، ويرون خلفه وظهره ، ومن كانت هذه حاله فحيث كانت القبلة فهو مواجهها ، فما أوتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قط على راحلته حيث توجهت إلا والقبلة في وجهه« فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ »فمن كان وجها كله يستقبل ربه بذاته ، ووجه اللّه للمصلي إنما هو في قبلته ودل على أن من حاله هذا الوصف ويرى القبلة بعين منه تكون في الجهة التي تليها فهو مصل للقبلة ، واللّه جل جلاله عن التقييد فهو قبلة القلوب« إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ » .
قال تعالى :« رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ »وهو الواسع لكل شيء ولهذا الاتساع هو لا يكرر شيئا في الوجود ، فإن الممكنات لا نهاية لها ، فأمثال توجد دنيا وآخرة على الدوام وأحوال تظهر ، وقد وسع كرسيه وهو علمه السماوات والأرض ، ووسعت رحمته علمه والسماوات والأرض وما ثم إلا سماء وأرض فإنه ما ثم إلا أعلى وأسفل ، فلا تكرار في الوجود ، وإن خفي في الشهود ، فذلك لوجود الأمثال ، ولا يعرفه إلا الرجال ، لو تكرر لضاق النطاق ولم يصح الاسم الواسع بالاتفاق ، وبطل كون الممكنات لا تتناهى ، ولم يثبت ما كان به يتباهى ، فإن اللّه واسع على الإطلاق« عَلِيمٌ »بما أوجد عليه خلقه .




الجهات ، ونبه أيضا بالمشرق على العلانية لأنه محل الظهور ، وبالمغرب على السر لأنه محل الغيب ،

ص 183
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "116 - 124" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:29 am

تفسير آلآيات من "116 - 124" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 116 إلى 117
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ( 116 ) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 117 ).
" بَدِيعُ " لأنه ما خلقهما على مثال متقدم ، وكل خلق على غير مثال فهو مبدع بفتح الدال ، وخالقه مبدعة بكسر الدال « والسماوات والأرض » يعني بذلك ما علا وما سفل ، فهو بديع كل شيء . وليس الإبداع سوى الوجه الخاص الذي له في كل شيء ، وبه يمتاز عن سائر الأشياء ، فهو على غير مثال وجودي ، إلا أنه على مثال نفسه وعينه من حيث إنه ما ظهر عينه في الوجود إلا بحكم عينه في الثبوت من غير زيادة ولا نقصان ، والابتداع على الحقيقة إنشاء ما لا مثل له بالمجموع ، ولا بديع من المخلوقات إلا من له تخيل ، فقد يبتدع المعاني ولا بد أن تنزل في صور مادية وهي الألفاظ التي بها يعبر عنها ، فيقال : قد اخترع فلان معنى لم يسبق إليه ، وكذلك أرباب الهندسة لهم في الإبداع اليد الطولى ، ولا يشترط في المبتدع أنه لا مثل له على الإطلاق ، إنما يشترط فيه أنه لا مثل له عند من ابتدعه ولو جاء بمثله خلق كثير كل واحد قد اخترع ذلك الأمر في نفسه ثم أظهره ، فهو مبتدع بلا


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فكأنه يقول : وللّه ما شرق منكم أي ما ظهر ، وما غرب عنكم أي ما استتر ، فأينما تولوا بوجوهكم وقلوبكم فثمّ وجه اللّه ، أي هو مطلع عليكم ، ويؤيده قوله :" إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ »وهذا من باب الإشارة والتنبيه ( 117 )" وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ »الضمير يعود على من تقدم ، وهو داخل في قوله : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ )( وَسَعى ) *وقال :« اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً » *يريد بذلك من قال : المسيح ابن اللّه ، وعزير ابن اللّه ، والملائكة بنات اللّه ، فإن الولد ينطلق على الذكر والأنثى ، وهذا أشد ظلما مما فعلوه ، فنزه الحق نفسه عما نسبوا إليه ، وهنا وجهان الوجه الواحد ، إن كانوا أرادوا التبني لقوله : ( لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ )ثم نزه نفسه عن ذلك ، فيكون هذا القول منهم افتراء على اللّه ، حيث نسبوا إليه ما لم ينسب إلى نفسه ، مع جواز التبني بطريق الاصطفاء ، ولكن ما وقع ، والوجه الآخر ، أن يريدوا الولد المعروف الذي للصلب ، فهو جهل منهم باللّه تعالى ، فهم ما بين جاهل ومفتر ، فنزه اللّه سبحانه عن الأمرين نفسه ، فقال سبحانه عن ذلك : « بل » حرف إضراب عن قولهم :« لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »

ص 184

شك وإن كان له مثل ، ولكن عند هذا الذي ابتدعه لا سبيل إلا ابتداع الحق تعالى فإنه تعالى قال عن نفسه إنه بديع أي خلق ما لا مثل له في مرتبة من مراتب الوجود ، لأنه عالم بطريق الإحاطة بكل ما دخل في كل مرتبة من مراتب الوجود ، فكل ما في الوجود مبتدع للّه فهو البديع ، وهذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق وإنما هو ما ظهر في الوجود الحق ، إذ لو كان عين الحق ما صح أن يكون بديعا ، ولما كان حال كن الإلهية حال المكوّن المخلوق ، وكان أسرع ما يكون من الحروف في ذلك فاء التعقيب ، لهذا جاء بها في جواب الأمر لسرعة نفوذ الأمر الإلهي في نشء العالم وظهوره ، فقال تعالى :« وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »القضاء الذي له المضي في الأمور هو الحكم على الأشياء بكذا ، والقدر ما يقع بوجوده في موجود معين المصلحة المتعدية منه إلى غير ذلك الموجود ، فالقضاء يحكم على القدر ، والقدر لا حكم له في القضاء ، بل حكمه في المقدر لا غير بحكم القضاء .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وهم الملائكة وعزير وعيسى ، وأتى بما ولم يقل من ، لأن ما عند سيبويه تقع على كل شيء فلها العموم ، فالإتيان بالعام أولى حتى يدخل فيها كل شيء« كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ »أي قائمون بالعبودية وشروطها ، وقد دخل الكفار في هذا القنوت ، فإنهم مما في السماوات والأرض ، وهم طائفتان : جاهلة وعالمة ، فمن علم منهم الحق بباطنه مثل أهل الكتاب ومن جرى مجراهم في العلم ، فهو قانت للّه في باطنه لعلمه به ، ومن جهل منهم ذلك ، فالجاهل ما عبد غير اللّه ولا قنت له لعينه ، ولكن تخيل أنه الإله المقصود بالقنوت له ، فما قنت إلا للّه وإن أخطأ في نسبة ذلك ، فصدق قول اللّه في إخباره أنه كل له قانتون بهذا الوجه ، وهل ينفعهم ذلك أو لا ينفعهم مسألة أخرى ليس هذا موضعها ( 118 )« بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »إبداع الشيء إحكامه وإتقانه ، فإذا كان هذا ، فيكون عاما في كل موجود ، وإن كان المراد هنا بالإبداع إيجاد الشيء على غير مثال ، فيكون خاصا بالموجود الأول من كل نوع ، ولا يدخل ما تحته تحت هذه الصفة من كونه إبداعا وإنما يدخل تحت اسم الخالق والبارئ ، وقد يريد بالسماوات والأرض ما علا وما سفل حصرا لجميع الموجودات ، ومن جملتهم ما نسبتموه إلينا من ولد من إنس وملك ، ولكن لا ينتفي الولد من هذا الوجه ، فإن الولد لا بد أن يكون مخلوقا مبدعا ، وليس في اللفظ ما يدل على قدم الولد ، وإنما الحجة في قوله :« وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »وما أخبركم أنه قضى أن يتبنى أحدا من خلقه ، فافتريتم عليه ، بل نسبة ما نسبتم إليه من الولد نسبة كل أمر ، إذا قضاه أي شاءه وأراده ، أن يقول له كن أي يأمره بأن يتكون ، فيكون ، وكان هنا تامة ، وهنا بحر واسع يعز

ص 185

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 118 إلى 121
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 118 ) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ ( 119 ) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 120 ) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ( 121).

" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ".
[ حق التلاوة ]
اعلم - أيدنا اللّه وإياك - أن القرآن مجدد الإنزال على قلوب التالين له دائما أبدا ، لا يتلوه من يتلوه إلا عن تجديد تنزيل من اللّه الحكيم الحميد ، وقلوب التالين لنزوله عرش يستوى عليها في نزوله إذا نزل ، فإذا نزل القرآن على


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
السابح فيه ، والهالك فيه أكثر من الناجي ، وهو فهم المعنى ، هل هذا المخاطب بكن من له عين تعقل أمر المخاطب فتمتثله ؟ أم لا عين له ؟ وهل ينطلق على المأمور بكن اسم الشيء أم لا ؟ وهل العدم صفة للمعدوم ؟ ومتى تعلق الخطاب بالتكوين هل في حال العدم ؟ أو هل بين الوجود والعدم حالة أخرى ؟ وهل كل معدوم يصح منه قبول الوجود ؟ والتفريع والتقسيم على هذا كثير ، والخلاف فيه كثير بين المعتزلة والأشاعرة والحكماء وأهل الحقائق ، والسكوت عنه أولى من الخوض فيه ، لأن اللّه ما ذكر في كتابه ما يحوجنا إلى الترجمة عنه في ذلك ، فنتركه مجملا كما تركه ، ثم قال عنهم : ( 119 )« وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ »لولا تحضيض ، يقولون لولا يكلمنا اللّه بتصديقه مشافهة ، كما قال أسلافهم : ( أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً )« أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ »تدل على صدقه« كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ »كذلك قال بنو إسرائيل في زمانهم لأنبيائهم ، وقوله :« لا يَعْلَمُونَ »أي لا يعلمون ما ينبغي لجلال اللّه من التعظيم أن يسأل مثل هذا من غير إذن ،

ص 186

قلب عبد وظهر فيه حكمه ، واستوى عليه بجميع ما هو عليه مطلقا ، وكان خلقا لهذا القلب ، كان القلب عرشا له ، سئلت عائشة عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، فما من آية في القرآن إلا ولها حكم في قلب هذا العبد ، لأن القرآن لهذا نزل ليحكم لا ليحكم عليه . كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في تلاوته القرآن إذا مر بآية نعيم حكمت عليه بأن يسأل اللّه من فضله ، فكان يسأل اللّه من فضله ، وإذا مر بآية عذاب ووعيد حكمت عليه بالاستعاذة ، فكان يستعيذ ، وإذا مر بآية تعظيم للّه حكمت عليه بأن يعظم اللّه ويسبحه بالنوع الذي أعطته تلك الآية من الثناء على اللّه ، وإذا مر بآية قصص وما مضى من الحكم الإلهي في القرون قبله ، حكمت عليه بالاعتبار فكان يعتبر . وإذا مر بآية حكم حكمت عليه أن يقيم في نفسه من يوجه عليه ذلك الحكم فيحكم عليه به ، فكان يفعل ذلك ، وهو عين التدبر لآيات القرآن والفهم فيه ، ومتى لم يكن التالي حاله في تلاوته كما ذكرنا فما نزل على قلبه القرآن ، ولا كان عرشا لاستوائه لأنه ما استوى عليه بهذه الأحكام ، وكان نزول هذا القرآن أحرفا ممثلة من خياله كانت حصلت له من ألفاظ معلمه إن كان أخذه عن تلقين ، أو من حروف كتابته إن كان أخذه عن كتابة ، فإذا أحضر تلك الحروف في خياله ونظر إليها بعين خياله ترجم اللسان عنها فتلاها من غير تدبر ولا استبصار ، بل لبقاء تلك الحروف في حضرة خياله ، وله أجر الترجمة لا أجر القرآن ، ولم ينزل على قلبه منه شيء ، كما قال صلّى اللّه عليه وسلم في حق قوم من حفاظ حروف القرآن يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، أي ينزل من الخيال الذي في مقدم الدماغ إلى اللسان فيترجم به ولا يجاوز حنجرته إلى القلب الذي في صدره ، فلم يصل إلى قلبه منه شيء ، وقال فيهم : إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
كما قال : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ )وأما العرب فالقرآن آيتهم فلا يقولون هذا ، وعلماء الكتب لا يقولون هذا فإن الآيات الدالة على صدقه في كتابهم ، فلم يبق إلا المقلدة ومن لا علم له بإعجاز القرآن ، وقوله :« تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ »أي عقولهم في الختم عليها فلا يعلمون« قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ »وهم العارفون بذلك وإن لم يؤمنوا وباهلوا ، والعلماء بذلك أيضا من من المؤمنين كما قال : ( بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ )والجاحد عالم ، قال تعالى : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا )وقوله :« يُوقِنُونَ »أي يتيقنون ، وهو ثبوت العلم في صدورهم ، ثم خاطب نبيه عليه السلام ( 120 )

ص 187

من الرمية ، لا ترى فيه أثرا من دم الرمية ، فإنه ما كل تال يحس بنزول القرآن لشغل روحه بطبيعته ، فينزل عليه من خلف حجاب الطبع فلا يؤثر فيه التذاذا ، فهذا قرآن منزل على الألسنة لا على الأفئدة ، وقال في الذوق : « نزل به الروح الأمين على قلبك » فذلك هو الذي يجد لنزوله عليه حلاوة لا يقدر قدرها تفوق كل لذة ، فإذا وجدها فذلك الذي نزل عليه القرآن الجديد الذي لا يبلى ، والفارق بين النزولين أن الذي ينزل القرآن على قلبه ينزل بالفهم فيعرف ما يقرأ ، وإن كانت تلك الألفاظ لا يعرف معانيها في غير القرآن لأنها ليست بلغته ، ويعرفها تلاوة إذا كان ممن ينزل القرآن على قلبه عند التلاوة ، فمن قرأ القرآن منزلا عليه يجد لذة الإنزال ذوقا على قلبه عند قراءته ، فإن للقرآن عند قراءة كل قارئ أي قارئ كان إنزالا ، غير أن الوارث المحمدي بالحال يحس بالإنزال ، ويلتذ به التذاذا خاصا لا يجده إلا أمثاله ، فذلك صاحب ميراث الحال وما عدا هؤلاء فإنما يقرءون القرآن من خيالهم ، فهم يتخيلون صور حروفه المرقومة إن كان حفظ القرآن من المصاحف والألواح ، أو يتخيلون صور حروف ما تلقنوه من معلمهم ، هذا إذا كانوا عاملين به ، وإما إذا قرءوه من غير إخلاص فيه فلا يتجاوز حناجرهم ، أي لا يقبل اللّه منه شيئا ، فيبقى في محل تلاوته وهو مخرج الصوت ، فلا يقرأ القرآن من قلبه إلا صاحب التنزل ، وهو الذوق الميراثي ، فمن وجد ذلك فهو صاحبه يعرف ذلك عند وجوده إياه فلا يحتاج فيه إلى معرف ، فإنه يفرق عند ذلك بين قراءته من خياله وبين قراءته عن تنزيل ربه مشاهدة ، فليس التالي إلا من تلاه عن قلبه الذي له في كل تلاوة فهم في الآية ، لم يكن له ذلك الفهم في التلاوة التي قبلها ، ولا يكون في التلاوة التي بعدها ، وهو الذي أجاب اللّه في دعائه في قوله :« رَبِّ زِدْنِي عِلْماً »فمن استوى فهمه في التلاوتين فهو مغبون ، ومن كان له في كل تلاوة فهم


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
"إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً »يقول له تسلية لما يجده في قلبه من ردهم أمر اللّه في وجهه:
يا محمد ما عليك إلا البلاغ ، وما أنت عليهم بجبار ، أي ما أرسلناك لتجبرهم على الإيمان ، وإنما وظيفتك أن تبلغ عنا ما نزل إليهم ، وأمرهم إلينا " بَشِيراً " أي مبشرا للطائفتين المطيع والمخالف ، قال تعالى : ( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) .
وقال في أولئك : ( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) *وسنبين ذلك في موضعه وقوله : « ونذيرا » أي معلما لهم بما أنزلت عليهم ، وقد تستعمل في الأكثر : البشارة في الخير والإنذار في الشر ، وكلا التأويلين صالح هنا ، والباء من

ص 188

فهو رابح مرحوم ، ومن تلا من غير فهم فهو محروم ، فمن تكرر له المعنى في تلاوته فما تلاه حق تلاوته وكان دليلا على جهالته ، ومن زادته تلاوته علما وأفادته في كل مرة حكما فهو التالي ، لمن هو في وجوده له تالي . فينبغي لكل تال إذا تلا القرآن أن يتدبره ويأخذ كل أمر أمر اللّه به نبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يبلغه أو يقوله أو يعلّمه فليقله في تلاوته ولا يكون حاكيا ، بل يكون صاحب نية وقصد وابتهال في ذلك ، وأنه مأمور به من الحق إن أراد أن يكون من الحزب النبوي ، فإن اللّه أخفى النبوة في خلقه وأظهرها في بعض خلقه ، فالنبوة الظاهرة هي التي انقطع ظهورها ، وأما الباطنة فلا تزال في الدنيا والآخرة ، لأن الوحي الإلهي ، والإنزال الرباني ، لا ينقطع إذ كان به حفظ العالم ، فجميع العالم لهم نصيب من هذا الإنزال والوحي . ومن تلا المحامد ولم يكن عين ما يتلوه منها فليس بتال ، وكذلك من تلا المذام وكان عين ما يتلوه منها فليس بتال ، فما نزل القرآن إلا للبيان« الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ »اعلم أنك لا تعرف منازل التلاوة ما لم تعرف الكتب المتلوة بأعيانها ، فإذا عرفتها عرفت حينئذ كيف تتلوها ، وكيف تسمعها ممن يتلوها عليك ، فأسماء الكتب المنزلة - وأعني القرآن - الكتاب المنير والمبين والمحصي والعزيز والمرقوم والمسطور الظاهر والمسطور الباطن والجامع ، وتعيين أربابها القائمين بها ، فالمنير لأهل الحجج ، والمبين لأهل الحقائق ، والمحصي لأهل المراقبة ، والعزيز لأهل العصمة ، والمرقوم الحكيم للمرسلين والورثة ، والمسطور الظاهر تأويلا واعتبارا لأهل الإيمان ، والمسطور الباطن اعتبارا أيضا لأهل الإباحة ، والجامع للروحانيين الملكيين ، وعلامات التالين لهذه الكتب على الحضور


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
"بِالْحَقِّ " تصلح أن يعمل فيها ،« أَرْسَلْناكَ »و« بَشِيراً وَنَذِيراً »فبشيرا ونذيرا تفصيل ما جاء به ، وقوله بالحق الأوجه فيه أن يعمل فيه« أَرْسَلْناكَ »لأن الألف واللام الأظهر فيها العهد ، لحق معلوم عنده ، وهو الحق الذي اشترك فيه جميع المرسلين ، وهو إقامة الدين وتبليغه ، وأن سبب إرساله تبليغ هذا الحق ، فالباء للسبب ، وقوله : « ولا تسأل » بفتح التاء« عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ »فيه وجهان : الوجه الواحد ، معناه أهملهم وأرح خاطرك وسرك من قبلهم فيما نفعل بهم من الهدى أو الإضلال ، والوجه الآخر ، على طريق الوعيد ، أي ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ما نفعل بهم من العذاب والضيق والنكال شفاء لصدرك واتساعا بالفرح بالانتقام منهم في مقابلة ما ضيقوا به صدرك بما قالوه ، قال تعالى : ( يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ

ص 189

من ادعى أنه تلا المنير ، علامته المكاشفة ، ومن ادعى أنه تلا المبين ، علامته التمييز والترتيب ، ومن ادعى أنه تلا المحصي ، علامته الوقوف عند الحدود ، ومن ادعى أنه تلا العزيز ، علامته أنه يجهل مقامه ، ومن ادعى أنه تلا المرقوم الحكيم ، علامته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتسليم للّه في كل حال ، ومن ادعى أنه تلا المسطور الظاهر ، علامته المجاهدة ، ومن ادعى أنه تلا المسطور الباطن ، علامته الزندقة ، ومن ادعى أنه تلا الكتاب الجامع ، علامته الخروج عن البشرية ولحوقه بهيولانية ملكية - كأبي عقال المغربي وغيره - وعلامات من تلا الحق عليه هذه الكتب أن من تلا الكتاب المنير عليه قمع هواه ، ومن تلا عليه المبين شاهد معناه ، ومن تلا عليه كتاب المحصي سلك طريق هداه ، ومن تلا عليه كتاب العزيز اجتنب رداه ، ومن تلا عليه المرقوم الحكيم بلغ مناه ، ومن تلا عليه ظاهر المسطور فاز برحماه ، ومن تلا عليه باطن المسطور كان الشيطان مولاه ، ومن تلا عليه الجامع لم ينظر إلى سواه ، ولعلك تشتهي أن ترسم في التالين لهذه الكتب على الحق تعالى بأن تمر على حروفه وتكون فيه حالّا مترحلا وأنت لا تعقل معناه ، ولا تقف عند حدوده ، أو تتخيل أن يقول لك الحق تبارك وتعالى عند قولك« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »حمدني عبدي ، لا واللّه ما يراجع الحق سبحانه وتعالى بقوله حمدني عبدي وأثنى علي عبدي إلا أهل الحضور معه عند التلاوة ، بأنه مناج


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ) وقوله : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَوَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ )وقد قرئ « ولا تسأل » بضم التاء على الخبر ، أي عليك التبليغ ما عليك سؤال هل أجابوك أم لا ، فيكون مزيد درجة ، راحة للنبي عليه السلام يوم القيامة على سائر الرسل لقوله تعالى : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ )فأخبره اللّه تعالى أنه غير داخل في هذا الجمع ، فإن الرسل ما تسأل إلا لأجل إنكار الأمم التبليغ الذين لم يجيبوا في الدنيا إذا رأوا عذاب اللّه نازلا بهم ، أو اعترافهم بالإجابة ولم تقع منهم ، ويحتمل قوله« وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ »نفي العلم عنه بهم ، وأن ذلك إلى اللّه ، فإنه غير عالم بالسعيد منهم على اليقين والشقي إلا بتعيين اللّه له ، والعالم بمن لا يعلم لا يسأله عما لا يعلم ( 121 )« وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ »يقول : ما هم عليه من الأهواء ، فإنهم مختلفون ، فلا يتمكن الجمع بينهما ، لأن كل واحد منهما مخالف لما يتضمنه كتابه ، فلو عملوا بما في كتابهم لكانوا أمة واحدة ، وكانوا على ما نحن عليه من الإيمان باللّه وبملائكته وكتبه ورسله من غير فرقان بين

ص 190

نفسه بفعله والمناجى بإحاطته وذاته ، وأهل التدبر والتذكر لما أودع في كتابه العزيز من الأسرار والعلوم ، يفهم كل عبد على قدر مقامه وذوقه وكشفه ، قال تعالى : ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب وقال تعالى : قد علم كل أناس مشربهم ، بل أقول : إن كل من قعد على منهج الاستقامة ، وكانت حيلته الطاعة ، وكان اللسان صامتا عن تلاوة القرآن ، فإنه حامد للّه شاكر له بأفعاله ، ويقول اللّه فيه حمدني عبدي . فإذا كان اللسان يقول الحمد للّه ، والقلب في الدكان ، أو في الدار ، أو في عرض من الأعراض ، متى عرف من هذه صفته أن يحمد اللّه ؟ ! وكيف ذلك والقلب غافل بما هو عليه عما جرى به لسانه ، فإذا وفقك اللّه وتريد أن يسمع الحق جل اسمه منك تلاوتك ، ويرسمك في ديوان التالين ، ويقول لك على الكلمات حمدني ، فاعلم منازل التلاوة ، ومواطنها ، وكم من التالين منك ، وذلك أن تعلم أن على اللسان تلاوة ، وعلى الجسم بجميع أعضائه تلاوة ، وعلى النفس تلاوة ، وعلى القلب تلاوة ، وعلى الروح تلاوة ، وعلى السر تلاوة ، وعلى سرّ السرّ تلاوة ، فتلاوة اللسان ترتيل الكتاب على الحد الذي رتب المكلف له ، وتلاوة الجسم المعاملات على تفاصيلها في الأعضاء التي على سطحه ، وتلاوة النفس التخلق بالأسماء والصفات ، وتلاوة القلب الإخلاص والفكر والتدبر ، وتلاوة الروح التوحيد ، وتلاوة السر الاتحاد من قوله صلّى اللّه عليه وسلم في الحديث القدسي صفة لا ذاتا كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أحد من رسله ، ولهذا قال تعالى :« قُلْ »لهم يا محمد« إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى »ولم يقل قل هداي ، أي الذي جئت به خاصة ، فإن التوراة والإنجيل هدى اللّه مثل القرآن ، فلو أطاعوا وسمعوا ما جاءت به كتبهم ما تفرقوا جملة واحدة ، وكانوا يؤمنون بكل كتاب وبما تضمنه ، فكنا نحن وهم على السواء ، فإن في التوراة الإيمان بالإنجيل والقرآن وبمن جاء بهما وما جاء فيهما ، وفي الإنجيل الإيمان بالتوراة وبمن جاء بهما وما جاء فيهما ، وفي القرآن الإيمان بالتوراة والإنجيل وبمن جاء بهما وما جاء فيهما ، فآمنا نحن بالجميع ، والكل هدى اللّه ، وكفروا هم بالكتابين وببعض ما جاء في كتابهم واتبعوا أهواءهم ، فلو دعونا إلى اتباع كتبهم لوجدونا متبعين لذلك مؤمنين غير مخالفين لشيء من ذلك ، فلهذا قال اللّه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم محذرا :« وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ »وهو قوله : ( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ )وما سامحه سبحانه في طمعه باستدراجهم بذلك ليؤمنوا بقوله

ص 191

وتلاوة سر السر الأدب وهو التنزيه الوارد عليه من الإلقاء منه جل وعلا ، فمن قام بين يدي سيده بهذه الأوصاف كلها فلم ير جزء منه إلا مستغرقا فيه على ما يرضاه منه ، كان عبدا كليا ، وقال له الحق تعالى إذ ذاك : حمدني عبدي أو ما يقول على حسب ما ينطق به العبد قولا أو حالا ، فإن كان فيه بعض هذه الأوصاف وتعلقت غفلة ببعض التالين فليس بعبد كلي ، ولا يكون فيه للحق تعالى من عبودية الاختصاص إلا على قدر ما اتصفت به ذاته ، فثم عبد يكون للّه فيه السدس ولهواه ما بقي ، وللّه فيه الخمس ولهواه ما بقي ، والربع والثلث والنصف على قدر ما يحضر منه مع الحق تعالى من حيث هو نوري ، فانظر أين تجعل همتك ، وكيف تكون مع الحق الذي إليه مردك ، فإنك لا تجد عنده إلا ما قدمت ، وقد علمت المنازل فإما عبدا كليا ، وإما جزء عبد فتدبر هذه التلاوة ، وألزمها نفسك في حركاتك وسكناتك ، فلا تتحرك إلا باللّه وللّه ومع اللّه وفي اللّه وإلى اللّه وعن اللّه ولا تسكن إلا على هذا الحد ، فباللّه من حيث توليه لك في ذلك ، وللّه من أجله لا من أجلك ، ومع اللّه من حيث المشاهدة والمراقبة ، وفي اللّه من حيث التدبر والتفكر ، وإلى اللّه من حيث التوجه والقصد ، وعن اللّه من حيث التكليف . وهكذا فلتكن في تلاوتك فإنه سبحانه يعلم السر وأخفى ، فلا يطلع عليك في سرك وعلانيتك على ما لا يرضاه منك ، وإن كان هو الفاعل سبحانه الموجد الفعل . فالزم ما كلفت من الأدب ، وما تقتضيه الحضرة الإلهية من الإجلال والتعظيم .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
تعالى : ( وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ )بما أوحينا إليك في ذلك( لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ )هذا مع القصد الحسن فكيف بغير ذلك ، قال تعالى : ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ )وهو قوله : ( ما عليك إلا البلاغ )( وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ )و( لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ )و( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) ،ثم قال :« ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ »يتولاك فيما يريده الحق أن يجريه عليك« وَلا نَصِيرٍ »ينصرك عليه ، فقال : ( 122 )« الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ »التلاوة الاتباع ، يتلوه يتبعه ، فكما أن آيات الكتاب يتلو بعضها بعضا كذلك التالي لها يمشي عليها مشيا بعد مشي ، يقول : الذين أعطيناهم الكتاب الذي أنزلته عليهم ، وهم الرسل ،« يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ »أي يتبعونه حق الاتباع الذي يجب له ، وحقه الإيمان به أنه من عندنا ، وأن لا يكفر بشيء منه« أُولئِكَ »أي الذين أوتوه وتلوه حق تلاوته« يُؤْمِنُونَ

ص 192

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 122 إلى 124
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ( 122 ) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 123 ) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( 124 )
« وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ »لأن الابتلاء من أفضل الكرامات ، وقد تلقاها للتوب صاحب السمات ، والابتلاء إشارة إلى ذبح ولده قال اللّه تعالى لخليله إبراهيم عليه السلام :« إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً »ابتداء منه من غير طلب من إبراهيم عليه السلام ليكون معانا مسددا ، وعلمنا أنه ليس بظالم قطعا لأن الإمامة عهد من اللّه وقال تعالى :« إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً »ولم يقل خليفة بل ذكره بالإمامة لأن الخليفة يطلب بحكم هذا الاسم عليه من استخلفه فيعلم أنه مقهور محكوم عليه ، فالخليفة له فيه تذكرة لأنه مفطور على النسيان والسهو والغفلة ، فيذكره اسم الخليفة بمن استخلفه ، والإمام ربما اشتغل بإمامته عمن جعله إماما ، لأن الإمامة ليست لها قوة التذكير في الخلافة فقال تعالى في الجماعة الكمل :« جَعَلَكُمْ *


به » أي يصدقون بكل ما يتضمنه ، وبه أنه من عند اللّه ، ويحتمل أن يريد به أهل التوراة الذين تلوها حق تلاوتها وأهل الإنجيل وآمنوا بما وجدوا فيها من بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلم ورسالته ، وأنه هو هذا ، فيكون خاصا بالمؤمنين من اليهود والنصارى ، ثم قال :« وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ » *كما فصلناه في معنى الكفر والكافر« فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ » *تقدم الكلام على هذا المعنى في( فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ )في أول السورة ( 123 )« يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ »قد تقدم الكلام عليها وكذلك ( 124 )« وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ »فذكر في الأولى( وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ )وزاد في هذا« وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ »أي فداء ، فإن القبول لا يكون إلا مع الرضاء به ، والأخذ قد يكون عن رضاء وقد لا يكون ، فزاد في هذه الآية ولو أخذنا الفداء لم نأخذه على جهة القبول والرضاء وإنما هو بضاعتنا ردت إلينا ، فأبان هنا بالقبول أمرا لم يذكره هناك ، وقال في هذه الآية« وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ »

ص 193

خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ » *فوقع هذا في مسموعهم فتصرفوا في العالم بحكم الخلافة ، وقال لإبراهيم عليه السلام بعد أن أسمعه خلافة آدم ومن شاء اللّه من عباده« إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً »لما علم أن الخلافة قد أشربها فلا يبالي بعد ذلك أن يسميه بأي اسم شاء ، فقال إبراهيم لربه تعالى :« وَمِنْ ذُرِّيَّتِي »« قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ »فإن الإنسان المخلوق على الصورة - لا الإنسان الحيوان - هو الذي له الإمامة في الكون ، صاحب العهد فإن اللّه لا ينال عهده الظالمون وليس عهده سوى صورته ، فما أهمل من أهمل من الأناسي إلا لجهله بمنزلته وتصرفه في غير مرتبته ، فلو أعطى نفسه حقها ، كما أعطاها ربها خلقها ، لكان إمام العالمين ، فالسيد الإمام ، العارف العلام ، يقول : الأمام الأمام ، وفي يده سراجه وفي رأسه تاجه ، يشهد له الحق بالخلافة ، والأمن من كل عاهة وآفة ، وأما إذا كانت الطرق مظلمة ، لا يعرف الماشي فيها في أي مهواة يهوي ، ومع هذا يسير ولا يلوي ، فإذا سقط ، عند ذلك يعلم أنه فرط .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وهناك ( لا تقبل منها ) أي من أجلها شفاعة ، وهنا ولو قبلت عناية بالشافع ما نفعت المشفوع فيه ، بأن نعلم الشافع مرتبته من عنايتنا به عندنا ، ونبين له قدر الجريمة التي لهذه النفس ، فيرجع الشافع عن ذلك إعظاما لجناب اللّه مع أن الحق سمع شفاعته ، ولكن ما نفعت المشفوع ، هذا كله على تقدير الوقوع ، أي لو وقعت الشفاعة من أهل العناية عندنا لكان الأمر كما ذكرناه ، فزاد هنا ما لم يذكر في الأولى« وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ »قد مضى تفسيره ، ثم قال : ( 125 )« وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ »الصحيح في هذه الكلمات عدم تعيينها ، فنعلم قطعا أن اللّه اختبره بكلمات أنزلهن عليه« فَأَتَمَّهُنَّ »فأثنى عليه بقوله : ( وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى )ومحن الأنبياء كثيرة ، وما كلفوه كثير ، كما قيل لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا )على غيرك ونهونه عليك ، والعامل في« إِذِ »إما مضمر ، وإما جاعلك ، أي قام بهن حق القيام من الشكر إن كان نعمة ، ومن الصبر إن كان غير ذلك ، كذبح الولد والرمي في النار وغير ذلك ، فوفّى صلّى اللّه عليه وسلم بجميع ما خوطب به على حسب ما يعطيه ذلك الخطاب ، وقد أكثر الناس في تعيين الكلمات من غير دليل قاطع ، فلهذا تركت تعيين ما يمكن أن تكون ، إذ لا يفيد ذلك علما ، وقوله :« قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً »يحتمل أن يكون هذا من الكلمات ، لأنها ابتلاء لما يلزمه فيها من مراعاة حدود اللّه في خلقه ، وإقامة العدل فيهم ، والنظر في مصالحهم الدينية والدنياوية ، والمبالغة في


ص 194
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "125 - 136" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:32 am

تفسير آلآيات من "125 - 136" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 125
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( 125 )
« وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى »وهما الركعتان بعد الطواف لننال ما ناله إبراهيم عليه السلام من الخلة على قدر ما يعطيه حالنا ، فإن من مقامه عليه السلام قوله تعالى فيه :« وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى »ومن مقامه عليه السلام أنه كان أواها حليما ، فيكون هذا أيضا من قصدنا مقام إبراهيم لنتخذه مصلى ، أي موضع دعاء في صلاة ، أو إثر صلاة لنيل هذا المقام والصفة ، التي هي نعت إبراهيم خليل اللّه وحاله ومقامه ، ومن مقام إبراهيم عليه السلام



من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
التبليغ ، وشروط الإمامة كثيرة ، فهي من الابتلاء الشديد ويحتمل أن يكون ذلك على جهة التشريف والتكريم ، لما قام بالكلمات حق القيام على التمام والكمال كان أهلا للإمامة ، فشرفه اللّه بأن قدّمه على خلقه ليأتموا به ويهتدوا بهديه ، إذ قد آنس منه الرشد فيما ابتلي به ، فدفع الإمامة إليه ، كما أمرنا في الأيتام في دفع أموالهم لهم واستحقاقهم لها بإيناس الرشد منهم ، فقال : ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ )وهو أحد الشرطين( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ )« قالَ »إبراهيم« وَمِنْ ذُرِّيَّتِي »« قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ »طلب إبراهيم من ربه أن يجعل من ذريته أئمة ، وهذا الطلب دليل على أنّ جعله إماما كان تشريفا وكرامة به لا ابتلاء ، فترجح أحد الوجهين ، ولو فهم بقرائن الأحوال أن الإمامة كانت على طريق الابتلاء ما طلب مثلها لذريته ، وإن كانت ابتلاء من حيث ما يتعلق بها ، ولكن إذا عرف الإمام بتعريف اللّه أنه معان معصوم كانت إمامته تشريفا بلا شك ، ويبقى ما فيها من الابتلاء في حق من وليها من المؤمنين الذين جهلوا أحوالهم فيها ، وأما قوله :« لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ »يقول لا أعطي الإمامة للظالم بوحي منزل فيه أسميه بعينه ، مثل ما سميت الرسل بأسمائهم وخصصتهم من سائر الخلق بالخطاب بالعهد والإمامة ، مثل قولنا : ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ )ولإبراهيم( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً )وهكذا جميع الرسل ، فهذا هو العهد الذي لا يناله الظالم من عبادي ، وأما من نصبه الناس إماما فأئمتهم رجلان : ظالم وعادل ، فالعادل هو الذي يقوم فيهم بسنة نبيهم وهديه ، ويسلك بهم أوامر الحق المشروع لهم من عندنا ، وهم أئمة الهدى الذين يأمرون بالقسط من الناس ، فنحن أيضا شرعنا لهم بالوحي المنزل على الرسل تولية مثل هؤلاء الإمامة ، فهم ممن ينال عهدي ، وطائفة

ص 195

أيضا : أنه كان أمة قانتا للّه حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ، ومن مقامه عليه السلام : أنه أوتي الحجة على قومه بتوحيد اللّه ، ومن مقامه عليه السلام أيضا : أنه كان مسلما ، ومن مقامه عليه السلام أيضا : الصلاح .
ومن مقام إبراهيم عليه السلام : أن اللّه آتاه أجره في الدنيا ، وأنه في الآخرة لمن الصالحين . فهذا كله من مقام إبراهيم الذي أمرنا أن نتخذه مصلى فقال :« وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى »أي موضع دعاء إذا صليتم فيه أن ندعو في نيل هذه المقامات التي حصلت لإبراهيم الخليل عليه السلام .
واعلم أن مكة خير وسيلة عبادية ، وأشرف منزلة جمادية ترابية ، وأنه قد طاف بهذا البيت




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أخرى نصبهم الناس فظلموا ، وضلوا وأضلوا ، وعدلوا عن الحق ، فهؤلاء هم الذين لم ينالوا عهدي بحكم تعيينهم بالأمر بالتقدم ، ولكن نحن جعلناهم أئمة يدعون إلى النار بقضائنا لا بأمرنا ، قال تعالى : ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ )وفي هذه الآية دليل على أن إمامة الظالم لا تصح شرعا ، فإن اللّه قد نفى عنه الإمامة ، ويتقوى مذهب من يقول إن الإمام إذا فسق انعزل شرعا وإن تعذر خلعه ، والكلام في هذه المسألة يطول ، والوجه عندي في هذه المسألة واللّه أعلم ، أن الظلم هنا كما فسره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما نزل قوله تعالى : ( وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ )
قالت الصحابة : [ وأينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال عليه السلام : ليس كما زعمتم ، وإنما الظلم هنا ما قاله لقمان لابنه : يا بني لا تشرك باللّه إن الشرك لظلم عظيم ] فهذا مثل ذلك ، وأما المسلمون وإن جاروا وظلموا فإن النبي عليه السلام قد أمرنا أن لا نخرج أيدينا من طاعة ، فإن جاروا فلنا وعليهم ، وإن عدلوا فلنا ولهم ، وقال : أطيعوهم ما أقاموا الصلاة ، لما تكلموا في جورهم ، وقال تعالى : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً )أي خيارا عدلا( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ )فقد نص اللّه على عدالتنا بمجرد الإيمان ، وإن كان قد علم أنه يقع منا الجور والظلم والتعدي للحدود المشروعة ، مع حفظ الإيمان بتحليل ما أحل اللّه ، وتحريم ما حرم اللّه ، فلم يخرج اللّه العصاة والظلمة من أهل الإيمان من الإمامة ، ولا سيما في قوله : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ )مع كونه مصطفى ، ونحن نقول إن الظالم إذا حكم بأمر فسّق فيه قد انعزل شرعا عن حكم اللّه في تلك النازلة ، فإنه بمعزل عن حكم اللّه فيها ، وهو مأثوم ، ولكن أقول إذا اتفق أن يتمكن الناس من خلع الظالم وإقامة العادل من غير ضرر فادح يصيب الناس وتهلك فيه النفوس والأموال فلهم ذلك ، وهل يجب أو لا يجب ؟ فيه عندي نظر ، وأنا الآن في محل التردد في ذلك لتعارض الأدلة ، وما ترجح عندي في ذلك شيء ، واعلم أن

ص 196

مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي سوى الأولياء ، وما من نبي ولا ولي إلا وله همة متعلقة بهذا البيت وهذا البلد الحرام ، لأنه البيت الذي اصطفاه اللّه على سائر البيوت وله سر الأولية في المعابد ، كما قال تعالى :« إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً »من كل مخوف إلى غير ذلك من


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الأئمة رجلان : إمام يقتدى به وهم الرسل ، قال تعالى : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )وسيأتي في ترجمتها في موضعها ما يتعلق بها من الحكم ، فإذا كانت الإمامة يراد بها الاقتداء ، أن يقتدى بها ، فلا تجوز الإمامة إلا لمنصوص على عصمته ، وذلك هم الرسل خاصة ، ولا خلاف بين أهل الإسلام في إمامة من جهلت عصمته أو من ليس بمعصوم ، إلا شرذمة قليلة لا يحكى قولهم ، والرجل الآخر ، إمام لا يقتدى به ، ولكن يسأل في النوازل إذا كان من أهل الذكر ، فلا بد أن يكون عالما ، بما يحكم به بين الناس ، ولا يقتدى به في أفعاله وإن كانت أفعاله مستقيمة ولكن اقتداءك إنما هو بمن اقتدى هو به وهو الشرع لا به ، فإن الكل أتباع الرسل ، فيكون نصب الإمام هنا لوجود المصالح التي يقوم بها معاشهم ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم وأزواجهم ، فإن اللّه يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، ثم قال : ( 126 )« وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً »يقول : نصبنا البيت بمعنى الكعبة ، مثابة للناس يحجون إليه في كل عام بجد وعزم ومحبة تؤديهم إلى أن يثوبوا إلى قصده من جميع البلاد بسرعة ، من الوثب ، وإن تناءت بلادهم وهلكت في قصده أموالهم ، فإن ذلك يهون عليهم ولا يبطئ بهم عن قصده لما جعل اللّه في نفوسهم من محبته ، فهوّن عليهم الشدائد في طريقه ، وهي بشارة من اللّه لعبده إذ أوجد في قلبه تهوين الشدائد ، من بذل المال وتعب البدن ومفارقة الأهل والوطن في طلب قصده والوصول إليه ، أنه مؤمن ممن اعتنى اللّه به ، وإن وجد غير ذلك فليعزّ نفسه ، فإن اللّه قد سلب عنه الإيمان وهذا من سر اللّه في قلوب العباد ، وهو من قوله : ( فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ )وأية آية أعظم من هذا ، وقوله :« وَأَمْناً »أي جعل في قلوبهم أن يشرعوا الأمان لكل من دخله ولاذ به ، جعل ذلك في قلوب المشركين وغيرهم ، قال اللّه تعالى : ( أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً )فنسب ذلك الجعل إليه وأطبق قلوب الكفار على ذلك ، ثم قال :« وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى »على الأمر إذا كسرت الخاء ، وعلى الخبر إذا فتحتها ، وقد يرد الخبر ويراد به الأمر ، فمن جعله خبرا يقول : جعلنا في قلوبهم أن يتخذوه موضعا للدعاء فاتخذوه ، فأخبر أنهم اتخذوه ، ومن جعله أمرا جعل اتخاذه مشروعا على جهة الندب لا على الوجوب ، واختلف الناس في هذه الآية في « المقام » ما المراد به ؟ وفي كيفية اتخاذه مصلى ، وما معنى « مصلى » فأما المقام فلا خلاف أن الحجر الذي قام

ص 197

الآيات« وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ »أمر إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت للطائفين عناية بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، سيد المرسلين ، فأكرمهما ببناء البيت وتطهيره إنما كان لكونهما حملا النبي صلّى اللّه عليه وسلم في ظهورهما ، واختص إسماعيل دون بنيه بذلك وبالابتلاء لكونه كان من آباء النبي عليه السلام ، قال « أنا ابن الذبيحين » وإنما كانت الفضيلة لهما في البيت لكونهما طهراه وبنياه عن أمر إلهي فقال تعالى :« أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ »في بيت خاص نسبة إذ كان بيت اللّه بلا واسطة منذ خلق الدنيا ما جرت عليه يد مخلوق ، والطائفون كالحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ، والبيت في الأرض كالعرش المنسوب إلى استواء الرحمن« وَالْعاكِفِينَ »الاعتكاف : الإقامة بمكان مخصوص ، وفي الشرع على عمل مخصوص ، بحال مخصوص على نية القربة إلى اللّه جل جلاله وهو مندوب إليه شرعا واجب بالنذر . وللمعتكف أن يفعل جميع أفعال البر التي لا تخرجه عن الموضع الذي أقام فيه ، فإن خرج فليس بمعتكف ، ولا يثبت عندي فيه الاشتراط .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
عليه إبراهيم حين بنى البيت ودعا الناس بالحج إليه الذي هو اليوم في البيت يتبرك به لموضع أقدامه فيه أنه مقام إبراهيم ، واختلفوا فيما سوى ذلك في المذكور في هذه الآية ، فأعمها قولا مناسك الحج كلها في الحل والحرم ، وأخصها ما ذكرناه ، وما بين هذين القولين أقوال كثيرة في تعيين بعض الأماكن من الحرم ، وأما قوله :« مُصَلًّى »فقد يريد به مدّعى ، أن يدعو الناس فيه ، وقد يريد به الصلاة المعلومة في الشرع ، وقد يريد الأمرين وهو الأوجه إذ لا تناقض في ذلك ، وأما كيفية اتخاذه مصلى فليس بعد شرح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في ذلك شرح ، وينبغي الوقوف عنده ، فإنه أعلم بمعنى ما أنزل اللّه عليه ، وذلك أنه صح عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه لما فرغ من الطواف صلى خلف المقام وجعل المقام الذي هو الحجر بينه وبين القبلة ، وصلى وتلا« وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى »وليس بعد هذا البيان بيان ، ومن خالف بعد هذا البيان فما اقتدى ، ثم قال :« وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ »أي أمرناهم حتما جزما ، وشرك إسماعيل مع إبراهيم في ذلك العهد لما فيه من الشرف والرفعة حيث أهلهما لتطهير بيت أضافه إليه ، وجعله مقصدا لعباده إلى يوم القيامة من ملك وجن وإنس ، والإنسان مجبول أن يحب لابنه من الخير أكثر مما يحب لنفسه ، فأكرم اللّه إبراهيم بأن يشرك ابنه معه في ذلك ، ووجه آخر ، وذلك أن يكون لمحمد عليه السلام نصيب من هذا التشريف حيث كان انتقل إلى إسماعيل من إبراهيم ، فشرف الوالد لشرف الولد ، لأنه حامله في ذلك الوقت ، لأنه كان يتردد في الأصلاب منحدرا

ص 198

سورة البقرة ( 2 ) : آية 126
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 126 )
دعا إبراهيم عليه السلام لمكة بالبركات ، فإنه إذا بورك في الأم بورك في البنات .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
في ارتقاء وتطهير ، وأحسن بيت رأيته ورويته أن يليق برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قول بعضهم :
[ تخيرك اللّه من آدم . . . فما زلت منحدرا ترتقي ]
فأمرهما اللّه أن يطهراه من الأقذار المحسوسة كما صب النبي عليه السلام الماء على بول الأعرابي ، وبيّن أن المساجد لا تصلح لشيء من هذا ، وغير المحسوسة أيضا ، وهو تطهيره من هجر القول وسوئه وجعل الأوثان فيه والأصنام ودخول المشركين فيه ، وجميع ما يقع عليه اسم تطهير شرعا وعرفا ، مطلقا من غير تخصيص ، فإنه سبحانه ما خصص لنا ، وقوله :« لِلطَّائِفِينَ »الذين يطوفون بهذا البيت من جميع أصناف الطائفين ، ثم قال :« وَالْعاكِفِينَ »يريد المقيمين فيه من المجاورين ومن أهله ، وأرجو إن شاء اللّه أن يكون أجرهم أجر المعتكف الاعتكاف المشروع ، ولا سيما على مذهب بعضهم حيث جوز للمعتكف في غير المسجد مباشرة النساء ، وقد يستروح من هذا أنه من أراد الاعتكاف في نفس البيت لا يمنع ، وأن المعتكف في الحرم أي المقيم فيه من غير طواف ولا صلاة أنه في عبادة بمجرد الإقامة ، وقوله :« وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ »يريد المصلين والساجدين في التلاوة ، والراكعين الخاضعين وإن لم يكونوا مصلين إذ الركوع الخضوع .
ثم قال : ( 127 )« وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً »لما أخبر اللّه تعالى نبيه إبراهيم أن اللّه جعل بيته أمنا لمن عاد به وجاوره ، دعا إبراهيم ربه أن يجعل البيت أيضا آمنا في نفسه من تسليط الجبابرة عليه بالهدم والتخريب لغير المصلحة وعدم الاحترام ، فما زال محترما عند كل جبار ، ومن قصده لانتهاك حرمته وهدمه فإنه لا يقدر على ذلك ، كأصحاب الفيل وغيرهم ، حتى يأتي وعد اللّه عند قرب الساعة فيسلط عليه الأحابشة ، وأما الحجاج فما قصد إلا عبد اللّه بن الزبير بتأويل رآه ، ونحن إنما تكلمنا فيمن قصده لعينه الذي دعا فيه إبراهيم ، وقوله :« وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ »لما رآه واديا غير ذي زرع ، فهو تجبى إليه ثمرات كل شيء من أداني القرى وأقاصيها رزقا من عند اللّه لدعوة إبراهيم ، وقوله :« مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ »أدبا مع اللّه حيث قال له من قبل لما سأله فقال : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ

ص 199

سورة البقرة ( 2 ) : آية 127
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 127 )
دعا إسماعيل بالقبول ، فأظهر النقص ليصح كمال الخليل ، إذ الواجب على كل بنيه ، أن يضع من قدره عند قدر أبيه ، فأظهر إسماعيل صفة الافتقار ، وظهر بها احتراما لأبيه وأدبا معه .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لا ينال عهدي الظالمين ) ومثله من يتأدب ويقف عندما نبهه عليه ربه ، وأيضا لما علم إبراهيم عليه السلام أن سبب خصب البلاد وإنزال الرزق إنما هو لأجل عناية اللّه بالصالحين من عباده وبدعائهم ، إذ هم المقصودون للحق من العالم ، وأن الكافر يرزق بحكم التبعية لا بحكم العناية ، كما يهلك الصالح بنزول العذاب الذي أنزل من أجل المفسدين فنال الصالح بحكم التبعية لا بحكم العقوبة ، فلهذا أيضا لم يذكر أرزاق الكافر ، وقوله :« قالَ وَمَنْ كَفَرَ »سؤال من إبراهيم فيكون في الكلام حذف ، كأنه لما قال ذلك قال اللّه :« وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ »فتكون الفاء جواب شرط محذوف دل عليه الكلام ، وقد يكون قوله :« وَمَنْ كَفَرَ »مبتدأ ويكون القائل اللّه ومن شرط وجوابه« فَأُمَتِّعُهُ »يقول والكافر أرزقه« قَلِيلًا »يعني الحياة الدنيا ، قال تعالى : ( قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ )أي التمتع بها قليل ، ثم قال :« ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ »لا ينبغي أن يجعل الاضطرار بمعنى الإكراه لأنه ما قال إلى النار ، وإنما قال :« إِلى عَذابِ النَّارِ »وإنما الإكراه إنما يكون في سوقهم إلى النار ودخولها ابتداء بالجبر ، فإذا حطوا فيها كما قال : ( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ )وسيأتي شرحه ومعنى سوقهم( وِرْداً )ما معناه ، واللّه يبقي علينا فهمه في وقت الترجمة عنه ، فاعلم أن الاضطرار هو أن يقصد المضطر ما يحتاج إليه لا ما يكره عليه ، فإن الإكراه ضد الاضطرار ، فإن حالة الاضطرار تزيل الكراهة عند المضطر من الشيء الذي كانت عنده في حال الاختيار ، واعلم أن جهنم تحتوي على عذابين حرور وزمهرير إلى غير ذلك ، فإذا كان الشقي في حرور النار ومسّت منه ما آلمه ونظر إلى الزمهرير الذي في مقابلته رمى نفسه إليه مضطرا من عذاب إلى عذاب ، وكذلك إذا جاع اضطر إلى دفع الجوع بما يأكله ، فينظر إلى شجرة الزقوم ، فيتوهم بالعادة من أكل الثمر أنه مزيل لجوعه ، فيضطر إلى قطعها فإذا ازدردها قطعت أمعاءه ، وناله من العذاب فوق ما كان يجده ، وهكذا في الشراب وغيره ، فهذا معنى الاضطرار ، وقال فيه تعالى :« وَبِئْسَ الْمَصِيرُ »كلمة ذم ، كما أن نعم كلمة مدح ، فذم اللّه ذلك المصير الذي صار

ص 200

سورة البقرة ( 2 ) : آية 128
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 128 )
اعلم أن توبة اللّه مقطوع لها بالقبول ، وتوبة العبد في محل الإمكان ، لما فيها من العلل وعدم العلم باستيفاء حدودها وشروطها وعلم اللّه فيها ، فالعارف يسأل ربه أن يتوب عليه ، فإن الرجوع إلى اللّه بطريق العهد وهو لا يعلم ما في علم اللّه فيه خطر عظيم ، فإنه إن كان قد بقي عليه شيء من مخالفة فلا بد من نقض ذلك العهد .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
إليه أهل النار من البؤس ، ثم قال : ( 128 )« وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا »الآية ، يحتمل رفع القواعد وجهين : الوجه الواحد« وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ »ما قعد من البيت ، أي استوطئ فرفعه إبراهيم ، والوجه الآخر ، أنه أخذ القواعد وهي الحجارة التي هي أصلا وأساسا للبناء عليها ، وقد تكون تلك القواعد قبل ذلك له على ما روي ، وقد تكون حجارة أنشأها ابتداء واختارها للأساس ، ومعنى يرفعها وذلك إذا جعلت القاعدة على المكان الذي تريد البناء عليه فقد رفعتها على ذلك المكان بلا شك ، فأراد وضعها وإسماعيل ، وقوله :« مِنَ الْبَيْتِ »من أجل بناء البيت ، وإسماعيل يرفعه معه ، ذلك لأنهما أمرا بالبناء معا ، ففي أي شغل كان من البناء فقد حصل الامتثال لأمر اللّه ، وقد يحتمل أن يكون قوله مبتدأ في وقت رفع القواعد يقول إسماعيل« رَبَّنا »أي يدعو بهذا الدعاء ، أو ما في معناه مما يتضمن طلب القبول من اللّه فيما كلفاه من العمل« إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ »لدعائنا« الْعَلِيمُ »بعملنا وامتثال أمرك في ذلك ( 129 )« رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ »يقولان في دعائهما : ربنا واجعلنا مسلمين ، يعني نفسه وابنه ، أي منقادين لأمرك متى أمرتنا بكل وجه« وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ »أي منقادة لأمرك أيضا ، وتأدب في ذلك ولم يقل كل ذريتي ، فإنه قد قيل له إن فيهم ظالمين : فقال : أمة منهم ، فكان كما دعا ، فجعل من ذريته رسلا ومؤمنين وصالحين إجابة لدعوتهما ، ثم قال :« وَأَرِنا مَناسِكَنا »قد تكون الرؤية بمعنى العلم ، ولا يكون العلم بمعنى الرؤية ، فلما كان موضوع الرؤية أعم جاء بها ، لأن من المناسك ما يحتاج فيه إلى الرؤية ، كالأماكن ، فلا بد من تعيينها للبصر ، ومن المناسك ما يكون فعلا ، كأكثر أفعال الحج مما يعلم ولا يرى ، وهو الحكم بما يجوز من ذلك وما لا يجوز ، فلهذا أتى بقوله :« أَرِنا »وقوله :« وَتُبْ عَلَيْنا »أما إبراهيم فمن قوله : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي )في طلب الإمامة وأشياء لا يعرفها ، وكذلك إسماعيل ، وقد تكون التوبة هنا بمعنى

ص 201

سورة البقرة ( 2 ) : آية 129  
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 129 )
الحكمة ليست مطلوبة إلا من أجل ما تدل عليه ، واعلم أن الحكيم من العباد الذي ينزل كل شيء منزلته ، ولا يتعدى به مرتبته ، ويعطي كل ذي حق حقه ، لا يحكم في شيء بغرضه ولا بهواه ، ولا تؤثر فيه الأعراض الطارئة ، فينظر الحكيم إلى هذه الدار التي قد أسكنه اللّه فيها إلى أجل ، وينظر إلى ما شرع اللّه له من التصرف فيها من غير زيادة ولا نقصان ، فيجري على الأسلوب الذي قد أبين له ، ولا يضع من يده الميزان الذي قد وضع له ، في هذا الموطن ، فإنه إن وضعه جهل المقادير فإما يخسر في وزنه أو يطفف ، وقد ذم اللّه الحالتين ، وجعل تعالى للتطفيف حالة خاصة يحمد فيها التطفيف ، فيطفف هناك على علم فإنه رجحان الميزان ويكون مشكورا عند اللّه في تطفيفه ، فإذا علم هذا ولم يبرح الميزان من يديه لم يخط شيئا من حكمة اللّه في خلقه ويكون بذلك إمام وقته ، ومن الحكمة عدم إظهار الحق لعباده ، وتعريف الخلق به ، في الموطن الذي يؤدي ذكره إلى أذى اللّه ورسوله ، ومن الحكمة أن لا يعرض الحكيم بذكر اللّه ، ولا بذكر رسوله ، ولا أحد ممن له قدر في الدين عند اللّه ، في الأماكن التي يعرفها هذا الحكيم إذا ذكر اللّه فيها أو رسوله أو أحدا ممن اعتنى اللّه به ، كالصحابة عند الشيعة ، فإن ذلك داع إلى ثلب المذكور ، وشتمه ، وإدخال الأذى في حقه ، ففي مثل هذا الموطن لا يذكره .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الرجوع إليه في كل حال ، وهذا التفسير على معنى ( فتاب عليهم ليتوبوا ) وأما على ظاهر اللفظ فليس فيه توبة منهم ، فمعناه إذا تاب اللّه عليهم لم تقع منهم فيما بعد مخالفة ، فإن توبة العبد قد يرجع عنها ، ومن تاب اللّه عليه فلا يرجع ، ووجه آخر وهو قولهما :« وَتُبْ عَلَيْنا »أي ارجع علينا في كل حال بالرحمة والعطف واللطف والتوفيق والرشد والاستعمال في محابك ومرضاتك« إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ » ،ثم قال : ( 130 )« رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ »فالسؤال في أن يكون الرسول منهم« يَتْلُوا عَلَيْهِمْ »ذلك الرسول« آياتِكَ »ما أنزلت عليه من الصحف والكتب« وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ »أي ما في الكتاب مما خاطبتهم به ، أو يأمرهم بتعليم الكتاب حتى

ص 202

سورة البقرة ( 2 ) : آية 130
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( 130 )
إلى الهوى يرجع السفه ، ودع عنك كلام من موّه . العقل عن السفاهة منزه ، وما هو بعاقل حتى يتنبه« وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ »الصلاح أشرف مقام يصل إليه العبد ، ويتصف به في الدنيا والآخرة ، فإن الصلاح صفة امتن اللّه بها على من وصفه بها من خاصته ، وهي صفة يسأل نيلها كل نبي ورسول ، والصلاح صفة ملكية روحانية ، فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول فيها : إذا قال العبد في التشهد « السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين » أصابت كل عبد صالح للّه في السماء والأرض .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يعرفوا ما كتب لهم في الصحف المنزلة ، « والحكمة » أن يضعوا العبادات التي كلفتهم مواضعها ، ويرتبوها كما شرعتها زمانا وحالا ومكانا وقولا وفعلا وعقدا ، فإن الحكيم هو الذي يضع الأشياء مواضعها ، قال :« وَيُزَكِّيهِمْ »أي يطهرهم ويكثر الخير لهم ، قال تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها )ثم قال :« إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ »الذي لا تغالب ولا يمتنع عليك شيء فإنه يقول : لا راد لأمره ، ثم نعته ب« الْحَكِيمُ »تسليما له في فعله لعلمه بالأمور ، فإن اقتضت حكمته سبحانه فيما دعاه به خليله أجابه ، وإن لم يكن فالأمر إليه ، فهو سبحانه أعلم بمصالح عباده ، ولا سيما وقد تقدم له عليه السلام قوله : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )في سؤاله الأول في الإمامة لذريته ، ثم قال : ( 131 )« وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ »يقال :
رغبت عن كذا إذا زهدت فيه ، واللّه تعالى يقول : ( اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) *فقال :« وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ »عن الدين الحنيفي الذي هو الإسلام إلا سفيه في نفسه ، أي سخيف ضعيف الرأي والعقل ، ليس عنده رشد ، والسفه في اللسان الخفة ، والضمير في نفسه يعود على من سفه نفسه في موضع رفع ، وانتصب على التمييز ، كقوله غبن رأيه ، أي غبن رأيا ، وسفه نفسا ، والمعنى في ذلك واضح ، وقوله :« وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا »وقد علمتم أنا اصطفيناه أي صفيناه من الصفوة واجتبيناه واخترناه للخلة والإمامة في الدنيا« وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ »أي من الذين أدوا حقوق اللّه على التمام والكمال من غير أن يتخللها ما يفسدها ، المعنى

ص 203

سورة البقرة ( 2 ) : آية 131
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ( 131 )
الإسلام : أن يكون العبد منقادا إلى اللّه عند كل دعاء يدعوه إليه من غير توقف .« لِرَبِّ الْعالَمِينَ »اعلم أن الربوبية نعت إضافي لا ينفرد به أحد المتضايفين عن الآخر فهي موقوفة على اثنين ، فمالك بلا ملك لا يكون وجودا وتقديرا ، ومليك بلا ملك لا يكون ، كذلك الرب بلا مربوب ، لا يصح وجودا وتقديرا .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 132
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 132 ).
أي في حال حياتهم ، أي اثبتوا على حالكم الذي ارتضاه الدين لكم في المستقبل ، فأمرهم بالإسلام في المستقبل أي بالثبوت عليه .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أنه في هذه الزمرة التي بهذه الصفة يحشر يوم القيامة ، ثم قال : ( 132 )« إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ »العامل في« إِذْ »اصطفيناه ، يقول : إن اصطفاءه في وقت أن قال له أسلم لما رأى الشمس آفلة قال : ( يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )« قال له ربه يا إبراهيم أسلم » بما ألقى إليه من النداء في سره ، أو بملك أرسله إليه مبلغا قول ربه له أسلم ، قال :« أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ »( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ )الآية ، وقال فيها : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ )وسيأتي إن شاء اللّه الكلام عليها في موضعها ومعنى« أَسْلِمْ »اخضع لي منقادا ، قال من غير توقف :« أَسْلَمْتُ »أي انقدت وخضعت« لِرَبِّ الْعالَمِينَ »أي سيد العالم ومصلحهم ومالكهم ، وقد مضى تفسيره في الفاتحة ، ثم قال : ( 133 )« وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ »الضمير في« بِها »يعود على ملة إبراهيم ، يقول : وصى بها إبراهيم عليه السلام أولاده ، وكذلك يعقوب أيضا وصى بها أولاده ، فقال لهم :« يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ »أن يا بني فحذف أن ، والعامل فيها وصى لأنه في معنى القول ، ولو ظهر القول هنا في موضع وصى لم يصلح أن يكون هناك حرف أن ، فقولهم إن أن محذوفة لأن وصى في معنى القول ، ولو كان القول لم يحسن وجودها تخبيط ، والأولى أنه هكذا نطقت العرب ، فهي لغة محكية ، ودعوى الحذف فيها قول بلا برهان ، وقوله :« يا بَنِيَّ »إلى آخر الآية تفسير الوصية ،

ص 204

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 133 إلى 136
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 133 ) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ( 134 ) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 135 ) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 136 )
أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم المؤمنون به أتباع كل نبي ، وكل كتاب ، وكل صحيفة ، جاء أو أنزل


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فقالا :" إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ " أي اختار لكم الدين الذي هو الإسلام ، وهو ملة إبراهيم ، فالألف واللام للعهد ،« فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ »فنهاهم عن الصفة لا عن الموت ، فإن الموت متحقق ، يقول مت وأنت موحد ، فليس الأمر بالموت ، وإنما الأمر بموت على هذه الصفة ، وفيه تنبيه على ملازمة هذا الدين أيام حياتهم ، لأن وقت الموت مجهول ، والحيوان في كل نفس ينتظره ، ولما كان الأمر هكذا ، خرج الكلام بالنهي عن الموت على غير صفة الإسلام مخرج الزموا هذا الدين أيام حياتكم ( 134 )« أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ »الآية ، لما زعمت اليهود أن يعقوب أوصى بنيه عند الموت أن يموتوا على اليهودية ، فقيل لهم ، أتدعون على الأنبياء اليهودية في قولكم هذا ، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ؟ فتكون« أَمْ »على هذا متصلة ، ومن جعلها منقطعة جعل الهمزة للإنكار ، والمعنى أي ما كنتم حاضرين يعقوب إذ حضر يعقوب الموت ، وقد يمكن أن يقال فيه أيضا إن الهمزة للاستفهام ، والمعنى أكنتم شهداء ؟ واستفهم بأم ،

ص 205
من عند اللّه ، في الإيمان به - لا بالعمل بالحكم - ، فالشرائع كلها أنوار ، وشرع محمد صلّى اللّه عليه وسلم بين هذه الأنوار كنور الشمس بين أنوار الكواكب ، فإذا ظهرت الشمس خفيت أنوار


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فإنه يستفهم بها كثيرا في الكلام المستأنف على كلام سبق ، فكأنه يقول : ما كنتم حاضرين ، فلم يبق إلا أن تعلموا ذلك من كتابكم أن يعقوب وإبراهيم كانا على اليهودية ، وأنتم تعلمون أن كتابكم ينطق بخلاف ما تزعمون ، وأنه قيل لكم : ( ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )فما أوصى إبراهيم بنيه الذي يعقوب منهم - فإنه ولد ولده - إلا بالملة الحنيفية وهو دين الإسلام ، فقولكم يناقض علمكم ، وقوله :« إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي »فأتى بما فإنها تنطلق على كل شيء بخلاف من ، فكأنه يقول : أي شيء تعبدون من بعدي ؟ وأما استفهامه بنيه لعلمه بأن قلوب الخلق بيد اللّه يقلبها كيف يشاء ، ولعلمه بأن أولاد الأنبياء قد يخرجون عن دين آبائهم ، وقد وقع هذا كله قبل يعقوب فيمن تقدم ، فأراد أن يرى ما يصرون عليه في قلوبهم بعد موته لينقلب مسرورا إن كان خيرا في جوابهم ، وإن سمع منهم غير ذلك فيدعو اللّه لهم - ما دام حيا - أن يجمعهم على الإسلام ، ولهذا قال« مِنْ بَعْدِي »فإنهم في هذا الوقت على دين أبيهم ، فقالوا :« نَعْبُدُ إِلهَكَ »أي نذل له بالطاعة لأمره ونوحده« وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ »تهمموا بتقديمه لما علموا من اصطفاء اللّه له بالخلة ، ولسنه ، ولأن ذلك مما يسر يعقوب ، وتلوه بإسماعيل ، فقالوا :« وَإِسْماعِيلَ »لأنه أسن من إسحاق ، وجعلوا العم هنا أبا فإن أبا يعقوب إسحاق ، وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : عم الرجل صنو أبيه ، فإن الأخوين من أب واحد كصنوان النخل« وَإِسْحاقَ »كل ذلك عطف بيان على« آبائِكَ »ثم قالوا :« إِلهاً واحِداً »لئلا يتوهم السامع الكثرة ، فهو بدل من إلهك وإله آبائك ، وقد قيل إن نصبه على الاختصاص ، أي نريد بقولنا إلهك وإله آبائك ، إلها واحدا« وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ »منقادون لما يأمرنا به وينهانا عنه ، وإنما قدموا يعقوب بالذكر على آبائه لحضوره ، وللحاضر مزية على الغائب عند المخاطب ، وربما ذكروه بالقصد الأول على وجه الاقتصار عليه ، ثم إنهم لما ذكروه خطر لهم أن يذكروا آباءه ، ينبهوه أنك كما عبدت إله آبائك كذلك نحن نعبد ما كانوا يعبدون ، إذ كان شرع اسم الإسلام لإبراهيم ، ( 135 )« تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ »الآية .
تدل هذه الإشارة أن واحدا منهم قال : إنه ينتفع بانتسابه إلى آبائه الذين كانوا مع الأنبياء المتقدمين على دينهم ، فرد اللّه ذلك بقوله :« تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ »أي انقضت مدتها وذهبت بعملها ، يقال خلى الرجل إذا صار إلى مكان ليس فيه غيره ، ومنه الخلوة والخلاء ، لانفراد الشخص فيه ، وقوله :« لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ »يؤيد من يقول إنه لا ينوب أحد عن أحد في

ص 206

الكواكب واندرجت أنوارها في نور الشمس ، فكان خفاؤها نظير ما نسخ من الشرائع بشرعه صلّى اللّه عليه وسلم مع وجود أعيانها ، كما يتحقق وجود أنوار الكواكب ، ولهذا ألزمنا في شرعنا العام أن نؤمن بجميع الرسل ، وجميع شرائعهم أنها حق ، فلم ترجع بالنسخ باطلا ، ذلك


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الأعمال البدنية ، ويحتج بقوله تعالى : ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى )وقوله :« ما كَسَبَتْ »من الخير والشر ، أي ما عملته من ذلك ، والذي أذهب إليه في هذه المسألة أن ليس للإنسان أن يطلب جزاءه إلا عن ما سعى فيه ، وليس له بطريق الجزاء إلا ما عمله ، وأما عمل غيره فلا يتعدى له من حيث هو عمل ، فإن العمل لا يتصف به إلا عامله وهو الصحيح ، وإنما الجزاء الذي عيّن اللّه على ذلك لعامله هو رحله يتصرف فيه كيف يشاء ، فيمسكه لنفسه ويهبه إن شاء لمن يريد ، فالذي يوهب له ذلك الثواب فليس هو له جزاء ، لأنه وصل إليه من غير عمل عمله ، ولكن من باب الهدية والمنة من صاحبه ، كالرجل يأخذ أجرة عمله فإن شاء أكلها ، وإن شاء تصدق بها ، وقد ورد في الشرع ما يؤيد قولنا ، وهذا نقول به في الخير ، وأما في الشر فلا ، فإن الشرع منع من ذلك ، قال تعالى : ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) *( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ) .
ثم قال :« وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ »أيضا ولا يسألون عما كنتم تعملون ( 136 )« وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا »- الآية - قولهم :« تَهْتَدُوا »أي تصيبوا طريق الحق ، المعنى أي يتبين لكم الحق ، إذا كنتم على اليهودية تقول اليهود ، وتقول النصارى كونوا نصارى ، وهما دينان مختلفان لأنه دين عن أهوائهم لا دين أنبيائهم ، فقال اللّه تعالى لنبيه :« قُلْ »لهم« بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ »أي نتبع نحن وأنتم كلمة بيننا وبينكم سواء( أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ )فهذه هي ملة إبراهيم ، وقد أخبرنا اللّه تعالى وهو في كتابكم أن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا ، ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ، وأنتم معشر اليهود تقولون : عزير ابن اللّه وأنتم معشر النصارى تقولون : المسيح ابن اللّه ، والمسيح هو اللّه ، فأشركتكم ، فكيف نتبعكم وأنتم ما اتبعتم ما أنزل إليكم ؟ والقرآن مما أنزل إليكم فإني رسول إليكم جميعا ( 137 )« قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ »لما قالت اليهود لنا : ( كُونُوا هُوداً )وقالت النصارى : ( كونوا نصارى ) قيل لنا :« قُولُوا »لهم« آمَنَّا بِاللَّهِ »أي بوحدانيته وبوجوده« وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا »وهو القرآن« وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ »من الصحف والوحي« وَما أُوتِيَ مُوسى »وهو التوراة« وَعِيسى »وهو الإنجيل« وَما أُوتِيَ »أعطي« النَّبِيُّونَ »الألف واللام لاستغراق الجنس .« مِنْ رَبِّهِمْ »من عند ربهم من الكتب والشرائع« لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ »كما فرقتم ، فآمنتم ببعضهم

ص 207

ظن الذين جهلوا ، والأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ، ولم يبعث عاما سوى محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وما سواه فبعثه خاص ، فنعلم من ذلك أن المحمدي مطلق الدعاء بكل لسان ، لأنه مأمور بالإيمان بالرسل وبما أنزل إليهم ، فما وقف الولي المحمدي مع وحي خاص إلا في الحكم بالحلال والحرام ، وأما في الدعاء ، وما سكت عنه ، ولم ينزل فيه شيء في شرع محمد صلّى اللّه عليه وسلم يؤذن بتركه ، فلا يتركه إذا نزل به وحي على نبي من الأنبياء عليهم السلام ، رسولا كان أو غير رسول .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "137 - 146" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:34 am

تفسير آلآيات من "137 - 146" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 137 إلى 138
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 137 ) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ ( 138 )
اعلم أن لهذه النشأة الإنسانية صورا ، كانت مبثوثة في العناصر والأفلاك ، قبل أخذ الميثاق عليه ، وللإنسان صورة في العدم ، وهذه الصور مرئية مبصرة للّه تعالى ، وهي التي يتوجه عليها خطاب اللّه إذا أراد إيجاد مجموعنا في الدنيا بكن ، فنبادر ونجيب إلى الخروج ، من حضرة العدم إلى حضرة الوجود ، فينصبغ بالوجود وهو قوله تعالى :« صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ »أي أذلاء خاضعون .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وكفرتم ببعضهم ، وآمنتم ببعض ما في كتابكم وكفرتم ببعضه« وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » *أي منقادون مستسلمون لأوامره وما يكون منه إلينا ، فإن كنتم أنتم على الحق فقد آمنا به في هذا العموم ، وما أنتم على حق ، وإنما كان هذا تنبيها من اللّه لهم ليقولوا مثل ذلك على الإجمال فيسعدوا ، ولم يختلف المفسرون في الأسباط أنهم الأنبياء من أولاد يعقوب ، فمن رأى أن أولاد يعقوب لم يكن منهم أنبياء إلا ما نص اللّه عليه كيوسف ، كان الأسباط حفدته ويوسف من ولده ، ومن جعل الأسباط أولاد يعقوب ، قال : إنهم أنبياء ، وأن ما جرى منهم في حق أخيهم كان قبل نبوتهم ، قال الربيع :
الأسباط اثنا عشر رجلا يوسف وإخوته ، ولد لكل رجل أمة من الناس سموا أسباطا ، قال ابن إسحاق - وهذا ابن إسحاق هو الذي قال فيه أحمد بن حنبل : يؤخذ من حديثه ما رواه من


ص 208

سورة البقرة ( 2 ) : آية 139
قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ( 139 )
الإخلاص النية ، روينا من حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : ( إنما الأعمال بالنيات ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
السير - قال : نكح يعقوب ابنة خاله ليا بنت ليان بن تمويل بن إلياس ، فولدت له روبيل - وهو أكبر ولده - وشمعون ولاوى ويهودا - وإليه تنسب اليهود - وريالون ويشحر وذببه بنت يعقوب ، ثم توفيت ليا ، فنكح يعقوب أختها راحيل بنت ليان خاله ، فولدت له يوسف وبنيامين ، وولد ليعقوب من سريتين كانتا له ، الواحدة اسمها زلفى والأخرى بلها ، أربعة نفر : دان وتغثالى من زلفى ، وجاد وأشر من بلها ، وقد روينا من غير هذا الطريق أن زلفى ولدت له دان ويقنوان ورنوان ، وولدت له بلها جاد وأشر وأنساخر ، ثم قال : ( 138 )« فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا »الآية - فقوله :« فَقَدِ اهْتَدَوْا »مقابلا لقولهم حين قالوا لنا : ( تَهْتَدُوا ) *إذا كنتم هودا أو نصارى ، وكان جوابنا لهم جواب إنصاف معرى من الأهواء التي دانوا هم اللّه بها ، فإنه جواب عن وحي منزل« وَإِنْ تَوَلَّوْا »يقول : وإن أعرضوا عن هذا الإيمان« فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ »أي في منازعة وحرب للّه ورسوله ، ومعناه أنك أتيتهم بكلام يشق عليهم سماعه ، فأداهم ذلك إلى حرب ومنازعة فلا تهتم يا محمد« فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ »فهو قوله : ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ )أي اللّه يكفيني أمرهم ، وهو قوله : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ )قال اللّه تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما )أي نزاعا ، وهو أن يقول كل واحد أو يعمل ما يشق على الآخر« وَهُوَ السَّمِيعُ »ما يقولونه لكم« الْعَلِيمُ »بهم أنهم يباهتون ويكذبون على اللّه وعلى أنبيائهم وكتابهم ( 139 )« صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً »الآية ، فعلة من صبغ كقعدة من قعد ، وذلك واللّه أعلم لما كانت النصارى تصبغ من دخل في دينها في ماء يقال له المعمودية لتطهره بذلك الصبغ عن كل دين سواه ، قال اللّه لنا ولهم :« صِبْغَةَ اللَّهِ »الذي هو الإيمان المطهر القلوب من الكفر والشرك« وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً »هو قوله : ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ )فإن هذه الصبغة تسعده وتحله دار القرار ، وصبغتهم ليست كذلك ، لأنها من شرعهم الذي لم يأذن به اللّه ، ونصب صبغة اللّه على أن يكون بدلا من قوله : ( بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ )أو نصبا على الإغراء ، ويكون« وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ »مبتدأ فإن كان« وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ »عطفا على قوله : ( آمَنَّا بِاللَّهِ ) *كان نصب صبغة اللّه على أن يكون مصدرا مؤكدا لقوله : ( آمَنَّا بِاللَّهِ ) *وهو أوجه من الأول لانتظام الكلام على نسق واحد ، وقوله :« وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ »أذلاء تحت أمره وحكمه ، ( 140 )« قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا


ص 209

وإنما لامرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله ، فهجرته إلى اللّه ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) والنية لجميع الحركات والسكنات من المكلفين للأعمال ، كالمطر لما تنبته الأرض ، فالنية من حيث ذاتها واحدة ، وتختلف بالمتعلق ، وهو المنوي فتكون النتيجة بحسب المتعلق به لا بحسبها ، فإن حظ النية إنما هو القصد للفعل أو تركه ، وكون ذلك الفعل حسنا أو قبيحا ، وخيرا أو شرا ما هو من أثر النية ، وإنما هو أمر عارض عرض ، ميّزه الشارع وعينه للمكلف ، فليس للنية أثر البتة من هذا الوجه خاصة ، وإنما النية سبب في ظهور الأعمال الصالحة وغير الصالحة ، وليس لها إلا الإمداد ، وحقيقتها تعطي تعلقها بالمنوي ، وكون ذلك المنوي حسنا أو قبيحا ليس لها ، وإنما ذلك لصاحب الحكم فيه بالحسن والقبح ، فالمخاطب المكلف إن نوى الخير أثمر خيرا ، وإن نوى الشر أثمر شرا ، وما أتي عليه إلا من المحل من طيبه وخبثه ، فالإخلاص هو النية وإن فاتتك النية فاتك الخير كله ، فكثير ما بين فاعل بنية القربة إلى اللّه ، وبين فاعل بغير هذه النية ، والعبادة عمل وترك ، فالإخلاص مأمور به شرعا .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فِي اللَّهِ »الآية ، هذه المحاجة هو قوله : ( فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ )أي في منازعة لكم في اللّه وما أنزل إليكم ، فقال اللّه لنبيه :« قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ »عندنا وعندكم ، فقد ثبت ذلك وأجمعنا عليه نحن وأنتم أن اللّه رب الكل فما فيه محاجة ، وادعيتم أنتم الشريك معه وهو عزير والمسيح ، ولم تأتوا على ذلك ببرهان ولا تجدونه ، وقد يئسنا من رجوعكم إلى ديننا ، ويئستم من رجوعنا إلى دينكم ، كلمة إنصاف قوله :« وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ »أي ما عمل كل واحد منا من شيء يجده عند اللّه ، لا خلاف بيننا وبينكم في ذلك ، قال تعالى : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ )غير أنه يظهر الحق معنا فنحن له مخلصون ، وهو قوله :« وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ »أي أخلصنا له الألوهية أن يكون له فيها شريك أو معين ولم تفعلوا أنتم ذلك ( 141 )« أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ »الآية ، قد تكون أم هنا معادلة لهمزة تحاجوننا ، يقول : أتحاجوننا أم تقولون ، فإن الهمزة التي في أتحاجوننا يتصور فيها الاستفهام والإنكار ، وكذلك« أَمْ تَقُولُونَ »فتكون متصلة ، وتكون القراءة في تقولون بالتاء المنقوطة من فوق ، فإن كانت القراءة بالياء فهي منقطعة ، فإنه ذكر عن غائب ، والقراءة على الخطاب أولى ، والعطف أوجه في القراءتين ، على أن يكون أي الأمرين« إِنَّ إِبْراهِيمَ


ص 210

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 140 إلى 143
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 140 ) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ( 141 ) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 142 ) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ( 143 ).
« وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً »أي خيارا عدلا« لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ »فقد نص على عدالتنا بمجرد الإيمان ، وإن كان قد علم أنه يقع منا الجور والظلم والتعدي للحدود


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى »فتباهتوا في ذلك ، لأن من ذكرتموهم كانوا قبل حدوث هذين الاسمين ، وإن أردتم المعنى الذي هو دين اليهودية أو النصرانية وإن حدث الاسم فقد أكذبكم اللّه في كتابكم وكتابنا ، فلهذا قال اللّه له :« قُلْ »لهم« أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ »فلا بد أن يقولوا : اللّه أعلم ، فاطلبوهم بذلك ، أي متى أعلمكم اللّه أنهم كانوا كذلك ، بل أنزل اللّه عليكم وعلينا أنهم كانوا حنفاء مسلمين ، لم يكونوا هودا ولا نصارى« وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ »أي قد علموا أن اللّه شهد عندهم في كتابهم بذلك وكتموه ، ووجه آخر« وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ »من اللّه ، وهو يعلم أن اللّه يعلم سرهم وعلانيتهم ، وقد علم أنه أعلمهم أنهم كانوا مسلمين ، فلم يؤدّوا هذه الشهادة وكتموها من اللّه ، فهذا غاية الجهل باللّه


ص 211

المشروعة ، مع حفظ الإيمان بتحليل ما أحل اللّه وتحريم ما حرم اللّه ، وهذا ما أنزله اللّه تعالى في حق هذه الأمة ، فنحن نشهد على الأمم بما أوحى اللّه تعالى به إلينا من قصص أنبيائه مع أممهم ، فالشهادة بالوحي أتم من الشهادة بالعين ، فنأتي يوم القيامة يقدمنا القرآن ، ونحن


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والجحود ، ويحتمل أن يكون من هنا في قوله :« مِنَ اللَّهِ »كقولنا إذا شهدنا لأحد بأمر ، هذه شهادة منّي له بذلك ، فيكون الكلام : ومن أظلم منا لو كتمنا شهادة منا لأحد عندنا ، ليعلم بذلك أهل الكتاب أن اللّه عرّض بهم في تكذيبهم بنبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وبكون الأنبياء المذكورين على دين الإسلام وقوله :« وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ »وعيد وقد تقدم ، وكذلك ( 142 )« تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ »تقدم الترجمة عنها ( 143 )« سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ »السفهاء الضعفاء الرأي الخفاف العقول من الناس ، يعني مشركي العرب واليهود والمنافقين ، وتقديمه الإخبار عن قولهم قبل قولهم ردع لكثير من شرهم ، لأن الخصم إذا حكى قول خصمه قبل وقوعه منه كان أقل لشغبه ، وذلك لتوهمه بمعرفة ذلك أنه قد استعد للجواب وأعد له جوابا قاطعا ، فيتبلد الخصم عند ذلك وتنكسر حدته ، وقولهم« ما وَلَّاهُمْ »استفهام عن السبب الموجب لتحويل القبلة ، فكل فريق منهم يحزر على قدر ما يقع له ، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قد صلى إلى بيت المقدس على ما قيل سبعة عشر شهرا ، وأكثر الروايات على ذلك ، وغاب عنهم ما في علم اللّه من انتهاء مدة الحكم في التوجه بالعبادة إلى البيت المقدس فينا وفيهم ، لأن جميع الناس مخاطبون بشرع محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فشرع لنا التوجه إلى الكعبة حتى لا نبقى بلا شرع إذ لا بد أن نستقبل بالصلاة جهة ما أو جميع الجهات ، فيكون ذلك مشروعا حتى يكون الاستقبال عبادة نؤجر عليها وعلى الصلاة ، فهو خير على خير ، فهذا شرع حادث اتصل بشرع انتهت مدته في علم اللّه تعالى ، فأعلمنا بذلك ، ومثل هذا لا يسمى نسخا ، فإنه ما رفع ، وإنما انقضى زمانه فانقضى هو بانقضائه ، وحدث زمان فحدث شرع بحدوثه ، فتخيل الضعيف الرأي أن ذلك نسخ وليس كذلك ، فإن النسخ إنما يكون فيما حكمه أن يثبت دائما فيرفع ، وما كان الأمر كذلك ، فإنه ما كان في علم اللّه قط أن تستمر الصلاة إلى البيت المقدس دائما ، وإن غاب ذلك عنا فنحن في هذه المسألة غير معتبرين ، وإنما يعتبر ناصب الحكم وهو اللّه تعالى ، وما رأيت أحدا حقق هذه المسألة بل أطلقوا القول فيها من غير تحقيق ، فقال اللّه تعالى لما قالوا ذلك : « قل » يا محمد« لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ »أي المطلوب بالعبادة إنما هو اللّه تعالى ، فأية جهة شاء أن يكلف عباده عيّنها ، ويجعل ذلك صراطا مستقيما لمن شرعها له ، أي طريقا إلى سعادته ، وأتى بمن نكرة


ص 212

نقدم سائر أهل الموقف ، ويقدم القراء منّا من ليس له من القرآن مثله ، فأكثرنا قرآنا أسبقنا في التقدم والرقي في المعراج المظهر للفضل بين الناس يوم القيامة ، فإن للقراء منابر ، لكل منبر درج على عدد آي القرآن ، يصعد الناس فيه بقدر ما حفظوا منه في صدورهم ، ولهم منابر أخر لها درج على عدد آي القرآن ، يرقى فيها العاملون بما حققوه من القرآن ، فمن


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وجعل الصراط مثله نكرة ، يقول : أي طائفة شئت كلفت بأي عبادة شئت ، فتكون صراطا له إلى سعادته مستقيما من كونه مشروعا منا ، وكما كان من جعلنا الكعبة أول بيت لنا وضعناه في الأرض لعبادنا ليحفوا به كما تحف الملائكة بعرشنا ، ويدخله عبادي كما تدخل الملائكة البيت المعمور ، وجعلناه خير البيوت ، وجعلناكم أنتم خير أمة أخرجت للناس ، وجعلناكم أمة وسطا شهداء على سائر الأمم ، جعلنا الأشرف من عبادي على سائر جنسهم يستقبل الأشرف من بيوتي على سائر البيوت التي نسبتها إليّ ، ومن تحت هذا البيت دحا اللّه الأرض على ما روي ( 144 )« وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ »الآية ، يقول : ومثل ذلك ، الكاف للصفة ،« جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً »أي خيارا عدلا ، فالعجب من هذا كالعجب من هذا ، فإن أفعال اللّه كلها عجيبة ، هي نفس الحكمة تجري على غير قياس ولا مثال ، هذه الآية دليل على أن المؤمن باللّه ورسوله وما جاء من عنده محمول على العدالة ، مقبول الشهادة ، ليس للحاكم أن يرد شهادته ، ولا يسأل عن حاله ، ويحكم ولا يتوقف ، هذا هو الشرع المنزل ، فإن اللّه زكاه وعدله بالإيمان وجعله شاهدا مقبولا عنده ، وهو الحكم العدل ، وكذا فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقد شهد عنده شخص برؤية الهلال ، فقال له : أتشهد أن لا إله إلا اللّه ، قال : نعم ، فقبل شهادته وأمر بلالا أن ينادي في الناس بالرؤية ، وأما قوله : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ )يقول مؤمنين لم تروا منهم ما يؤدي إلى تجريحهم وليس لكم أن تبحثوا عنهم إذ ليس في الآية ذلك ويؤيد هذا قوله في من حضره الموت في السفر ( ذوا عدل منكم ) يعني مؤمنين( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ )أي ممن ليس بمؤمن ، فإن ادعى الخصم تجريح الشاهد وأنه ذو جرحة في دينه ، جرحة ترد بها شهادته ، توقف الحاكم في الحكم ، وقيل للخصم : أقم البينة على ما ادعيته من جرحه ، فإن قامت البينة على ذلك عند الحاكم رد شهادته ، وإن لم تقم عزّر الخصم لافترائه عليه ، إلا أن يكون الخصم مجتهدا ، فتخيل فيما ليس بجرحة أنها جرحة ، فليس له تعزيره ، ويحكم بشهادة الشاهد ، ويكون الخصم قد أخطأ في اجتهاده ، والأوجه عندي في مسألة التجريح ، أن كل جرحة لا تقدح في صدق ما يقوله لا يجرح بها في شهادته ، كالتورية وغيرهم ، فإنهم لا يكذبون ولو مضت في ذلك نفوسهم وأموالهم وأولادهم ، وهم مع ذلك يسرقون ويفسقون بجميع أنواع الفسوق إلا الكذب ، وإنما قلنا إن


ص 213

عمل بمقتضى كل آية بقدر ما تعطيه في أي شيء نزلت رقي إليها عملا ، وما من آية إلا ولها عمل في كل شخص لمن تدبر القرآن ، وفي القيامة منابر على عدد كلمات القرآن ، ومنابر على عدد حروفه ، يرقى فيها العلماء باللّه ، العاملون بما أعطاهم اللّه من العلم بذلك ، فيظهرون


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الوسط هو العدل لأن الوسط هو الذي يكون بين طرفين ، ونسبته إلى كل طرف كنسبته إلى الآخر فلا يميل إلى أحد الجانبين ، وكذا ينبغي للشاهد أن يقول الحق الذي يعرفه لا على جهة الميل إلى أحد الجانبين ، وكانت هذه الأمة نسبتها إلى عزمات أمر ربها فيما كلفها كنسبتها إلى رخصه ، لأنها من أمر ربها ، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ إن اللّه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ] فأتى بكاف التشبيه للتساوي بين المحبتين بميله إلى كل جانب على السواء ، ولما كانت هذه الأمة ما غلت في دينها كما غلا أهل الكتاب ، فلم تفرط ولا قصرت في دينها ولا فرطت كما فرط من ترك النظر في الأدلة وقادته الشبه إلى ترك أشياء مما يجب الإيمان بها ولم تفرط في ذلك كانت أمة وسطا ، وكذا نسبتها إلى الرجاء والخوف ، فالوسط العام الذي تشترك فيه الأمة كلها ويقضي بعدالتها أنهم لم يفرقوا في إيمانهم بالرسل وما جاءوا به بين واحد منهم ، ونسبتهم من حيث إيمانهم إلى كل واحد منهم على السواء ، ثم يعلو الوسط في الأمة خصوصا بعد خصوص بتفصيل ليس هذا موضعه إلى أن ينتهي إلى أخص وصف في نسبة ما يجري منه من خير وغير ذلك إلى الأسماء الإلهية ، ثم قال :
إنه جعل هذه الأمة أمة وسطا« لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ »يوم القيامة ، إذا أنكروا تبليغ أنبيائهم إليهم رسالات ربهم مع كونهم ما شاهدوهم ، ولكن الغرض حصول العلم عند الشاهد فيما يشهد به ، لا سبب حصوله ، وقد علمنا قطعا بما أنزله علينا وأخبرنا به في كتابه أن الرسل بلغت أممها ، وحكى لنا قصصهم ، وهذا السبب أقوى من أن لو شاهدناهم ، فتثبت الشهادة قطعا للخبر الصدق ، ولهذا كانت شهادة خزيمة شهادة رجلين ، يقبل وحده ، ويجوز من هذه الآية أن يشهد الشاهد إذا حصل عنده العلم الذي يقطع به ، أي وجه حصل وإن لم يشهد ذلك ولا حضره ، بخلاف الحاكم فإنه لا يحكم بعلمه ولا يأثم ، والشاهد يأثم إن لم يشهد بعلمه ، وليس للحاكم أن يسأله كيف وصل إليه هذا العلم ، إلا إذا عرف أنه لم يشهد تلك القضية المشهود فيها ، فليس له أن يقبل شهادته إلا حتى يعرف السبب ويعمل بمقتضاه عند ذلك ، وأما قوله تعالى :« وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً »أي رقيبا عليكم في ذلك اليوم حتى تؤدوا الشهادة للأنبياء على أممهم ، ومنه قول عيسى عليه السلام : [ وكنت عليهم شهيدا ] أي رقيبا [ ما دمت فيهم ] وقوله تعالى :[ إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ ]وقد تكون على بمعنى اللام ، فإن حروف الجر تبدل بعضها من بعض ، ويعرف ذلك بالمعنى ، قال تعالى :[ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ]أي للنصب وهي


ص 214

على معارج حروف القرآن وكلماته بسور تلك الحروف والكلمات والآيات والسور والحروف الصغار منه ، وبه يتميزون عن أهل الموقف في هذه الأمة ، لأن أناجيلهم في صدورهم« وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ »فإن الدار الدنيا دار بلاء وفيها يظهر الصادق من الكاذب


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الأصنام التي نصبوها للعبادة فكانوا يقربون لها ، فعلى هذا يخرج قوله :« وَيَكُونَ الرَّسُولُ »لكم [ شهيدا ] بعلامات قد جعل اللّه في أمته ، يعرف بها المؤمن منهم من غير المؤمن ، فيشهد للمؤمن ويشهد على الكافر ، فمن علامة المؤمنين أن لهم نورا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، ومن ذلك أن يأتوا غرّا محجلين من آثار الوضوء ، وقد يخرج على شهادته على الكفار ممن بعث إليهم فلم يؤمنوا به ، فإن رسالته عامة لجميع الخلق وكافرهم أكثر من مؤمنهم ، فغلّب الكثرة على القلة ، فأتى بعلى دون اللام ، وعطف ضمير المخاطب في عليكم على الضمير في تكونوا لما يتضمن ضمير المخاطب من المؤمنين ، فإن الأنبياء كلهم يوم القيامة يشهدون على أممهم للّه بردهم دعوة الحق التي جاءوا بها إليهم .
ثم قال تعالى :« وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ »
يقول : قبلة لك ، أي تتوجه إليها عند الصلاة وفي الدعاء ، الكعبة وبيت المقدس ، إلا ابتلاء لقومك ، فإنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ، ثم صلى إلى البيت المقدس سبعة عشر شهرا ، ثم أمر باستقبال الكعبة ، كل ذلك اختبارا ومحنة لقومه ، ودلالة على صدقه ، وأنه في كتابهم من علاماته أن يصلي إلى القبلتين ،
ولذا قال : [ وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ]
ثم قال [ ليعلم الرسول والمؤمنون ] لأنه سبحانه شرّك في الضمير بينه وبينهم تشريفا لهم ، لأنهم أهل القرآن ، فهم أهل اللّه وخاصته ، وهذا كثير في كلام العرب معروف غير منكور ، والذي يتعلق به من التأويل في جناب الحق هو أن يتعلق العلم بالكائن كما تعلق بسيكون ، فهو لتعلق العلم لا لاكتساب العلم ،
ومنه قوله : [ ولنبلونكم حتى نعلم ] فقال :« إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ »فيما يشرع لكم على يده ، أي يقتدي به من غير معارضة ولا اعتراض ،« مِمَّنْ يَنْقَلِبُ »أي يرجع عنه« عَلى عَقِبَيْهِ »يعني إلى ضلالته التي جاء منها مقبلا على الرسول ليسمع منه ، فلما تبين له الهدى انقلب على عقبيه فأضله اللّه على علم [ وما كان اللّه ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ] وهؤلاء الذين انقلبوا على أعقابهم في هذه المسألة وغيرها ، هم الذين يكون غدا جزاؤهم عند اللّه إذا قالوا للمؤمنين :
[ انظرونا نقتبس من نوركم قيل لهم ] من جانب الحق [ ارجعوا وراءكم ] كما رجعتم عندما رأيتم نور الهدى في الدنيا على أعقابكم [ فالتمسوا نورا ] هنالكم ولن تجدوه ، وكثرت قالة الكفار والمنافقين في رجوع النبي عليه السلام إلى استقبال


ص 115

"وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ » ،اعلم أن للرأفة موطنا لا تتعداه ، وإن اللّه يحكم بها حيث يكون وزنها ، فإن اللّه ينزل كل شيء منزلته ، ولا يتعدى به حقيقته ، فاللّه هو الرؤوف تعالى مع أنه شرع الحدود ، وأمر بإقامتها ، وعذب قوما بأنواع العذاب الأدنى والأكبر .

 سورة البقرة ( 2 ) : آية 144  
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( 144 )
لا يرفع حكم أن وجه اللّه حيثما توليت ، ولكن اللّه اختار لك ما لك في التوجه إليه سعادتك ، ولكن في حال مخصوص وهي الصلاة ، وسائر الأينيات ما جعل اللّه لك فيها هذا التقييد فجمع لك بين التقييد والإطلاق ، والمسجد الحرام موطن عبودية لأن السجود


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الكعبة في الصلاة بما لا يفيد ذكره« وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ »إن هنا مخففة من الثقيلة ، ولهذا دخل في خبرها اللام لأنه يقرأ بالرفع على زيادة كان ، والضمير في كانت يعود على التولية أو الجعلة ، وكونها كبيرة حيث ثقلت عليهم ، وقد أخبر عن الصلاة أنها كبيرة إلا على الخاشعين ، أي ثقيلة شاقة ، فقد انضافت إليها كبيرة أخرى ، وهي التولية إلى الكعبة ، فزادتهم مشقة إلى مشقتهم« إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ »يقول إلا المؤمنون الذين ليس في قلوبهم مرض ، فإن ذلك كله هين عليهم محبوب لهم ، إذ ليس لهم غرض بتصريف مخصوص معين ، بل هم مرتقبون لما يصرفهم إليه الحق وما يصرفهم فيه ، ثم قال :« وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ »أي ليخيب« إِيمانَكُمْ »أي تصديقكم وصلاتكم إلى القبلة التي حولتم عنها ، لما علم أن بعضهم سيقدح ذلك في نفسه ، ويقول : هل له أجر في عمله الأول أم لا ؟ فأخبره اللّه بأنه لا يضيع عمل عامل منهم ، قال تعالى : [ إن اللّه لا يضيع أجر من أحسن عملا ]
وكيف يضيعه وهو الذي شرعه ووعد بالأجر عليه ووعده صدق« إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ »عطوف عليهم ، ولذلك شرع لهم وأبان طريق سعادتهم ولم يعمّ عليهم ولا لبّس ،« رَحِيمٌ »بهم فيما أسبغ عليهم من النعم مع كفرهم به لعلهم يرجعون ، ثم أخذ يخاطب نبيه عليه السلام فقال : ( 145 )« قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ »الآية ،


ص 216

هو التطأطؤ ، وهو نزول من أعلى إلى أسفل ، وبه سمي الساجد ساجدا ، لنزوله من قيامه .

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 145 إلى 146  
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( 145 ) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 146 )
"الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ »فإنهم مصدقون بكتابهم وهذا النعت فيه وقد أبصروه ، فيعلمون أنه عين هذا النعت ولا يعرفون الشخص الذي قام به


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لما كانت اليهود تقول ما بال محمد يتبع قبلتنا ولا يتبعنا في ديننا ، ثقل ذلك على النبي صلّى اللّه عليه وسلم حيث نسبوه إلى اتباعهم في أمر ، وخاف على الضعفاء في إيمانهم من المؤمنين أن تتعلق بقلوبهم شبهة من ذلك تقدح في إيمانهم ، وكانت الكعبة قبلة إبراهيم أبيه عليه السلام ، ومن ملته التوجه إليها ، فكان يختارها على سائر الجهات من الأماكن ، فكان يستقبل السماء لكونها محل الدعاء شرعا ، ويكثر تقلب وجهه فيها في عموم أوقاته عسى أن يكون ذلك التقلب شرطا في علم اللّه في صرفه إلى الكعبة ، فكان يقلب وجهه في السماء حسا ووجه قلبه فيما يسمو من معالي الأمور مما يظهر به شرفه ، إذ كان البيت أشرف البيوت ، فقال اللّه له :« قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ »يعني في طلب استقبال الكعبة« فَلَنُوَلِّيَنَّكَ »يقال : وليته كذا إذا جعلته واليا عليه« قِبْلَةً تَرْضاها »أخبر الناس باعتنائه به حين لم يعمل ذلك مع غيره ، قال تعالى :[ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ]واستقبال الكعبة منها ، فما كره استقبال بيت المقدس ، فإنه صلّى اللّه عليه وسلم يستحيل عليه أن يكره ما شرع له وإنما كان ذلك لما ذكرناه ، فأمره سبحانه وأوجب عليه ليكون الأجر أعظم بإتيان الواجب ، فإنه يقول :
[ ما تقرب إليّ أحد بأحب إلي من أداء ما افترضت عليه ] فقال له :« فَوَلِّ وَجْهَكَ »في الصلاة ، ونزلت وهو في صلاة الظهر في شهر رجب قبل قتال بدر بشهرين ، فتحول في الصلاة بعد أن صلى منها ركعتين واستقبل الكعبة ، وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ، وسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين ، وهو مسجد بني سلمة ، وقوله :« شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ »أي ناحيته ومواجهته ، والمسجد الحرام هنا إنما هو الكعبة خاصة ، ونصبه على الظرف ، ولا وجه لمن قال


ص 217

هذا النعت لجواز أن يقوم ذلك النعت بأشخاص كثيرين ، فدخلهم الاحتمال في الشخص لا في النعت .« وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ »أنه الحق فيكتمونه عن مقلديهم ، وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنهم عرفوه أنه صاحب هذا النعت ، فقوله :« وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ »هم الذين يلبسون الحق بالباطل« لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ »يقول : إن الحق أبلج لا لبس فيه ، لقوة الدلالة عليه .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
إنه أراد المسجد لتعذر حصول العلم باستقبال البيت ، وما نحن مأمورين إلا بالاجتهاد حتى يغلب على ظننا أنا قد استقبلنا عين البيت ، وإن لم يكن في نفس الأمر على ذلك ، فما كلف اللّه نفسا إلا وسعها ، وعلى البعد المفرط يلزم في الحرم كله أي في استقباله ما يلزم في البيت ، فلا وجه لذلك القول ، ثم قال :« وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ »من أرض اللّه وأردتم الصلاة« فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ »ثم قال :« وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ »يعني أهل التوراة والإنجيل« لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ »يعني تحويلك إلى الكعبة وصلاتك إلى القبلتين ، فإنه مذكور في كتابهم ، وهو من جملة الأدلة على نبوتك ، ولكنهم قوم بهت قد ختم اللّه على قلوبهم« وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ »وعيد لهم ، وشفاء صدر وراحة لرسوله وللمؤمنين ، ثم قال : وإن كانت هذه من آياتك التي ظهرت لهم وعلموا صدقها ، يقول اللّه له : ( 146 )« وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ »يقول :
ولئن جئتهم بجميع الآيات كلها التي تدل على صدقك« ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ »أي دينك ، ومنه القبلة المعروفة« وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ »أي دينهم وقبلتهم أيضا ، وذلك بشرى للنبي عليه السلام من ربه بثباته على استقبال الكعبة ، إذ في الإمكان أن يصرف إلى قبلتهم مرة أخرى كما صرف أولا ، ثم أخبر عنهم فقال :« وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ »يعني اليهود والنصارى لا يتبع بعضهم دين بعض ولا قبلته مع اتفاقهم على مخالفتك ، ثم عرّض بهم في اتّباعهم أهواءهم ، فإنهم من الظالمين من بعد ما تبين لهم الحق ، وحذر أمته صلّى اللّه عليه وسلم ، والخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلم خطاب فرض وتقدير ، وقد يفرض وقوع المحال مع العلم بأنه غير واقع ، لكن يؤتى به مفروضا لما فيه من الفائدة فقال« وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ »وهذه صفتهم ، وهو من قولهم :
[ إياك أعني فاسمعي يا جارة ] ، ثم قال : ( 147 )« الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ »هذا مثل قوله : ( لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً )و( مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ )وهو كل كلام له وجهان ، وجه إلى ما قبله ، ووجه إلى ما بعده ، فيجوز الوقف عليه ثم يبتدئ به ، فيجوز أن يكون« الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ »صفة للظالمين له وجه إلى ذلك ، يقول :« إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ »فإنهم ظلموا بعد ما جاءهم العلم بما جئت به ، ويقويه قوله : ( مِنْ بَعْدِ


ص 218
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "147 - 156" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:35 am

تفسير آلآيات من "147 - 156" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 147 إلى 148
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 147 ) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 148 ) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها »والعارف متصرف في كل وجهة لكونه يشاهد وجهه .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ما جاءك من العلم ) ثم يرجع القارئ بعد الوقوف عليه لبيان ما ذكرناه يبتدئ به فيقول :« الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ » *يعني أهل التوراة والإنجيل « يعرفونه » تحويل القبلة في كتابهم ، فالضمير يعود عليه هنا وأنه مذكور ، ومن أعاده على محمد عليه السلام فيتكلف وله موضع آخر« كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ »لا يشكون فيه ، فإن إخبار اللّه لا شك فيه ، وتقليده فيما أخبر به علم ، وتقليد الرجل المرأة أن هذا الولد له لا يقوى هذه القوة ، لإمكان الخيانة والكذب الذي يجوز عليها ، واللّه يستحيل عليه ذلك ، وإنما قرنه بمعرفة الأبناء وإن كان يتطرق إليه الشكّ لوجهين ، وهما : أن مثل هذا من حصول الفراش ، أو إلحاق الابن به في شرعهم هو ابنه شرعا ، ولا يجوز له إنكاره ، وقد كان هذا مقررا عندهم ، وفي الجاهلية يعرف ذلك من يعرف أنكحتهم ، فبهذا القدر وقع التشبيه وإلا كان المشبه أبين من المشبه به ، والمراد زيادة البيان في التشبيه ، ثم استثنى العلماء من أهل الكتاب الذين كتموا الحق بعد علمهم من العلماء الذين ما كتموه ومن المقلدين للكاتمين والمقرين ، فأخبر عنهم بكتمانهم الحق بعد علمهم به فقال :« وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ »الألف واللام للعهد ولجنس الحق ، أي كل حق يأتيهم به ، أو الحق الذي تقدم ذكره من تحويل القبلة ، لأنه قد تقدم الإخبار عنهم في ذلك في قوله في أول القصة : ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ )ثم قال :« الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ »بالنصب والرفع ، فنصبه على وجهين : الوجه الواحد على البدل من الحق المكتوم ، فإنه أبين من الحق الأول بإضافته إلى الرب في قوله : ( مِنْ رَبِّكَ )والثاني أن يكون مفعولا لقوله :« وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ » ،ومن رفعه فعلى الابتداء« فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ »في كذبهم ، ويكون( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ )تفسيرا لقول اللّه( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ )فهذا الحق ما هو ذلك الحق ، مع أنه عليه السلام لا يمتري في شيء مما يخبره اللّه ، ولكن فيه إشارة ودليل على الأخذ بالظاهر وترك التأويل لما يتطرق إلى الكلام من الاحتمالات في التأويل ، فكأنه يقول : هو كما أخبرتك لا تأويل فيه ، كما قال : ( إِنْ هُوَ إِلَّا *

ص 219

سورة البقرة ( 2 ) : آية 149
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 149 )
أي من كل جهة خرجت مصليا فاستقبل المسجد الحرام ، ويجوز صلاة الفرض داخل الكعبة ، إذ لم يرد نهي في ذلك ولا منع ، وقد ورد وثبت حيثما أدركتك الصلاة فصل ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ذكر وقرآن مبين ) أي ظاهر ما فيه لغز ولا رمز كما يكون في الشعر ، فقال : ( وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ )لأنه بعث بالبيان الشافي ، ووضع الشعر ليس على هذا البناء وإن كان يقع فيه البيان ، ثم قال : ( 149 )« وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها »يقول : ولكل أمة من الناس وجهة هو موليها أي جهة وقبلة يولي وجهه إليها ويستقبلها ، فمن جعل ضمير « هو » عائدا على اللّه يقول : أنا جعلته يولي نحوها ، وهنا وجهان الواحد : أن ذلك بقضائنا وإلهامنا إياه وإرادتنا ، والوجه الآخر قوله : ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ )فأصل نصبها قبلة كان منها على لسان الرسول الذي بعثناه لتلك الأمة ، أو يعود الضمير على الذي يولي وجهه نحو تلك الجهة ، ثم قال :« فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ »أي اجروا مع الخيرات في الحلبة إلينا ، فإن الخيرات إلينا تقصد ، فإذا سابقتموها كنتم معها على طريق واحد فتوصلكم إلينا ، قال النبي عليه السلام : [ والخير كله بيديك والشر ليس إليك ] والخيرات كل عمل مشروع ، ووجه آخر فاستبقوا بالخيرات إلينا أي سابقوا بما شرعنا لكم ، اركبوها مستبقين إليّ ، ووجه آخر« فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ »فاستبقوا إلى الخيرات إذا رأيتموها ، فبادروا مستبقين إلى الأخذ بها ، وقوله :« أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً »موضع مخصوص للجمع فيه وزمان مخصوص ، فإنه تعالى مع عباده أينما كانوا ، قال تعالى : ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً )وهذا يؤيد أن الضمير في« هُوَ مُوَلِّيها »يعود على اللّه ، وإنما وقع التعريف بالإتيان لأنه من الممكنات ، فأخبر تعالى أنه واقع ، ووجه آخر تعريف للمنكرين ذلك المحيلين له بحكم جهلهم فيما غاب عنهم« إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ »منه إتيانهم« قَدِيرٌ »ثم عاد وقال : ( 150 )« وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ »فليس هذا بمعنى الأول من كل وجه ، فإن هناك الأمر بالتولية إلى شطر المسجد الحرام من موضعه ذلك وما فيه ذلك البيان ، لأنه قد يحتمل أن يقصد من ذلك الموضع لكونه شرقا أو جنوبا ، فقال له هنا : إنما يقصد لعينه من حيث خرجت ، لا تراعي شرقا ولا غربا ولا جنوبا ولا شمالا ، وإن كان في الأول ما يدل عليه في قوله : ( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )فإن ذكره على التعيين ، وتخصيصه يعطي من البيان أكثر من

ص 220

إلا الأماكن التي خصصها الدليل الشرعي في ذلك لا لأعيانها ، وإنما ذلك لوصف قام بها ، فيخرج بنصه ذلك القدر لذلك الوصف ،

تفسير " وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ "
وقوله :« وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ »أي إذا خرجت من الكعبة ، أو من غيرها ، وأردت الصلاة فول وجهك شطرها أي لا تستقبل بوجهك في صلاتك جهة أخرى لا تكون الكعبة فيها ، فقبلتك فيها ما استقبلت منها ، وكذلك إذا خرجت منها ما قبلتك إلا ما يواجهك منها سواء أبصرتها أو غابت عن بصرك ، وليس في وسعك أن تستقبل ذاتها كلها بذاتك ، لكبرها وصغر ذاتك ، فالصلاة في داخلها كالصلاة خارجا عنها ولا فرق ، فقد استقبلت منها وأنت في داخلها ما استقبلت ، ولا تتعرض بالوهم لما استدبرت منها إذا كنت فيها فإن الاستدبار في حكم الصلاة ما ورد وإنما ورد الاستقبال ، وما نحن مع المكلّف إلا بحسب ما نطق به من الحكم ، فلا يقتضي عندنا الأمر بالشيء النهي عن ضده فإنه ما تعرض في النطق لذلك ، فإذا تعرض ونطق به قبلناه ، ومن صلى فوق البيت لم يصل الصلاة المشروعة ، فإن شطر المسجد لا يواجهه وهو مأمور بالاستقبال إليه في الصلاة وهو في هذه الحالة لا فيه ولا مستقبله .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 150 
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 150 )
تفسير من باب الإشارة -« وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ »إلى الوجود أي من زمان خروجك من العدم إلى الوجود فارجع بالنظر والاستقبال مفتقرا مضطرا إلى ما منه خرجت ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
اشتراكه في الضمير مع أمته ، ولذا خصصه في الثالثة أيضا مع تشريكه في ضمير المخاطبين من المكلفين من أمته ، هذا وجه ، والوجه الآخر ، أن الأول قرن معه علم الذين أوتوا الكتاب أنه الحق من ربك ، وما قرن معه علمه به بأن أعلمه هو تعالى أنه الحق على الاختصاص لا بحكم التضمين كما أعلمهم ، وهو عليه السلام أولى بعلم الاختصاص من أن يعلم من أنهم علموا أنه للحق ، وكرره باللفظ الظاهر حتى يرتفع اللبس ، ولو كان مضمرا ربما وقع الخلاف في صاحب

ص 221

فإنه لا أين لك غيره ، فانظر فيه تجده محيطا بك مع كونه مستقبلك« وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ »من الأحوال« فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ »أي لا تعرضوا عنه ، ووجه الشيء حقيقته وذاته ، فإن الإعراض عن الحق وقوع في العدم ، وهو الشر الخالص ، كما أن الوجود هو الخير المحض الخالص ، والحق هو الوجود ، والخلق هو العدم ، قال لبيد : ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الضمير من هو ، فقال تعالى :« وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ »فأعلمه أنه الحق من ربه ، فساواهم في الطريق الموصلة إلى العلم به نصا ، ثم قال« وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ »وعيد في كتمانهم الحق المتقدم الذكر ، ثم قال ثالثا : ( 151 )« وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ »فأتى به ظاهرا كما قلنا لارتفاع الاحتمالات التي تعرض للضمائر ، وهذا إنما ذكره ليبين ارتفاع الحجة عليكم من المنازعين لكم في ذلك ، فكان الأول لمعنى خاص ، والثاني لمعنى آخر ، والثالث لمعنى ليس هو الأول ولا الثاني ، والاختصاص لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم بالذكر تشريف ، قال :« لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ »يعني أهل مكة القائلين لم ترك محمد قبلة أبيه إبراهيم ، وقد قال إنه قبل اتبع ملة إبراهيم ، وعدل إلى استقبال بيت المقدس ، فهذه هي الحجة التي أراد اللّه حسمها عن نبيه في تحويل القبلة ، ولا يلزم من رد حجة خصم في أمر ما أن يكون ذلك ردا أو حجة على خصم آخر بقول آخر ، واعتراض لذلك الآخر في مقابلة اعتراضه وحجته جواب آخر بدليل آخر إذا ذكر ذكر معه« إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ »يعني عاندوا فيقولون كما بدا له ورجع إلى قبلة آبائه بعد أن كان انصرف عنها ، لا نأمن عليه أن يرجع معنا إلى ديننا الذي نحن عليه ، وذلك أنه ما من حالة تكون إلا ويمكن أن يكون لها وجوه جمة من التأويلات ، فما يتخصص وجه منها دون غيره إلا بقرينة حال أو دليل واضح عند من يظهر عنده ذلك ، فما يعاند المعاند مع معرفته بصحة ما يعاند فيه إلا من أجل الاحتمالات التي تعطي تلك الحالة ، فيجد بذلك مساغا ومدخلا إلى المعاندة لا غير ، وحجة موضع الوقف والاستئناف تنبيه ، ثم قال :« فَلا تَخْشَوْهُمْ »الضمير يعود على الذين ظلموا ، يقول : لا تخافوا ما يقولون ولا ما يعاندون به ، واهملوهم واطردوهم من قلوبكم« وَاخْشَوْنِي »واشتغلوا بالخوف مني الذي بيدي الضر والنفع ، وهم لا يضرون ولا ينفعون« وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ »عطف على قوله :« لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌوَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ »« وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ »الترجي منهم أن يكونوا من المهتدين ، وقد تقدم الكلام في« لَعَلَّكُمْ »في أول السورة ، وقد يكون« وَلِأُتِمَّ »معطوف على شيء مقدر ، يقول : واخشوني

ص 222

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في هذا القول : إنه أصدق بيت قالته العرب . ولا شك أن الباطل عبارة عن العدم ؛ فلا تحجب بالجهة الكعبية ، عن الجهة الإلهية القلبية .

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 151 إلى 152
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ( 151 ) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ( 152 )
أمر اللّه عباده المؤمنين بالذكر والشكر ، فعليك بذكر اللّه في السر والعلن وفي نفسك وفي الملأ ، فقد جعل الحق جواب الذكر من العبد الذكر من اللّه . فذكر اللّه جزاء وفاق على ذكر العبد ، وذكره تعالى في هذا الموطن هو المصلي عن سابق ذكر العبد ، قال تعالى :


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لأنعم عليكم ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون إذا فعلتم هذه الخشية ، ثم قال : ( 152 )« كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ »الآية ، يقول : ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا ، مثل ما أنعمت عليكم بقبول دعوة أبيكم إبراهيم حين قال هو وإسماعيل : ( رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ )فأرسلت فيكم منكم معشر العرب رسولا منكم« يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا »يريد آيات القرآن« وَيُزَكِّيكُمْ »بأخذ الصدقة من أموالكم ، قال تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها )« وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ »أي يبين لكم ما أنزل إليكم في القرآن ، قال تعالى : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )وقال تعالى : ( وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ )« وَالْحِكْمَةَ »يقول : كيف تكونون حكماء« وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ »يعني ما كنتم به جاهلين من يوم الجمعة وغيره ، مما يقربكم العلم به إلى سعادتكم ، إذ العلوم على قسمين :
علم لا يتضمن عملا ، وعلم يتضمن عملا ، فأما العلم الذي يتضمن العمل فأفعال العبادات لا تعلم إلا من جهته ، وأما العلم الذي لا يتضمن عملا كالعلم بما ينسب إلى الحق مما لا يقتضي دليل نسبته إليه ، وكالعلم بالآخرة ومواطنها وما يكون فيها مما ينفع العالم العلم به ، وهذا كله لا يعلم إلا من طريق الشرع ، إذ العقل لا يستقل بإدراك شيء من هذا ، بل ربما يحيل العقل الضعيف بعض الإطلاقات الشرعية ويتكلف فيها التأويلات البعيدة ، فهذا معنى قوله :« وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ » ،ثم قال : ( 153 )« فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوا لِي

ص 223

هو الذي يصلي عليكم أي : يؤخر ذكره عن ذكركم ، فلا يذكركم حتى تذكروه ، كان صلّى اللّه عليه وسلم في حال الضراء يقول : الحمد للّه على كل حال ، وفي حال السراء : الحمد للّه المنعم المفضل ، وأي ضراء على العبد أضر من الذنب ، فإنك إذا أشعرت قلبك ذكر اللّه دائما في كل حال لا بد أن يستنير قلبك بنور الذكر ، واللّه يقول في الخبر المأثور الصحيح عنه الحديث وفيه : « وأنا معه » يعني مع العبد « حين يذكرني ، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم » . وقال تعالى :« وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ »وأكبر الذكر ذكر اللّه على كل حال ، والشكر من المقامات المشروطة بالنعماء والمحبة ، ليس للبلاء في الشكر دخول ، ولا للصبر في النعم دخول ، ولما كانت الصلاة مناجاة بين اللّه وبين عبده فإذا ناجى العبد ربه فأولى ما يناجيه به من الكلام كلامه ، الذي شرع له أن يناجيه به ، وهو قراءة القرآن في أحوال الصلاة ، من قيام وهو قراءة الفاتحة ، وما تيسر معها من كلامه ، ومن ركوع وهو قوله تعالى :« فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ » *فهو ذاكر ربه في صلاته بكلامه المنزل ، وكذلك في سجوده يقول : « سبحان ربي الأعلى » فأمرنا اللّه بذكره وشكره ، والفاتحة تجمع الذكر والشكر ، وهي التي يقرؤها المصلي في قيامه ، فالشكر فيها قوله« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » *وهو عين الذكر بالشكر إلى كل ذكر فيها وفي سائر الصلاة ، فذكر اللّه في حال الصلاة وشكره ، أعظم وأفضل من ذكره سبحانه وشكره في غير الصلاة ، فإن الصلاة خير موضوع العبادات ، وقد أثرت هذه الصلاة في الذكر هذا الفضل وهو يعود على الذاكر ، وينبغي لكل من أراد أن يذكر


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وَلا تَكْفُرُونِ »يقول سبحانه :« فَاذْكُرُونِي »بهذه النعم التي قررتكم عليها وأتممتها عليكم التي لا تحصى كثرة ، سرا في نفوسكم وعلانية في ملإ من عبادي ، تعلمون به الجاهل ، وتذكرون به الناسي والغافل« أَذْكُرْكُمْ »جزاء لذكركم إياي ، فمن ذكرني منكم في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه يعني الملائكة ، قال : واشكروا نعمتي ، وقرنها بقوله تعالى :« لِي »فقال :« وَاشْكُرُوا لِي »وهذا شكر خاص ، وهو أعلى الشكر ، وحق الشكر وهو أن ترى جميع النعم منه حين تقف الناس مع الأسباب التي يرسل اللّه النعم عند وجودها ، فلذلك قال :« وَاشْكُرُوا لِي »وقد وعد بالزيادة للشاكرين ، قال :« وَلا تَكْفُرُونِ »أي ولا تستروا نعمتي ، فإنه يقول لنبيه لما قال : ( وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى )( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ

ص 224

اللّه تعالى ويشكره باللسان والعمل أن يكون مصليا ، وذاكرا بكل ذكر نزل في القرآن لا في غيره ، وينوي بذلك الذكر والدعاء الذي في القرآن ليخرج من العهدة ، فإنه من ذكره بكلامه فقد خرج عن العهدة فيما ينسب في ذلك الذكر إلى اللّه ، وليكون في حال ذكره تاليا لكلامه ، فيقول في التسبيحات ما في القرآن ، ومن التحميدات ما في القرآن ، ومن الأدعية ما في القرآن ، فتقع المطابقة بين ذكر العبد بالقرآن لأنه كلام اللّه ، وبين ذكر اللّه إياه في قوله :« أَذْكُرْكُمْ »فيذكر اللّه الذاكر له وذكره كلامه فتكون المناسبة بين الذكرين ، فإذا ذكره بذكر يخترعه لم تكن تلك المناسبة بين كلام اللّه في ذكره للعبد وبين ذكر العبد ، فإن العبد هنا ما ذكره بما جاء في القرآن ولا نواه ، وإن صادفه باللفظ ولكن هو غير مقصود« وَاشْكُرُوا لِي »يقال شكرته وشكرت له ، فشكرته نص في أنه المشكور عينه ، وقوله شكرت له فيه وجهان ، الوجه الواحد يكون مثل شكرته ، والوجه الثاني يكون أن يكون الشكر من أجله ، فإذا كان الشكر من أجله يقول له سبحانه : اشكر من أولاك نعمة من عبادي من أجلي ، ليكون شكره للسبب عين شكره للّه ، فإنه شكره عن أمره وجعل المنعم هنا نائبا عن ربه ، فلهذا قال سبحانه :« وَاشْكُرُوا لِي »ولم يقل واشكروني ليعم الحالتين ، فإنكم لا تذكرونه حتى يوفقكم ويلهمكم ولذلك قال :« وَلا تَكْفُرُونِ ».

سورة البقرة ( 2 ) : آية 153
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( 153 )
لما أمر اللّه عباده المؤمنين بالذكر والشكر أمرهم أن يستعينوا على ذلك بالصبر والصلاة ،


فحدث ) ومن حدث بها فما سترها ، وقال عليه السلام : [ التحدث بالنعم شكر ] ، وكفران النعم على وجهين ، كفر بمعنى الجحد والستر لها لجهله بالمنعم الحق سبحانه ، وهم الذين يعتقدون أن اللّه لا يعلم الجزئيات ، والوجه الآخر من كفرها وقوف العبد مع الأسباب التي حصلت النعم عليه عندها لغفلته ، وهذه حالة أكثر المؤمنين ، وكأنه يقول في هذه الآية :« وَلا تَكْفُرُونِ »كما كفر أهل الكتاب بما أنعمت عليهم فيما قد أخبرتكم في قولي : ( يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا ) *( يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا ) *في غير ما موضع من كتابي وأبنت لكم عن كفرهم بنعمي ، فلا تكفرون أنتم كما كفروا ، ثم أيّه سبحانه بالمؤمنين من عباده فقال : ( 154 )« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ

ص 225

وأخبرهم بأن اللّه مع الصابرين عليها وعلى كل مشقة ترضي اللّه مما كلف عباده بها ، لأن الصبر من المقامات المشروطة بالمشقات والمكاره والشدائد المعنوية والحسية ، فجعل الصبر هنا للتطابق في قوله : ( وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ )فالصلاة هنا والصبر عليها وهو الدوام والثبات وحبس النفس عليها مؤثرة في الذكر والشكر ، فالصبر هنا هو قوله : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها )فلذلك ذكر الصبر مع الصلاة ، فكما يؤثر الصبر على الذكر والشكر في الذكر والشكر ، كذلك يؤثر في الصلاة سواء ، وتؤثر الصلاة من حيث الصبر عليها في الذكر والشكر ، ومن حيث هي صلاة ، فإن اللّه أمرنا بذكره وشكره ، والفاتحة تجمع الذكر والشكر ، وهي التي يقرؤها المصلي في قيامه والتسبيح في ركوعه وسجوده ، وقال اللّه تعالى :« اسْتَعِينُوا » *على ذكري وشكري« بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ » *فلولا ما علم الحق بأن الصلاة معينة للعبد لما أمره بها ، فإنه أنزلها منزلة نفسه ، فإن اللّه قال للعبد : قل : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )يعني في عبادتك ، فجعل للعبد أن يستعين بربه ، وأمره أن يستعين في ذكره وشكره بالصلاة ، فناهيك يا ولي من حالة وصفة وحركات وفعل أنزله الحق في أعظم الأشياء وهو ذكر اللّه منزلة نفسه ، فكأنه من دخل في الصلاة قد التبس بالحق ، والحق هو النور ولهذا قال : [ الصلاة نور ] فأنزلها منزلة نفسه ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : [ وجعلت قرة عيني في الصلاة ] وقرة عيني ما تسر به عند الرؤية والمشاهدة ، وقد أقام الحق الصبر والصلاة مقام نفسه في المعونة ، والمصلي يناجي ربه ويشاهده في قلبه ، ففي حال المناجاة والشهود لا يجرأ أحد من المخلوقات يقرب من عبد تكون حالته هذه خوفا من اللّه ، وهذا المصلي قليل ، ولكن نرجو أن يشفع ظاهر العبد في باطنه ، والقدر من الحضور المرعي شرعا هو من الباطن يتأيد مع الفعل الظاهر ، فيقوي على ما يقع للمصلي من الوسوسة في الصلاة ، فلا يكون لها تأثير في نقص نشأة الصلاة عناية من اللّه .


وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ »لما تقدم مقالات أهل الكتاب وغيرهم مما آذوا به اللّه ورسوله والمؤمنين ، قال اللّه للمؤمنين :« اسْتَعِينُوا » *على ما تجدونه في أنفسكم من الآلام لذلك وطلب الانتقام منهم ومؤاخذتهم« بِالصَّبْرِ » *أي بحبس نفوسكم عن الاشتغال بهم إن اللّه صبور مع الصابرين ، فتخلقوا بأخلاقه مع كونه قادرا على أخذهم ، ويسمع أذاهم ويعلم في ذلك سرهم ونجواهم ، وأنتم إنما تسمعون ذلك منهم في أوقات متفرقة ، واستعينوا أيضا بالصلاة ، أي اشتغلوا

ص 226

سورة البقرة ( 2 ) : آية 154
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ( 154 )
لما تقرب الشهداء بأنفسهم إلى اللّه في قتال أعداء اللّه كانت لهم الحياة الدائمة والرزق الدائم والفرح بما أعطاهم اللّه ، فلا يقال في الشهداء أموات لنهي اللّه عن ذلك ، لأن اللّه أخذ بأبصار الخلق عن إدراك حياتهم ، كما أخذ بأبصارهم عن إدراك الملائكة والجن مع معرفتنا أنهم معنا حضور ، ولا نعتقد أيضا في الشهداء أنهم أموات بقوله تعالى : ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ )وخبر اللّه صدق ، فثبتت لهم الحياة لما قصدوا القربة إلى اللّه بنفوسهم ، فما مات من قتله أعداء اللّه في سبيل اللّه ، فجمع اللّه لهم بين الحياتين ، فالمقتول في سبيل اللّه في معترك حرب الكفار حي يرزق ، ولذلك لا يغسل ، وإنما أمرنا بغسل الميت ، وهذا الشهيد الخاص


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بمناجاتي والحديث معي عن ذلك ، وقصد إلى الصلاة دون سائر العبادات من الفرائض والنوافل لوجهين : الواحد أنه ما ثم عبادة تتضمن مناجاة الحق والحديث معه وأن يقول معه ، ويقول له إلا الصلاة ، فهي مشغلة للعبد عن ما سواها ، فقيل استعن بالصلاة ، فإن الصوم ليس فيه شغل بحديث مع اللّه ولا غيره ، ثم إن فرضه شهر في السنة ، والزكاة كذلك ، والحج مرة في العمر ، والجهاد متى ما حضر عدو ، ونوافل هذه العبادات كذلك ، إنما تكون في أزمان بعيدة ، والصلاة مستصحبة ليلا ونهارا ، فرضها ونافلتها ، وأوقات النهي إذا كان على طهارة ينتظر الصلاة فهو في صلاة ، فما أمرهم الحق إلا بما يكون لهم معونة بلا شك على ذلك ، ووجه آخر أن الصبر هنا في هذه الآية هو جهادهم وقتالهم ، أي احبسوا نفوسكم على قتالهم والفتك فيهم ، فإن اللّه معكم مؤيد وناصر ، وهو الأظهر ، فإنه سبحانه أردف هذه الوصية بقوله : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ )وهو الأوجه في تفسير الصبر هنا على الجهاد ، ولما كان القتال مشغلا عن الصلاة ، أوصى بالصلاة ، أي أنّ الاشتغال بها أمام العدو مع احتداد القتال على معاينة منهم لذلك ، إرهاب في قلوبهم ، ليعلموا أن في مقابلتهم رجالا لا يشغلهم خوف هجوم عدوهم عليهم في حال صلاتهم عن صلاتهم ، وأيضا يقول لهم اللّه : لما أمرتكم بالصبر الذي هو حبس النفس على قتال الأعداء عن الصلاة إذا حضر وقتها لا يشغلكم ذلك ، فإن في حضوركم معي فيها تقوية لكم ومعونة ، فإنها مذكرة لكم أنكم بعيني وأني معكم ، ومن قتل منكم فإنه لا يموت ، بل هو حي عندي ، فقال تعالى : ( 155 )« وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ »لا يلزم من

ص 227

لا يقال فيه إنه ميت ولا يحسب أنه ميت ، بل هو حي بالخبر الإلهي الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولكن اللّه أخذ بأبصارنا عن إدراك الحياة القائمة به كما أخذ بأبصارنا عن إدراك أشياء كثيرة ، كما أخذ أيضا بأسماعنا عن إدراك تسبيح النبات والحيوان والجماد وكل شيء ، ولذلك قال تعالى :« وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ »بحياتهم ، كما يحيي الميت عند السؤال ونحن نراه من حيث لا نشعر ، ونعلم قطعا أنه يسأل ، ولا يسأل إلا من يعقل ، ولا يعقل إلا من هو موصوف بالحياة ، فنهينا أن نقول فيهم أموات ، وأخبرنا أنهم أحياء ولكن لا نشعر .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 155
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ( 155 )
الجوع بئس الضجيع ، وهذه كلها أسباب بلاء يبتلي اللّه به عباده حتى يعلم الصابرين منهم ، وهو العالم بالصابر منهم وغير الصابر ثم قال :« وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ »على ما ابتليتهم به من ذلك ، فحبسوا نفوسهم عند الحدود ولم يتعدوها مطلقا .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
كون الإنسان حيا كونه مجتمع الأجزاء على هيئة مخصوصة ، أو ذا دم سائل أو ذا نفس ، وإنما يلزمه قيام الحياة به مجتمع الأجزاء كان أو مفرق الأجزاء وغير ذلك ، ولا يلزم لروحه أن لا تدبر هذه الأجزاء إلا على هذه الهيئة المخصوصة ، بل يجوز أن تدبرها على غير هذه الهيئة ، ولا يلزم من قيام الحياة به أن ندرك كونه حيا ، فإن الحياة ليست من إدراك الحواس ، وإذا تقرر هذا ، فقد يكون الشهيد في سبيل اللّه حيا ولا نشعر بذلك ، لوقوفنا مع العادة في عدم الحركة والتنفس من المقتول ، فقال تعالى في حق الشهداء في سبيل اللّه :« وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ »أي لا تعلمون بحياتهم على العادة التي عهدتموها ، يقوي بذلك نفوس المؤمنين الذين قال لهم : ( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ ) *فإن قتلتم فإلينا تنقلبون أحياء لا تموتون ، إذ كان الخوف من الموت عند اليأس أشد الخوف ، فأمنهم اللّه من ذلك ، ولما قال قائل ، إنما نهينا أن نقول خاصة ، قلنا في قوله :« بَلْ أَحْياءٌ »جوابك ، ثم زاد اللّه في بيان ذلك قوله : ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً )أي كما قلت لك لا تقل إنهم أموات ، لا تعتقد أيضا أنهم أموات ، والعلم ليس محله اللسان مثل قوله ، فنهينا عن الأمرين عن القول والاعتقاد ، ثم قال : ( 156 )« وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ »الآية ، وذلك أنه سبحانه لما أمر المؤمنين بالصبر على أذى نفسي 
ص 228

سورة البقرة ( 2 ) : آية 156  
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ( 156 )
ثم من فضله ورحمته نعت لنا الصابرين لنسلك طريقهم ، ونتصف بصفاتهم عند حلول الرزايا والمصائب التي ابتلى اللّه بها عباده ، فقال في نعت الصابرين :« الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ »يريد في رفعها عنهم ، وقولهم :« إِنَّا لِلَّهِ »فهم للّه في حالهم« وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ »عند مفارقة الحال ، فالرجوع فيها إلى اللّه ليزول عنه ألمها ، فأثنى اللّه على من يقول إذا أصابته مصيبة« إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ »وأخبر بما يكون منه لمن هذه صفته وبما لهم منه تعالى في ذلك فقال :


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
غير محسوس ، وهو ما يجدونه في أنفسهم من قول الكفار ، قد يمكن أن يكون منهم دعوى في الصبر ، فقال لهم اللّه : إني ابتليتكم بأمور محسوسة تتألم النفوس لأجلها ، فإن صبرتم عندها واحتسبتم ولم يشغلكم ذلك عن عبادتي ورجعتم إليّ في ذلك كله ، فسأبشركم بما لكم عندي لذلك ، فقال تعالى :« وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ »أي بقليل« مِنَ الْخَوْفِ »أي من الأسباب المخيفة ، من جمع عدو لكم لا طاقة لكم بدفعه ، حتى أرى هل تخافون غيري ، أو ترجعون في دفع ذلك إليّ لعلمكم بأن ذلك من تسليطي ، ثم قال :« وَالْجُوعِ »أي وقلة الرزق وعدمه حتى يمسكم الجوع ، فنرى هل ترجعون في دفع ألم الجوع إليّ أو إلى الرزق ، ثم قال :« وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ »موت الإبل والغنم ، فإنها أموالهم قد خصوها بهذا الاسم ، وقلوبهم منوطة بها« وَالْأَنْفُسِ »بطاعون يسلطه عليهم« وَالثَّمَراتِ »بالجوائح ، فإن احتسبوا ذلك وصبروا على ما كلفهم اللّه من عبادته في كل ما ابتلاهم به ولم يشغلهم ذلك صدقوا في صبرهم ، فبشرهم اللّه فقال :« وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ »ثم نعت الصابر ليعلم من هو الصابر عنده سبحانه الذي يصح له البشرى من اللّه ، لأن ذلك لا يدرك إلا بإعلامه.
فقال في نعت الصابرين : ( 157 )« الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ »نالتهم مصيبة ، أي نزلت بهم رزية في أموالهم وأنفسهم ، أية مصيبة كانت مشتق من صاب المطر إذا نزل« قالُوا إِنَّا لِلَّهِ »أي إنا خلقنا للّه لا لأنفسنا ، أي لنعبده.
لأنه يقول : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )ما خلقنا لرزق ولا لنعيم ولا بؤس ، فما كان من اللّه إلينا من خير فمن فضله ومنته ، وما كان من غير ذلك فمن حكمه وقضائه ، فالواجب علينا القيام بوظيفتنا من عبادتنا في هذه الأحوال المختلفة من النعيم والبؤس« وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ »فيها على حسب ما كلفنا ، فإن كلفنا بالسؤال له في دفعها رجعنا إليه سائلين متضرعين داعين في دفع ذلك عنا من حيث ما أمرنا ،
ص 229
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "157 - 165" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:36 am

تفسير آلآيات من "157 - 165" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 157   
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( 157 )
« أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ »يقول إن اللّه يشكرهم على ذلك« وَرَحْمَةٌ »والرحمة لا يكون معها ألم ، فرحمته بإزالة المصيبة عنهم« وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ »الذين بانت لهم الأمور على ما هو الأمر عليه في نفسه ، فإن كل ما حصل عنده أمانة إلى وقتها ، فسميت مصيبة في حقه لنزولها به ، وكانت تنبيها من الحق له ليرجع إليه ، ولا يرجع إلا من خرج .


سورة البقرة ( 2 ) : آية 158 
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ ( 158 )
الحج هو تكرار القصد ، فيتكرر القصد من الناس والجن والملائكة للكعبة في كل سنة للحج الواجب والنفل ، وفي غير زمان الحج وحاله يسمى زيارة لا حجا وهو العمرة ، والعمرة الزيارة ، وتسمى حجا أصغر لما فيها من الإحرام والطواف والسعي وأخذ الشعر أو منه والإحلال ، ولم تعم جميع المناسك فسميت حجا أصغر بالنظر إلى الحج الأكبر الذي يعم استيفاء جميع المناسك ، ولهذا يجزئ القارن بينهما طواف واحد وسعي واحد لمسمى


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لتكون عبادة ، لا من حيث دفعها عنا من حيث ما هو دفع ورفع ، فإذا فعلوا ذلك كانت البشرى لهم ، قوله : ( 158 )« أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ »يريد كثرة الرحمة ، فجمعها لأنه نكر المصيبة ، وهي تقتضي عموم المصائب ، فجعل الجزاء مطابقا في التعميم والتنكير ، أي تنزل عليهم الصلوات والرحمة كما نزلت بهم المصيبة ، نزول بنزول ، وقال :« مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ »فإن الربوبية تقتضي صلاح الأمور« وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ »أي هم الذين أبان اللّه لهم أنهم ما خلقهم إلا ليعبدوه ، فاهتدوا بأن لزموا ما خلقوا له ، ( 159 )« إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ »الآية ، الصفا والمروة موضعان مرتفعان بمكة معروفان ، كان على عهد المشركين على الصفا صنم من حجر اسمه أساف ، وعلى المروة آخر يسمى نائلة ، كان المشركون إذا سعوا بين الصفا والمروة يتمسحون بهما تبركا ، والحج القصد إلى الشيء على التكرار ، والاعتمار الزيارة ، والتطوع نوافل العبادات ، والجناح الإثم ، والشعائر الأعلام ، والبيت هنا الكعبة ، والتطواف التردد على الشيء مرارا ، فقال تعالى :« إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ »أي هذين الموضعين« مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ »أي من المناسك التي جعل اللّه الوقوف

ص 230

الحج لها ، وهكذا فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في قرانه في حجة وداعه التي قال فيها :
[ خذوا عني مناسككم ]
فالحج الأكبر له زمان خاص ، والعمرة لا تختص بزمان دون زمان ، فحكمها أنفذ في الزمان من الحج الأكبر ، وحكم الحج الأكبر أنفذ في استيفاء المناسك من الحج الأصغر ، ليكون كل واحد منهما فاضلا مفضولا« إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما »طافت هاجر أم إسماعيل عليه السلام بين الصفا والمروة ، وهرولت في بطن الوادي سبع مرات تنظر إلى من يقبل من أجل الماء لعطش قام بابنها إسماعيل ، فخافت عليه من الهلاك ، والحديث مشهور ، فجعل اللّه فعل هاجر من السعي بين الصفا والمروة وقرره شرعا ، وإنما يبدأ بالصفا لأن اللّه تهمم بها في الذكر فبدأ بها ، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما جاء في حجة وداعه إلى السعي بين الصفا والمروة :
[ أبدأ بما بدأ اللّه به ]
فبدأ بالصفا واقترأ الآية ، فمن أراد أن يحصل علم اللّه في خلقه فليقف عند ترتيب حكمته في الأشياء ، فيقدم ما قدمه اللّه ويؤخر ما أخره اللّه ، فإن من أسمائه المقدم والمؤخر ، فإن أخرت ما قدمه أو قدمت ما أخره فهو نزاع خفي يورث حرمانا ، فقفوا على مشاعر اللّه التي بيّنها لكم ولا تتعدوا ما رسم لكم ، وما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ذلك إلا تعليما لنا ولزوم الأدب مع اللّه ، ولولا أنه جائز له أن يبدأ بالمروة في سعيه لما قال هذا ، ورجح ما بدأ اللّه به على ما في المسألة من التخيير من أجل الواو ، فإنه ما بدأ اللّه به إلا لسر يعلمه ، فمن لم يبدأ به حرم فائدته ، وقد قال صلّى اللّه عليه وسلم : [ خذوا عني مناسككم ] ، وتقديم الصفا في السعي من المناسك ، وهكذا فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وقال اللّه : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )وقال : ( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) .
وقال : [ من رغب عن سنتي فليس مني ] .
فأبان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن مراد اللّه منّا في هذه العبادة ، فالأولى ألا نتصرف بالاختيار لما تقدم من بيان الشارع الذي هو العبد المحقق محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فلم يقدم السعي على الطواف ولا المروة على الصفا في السعي ، ولما رقي صلّى اللّه عليه وسلم على الصفا حتى رأى البيت استقبل القبلة فوحد اللّه وكبره ، وقال : لا إله إلا اللّه وحده أنجز وعده ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
عليهما والسعي بينهما لمن حج أو اعتمر قربة إليه سبحانه ، وعلما من أعلام القرب في الحج إلى اللّه« فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ »الألف واللام للتعريف والعهد ، يقول فمن قصد البيت حاجا« أَوِ اعْتَمَرَ »أو معتمرا« فَلا جُناحَ »أي فلا إثم « عليه عند اللّه »

ص 231
ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثم دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة ، حتى إذا انتصبت قدماه في بطن الوادي أسرع حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا ثم فعل مثل ذلك حتى بلغ سبع أشواط وختم بالمروة ، واتفق العلماء أن من شرط السعي الطهارة من الحيض وليس من شرطه الطهارة من الحدث ، والطهارة أولى ، والسعي سنة فإن خرج عن مكة ولم يسع فليس عليه أن يعود وعليه دم ، واتفق العلماء أن السعي ما يكون إلا بعد الطواف بالبيت ، وأنه من سعى قبل الطواف يرجع فيطوف« وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ »ما سمى الحق نفسه بالاسم الشاكر والشكور إلا لنزيد في العمل الذي شرع لنا أن نعمل به ، كما يزيد الحق النعم بالشكر منا ، فإن الشكر يقتضي الزيادة لذاته من المشكور مما شكر من أجله ، فإذا علم ذلك علم أن الحق تعالى يطلب الزيادة من عباده في دار التكليف مما كلفهم فيها من الأعمال ، فهو يشكر عباده طلبا للزيادة منهم مما شكرهم عليه مثل ما قال لعباده( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ )فطلب سبحانه من عباده بشكره أن يزيدوه فزادوه من العمل.
وهو قوله صلّى اللّه عليه وسلم : [ أفلا أكون عبدا شكورا ] فزاد في العبادة لشكر اللّه له شكرا ، فزاد الحق في الهداية والتوفيق في موطن الأعمال حتى إلى الآخرة حيث لا عمل ولا ألم على السعداء ، وأردف سبحانه وصف نفسه بالشكر وصفه بالعلم ، لأن مرتبة العلم تعطي أن وقوع خلاف المعلوم محال ، والشكور من أسماء اللّه تعالى ، هو ببنية المبالغة ، وهذا الاسم مختص في حق من أعطاه من العمل ما تعين على جميع أعضائه وقواه الظاهرة والباطنة في كل حال بما يليق به ، وفي كل زمان بما يليق به ، فيشكره الحق على ذلك بالاسم الشكور ، وأما العامة فدون هذه الرتبة في أعمال الحال والزمان ، فإذا أتوا بالعمل على هذا الحد من النقص تلقاهم الاسم الشاكر


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
"أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما »أي إذا طاف بينهما ، فإن المؤمنين خافوا أن يكون عليهم إثم في الطواف بينهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما ، فلم يريدوا التأسي بالمشركين ، فأخبر اللّه المؤمنين أنه لا إثم عليهم في ذلك لكون الحق جعل ذلك مشروعا للمؤمنين« وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً »فمن فعل من أفعال الخير ما ندب إليه ولم يجب عليه« فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ »يشكره على ذلك« عَلِيمٌ »أي يعلم أن العبد إذا تقرب إلى اللّه بما لا يجب عليه أن ذلك من تعظيم اللّه في نفسه ، قال الأعرابي للنبي عليه السلام حين ذكر له فرض الحج : هل عليّ غيره ؟ قال : لا إلا أن تطوع ، فجعل فعل ما لا يجب تطوعا ،
ص 232


لا الشكور ، فهم على كل حال مشكورون

[ إشارة في العمرة ]
إشارة في العمرة - زيارة أهل السعادات للّه في الدنيا بالقلوب والأعمال ، وفي الآخرة بالذوات والأعيان ، والعمرة من حيث هي عمرة لا تصح إلا بمكة ، ولما فيها من الشهود الذي يكون به عمارة القلوب تسمى عمرة .

[ اشاره في السعي ]
إشارة - كان على الصفا أساف وعلى المروة نائلة ، فلا يغفل الساعي بين الصفا والمروة ذلك ، فعند ما يرقى في الصفا يعتبر اسمه من الأسف ، وهو حزنه على ما فاته من تضييع حقوق اللّه تعالى عليه ، ولهذا يستقبل البيت بالدعاء والذكر ، ليذكره ذلك فيظهر عليه الحزن ، فإذا وصل إلى المروة وهو موضع نائلة ، يأخذه من النيل وهو العطية ، فيحصّل نائلة الأسف أي أجره ، ويفعل ذلك في السبعة الأشواط ، لأن اللّه امتن عليه بسبع صفات ليتصرف بها ويصرّفها في أداء حقوق اللّه ، لا يضيع منها شيئا ، فيأسف على ذلك ، فيجعل اللّه له أجره في اعتبار نائلة بالمروة ، إلى أن يفرغ ، أما الرمل بين الميلين ، فلأنه بطن الوادي ، وبطون الأودية مساكن الشياطين ، فيرمل في بطن الوادي ليخلص معجلا من الصفة الشيطانية ، والتخلص من صحبته فيها إذ كانت مقره ، ثم إن السعي في هذا الموضع جمع الثلاثة الأحوال ، وهو الانحدار والترقي والاستواء ، وما ثم رابع ، فحاز درجة الكمال في هذه العبادة ، أعطى


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وكأن الحق في هذه الآية حيث ذكر اسم الشاكر أنه يحرض عبده ويطلب منه الزيادة من النوافل ، كما أنه سبحانه يزيد الشاكر النعم لشكره ، كما قال تعالى : ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ )وصف نفسه سبحانه بأنه يشكر عبده على ما تطوع به ليزيد في تطوعه ، فكان تنبيها ، واختلف الناس في السعي بين الصفا والمروة في الحج هل هو واجب أم لا ؟ فإن النبي عليه السلام قال في حجة الوداع :
[ خذوا عني مناسككم ] فأمر ، فمعناه عندي أن يؤخذ من المناسك ما بيّن أنه فرض على جهة الفرضية والوجوب ، وما بيّن أنه سنة أمر أن يؤخذ على أنه سنة لا على أنه فرض ، وكذلك التطوع ، فمتعلق الأمر إنما هو أخذ الحكم على الفعل بالوجوب وغيره ، فقال جماعة منهم مالك والشافعي وابن حنبل وابن راهويه إنه فرض واجب ، وحجتهم قول النبي عليه السلام حين سعى بين الصفا والمروة 
[ اسعوا فإن اللّه كتب عليكم السعي ] 
وقد تكلم في هذا الحديث ، وهم يرون أن الأصل في أفعاله في هذه العبادة الوجوب إلا ما خرج بدليل ، وقد ذكرنا معنى قوله عليه السلام 
[ خذوا عني مناسككم ] وخرج الخبر في الآية مخرج الأمر عندهم ، وقال الكوفيون : هو واجب ، وهو عندهم دون الفرض وفوق التطوع ، وعلى تاركه دم وليس بركن من أركان الحج ، وقال أنس وابن عباس وغيرهما هو تطوع ، واحتجوا بالآية« فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما »

ص 233
ذلك الموضع ، وهو في كل حال سالك ، فانحداره إلى اللّه ، وصعوده إلى اللّه ، واستواؤه مع اللّه ، وهو في كل ذلك باللّه عن أمر اللّه ، فهو في كل حال مع اللّه للّه ، فمن سعى ووجد في حال سعيه ما تعطيه حقيقة الحجارة - ومنها الصفا والمروة - من الخشية والحياة والعلم باللّه والثبات في مقامهم فقد سعى ، وحصل نتيجة سعيه ، فانصرف من مسعاه حي القلب باللّه ، ذا خشية من اللّه ، عالما بقدره وبما له وللّه ، وإن لم يكن كذلك فما سعى بين الصفا والمروة ، واعلم أنه لما كان الكمال غير محجور على النساء ، وإن كانت المرأة أنقص درجة من الرجل فتلك درجة الإيجاد لأنها وجدت عنه ، وذلك لا يقدح في الكمال ، لذلك جعل اللّه فعل هاجر من السعي بين الصفا والمروة ، وقرره شرعا في مناسك الحج ، فالخواطر النفسية إذا أثرت الشفقة والسعي في حق الغير أثر القبول في الجناب الإلهي .


سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 159 إلى 163 
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ( 159 ) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 160 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 161 ) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ( 162 ) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ( 163 ).

[ في التوحيد الأول ]
خاطب اللّه في هذه الآية المسلمين والذين عبدوا غير اللّه قربة إلى اللّه ، فما عبدوا إلا اللّه ، فلما قالوا( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى )فأكدوا وذكروا العلة فقال اللّه لنا :
إن إلهكم والإله الذي يطلب المشرك القربة إليه بعبادة هذا الذي أشرك به « واحد » ، كأنكم


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
كما قال : ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا )ومذهب عائشة الطواف بينهما على الوجوب ( 160 )« إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ »في هذه الآية دليل على لحوق الإثم بمن سئل عن علم من علوم الدين فكتمه ، وأنه يجب عليه أن يفتيه إذا علم ذلك ولا يتوقف ، وقد ورد في الخبر [ استوصوا بطالب العلم

ص 234

ما اختلفتم في أحديته فقال :« وَإِلهُكُمْ »فجمعنا وإياهم« إِلهٌ واحِدٌ » ،فما أشركوا إلا بسببه فيما أعطاهم نظرهم ، ومن قصد من أجل أمر ما فذلك الأمر على الحقيقة هو المقصود لا من ظهر أنه قصد ، ولهذا ذكر اللّه أنهم يتبرءون منهم يوم القيامة ، وما أخذوا إلا من كونهم فعلوا ذلك من نفوسهم لا أنهم جهلوا قدر اللّه في ذلك ، ألا ترى الحق لما علم هذا منهم كيف قال« وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ » ،ونبههم فقال( سَمُّوهُمْ )فيذكرونهم بأسمائهم المخالفة أسماء اللّه ، والأسماء الإلهية كلها للمرتبة أي لمرتبة الألوهية إلا الاسم الواحد خاصة ، فهو اسم خصيص بالذات المقدسة التي لها نعوت الكمال والتنزيه ، لا يشاركها في حقيقته من كل وجه أحد لا من الأسماء ولا من المراتب ولا من الممكنات ، واعلم أن العبد الحق لا ينبغي أن يضاف إليه شيء ، فهو المضاف ولا يضاف إليه ، فإذا أضاف السيد نفسه إليه فهو على جهة التشريف والتعريف ، مثل قوله« وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ » .- راجع سورة الأنبياء آية 108 -« لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ »هذا هو أول توحيد يذكر في القرآن من الستة


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
خيرا ، [ومن سئل عن علم فكتمه ألجمه اللّه بلجام من نار ] وقد نهى اللّه نبيه عن انتهار سائل العلم تعليما لنا ، فقال : ( وأما السائل فلا تنهر ) لأنه قال له : ( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى )أي حائرا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، يقول :« إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ »أي يخفون« ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ »يقول : من الأدلة على صدق ما جاء به« وَالْهُدى »في الكتاب المنزل عليهم« مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ »من أجل الناس فيه ، فأخفوه عما لا يعرف الكتاب ، وهم المقلدة الأميون« أُولئِكَ »إشارة إلى الكاتمين ذلك« يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ »يطردهم اللّه عن كل ما فيه راحة لهم وخير في الدار الآخرة ، فإن اللعن في اللسان الطرد واللعين المطرود« وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ »يحتمل وجهان : الوجه الواحد أن تكون لعنتهم إياهم قولهم : [ لعنهم اللّه ] على جهة الدعاء ، والوجه الآخر يوم القيامة حين تطردهم الملائكة عن الجنة إذا عاينوها في قوله : ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ )فذلك لعنة اللاعنين ، ثم استثنى منهم من رجع عن ذلك الكتمان( وَأَصْلَحَ ) *أي وعمل صالحا( وَآمَنَ ) *باللّه ورسله صدقا من قلبه( وَبَيَّنُوا )وأعلموا من لا يعرف الكتاب من الأميين المقلدين ما أنزل اللّه وبيّنه في كتابه من الأدلة على صدق رسله ووعده ووعيده وأحكامه ، فقال : ( 161 )« إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ »أي أرجع عليهم برحمتي ، فأنعم عليهم بالخير الذي طردتهم عنه« وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ »قد تقدم تفسيره ، ثم قال فيمن لم يتب ومات على كفره ( 162 )« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ »يقول : من استصحبه حال الكفر حتى مات

ص 235

والثلاثين توحيدا المذكورة في القرآن ، وهو توحيد الواحد بالاسم الرحمن الذي له النفس ، فبدأ به فنفى الألوهية عن كل أحد وحّده الحق تعالى إلا أحديته ، فأثبت الألوهية لها بالهوية التي أعادها على اسمه الواحد ، وأول نعت نعته به الرحمن لأنه صاحب النفس ، وسمي هذا الذكر تهليلا من الإهلال وهو رفع الصوت ، أي إذا ذكر بلا إله إلا اللّه ارتفع الصوت الذي هو النفس الخارج به على كل نفس ظهر فيه غير هذه الكلمة ، ولهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
[ أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا اللّه ] وما قالها إلا نبي ، لأنه ما يخبر عن الحق إلا نبي ، فهو كلام الحق ، فأرفع الكلمات لا إله إلا اللّه ، وهذه الكلمة اثنا عشر حرفا ، فقد استوعبت في هذا العدد بسائط أسماء الأعداد وهي اثنا عشر ، ثلاث عقود ( العشرات والمئين والآلاف ) ، ومن الواحد إلى التسعة ، ثم بعد هذا يقع التركيب بما لا يخرج عن هذه الآحاد إلى ما يتناهى ، وهو هذه الاثنا عشر ما لا يتناهى ، وهو ما يتركب منها ، فلا إله إلا اللّه وإن انحصرت في هذا العدد في الوجود فحزاؤها لا يتناهى ، فبها وقع الحكم بما لا يتناهى ، فبقاء الوجود الذي لا يلحقه عدم بكلمة التوحيد وهي لا إله إلا اللّه ، فهذا من عمل نفس الرحمن فيها ، ولهذا ابتدأ به في القرآن وجعله توحيد الأحد ، لأن عن الواحد الحق ظهر العالم .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
عليه« أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ »أي يستصحبهم الطرد من اللّه« وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ »فعمّ الناس وهو قوله تعالى فيهم يوم القيامة ( إنهم يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا ) وما عداهم فهو مؤمن ، والمؤمن بلا شك يلعنه بلعنة اللّه مع الملائكة ، فلهذا عمّ بقوله الناس ، ثم أردفه بقوله :
( 163 )"خالِدِينَ فِيها »يعني في اللعنة مقيمين« لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ »ما لهم وقت راحة منه« وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ »يؤخرون عن العذاب .
قال تعالى : ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ )أي يؤخر إلى أن يجد ما يؤدي به دينه ، ثم قال : ( 164 )« وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ »الأظهر في هذه الآية وحدانيته في الألوهية ونفيها عمن سواه ، وليس في ظاهر الآية عند العرب نفي ما سوى الألوهية عنه ، وإن كان دليل العقل يعطي ويقضي بأن ذاته لا جنس لها ولا مثل ولا تنقسم ، ونحن إنما نريد تفسير الآية بمقتضى كلام العرب بالنظر إلى خصوص هذا اللفظ المعين في هذه الآية ، فليس إلا ما ذكرناه والحمد للّه ، ولما نزلت هذه الآية في توحيده سبحانه أكثر المشركون من ذلك التعجب وقالوا : ( أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ  

ص 236

سورة البقرة ( 2 ) : آية 164  
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 164 )
الآيات المعتادة هي التي لا خبر لنفوس العامة بكونها حتى يفقدوها ، فإذا فقدوها عرفوا في ذلك الوقت موضع دلالتها وقدرها ، وأنهم كانوا في آية وهم لا يشعرون ، لذلك قال تعالى :« إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »إلى آخر الآية« وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ »حدث الليل والنهار بخلق الشمس في اليوم وقد كان اليوم موجودا ، فجعل النصف من هذا اليوم لأهل الأرض نهارا ، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها ، وجعل النصف الآخر منه ليلا ، وهو من غروب الشمس إلى طلوعها ، واليوم عبارة عن المجموع ، فتكرار الملوان بالاسم لا بالعيان ، ودار الفلك فحدث الجديدان ،« وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها »ما وضع اللّه الأسباب سدى إلا لنقول بها ونعتمد عليها اعتمادا إلهيا ، أعطت الحكمة الإلهية ذلك ، فالحكيم الإلهي الأديب


وأكثروا الإنكار في ذلك وطالبوا النبي عليه السلام بالدليل على أحديته ، فأنزل اللّه تعالى ( 165 )« إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ »فجعل وجود كل ما ذكره في هذه الآية دليلا على أحديته لمن يعقل موضع الدليل من الذي ذكره ، كما قال تعالى في التنبيه لهم على موضع الدلالة مما ذكره( لَوْ كانَ فِيهِما )يعني في السماء والأرض( آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا )فإنه قد أجمعنا مع المشركين على ثبوته سبحانه ، وخالفونا في الأحدية فكان الدليل المنصوب لهم من عند اللّه على أحديته أنه لو كان له شريك في فعله يسمى إلها ، لكان لا يخلو إما أن يختلفا في كون الشيء أو يتفقا ، فإن اختلفا فالذي ينفذ اقتداره هو الإله ، والذي يعجز ليس بإله ، وإن

ص 237
من ينزل الأسباب حيث أنزلها اللّه ، فمن يشاهد الوجه الخاص في كل منفعل يقول إن اللّه يفعل عندها لا بها ، ومن لا يشاهد الوجه الخاص يقول : إن اللّه يفعل الأشياء بها ، فيجعل الأسباب كالآلة يثبتها ولا يضيف إليها ، كالنجار الذي لا يصل إلى عمل صورة تابوت أو كرسي إلا بآلة القدوم والمنشار وغيرهما من الآلات ، مما لا يتم فعله إلا بها لا عندها ، فيثبتها ولا يضيف صنعة التابوت إليها ، وإنما يثبت ذلك للنجار صاحب التدبير والعلم بما يظهر عنه ،« وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ »اعلم أن العرب لما أرادت تعريف الرياح حتى تجعل لها أسماء تذكرها بها لتعرف ، استقبلت مطلع الشمس ، فسمت كل ريح هبت عليها من جهة مطلع الشمس إذا استقبلته إذ كان وجهها إلى تلك الجهة فسمتها قبولا ، وهي ريح الصبا ، وما أتى إليها من الريح عن دبر في حال استقبالها ذلك سمته دبورا ، وهي الريح الغربية ، وما أتاها منها في هبوبها عن الجانب الأيمن سمتها جنوبا ، وعن جانب الشمال سمته شمالا ، وكل ريح بين جهتين من هذه الجهات سمتها نكباء ، من النكوب وهو العدول ، أي عدلت عن هذه الأربع الجهات ، والنسيم أول هبوب الريح الذي هو من راح يروح ، فالرياح تمر ولا تثبت ، والرائح ما هو مقيم ، ومن تصريف الرياح هبوبها ، فيحرك الهواء الأشجار لإزالة الأبخرة الفاسدة عنها ، لئلا تودع فيها ما يوجب العلل والأمراض في العالم إذا تغذت به تلك الأشجار ، فيأكلها الحيوان أو تفسد في نفسها بتغذيتها بذلك ، فكان هبوب الرياح لمصالح العالم ، حيث يطرد الوخم عنه ويصفي الجو فتكون الحياة طيبة .« وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ »فإذا فقدوه حينئذ خرجوا للاستسقاء« لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ »وهذه الآيات أسباب مقصودة غير مؤثرة في مسببها ، وإنما الأثر في ذلك لناصب الأسباب وجاعلها حجابا عنه ، ليتبين الفضل بين الخلائق في المعرفة باللّه ، ويتميز


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
اتفقا فيقدر الاختلاف ، فيلزم منه ذلك بعينه ، وتقدير الإمكان في المحال بالفرض كوقوع الكائن من أحد الإمكانين على السواء ، وهذا القدر كاف فيما تعطيه عقول الأعراب ، فإنه لا أجهل ممن اتخذ شريكا مع اللّه ، وأما قوله :« فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »فيحتمل أن يريد وجودها وأعيانها ، وقد يحتمل أن يريد إيجادها ، فإن الخلق قد يرد بمعنى الفعل ، وهو حال تعلق القدرة بالمقدور ، مثل قوله : ( ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ )وقد يرد بمعنى المخلوق بأظهر الوجوه كقوله : ( هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ )أي مخلوق

ص 238

من أشرك ممن وحد ، فالمشرك جاهل على الإطلاق . والعقل من عالم التقييد ولهذا سمي عقلا من العقال ، فإنه مأخوذ من عقال الدابة ، وعلى الحقيقة عقال الدابة مأخوذ من العقل ، فإن العقل متقدم على عقال الدابة ، فإنه لولا ما عقل أن هذا الحبل إذا شدت به الدابة قيدها عن السراح ما سماه عقالا ، فالعاقل هو من يعقل عن اللّه ما يريد اللّه منه في خطابه إياه في نفسه بما يلهمه ، أو على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلم ، فيعقل عن اللّه أمره ونهيه وما يلقيه اللّه في سره ، ويفرق بين خواطر قلبه فيما هو من اللّه أو من نفسه أو من لمة الملك أو من لمة الشيطان ويعقل نفسه ، فبالعقل يسمع المكلف خطاب الحق ، لأنه إذا زال العقل سقط التكليف ولم يبق للشرع عليه سلطان ولا حجة ، والعامة ليست الآيات عندهم إلا التي هي عندهم غير معتادة ، فتلك تنبههم إلى تعظيم اللّه ، واللّه قد جعل الآيات المعتادة لأصناف مختلفين من عباده ، فمنها تلك الآيات المذكورة في هذه الآية للعقلاء ، فثم آيات للعقلاء كلها معتادة ، وآيات للموقنين ، وآيات لأولي الألباب ، وآيات لأولي النهى ، وآيات للسامعين ، وهم أهل الفهم عن اللّه ، وآيات للعالمين ، وآيات للعالمين ، وآيات للمؤمنين ، وآيات للمتفكرين ، وآيات لأهل الذكر ، فهؤلاء كلهم أصناف نعتهم اللّه بنعوت مختلفة وآيات مختلفة ، كلها ذكرها لنا في القرآن ، إذا بحثت عليها وتدبرتها علمت أنها آيات ودلالات على أمور مختلفة ترجع إلى عين واحدة ، غفل عن ذلك أكثر الناس ، ولهذا عدد الأصناف ، فإن من الآيات المذكورة المعتادة ما يدرك الناس دلالتها من كونهم ناسا وجنا وملائكة ، وهي التي وصف بإدراكها العالم بفتح اللام ، ومن الآيات ما تغمض بحيث لا يدركها إلا من له التفكر السليم ، ومن الآيات ما هي دلالتها مشروطة بأولي الألباب ، وهم العقلاء الناظرون في لب الأمور لا في قشورها ، فهم الباحثون عن المعاني ، وإن كانت الألباب والنهى


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
اللّه ، وبهذا ذمهم اللّه فقال : ( أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ )وقال : ( فاتخذوا من دون اللّه أولياء لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ) وأما فيما ذكره في سائر من الآية من اختلاف الليل والنهار ، وإنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بعد موتها بما أخرج فيها من النبات ، وجري الفلك في البحر بمنافع الناس ، وبث الدواب كلها من الحشرات وغيرها في الأرض ، وتصريف الرياح ، وتسخير السحاب بين السماء والأرض ، فما تعرض في الذكر لأعيانها كما تعرض للسماء والأرض ، إذ كان كل ما ذكره متولدا فيهما وبينهما ، فدخل ذلك كله في ذكر السماوات والأرض ، فعدل

ص 239

العقول ، فلم يكتف الحق سبحانه بلفظة العقل حتى ذكر الآيات لأولي الألباب ، فما كل عاقل ينظر في لب الأمور وبواطنها ، فإن أهل الظاهر لهم عقول بلا شك وليسوا بأولي ألباب ، ولا شك أن العصاة لهم عقول ولكن ليسوا بأولي نهى ، فاختلفت صفاتهم إذ كانت كل صفة تعطي صنفا من العلم لا يحصل إلا لمن حاله تلك الصفة ، فما ذكرها اللّه سدى ، وكثر اللّه ذكر الآيات في القرآن العزيز ، ففي مواضع أردفها وتلا بعضها بعضا وأردف صفة العارفين بها ، وفي مواضع أفردها ، فمثل إرداف بعضها على بعض مساقها في سورة الروم ، فلا يزال يقول تعالى : ( وَمِنْ آياتِهِ ) *( وَمِنْ آياتِهِ ) *فيتلوها جميع الناس ولا يتنبه لها إلا الأصناف الذين ذكرهم في كل آية خاصة ، فكأن تلك الآيات في حق أولئك أنزلت ، وفي حق غيرهم لمجرد التلاوة ليؤجروا عليها ، فخرق العوائد تهول عند العامة ، وهي عند الخاصة عوائد ، فالعاقل يهوله المعتاد وغير المعتاد ، ولذلك قال في المعتاد :« لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » .ومن نظر في كل ما في الكون أنه آية عليه ، فنظر إلى الأمور كلها معتادها وغير معتادها بعين الحق ، ما هاله ما يرى ولا ما بدا مع تعظيمه عنده ، فإنه من شعائر اللّه ، ومن يعظم شعائر اللّه فإنها من تقوى القلوب - شعر :الشخص مستدرج والصدر مشروح * والكنز مستخرج والباب مفتوحأين الأوائل لا كانوا ولا سلفوا * العقل يقبل ما تأتي به الروحلكنهم حجبوا بالفكر فاعتمدوا * عليه والعلم موهوب وممنوحما فيه مكتسب إن كنت ذا نصف * فليس للعقل تعديل وتجريحالعدل والجرح شرع اللّه جاء به * ميزانه فبدا نقص وترجيحالعقل أفقر خلق اللّه فاعتبروا * فإنه خلف باب الفكر مطروح


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لما يطرأ فيها من الأحوال العارضة دائما لها ، فما من حالة تطرأ إلا ويجوز خلافها ، فتفتقر إلى وجود مرجح مختار ، وأن يكون واحدا لما ذكرناه قبل ، وهذا بالنسبة إلى عقولهم أقرب دليل يوضع في الأحدية ، وهو الذي ارتضاه أكثر أئمة أهل الكلام وقالوا به وساقوه أحسن مساق ، ونحن أوردناه مختصرا لثقتنا بسرعة فهم السامع إلى المقصود من ذلك ، وقد وقفت للشيخ الإمام الأوحد السيد سيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي الآمدي أيده اللّه ، على دليل نصبه في أحدية الحق سبحانه ونفي إله آخر ، لم يسبق إليه في علمه ولا في علمنا ولا وجد في كتاب أحد من المتكلمين

ص 240
لولا الإله ولولا ما حباه به * من القوى لم يقم بالعقل تسريحإن العقول قيود إن وثقت بها * خسرت فافهم فقولي فيه تلويحميزان شرعك لا تبرح تزين به * فإن رتبته عدل وتصحيحإن التنافس في علم يقوم به * صدر بنور شهود الحق مشروحهذا التنافس لا أبغي به بدلا * له من الذكر قدوس وسبوحلمثل ذا يعمل العمال ليس لهم * في غير ذلك تحسين وتقبيح

 سورة البقرة ( 2 ) : آية 165   
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ ( 165 )«

وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ »أي أصدق حبا للّه من حب المشركين لمن جعلوهم شركاء ، وسبب ذلك أنه إذا كشف الغطاء وتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ، وقال الذين اتبعوا : ( لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا )فزال حبهم إياهم في ذلك الموطن وبقي المؤمنون على حبهم للّه ، فكانوا أشد حبا للّه بما زادوا على أولئك في وقت رجوعهم عن حبهم آلهتهم حين لم تغن عنهم من اللّه شيئا .« وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً »فلا قوة لمخلوق ، فإن موطنه الضعف والعبودية« وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ » .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
المتقدمين ، وتبرز به على أقرانه ، ولولا أن هذا الكتاب يضيق عنه لسقناه كما ذكره ، فمن أراد أن يقف عليه فلينظره في كتاب [ أبكار الأفكار ]
له في علم الكلام ( 166 )« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً »يقول : ومن الناس من يتخذ من دون اللّه ، فكفى بهم جهلا أنهم اتخذوه ، والإله ما يكون بالاتخاذ ولا بجعل جاعل ، وإنما الإله الحق« أَنْداداً »أي شركاء ، وقد تقدم تفسير الند في أول السورة ، ثم قال« يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ »يقول : كحبهم للّه ، ثم شهد للمؤمنين تزكية لهم فقال :« وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ »فإنه لا شك أن من أفردك بالصفة الشريفة أعظم ممن جعل معك فيها شريكا ، فانقسمت محبة المشركين بين آلهتهم مع الحق ، فضعفت أن تبلغ في القوة مبلغ حب المؤمنين بأحدية اللّه« وَلَوْ تَرى » *يا محمد« الَّذِينَ ظَلَمُوا » *يعني
ص 241
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "166 - 178" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:38 am

تفسير آلآيات من "166 - 178" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 166  
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ( 166 )
اعلم أنه ما من معبود إلا ويتبرأ من الذي يعبده هنا ، من حيث لا يسمع العابد إلا بخرق العوائد ، وفي الدار الآخرة على الكشف ، ففي موقف القيامة يقر كل أحد بالشهادة ولا ينكر ولا يدعي لنفسه ربوبية ، والتبرؤ يوم القيامة يقع من الطائفة التي ادعيت فيها الألوهية ولم تدعها لنفسها ،« مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا »وهم الذين اتخذوهم آلهة من دون اللّه ، ما لم يتوبوا قبل الموت ممن يقبل صفة التوبة وليس إلا الجن وهذا النوع الإنساني ، فإذا عذب اللّه غدا المشركين الذين ذكرهم اللّه أنه لا يغفر لهم ، فإنما يعذبهم من حيث أنهم ظلموا أنفسهم ووقعوا في خلق بكلام ودعوى ساءتهم ، وتوجهت منهم عليهم حقوق في أعراضهم يطلبونهم بها - الوجه الثاني - الذين قالوا :« ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى »يوم القيامة تهلكهم عاداتهم ولا تنفعهم عباداتهم ، ولا تغني عنهم من اللّه آلهتهم شيئا ، وتبرأ منهم عند اضطرارهم أئمتهم ، فلم تنفع البراءة تلك الأئمة ، وضوعف لهم العذاب خلف حجاب الظلمة ، فكانوا وأتباعهم عن سعاداتهم بمعزل ،وأنزلوا النار دار البوار.


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
المشركين أو الظالمين مطلقا ، والأول أوجه« إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ »ينزل بهم يوم القيامة فإنهم يعلمون في ذلك الوقت« أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً »يعني القوة أجمعها التي كان المشركون قد فرقوها على الآلهة والأنداد الذين اتخذوها « و » يعلمون« أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ »كما قال تعالى : ( إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )وقال : ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ )( 167 )« إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ »العامل في« إِذْ » *أيضا( وَلَوْ تَرى ) *إذ تبرأ شركاؤهم وإن كانوا حجارة ، فإن الدار الآخرة هي الحيوان ينطق فيها كل شيء ، قال تعالى : ( وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ )فعمّ ، وتبرأ منهم رؤساؤهم الذين أضلوهم ، وجعلوهم يشركون باللّه من الذين اتبعوهم وهو قوله : ( وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ )حتى تنظروا وتبحثوا على وجه الحق ، بل كنتم مجرمين ، أي مستحقين العذاب ، وقد يكون العامل في« إِذْ »( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ )إذ تبرأ ، أي في هذا الوقت ،« وَرَأَوُا الْعَذابَ »هذه الواو واو الحال يأتيهم« وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ »التي كانوا يظنون في الدنيا أنها توصلهم إلى سعادتهم ، وتشفع لهم عند اللّه كما كانوا يزعمون في قولهم ( ما

ص 242

سورة البقرة ( 2 ) : آية 167
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( 167 )
فقد تبرءوا في موطن ما فيه تكليف بالبراءة أنها نافعة صاحبها .« وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ »ما ورد من الشارع أن العالم الذي هو في جهنم الذين هم أهلها ولا يخرجون منها أن بقاءهم فيها لوجود العذاب ، فإنه يجوز أن يرتفع عن أهل النار وجود العذاب مع كونهم في النار ، فإن اللّه تعالى يقول ( رحمتي سبقت غضبي ) وليس بأيدينا من طريق العقل دليل على وجود العذاب دائما ولا غيره ، فليس إلا النصوص المتواترة وليس للعقل رده إذا ورد من الصادق النص الصريح .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 168
(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)( 168 )  
هذا أمر بالورع في المطاعم وغيرها من المكاسب ، وأن يكون الناس على بينة من ربهم في مطاعمهم ومشاربهم ، فإن الورع في الكسب يؤدي إلى الأكل مما يعلم أن ذلك حلال


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى )وقولهم( هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ )( 168 )« وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً »يعني رجوعا إلى الدنيا« فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا »تبرأنا منكم ومن عبادتكم والانقياد إليكم مثل ما تبرأتم اليوم منا في وقت حاجتنا وضرورتنا( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا )وأعمى اللّه أبصارهم ، فمن كتبه اللّه شقيا لا يسعد ، ومن كتبه سعيدا لا يشقى ، ولا يبعد« كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ »يقال : حسرت عن الشيء إذا كشفت عنه ، كذلك أعمالهم حسرت عن العذاب إذ كانت أعمالهم في الدنيا سترا عليه« وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ »كما قال في أهل السعادة لما ذكر كونهم في الجنة قال : ( وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ )فإن اللّه ما ذكر آية رحمة في القرآن إلا وإلى جانبها آية عذاب ، وإن أفردها فستجد أختها أيضا مفردة في موضع آخر من القرآن ، ومن تتبع القرآن وجده على ما قلناه ، وهذا نص في استمرار كونهم في النار إلى غير نهاية ، فالمشرك ليس بخارج من النار ( 169 )« يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ »مما يؤكل« حَلالًا »

ص 243
لهم استعماله ، فالحلال عزيز المنال على جهد الورع قليل جدا ، ولا يحتمل الإسراف والتبذير ، بل إذا تورعت عما لزمه أهل الورع فبالحري أن يسلم لك قوتك على التقصير ، والنفس تورط صاحبها في الشبهات وهي تريد الحرام ، فإن الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، وإياك والإسراف في النفقة وإن كانت حلالا صافيا ، فإنه مذموم وصاحبه مبذر ملوم ولذلك قال :

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 169 إلى 170
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ( 169 ) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (170)
وضرب اللّه تعالى مثلا لمن سمع كلام الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، ولكن لجهله بما سمع أنه حق في نفس الأمر وعدم تصديقه كان عنده كمثل الصوت من الإنسان عند البهائم التي لا تعقل معناه ، فقال تعالى :



من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
مصدر من حل يحل حلالا ، أي أطلقت لكم الأكل مما في الأرض مما أحللته لكم ، وقوله« طَيِّباً »أي ليس في أكله تنغيص عليكم ، بل لذة ونعيم في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : ( وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ )ولو كان مناقشة حساب لم تكن خالصة ، ولا وقعت للمؤمن بها لذة ، واعلم أن ذلك في مجرد الأكل الحلال ، والحساب إنما يقع والسؤال في كسبه والوصول إليه ، لا في أكله إذا كان حلالا ، فإنه يغمض هذا المعنى على أكثر الناس« وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ »يعني في كسب هذا المأكول وتحصيله ، فتأخذوه مما حرمت عليكم أخذه ، فنهانا أن نقتدي بالشيطان ونمشي على أثره ، فإن اللّه قد أعلمنا أنه لا يمشي في طاعة ، وأنه مخالف أوامر اللّه ، وأنه لنا عدو مبين ظاهر العداوة ، فقال :« إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ » ،وقد بينا في أول السورة ما معنى عدو ، والخطوة بفتح الخاء الفعلة الواحدة ، وبضم الخاء ما بين قدمي الماشي ، في هذه الآية دليل على أن الكافرين مخاطبون بفروع الشريعة وأنهم داخلون في هذا العموم ، فخاطبهم بأن يأكلوا مما أحل لهم ولا يتبعون خطوات الشيطان ، ثم قال ( 170 )« إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ »أنزل الناس منزلة

ص 244
سورة البقرة ( 2 ) : آية 171   
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 171 )
فأصمهم اللّه وأعمى أبصارهم وختم على ألسنتهم ، فما تلفظوا بما دعاهم إليه أن يتلفظوا به ، فإنه لا فرق بين الصمم الذي لا يسمع كلام المخاطب ، وبين من يسمع ولا يفهم



من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الحاضرين وخاطبهم ، وفي الحقيقة إنهم مشاهدون له وحاضرون عنده ، فإنه قد أخبر بأخذ الميثاق عليهم ، وقد ورد في الصحيح أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم رأى أسودة عن يمين آدم وعن يساره ، وذكر أنها نسم بنيه ، فصح أن يقول لهم مخاطبا« إِنَّما يَأْمُرُكُمْ »يعني الشيطان« بِالسُّوءِ »أي بما يسوءكم عاقبته في الدار الآخرة« وَالْفَحْشاءِ »أي بما يفحش ذكره ويقبح ، وهو العمل بمعاصي اللّه« وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ »من تشريعكم لأنفسكم ما لم يأذن به اللّه ، فتقولون هذا حلال وهذا حرام ، وتقولون هو من عند اللّه وما هو من عند اللّه ، وتقولون على اللّه الكذب افتراء ، فجعل هذا كله من أمر الشيطان لهم في نفوسهم ، وهو لمته ووسوسته ( 171 )« وَإِذا قِيلَ لَهُمُ »الآية ، الضمير يعود على المقلدة لا على علماء الكفار« اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ »بدلا من اتباعكم ما أمركم به الشيطان في قلوبكم« قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا »أي ما وجدنا« عَلَيْهِ آباءَنا »من الدين ، ولذا قلنا إن الضمير يعود على المقلدة ، وإن عاد على الجميع فيكون هذا القول من مقلديهم خاصة ، وفي هذا تحريض على النظر في الأدلة وذم التقليد في الأصول والفروع ، فإنه عمّ بقوله :« ما أَنْزَلَ اللَّهُ »فدخل تحته جميع الأحكام ، وهو الأوجه ، فإن الأصول تثبت بالأدلة العقلية ، ولا يحتاج فيها إلى إنزال وحي من اللّه ، بخلاف الفروع فإنها لا تعلم إلا بإنزال وحي من اللّه ، وهو قوله :« اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ »فعمّ ، وحمله على ذم التقليد في الفروع أوجه وأولى ، فلا يبقى من التقليد إلا نقل الدليل من المفتي إلى السائل عن اللّه ، أو عن رسوله ، أو الإجماع في المسألة التي يسأل فيها ، فلو قال له المفتي هذا الحكم رأيي حرم عليه اتباعه والأخذ به ، فليس في الشرع من التقليد محمود غير هذا ، لأنه لا بد منه ، ثم قال :« أَ وَلَوْ كانَ »فأتى بهمزة الرد والتعجب من فعلهم ذلك وتقليدهم إياهم ، والواو للحال ، أي تتبعون آباءكم ولا تعرفون هل كانوا على الصواب فيما دانوا أنفسهم به للّه إن كان عن نظر في أدلة أو كانوا على خطأ في ذلك ، والآيات بين أيديكم والمعجزات ، فلم لا تنظرون فيها ، فقال :« أَ وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ »فهو توبيخ وتعجب من قلة استعمالهم لعقولهم فيما تكون فيه سعادتهم ، ثم شبههم وشبّه الرسول في دعائه إياهم ، فذكرهم دون الداعي لدلالة المعنى عليه ، فقال : ( 172 )« وَمَثَلُ الَّذِينَ

ص 245
أو لا يجيب إذا اقتضى الإجابة فلا يعقل إلا من سمع« فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ »عن اللّه ، فإن من عقل المطلوب منه فيما أسمعه أن يرجع ، فهم لا يرجعون إلى اللّه ، وو اللّه إن عيونهم لفي وجوههم ، وإن سمعهم لفي آذانهم ، وإن ألسنتهم لفي أفواههم فهم لا يعقلون ، والعقل من العقال ، أي لا يتقيدون بما أريد له المسموع ولا المبصر ولا المتكلم به ، فهم لا يعقلون أن ذلك المصوت به حق فيما يدعوه إليه ، فمن أعجب الأشياء وصف السامع بالصمم والبصير بالعمى والمتكلم بالبكم ، فما عقل ولا رجع وإن فهم .
_______________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً »يحتمل هذا المثل وجهين : الوجه الواحد أنه ضربه مثلا للرسول الذي يدعوهم إلى الحق ولهم ، والوجه الآخر أنه ضربه مثلا للكافرين ولمن اتخذوه إلها من دون اللّه ، وهل الضمير في كفروا يعود على الناس الكافرين كلهم من أهل الملل ، أو يعود على كفار اليهود خاصة ، فنقول : إن كان المثل للرسول ولهم فيكون معناه : ومثل الذين كفروا ومثل دعاء الرسول لهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ، فعند غير أهل طريقنا خرج عباد الأصنام والأوثان من هذا المثل ، وعندنا لم يخرج منهم أحد عن هذا المثل ، فإن الأصنام عندنا تسمع وتشهد على متبعيها ، كما ورد في أنه يشهد للمؤذن مدى صوته من رطب ويابس ، وتسبيح الحصى في كف النبي عليه السلام ، فخرق العادة عندنا لم يكن في تسبيح الحصى ، وإنما كان في إدراكنا ما لم نكن قبل ندركه ، قال تعالى : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )فجرى المثل على كل من عبد غير اللّه ممن هو بهذه الصفة ، وليس التشبيه هنا براعي الغنم والإبل ، فإنها تفهم عن الراعي إذا نعق بها ما يريد بذلك ، من مشي وورود ماء ونهي عن أكل ، وإنما الأوجه نداء الشخص بالوحوش الشاردة ، فإذا سمعت نداء تخيلت أنه الصائد فندت وشردت عن ندائه ، كذلك الرسول يريد أن يوقعهم في حبالة الإيمان ويقيدهم عن مسارحهم التي كانوا فيها ، فيشردون عند دعائه خوفا من ذلك ، ويكون التشبيه مطابقا ، والوجه الآخر أن شبههم في دعائهم آلهتهم إذا لجئوا إليها في أوقات ضروراتهم ، فلا يجيبونهم ، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ، وهم كما قلنا الوحوش الشاردة ، فإذا سمعت آلهتهم أصواتهم بنسبة الألوهية لهم فرقوا من ذلك ، وتبرءوا إلى اللّه من مقالتهم ، وهم لا يشعرون ، فإنهم لا يحسون بذلك منهم ، وقد ختم اللّه عليهم ، فلا يجيبونهم إلا بأمر اللّه ، وقوله :« إِلَّا دُعاءً وَنِداءً »كلام صحيح ، فإن السمع إنما متعلقه الصوت ، والفهم من قوة أخرى وهو العقل ، فذكر إدراك النداء والدعاء ، وما ذكر إدراك المعنى المقصود من ذلك الدعاء ، وقوله :« صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ »تقدم الكلام في تفسيره ، وقوله :« فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ »

ص   246
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 172 إلى 173  
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( 172 ) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 173 )
ما به حياتك ذلك رزقك ولا بد ، ولا يصح فيه تحجير ، سواء كان في ملك الغير أو لم يكن ، فإن المضطر لا حجر عليه ، وما عدا المضطر فما تناول الرزق لبقاء الحياة عليه وإنما تناوله للنعيم به ، وليس الرزق إلا ما تبقى به حياته عليه ، قال تعالى :« فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ »بعد التحجير وقال( إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ )وذلك هو الرزق .
_______________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وقال فيمن تقدم : ( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ )فأولئك عرفوا الحق وما رجعوا ، وهؤلاء سمعوا وما فهموا ، لأنه جاءهم بما يخالف ما كان عليه آباؤهم ، فلم يعلموا ذلك ولا استعملوا عقولهم في النظر فيه ( 173 ) قوله تعالى :« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ »الآية ، خطاب للمؤمنين بالأكل« مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ »فإن كانت من للتبيين فهم منه أن مسمى الرزق يكون حراما وحلالا ، فأمرنا أن نأكل من حلاله ، ونعمل في الحرام ما أمرنا بالعمل فيه في مواضع كثيرة ، فما أمرنا قط في مثل هذا ولا نهينا إلا عن الأكل ، ومن جعل من للتبعيض حمل الرزق على الحلال ، ولكن التبعيض يضعف فإنه معلوم ضرورة ، فإنه لا يخلو الطيب من الرزق الذي يملكه إما أن يكون أكثر من حاجته في الوقت ، والتبعيض لا بد منه ، وإما أن يكون مقدار الحاجة أو دون الحاجة ، فيبطل معنى التبعيض ، فالتبيين أولى منه ، ثم قال :« وَاشْكُرُوا لِلَّهِ »تقدم القول عليه في قوله : ( وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ )ثم قال :« إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ »فامتثلوا أمره فيما أمركم به من أكل الطيب الذي هو الحلال المستلذ ومن الشكر عليه ، قوله :
( 174 ) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »لما كان من قولهم على اللّه ما لا يعلمون تحريم أمور لم يحرمها اللّه واتخذوها شرعا ما أنزل اللّه به من سلطان ، عرّفنا اللّه سبحانه في هذه الآية بما حرّمه على كافة عباده ، إذ كانت رسالته صلّى اللّه عليه وسلم عامة لجميع الناس ، فقال تعالى :« إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ »فالألف واللام للتعريف ، أي الذي يسميها العرب ميتة في عرفها ، والحيوان قسمان :
بري وبحري ، واتفق العلماء على تحريم ميتة البر ، واختلفوا في ميتة البحر على ثلاثة مذاهب ، فطائفة

ص 247

سورة البقرة ( 2 ) : آية 174  
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ( 174 )
« وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا »أي بكتمانه ، لما حصلوه من المال والرئاسة بذلك« أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ »يفيد أنه من سئل عن علم تعين عليه الجواب عنه وهو يعلمه ، فإن كتمه وهو مما أنزله اللّه ألجمه اللّه بلجام من نار .
__________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
قالوا : هي حلال مطلقا ، وهو مذهب مالك وغيره ، وذهب آخرون إلى تحريمها مطلقا ، وفرق آخرون فقالوا : ما جزر عنه البحر فهو حلال وما طفا من السمك فهو حرام ، ولكل فريق حجة موضعها كتب الأحكام ، واختلفوا في ميتة الجراد لأنهم اختلفوا فيه ، هل هو بري أو بحري ؟
فمن قال إنه بري وغلب عليه حكم البر ألحقه بميتة البر ، ومن غلب عليه حكم البحر لحديث الترمذي أنه نثرة حوت ألحقه بميتة البحر ، وأما الدم فمن جعل الألف واللام للجنس عمّ ، ومن جعله للتعريف حمله على الدم المسفوح في قوله تعالى : ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً )فقيده ، فاتفق العلماء على تحريم الدم المسفوح من الحيوان المذكى ، واختلفوا في غير المسفوح منه ، والسفح الذي يشترط إنما هو الدم السائل من التذكية في الحيوان الحلال الأكل ، إذ الدم السائل من الحي فهو حرام بلا خلاف ، قليله وكثيره ، وكذلك ما سال من دم الحيوان المحرم الأكل ، وإن ذكي فقليله وكثيره حرام بغير خلاف ، وأما اختلافهم في دم الحوت فمن حرمه فبعموم اللفظ ، ومن أحله فليس له دليل ، إلا أنه رأى أن الدم تابع في الحرمة والحل لميتة الحيوان ، فمن كان ميتته حراما فدمه حرام ، ومن كان ميتته حلالا فدمه حلال ، وأما لحم الخنزير فاتفقوا على تحريم لحمه وشحمه وجلده ما لم يدبغ جلده ، وأما الشحم وإن فارق اللحم بالاسم ، فإن اللحم يوصف به ، فيقال لحم شحيم ، أي سمين ، فكأن جنسا من اللحم يسمى شحما ، وقوله :« وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ »الإهلال رفع الصوت ، والمراد هنا ما ذبح لغير اللّه ، أي سمي عليه غير اللّه على جهة القربة والعبادة لمن ذبح له ، وهو قوله : ( وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )ويتفرع هنا مسائل ليس هذا موضعها ، وقوله :« فَمَنِ اضْطُرَّ »

ص 248


سورة البقرة ( 2 ) : آية 175  
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ( 175 )
يدل ذلك على أنهم عرفوا الحق وجحدوا مع اليقين ، وأي آية كانت للعرب معجزة مثل القرآن ، فتعجب اللّه من صبرهم على النار .
____________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فيه وجهان : المكره ومن مسته مجاعة يتوقع منهما تلف الروح« غَيْرَ باغٍ »أي طالب من غير إكراه ولا مجاعة« وَلا عادٍ »أي ولا يتعدى عند الأخذ قدر الحاجة لذي المجاعة ، وقدر ما يكره عليه من ذلك للمكره ، يقول :« فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ »أي لا حرج عليه في ذلك من ذلك ، وقوله :« إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »والمغفرة تستدعي ذنبا أو شبهة ذنب ، والذنب الحاصل هنا إنما هو شبهة الذنب ، فتتعلق بذلك المغفرة من اللّه ، وهو يرجع إلى الآكل في جهله قدر الحاجة ، لأنه عسير جدا ، فقد يزيد من حيث ما يرى أنه محتاج على الحاجة التي تكون بها حياته ، وقد ترجع المغفرة للعلماء المجتهدين الذين ذكرناهم في إطلاق التحريم وإطلاق التحليل ، والقول بالتفرقة في ذلك ، ولا بد أن يكون في أحد هذه الأقوال إصابة وخطأ كما نص عليه الشارع ، فالخطأ متحقق في بعض هذه الأقوال من غير تعيين ، فأخبر اللّه تعالى أنه غفور لذلك ، وقد يمكن أن يكون راجعا لمن لم يوف حق الاجتهاد المطلوب منه ، لما غاب عنه في ذلك من معرفة ماهية الاجتهاد ، وقوله :« رَحِيمٌ »بما رخصه من ذلك ( 175 )« إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ »الآية ، دخل في هذا التعريف أهل الكتاب وغيرهم ، وقد بيّنا ما كتم أهل التوراة والإنجيل ، ويدخل في هذا التعريف الحاكم يحكم بخلاف علمه المشروع له الحكم به لرغبة في اقتناء مال أو جاه سلطان ، وهو الثمن القليل ، فإنه منقطع ويبقى الوبال عليه ، فقد يعتقد الحاكم أن الحكم الصحيح عنده الذي يدين اللّه به هو أمر ما عنده ، فإذا عرف من السلطان أنه يسره الحكم بخلاف ذلك لغرض له فيه ، فيقضي الحاكم بما يوافق هواه مما لا يعتقده حقا ، ولا ينجيه من هذه الخطية أن يكون ذلك الحكم الذي رجع إليه مذهب بعض الأئمة ، فإن ذلك القول عنده خطأ لا يدين اللّه به ، ولولا السلطان ورغبته في أخذ المنزلة عنده بذلك ما حكم به ، فنسأل اللّه العافية والعصمة من ذلك ، وهو أحد القاضيين اللذين في النار ، وقوله :« أُولئِكَ »إشارة إلى الذين يكتمون« ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ »هذا موجود في كلام العرب معروف ، يقال أكل فلان سرجه وثوبه ، أي باعه وأكل بثمنه ما يؤكل ، فكنّى عما يحصل له من الجاه والمتاع بالأكل« وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ »لما كان تكليم اللّه عباده

ص 249


سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 176 إلى 177
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ( 176 ) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177 )
« وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ »سمي المال مالا لأنه يميل بصاحبه ولا بد ، إما إلى خير وإما إلى شر لا يتركه في حال الاعتدال . . .« وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا »عهدا مشروعا ، فهم قوم تولاهم اللّه بالوفاء ، لا يغدرون إذا عاهدوا ، والوفاء من شيم خاصة اللّه ، فمن أتى في
_____________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
شرفا لذلك نفاه عنهم ، وقوله : ( اخْسَؤُا فِيها )على هذا يكون كلام الملك عن اللّه قال تعالى : ( فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ) ،وقوله :« وَلا يُزَكِّيهِمْ »أي لا يطهرهم ولا ينمي خيرهم« وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » *موجع ، وقوله : ( 176 )« أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى »فأما في حق الكفار فقد بيناه في أول السورة ، وأما ما يختص بالحاكم من هذا ، فهو أن الحق الذي كتمه ولم يحكم به هو الذي اشترى بكتمانه إياه الثمن القليل ، أو الضلالة التي حكم بها ، ولو أراد الشراء بالذي حكم به لم يقل بالهدى ، لأنه ليس عنده هدى ، وإنما هو ضلالة ، وما ذكر أنه اشترى بالضلالة« وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ »لما كان الهدى مكتوما في هذه القضية جعل المغفرة التي هي الستر ، [ للهدى ] وجعل العذاب للضلالة ، وقوله :« فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ »تعجبا يدل على أنهم عارفون بالحق ، وأنهم مؤاخذون من عند اللّه ، فقام لهم هذا العلم مقام من هو في النار ، وقوله :
( 177 )« ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ »يقول : وما عملوا ، ومن ذلك أنه تعبده بما يغلب على ظنه أنه الحق فلم يحكم به ،« وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ »ليسوا المؤمنين ولا علماء أهل الكتاب فإنهم عالمون به ، وإنما هذا في الطائفة التي قالت في الكتاب إنه شعر وسحر وغير
ص 250

أموره التي كلفه اللّه أن يأتي بها على التمام وكثر ذلك في حالاته كلها فهو وفيّ وقد وفّى ، قال تعالى : ( وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى )يقال وفي الشيء وفيا على فعول بضم فاء الفعل إذا تم وكثر« وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ »من كان حاله التقوى والاتقاء كيف يفرح ويلتذ ، من يتقي ، فإن تقواه وحذره وخوفه أن لا يوفي مقام التكليف حقه ، وعلمه بأنه مسؤول عنه لا يتركه يفرح ولا يسر ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ أنا أتقاكم للّه وأنا أعلمكم بما أتقي ] .
إشارة -« أُولِي الْقُرْبى »أقرب أهل الشخص إليه نفسه فهي أولى بما يتصدق به من غيرها ، ولكل متصدّق عليه صدقة تليق به من المخلوقين ، ثم جوارحه ، ثم الأقرب إليه بعد ذلك ، وهو الأهل ثم الولد ثم الخادم ثم الرحم ثم الجار ، كما يتصدق على تلميذه وطالب الفائدة منه ، وإذا تحقق العارف بربه حتى كان كله نورا ، وكان الحق سمعه وبصره وجميع قواه ، كان حقا كله ، فمن كان من أهل اللّه فهم أهل هذا العارف الذي ذكرناه ، فإنه حق كله ، فإذا تصدق على أهل اللّه فهو المتصدق على أهله ، إذا كان المتصدق بهذه المثابة ، ومن تصدق على نفسه بما فيه حياتها كانت له صدقة وصلة باللّه ، الذي الرحمن من نعوته ، قال صلّى اللّه عليه وسلم :
الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله اللّه - والمال في الاعتبار العلم وزكاة العلم تعليمه .
____________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ذلك ، وقوله :« لَفِي شِقاقٍ »يوم القيامة في عذاب يشق عليهم حمله« بَعِيدٍ »زواله عنهم ، وقد يكون عبارة عن منازعتهم فيه ومشاققتهم بعضهم مع بعض ، ويكون قوله :« بَعِيدٍ »يعني عن إصابتهم الحق في ذلك ( 178 )« لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ »الآية ، يخاطب اليهود والنصارى لما كثرت قالتهم في تحويل القبلة ، وكل طائفة منهم تحب أن تستقبل قبلتها ، فأنزل تعالى« لَيْسَ الْبِرَّ »ما أنتم عليه من تولية وجوهكم في صلاتكم« قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ »أي الإحسان المقرب إلى اللّه« مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ »أي بر من آمن باللّه ، والوجه عندي في ذلك لما كانت الآية تقتضي المدح والثناء بقيام هذه الأوصاف التي عددها ذكر من قامت به تهمما به ، إذ كانت الصفة إذا تحقق بها الموصوف هي والموصوف كالشئ الواحد ، فأقام من الذي هو الموصوف مقام الإيمان الذي هو الصفة ، وهو مبالغة في الثناء ، فالمعنى : ولكن البر الإيمان باللّه أي وجود اللّه وتوحيده ، وفي هذا رد على المعطل والمشرك« وَالْيَوْمِ الْآخِرِ »خلافا لمنكري البعث الجسماني« وَالْمَلائِكَةِ »خلافا لمن يجعلها قوى« وَالْكِتابِ »يريد الكتب المنزلة من عند اللّه ، والألف واللام للجنس ، خلافا لمنكريها أنها من عند اللّه من أهل النظر« وَالنَّبِيِّينَ »خلافا للبراهمة

ص 251


سورة البقرة ( 2 ) : آية 178
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ( 178 )
" فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ » من ولي الدم « وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ »من القاتل إلى ولي الدم . . .« فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ »أي إن قتله بعد ذلك غدرا وقد رضي بالدية وبما عفا عنه منها« فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ »فهذه وصية لولي الدم أن يعفو ويخلي بين القاتل والمقتول يوم القيامة ، وأخبر صلّى اللّه عليه وسلم أن حكم القاتل قودا حكم القاتل اعتداء ، وهو قوله : ( جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) ،فقال في صاحب التسعة : [ أما إن قتله كان مثله ] فتركه ولم يقتله .
______________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ومنكري الرسل« وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ »يقول : وأعطى المال حبا للّه ، وقد يعود الضمير على المال ، أي يعطيه على حبه فيه ، أي على أنه يحبه ، قال تعالى : ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ )فكان ابن عمر يشتري السكر ويتصدق به ، ويقول : إني أحبه ، ويتلو هذه الآية ، وهو الأوجه في التأويل ، ويعني بهذا الإعطاء صدقة التطوع والتضييف والهدية والهبة ، وقوله :« ذَوِي الْقُرْبى »يريد صلة الرحم« وَالْيَتامى »من لا مال له منهم« وَالْمَساكِينَ »الذين يسكنون إلى الناس ليعطوهم وإن لم يسألوا بلسانهم« وَابْنَ السَّبِيلِ »ضيافة المسافر« وَالسَّائِلِينَ »الملتمسين العطاء من المحتاجين وغيرهم« وَفِي الرِّقابِ »معونة المكاتبين في كتابتهم« وَأَقامَ الصَّلاةَ » *بحدودها ولوازمها« وَآتَى الزَّكاةَ »المفروضة« وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا »مع اللّه ومع غير اللّه على الوجه المشروع الذي أباح لهم الشرع أن يعاهدوا عليه ، ومنه الوفاء بالنذر« وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ »في حال الشدائد« وَالضَّرَّاءِ »فيما يتضررون به مما فيه قربة إلى اللّه« وَحِينَ الْبَأْسِ »المجاهدين في سبيل اللّه« أُولئِكَ »إشارة إلى القائمين بهذه العبادات« الَّذِينَ صَدَقُوا »أي أخذوها بقوة وصلابة في الدين ، لأن الصدق الصلابة في الدين ، يقال رمح صدق أي صلب ، يقول صدقوا مع اللّه في ذلك« وَأُولئِكَ هُمُ »الذين سميناهم بأنهم« الْمُتَّقُونَ »من عبادي الذين كتبت لهم رحمتي ، وقد تقدم المتقي من هو ، وأن ما ذكره في هذه الآية صفة المتقي ( 179 )« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى »يقول : فرض

ص 252
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "179 - 185" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:38 am

تفسير آلآيات من "179 - 185" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 179
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 179 )
« وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ »لما في ذلك من مصالح الحياة الدنيا« يا أُولِي الْأَلْبابِ »وهم الناظرون في اللب مع قوله : ( فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ )فعلموا أن القصاص إنما شرع لأن الجاهل لا يردعه مثل العفو ، فيؤديه احتمال الكامل مع جهله إلى إهلاك أولي الألباب ، فإذا علم أن النفس بالنفس ولا بد ارتدع ، فقتل الجاهل كقطع عضو لسعته الحية من الجسد إبقاء على باقي الجسد ، فهو ينقصه إلا أن فيه مصلحته .« لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »وهذا إثبات للأسباب الإلهية المقررة في العالم فعلل ، ولام العلة في القرآن كثير .
__________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
عليكم القصاص في القتلى إن قتل حر حرا قتل به ، وإن قتل عبد عبدا قتل به ، وإن قتلت أنثى أنثى قتلت بها ، لا يقتل حر بعبد لم يقتله ، ولا رجل بامرأة لم يقتلها ، وما تعرض في الآية إلى حكم الحر بالعبد ، ولا الذكر بالأنثى ، حتى يدّعى في هذه الآية النسخ ، فإذا ورد حكم آخر في الكتاب أو السنة عمل به وكان زيادة حكم ، وإنما تكون هذه الآية منسوخة لو لم يقتل حر بحر ولا عبد بعبد ولا أنثى بأنثى ، وما قال في الآية ولا يجوز غير هذا ، ولو قال ذلك لكان النسخ يرد على قوله حكما ، ولا يجوز غير هذا لثبوت الحكم فيما ذكره ، ولا خلاف في أن هذا الحكم في قتل العمد ، وأما شبه العمد أو الخطأ فله حكم آخر إذا ورد يرد الكلام عليه ، والشرط الذي يجب به القصاص في المقتول هو أن يكون دم المقتول مكافئا لدم القاتل ، والذي به تختلف النفوس هو الإسلام والكفر ، والحرية والعبودية ، والذكورية والأنوثية ، والواحد والكثير ، ولا خلاف بين العلماء أن المقتول إذا كان مكافئا للقاتل في هذه الأربعة أنه يجب القصاص ، فثبت بهذا الاتفاق أن هذه الآية ليس بمنسوخة ، وأن النبي عليه السلام إنما كان حكمه بين الحيين في السبب الموجب لنزول هذه الآية أن لا يقتل بالمقتول غير قاتله كما ذكرناه ، ثم قال :« فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ »فيه وجوه ، منها إذا عفا ولي المقتول عن القود وقبل الدية فيطلبها من القاتل بمعروف ، أي برفق على وجه مشروع ، ولا يشطط في الدية بأن يطلب الغاية القصوى في سمنها وحسنها ، وليطلب بحكم التوسط في ذلك ، وليؤدي القاتل إليه ذلك بإحسان ، أي بحيث يطيب قلبه ، ووجه آخر وهو« فَمَنْ عُفِيَ لَهُ »أي من بقيت له من دية أخيه بقية فليطلبها كما ذكرناه ، سواء كثرت أو قلت ، وقد يكون للدم أولياء فيعفو بعضهم فيسقط القود وتتعين


ص 253


سورة البقرة ( 2 ) : آية 180
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( 180 )
الأقربون هم الذين لاحظ لهم في الميراث ، والوصية في الثلث مما له التصرف فيه من ماله ، فلا يتجاوز ثلث ماله .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الدية ، فيطلبونها بالمعروف ، أي بالعدل كما ذكرناه« ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ »من الذي كان مكتوبا في ذلك على أهل الكتابين ، فكتب على اليهود القتل وليس لهم أن يعفوا ولا أن يأخذوا الدية ، وعلى أهل الإنجيل العفو ليس لهم قتل ولا أخذ دية ، فوسع اللّه علينا وعليهم فخفف بأن خيرنا في إحدى ثلاث قودا وعفوا ودية ، فالرحمة بأولياء المقتول إن أخذوا الدية انتفعوا بها ، وإن قتلوا شفوا صدورهم ، وكان ذلك كفارة للقاتل ورحمة في حق القاتل ، إن قتل فكفارة ، وإن عفي عنه أو أخذوا الدية فقد أبقيت عليه حياته ليتوب ويرجع« فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ »أي من اعتدى على القاتل فقتله بعد أخذ الدية أو العفو ، أو اعتدى في القود إذا تولى قتله أن يمثل به ، يقول بعد فرض الحكم الذي شرعه اللّه على حد ما شرعه في القصاص أن يقتل بمثل ما قتل به ، وهو قول جماعة ، أو يقتل بالسيف وهو قول جماعة أخرى ، ولكل فريق حجة ليس هذا موضعها ( 180 )« وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »يقول : لا يقتل بالمقتول سوى قاتله ، لأن العرب كانت تقتل الجماعة بالواحد ، وقد يريد بالقصاص أخذ الدية فتبقى حياة القاتل عليه ، وقد يكون القصاص ردعا وزجرا فيقل القتل خوفا من القصاص ، وقد يكون جميع هذه الوجوه مقصودة بالقصاص ، وفي هذه الآية شرف للعقول وأنه ما خاطب بالحكم إلا العقلاء ، وقوله :« لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »تقدّم تفسيره في أول السورة ( 181 )« كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ »يقول : فرض عليكم إذا حضر أحدكم الموت ، يعني إذا جاء أجله ، إن ترك خيرا أي مالا فله أن يوصي لوالديه بماله الذي يملكه ، والذي يملكه من حضره الموت من ماله ، إنما هو الثلث لا غير ، فللإنسان أن يهب ماله كله الذي ملكه الشرع صحيحا أو مريضا ، لأن التمليك للشارع ، وتلك الوصية حقا للّه عليه في ماله إن اتقى اللّه ، وذهب بعضهم إلى أنه يعصي من لا يفعل ذلك ، والأقربون هنا من لا يرث كالخالة والخال ، وقد جاء النص في بر الخالة والوصية عليها ، وقد جاء عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم [ لا وصية لوارث ] فأما الأقربون فيسوغ فيهم ما ذهبوا إليه ، وأما الوالدان

ص 254

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 181 إلى 182  
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 181 ) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 182 )
الجنف حيف في الكم والكيف .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فيتعينون وقد قال : ( وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) *فما المانع أن يجمع اللّه لهم بين الوصية والميراث ، إذ كان حقهم أعظم الحقوق وأوجبها ، والقرآن نص مقطوع به ، وقد اتفقوا على أنه لا تجوز الوصية لوارث ، فإذا وقعت فأجمعوا على أنه لا تجوز إذا لم تجزها الورثة ، واختلفوا إذا أجازتها الورثة ، فقال الأكثرون تجوز ، وقال أهل الظاهر لا تجوز وإن أجازتها الورثة ، وحكي ذلك عن المزني ، والذي يقتضيه النظر أنّ تنفيذها من كونها وصية لا تجوز ، وقد رفع الشارع حكمها أن تكون وصية ، إذا فليست بوصية شرعا ، وإذا لم تكن وصية وقد تعين القدر الذي ذكره الميت ، فيقسم على القرابة بأسرهم ما لم يعين قرابة مخصوصين ، فإن عيّن فالأولى بالورثة إذا سمحوا بإعطاء هذا المال صدقة منهم عن الميت أن يوصلوه لمن عيّنه على حكم ما عيّنه ، وهي عندنا عبادة غير معللة ، وقوله :« بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ »يؤيد أنها غير منسوخة وأنها غير مخالفة لآية المواريث ، فيكون المعنى : كتب عليكم ما أوصى به اللّه من توريث الوالدين والأقربين في قوله تعالى :
( يوصيكم في أولادكم ) الآيات كلها ، فاعملوا فيها بالمعروف وأعطوا كل ذي حق حقه كما أوصى اللّه« بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا »واجبا على القاسم لها أن يتقي اللّه فيها ، على أنه قد روي عن بعض أهل العلم أنه يجمع للوالدين بين الوصية والميراث ، ومن قال بالتأويل الأول حمل المعروف أن لا يتجاوز الموصي الثلث ، ويعمل بالعدل في ذلك ( 182 )« فَمَنْ بَدَّلَهُ »أي غيّر ما وقعت به الوصية« بَعْدَ ما سَمِعَهُ »من الموصي« فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ »فإن إثم التبديل على من بدله« إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ »ما أوصى به الميت« عَلِيمٌ » *به ، وفيه وعيد للمبدّل ( 183 )« فَمَنْ خافَ »أي توقع« مِنْ مُوصٍ جَنَفاً »ميلا عن الحق وهو لا يدري« أَوْ إِثْماً »متعمدا لذلك ، فتنازع الموصى لهم في ذلك« فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ »وإن أخطأ في القسمة أو في رد ذلك إلى الوجه المشروع في اجتهاده« إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ »في حق المصلح ، والميت الذي ما تعمد الخطأ« رَحِيمٌ »

ص 255

سورة البقرة ( 2 ) : آية 183
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 183 )
الصوم هو الإمساك والرفعة يقال صام النهار إذا ارتفع ، ولما ارتفع الصوم عن سائر العبادات كلها في الدرجة سمي صوما ، ورفعه سبحانه بنفي المثلية عنه في العبادات وسلبه عن عباده مع تعبدهم به وأضافه إليه سبحانه ، أخرجه النسائي عن أبي أمامة قال : أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقلت : مرني بأمر آخذه عنك ، قال : عليك بالصوم فإنه لا مثل له ، وورد في الخبر أن اللّه تعالى يقول : الصوم لي وأنا أجزي به ، وخرج مسلم في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ كل عمل ابن آدم له إلا الصيام ، فإنه لي وأنا أجزي به ، والصيام جنة ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم إني صائم ، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند اللّه يوم القيامة من ريح المسك ، وللصائم فرحتان يفرحهما ، إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقي ربه عزّ وجل فرح بصومه ] واعلم أن الصوم المشروع منه واجب ومنه مندوب إليه ، والواجب على ثلاثة أنواع : منه ما يجب بإيجاب اللّه تعالى ابتداء وهو صوم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، أي في صيامه أو عدة من أيام أخر ، في حق المسافر أفطر أو لم يفطر عندنا ، وفي حق المريض ، ومنه ما يجب لسبب موجب ، وهو صيام الكفارات ، ومنه ما يجب من اللّه بما أوجبه الإنسان على نفسه وهو غير مكروه ، وهو صوم النذر ، فإنه يستخرج به من البخيل ، وما ثم واجب غير ما ذكرنا ، والصوم عمل مستور عن كل ما سوى اللّه ، لا يعلمه من الإنسان إلا اللّه تعالى ، لأنه ترك وليس بعمل وجودي فيظهر للبصر أو يعمل بالجوارح ، فهو عمل مستور عن كل ما سوى اللّه ، لا يعلمه من الصائم إلا اللّه تعالى ، والصائم هو الذي سماه الشرع صائما لا الجائع - إشارة واعتبار - لو علم الإنسان من أي مقام ناداه الحق تعالى بالصيام في قوله :« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا »وأنه المخاطب
____________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بالكل ( 184 )« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ »الآية ، يقول : فرض عليكم الصيام ، وهو الإمساك عن كل ما أمر الشرع أن يمسك عنه الصائم ، من طلوع الفجر المستطير إلى غروب


ص 256


في نفسه وحده بهذه الجمعية ، فإنه قال : [ يصبح على كل سلامي منكم صدقة ] فجعل التكليف عاما في الإنسان الواحد ، وإذا كان هذا في عروقه فأين أنت من جوارحه ، من سمعه وبصره ولسانه ويده وبطنه ورجله وفرجه وقلبه ، الذين هم رؤساء ظاهره ، واعلم أن اللّه ناداك من كونك مؤمنا من مقام الحكمة الجامعة ، لتقف بتفاصيل ما يخاطبك به على العلم بما أراده منك في هذه العبادة ، فقال :« كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ »أي الإمساك عن كل ما حرم عليكم فعله أو تركه« كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ »يعني الصوم من حيث ما هو صوم ، فإن كان أيضا يعني به صوم رمضان بعينه كما ذهب إليه بعضهم ، غير أن الذين قبلنا من أهل الكتاب زادوا فيه إلى أن بلغوا خمسين يوما وهو مما غيروه ، وقوله :« كَما كُتِبَ »أي فرض« عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ »وهم الذين هم لكم سلف في هذا الحكم وأنتم لهم خلف« لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »أي تتخذوا الصوم وقاية ، فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أخبرنا أن الصوم جنة ، والجنة الوقاية ، ولا يتخذونه وقاية إلا إذا جعلوه عبادة ، فيكون الصوم للحق من وجه ما فيه من التنزيه ، ويكون من وجه ما هو عبادة في حق العبد جنة ووقاية من دعوى فيما هو للّه لا له ، فإن الصوم لا مثل له ، فهو لمن لا مثل له ، فالصوم للّه ليس لك ، قال تعالى : في الخبر المروي [ الصوم لي ] ثم قال :

سورة البقرة ( 2 ) : آية 184
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 184 )
«
 أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ »العامل في الأيام كتب الأول بلا شك ، فإنه ما عندنا علم بما كتب


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الشمس ، بنية القربة إلى اللّه تعالى عبادة« كَما كُتِبَ »أي مثل ما فرض« عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ »من الأمم الخالية« لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »اللّه فيما أمرتم به من الإمساك عنه من أكل وشرب ونكاح وغيبة زمان الإمساك ، ثم قال : ( 185 )« أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ »فقللها لأن بنية أفعال لجمع القلة ، وكذلك أفعل وأفعلة وفعلة ، ونصبه بكتب الأول على المفعولية ، وكذلك أيام شهر رمضان


ص 257


على من قبلنا ، هل كتب عليهم يوم واحد وهو عاشوراء ، أو كتب عليهم أيام ، والذي كتب علينا إنما هو شهر ، والشهر إما تسعة وعشرون يوما وإما ثلاثون يوما ، بحسب ما نرى الهلال ، والأيام من ثلاثة إلى عشرة لا غير ، فطابق لفظ القرآن ما أعلمنا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في عدد أيام الشهر ، فقال : [ الشهر هكذا وأشار بيده عشرة أيام ، ثم قال : هكذا يعني عشرة أيام ، وهكذا ، وعقد إبهامه في الثالثة ، يعني تسعة أيام ، وفي المرة الأخرى لم يعقد الإبهام ، فأراد أيضا عشرة أيام ] وذلك لما قال تعالى :« أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ »عدد الشارع أيام الشهر بالعشرات حتى يصح ذكر الأيام موافقا لكلام اللّه ، فإنه لو قال ثلاثون يوما لكان كما قال في الإيلاء لعائشة ، قد يكون الشهر تسعة وعشرين يوما ، ولم يقل هكذا وهكذا كما قال في عدد شهر رمضان ، فعلمنا أنه أراد موافقة الحق تعالى فيما ذكر في كتابه ، ثم قال :« فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ »فأتى بذكر الأيام أيضا وأشار إلى المخاطبين بقوله :« مِنْكُمْ »وهم الذين آمنوا ، والذي أذهب إليه أن المريض والمسافر إن صاما شهر رمضان فإن ذلك لا يجزيهما ، وأن الواجب عليهما عدة من أيام أخر ، غير أني أفرق بين المريض والمسافر إذا أوقعا الصوم في هذه الحالة في شهر رمضان ، فأما المريض فيكون الصوم له نفلا ، وهو عمل بر وليس بواجب عليه ، ولو أوجبه على نفسه فإنه لا يجب عليه ، وأما المسافر لا يكون صومه في السفر في شهر رمضان ولا في غيره من عمل بر ، وإذا لم يكن من عمل بر كان كمن لم يعمل شيئا ، وهو أدنى درجاته ، أو يكون على ضد البر ونقيضه وهو الفجور ، ولا أقول بذلك ، إلا أني أنفي عنه أن يكون في عمل بر في ذلك الفعل في تلك الحال ، وعلى المسافر أن يفطر في كل ما ينطلق عليه اسم السفر ، وكذلك المريض عليه أن يفطر في أقل ما ينطلق عليه اسم مرض ، والواجب عدة من أيام أخر في غير رمضان ، فهو واجب موسع الوقت من ثاني يوم شوال إلى آخر عمره ، وإذا كنا مسافرين فأفطرنا فنقضي أيام رمضان أو نؤديه في أيام غير معينة ، فإن اللّه تعالى نكّر


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بالنسبة إلى أيام السنة قليلة ، ثم قال :« فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ »يأتي تفسيره في الآية التي تلي هذه ، والذي يتعلق من ذلك بهذه الآية ، أنه من رجح الصوم على الإطعام لما كان مخيرا بينهما مع الطاقة ، كان حكمه إذا مرض أو سافر عدة من أيام أخر ، إذ قد انقضى زمان شهر رمضان بنية الصوم لولا المرض أو السفر ، فلا يجوز له

ص 258

الأيام في قوله« فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ »فالذي يجب على المكلف في سفره عدة من أيام أخر ، له الاختيار في تعيينها ، وإذا قضيت أيام رمضان من مرض أو سفر فاقضه متتابعا كما أفطرته متتابعا ، تخرج بذلك من الخلاف« وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ »الآية عندي مخصصة غير منسوخة في حق الحامل والمرضع والشيخ والعجوز ، فالحامل والمرضع يطعمان ولا قضاء عليهما ، والشيخ والعجوز إذا لم يقدرا على الصوم يفطران ولا يطعمان ، فإن الإطعام شرع مع الطاقة على الصوم ، وأما من لا يطيقه فقد سقط عنه التكليف في ذلك ، وليس في الشرع إطعام من هذه صفته من عدم القدرة عليه ، فإن اللّه ما كلف نفسا إلا وسعها وما كلفها الإطعام ، فلو كلفها مع عدم القدرة لم نعدل عنه وقلنا به ، والإطعام مد عن كل يوم« وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ »فقد قال فيه إن الصوم لا مثل له ، فهو عبادة لا مثل لها في الخيرية« إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ »قد تكون إن هنا بمعنى ما يقول . ما كنتم تعلمون أن الصوم خير من الإطعام لولا ما أعلمتكم ، ويكون معناها أيضا« إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ »الأفضل فيما خيرتكم فيه ، فقد أعلمتكم مرتبة الصوم ومرتبة الإطعام –
[ التخيير اختبار وابتلاء ]
تحقيق - اعلم أن الحق إذا خير العبد فقد حيره ، فإن حقيقته العبودية فلا يتصرف إلا بحكم الاضطرار والجبر ، والتخيير نعت السيد ما هو نعت العبد ، وقد أقام السيد عبده في التخيير اختبارا وابتلاء ، ليرى هل يقف مع عبوديته أو يختار فيجري في الأشياء مجرى سيده ، وهو في المعنى مجبور في اختياره مع كون ذلك عن أمر سيده ، فكان لا يزول عن عبوديته ولا يتشبه بربه فيما أوجب اللّه عليه التخيير ، ولما نبه تعالى عباده على أن الصوم خير لهم إذا اختاروه أبان لهم بذلك عن طريق الأفضلية ، ليرجحوا الصوم على الفطر ، فكان هذا من رفقه سبحانه بهم


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
في القضاء الإطعام كما جاز في زمان رمضان ، لأن الصوم قد ترتب في الذمة بالترجيح في زمان التخيير ، وانقضى الزمان على ذلك ، ثم قال :« وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ »أي يصومونه طاقتهم« فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ »لكل يوم إطعام مسكين ، واختلف الناس في قدر ذلك ، والأولى أن يكون الإطعام نصف صاع من طعام ، إذ قد نص الشارع عليه في بعض الكفارات ، فالرجوع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام عند الخلاف أولى« فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً »أي زاد على الواجب من جنسه فأطعم أكثر من مسكين أو أكثر من نصف صاع« فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ »أي أعظم لأجره« وَأَنْ تَصُومُوا »بدلا من الإطعام« خَيْرٌ لَكُمْ »عند اللّه وأعظم أجرا« إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ »أي إن عملتم بما

ص 259

حيث أزال عنهم الحيرة في التخيير بهذا القدر من الترجيح ، ومع هذا فالابتلاء له مصاحب ، لأنه تعالى لم يوجب عليه فعل ما رجحه له ، بل أبقى له الاختيار على بابه ، أما في الكفارة فإن الترتيب أولى من التخيير ، فإن الحكمة تقتضي الترتيب ، واللّه حكيم والحكمة في بعض الأشياء أولى من الترتيب لما اقتضته الحكمة ، والعبد في الترتيب عبد اضطرار كعبودة الفرائض ، والعبد في التخيير عبد اختيار كعبودة النوافل ، وفيها رائحة من عبودية الاضطرار ، وبين عبادة النوافل وعبادة الفرائض في التقريب الإلهي بون بعيد في علو الرتبة ، فإن اللّه جعل القرب في الفرائض أعظم من القرب في النوافل ، وأن ذلك أحب إليه .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 185
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 185 ).
" شَهْرُ رَمَضانَ " سمي الشهر شهرا من الشهرة لاشتهاره وتمييزه واعتناء المسلمين به وأصحاب تسيير الكواكب ، يقول : شهر هذا الاسم الإلهي ، فإن رمضان من الأسماء الإلهية ، فشارك شهر رمضان الحق في الاسم ، فتعينت له حرمة على ما هي لسائر شهور


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أعلمتكم ، وهذه الآية مخصصة بالمرضع والشيخ والعجوز وإن كانوا قادرين على الصوم لكن ببذل المجهود من طاقتهم ، وخرج من هذه الآية غير هؤلاء بالآية الأخرى ، فارتفع الحكم بالتخيير إلى الحكم بوجوب الصوم في حق قوم موصوفين بصفة مخصوصة ، ولم يرتفع فيمن ذكرناهم ، إذ أحكام الشرع تتبع الأسماء والأحوال ، فلكل اسم وحال حكم ليس للآخر ، وهو أسدّ الوجوه المذكورة في هذا الفصل ( 186 )« شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ »الآية ، نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن يقال رمضان فإن رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى وقولوا شهر رمضان ، فيكون معناه شهر اللّه ، وإن كان رمضان اسما لهذا الشهر ، فأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رفع اللبس ، فإذا أمنّا الالتباس فلنا أن نقول رمضان ، قال عليه السلام : [ من قام رمضان إيمانا واحتسابا ] وقال : [ من صام


ص 260

السنة ، فإنه أفضل الشهور ، وجعله من الشهور القمرية حتى تعم بركته جميع شهور السنة ، فيظهر في كل شهر من شهور السنة الشمسية ، فيحصل لكل يوم من أيام السنة حظ منه ، فأضاف اللّه الشهر إليه تعالى من اسمه رمضان ، وهو اسم غريب نادر ، ورد الخبر بذلك ، روى أبو أحمد بن عدي الجرجاني عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى ] لذلك قال تعالى :« شَهْرُ رَمَضانَ »ولم يقل رمضان ،« الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ »أي في صومه أي في إيجاب صومه القرآن بقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ )خرج مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : [ إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفّدت الشياطين ] زاد النسائي في كتابه [ ونادى مناد في كل ليلة يا طالب الخير هلم ، ويا طالب الشر أمسك ] فنزل القرآن بصوم شهر رمضان على التعيين دون غيره من الشهور ، فما فرض اللّه الصوم الذي لا مثل له في العبادات ابتداء إلا في شهر سماه سبحانه باسم من أسمائه ، فلا مثل له في الشهور ، لأنه ليس في أسماء شهور السنة من اسم تسمى به اللّه إلا رمضان ، والصوم صفة صمدانية يتنزه الإنسان فيها عن الطعام والشراب والنكاح والغيبة ، وهذه كلها نعوت إلهية يتصف بها العبد في حال صومه ، والقرآن الجمع ، فلهذا جمع بينك وبينه في الصفة الصمدانية وهي الصوم ، فما كان فيه من تنزيه فهو للّه ، فإنه قال الصوم لي ، ومن كونه عبادة فهو لك ، ثم إن اللّه تعالى أنزل القرآن في هذا الشهر في أفضل ليلة تسمى ليلة القدر ، فإن اللّه أنزل الكتاب فرقانا في ليلة القدر ليلة النصف من شعبان ، وأنزله قرآنا في شهر رمضان ، كل ذلك إلى السماء الدنيا ، ومن هناك نزل في ثلاث وعشرين سنة فرقانا نجوما ذا آيات وسور لتعلم المنازل وتتبين المراتب ، فمن نزوله إلى الأرض في شهر شعبان يتلى فرقانا ، ومن نزوله في شهر رمضان يتلى قرآنا ، فأنزل القرآن فيه« هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ »من كونه رمضان ، وأما من كونه في ليلة القدر فأنزله كتابا مبينا أي بينا أنه كتاب ، وبين كون الشيء كتابا وقرآنا وفرقانا مراتب متميزة يعلمها العالمون باللّه ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
رمضان ] ولم يذكر لفظة شهر لأنه أمن الالتباس في ذلك ، إذ الغرض التعريف عند السامع بما قصده المتكلم ، قال تعالى :« شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ »في هذا دليل على أن ليلة القدر تكون في رمضان لأنه قال : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )يعني القرآن ، يقال نزل إلى السماء

ص 261

« هُدىً »أي بيانا« لِلنَّاسِ »على قدر طبقاتهم وما رزقوا من الفهم عنه ،« وَبَيِّناتٍ »فكل شخص على بينة تخصه بقدر ما فهم من خطاب اللّه في ذلك ،« مِنَ الْهُدى »وهو التبيان الإلهي« وَالْفُرْقانِ »فإنه جمعك أولا معه في الصوم بالقرآن ، ثم فرقك لتتميز عنه بالفرقان ، فأنت أنت وهو هو ، فبما هو الصوم له فهو من باب التنزيه ، وهو لك عبادة لا مثل لها« فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ »يقول فليمسك نفسه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، خرج مسلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيده فقال :
الشهر هكذا وهكذا ، ثم عقد إبهامه في الثالثة ، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين ، وقد ورد عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، وعقد الإبهام ، والشهر هكذا وهكذا وهكذا ، يعني تمام الثلاثين ، وحديث أقدروا من حمله على التضييق ابتدأ بصوم رمضان من يوم الشك ، ومن حمله على التقدير حكم بالتسيير ، وذلك يرجع إلى الحساب بتسيير القمر والشمس ، وهو مذهب ابن الشخير ، وبه أقول ، وإذا رؤي الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية ، وإن رؤي بعد الزوال فهو لليلة الآتية ، ومن أبصر هلال الصوم وحده عليه أن يصوم ، وكذلك يفطر برؤية هلال الفطر وحده ، وقد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن يقال رمضان كما سبق أن ذكرنا ، وفرض اللّه صومه وندب إلى قيامه ، وهو يتضمن صوما وفطرا لأنه يتضمن ليلا ونهارا ، واسم رمضان ينطلق عليه في حال الصوم والإفطار ، حتى يتميز من رمضان الذي هو اسم اللّه تعالى ، فإن اللّه تعالى له الصوم الذي لا يقبل الإفطار ، ولنا الصوم الذي يقبل الفطر ، فصوم شهر رمضان واجب على كل إنسان مسلم بالغ عاقل صحيح مقيم غير مسافر ، وهو عين هذا الزمان المعلوم المشهور المعيّن من الشهور الاثني عشر شهرا ، الذي بين شعبان وشوال ، والمعين في هذا الزمان صوم الأيام دون الليالي ، وحد يوم الصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، فهذا هو حد اليوم المشروع للصوم لا حد اليوم المعروف بالنهار


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الدنيا في هذه الليلة جملة واحدة ، وقيل ينزل منه في كل ليلة القدر في رمضان قدر ما ينزل منه على النبي عليه السلام في سائر السنة ، وقد ورد أن الصحف والكتاب المنزلة على الأنبياء نزلت كلها في رمضان ، فوصل إلينا من ذلك أن صحف إبراهيم نزلت أول ليلة من رمضان ، والتوراة


ص 262

"وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ »- راجع آية 183 -
« فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ »معدودات لا يزاد فيها ولا ينقص منها« يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ »فيما خاطبكم به من الرفق في التكليف« وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ».
وهو ما يشق عليكم ، تأكد بهذا القول :« وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ »وقوله :« فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً »أي فإن مع عسر المرض يسر الإفطار ، ومع عسر السفر يسر الإفطار« وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ »برؤية الهلال أو بتمام الثلاثين« وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ »تشهدوا له بالكبرياء ، تفردوه به ولا تنازعوه فيه ، فإنه لا ينبغي إلا له سبحانه ، فتكبروه عن صفة العسر واليسر« عَلى ما هَداكُمْ »أي وفقكم لمثل هذا وبيّن لكم ما تستحقونه مما يستحقه تعالى ،« وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »فجعل ذلك نعمة يجب الشكر منا عليها لكوننا نقبل الزيادة ، فنبهنا بما هو مضمون الشكر لنزيده في العمل .
[ الصوم ]
- إشارة -« شَهْرُ رَمَضانَ. . .فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ »اعلم أيدك اللّه أن الصوم هو الإمساك والرفعة ، يقال : صام النهار ، إذا ارتفع ، ولما ارتفع الصوم عن سائر العبادات كلها في الدرجة سمي صوما ، ورفعه سبحانه بنفي المثلية عنه في العبادات ، وسلبه عن عباده مع تعبدهم به ، وأضافه إليه سبحانه ، وجعل جزاء من اتصف به بيده من إثابته ، وألحقه بنفسه من نفي المثلية فقوله تعالى [ كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي ] أي صفة الصمدانية وهي التنزيه عن الغذاء ليس إلا لي ، وإن وصفتك به فإنما وصفتك باعتبار تقييد ما من تقييد التنزيه ، لا بإطلاق التنزيه الذي ينبغي لجلالي ، فقلت [ وأنا أجزي به ] فكان الحق جزاء الصوم للصائم إذا انقلب إلى ربه ولقيه بوصف لا مثل له ، وهو الصوم ، إذ كان لا يرى من ليس كمثله شيء إلا من ليس كمثله شيء ، فإنه سبحانه لا مثل له بالأدلة العقلية والشرعية ، فأول مراتب الصوم عندنا هو الصوم العام المعروف الذي تعبدنا اللّه به ، وهو الصوم الظاهر في الشاهد ، على تمام شروطه ، ثم صوم النفس عند الخواص ، بما هي آمرة للجوارح ، وهو إمساكها عما حجر عليها في مسئلة مسئلة وارتفاعها عن ذلك ، وآخرها صوم القلب الموصوف بالسعة للنزول الإلهي ، حيث قال تعالى [ وسعني قلب عبدي ] وله صوم وهو إمساكه هذه السعة أن يعمرها أحد غير خالقه ، فإن عمرها أحد


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لستّ خلت منه ، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت منه ، والقرآن لأربع وعشرين ليلة خلت منه ، فيكون نزول القرآن ليلة القدر ليلة خمس وعشرين من رمضان ، ووجه آخر في قوله :« الَّذِي

ص 263


غير خالقه فقد أفطر في الزمان الذي يجب أن يكون فيه صائما إيثارا لربه .
واعلم علمك اللّه من لدنه علما ، وجعل لك في كل أمر حكمة وحكما ، أن رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى ، وهو الصمد ، ولما كان مجيء رمضان سببا في الشروع في الصوم ، فتح اللّه أبواب الجنة ، والجنة الستر ، فدخل الصوم في عمل مستور لا يعلمه منه إلا اللّه تعالى ، لأنه ترك وليس بعمل وجودي فيظهر للبصر ، أو يعمل بالجوارح ، فهو مستور عن كل ما سوى اللّه ، لا يعلمه من الصائم إلا اللّه تعالى ، والصائم الذي سماه الشرع صائما لا الجائع ، وغلّق اللّه أبواب النار ، فإذا أغلقت أبواب النار عاد نفسها عليها ، فتضاعف حرها عليها وأكل بعضها بعضا ، كذلك الصائم في حكم طبيعته إذا صام غلق أبواب نار طبيعته ، فوجد الصائم حرارة زائدة لعدم استعمال المرطبات ، ووجد ألم ذلك في باطنه ، وتضاعفت شهوته للطعام الذي يتوهم الراحة بتحصيله ، فتقوى نار شهوته بغلق باب تناول الأطعمة والأشربة ، وصفّدت الشياطين ، وهي صفة البعد ، فكان الصائم قريبا من اللّه بالصفة الصمدانية ، فإنه في عبادة لا مثل لها ، فقرب بها من صفة ليس كمثله شيء ، ومن كانت هذه صفته فقد صفدت الشياطين في حقه ، ومتى طلع هلال المعرفة في أفق قلوب العارفين من الاسم الإلهي « رمضان » وجب الصوم ، ومتى طلع هلال المعرفة في أفق قلوب العارفين من الاسم الإلهي« فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » *وجب الفطر على الأرواح من قوله « السماوات » وعلى الأجسام من قوله « والأرض » واعتبار السفر فإن السالك هو المسافر في المقامات ، والمسافر إلى اللّه يسافر ليشهده ، فما هو في حال شهود ، والمريض مائل عن الحق ، لأن المرض النفسي ميل النفس إلى الكون .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ »أي الذي أنزل في شأنه القرآن ، يريد بذلك قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ )يقال نزل القرآن في شأن عمر بكذا وكذا ، وقوله :« هُدىً لِلنَّاسِ »منصوب على الحال والعامل فيه أنزل« وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ »ودلائل واضحات يهتدي بها ، ويفرق بها بين الحق والباطل ، ثم قال :« فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ »يقول : من كان حاضرا في أهله مقيما فليصمه« وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ »يقول : أو في سفر ، أو على عزم سفر إذا دخل مدينة وأقام بها لشغل يقتضيه وهو عازم على السفر في كل يوم وقد يستروح منه فطر المسافر يوم خروجه قبل خروجه وأن لا يبيت الصوم من الليلة التي عزم

ص 264
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "186 - 189" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:39 am

تفسير آلآيات من "186 - 189" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 186
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ( 186 )
يقول تعالى للرسول صلّى اللّه عليه وسلم :« وَإِذا سَأَلَكَ »لكونك حاجب الباب« عِبادِي عَنِّي »وهم عبيد العموم ، فما خص عبيدا من عبيد ، وأضافهم إليه ، أن يقول :« فَإِنِّي قَرِيبٌ »يعني منكم« أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ »وهو الموجب للإجابة ، فإنه سبحانه مجيب عن سؤال ودعاء« إِذا دَعانِ »ما لم يقل لم يستجب لي ، وسواء دعاه في حق نفسه أو في حق غيره ، فوصف الحق نفسه بأنه متكلم إذ المجيب من كان ذا إجابة وهي التلبية ، ووصف نفسه بأنه سميع دعاء عباده إذا دعوه ، فأجابهم من اسمه السميع وهو الموجب الإجابة ، وقدم تعالى إجابته لنا إذا دعوناه على إجابتنا له إذا دعانا ، وجعل الاستجابة من العبيد مؤكدة بالسين لما علم من إبايتنا وبعدنا عن إجابته ، فقال :« فَلْيَسْتَجِيبُوا »لأنه أبلغ من الإجابة ، فإنه لا مانع له من الإجابة سبحانه ، فلا فائدة للتأكيد وللإنسان موانع من الإجابة لما دعاه اللّه إليه ، وهي الهوى والنفس والشيطان والدنيا ، فلذلك أمر بالاستجابة ، فإن الاستفعال أشد في المبالغة من الإفعال ، فقال تعالى :« فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي »يعني إذا دعوتهم إلى القيام بما شرعته لهم ، فإنك لا تعامل إلا بما عاملت ، فإنه إذا دعاك فأجبته يجيبك إذا دعوته ، لذلك قال :« فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي »فإني دعوتهم على ألسنة أنبيائي بلسان الشرع ، وفي كتبي المنزلة التي أرسلت رسلي بها إليهم ، واعلم أن الإجابة على نوعين : إجابة امتثال وهي إجابة الخلق لما دعاه إليه الحق ، وإجابة امتنان وهي إجابة الحق لما دعاه إليه الخلق ، فإجابة الخلق معقولة


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
على السفر في صبيحتها ، وقوله :« فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ »ذهب بعض العلماء أنه الواجب وإن صام رمضان لم يجزه ، وعليه عدة من أيام أخر في السفر والحضر حيث شاء صامها ، بخلاف شهر رمضان ، ثم قال :« يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ »وهو رفع الحرج في الدين كما قال : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )« وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ »ثلاثين إن غم عليكم« وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ »حامدين« عَلى ما هَداكُمْ »أي وفقكم لصيامه وقيامه« وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »أي وتشكرونه أيضا برخصته لكم بفطره في السفر والمرض ، فإن الرخصة نعمة من اللّه يجب الشكر عليها والعمل بها قربة كالعمل بالعزائم ( 187 )« وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ

ص 265

وإجابة الحق منقولة لكونه تعالى أخبر بها عن نفسه ، وأما اتّصافه بالقرب في الإجابة فهو اتصافه بأنه أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد ، فشبه قربه من عبده قرب الإنسان من نفسه إذا دعا نفسه لأمر ما تفعله فتفعله ، فما بين الدعاء والإجابة الذي هو السماع زمان ، بل زمان الدعاء زمان الإجابة ، فقرب الحق من إجابة عبده قرب العبد من إجابة نفسه إذا دعاها ، ثم ما يدعوها إليه يشبه في الحال ما يدعو العبد ربه إليه في حاجة مخصوصة ، فقد يفعل له ذلك وقد لا يفعل ، كذلك دعاء العبد نفسه إلى أمر ما ، قد تفعل ذلك الأمر الذي دعاها إليه وقد لا تفعل لأمر عارض يعرض له ، والدعاء على نوعين : دعاء بلسان نطق وقول ، ودعاء بلسان حال ، فدعاء القول يكون من الحق ومن الخلق ، ودعاء الحال يكون من الخلق ولا يكون من الحق إلا بوجه بعيد ، وما دعا اللّه أحد إلا أجابه ، إلا أن الأمور مرهونة بأوقاتها لمن يعلم ذلك ، فلا تستبطئ الإجابة فإنها في الطريق ، وفي بعض الطريق بعد وهو التأجيل ، - وجه آخر في قوله تعالى : « لي » أي من أجلي ، لا تعملون ذلك رجاء تحصيل ما عندي فتكونوا عبيد نعمة لا عبيدي« وَلْيُؤْمِنُوا بِي »يصدقوا بإجابتي إياهم إذا دعوني - تفسير[ الإشارة - « وَلْيُؤْمِنُوا بِي » ]
من باب الإشارة -« وَلْيُؤْمِنُوا بِي »أي ليكن إيمانهم بي لا بأنفسهم ، لأنه من آمن بنفسه لا باللّه لم يستوعب إيمانه ما استحقه ، فإذا آمن بي وفّى الأمر حقه ، وهذا هو الذي يصدق بالأخبار كلها ، ومن آمن بنفسه فإنه مؤمن بما أعطاه دليله ، والذي أمرته بالإيمان به متناقض الأدلة متردد بين تشبيه وتنزيه ، فالذي يؤمن بنفسه إيمانه بعقله لا بي« لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ »أي يسلكون طريق الرشد كما يفعل الذين إذا رأوا سبيل الرشد اتخذوه سبيلا ، فيمشي بهم إلى السعادة الأبدية .
[ تحقيق : فَإِنِّي قَرِيبٌ ]
تحقيق - إن اللّه تعالى ما أخبر نبيه صلّى اللّه عليه وسلم بقربه من السائلين من عباده إلا ليعرف بثلاث أمور : هي القرب والسمع والإجابة ، فلم يترك لعبده حجة عليه بل للّه الحجة البالغة ، فإذا تحقق العبد بهذه الآية فأول ما ينتج له الزهد فيما سوى اللّه ، فلا يتوسل إليه بغيره ، وهو لمن تحقق بالقرب إلى اللّه ، فإن التوسل إنما


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الدَّاعِ إِذا دَعانِ »الآية ، يقول لنبيه عليه السلام« إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي »من كان منهم ، تدل قرينة الحال ، أن سؤالهم عنه سبحانه إذا دعوه ما يكون منه إليهم ؟ قال : فقل لهم عني :
إني قريب إجابة دعوة الداع إذا دعاني ، ولكن إذا دعاه عن ظهر فقر محقق ، معرض بقلبه عما

ص 266

هو طلب القرب منه ، وقد أخبرنا اللّه تعالى أنه قريب ، فلا فائدة لهذا الطلب وخبره صدق ، ومن تحقق بالقرب الإلهي لا بد أن يسمع الإجابة الإلهية ذوقا ، فلا بد من علامة يعطيها اللّه لهذا المتحقق يعلم بها أنه قد أجاب دعاءه ، ومعلوم أنه أجاب دعاءه ، وإنما أريد أن يعلمه أن الذي سأل فيه قد قضي وإن تأخر وأعطي بدله على طريق العوض لما له في البدل من الخير ، وقد يكشف له عن خواص الأحوال والأزمنة والأمكنة التي توجب قضاء حاجة الداعي فيما سأل فيه ، ثم أخبر أنه يجيب سؤال السائلين ، فهو إخبار بأن بيده ملكوت كل شيء ، وأخبر بالإجابة ليتحفظ السائل ويراقب ما يسأل فيه ، لأنه لا بد من الإجابة ، فقد يسأل العبد فيما لا خير له فيه لجهله بالمصالح ، فهو تنبيه وتحذير أن لا يسأل إلا فيما يعلم أن له فيه الخير الوافر عند اللّه في الدنيا والآخرة ، فمن تنبه لهذا لم يسأل اللّه تعالى في حاجة من حوائج الدنيا على التعيين ، ولكن يسأل فيما له في خير يعلمه اللّه مبهما لا يعيّن ، فإذا عيّن ولا بد فليسأل فيه الخيرة وسلامة الدين ، فكم من سائل عيّن فلما قضيت حاجته لحكمة يعلمها اللّه أدركه الندم بعد ذلك على ما عيّن ، وتمنى أنه لم يعيّن ، وأما تعيينه في السؤال فيما يرجع إلى أمر الدين فليعين ما شاء ولا مكر فيه ولا غائلة ، وكذلك ما يسأل فيه مما يتعلق بالآخرة ، فإذا قيل ما سبب عدم الإجابة لأكثر الناس فيما يسألون فيه ربهم ؟ فاعلم أن اللّه أخبر أنه يجيب دعوة الداع ، وما دعاؤه إياه إلا عين قوله حين يناديه باسم من أسمائه فيقول : يا اللّه أو يا رب أو رب أو يا ذا المجد والكرم ، وما أشبه ذلك ، فالدعاء نداء وهو تأيه باللّه ، فإجابة هذا القدر الذي هو الدعوة وبها سمي داعيا أن يلبيه الحق فيقول : لبيك ، فهذا لا بد منه من اللّه في حق كل سائل ، ثم ما يأتي بعد هذا النداء فهو خارج عن الدعاء ، وقد وقعت الإجابة كما قال ، فيوصل العبد بعد النداء من الحوائج ما قام في خاطره مما شاءه ، فلم يضمن في هذه الآية إجابته فيما سأل فيه ودعاه من أجله ، فهو إن شاء قضى حاجته وإن شاء لم يفعل ، ولهذا ما كل مسؤول فيه يقضيه اللّه لعبده ، وذلك رحمة به ، فإنه قد يسأل فيما لا خير له فيه ، فلو ضمن الإجابة في ذلك لوقع ويكون فيه هلاكه في دينه


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
سواه ، وهذا حال الاضطرار ، ومتى اختل هذا الشرط فما دعاه ، ثم قال كما أنهم إذا دعوني لحاجتهم أجيبهم« فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي »إذا دعوتهم إلى الإيمان بي وبملائكتي وكتبي ورسلي وما جاءوا إليهم

ص 267

وآخرته ، وربما في دنياه من حيث لا يشعر ، فمن كرمه أنه ما ضمن الإجابة فيما يسأل فيه ، وإنما ضمن الإجابة في الدعاء خاصة كما بيناه ، وهذا غاية الكرم من السيد في حق عبده ، فإذا سألتم اللّه فاسألوه التوفيق والعافية والعناية في تحصيل السعادة ، وقل رب زدني علما ، فإن العلم يأبى إلا السعادة ، فإن اللّه ما أمر نبيه بطلب الزيادة منه إلا وقد علم أن عين حصول العلم المطلوب هو عين السعادة ، ما فيه مكر ولا استدراج أصلا ، وما هو إلا العلم باللّه خاصة لا العلم بالحساب والهندسة والنجوم ، ولو علم ذلك لكان علم دلالة على علم باللّه ، وأما وصفه تعالى بالقرب في قوله تعالى :« وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ »وقوله تعالى :« وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ »ونحوه ، يفهمك أن قوله تعالى في الحديث القدسي : ( وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ) ليس على ظاهره ، لأن قربه سبحانه من العبد بنوره ولا تتفاوت درجاته ، وإنما البعد صفة العبد ، وبعده عن اللّه هو حجابه عن شهود قرب اللّه منه على حسب نور الإيمان في الاستجابة ، وبهذا يكون تقرب العبد إلى ربه ، وأما تقرب الرب إلى العبد فإشارة بنوره لنوره ، وقد جمع اللّه ذلك كله في قوله :« فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ »وقد قرن الحق تعالى إجابته لكم بإجابتكم له ، وقد تقدم دعاؤه لكم في قوله تعالى :« يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ »فإن استجبتم استجاب لكم ، وإن تصاممتم فما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، وإنما هي أعمالكم ترد عليكم ، فكرامتهم عنده سبحانه وتعالى إجابته لهم إذا دعوه لارتباط الحكمة في المناسبة ، فلا يجاب إلا من يجيب ، فإذا عمّ الدعاء ذاتنا كلها بحيث لا يبقى فينا جزء له التفاتة إلى الغير ، حصلت الإجابة بلا شك على الفور ، لأنّا قد علمنا صدقه فيما أخبر به عن نفسه ،( وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )فقد غفر لكم وأجابكم إن أنتم أجبتم داعيه ، وكلامه حق ووعده صدق ، فلب إذا دعاك الحق إليه لا رغبة فيما في يديه ، فإنك إن أجبته لذلك فأنت هالك وكنت لمن أجبت ، وأخطأت وما أصبت ، واستعبدك الطمع


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
به« وَلْيُؤْمِنُوا بِي »أي أجيبهم إجابة أخرى جزاء لإجابتهم لي ، وقرن السين في إجابتهم للمبالغة في ذلك ، إذ كان ثم من يدعوهم إلى غير اللّه ، ثم قال :« لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ »يقول يتخذون سبيل

ص 268

واسترقك ، وأنت تعلم أن اللّه لا بد أن يوفيك حقك ، فمن كان عبدا لغير اللّه فما عبد إلا هواه ، وأخذ به العدو عن طريق هداه ، التلبية تولية ، فلا تلب إلا الداعي ، فإنك لما عنده واعي ، ما اختزن الأشياء إلا لك ، فقصر أملك وأخلص للّه عملك ، وهذا سر إجابة الدعاء ، لا رغبة في العطاء - نصيحة - لما كان الاسم اللّه جامعا للنقيضين فهو وإن ظهر في اللفظ فليس المقصود إلا اسما خاصا منه ، تطلبه قرينة الحال ، فإذا قال طالب الرزق المحتاج إليه : « يا اللّه ارزقني » واللّه هو المانع أيضا ، فما يطلب بحاله إلا الاسم الرزاق ، فما قال بالمعنى إلا « يا رزّاق ارزقني » ، فمن أراد الإجابة من اللّه فلا يسأله إلا بالاسم الخاص بذلك الأمر ، ولا يسأل باسم يتضمن ما يريده وغيره ، ولا يسأل بالاسم من حيث دلالته على ذات المسمى ، ولكن يسأل من حيث المعنى الذي هو عليه الذي لأجله ، جاء وتميز به عن غيره من الأسماء ، تميز معنى لا تميز لفظ .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 187
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 187 )
« أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ »أي الليلة التي انتهى صومكم إليها ، لا الليلة التي تصبحون


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الرشد في ذلك ( 188 )« أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ »كان الأمر قبل نزول هذه الآية في الصوم ، أن الصائم إذا صلى العشاء الآخرة ونام قبل أن يفطر حرم عليه ما يحرم على الصائم


ص 269

فيها صائمين ، فهي صفة تصحبكم إلى ليلة عيد الفطر ، ولو كانت إضافة ليلة الصيام إلى المستقبل لم تكن ليلة عيد الفطر فيها .
فإنك لا تصبح يوم العيد صائما ، ولو صمت فيه لكنت عاصيا ، ولا يلزم هذا في أول ليلة من رمضان ، فإن الأكل والشرب وأمثاله كان حلالا قبل ذلك ، فما زال مستصحب الحكم ، فلهذا جعلناه للصوم الماضي« الرَّفَثُ »يعني الجماع« إِلى نِسائِكُمْ »فجاء بالنساء ولم يقل الأزواج ولا غير ذلك ، فإن في هذا الاسم معنى ما في النسإ وهو التأخير ، فقد كنّ أخرن عن هذا الحكم الذي هو الجماع زمان الصوم إلى الليل ، فلما جاء الليل زال حكم التأخير بالإحلال ، فكأنه يقول إلى ما أخرتم عنه وأخرنا عنه من أزواجكم وما ملكت أيمانكم ممن هو محل للوطء[ « هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ » ]« هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ »المقصود بالضمير « هن » الزوجات ومن يحل جماعه ، فالمناسبة بينكم صحيحة ، ما هي مثل ما تلبستم بنا في صومكم حيث اتصفتم بصفة هي لي وهي الصوم ، فلستم لباسا لي ولست لباسا لكم ، فإن اللباس يحيط بالملبوس ويستره ، فهي تستره بنفسها وغطاها هو بذاته - إشارة لا تفسير -« هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ »الإشارة بهن إلى الأسماء الإلهية ، فهو تلبس الحق بالخلق في الصورة التي ظهر عنها الأثر في الشاهد ، كما ظهر عقلا عن الحق ، هن لباس لكم ، وأنتم لباس لهن ، تلبس الخلق في الفعل بالحق في الإيجاد بنسبة الفعل إلى الخلق .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
من الأكل والشرب والنكاح ، وأن عمر بن الخطاب واقع أهله بعد صلاة العشاء ، فلما فرغ ندم وبكى وأخبر بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقال : [ إني أعتذر إلى اللّه وإليك من نفسي هذه الخاطئة ، فهل تجد لي رخصة ] فقال له النبي صلّى اللّه عليه وسلم : [ لم تكن جديرا بذلك يا عمر - الحديث بطوله ] فأنزل اللّه« أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ »وهو كناية عن الجماع ، يقال الرفث والرفوث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه في الجماع ، وقوله :« لَيْلَةَ الصِّيامِ »أي الليلة التي يصبحون في صبيحتها صائمين ، فكان لهم النوم وصلاة العشاء حدّا للمنع مثل ما صار طلوع الفجر بعد ذلك ، وما أنزل اللّه في هذه قضاء ذلك اليوم على عمر ولا غيره مما نزلت بسببه الآية ، فارتفع القضاء عن من جامع في رمضان وهو صائم ووجبت الكفارة بالسنّة ، ولم يثبت في ذلك حديث القضاء ، وقوله :« هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ »أي يلابس بعضكم بعضا ،


( 1 ) لأن ليلة عيد الفطر يجوز الوصال فيها لصيام اليوم الذي قبله .

ص 270

فإن قلت هذا الحق أظهرت غائبا ... وإن قلت هذا الخلق أخفيته فيه 
فلولا وجود الحق ما بان كائن ... ولولا وجود الخلق ما كنت تخفيه
« عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ »من الخيانة لشهادتي عليكم حين قبلتم الأمانة لما عرضتها عليكم ، فكنتم تختانون أنفسكم لما حجر عليكم فيما حجره عليكم ، فما أراد هنا تعلق علمه تعالى بأنهم يختانون أنفسهم ، وإنما المستقبل هنا بمعنى الماضي ، فإن اللسان العربي يجيء فيه المستقبل ببنية الماضي إذا كان متحققا .
كقوله تعالى : ( أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ )وشبهه ، وقد كان الحق كلفهم قبل هذا التعريف أن لا يباشر الصائم امرأته ليلة صومه ، فمنهم من تعدى حد اللّه في ذلك ، فلما علم اللّه ذلك عفا عمّن وقع منه ذلك وأحلّ له الجماع ليلة صومه ، إلا أن يكون معتكفا في المسجد ، فما خفف عنهم حتى وقع منهم ذلك ، ومن من شأنه مثل هذا الواقع فإنه لا يزال يتوقع منه مثله ، فأبيح له رحمة به ، حتى إذا وقع منه ذلك كان حلالا له ومباحا وتزول عنه صفة الخيانة ، فإن الدين أمانة عند المكلف« فَتابَ عَلَيْكُمْ »أي رجع عليكم« وَعَفا عَنْكُمْ »أي بالقليل الذي أباحه لكم في زمان الإحلال الذي هو الليل ، وإنما جعله قليلا لبقاء التحجير فيه في المباشرة للمعتكف في المسجد بلا خلاف ، وفي غير المسجد بخلاف ، والمواصل« فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ »وهو زمان الفطر في رمضان« وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ »واطلبوا ما فرض اللّه من أجلكم حتى تعلموه فتعملوا


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بالسكون ، فهي له شعار ، وهو لها دثار ، وإذا لابسها فقد خالطها واتحد بها ، وصورة ذلك أن الزوجين إذا اجتمعا مكافحة وامتص كل واحد منهما ريق صاحبه ، وسرى من نفسه فيه ، فحصل من ذلك . . . . . . ورطوبات ذلك الريق عند الامتصاص بالتقبيل في جسم كل واحد منهما روحا حيوانيا ، به حياة ذلك الشخص ، فهذا معنى« هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ »إذ الروح الحيواني هو البخار الخارج من تجويف القلب ، وذلك البخار هو الذي خرج من كل واحد منهما ودخل في جوف الآخر ، فكان روح كل واحد منهما روحا لصاحبه ، فاتحدت أرواحهما وتجاورت أجسامهما ، ثمّ قال :« عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ »أي تتعملون في اكتساب خيانة أنفسكم ، فإن التاء زائدة إذ الاختيان افتعال من الخيانة ، ومن رحمته أن قال :« تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ »ولم يقل [ تخونون اللّه ] إذ كان المؤمن لا يقصد بالمعصية انتهاك حرمة اللّه ،


( 1 ) لعله : الاجتماع أو الجماع .

ص 271

به في كل ما ذكره في هذه الآية ،« وَكُلُوا وَاشْرَبُوا »أمر بإعطاء ما عليك لنفسك من حق الأكل والشرب« حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ »إقبال النهار« مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ »إدبار الليل ، يريد بياض الصبح وسواد الليل ، وعلى ذلك يكون التبيين للناظر إليه حينئذ يحرم الأكل« مِنَ الْفَجْرِ »لانفجار الضوء في الأفق ، وذلك الحد هو الفجر الأبيض المستطير ، وهو الأولى من الفجر الأحمر ، والأخذ بالتواتر في ذلك أولى من الأخذ بالخبر الواحد الصحيح ، والقرآن متواتر وهو القائل« حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ »والذي أذهب إليه في الحكم أنه لا يحرم الأكل من حصول الطلوع في نفس الأمر ، لكن ما حصل البيان عند الناظر ، ويحرم الأكل عند تبيّن الفجر وإذا سمع النداء بالفجر الصادق ، إذا كان في البلد من يعلم أنه لا ينادي إلا عند الطلوع الذي تصح به الصلاة ، فإذا سمع المتسحر ذلك وجب عليه الترك ، وقد أجمعوا على أنه يجب على الصائم الإمساك عن المطعوم والمشروب والجماع ، فلا يمنع الأكل طلوع الفجر الأول شرعا ، وفي الفجر الثاني خلاف ، وموضع الإجماع الأحمر ، وسمي الفجر الأول الكذاب لأنه ربما يتوهم صاحب السحور أن الأكل محرم عنده وليس كذلك ، فإن علته ضرب الشمس أو طرح شعاعها على البحر فيأخذ الضوء في الاستطالة ، فإذا ارتفعت ذهب ذلك الضوء المنعكس من البحر إلى الأفق ، فجاءت الظلمة وبرزت الشمس إلينا ، فظهر ضوؤها في الأفق كالطائر الذي فتح جناحيه ، ولهذا سماه مستطيرا ، فلا يزال في زيادة إلى طلوع الشمس ، وسمت العرب الفجر الكاذب ذنب السرحان لأنه ليس في السباع أخبث منه ولا أكثر محالا ، فإنه يظهر


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لما في قلبه من تعظيم اللّه ، وإنما الإنسان تغلب عليه الشهوة في ذلك الأمر ، فيتوجه إلى تحصيله ويذهل عما في فعله من ترك تعظيم واجب حق اللّه فيه ، ويعلم أن له ربا يأخذ بالذنب ويغفر الذنب ، فما خان المؤمن ربه وإنما خان نفسه ، حيث فوتها ما لها من الأجر في الوفاء بالأمانة ، فقال سبحانه لما علم هذا منهم وأنهم خانوا أنفسهم ولم يخونوا ربهم ولا رسوله ، كان هذا القدر شفيعا لهم عند اللّه فأخبر فقال« فَتابَ عَلَيْكُمْ »أي رجع عليكم بتحليل ما كان حرمه عليكم« وَعَفا عَنْكُمْ »يقول : وأذهب عنكم تحريم ذلك ، يقال عفا رسم الدار إذا ذهب أثرها ودرس ، وأتى بالعفو دون غيره لأنه يتضمن إزالة التحريم وعدم المؤاخذة على الخيانة« فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ »يقول : جاء زمان الإباحة فباشروهن كناية عن النكاح ، ولم يذكر الرفث هنا لأنه

ص 272

الضعف ليحقر فيغفل عنه ، فينال مقصوده من الافتراس ، فإن ذنبه يشبه ذنب الكلب ، فيتخيل من لا يعرفه أنه كلب فيأمن منه ، فلا يمنع الفجر الأول من يريد الصوم من الأكل ، فأمر صلّى اللّه عليه وسلم بأكلة السحور وقال : إنها بركة أعطاكم اللّه إياها ، فأكد أمره بها بنهيه أن لا ندعها ، فكما صرح بالأمر بها صرح بالنهي عن تركها ، وأكد في وجوبها فهي سنة مؤكدة ، وعند بعض علماء الشريعة واجبة ، وأكلة السحور أشد في التأكيد من صلاة الوتر في جنس الصلاة ، لما ورد في ذلك من التصريح بالنهي عن تركها« ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ »كلمة إلى هنا تقتضي دخول الحد في المحدود ، وعنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : إذا غابت الشمس من هاهنا وجاء الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم ، فسواء أكل أم لم يأكل فإن الشرع قد أخبر أنه قد أفطر ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : للصائم فرحتان فرحة عند فطره - لأنه غذاء طبيعته - وفرحة عند لقاء ربه ، وهو غذاؤه الحقيقي الذي به بقاؤه ، فإن المغذي هو اللّه تعالى« وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ »فأبقى تحجير الجماع على من هذه حالته ، وكذلك في الأكل والشرب للذي ينوي الوصال في صومه ، يقول صلّى اللّه عليه وسلم : من كان مواصلا


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
صار حلالا ، فذكر من الكنايات ما لا يقبح عند العرب ذكره ، وذكر الرفث أولا لأنه وقع منهم في وقت التحريم ، وهو كناية يقبح ذكرها عند العرب لقربها في استعمالهم من لفظة التصريح الذي هو النيك ، ولهذا قرن هذه اللفظة بالفسوق في الحج فقال : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ )ولم يقل غيرها من الكنايات ، وذلك لما فيها من الإفصاح عن الفعل« وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ »أي واطلبوا وابحثوا عن ما فرض اللّه لكم عن تحليل وتحريم ، فاحكموا فيه بما حكم اللّه ، إن كان حراما فحرام أو حلالا فحلال ، ومن جملة ذلك إباحة الوطء من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ، وكذلك أيضا أباح الأكل والشرب« وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ »الذي هو بياض النهار« مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ »الذي هو سواد الليل« مِنَ الْفَجْرِ »المستطير الممتد عرضا مع الأفق ، وهو انفجار الصبح من الليل كانفجار الماء من الحجر ، فيحرم عليكم عند ذلك ما ذكرت تحليله بالليل لكم« ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ »أي إلى غروب الشمس ، وليس الحد هنا داخلا في المحدود بخلاف قوله : ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ )وقوله : ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )فإن الحد هنالك داخل في المحدود ، وليس الفرق بينهما من اللفظ فإنه على السواء وإنما خرج هذا عن حكم هذا بدليل استفدناه من الشارع ، والألف واللام في الفجر للتعريف بالفجر الثاني المعترض ، فإن الفجر فجران : فجر أول وهو ذنب السرحان ، وهو يأخذ في الطول طالبا كبد السماء ،

ص 273

فليواصل حتى السحر ، وهو اختلاط الضوء والظلمة ، يريد في وقت ظهور ذنب السرحان ما بين الفجرين المستطيل والمستطير ، ويكون الاعتكاف حيث شاء العبد ، إلا أنه إن اعتكف في غير مسجد له مباشرة النساء ، وإن اعتكف في مسجد فليس له مباشرة النساء وإن نوى الاعتكاف في أيام تقام فيها الجمعة فلا يعتكف إلا في مكان يمكن له مع الإقامة فيه أن يقيم الجمعة ، سواء كان في المسجد أو في مكان قريب من المسجد يجوز له إقامة الجمعة فيه ، وللمعتكف أن يفعل جميع أفعال البر التي لا تخرجه عن الإقامة بالموضع الذي أقام فيه ، فإن خرج فليس بمعتكف« تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ »التي أمركم أن تقفوا عندها ، فإنه لولا الحدود ما تميزت المعلومات« فَلا تَقْرَبُوها »لئلا تشرفوا على ما وراءها فتزل قدم ، فربما تزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء« كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ »أي دلائله« لِلنَّاسِ »- إشارة - فيتذكر بها« لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ »يتخذون تلك الدلائل وقاية وجعلها بمعنى الترجي لأنه ما كل من حصل له العلم وفق لاستعمال ما علمه - إشارة - إذا جاء الليل وأفطر العبد علم أنه عبد فقير متغذ ليس له التنزه حقيقة ، وإنما هو أمر عرض له ينبهه على التخلق بأوصاف اللّه من التنزيه عن حكم الطبيعة ، ولهذا أخبرنا تعالى في الحديث المروي : أن الصوم له ، وكل عمل ابن آدم لابن آدم ، يقول : إن التنزه عن الطعام والشراب والنكاح لي لا لك يا عبدي ، لأني


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ثم تعقبه ظلمة ، ثم بعد ذلك يطلع الفجر الثاني ، وهو الحد المشروع ، وفي هذه الآية دليل على جواز النية في صوم رمضان من لدن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، إذ النهار من طلوع الشمس إلى غروبها ، والليل من غروب الشمس إلى طلوعها ، والفجر حد مشروع في منع الأكل والشرب والنكاح للصائم ، فمن نوى في ذلك الوقت فقد بيت ، وأما قول النبي عليه السلام : [ إن بلالا ينادي ليلا فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم ] فهو قولنا : إن الفجر حد مشروع في منع الأكل ، وقوله ليلا ، يقول : إن الليل شديد التمكن إذ لم تبد علامة إقبال النهار ، فالفجر علامة إقبال النهار ، وفي قوله :« أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ »أن الصيام يتم بدخول الليل ، وأن الليل ليس بمحل للصوم سواء أكل أو لم يأكل ، فيندرج فيه أن الوصال وإن جاز فليس بصوم ، وأنه مفطر شرعا وإن لم يأكل ، فله أجر في ذلك من حيث ما هو تارك للأكل ، لا من حيث هو صائم ، ولهذا واصل بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وكان هو يواصل أي يستصحب ترك الأكل ، وقوله :« وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ »قيل نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وعمار

ص 274

القائم بنفسي لا أفتقر في وجودي إلى حافظ يحفظه عليّ ، وأنت تفتقر في وجودك لحافظ يحفظه عليك وهو أنا ، فجعلت لك الغذاء وأفقرتك إليه ، لأنبهك أني أنا الحافظ عليك وجودك ، ليصح عندك افتقارك ، ومع هذا الافتقار طغيت وتجبرت وتكبرت ، وتعاظمت في نفسك وما استحييت في ذلك من فضيحتك بجوعك وعطشك ، لذلك قال تعالى :« تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها »فإذا دخل العبد في نعت الربوبية وهو اللّه ، فقد تعدى حدود اللّه ، وهي الحدود الرسمية لا الحدود الذاتية ، فإنه ليس بأيدينا من الحدود الذاتية شيء ، ولهذا اجترأ العباد عليها وتعدوها ومنها عوقبوا ، كما إذا أدخل الحق صاحب الحد فيما هو له لم يتصف الداخل بالظلم فما استوجب عقوبة ، فلما كان حدا رسميا قبل العبد الدخول فيه ، فإن دخل فيه بنفسه من غير إدخال صاحبه فقد عرض نفسه للعقوبة ، فصاحب الحد بخير النظرين إن شاء عاقب ، وإن شاء عفا ، وإن شاء أثنى ، كالمتصف بالكرم والعفو والصفح ، وهذه كلها حدود رسمية للحق ، لذلك قال :« كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ »فوصفهم بالتقوى إذا لم يتعدوها وجعلوها وقاية لهم ، - إشارة - قوله تعالى :« كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ »كما يحرم على المكلف الأكل عند تبين الفجر ، كذلك يحرم على صاحب الشهود أن يعتقد أن ثم في الوجود غير اللّه فاعلا بل ولا مشهودا ، وما يمسك عنه الصائم هو علم الذوق ، والذوق أول مبادي التجلي الإلهي .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ابن ياسر وأبي عبيدة بن الجراح ، كان أحدهم يعتكف فإذا أراد الغائط رجع من المسجد إلى أهله بالليل فيباشر ويجامع امرأته ثم يغتسل ويرجع إلى المسجد ، فأنزل اللّه هذه الآية وقرنها بشرطين ، الاعتكاف وكونه في المسجد ، فإذا اجتمعا فلا خلاف ، كالربيبة التي في الحجر مع الدخول بالأم ، وإذا انفرد أحد الشرطين لم يلزم الحكم حكم تحريم الجماع للمعتكف في غير المسجد ، وقد قيل بذلك ، فليس للمعتكف في المسجد أن يجامع أهله ليلا ولا نهارا ما دام في هذه العبادة ، وفي هذه الآية دليل على جواز الاعتكاف في المساجد كلها ، فإنه عمّ بلام الجنس ، والاعتكاف الإقامة في المسجد أدنى ما ينطلق عليه اسم إقامة من ليل أو نهار ، بنية القربة والعبادة للّه تعالى ، فمنع المعتكف من المباشرة وما منعه من الأكل والشرب كما منع الصائم ، فدل على جواز الاعتكاف بغير صوم وأنه عمل مستقل ، وقوله :« تِلْكَ »إشارة إلى ما تقدم من ذكر الأحكام كلها من صوم ووصية وقصاص ، يقول : تلك« حُدُودُ اللَّهِ »التي حدها ليوقف عندها ولا تتجاوز ، ثم قال :« فَلا تَقْرَبُوها »مثل قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ الراتع حول الحمى يوشك ]
ص 275

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 188 إلى 189
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 188 ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 189 )
« يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ »سمي الهلال هلالا لارتفاع الأصوات عند رؤيته ، فلا ترفع الأصوات إلا بالرؤية« قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ »الوقت الذي نرى فيه الهلال يحكم علينا ، فإن كان رمضان أثر فينا نية الصوم ، وإن كان هلال فطر أثر فينا نية الفطر ، وإن لم يكن إلا هلال شهر من الشهور أثر فينا العلم بزوال حكم الشهر الذي انقضى وحكم الشهر الذي هو هلاله ، وتختلف أحوال الناس ، فتمتاز الأوقات به لانقضاء الآجال في كل شيء ، من المبايعات والمداينات والأكرية وأفعال الحج ، وقال تعالى في هذه الآية :« هِيَ


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
[ أن يقع فيه ] فإذا لم يقرب المكلف الحد فأحرى أن يتعداه ، فإن الصائم إذا عانق أو قبل أو لمس فقد قرب من الجماع الذي منع منه ، فهذا هو القرب ، ثم قال :«كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ» يظهر الأدلة الواضحة على ما شرعه « لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ »يحذرون الوقوع فيما حرم عليهم ، وقد يكون تقربوها تأتوها وهو الأوجه ، فإن تقبيل الصائم مشروع ، وما قال : [ فلا تقاربوها ] ثم قال :
( 189 )" وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ »يقول :« وَلا تَأْكُلُوا »أي لا يأخذ بعضكم مال بعض بوجه حرّمه اللّه ، وقوله :« وَتُدْلُوا بِها »أي تلقوها« إِلَى الْحُكَّامِ »لمعرفتكم بوجوه المحاكمة والخصومة فيحكم لكم الحاكم على حد ما يسمع فيقضي لك من مال أخيك« وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ »أنكم على الباطل فيما تدعون به ، وذلك على ثلاثة أوجه : إما بحسن الخصام ومعرفته بالجدل حتى يظهر الباطل في صورة الحق ، وإما باليمين ، وإما بشهادة الزور ، وإن كان حاكم سوء فبالرشوة وما في

ص 276

مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ »ولم يقل للحاج ، فأنزل الحج في الآية منزلة الناس ، ما أنزله منزلة الديون والبيوع ، وإن كان المعنى يطلبه ، فعلمنا أن حكم الحج عند اللّه ليس حكم الأشياء التي تعتبر فيها الأهلة ، أعني مواقيت الأهلة ، والحج فعل مضاف مخصوص معيّن يفعله الإنسان كسائر أفعاله في بيوعه ومدايناته ، فاعتنى بذكر هذه الأفعال المخصوصة لأنها أفعال مخصوصة للّه عزّ وجل بالقصد ، ليس للعبد فيها منفعة دنيوية إلا القليل من الرياضة البدنية ، ولهذا تميز حكم الحج عن سائر العبادات في أغلب أحواله وأفعاله في التعليل ، فأكثره تعبد محض لا يعقل له معنى عند الفقهاء ، فكان بذاته عين الحكمة ما وضع لحكمة موجبة ، وفيه أجر لا يكون في غيره من العبادات ، وتجل إلهي لا يكون في غيره من الأعمال ، فالحاج في الحج يجني ثمرة الزمان وما يحوي عليه من المعارف الإلهية المختصة بشهر ذي الحجة ، ويجني ثمرة العدد في المعارف الإلهية ، لأن العدد له حكم فيها ، فالحج هو المعطي ما يحوي عليه من المعارف الإلهية للحاج ، لهذا أضيف الميقات للحج في الهلال وما أضيف للحاج كما أضيف للناس ،« وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى »البر هو


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ضمنها من جاه وخوف من ذي سلطان ، والسبب في نزول هذه الآية أن إمرأ القيس بن عابس الكلبي ، وعبدان الحضرمي اختصما في أرض وكان الطالب عبدان والمطلوب إمرأ القيس ، ولم تكن لعبدان بينة ، فأراد امرؤ القيس أن يحلف فقال النبي عليه السلام : [ إن الذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنا قليلا ] إلى آخر الآية .
فلما سمعها امرؤ القيس كره أن يحلف ولم يخاصمه في أرضه وحكمه فيها ، فقال النبي عليه السلام : [ إنما أنا بشر مثلكم وأنتم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ، فلا يأخذن منه شيئا ، فإنما أقضي له قطعة من النار ] فبكيا وقال كل واحد منهما حقي لصاحبي فقال : [ اذهبا فتوضيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه ] ونزلت الآية« وَلا تَأْكُلُوا »ومعنى« وَتُدْلُوا »ولا تدلوا فجزم أو منصوب بإضمار إن ( 190 )« يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ »الآية ، السائل جماعة منهم معاذ بن جبل وثعلبة ، وهما من الأنصار ، فقالوا : [ يا رسول اللّه ما بال الهلال يبدو مثل الخيط ، ثم ينمو حتى يمتلي ، ثم ينقص حتى يعود كما بدأ ] فأنزل اللّه« يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ »ثم قال له :« قُلْ »لهم« هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ »فسماها أهلة ولم يقل هلال ، فإن للهلال في كل ليلة حالة من نقص أو زيادة ليس لليلة الأخرى ، فهلال الليلة ما هو هلال الليلة التي قبلها ولا التي بعدها ، فإن الذي به سمي هلال هذه الليلة على الاختصاص إنما هو لأجل الزائد ، أو

ص 277

الإحسان ، والإحسان مشاهدة أو كالمشاهدة ، فإنه قال صلّى اللّه عليه وسلم في تفسير الإحسان : أن تعبد اللّه كأنك تراه« وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »قوله :« اتَّقُوا اللَّهَ »أي اتخذوه وقاية من كل ما تحذرون ، ومسمى اللّه يتضمن كل اسم إلهي ، فينبغي أن يتقى منه ويتخذ وقاية ، فإنه ما من اسم من الأسماء الإلهية للكون به تعلق إلا ويمكن أن يتقى منه وبه ، إما خوفا من فراقه إن كان من أسماء اللطف ، أو خوفا من نزوله إن كان من أسماء القهر ، فما يتقى إلا حكم أسمائه ، وما تتقى أسماؤه إلا بأسمائه ، والاسم الذي يجمعها هو اللّه فأمرنا بتقوى اللّه ، أي نتخذه وقاية ونتقيه لما فيه من التقابل ، وهو مثل قوله صلّى اللّه عليه وسلم في الاستعاذة منه به فقال :
[ وأعوذ بك منك ] ومقام التقوى ، تقوى اللّه مكتسب للعبد ، ولهذا أمر به ، وهكذا كل مأمور به فهو مقام مكتسب ، ولما كان المعنى في التقوى أن تتخذ وقاية مما ينسب إلى المتقى ، فإذا جاءت النسبة حالت الوقاية بينها وبين المتقي أن تصل إليه فتؤذيه ، فتلقتها الوقاية ، لذلك يحتاج إلى ميزان قوي لأمور عوارض عرضت للنسبة ، تسمى مذمومة ، فيقبلها العبد ولا يجعل اللّه وقاية أدبا ، وإن كان لا يتلقاها إلا اللّه في نفس الأمر ، ولكن الأدب مشروع للعبد في ذلك ، ولا تضره هذه الدعوى لأنها صورة لا حقيقة ، وإذا علم اللّه ذلك منك جازاك جزاء من رد الأمور إليه ، وعوّل في كل حال عليه ، وسكن تحت مجاري الأقدار ، وتفرج فيما يحدث اللّه في أولاد الليل والنهار .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ما بقي بعد النقص ، وإنما سموه هلالا بالحالة التي تكون من المرتقبين له في أول الشهر فيهلون عند رؤية أول الشهر ، أي يرفعون أصواتهم تعريفا بأنه قد ظهر ، والإهلال رفع الصوت فبه سمي هلالا ، فقال اللّه : جعلت ذلك« مَواقِيتُ »أي أوقات« لِلنَّاسِ »في فطرهم وصومهم ، وتأجيل ديونهم ، وصلحهم مع الكفار ، وكل فعل يضرب له أجل كالمطلقات والحيض« وَالْحَجِّ »وخص الحج بالذكر وإن كان داخلا في قوله :« مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ »فإن الحج لهذا البيت ليس من خصوص الناس بل تحجه الملائكة وغيرهم ممن ليس لهم أحكام البشر التي ذكرناها ، من المداينات والمصالحات ، والأهلة مواقيت لهم في ذلك ، ثم شرع فيما يتعلق بالحج فقال :« وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ »الآية ، مثل هذه الأسباب ينبغي أن تذكر حتى يعرف ما معنى دخول البيت من ظهره أو كيف يدخل منه ، فاعلم أن سبب نزول هذه الآية أن الأنصار كانت في الجاهلية والإسلام إذا أحرم أحدهم بالحج أو العمرة وكان من أهل المدر وهو مقيم في أهله لم يدخل منزله

ص 278
.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "190 - 197" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:40 am

تفسير آلآيات من "190 - 197" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلمات الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 190 إلى 194
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 190 ) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ( 191 ) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 192 ) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ( 193 ) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( 194 )
لما أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلم بتبليغ رسالات ربه إلى عباده ، لم يشرع له أن يبدأ بالقتال ، والمشروع له وللمؤمنين أن يبدءوا بدعائهم إلى الإسلام ، فإن أجابوا كففنا عنهم ، وإن لم يجيبوا فلا


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
من قبل الباب ، وكان يوضع له سلم إلى ظهر البيت فيرقى فيه وينحدر منه إلى بيته ، أو يتسور من الجدار ، أو يثقب ثقبا في ظهر بيته فيدخل منه ويخرج حتى يتوجه إلى مكة محرما ، وإن كان من الوبر دخل وخرج من وراء بيته ، وإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم دخل يوما نخلا لبني النجار ودخل معه قطبة بن عامر الأنصاري من بني سلمة من جشم من قبل الجدار وهو محرم ، فلما خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم من الباب وهو محرم خرج قطبة من الباب ، فقال رجل هذا قطبة خرج من الباب وهو محرم ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : ما حملك أن تخرج من الباب وأنت محرم ؟ فقال : يا نبي اللّه رأيتك خرجت من الباب وأنت محرم فخرجت معك ، وديني دينك ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : خرجت لأني من الحمس ، فقال قطبة للنبي صلّى اللّه عليه وسلم : إن كنت بأحمس فأنا أحمس ، وقد رضيت بهداك ودينك واستننت بسنتك ، فأنزل اللّه في قول قطبة بن عامر للنبي صلّى اللّه عليه وسلم :« وَلَيْسَ الْبِرُّ »أي ليس من البر المشروع ولا المعقول« بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى »أي تقوى اللّه ،


ص 279

يخلو إما أن يكونوا أهل كتاب أو لا يكونوا ، وإن كانوا أهل كتاب وجنحوا للسلم الذي هو الصلح عرضنا عليهم أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فإن أبوا أو لم يكونوا أهل كتاب قاتلناهم ، فلهذا قال :« وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ »أي لا تبدءوهم بقتال قبل الدعوة وقبل عرض الجزية إن كانوا أهل كتاب ، ويدخل أيضا في هذا الخطاب من قاتلنا


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وأقام الموصوف بها مقامها به ، أو يكون ولكن البر بر من اتقى ، وقد تقدم الكلام عليه في( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا )« وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها »فحصل من الفائدة في هذه المسألة أن الإنسان أولا كان إذا دخل من باب بيته أتى مباحا أو محظورا ، والآن قد اقترن به الأمر ، فيكون في إتيان المحرم إلى بيته من الباب عن أمر الشرع مأجورا وإن كان مباحا ، فإنه ما أتاه إلا لأمر الشارع لا لهوى نفسه ، وكل مباح إذا اقترن مع فاعله فعله لكون الشارع أباحه له كان له من الأجر ما يقابل حرمة القصد في ذلك لا لعين الفعل ، وهو قوله : ( وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ )فالمباح من ذلك إذا كان فعله له لإباحته ، ثم قال :« وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »قد تقدم الكلام في أول سورة البقرة على التقوى والفلاح ثم قال : ( 191 )« وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ »الآيات ، يقول :« وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ »لما أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلم بتبليغ رسالات ربه إلى عباده لم يشرع له أن يبدأ بقتال ، والمشروع له وللمؤمنين أن يبدءوا بدعائهم إلى الإسلام ، فإن أجابوا كففنا عنهم ، وإن لم يجيبوا فلا يخلو إما أن يكونوا أهل الكتاب أو لا يكونوا ، وإن كانوا أهل كتاب وجنحوا إلى السلم الذي هو الصلح عرضنا عليهم أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فإن أبوا أو لم يكونوا أهل كتاب قاتلناهم ، فلهذا قال :« وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ »أي لا تبدءوهم بقتال قبل الدعوة وقبل عرض الجزية إن كانوا أهل كتاب ، ويدخل أيضا في هذا الخطاب من قاتلنا في الحرم الذي يحرم القتال فيه« وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ »أي لا تتجاوزوا ما حددنا لكم من النهي عن قتل الرهبان والنساء والصبيان ، وكل من انحجز عن قتالكم من الرجال ، ولكن هذا في الحرم خاصة ، وأما في غير الحرم فنحن مأمورون بقتال المشركين كافة ، فلا يغنيهم كونهم انحجزوا عنهم ، فلا نقاتل في الحرم إلا من باشر القتال ، ومن هنا صوّب من صوب قتال ابن الزبير للحجاج ، فإن الحجاج قصده وقاتله لكونه ثبتت خلافته عنده ، ومن صوب قتال الحجاج لابن الزبير لم تصح عنده خلافة ابن الزبير ورآه خارجا على الإمام ، ومن خرج على الإمام فقد عصى والحرم لا يعين عاصيا عند من يرى ذلك ، فقاتله الحجاج بحق في الحرم ، ولم يكن لابن الزبير أن يقاتله في الحرم ولا في غير الحرم ( 192 )« وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ »يقول : واقتلوهم

ص 280

في الحرم الذي يحرم القتال فيه« وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ »أي لا تتجاوزوا ما حددنا لكم من النهي عن قتل الرهبان والنساء والصبيان وكل من انحجز عن قتالكم من الرجال ، لكن هذا في الحرم خاصة ، وأما في غير الحرم فنحن مأمورون بقتال المشركين كافة فلا يغنيهم كونهم انحجزوا عنهم ، فلا نقاتل في الحرم إلا من باشر القتال ، ووقع النهي


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
حيث ثقفتموهم أي وجدتموهم على طريق القهر والغلبة ، يقال في اللسان رجل ثقف إذا كان سريع الأخذ لأقرانه ، وإذا كان على هذا ، فلا يكون قتالهم على وجه الأخذ والغلبة إلا بعد المنع مما دعوناهم إليه ، أو ابتداء القتال منهم ، ثم قال :« وَأَخْرِجُوهُمْ »خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلم والمؤمنين« مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ »يعني مكة ، وهو قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم لورقة بن نوفل حين أخبره أن قومه يخرجونه ، قال : أو مخرجي هم ؟ قال : نعم ، فقال اللّه له :« وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ، وَالْفِتْنَةُ »أي الابتلاء بالصد عن المسجد الحرام وبمفارقة الأوطان ، والخروج من الديار مع وجود الحياة وتجدد الآلام في كل وقت لذلك« أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ »فإن القتل إنما هو ساعة وينتقل فيستريح من عذاب مفارقة الوطن عن كره لشغله بما يصير إليه من خير أو شر ، وإن أراد بالفتنة الكفر باللّه والشرك ، فنقول : والشرك باللّه في الحرم أشد من القتل بلا شك ، ثم قال :« وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ »أي لا تبدءوهم بقتال كما ذكرنا قبل ، وقد يفهم من هذا ما ذهب إليه عطاء بن أبي رباح أن الحرم كله مسجد ، فإن النهي إنما وقع عن القتال في الحرم ، وهذا الخطاب عام إلى يوم القيامة ، ثم قال :« فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ »أي فإن قاتلوكم فيه يعني في الحرم ، فهنا لا يسوغ إلا قتال من قاتل منهم لا قتال من انحجز عنهم ولم يقاتل لحرمة الحرم ، وكذلك في غير الحرم لو انحجز من المحاربين طائفة ولم تقاتل وطلبت السلم منا وأخرجوا أيديهم عن طاعة من قاتلنا منهم لغير خداع فلنا أن نسالم تلك الطائفة ، ثم قال :« كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ »فجعل قتالنا لمن قاتلنا جزاء ، والجزاء لا يكون ابتداء ، ففيه تأكيد أن لا نبدأ بقتال كما أشرنا ، والكاف في كذلك إن شئت جعلتها زائدة ، وإن شئت كانت صفة ، أي مثل ذلك يكون أيضا جزاء الكافرين من أهل الكتاب إذا قاتلوكم وكل من قاتلكم ممن ليس بمشرك لما كانت الآية نزلت في حرب أهل الأوثان الذين ليسوا أهل كتاب ، فأراد اللّه تعريفنا بأن ذلك جزاء كل كافر شرعا ، ثم قال : ( 193 )« فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »أي فإن انتهوا عن قتالكم في الحرم أو عن الشرك والكفر ، فإن اللّه يغفر لهم ما وقع منهم من الإثم والعدوان في أيام كفرهم« رَحِيمٌ »بكم وبهم حيث قرر لهم أن يسلموا على ما أسلفوا من خير ولم يحبط لهم ما كانوا عليه في الكفر من العتق والبر ومكارم الأخلاق ، وإن تمادوا على غيهم ولم ينتهوا قال :

ص 281


عن القتال في الحرم ، وهذا الخطاب عام إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى :« فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ »أي فإن قاتلوكم فيه يعني في الحرم فهنا لا يسوغ إلا قتال من قاتل منهم ، لا من انحجز عنهم ولم يقاتل لحرمة الحرم ، وكذلك في غير الحرم ، لو انحجز من المحاربين طائفة


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
( 194 )« وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ »أي حتى لا يبقى كفر ولا يبقى كافر في قوة تكون منه فتنة ، أي محنة وبلاء للمؤمنين« وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ »إما بزوال الكفر رأسا ، وإما بإعلاء كلمة اللّه على كلمة الكفر بأن يكونوا تحت ذمة المسلمين إن كانوا من أهل الكتاب ، وأما المشركون من عبدة الأوثان فليس إلا الإسلام أو القتل« فَإِنِ انْتَهَوْا »أيضا« فَلا عُدْوانَ »أي فلا تعتدوا« إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ »إن اعتدوا عليكم مثل قوله : ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها )فسمى جزاء الظالم ظلما ، كأنه عين الظلم الذي فعله عاد عليه ، مثل قوله : [ إنما هي أعمالكم ترد عليكم ] ثم قال :
( 195 )« الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ »نزلت هذه الآية في عمرة القضاء ، وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عام الحديبية جاء معتمرا والمؤمنين معه ، فصدهم المشركون عن المسجد الحرام والوصول إليه ، وكان في الشهر الحرام الذي هو ذي القعدة ، وما كان لهم أن يصدوه في هذا الشهر ، فلما كان في العام القابل جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لعمرة القضاء الذي صدّ عن إتمامها عام أول في هذا الشهر ، وكان المشركون قد عاهدوه على أن يخلوا بينه وبين الكعبة ثلاثة أيام في العام الآتي ، وخاف المسلمون أن لا يفي المشركون بعهدهم فتأهبوا لقتالهم إن صدوهم ، فلما جاءوا أيضا في ذي القعدة خلوا بينهم وبين الكعبة على الشرط المعروف المذكور ، فأقاموا ثلاثة أيام ثم خرجوا ، وكان اللّه قد أنزل عليهم« الشَّهْرُ الْحَرامُ »الذي قضيتم فيه عمرتكم« بِالشَّهْرِ الْحَرامِ »الذي صدوكم فيه عن تمام العمرة« وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ »أي من انتهك حرمة انتهكت حرمته ، فإن دخول المسلمين في عمرة القضاء الحرم كان من أشق شيء على المشركين ، وقال اللّه لنبيه والمؤمنين :« فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ »فقاتلكم أو آذاكم« فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ »من غير زيادة« وَاتَّقُوا اللَّهَ »في الابتداء بالتعدي أو بمجاوزة المثل في القصاص فيمن اعتدى عليكم« وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ »بالنصر والكلاءة ، في هذه الآية دليل لمن يرى أن يعتدي من اعتدي عليه بمثل ما اعتدي عليه في مال وغير ذلك من غير حكم حاكم ولا ارتفاع إليه ، وهو مذهب ابن عباس ، ومنع غيره من ذلك وقال له : ليس له أن يتعدى عليه ويرفعه إلى الحاكم ، ويكون معنى قوله :« فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ »بعد حكم الحاكم لا تتجاوزوا القدر الذي اعتدى عليكم فيه إذا مكنتم من القصاص ، وكلا الوجهين سائغ في الآية ، والأول أقوى والثاني أحوط ، وفي عمرة القضاء التي نزلت فيها هذا الآية أنّ الشروع في نوافل العبادات ملزم ، قال تعالى : ( وَلا تُبْطِلُوا

ص 282



ولم تقاتل وطلبوا السلم منّا وأخرجوا أيديهم من طاعة من قاتلنا منهم لغير خداع فلنا أن نسالم تلك الطائفة .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 195
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ »وهو هنا البخل« وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (195) .
المحسنون بما أشهدهم من كبريائه


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أَعْمالَكُمْ )وفيها قضاء نوافل العبادات ، وفيه أنه من صدّ عن عبادة شرع فيها فله أجر الصد وما له أجر العمل ، إذ لو كان له أجر العمل - وفائدة العمل حصول الثواب - وقد حصل ، فكان إذا شرع في وقت آخر في مثل ذلك العمل لا يكون قضاء ، وإنما يكون ابتداء عمل آخر مشابه للعمل الذي صدّ عنه ، ولا كان يسمى ذلك عمرة القضاء ، هذا إن كان النقل عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم هذه التسمية ، وإن لم تكن منه فهذه عمرة أخرى ، وتلك العمرة التي صد عن إتمامها حصل له أجرها وكان محله حيث حبس ، ولهذا شرع للمحرم أن يقول : إن محلي حيث حبستني ، وإذا لم يقل ذلك عندنا وحبس عن تمام حجه أو عمرته فعليه دم على تركه هذا القول ، فإنه السنة ، والدماء في الحج لترك السنن ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلم قد قضى الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الظهر بعد العصر ، وأخبر أنهما تلك الركعتان ، فقضاهما وما كان قد شرع فيهما ، وإنما جاء الوفد فشغله قبل الشروع فيهما ، فكان قضاء لخروج الوقت الذي كان التزم أن يصليهما فيه دائما ، ثم قال :
( 196 )« وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ »الآية ، يقال أهلك فلان نفسه بيده ، فالمعنى ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة ، وقد تكون الباء زائدة ، والمعنى ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة ، أي إذا دعاكم ما يكون فيه هلاككم لا تلقوا بأيديكم إليه ، أي لا تنقادوا ولا تسمعوا له ، يحتمل سبيل اللّه هنا طرق البر كلها ، ويحتمل الجهاد خاصة ، وإن كان نزولها في الجهاد لما آثرت الأنصار الإقامة في أهلها وإصلاح أموالها وترك الجهاد حين فشا الإسلام وكثر ، ولكن سبيل اللّه كثيرة ، فالعدول إلى التخصيص تحكم أنه المقصود بالآية ، والتهلكة هنا يحتمل أمران : الواحد البخل ، والآخر التبذير ، فكأنه يريد الاقتصاد في النفقة حتى لا يقعد ملوما محسورا ، ولا يترك أولاده عالة يتكففون الناس ، وهذا يبنى على قدر الأوقات ، فقد يحسن في وقت بل يجب إخراج المال كله


ص 283

سورة البقرة ( 2 ) : آية 196
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ( 196 )
« وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ »وهو إتيانهما على الكمال ، وتمامهما إتيانهما كما شرعتا ، والعمرة بلا شك تنقص عن أفعال الحج ، وكمالها إتيانها كما شرعت ،« فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ »المحصر هو الممنوع عن الحج أو العمرة بأي نوع كان من المنع ، بمرض أو بعدو أو غير ذلك ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لإقامة الدين والمصلحة ، وقد يحسن في وقت الاقتصاد في النفقة وترجيح إبقاء البعض من المال ، فقال تعالى :« وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ »أي أخرجوا ما رزقكم اللّه وجعلكم مستخلفين فيه في سبيل اللّه ، أي في الطريق التي فرض اللّه عليكم ، أو ندبكم أن تخرجوا فيها الأموال ، وإذا أمر الإنسان أن يبذل نفسه التي هي أشرف من ماله ويهلكها في سبيل اللّه فالمال أحرى وأولى« وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ »يقول : إلى البخل بذلك ، فإن فيه الهلاك ، أو يقول :« وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ »بأن تنفقوها مبذرين ، والتبذير الإنفاق في غير طاعة اللّه ، وهو الإسراف وقد يكون الإنفاق في غير الأولى ، وهو أن يتعرض له سبيلان إلى الخير ، وأحدهما آكد في الدين من الآخر وأعظم وللشرع به عناية ، غير أن نفس هذا المكلّف صاحب المال له غرض نفسي في السبيل الآخر الذي هو دون الآخر في عناية الشرع به ، فينفق فيه ويترك الأولى ، فيكون ممن ألقى بيده إلى التهلكة ، حيث اختار ما لم يختر له الحق ، ولا سيما واللّه يقول : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ )فأثبت هذا العبد لنفسه ما نفاه الحق عنه ، ثم قال :« وَأَحْسِنُوا »في النفقة ، وهذا يؤيد ما ذكرناه ، وهو أن الإحسان أن تعبد

ص 284


والمحصر يحل من عمرته وحجه حين أحصر ، فإن كان المحرم قال حين أحرم إن محلي حيث تحبسني كما أمر ، فلا هدي عليه ، ويحل حيث أحصر ، وإن لم يقل ذلك وما في معناه فعليه الهدي ، وإن كان مع المحصر هدي تطوع نحره حيث أحل ، ولا إعادة على المحصر في حج التطوع وعمرته إن كان عليه في ذلك حرج ، فإن لم يكن عليه فيه حرج فليعد ، وأما الفريضة فلا تسقط عنه إلا إن مات قبل الإعادة فيقبلها اللّه له عن فريضته ، وإن لم يحصل منه إلا ركن الإحرام ، بل ولو لم يحصل منه إلا القصد والتعمل ، وما أوقع الخلاف بين العلماء في الإحصار إلا فهمهم في اللسان ، لأنه جاء في الآية بالوزن الرباعي ، ونقل أنه يقال : حصره المرض وأحصره العدو ، وقوله تعالى :« أُحْصِرْتُمْ »هو من أحصر لا من حصر ، يقال :
فعل به كذا إذا أوقع به الفعل ، فإذا عرضه لوقوع الفعل يقال فيه أفعل ، وفي اللسان أحصره المرض وحصره العدو بغير ألف ، فهو في المرض من الفعل الرباعي ، وفي العدو من الفعل الثلاثي« فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ، فَمَنْ كانَ


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
اللّه في هذه النفقة كأنك تراه ، وإذا كنت بهذه المثابة فمن المحال أن ترجح إلا ما رجح اللّه من النفقة في إحدى السبيلين ، ويختار ما اختاره وقال :« إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ »يقول : الذين يعبدونه على المشاهدة ، لأن جميع الخيرات وإيثار جناب الحق تستلزم الإحسان في العبادة ، ثم قال :
( 197 )« وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ »الآيات ، في هذه الآية دليل على أن الشروع ملزم ، وأن الإنسان إذا شرع في عبادة من تطوع أو واجبة عليه ، لزمه إتمامها على حد ما شرعها اللّه ، إما في كتابه أو على لسان رسوله المبلغ عنه والمبين ، كما شرع فيمن أحرم بالحج وليس له هدي أن يرد حجه عمرة ولا بد ، أو المرأة تحرم بعمرة فتحيض وتعرف أن حيضتها تكون معها في أيام الحج فترفض عمرتها وتحرم بالحج ، فإذا قضت الحج طافت بالبيت وقضت مكان عمرتها عمرة ، فقوله :« وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ »معرى عن الموانع ، وليس في هذه الآية دليل على وجوب الحج والعمرة على هذه القراءة ، وإنما ورد الأمر بالإتمام لمن دخل فيهما أو في أحدهما على الشرط المعتبر المشروع ، ولما قرن الحق بينهما في الإتمام وما أفرد للعمرة لفظا ثانيا من هذا الفعل ، يستروح منه ترجيح القران على الإفراد ، والكل جائز وإنما يقع الخلاف إما في الأفضل في ذلك ، وإما فيما فعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من ذلك ، هل كان قارنا أو حاجا ؟ وأما قوله :« لِلَّهِ »يريد الإخلاص في العبادة للّه( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ )لا يشوبه شيء من عمل لأجل ثواب أو خوف عقاب ، وإنما يقصد بذلك امتثال أمر اللّه إن كان واجبا ، أو إتيان ما رغب اللّه في إتيانه

ص 285


مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ »الفدية واجبة على من أماط الأذى من ضرورة ، ومن أماط الأذى من غير ضرورة عليه دم ، فإنه غير متأذ في نفسه ، أي أنه ليس بذي ألم لذلك ، ولذلك جعل محل الأذى الرأس المحس به وما جعله الشعر ، فما ثم ضرورة توجب الحلق ، ولا فدية على من أماط الأذى ناسيا ، والناسي هنا هو الناسي لإحرامه ، والفدية هنا على التخيير ، صيام ثلاثة أيام ، أو صدقة إطعام ست مساكين نصف صاع لكل مسكين ، أو نسك شاة« فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ »أوجب اللّه على المتمتع بالعمرة وهي الحج الأصغر أن يقدم الهدي إما نسيكة على ما تيسر ، وإما صوما لمن قصده بتلك الزيارة ، فهي الهدية له فإن الصوم له وهو الذي نزل عليه الحاج ، فلذلك كان الصوم هدية لأنه يستحقها ، بل هي أليق به من الهدي ، فإنه لا يناله من الهدي إلا التقوى خاصة من المهدي ، والصوم كله هو له فهو أعظم من الهدية ، والهدية من القادم للذي قدم عليه معتادة ، وإنما جعل اللّه الصوم لمن لم يجد هديا لأن الهدي ينال الحق منه التقوى ، وينال العبد منه ما يكون له به التغذي وقوام نشأته ، فراعى سبحانه منفعة العبد مع ما للحق فيه من نصيب التقوى مع الوجود ، فقال تعالى :« فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ »فإذا لم يجد رفق به سبحانه فأوجب عليه الصوم ، إذ كان الصوم له فأقامه مقام الهدية ، بل هو أسنى ، وقنع الحق بثلاثة أيام


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
إن كان تطوعا ، ثم قال :« فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ »يقول : فإن منعكم مانع من إتمام الحج وحبسكم حابس عنه بعد إحرامكم من عدو أو مرض أو ما كان ، قال تعالى : ( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ )فالظاهر أن الفقر أحصرهم عن الضرب في الأرض ، وهذا هو أوجه عموم الموانع ، على أن الناس اختلفوا كثيرا في هذا الإحصار المذكور في هذه الآية ، فما من نوع من أنواع المنع إلا وقد قال به قائل ، فلا فائدة في إيراده ، إذ قد أدخلناه في قولنا : [ أو ما كان ] وإذا كان ذلك كذلك ، فنقول إن المحصر بالعدو اتفق الأكثرون على أنه يحل من عمرته أو حجه حين أحصر ، وقالت طائفة منهم الثوري لا يتحلل إلا يوم النحر ، فأما القائلون بتحلله حين أحصر اختلفوا في إيجاب الهدي ، فمنهم من منع وقال لا يجب عليه هدي ، وإن كان معه هدي نحره حيث أحل وهو قول مالك ، وقال غيره بوجوب الهدي عليه وأن ينحره حيثما أحل ، وقال أبو حنيفة يذبحه بالحرم ، وأما إعادة

ص 286


في الحج رفقا به ، حتى يكون قد أتى إليه بشيء ، فيفرح القادم بتلك التقدمة التي قدمها لربه في هذا القدوم ، وأخّر السبعة إذا رجع إلى أهله ، فهناك يأخذها منه ، والقارن عندنا أن يهلّ بالعمرة والحج معا ، فإذا أهلّ بالعمرة ثم بعد ذلك أهلّ بالحج فهو مردف وهو قارن أيضا ، ولكن بحكم الاستدراك ، فمن جمع بين العمرة والحج في إحرام واحد فهو قران ، سواء قرن بالإنشاء أو بعده بزمان ما لم يطف بالبيت ، وذلك كله إن ساق الهدي ، فإن لم يسق معه هديا وجب عليه الفسخ ولا بد ، والقارن للعمرة والحج يطوف لها طوافا واحدا وسعيا واحدا وحلقا واحدا أو تقصيرا ، والهدي يجزئ ولو أهدى دجاجة ، وأجمعوا على أن الكفارة على الترتيب ، فلا يكون الصيام إلا بعد أن لا يجد هديا ، وإذا شرع في الصيام فقد انتقل واجبه إلى الصوم وإن وجد الهدي في أثناء الصوم ، وصيام الثلاثة أيام ما لم ينقض شهر ذي الحجة ، وأما السبعة الأيام فإذا صامها في الطريق أجزأته ، واتفق العلماء على أنه


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ما أحصر عنه فقال قوم لا إعادة عليه ، وقال آخرون عليه الإعادة ، وقال بعضهم إن كان أحرم بالحج فعليه حجة وعمرة ، وإن كان قارنا فعليه حجة وعمرتان ، وإن كان معتمرا قضى عمرته ، وهل يقصر المحلل بالإحصار أم لا ؟ فيه خلاف ، وقد ثبت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حلق رأسه حين صدّ ، وأما المحصر بالمرض فذهبت طائفة إلى أنه يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويتحلل بعمرة ، لأن الحج إذا فاته بطول المرض ينقلب عمرة ، وهو قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما ، وقال العراقيون حكمه حكم المحصر بالعدو يحل مكانه ، ويرسل هديه ويقدر يوم النحر ويحل في ذلك اليوم ، وبه يقول عبد اللّه بن مسعود ، وقال داود وأبو ثور لا هدي عليه ، واتفقوا على إيجاب القضاء عليه ، وأما من فاته الحج بغير مانع مرض أو عدو من الأسباب الموجبة لفوات الحج كالخطأ في رؤية الهلال أو عدد الأيام ، فحكمه عند بعضهم حكم المحصر بالمرض ، وقال بعضهم من فاته الحج بعذر غير المرض يحلل بعمرة ولا هدي عليه ، وعليه إعادة الحج والاستقصاء في هذه المسألة عندي لا يكون إلا بالجمع بين الكتاب والسنة ، وذلك أن المحصر الذي منعه مانع فوته الحج إما أن يكون قادرا على الوصول إلى البيت أو غير قادر ، فإن كان متمكنا من الوصول إلى البيت فليس له أن يحل ولا ينحر هديه حتى يطوف بالبيت ويسعى ، وإن كان غير متمكن أحل في موضعه ، فإن كان له هدي ساقه معه نحره ، وليس عليه استئناف هدي آخر ، لحديث مالك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي ، ثم لم يعلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أمر أحدا


ص 287

إن صامها في أهله أجزأته« تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ »النصوص عزيزة وهو النص الصريح في الحكم والأمر الجلي ، فإن المتواتر وإن أفاد العلم فإن العلم المستفاد من التواتر إنما هو عين هذا اللفظ ، أو العلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قاله أو عمله ، ومطلوبنا بالعلم ما يفهم من ذلك القول والعمل حتى يحكم في المسألة على القطع ، وهذا لا يوصل إليه إلا بالنص الصريح المتواتر ، وهذا لا يوجد إلا نادرا ، مثل قوله تعالى :« تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ »في كونها عشرة خاصة ، فإن المنصوص والمحكم لا إشكال فيه ولا تأويل ، والألفاظ الظاهرة تحتمل معاني متعددة ما يعرف الناظر قصد المتكلم بها منها ،« ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ »يريد بذلك إجازة الصوم في أيام التشريق من أجل رجوعه إلى بلده ، لا أن المكي ليس بمتمتع ، واتفق على أنه ليس على المكي دم ، والآية محتملة ، وحاضري المسجد الحرام هم ساكنوا


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء ، والحديبية موضع خارج عن الحرم فإن لم يكن معه هدي فيجب عليه أن يشتري هديا لقوله تعالى :« فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ »فإن تمكن له إرسال الهدي إلى الحرم لينحر هنالك ، فإن شاء أرسله وهو الأولى ، لحديث ناجية بن جندب الأسلمي : أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعث معه الهدي حين صد حتى نحره في الحرم ، أخرجه النسائي ، وهل يقدر له فلا يحل حتى ينحر ؟ ليس عندنا نص في ذلك ، فإن أقام على إحرامه حتى يصل الهدي إلى الحرم فبقوله تعالى :« وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ »وإن لم يقم فبحديث مالك الذي ذكرناه آنفا ، وإن لم يتمكن له إرسال الهدي نحره حيث صد وأحل بحديث مالك ، ولا قضاء عليه فيما صد عنه وأحصر ، ولا في هديه ، في هذا الحديث ، فإن ترجح عنده حديث الحجاج بن عمرو : أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : [ من عرج أو كسر - زاد أبو داود - أو مرض فقد حل وعليه حجة أخرى ] وقال أبو داود في حديثه عليه الحج من قابل ، وفيه عن ابن عباس وأبي هريرة ، خرج هذا الحديث النسائي ، فإن أضاف إلى قضاء ما حصر عنه قضاء الهدي فبحديث أبي داود عن ابن عباس :
أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أمر أصحابه أن يبذلوا الهدي الذي ذكره عام الحديبية في عمرة القضاء ، وإن لم يقض شيئا من هذا كله فبحكم الأصل ، إذ القضاء يفتقر إلى أمر من الشارع ، كما يفتقر الأداء ، ولا سيما وقد ورد في حديث مسلم عن عائشة قالت : دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها : أردت الحج ؟ قالت : واللّه ما أجدني إلا وجعة ، فقال لها : حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني ، وقال الترمذي قولي : لبيك اللهم لبيك ، محلي من الأرض

ص 288

الحرم مما رد الأعلام إلى البيت ، فإنه من لم يكن فيه فليس بحاضر بلا شك ، فلو قال تعالى في حاضر المسجد الحرام كنا نقول بما جاور الحرم ، لأن حاضر البلد ربضه إلى الخارج عن سوره ، امتد في المساحة ما امتد ، وإنما علق سبحانه ما ذكره بحاضري المسجد الحرام وهم الساكنون فيه ، ومعنى التمتع تحلل المحرم بين النسكين العمرة والحج ، وهذا عندي ما يكون إلا لمن لم يسق الهدي ، فإن ساق الهدي وأحرم قارنا فإنه متمتع من غير إحلال ، فإنه ليس له أن يحل حتى يبلغ الهدي محله ، فقوله تعالى :« فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ »أي المتمتع يلزمه حكم الهدي ، فإن كان له هدي وهو بحالة الإفراد بالعمرة أو القران ، فذلك الهدي كافيه ولا يلزمه هدي ولا يفسخ جملة واحدة ، وإن أفرد بالحج ومعه هدي فلا فسخ ، فقوله :« إِلَى »هنا بمعنى مع ، ولهذا يدخل القارن في قوله :« فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ »أي مع الحج ، فتعم المفرد والقارن ، وأما من نوى الحج وليس معه هدي فواجب عليه الفسخ وأن يحوّل النية إلى العمرة ، ويحل ثم ينشئ الحج ، ثم قال تعالى :« وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ » .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
حيث تحبسني ، زاد النسائي ، فإن لك على ربك ما استثنيت ، وليس في شيء من هذه الروايات الأمر بالقضاء في شيء ، لا فيما حصر عنه ولا في الهدي ، فمن ثبت عنده ما ذكرناه من أحاديث القضاء فهي زيادة حكم يجب العمل به ، ومن لم يثبت عنده ذلك خيرناه ، فإن شاء قضى وإن شاء لم يقض ، ثم قال :« فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ »فإن حلق رأسه المحرم لأذى قام به من مرض وغيره« فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ »ثم عيّن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قدر الفداء من كل ما وقع فيه التخيير ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم لكعب بن عجرة حين أمره بحلق رأسه وهو محرم : إن شئت فأطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام ، أو صم ثلاثة أيام ، أو اذبح شاة ، وهو مخير أن يحلق قبل الفداء أو بعده ، ثم قال :« فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ »الأظهر في هذه الآية أنها في المتمتع الحقيقي ، فيكون معناه وإذا لم تكونوا خائفين فتمتعتم بالعمرة إلى الحج« فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ »قال بعض شيوخنا ويدل على صحة هذا التأويل قوله سبحانه : ( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ )والمحصر يستوي فيه حاضر المسجد الحرام وغيره ، قلنا : فإذا أمنتم الموانع وقد فات الحج وسواء كان عن إحصار أو غير إحصار أحل بعمرة بلا شك ، فإن حج من سنته تلك كان متمتعا فوجب عليه هدي التمتع ، وإن لم يحج من

ص 289



سورة البقرة ( 2 ) : آية 197    
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ ( 197 )
الأشهر المعلومات في الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة عندنا ، وأما العمرة ففي أي وقت شاء من السنة ، ولا كراهة في تكرارها في السنة الواحدة« الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

سنته فلا هدي عليه وليس بمتمتع ، [ وهدي التمتع ] « * » إما بدنة أو بقرة ، وفي الشاة خلاف ، وأما النسك فبأي شيء كان« فَمَنْ لَمْ يَجِدْ »يعني الهدي« فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ »فإن صامها قبل يوم النحر وبعد الإحرام بالحج فقد صامها في الحج ، وإن صامها في أيام التشريق فقد صامها في الحج إذ قد بقي عليه من مناسك الحج رمي الجمار ، وأستحب للمتمتع إذا أخر صيام الثلاثة الأيام إلى بعد يوم النحر أن يؤخر طواف الإفاضة حتى يصومها ، ليكون صومه لها وهو متلبس بالحج قبل أن يفرغ منه ، وأما غير المتمتع فالسنة أن يطوف طواف الصدر يوم النحر ، ثم قال :« وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ »يعني إذا رجعتم إلى فعل ما كان حجزه عليكم الإحرام في أي وقت شاء ، في أهله وفي غير أهله ، وأما قوله :« تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ »ومعلوم أن ثلاثة وسبعة تكون عشرة ، ففائدة ذكر العشرة رفع الالتباس والاحتمال الذي في الواو من قوله : ( وَسَبْعَةٍ )من التخيير والإباحة بين الثلاثة والسبعة إن شاء جمع بينهما وإن شاء صام أحدهما فأي شيء فعل من ذلك أجزأه ، فرفع الحق هذا الالتباس بقوله :« عَشَرَةٌ »فكان الجمع ولا بد ، وأما قوله :« كامِلَةٌ »يريد أنها قامت في البدل من الهدي مقام الهدي على الكمال ، ثم قال :« ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ »لا خلاف أن أهل الحرم لا متعة لهم ، وهو ظاهر الآية ، ولا أدري ما حجة من خرج عن ظاهر الآية إلى أن جعل ذلك ما دون المواقيت أو مسافة تقصر فيها الصلاة ، كل ذلك تحكم من غير حجة« وَاتَّقُوا اللَّهَ »أي احذروه« أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ »أي قوي العقوبة لمن لا يتقي محارمه وتعدى حدوده ، وسميت عقوبة لأنها تكون عقيب الذنب ، أي متأخرة عنه ، ثم قال تعالى : ( 198 )« الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ »أي الزمان الذي يفرض فيه الحج أشهر معلومات ، أي كانت العرب تعلمها ، وهي شوال وذي القعدة وذي الحجة كله عندنا ، وقيل [ . . . ]




ص 290




فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ »- شعر .الحج فرض إلهي على الناس * من عهد والدنا المنعوت بالناسفرض علينا ولكن لا نقوم به * وواجب الفرض أن نلقى على الرأسفإن اللّه أخبرنا أن الكعبة أول بيت وضعه للناس معبدا ، والحج في اللسان تكرار القصد إلى المقصود ، والعمرة الزيارة« فَلا رَفَثَ »وهو النكاح ، وقد أجمع المسلمون على أن الوطء يحرم على المحرم مطلقا ، غير أنه إذا وقع فعندنا فيه نظر في زمان وقوعه ، فإن وقع منه بعد الوقوف بعرفة أي بعد انقضاء زمان جواز الوقوف بعرفة من ليل أو نهار فالحج فاسد وليس بباطل ، لأنه مأمور بإتمام المناسك مع الفساد ، ويحج بعد ذلك ، وإن جامع قبل الوقوف بعرفة وبعد الإحرام فالحكم فيه عند العلماء كحكمه بعد الوقوف يفسد ولا بد ، من غير خلاف أعرفه ، ولا أعرف لهم دليلا على ذلك ، ونحن وإن قلنا بقولهم واتبعناهم في ذلك ، فإن النظر يقتضي إن وقع قبل الوقوف أن يرفض ما مضى ويجدد الإحرام ويهدي ، وإن كان بعد الوقوف فلا ، لأنه لم يبق زمان للوقوف ، وهنا بقي زمان للإحرام ، لكن ما قال


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

وعشر من ذي الحجة ، وقيل تسع من ذي الحجة ، والقولان سائغان في كلام العرب ، لكن الحقيقة فيه أن يكون الشهر كله ، وإنما يعرف ما عدا ذلك بقرينة لا بمجرد الإطلاق ، وهنا في هذه الآية ما ثم قرينة تدل أنه يريد بعض الشهر ، فلو أحرم الإنسان بالحج بعد فراغه من مناسك الحج جاز له ذلك ، فإنه أحرم في أشهر الحج ، فإنه لا خلاف عند العرب أنها تسمي ذا الحجة شهر الحج ، وهو أحق بهذا الاسم من شوال وذي القعدة ، إذ ليس لك فيهما أن تفعل من أفعال الحج سوى الإحرام بالحج والسعي إن جئت البيت ، وجميع المناسك تقع في ذي الحجة ، فهو أولى بالاسم ، ثم قال :« فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ »أي فمن أحرم فيهن بالحج« فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ »فجعل حكم المحرم بالحج حكم المصلي ، ولهذا تسمى التكبيرة الأولى التي يدخل بها في الصلاة تكبيرة الإحرام ، وقال تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ )فقال في الحج :« فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ »فيفترقان من وجه ويجتمعان من وجه ، فقوله :« فَلا رَفَثَ »قد يريد لا نكاح في الحج وهو الأظهر ، وهل يتلفظ باسمه على التصريح ؟ فيه خلاف ، والذين أجازوا التصريح به كابن عباس أجازه عند الرجال أو وحده ، ولم يجزه عند النساء .
وكان ابن عباس ينشد وهو محرم :
خرجن يمشين بنا هميسا ..... إن تصدق الطير ننك لميسا


ص 291


به أحد ، فجرينا على ما أجمع عليه العلماء ، مع أني لا أقدر على صرف هذا الحكم عن خاطري ، ولا أعمل عليه ، ولا أفتي به ، ولا أجد دليلا ، خرج أبو داود في المراسيل أن رجلا من جذام جامع امرأته وهما محرمان ، فسأل الرجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال لهما : اقضيا نسككما وأهديا هديا ، ثم ارجعا ، حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما ، فتفرقا ولا يرى منكما واحد صاحبه ، وعليكما حجة أخرى ، فتقبلان حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا ولا يرى منكما أحد صاحبه ، فأحرما وأتما نسككما وأهديا ، وعلى ذلك فمن جامع أهله عليه أن يمضي في مقام نسكه إلى أن يفرغ مع فساده ، ولا يعتد به ، وعليه القضاء من قابل على صورة مخصوصة شرّعها له الشارع« وَلا فُسُوقَ »الفسوق الخروج وهو هنا الخروج على سيده - ومن باب الإشارة - الخروج على سيده ، فيدعي في نعته ويزاحمه في صفاته« وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ، وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى »التقوى هنا ما يتخذه الحاج من الزاد ليقي به وجهه من السؤال ويتفرغ لعبادة ربه ، وليس هذا هو التقوى المعروف ، ولهذا ألحقه بقوله عقيب ذلك :« وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ »فأوصاه أيضا مع تقوى الزاد بالتقوى فيه ، وهو أن لا يكون إلا من وجه طيب ، فجاء الأمر بالزاد ، فعلمنا أنّا قوم سفر نقطع المناهل بالأنفاس ، والتقوى في الزاد ما يقي به الرجل وجهه عن سؤال غير اللّه ، وما زاد على وقايتك فما هو لك ، وما ليس لك لا تحمل ثقله فتتعب به ، وأقل التعب فيه حسابك على ما لا تحتاج إليه ، فلما ذا تحاسب عليه ، هذا لا يفعله عاقل ناصح لنفسه ، وما ثمّ عاقل ، لأنه ما ثمّ إلا من يمسك الفضل ويمنع البذل ، والمسافر وماله على قلة ، فإنه ما من منهلة يقطعها ولا مسافة إلا وقطاع الطريق على مدرجته ، فخير الزاد ما يتقي به ، وأما تقوى اللّه ففي أمره« وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ » .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:

فقيل له : أترفث في الحج ؟ 
فقال : إنما ذلك عند النساء ، مثل أن يقول الرجل للمرأة وهو محرم :
إذا حللت من إحرامي نكتك ، وأما قوله :« وَلا فُسُوقَ »أي لا يتعدى المحرم شيئا من حدود اللّه مما يخرج به عن أمر اللّه ، ولا سيما على من نصبه ، وقد يحتمل أن يريد بالفسوق أي لا يفعل فعلا حرّم عليه ، يفسد بفعله حجه . مما كان يجوز له فعله قبل الإحرام بالحج ، فهو فسوق في حال الحج ، وقوله :« وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ »بلا خلاف أنه منصوب على النفي والتبرئة ، فهو

ص 292
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "198 - 212" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:41 am

تفسير آلآيات من "198 - 212" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلمات الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفقرة الأولى
سورة البقرة ( 2 ) : آية 198
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ( 198 )
رفع اللّه الحرج عمن يبتغي فضلا من ربه ، وهي التجارة« فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ »ولم يخص مكانا من مكان ، وعرفات كلها موقف ، وعرنة من عرفات ، فمن وقف بعرنة فحجه تام إلا أنه ناقص الفضيلة ، فإنه موقف إبليس ، فهو موضع مكروه الوقوف به من


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
مخالف في الإعراب للفسوق والرفث ، فكان الحكم فيه أشد ، وقد قيل في تفسير ذلك وجوه :
أولاها وأحسنها وأوجهها أن العرب كانت تختلف في ذلك كثيرا ، وهو قوله تعالى : ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ )فكانت العرب تحج وقتا في المحرّم ووقتا في ذي الحجة ، لتجمع بين حجتين في سنة ، وتنقل أسماء الأشهر بعضها لبعض في وقت ، ثم ترد أسماءها عليها في وقت آخر ، فتقول في صفر وربيع الأول صفران ، وفي ربيع الآخر وجمادى الأولى ربيعان ، وفي جمادى الآخرة ورجب جمادان ، وتسمي شعبان رجب ، وتسمي رمضان شعبان ، وتسمي شوالا رمضان ، وتسمي ذا القعدة شوالا ، وتسمي ذا الحجة ذا القعدة ، وتسمي المحرم ذا الحجة ، فتحج في المحرم تلك السنة ثم ترد أسماء الشهور عليها ، فتقول لصفر صفر ، ولربيعين ربيعان ، ولجمادين جمادان ، ولرجب رجب ، وكذلك شعبان ورمضان ثم شوال ، ثم ذو القعدة ثم ذو الحجة ، فتحج فيه ، فتكون لها حجتان في اثني عشر شهرا ، فقال تعالى :« لا جِدالَ فِي الْحَجِّ »فنفى أن يعدل باسم الشهر عن مسماه ، وقال النبي عليه السلام في ذلك : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقه اللّه ، السنة اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر ، الذي بين جمادى وشعبان ، وأبطل النسأة ، فلا جدال في ذلك ، ثم قال :« وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ »هذا من كرمه ولطفه التصريح بالخير والإغضاء عن الشر ، ولا شك أن من المعلوم أنه من يعلم الخير يعلم الشر ، فأخبر عن علمه بالخير ليتحقق العبد الجزاء عليه ، وكف عن التعريف بالعلم بالشر مع كونه عالما به ، ليعلم العبد من كرم اللّه أنه قد لا يؤاخذ به ويعفو ، على أنه قد كان من العرب من يعتقد ما اعتقده بعض النظار من أن اللّه لا يعلم الجزئيات ، ولكن باعتبار آخر غير اعتبار النظار ، وقد كان بعض العرب يعتقد أنه إذا تكلم جهرا سمعه اللّه ، وإذا تكلم سرا لم يسمعه اللّه ، فأخبر اللّه في هذه الآية أنه عالم بكل

ص 293

جل مشاركة الشيطان ، فما أراد صلّى اللّه عليه وسلم بارتفاعه عن بطن عرنة إلا البعد من مجاورة الشيطان« فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ »وهو المزدلفة ، وسماها اللّه بالمشعر الحرام لنشعر بالقبول من اللّه في هذه العبادة بالعناية والمغفرة وضمان التبعات ، ووصفه بالحرمة لأنه في الحرم ، فيحرم فيه ما يحرم في الحرم كله ، فإنه من جملته ، فأمر بذكر اللّه فيه ، يعني بما ذكرناه ، فإن الشيء لا يذكر بأن يسمى ، وإنما يذكر بما يكون عليه من صفات المحمدة ، ومنها الصلاة ، فقد أجمع العلماء على أنه من بات بالمزدلفة وصلى فيها المغرب والعشاء وصلى الصبح يوم النحر ووقف بعد الصلاة إلى أن أسفر ثم دفع إلى منى أن حجه تام .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ما يفعله العبد من خير في هذه العبادة وغيرها ، ولم يذكر الشر لأنه لم يشرع في هذه العبادة شيئا من الشر ، فهو تأكيد لقوله :« وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ »أي لا يفعل في الحج إلا ما شرع أن يفعل في الحج ، واختلفوا في نكاح المحرم وإنكاحه بمعنى العقد لا بمعنى الوطء ما حكمه ؟ وفي هذه المسألة عندي نظر إذا وطئ قبل الوقوف بعرفة ، لأن زمان جواز وقوع الإحرام ما انصرم ، وليس هذا التفسير موضع تفريع المسائل إلا إذا تكلم في أحكام القرآن لمن يستوعب الكلام فيه بإيراد الأحاديث في الأحكام المشروعة ، إذ كان الكتاب أحد الأدلة المشروعة ، وقوله :« وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى »يحرض في هذه الآية على التكثير من الزاد لمن أراد الحج من أهل الآفاق ، وتضعيفه لطول الطريق ومفازاته ، وما يطرأ فيه من العوائق ، فيطول الزمان على الحاج فقال :« وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى »وهو ما يقي به المرء وجهه عن السؤال عند الحاجة ، فإن السؤال يذهب بماء الوجه ، ولا شك أنه من لم يتزود ولا استكثر من الزاد في الغالب فإنه ما وقى وجهه عن السؤال ، إذ كان معرضا للحاجة ، فهذا معنى التقوى هنا ، وكذا قوله : ( وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ )من هذا الباب ، غير أنه على وجه آخر ونسق غير هذا ، ثم قال مما يؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير التقوى : « واتقوني يا أولي الألباب » فخاطب أهل العقول والاستبصار ، وهم الخاصة من عباده الذين نوّر اللّه قلوبهم بالعقل عن اللّه ، فقال لهم : « واتقوني يا أولي الألباب » إذ كان أصحاب الزاد يتخذونه اتقاء الحاجة ، فأنا أولى من يتقى ، إذ كان بيدي إنزال الحاجة ورفعها ، فالعالم العاقل عن اللّه الأديب يستكثر من الزاد في طريق الحج اتقاء اللّه أن ينزل به الحاجة إليه ، إذ العبد معرض لذلك ولو بلغ ما بلغ ، قال أيوب عليه السلام : ( مَسَّنِيَ الضُّرُّ )وقال عليه السلام : ( أخرجني الجوع ) والعامة من العباد يستكثرون من الزاد اتقاء الحاجة إليه مع الغفلة عن اللّه ، فلهذا ضمنت الآية النوعين من التقوى ، العام والخاص ، ثم قال : ( 199 )« لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ »الآية ، يقول لا إثم عليكم في هذه العبادة

ص 294


إشارة -[ عرفات وجمع والمزدلفة ]
عرفات هي موقف حصول المعرفة باللّه ، فإنه لما وصل الحاج إلى البيت ، ونال من العلم باللّه ما نال ، ونال من المبايعة والمصافحة ليمين اللّه تعالى ما يجده أهل اللّه في ذلك ، وحصل من المعارف الإلهية في طوافه بالبيت وسعيه وصلاته بمنى ، أراد اللّه أن يميز له ما بين العلم الذي حصل له في الموضع المحرم ، وبين المعرفة الإلهية التي يعطيه اللّه المحل في الحل وهو عرفة ، فإن معرفة الحل تعطي رفع التحجير عن العبد ، وهو في حال إحرامه محجور عليه لأنه محرم بالحج ، فيجمع في عرفة بين معرفته باللّه من حيث ما هو محرم وبين معرفة اللّه من حيث ما هو في الحل ، فتميز العبد بالحجر لبقائه على إحرامه أنه ليس فيه من الحق المختار شيء ، وتميز الحق بالحل أنه غير محجور عليه فهو يفعل ما يريد ، ولما كان يوم عرفة ثلاثة أرباع اليوم ، من زوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر ، وكان ينبغي أن لا نسمى عارفين باللّه ، حتى نعلم ذاته وما يجب لها من كونها إلها ، فإذا عرفناه على هذا الحد فقد عرفناه ، وهذا لا يكون ، فإن المعرفة باللّه على التمام والكمال لا تكون ، فإن يوم عرفة ثلاثة أرباع اليوم ، فإنا لما بحثنا بالأدلة العقلية وأصغينا إلى الأدلة الشرعية ، أثبتنا وجود الذات وجهلنا حقيقتها ، وأثبتنا الألوهة لها ، فهو نصف المعرفة بكمالها ، والربع وجودها أعني وجود الذات المنسوبة إليها الألوهة ، أما الربع الذي لا يعرف فهو معرفة حقيقتها ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
المشروعة لإقامة ذكر اللّه ، خرج أبو داود عن النبي عليه السلام
[ أن المناسك شرعت لإقامة ذكر اللّه ]
فربما يتوهم العبد أنه لا ينبغي أن يذكر اللّه فيها إلا بما يخص جنابه من الإجلال والتعظيم وما تستلزمه تلك العبادة على الخصوص ، فأباح اللّه لعباده فيها أن يطلبوا منه فضله من خير الدنيا من المال والولد والأهل ما لم يكن ، ومن خير الآخرة ، ولهذا خصه بالاسم الرب ، إذ بيده مصالح الدنيا والآخرة ، وهو مالك الملك ، وقد يريد بابتغاء الفضل هنا التجارة في هذا اليوم ، فرفع الإثم لمن اتجر فيه بحيث أن لا يمنعه ذلك من ذكر اللّه ولا يشغله عن عبادته ، ويجعل تجارته في ذلك اليوم من جملة عبادته ، ولهذا قال :« فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ »فما عرى هذا الفضل المطلوب عن الإضافة إليه ، أي لا أغيب عنكم في حال طلبكم لهذا الفضل واطلبوه مني ، فإني الذي أسوق إليكم الأرباح ، والفضل الزيادة ، والربح زيادة على رأس المال ، وما أمر اللّه بطلبه منه في ذلك اليوم إلا وهو تعالى قد علم أنه يعطيه ، فإن خسر التاجر في ذلك اليوم ونقصه من رأس ماله ، أو لم يزد عليه شيء ، فهي علامة له على غفلته عن اللّه في طلب الفضل منه في وقت تجارته وبيعه وشرائه« فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ »يقول : إذا دفعتم من عرفات ، اسم لموضع الوقوف في الحج ، ويحتمل

ص 295


فلم نصل إلى معرفة حقيقتها ولا يمكن الوصول إلى ذلك ، والزائد على الربع الذي جهلناه أيضا هو جهلنا بنسبة ما نسبناه إليها من الأحكام ، فإنا وإن كنا نعرف النسبة من كونها نسبة ، فقد نجهل النسبة الخاصة لجهلنا بالمنسوب إليه ، فالذي بأيدينا من المعرفة علمنا بوجود الذات وعلمنا نسبة الألوهة لها ، لا كيفية النسبة ، وهو نصف المعرفة ، وهو علم بصفات التنزيه والسلوب ، والربع الثالث المعرفة بصفات الأفعال والنسب ، أما الربع الرابع فلا يعرف أبدا ، وكذلك ما جهلنا من نسبة ما وصف الحق به نفسه من صفة التشبيه ، فلا ندري كيف ننسب إليه ، مع إيماننا به ، وإثباتنا له هذا الحكم مع جهلنا ، لكن على ما يعلمه اللّه من ذلك - أما قوله تعالى« فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ »فالمزدلفة من الزلفى وهو القرب ، فالوقوف في المزدلفة هو مقام القربة ، والاجتماع بالمعروف فيها ، وهو تجل خاص منه لقلوب عباده ، ولهذا سميت جمعا ،« وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ »والذكر في طريق اللّه لا يختص بالقول فقط ، بل تصرف العبد إذا رزق التوفيق في جميع حركاته ، لا يتحرك إلا في طاعة اللّه تعالى ، من واجب أو مندوب إليه ، ويسمى ذلك ذكر اللّه ، أي لذكره في ذلك الفعل أنه للّه بطريق القربة سمي ذكرا ، فجميع الطاعات كلها من فعل وترك إذا فعلت أو تركت لأجل اللّه فذلك من ذكر اللّه ، أن اللّه ذكر فيها ، ومن أجله فعلت أو تركت على حكم ما شرع فيها ، وهذا هو ذكر الموفقين من العلماء باللّه .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أن يكون علما له مسمى باسم الجمع ، أو يكون اسم جمع كمسلمات ، واحده عرفة ، يقول :« فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ »وهو المزدلفة وهو جمع ، وهو من مناسك الحج ، واختلفوا فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام فيه ، هل فاته الحج أو لم يفته ؟ فمن جعل ذلك ركنا ، قال بفوات الحج إذا فاته ، ومن لم يجعله ركنا كان حكمه حكم ما ليس بركن ، وقوله :« عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ »جعله ظرفا للذكر فيها« وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ »هذا الذكر الآخر لا يختصّ بهذا الموضع ولا بهذه العبادة ، بل يعمّ ذكره جميع الأحوال ، وقوله :« كَما هَداكُمْ »يقول : مثل ما ذكرتم عند هدايته إياكم من الضلال الذي كنتم عليه ، فمعناه كما أنه اعتنى بكم سبحانه بما بينه لكم من الطريق التي تؤدي إلى سعادتكم وكنتم بها جاهلين ، قال تعالى : ( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى )فاذكروه أنتم شكرا على هذه النعمة ، بقبولكم ما هداكم له ومشيكم عليه واتباعكم سبيله تعظيما له ، فإنه من أهدى إليك هدية عناية منه بك ، فقبولك إياها دون ردها ، فيه تعظيم لجناب المهدي ، وشكرك له على ذلك ثناء على ثناء ، وذكر على ذكر ، ولهذا كرره في هذا الموضع ملصقا

ص 296

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 199 إلى 200
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 199 ) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ( 200 )
أمر اللّه بذكر اللّه في أيام التشريق ، فإن العرب كانت في هذه الأيام في الموسم تذكر أنسابها وأحسابها لاجتماع قبائل العرب في هذه الأيام ، تريد بذلك الفخر والسمعة ، فهذا معنى قوله :« كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ »أي اشتغلوا بالثناء على اللّه بما هو عليه على طريق الفخر إذ كنتم عبيده ، وفخر العبد بسيده ، فإنه مضاف إليه ، وأكبر من ذلك من كونه منه ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : ( مولى القوم منهم ) ولا فخر للعبد بأبيه ، بل فخره بسيده ، وإن افتخر العبد بأبيه فإنما يفتخر به من حيث أن أباه كان مقربا عند سيده ، لأنه عبد مثله ، ممتثلا لأمره واقفا عند حدوده ورسومه ، فإنه أيضا عبد اللّه ، فلهذا قال :« كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ »أي أديموا


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
به ، فقال :« فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ »ومن الهداية وقوفنا بعرفات ، إذ كانت الحمس لا تقف إلا بالمزدلفة اختصاصا لها على سائر الناس ، لشرفها وتميزها بشفوفها في ذلك الموضع على سائر الناس ، فهدى اللّه نبيه إلى ما هو الحق عنده من الوقوف في ذلك اليوم بعرفة ، وهو قوله :« وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ »في وقوفكم بالمزدلفة ، وقوله : ( 200 )« ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ »الأوجه في تأويلها يخاطب الحاج ، يقول لهم : ثم أفيضوا كما أفضتم من عرفات إلى المزدلفة ، أفيضوا من المزدلفة إلى منى ، وقوله :« مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ »يريد قريشا فإن قريشا كانت تفيض من المزدلفة ، فلم تكن لهم سوى إفاضة واحدة من المزدلفة إلى منى ، والوجه الآخر : أن يكون الضمير يعود على قريش ، يقول لهم :« ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ »يعني من عرفات ، فتكون« ثُمَّ »هنا قد سيقت لترتيب الجمل اللفظية ، لا لترتيب المعنى ، إذ لم يكن في الآيات المذكورة ذكر للحمس ، وإنما خاطب في هذه الآيات كل من حج من أحمس وغيره ، فحملها على ما قلناه أولى في التأويل ، فإنه على التأويل الثاني يكون هذا التأخير يراد به التقديم ، فيكون موضعه بعد قوله : ( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ )« ثُمَّ أَفِيضُوا »يعني الحمس ومن تحمّس« مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ »

ص 297

ذكر آبائكم في هذا الموطن في قلوبكم وألسنتكم ، فإن اللّه تعالى يقول : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ )فما نهاهم عن ذكر آبائهم ، ولكن رجح ذكر اللّه على ذكرهم آباءهم بقوله :« أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً »وهو الموصي عباده بقوله : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ )أي كونوا - أنتم من إيثار ذكر اللّه والفخر به من كونه سيدكم وأنتم عبيد له - على ما كان عليه آباؤكم .

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 201 إلى 203
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ( 201 ) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ( 202 ) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 203 )
إن الناس اختلفوا في الإعادة من المؤمنين القائلين بحشر الأجسام ، ونحن نثبت الحشر في النشأة الروحانية المعنوية مع الحشر المحسوس في الأجسام المحسوسة ، والميزان المحسوس


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
من عرفات ، ويكون الناس هنا من بقي على ملة إبراهيم في الوقوف بعرفة في ذلك اليوم ، وعلى هذا أكثر أهل التأويل ، وفيه بعد في سياق الآية وإن كان صحيح المعنى ، والذي ذهبنا إليه أقرب بالمساق ، ثم قال :« وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ »إشعار بما كان عليه من الخطأ من وقف يوم عرفة بجمع ، وقد يكون الاستغفار طلبا من العباد إلى اللّه أن يضمن التبعات عنهم لأربابها بإرضاء الخصوم ، حتى ينقلبوا من حجهم مطهرين من جميع الذنوب ، وما أمرهم بالاستغفار في هذا الموطن إلا وهو يغفر لهم ، ولو لم يكن كذلك لم يكن للاستغفار المأمور به على التعيين فائدة ، فقال :« إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ »إذا استغفر تموه« رَحِيمٌ »بكم حيث أمركم أن تستغفروه ، ثم قال :
( 201 )« فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ »في هذا المساق إشعار ونوع حجّة لمن لا يرى أن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج ، لأنه ما ذكره على التعيين كما ذكر الإحرام بفرض الحج ، وذكر عرفات وذكر المزدلفة يقوي من احتج بالحديث في أنه من لم يدرك من الليل المزدلفة ولا صلى مع الإمام صلاة الصبح لم يدرك الحج ، فما ذكر إلا هؤلاء وما بقي أدخله في ذكر المناسك ، فقال :« فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ »الآية ، يقال : منسك بكسر السين وهو الاسم ومنسكا بفتح

ص 298

والصراط المحسوس ، والنار والجنة المحسوستين ، فإن كل ذلك حق ، وأعظم في القدرة ، فإن ثمّ نشأتين ، نشأة الأجسام ونشأة الأرواح وهي النشأة المعنوية ، ولولا أن الشرع عرّف بانقضاء هذه الدار ، وأن كل نفس ذائقة الموت ، وعرف بالإعادة ، وعرف بالدار الآخرة ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
السين ، يقال نسك ينسك نسكا ونسيكة ومنسكا إذا ذبح نسكه بفتح السين ، ويجمع على مناسك ، والنسك أيضا العبادة والزهد ، والمنسك الموضع المشروع للعبادة فيه ، ومناسك الحج من ذلك ، فإنها أماكن مخصوصة وأفعال مخصوصة ، وهي ما بين فرض وسنة واستحباب ، فقال تعالى :« فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ »أي الأفعال التي شرعناها لكم في أماكنها ، على حد ما شرعناها من واجب وغيره« فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ »يدل على أن عادتهم كانت جارية منهم في ذلك الزمان بعد فراغ المناسك يذكرون آباءهم ويفتخرون بأنسابهم ، ويقومون النسابون في ذلك الوقت فيذكرون الأنساب ، وحكاية أبي بكر الصديق مع الأعرابي مذكورة بحضور النبي عليه السلام ، فلما كان لهم بذكر آبائهم في ذلك الموطن شدة عناية ، قال اللّه لهم :« فَاذْكُرُوا اللَّهَ »مثل ذكركم آباءكم ، أي افتخروا باللّه واذكروا نعمه عليكم كما تذكرون آباءكم« أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً »يقول : بل أكثر ذكرا ، لأن الذي تنسبونه لآبائكم من الفخر الذي تفخرون به إنما هو من عطائي ونعمتي ، وأنا أحق بالذكر ، وإنما قرر ذكر الآباء بالخير من البر بالوالدين والإحسان لهم ، وقد قرر الشارع ذلك لعباده فقال : ( أَنِ اشْكُرْ لِي )وهو قوله :« أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً »( وَلِوالِدَيْكَ )وهو قوله :« كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ »وقال : ( وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً )( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً )ولم يخص سبحانه بهذا الذكر الذي أمرنا به ذكرا من ذكر ، لكن نبه بما ذكر بعد ذلك أن الدعاء من الذكر المطلوب هنا ، إذ كان من دعاك فقد ذكرك ، وليس كل من ذكر دعا ، فقال تعالى :« فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ »( 202 )« وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ »يقول : فمن الناس« مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا »يطلب من اللّه خيرا في الدنيا ، وما له في الدعاء في خير الآخرة« مِنْ خَلاقٍ »أي من نصيب ، وهذا حالة من اشتدت ضرورته في الدنيا حتى أنسته الآخرة ، فأخبر اللّه تعالى عنه أنه ما جعل للآخرة في دعائه نصيبا و « منهم » يعني من الناس« مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً »أي حالة حسنة في كل شيء ومن كل شيء« وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً »أي حالة حسنة كذلك ،« وَقِنا عَذابَ النَّارِ »يعم عذاب الدنيا والآخرة ، إذ يجمعهما العذاب ، فإن النار قد تكون في الدنيا رحمة لإصلاح معايش الناس ، فالمسئول الوقاية من عذابها ، ومن خصص التأويل بحسنة دون حسنة فقد قيد ما أطلقه اللّه في الإخبار عنهم ، والناس يسألون بحسب أغراضهم ،

ص 299

وعرف أن الإقامة فيها في النشأة الآخرة إلى غير ما نهاية ما عرفنا ذلك ، وما خرجنا في كل حال من موت وإقامة وبعث أخروي وجنان ونعيم ونار وعذاب بأكل محسوس وشرب محسوس ونكاح محسوس ولباس على المجرى الطبيعي ، فعلم اللّه أوسع وأتم ، والجمع بين العقل والحس والمعقول والمحسوس أعظم في القدرة وأتم في الكمال الإلهي ، فالأولى بكل ناصح نفسه الرجوع إلى ما قالته الأنبياء والرسل على الوجهين المعقول والمحسوس ، إذ لا دليل للعقل يحيل ما جاءت به الشرائع ، فألزم الإيمان نفسك تربح وتسعد إن شاء اللّه .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وأما من ذهب من أهل التأويل إلى أن القائلين« رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ »أنهم الذين لا رغبة لهم فيما عند ربهم من الأجر والثواب في الآخرة عن قصد ، فما هم بمؤمنين ولا قضى هذا منسكا مشروعا قط ، والظاهر أن الحق سبحانه ما قسم إلا الذين قضوا مناسكهم ، وقوله : ( 203 )« أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا »يعم الفريقين ، وأما الفريق الثاني فلا شك فيه ، وأما الفريق الأول الذين غفلوا عن طلب خير الآخرة لشغلهم بما غلب عليهم من ضيق الدنيا ، فأخبر تعالى أن لهم نصيبا في الآخرة مما كسبوه من الأعمال في الحج ، وما لهم من حيث دعاؤهم في الآخرة نصيب ، وأما الآخرون فلهم نصيب من أعمالهم ولهم نصيب في الآخرة أيضا من دعائهم في ذلك ، ثم نبه سبحانه بقوله :« وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ »لتعجيل نيل ما كسبوه من أعمالهم ، أخبر أنه يحاسبهم سريعا ليفضوا إلى نعيمهم ، فهي بشرى لهم سرعة الحساب لمن يحاسب ، وفيه فائدة أخرى ليتنبه طالب الدنيا بأنه محاسب على ما يؤتيه اللّه منها ، فيكون معظم طلبه ما يتعلق بجانب الآخرة ويقلل من ذكر طلب الدنيا ، إذ الدنيا جواز ليس له منها إلا سد جوعة وستر عورة بأي نوع كان ، ( 204 )« وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ »الأيام المعدودات هي أيام التشريق ، وهي أربعة أيام بيوم النحر ، وإنما أمر اللّه بالذكر في هذه الأيام فإنها كما قال عليه السلام :  [ أيام أكل وشرب وبعال ]
وهذه أسباب مؤدية إلى الغفلة عن ما يجب علينا من شكر اللّه على ما أعاننا عليه من قضاء مناسكه ، وما أسبغ علينا من نعمه التي كان حرمها علينا في حجنا ، وأمرنا بالذكر وشرع في هذه الأيام التكبير إدبار الصلوات والدعاء عند رمي الجمار ، وقسم الجمار على الأيام كلها ، كل ذلك حتى لا نغفل ، ولم يقيد الذكر في هذه الأيام المعدودات كما قيده في الأيام المعلومات على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء اللّه ، وأرسل الذكر هنا مطلقا حتى يعم جميع الأذكار بجميع النعم ، إذ كان عقيب فراغ من عبادات جمة ونعم متوالية ، فسبحان العليم الحكيم ، مرتب الأمور مواضعها ، وقوله :« فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ »يريد يومين بعد يوم

ص 300


سورة البقرة ( 2 ) : آية 204
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ( 204 )
الإنسان ألد الخصام حيث خاصم فيما هو ظاهر الظلم فيه ، وليس إلا الربوبية .

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 205 إلى 206 
وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ( 205 ) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ ( 206 )
حد جهنم بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فلك الكواكب الثابتة إلى أسفل سافلين ، هذا كله يزيد في جهنم مما هو الآن ليس مخلوقا فيها ، ولكن ذلك


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
النحر ، من تعجل فيهما فنفر في اليوم الثاني فلا إثم عليه ، وفيه وجهان : الوجه الواحد أنه مغفور له سواء عجل أو أخر ، ما ينفر إلا وهو مغفور له ، والوجه الآخر ، من تعجل فنفر في اليوم الثاني فلا إثم في تعجيله حيث ترك اليوم الثالث« وَمَنْ تَأَخَّرَ »إلى اليوم الثالث« فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ »لتأخيره إذ كان التعجيل مشروعا ، وكان يمكن أن يكون منهيا عنه ، وكان التأخير مشروعا وكان يمكن أن يكون منهيا عنه ، فلما كان التعجيل والتأخير مشروعين ، ارتفع الإثم بترك كل واحد منهما لا بتركهما معا ، وقوله :« لِمَنِ اتَّقى »أي من كان تعجيله وتأخيره من حيث ما هو مشروع له فقد اتقى ، وقوله :« وَاتَّقُوا اللَّهَ »يعني في المستأنف ، فإنه مغفور له بحجه ، فليتق اللّه فيما بقي من عمره ، فأمره اللّه بذلك وأعلمه أنه إليه يحشر يوم القيامة ، فقال :« وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ »ليلزم طريق الاستقامة ، فهو إيقاظ له لئلا تجنح النفس وتسكن إلى ما تقدم من مغفرة اللّه له في حجه ( 205 )« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا »الآيات ، إلى قوله : ( وَلَبِئْسَ الْمِهادُ )هؤلاء الآيات وإن كانت نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي ، فهي عامة في كل من هو بهذه الصفة من النفاق والفساد ، يقول :« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ »لما فيه من اللين واللطف عندما يلقاك أو يلقى أحباءك« وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ »من غير ذلك من العداوة والبغضاء لك ، وهذا لا يكون ممن يعرف أنه نبي ويجحد ما هو متيقن بصدقه ، لقوله :« وَيُشْهِدُ اللَّهَ »أي أنه يقول لربه : اشهد عليّ أني عدو لهذا ، وأني أعتقد فيه أنه كاذب ، على

ص 301

معد حتى يظهر ، إلا الأماكن التي عيّنها اللّه ، فإنها ترجع إلى الجنة يوم القيامة ، مثل الروضة التي بين منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وبين قبره صلّى اللّه عليه وسلم ، وكل مكان عينه الشارع ، وكل نهر ، فإن ذلك كله يصير إلى الجنة ، وما بقي فيعود نارا كله وهو من جهنم ، والجنة وجهنم عندنا مخلوقتان غير مخلوقتين ، فأما قولنا مخلوقة ، فكرجل أراد أن يبني دارا فأقام حيطانها كلها الحاوية عليها خاصة ، فيقال قد بنى دارا ، وغير مخلوقة هو ما يوجد فيها نتيجة أعمال العباد .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
جهة القربة إلى اللّه ، فإنه أمكن في العداوة لاتخاذه ذلك دينا ، ولو كان يعلم أنه حق لقال : ويشهد اللّه بفتح الياء ورفع اللّه على الفاعلية« وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ »أي شديد الخصومة في الحالتين ، إذا نازعه أحد فيه صلّى اللّه عليه وسلم خاصمه أشد الخصومة تحببا للنبي صلّى اللّه عليه وسلم وتملقا له ، وإذا نازعه أحد في صدق نبوة محمد أنه على الحق في محل لا يعرف أنه يصل إليه ذلك الكلام ، خاصمه أشد الخصومة في الرد على النبي والكفر به ولهذا وصفه بما قال : ( 206 )« وَإِذا تَوَلَّى »يقول : وإذا غاب عنك« سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها »أي بالفساد« وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ »بحرق الزرع وعقر البقر« وَالنَّسْلَ »بالقتل« وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ »إبقاء على من أنزلت من أجله هذه الآية ، ليرجع إلى الإسلام ، وهو من القول اللين الذي أمر اللّه نبيه موسى وهارون أن يقولا لفرعون فقال : ( فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ )وإن كان قد علم سبحانه أنه لا يتذكر ولا يخشى ، فقال :« وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ »فنفى عن نفسه حب الفساد ، لعله يرجع عن هذه الصفة ، ولم يسمه لقوله :« وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ »لقصده التقرب بذلك إليه سبحانه ، ثم قال ينبه على شرفه في نفسه ، وتمكن الكبرياء من قلبه ، وأنه بمحل من العظمة في نفسه أن يقول له من هو في نفسه دونه اتق اللّه ، فقال : ( 207 )« وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ »كبر ذلك عليه لا تكبرا على اللّه ولكن احتقارا بالمخاطب ، فأخبر تعالى أنه« أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ »أي حمية الجاهلية« بِالْإِثْمِ »أي على الإثم الذي ينهى عنه ، فيفعله لجاجا وعزة على القائل له هذا ، فأخبر سبحانه المؤمنين ليريحوا أنفسهم من مثل هذا المتكبر ، فقال :« فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ »أي كفايته جهنم ، أي جهنم تكفيكم شره« وَلَبِئْسَ الْمِهادُ »يذم مقره فيها ، قال السدي : نزلت هذه الآيات في الأخنس بن شريق ابن عمرو بن وهب بن أبي سلمة الثقفي ، واسم أمه ريطة بنت عبد اللّه بن أبي قيس القرشي ، من بني عامر بن لؤي ، وكان حليفا لبني زهرة ، أقبل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فأظهر الإسلام ، فأعجب النبي صلّى اللّه عليه وسلم ذلك منه ، وقال : إنما جئت أريد الإسلام واللّه يعلم أني لصادق ، ثم خرج من عند النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزرع وعقر الحمر ، فنزلت الآيات ، وقال ابن عباس : نزلت في رجال من المنافقين ، لما أصيبت السرية أصحاب خبيب بالرجيع ،

ص 302

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 207 إلى 209  
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ( 207 ) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 208 ) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 209) .
" فَإِنْ زَلَلْتُمْ »من زل إذا زلق« مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ »أي لا يتوصل أحد إلى معرفة كنه الألوهية أبدا ، ولا ينبغي لها أن تدرك ، عزت وتعالت علوا كبيرا« حَكِيمٌ »فإن الحق تعالى ما هو فعله مع الأغراض التي أوجدها في عباده ، وإنما هو مع ما تطلبه الحكمة ، والذي اقتضته الحكمة هو الواقع في العالم ، فعين ظهوره هو عين الحكمة ، فإن فعل اللّه لا يعلل بالحكمة بل هو عين الحكمة ، فإنه لو علل بالحكمة لكانت الحكمة هي الموجبة له ذلك ، فيكون الحق محكوما عليه ، والحق تعالى لا يكون محكوما عليه .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بين مكة والمدينة ، قال المنافقون : يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا [ كذا ] ، لا هم قعدوا في بيوتهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم ، فأنزل اللّه هذه الآية ، ثم قال : ( 208 )« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ »الآية ، لما باع المؤمن نفسه من اللّه ، واشتراها اللّه منه ، أخبرنا بذلك فقال :« وَمِنَ النَّاسِ »عامة« مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ »وهو المؤمن يبيع نفسه من اللّه بالجهاد في سبيله ، أو كلمة حق عند أمير جائر ، يغلب على ظنه أنه يقتله إذا أمره بمعروف أو نهاه عن منكر ، طلبا لمرضاة اللّه ، أي ليرضى اللّه عنه بذلك ،« وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ »حيث لم يعزم عليهم في ذلك ، ولا كلفهم ، بل وسع عليهم على ثلاثة أنحاء ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : [ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده - فهذا أقواهم إيمانا - فإن لم يستطع فبلسانه - وهذا ضعف عن الأول - فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان ] فهذا من رأفته بعباده ( 209 )« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً »نزلت في جماعة من مؤمني أهل الكتاب ، منهم عبد اللّه بن سلام ، استأذنوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم في أن يعملوا ببعض ما في التوراة من أمر السبت وغيره ، فنزلت« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا »أي صدقوا بما جاء من عندنا« ادْخُلُوا »

ص 303
.
يتبع الفقرة الثانية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: الفقرة الثانية تفسير آلآيات من "198 - 212" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:44 am

الفقرة الثانية تفسير آلآيات من "198 - 212" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلمات الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفقرة الثانية
سورة البقرة ( 2 ) : آية 210  
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ( 210 )
ذكر تعالى اعتقادهم وما جرح ولا صوّب ، ولا أنكر ولا عرّف ، وفيه نسبة المكان إلى الحق ، ومثل هذا في الشرع كثير ، والظلل أبواب السماء إذا فتحت وهو قوله تعالى : ( وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً )وقوله : ( يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا )وهو إتيان الملائكة في ظلل من الغمام . واعلم أنه من المتشابه الآيات التي يذكر فيها الصورة ، فمما صح في ذلك ما رواه البخاري وغيره ، من حديث الرؤية عن أبي هريرة رضي اللّه عنه وفيه ( فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفونها ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ باللّه منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا أتى ربنا عرفناه ، فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول : أنا ربكم ، فيقولون نعم أنت ربنا ، فيتبعونه ) وقد ثبت ذكر


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
في العمل بشرائع الإسلام المنزلة على نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلم بأجمعكم ، واتركوا ما أنزلته من الشرائع قبله ، فلكل منكم شرعة ومنهاج« وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ »أي لا تسلكوا طريقه ، ولا تصغوا إلى ما يوسوس به في صدوركم ، ليضلكم عن طريق الهدى الذي أنزلته في هذا الأوان على هذا النبي المخصوص ، وإن كان كل كتاب أنزلته حقا وهدى ونورا ، ولكن تعبدت به عبادي في زمن مخصوص ، وقد انقضت تلك المدة لما سبق في علمي ، فأراد الشيطان أن يضلكم بما وسوس به في صدوركم من اتباع ما نزل من عندنا ، كيدا ومكرا ، وقد عرفتكم« إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ »أي ظاهر العداوة ، لا تخفى على مؤمن عارف بطريق ما يخرجكم عن الهدى ( 210 )« فَإِنْ زَلَلْتُمْ »يقول : فإن انتزعكم فنزعتم عن طريق الهدى الذي هو القرآن« مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ »الدلائل الواضحة من عندنا ، وهي التعريفات بعداوة الشيطان لكم المذكورة في كل كتاب ، وكفرتم أو خالفتم بعض ما أنزل إليكم في هذا القرآن وما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلم« فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ »غالب لا يغالب ، لا يفوته هارب« حَكِيمٌ »بإنزال العقوبات لمن يستحقها ، إذ الحكيم واضع كل شيء في موضعه ، سمع أعرابي قارئا يقرأ هذه الآية : فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن اللّه غفور رحيم ، فأنكر أن يكون هذا كلام اللّه ، وقال : الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه ، فمثل هؤلاء عرفوا إعجاز القرآن لمعرفتهم بمواقع الخطاب ، ( 211 )

ص 304

الصورة في حديث أبي سعيد رضي اللّه عنه زيادة أيضا ، وهو من الأحاديث المتشابهة ، ومرجعها إلى الآيات والأحاديث المحكمة ، فاعلم أن للصورة التي يأتي فيها ربنا تعالى يوم القيامة مظهرا وحقيقة ، فالحقيقة هي الظلة في قوله تعالى :هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ »فعلم بذلك أن مظاهر تجليه لعباده هي ظلل غمامه ، وحقائق هذه الظلل آياته التي تعرف لخلقه فيها بواسطة أنبيائه صلوات اللّه عليهم وسلم ، وقد ثبت في الصحيح تشخيص حقائق آياته كالظلل ، ففي مسلم وغيره من حديث أبي أمامة رضي اللّه عنه ، وحديث النواس بن سمعان رضي اللّه عنه ، أن القرآن يوم القيامة يأتي ، تقدمه البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان ، ومن المعلوم أن كلامه سبحانه صفته ، وصفته لا تفارقه ، فإذا ثبت إتيانها في صور ظلل الغمام ، ثبت إتيانه تعالى ، وفي مسلم وغيره أن أسيد بن حضير رضي اللّه عنه قرأ سورة الكهف ليلة ، فجالت فرسه ، فإذا مثل الظلة فوق رأسه فيها أمثال السرج ، فسأل النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال : إن السكينة تنزلت للقرآن ، وفي رواية الترمذي مع القرآن ، وفي رواية ، تلك الملائكة كانت تسمع لك ، وذلك كله موافق لآية البقرة ، ونفرة الفرس دليل على أنها ظلة محسوسة ، وقد ثبت رؤيا النبي صلّى اللّه عليه وسلم للظلة وتأويل أبي بكر لها بالإسلام ، وذلك كله يحقق أن حقائق الظلل هي آيات اللّه تعالى وشرائعه ، وهي من الروح الأصلي الذي هو منشأ عالم الأمر ، وهو مصباح روح التوحيد ، قال تعالى : ( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا )الآية ، وقال تعالى : ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا )وبهذا الروح يتجلى سبحانه لعباده بأسمائه وصفاته المحكمة والمتشابهة ، والظلة قسمان : ظلة عذاب ، وظلة رحمة ، فظلة العذاب كظلة قوم شعيب صلّى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى : ( فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ )وقد ضرب اللّه تعالى المثل بذلك بالقرآن في قوله : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ )الآية ، وأما ظلة الرحمة ، فهي آياته المقتضية للرحمة النازل غيثها على قلوب المؤمنين ، كما صح في صحيح مسلم والبخاري وغيره قوله صلّى اللّه عليه وسلم : ( إن مثلي ومثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
« هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ »في هذه الآية إشعار بقرب قيام الساعة ، وبأن هذا القرآن وشرع الإسلام ما بقي بعده كتاب ينزل ولا شرع ، ولا نبي بعد رسول اللّه

ص 305


أصاب أرضا ) الحديث ، فهذا هو مظهر الحقيقة ، وأما مظهر الصورة فهو العمل ، وقد ثبت تشخص الأعمال بصور شتى ، وقد صح تمثيل الموت بصورة الكبش ، وتمثيل المال بالشجاع الأقرع وغيره ، وتمثيل الملائكة صلى اللّه عليهم وسلم بالآدميين ، والسنة مشحونة بنحو ذلك ، ومن المعلوم أن الأعمال أعراض ، فإذا ثبت ظهورها وتمثلها بصور الجواهر والأجسام مع القطع بأنها ليست جسما ولا جوهرا ، فإن الملائكة صلوات اللّه وسلامه عليهم ليسوا بآدميين ، فعلى مثل ذلك قس إتيان ربنا سبحانه في صور الأعمال ، وأنه لا يلزم من إتيانه في صور الأعمال أن يكون تعالى له صورة ، ولا يلزم من نسبتها وإضافتها إليه أن تكون ذاتية له ، كما ثبت نسبة اليدين والرجلين إلى جبريل عليه السلام في حديث عمر رضي اللّه عنه عند مسلم وغيره في قوله : ( طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ) إلى قوله : ( فأسند ركبتيه ) - الحديث - ، ومن المعلوم أن الركبتين واليدين التي جاء بها جبريل صلوات اللّه عليه وسلامه جسمانيات ، وليست ذاتية له ، وبهذا تعلم أن رؤية العباد لربهم تعالى يوم القيامة مختلفة النعيم ، فكل يراه في صورة عمله على حسب مراقبته وإخلاص توجهه إليه ، وصدقه في إقباله عليه ، وتلك الصور حقائق آيات من آيات أسمائه وصفاته تعالى وأخلاقه ، فما من آية منها تخلّق بها العبد في الدنيا إلا وقد تعرف اللّه تعالى إليه بها ، أما قوله صلّى اللّه عليه وسلم في حديث الرؤية : ( فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفون ) أي في ظلة آيات العذاب ومظهر الأعمال السيئة ، فيقولون : ( نعوذ باللّه منك ) أي فيستعيذون باللّه من تلك الصورة كما كانوا في الدنيا ينكرونها ويستعيذون منها ، وأما قوله :
( فيأتيهم في الصورة التي يعرفون ) أي في مظهر أعمال البر ، وظلة صفة الرحمة والنبوة التي كانت تحيي قلوبهم بغيث الهدى والعلم ، فيقولون : ( أنت ربنا ) يعرفونه بواسطة تعرفه لهم في الدنيا ، تحقيقا لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : ( أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ) ، أما صفة الرؤية فقد جاء في غير ما آية ، وفي أحاديث منها في هذا الحديث قوله صلّى اللّه عليه وسلم : ( هل تمارون في رؤية القمر وفي رؤية الشمس ) وإذا ثبت تجليه تعالى في صورة روح الشريعة لم يبق في رؤيته إشكال ، وإنما عبر بالوجه والقمر عن حقيقة الوجه وهو نور التوحيد ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
صلّى اللّه عليه وسلم يرفع حكمه ، فقال :« هَلْ يَنْظُرُونَ »أي ينتظرون« إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ »جمع ظلة وهو الطاق ، وهو قيام الساعة ، فما ينتظر غيرها ، وهو قوله : ( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ

ص 306

واختلاف الروايتين يجوز أن يكون تنبيها على اختلاف درجة الرؤيتين في نعيم الرؤية ، ويجوز أن يكون باعتبار الرؤية في البرزخ والآخرة ، فإن البرزخ كالليل وآيته القمر ، والآخرة كالنهار وآيته الشمس ، وقوله : ( ليس دونها سحاب ) فيه تربية لأهل المراقبة ، وذلك لأن غالب أهل المراقبة لا يشهدون بقلوبهم عند العبادة والمراقبة إلا ظلل آيات الشريعة ، ويحجبون بسحابها عن شهود وجه ربهم تعالى ، وهو نور توحيده ، فإذا كان يوم القيامة كشف الغطاء واحتد البصر ، فيرون وجه ربهم سبحانه كشمس لا دونها سحاب الأعمال ولا ظلل غمام الشرائع ، بل هو أقرب إليهم من أعمالهم .« وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ »خاصة اللّه تعالى أمرهم بالأدب في كل ما يلقي إليهم على توقيت أنفاسهم ، عند أخذهم منه تعالى بالحضور مع اللّه تعالى ، وكذلك إذا ردوا الأمور إليه ، يردونها محلاة بالأدب الإلهي ، واعلم يا أخي أن الناس إذا قاموا من قبورهم وأراد اللّه أن يبدل الأرض غير الأرض ، وتمد الأرض بإذن اللّه ، ويكون الجسر دون الظلمة ، فيكون الخلق عليه عندما يبدل اللّه الأرض كيف يشاء ، فيمدها مد الأديم ويزيد في سعتها ما يشاء أضعاف ما كانت ، ثم يقبض سبحانه السماء فيطويها بيمينه كطي السجل للكتب ، ثم يرميها على الأرض التي مدها ، فيقفون منتظرين ما يصنع اللّه بهم ، فإذا وهت السماء نزلت ملائكتها على أرجائها ، فيرى أهل الأرض خلقا عظيما أضعاف ما هم عليه عددا ، فيتخيلون أن اللّه نزل فيهم لما يرون من عظم المملكة مما لم يشاهدوه من قبل ، فيقولون : أفيكم ربنا ؟ فتقول الملائكة : سبحان ربنا ليس فينا وهو آت ، فتصف الملائكة صفا مستديرا على نواحي الأرض محيطين بالعالم ، الإنس والجن ، وهؤلاء هم عمار السماء الدنيا ، ثم ينزل أهل السماء الثانية بعد ما يقبضها اللّه أيضا ويرمي بكوكبها في النار ، وهم أكثر عددا من السماء الأولى ، فتقول الخلائق : أفيكم ربنا ؟ فتفزع الملائكة من قولهم ، فيقولون : سبحان ربنا ليس هو فينا وهو آت ، فيفعلون فعل الأولين من الملائكة ، يصطفون خلفهم صفا ثانيا مستديرا ، ثم ينزل أهل السماء الثالثة ويرمي بكوكبها في النار ، فتقول الخلائق : أفيكم ربنا ؟ فتقول الملائكة : سبحان ربنا ليس هو فينا وهو آت ، فلا يزال الأمر هكذا سماء بعد سماء ، حتى ينزل أهل السماء السابعة ، فيرون


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
السماء بالغمام ) أي عن الغمام ، فذلك إتيان اللّه إلى عباده للفصل والقضاء « والغمام » الضباب شبه السحاب ، والظلل جمع ظلة ، وهو ما يظلهم من ذلك ، أي طاقات من الغمام ظليلة ،

ص 307

خلقا أكثر من جميع من نزل ، فتقول الخلائق : أفيكم ربنا ؟ فتقول الملائكة : سبحان ربنا قد جاء ربنا وإن كان وعد ربنا لمفعولا ، فيأتي اللّه في ظلل من الغمام والملائكة ، وعلى المجنبة اليسرى جهنم ، ويكون إتيانه إتيان الملك ، فإنه يقول : ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )وهو ذلك اليوم فسمي بالملك ، ويصطف الملائكة عليهم السلام سبعة صفوف محيطة بالخلائق ، فإذا أبصر الناس جهنم لها فوران وتغيظ على الجبابرة المتكبرين ، فيفرون ، الخلق بأجمعهم منها لعظيم ما يرونه خوفا وفزعا ، وهو الفزع الأكبر ، إلا الطائفة التي لا يحزنهم الفزع الأكبر ، فتتلقاهم الملائكة( هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ )فهم الآمنون مع النبيين على أنفسهم ، غير أن النبيين تفزع على أممها للشفقة التي جبلهم اللّه عليها للخلق ، فيقولون في ذلك اليوم :
سلّم سلّم ، وكان اللّه قد أمر أن تنصب للآمنين من خلقه منابر من نور متفاضلة بحسب منازلهم في الموقف ، فيجلسون عليها آمنين مبشرين ، وذلك قبل مجيء الرب تعالى ، فإذا فرّ الناس خوفا من جهنم وفرقا لعظيم ما يرون من الهول في ذلك اليوم ، يجدون الملائكة صفوفا لا يتجاوزونهم ، فتطردهم الملائكة وزعة الملك الحق سبحانه وتعالى إلى المحشر ، وتناديهم أنبياؤهم : ارجعوا ارجعوا ، فينادي بعضهم بعضا ، فهو قول اللّه تعالى فيما يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : ( إني أخاف عليكم يوم التناد ، يوم تولون مدبرين ما لكم من اللّه من عاصم ) والرسل تقول : اللهم سلّم سلّم ، ويخافون أشد الخوف على أممهم ، والأمم يخافون على أنفسهم ، والمطهرون المحفوظون الذين ما تدنست بواطنهم بالشبه المضلة ، ولا ظواهرهم أيضا بالمخالفات الشرعية ، آمنون يغبطهم النبيون في الذي هم عليه من الأمن ، لما هم النبيون عليه من الخوف على أممهم ، فينادي مناد من قبل اللّه ، يسمعه أهل الموقف ، لا يدرون أو لا أدري هل ذلك نداء الحق سبحانه بنفسه ، أو نداء عن أمره سبحانه ، يقول في ذلك النداء : ( يا أهل الموقف ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ) فيؤتى بهم إلى الجنة ، ثم يسمعون من قبل الحق نداء ثانيا : ( أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، ليجزيهم اللّه


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فيقول : هل ينتظرون إلا أن يأتيهم اللّه بعذاب من عنده في ظلل من الغمام ، تحمل العذاب كما تحمل المطر ، كما كان في إهلاك عاد حين رأوا السحابة السوداء قد طلعت ، وكانوا مقحطين ،

ص 308

أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ) فيؤمر بهم إلى الجنة ، ثم يسمعون نداء ثالثا : ( يا أهل الموقف ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ، أين الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه ، ليجزي الصادقين بصدقهم ) فيؤمر بهم إلى الجنة ، فبعد هذا النداء يخرج عنق من النار ، فإذا أشرف على الخلق وله عينان ولسان فصيح يقول : ( يا أهل الموقف إني وكلت منكم بثلاث ) كما كان النداء الأول ثلاث مرات لثلاث طوائف من أهل السعادة ، وهذا كله قبل الحساب ، والناس وقوف قد ألجمهم العرق ، واشتد الخوف وتصدعت القلوب لهول المطلع ، فيقول ذلك العنق المستشرف من النار عليهم ( إني وكّلت بكل جبار عنيد ) فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط الطائر حب السمسم ، فإذا لم يترك أحدا منهم في الموقف نادى نداء ثانيا : ( يا أهل الموقف إني وكلت بمن آذى اللّه ورسوله ) فيلقطهم كما يلقط الطائر حب السمسم من بين الخلائق ، فإذا لم يترك منهم أحدا نادى ثالثة : ( يا أهل الموقف إن وكلت بمن ذهب يخلق كخلق اللّه ) فيلقط أهل التصاوير وهم الذين يصورون صورا في الكنائس لتعبد تلك الصور ، والذين يصورون الأصنام ، وهو قوله : ( أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ )فكانوا ينحتون لهم الأخشاب والأحجار ليعبدوها من دون اللّه ، فهؤلاء هم المصورون فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط الطير حب السمسم ، فإذا أخذهم اللّه عن آخرهم ، بقي الناس وفيهم المصورون الذين لا يقصدون بتصويرهم ما قصده أولئك من عباداتها ، حتى يسألوا عنها لينفخوا فيها أرواحا تحيا بها وليسوا بنافخين ، كما ورد في الخبر في المصورين ، فيقفون ما شاء اللّه ينتظرون ما فعل اللّه بهم ، والعرق قد ألجمهم ، قال علي


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فسروا بذلك واستبشروا وقالوا : ( هذا عارض ممطرنا ) لكون الغيث أبدا يستلزم الغمام ، فقال تعالى : ( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ )وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا رأى ذلك ، يتغير ويدخل ويخرج ، فإذا نزل الغيث وعلم أنه رحمة سكن ، فإذا رأى الناس ظلل الغمام التي هي مظنة الخير والرحمة يستبشرون ، فتبدو لهم منها من البأس والشدة ما لم يكونوا يحتسبون( وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ )وهو قوله في هذه الآية« وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ » .وقوله :« وَالْمَلائِكَةُ »بالرفع والجر ، فمن جر عطف على الغمام ، فتكون الملائكة الموكلون بما ذكرناه من بأس اللّه ، فإن هذه الآية آية وعيد وتهديد ، ومن رفع فمثل قوله : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ )والأولى

ص 309

ابن أبي طالب رضي اللّه عنه « 1 » قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إن في القيامة لخمسين موقفا ، كل موقف منها ألف سنة ، فأول موقف إذا خرج الناس من قبورهم يقومون على أبواب قبورهم ألف سنة عراة حفاة جياعا عطاشا ، فمن خرج من قبره مؤمنا بربه مؤمنا بنبيه ، مؤمنا بجنته وناره ، مؤمنا بالبعث والقيامة ، مؤمنا بالقضاء والقدر خيره وشره ، مصدقا بما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلم من عند ربه ، نجا وفاز وغنم وسعد ، ومن شك في شيء من هذا بقي في جوعه وعطشه وغمه وكربه ألف سنة ، حتى يقضي اللّه فيه بما شاء ، ثم يساقون من ذلك المقام إلى المحشر ، فيقفون على أرجلهم ألف عام في سرادقات النيران في حر الشمس ، والنار عن أيمانهم ، والنار عن شمائلهم ، والنار من بين أيديهم ، والنار من خلفهم ، والشمس من فوق رؤوسهم ، ولا ظل إلا ظل العرش ، فمن لقي اللّه تبارك وتعالى شاهدا له بالإخلاص ، مقرا بنبيه صلّى اللّه عليه وسلم ، بريئا من الشرك ومن السحر ، وبريئا من إهراق دماء المسلمين ، ناصحا للّه ولرسوله ، محبا لمن أطاع اللّه ورسوله ، مبغضا لمن عصى اللّه ورسوله ، استظل تحت ظلّ عرش الرحمن ، ونجا من غمه ، ومن حاد عن ذلك ووقع في شيء من الذنوب بكلمة واحدة ، أو تغير قلبه أو شك في شيء من دينه ، بقي ألف سنة في الحر والهم والعذاب حتى يقضي اللّه فيه بما يشاء ، ثم يساق الخلق إلى النور والظلمة ، فيقيمون في تلك الظلمة ألف عام ، فمن لقي اللّه تبارك وتعالى لم يشرك به شيئا ، ولم يدخل في قلبه شيء من النفاق ، ولم يشك في شيء من أمر دينه ، وأعطى الحق من نفسه ، وقال الحق ، وأنصف الناس من نفسه ، وأطاع اللّه في السر


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
في هذا الإتيان أنه للفصل والقضاء ، فيتضمن الرحمة للمؤمنين لما في الغمام من الغيث ، ويتضمن


( 1 ) هذا الحديث الوارد بطوله هنا ، وتتمته في تفسير قوله تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها )يقول فيه الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي رضي اللّه عنه ، حدثنا شيخنا القصار بمكة سنة تسع وتسعين وخمسمائة ، تجاه الركن اليماني من الكعبة المعظمة ، وهو يونس بن يحيى بن الحسين بن أبي البركات الهاشمي العباسي ، من لفظه وأنا أسمع ، قال :
حدثنا أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي ، قال : حدثنا أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن موسى بن جعفر المعروف بابن الخياط المغربي ، قال : قرئ على أبي سهل محمود بن عمر بن إسحاق العكبري وأنا أسمع ، قيل له حدثكم رضي اللّه عنكم ، أبو بكر محمد بن الحسن النقاش ؟ فقال : نعم حدثنا أبو بكر قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسين ابن علي الطبري المروزي ، قال : حدثنا محمد بن حميد الرازي أبو عبد اللّه ، قال : حدثنا سلمة بن صالح ، قال : أنا القاسم بن الحكم عن سلام الطويل ، عن غياث بن المسيب عن عبد الرحمن بن غنم وزيد بن وهب ، عن عبد اللّه بن مسعود ، قال : كنت جالسا عند علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وعنده عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه ، وحوله عدة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال علي رضي اللّه عنه - الحديث .

ص 310

والعلانية ، ورضي بقضاء اللّه ، وقنع بما أعطاه اللّه ، خرج من الظلمة إلى النور في مقدار طرفة العين ، مبيضا وجهه ، قد نجا من الغموم كلها ، ومن خالف في شيء منها بقي في الغم والهم ألف سنة ، ثم خرج منها مسودا وجهه ، وهو في مشيئة اللّه يفعل به ما يشاء ، ثم يساق الخلق إلى سرادقات الحساب ، وهي عشر سرادقات ، يقفون في كل سرداق منها ألف سنة ، فيسأل ابن آدم عند أول سرداق منها عن المحارم ، فإن لم يكن وقع في شيء منها جاز إلى السرادق الثاني ، فيسأل عن الأهواء فإن كان نجا منها جاز إلى السرادق الثالث ، فيسأل عن عقوق الوالدين ، فإن لم يكن عاقا جاز إلى السرادق الرابع ، فيسأل عن حقوق من فوض اللّه إليه أمورهم ، وعن تعليمهم القرآن ، وعن أمر دينهم وتأديبهم ، فإن كان قد فعل جاز إلى السرادق الخامس ، فيسأل عما ملكت يمينه ، فإن كان محسنا إليهم جاز إلى السرادق السادس ، فيسأل عن حق قرابته ، فإن كان أدى حقوقهم جاز إلى السرادق السابع ، فيسأل عن صلة الرحم ، فإن كان وصولا لرحمه جاز إلى السرادق الثامن ، فيسأل عن الحسد ، فإن لم يكن حاسدا جاز إلى السرادق التاسع فيسأل عن المكر ، فإن لم يكن مكر بأحد جاز إلى السرادق العاشر ، فيسأل عن الخديعة ، فإن لم يكن خدع أحدا نجا ونزل في ظل عرش اللّه تعالى قارة عينه فرحا قلبه ضاحكا فوه ، وإن كان قد وقع في شيء من هذه الخصال بقي في كل موقف منها ألف عام جائعا عاطشا حزنا مغموما مهموما لا ينفعه شفاعة شافع ، ثم يحشرون إلى أخذ كتبهم بأيمانهم وشمائلهم ، فيحبسون عند ذلك في خمسة عشر موقفا ، كل موقف منها ألف سنة ، فيسألون في أول موقف منها عن الصدقات وما فرض اللّه عليهم من أموالهم ، فمن أداها كاملة جاز إلى الموقف الثاني ، فيسأل عن قول الحق والعفو عن الناس ، فمن عفا عفا اللّه عنه وجاز إلى الموقف الثالث ، فيسأل عن الأمر بالمعروف ، فإن كان آمرا بالمعروف جاز إلى الموقف الرابع ، فيسأل عن النهي عن المنكر ، فإن كان ناهيا عن المنكر جاز إلى الموقف الخامس ، فيسأل عن حسن الخلق ، فإن كان حسن الخلق جاز إلى الموقف السادس ، فيسأل عن الحب في اللّه والبغض في اللّه ، فإن كان محبا في اللّه مبغضا في اللّه جاز إلى الموقف السابع ، فيسأل عن مال الحرام ، فإن لم يكن أخذ شيئا جاز إلى الموقف الثامن ، فيسأل عن شرب الخمر ، فإن لم يكن شرب من الخمر


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
البأس للكافرين لما يتضمن من الصواعق والرعود القواصف والبروق الخواطف والرياح

ص 311

شيئا جاز إلى الموقف التاسع ، فيسأل عن الفروج الحرام ، فإن لم يكن أتاها جاز إلى الموقف العاشر ، فيسأل عن قول الزور ، فإن لم يكن قاله ، جاز إلى الموقف الحادي عشر ، فيسأل عن الأيمان الكاذبة ، فإن لم يكن حلفها جاز إلى الموقف الثاني عشر ، فيسأل عن أكل الربا ، فإن لم يكن أكله جاز إلى الموقف الثالث عشر ، فيسأل عن قذف المحصنات ، فإن لم يكن قذف المحصنات أو افترى على أحد جاز إلى الموقف الرابع عشر ، فيسأل عن شهادة الزور ، فإن لم يكن شهدها جاز إلى الموقف الخامس عشر ، فيسأل عن البهتان ، فإن لم يكن بهت مسلما مر فنزل تحت لواء الحمد وأعطي كتابه بيمينه ونجا من غم الكتاب وهوله وحوسب حسابا يسيرا ، وإن كان قد وقع في شيء من هذه الذنوب ثم خرج من الدنيا غير تائب من ذلك بقي في كل موقف من هذه الخمسة عشر موقفا ألف سنة في الغم والهول والهم والحزن والجوع والعطش حتى يقضي اللّه عزّ وجل فيه بما يشاء ، ثم يقام الناس في قراءة كتبهم ألف عام ، فمن كان سخيا قد قدم ماله ليوم فقره وحاجته وفاقته ، قرأ كتابه وهون عليه قراءته ، وكسي من ثياب الجنة ، وتوج من تيجان الجنة ، وأقعد تحت ظل عرش الرحمن آمنا مطمئنا ، وإن كان بخيلا لم يقدم ماله ليوم فقره وفاقته ، أعطي كتابه بشماله ، ويقطع له من مقطعات النيران ، يقام على رؤوس الخلائق ألف عام في الجوع والعطش والعري والهم والغم والحزن والفضيحة حتى يقضي اللّه عزّ وجل فيه بما يشاء ، ثم يحشر الناس إلى الميزان ، فيقومون عند الميزان ألف عام ، فمن رجح ميزانه بحسناته فاز ونجا في طرفة عين ، ومن خف ميزانه من حسناته وثقلت سيئاته حبس عند الميزان ألف عام في الغم والهم والحزن والعذاب والجوع والعطش حتى يقضي اللّه فيه بما يشاء ، ثم يدعى بالخلق إلى الموقف بين يدي اللّه في اثني عشر موقفا ، كل موقف منها مقدار ألف عام ، فيسأل في أول موقف عن عتق الرقاب ، فإن كان أعتق رقبة أعتق اللّه رقبته من النار وجاز إلى الموقف الثاني ، فيسأل عن القرآن وحقه وقراءته ، فإن جاء بذلك تاما جاز إلى الموقف الثالث ، فيسأل عن الجهاد ، فإن كان جاهد في سبيل اللّه محتسبا جاز إلى الموقف الرابع ، فيسأل عن الغيبة ، فإن لم يكن اغتاب جاز إلى الموقف الخامس ، فيسأل عن النميمة ، فإن لم يكن نماما جاز إلى الموقف السادس ، فيسأل عن الكذب ، فإن لم يكن كذابا جاز إلى الموقف السابع ، فيسأل عن طلب العلم ، فإن


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الزعازع ، والملائكة بالبشرى للفريقين ، ففريق تبشره بعذاب أليم ، وفريق تبشره بنعيم مقيم

ص 312

كان طلب العلم وعمل به جاز إلى الموقف الثامن ، فيسأل عن العجب ، فإن لم يكن معجبا بنفسه في دينه ودنياه أو في شيء من عمله جاز إلى الموقف التاسع ، فيسأل عن التكبر ، فإن لم يكن تكبر على أحد جاز إلى الموقف العاشر ، فيسأل عن القنوط من رحمة اللّه ، فإن لم يكن قنط من رحمة اللّه جاز إلى الموقف الحادي عشر ، فيسأل عن الأمن من مكر اللّه ، فإن لم يكن أمن من مكر اللّه جاز إلى الموقف الثاني عشر ، فيسأل عن حق جاره ، فإن كان أدى حق جاره أقيم بين يدي اللّه تعالى قريرا عينه ، فرحا قلبه ، مبيضا وجهه كاسيا ضاحكا مستبشرا ، فيرحب به ربه ويبشره برضاه عنه ، فيفرح عند ذلك فرحا لا يعلمه أحد إلا اللّه ، فإن لم يأت بواحدة منهن تامة ومات غير تائب حبس عند كل موقف ألف عام حتى يقضي اللّه عزّ وجل فيه بما يشاء ، ثم يؤمر بالخلائق إلى الصراط ، فينتهون إلى الصراط وقد ضربت عليه الجسور على جهنم ، أدق من الشعر وأحدّ من السيف ، وقد غابت الجسور في جهنم مقدار أربعين ألف عام ، ولهيب جهنم بجانبها يلتهب ، وعليها حسك وكلاليب وخطاطيف ، وهي سبعة جسور ، يحشر العباد كلهم عليها ، وعلى كل جسر منها عقبة مسيرة ثلاثة آلاف عام ، ألف عام صعود ، وألف عام استواء ، وألف عام هبوط ، وذلك قول اللّه تعالى عزّ وجل : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ )يعني على تلك الجسور ، وملائكته يرصدون الخلق عليها ، ليسأل العبد عن الإيمان باللّه فإن جاء به مؤمنا مخلصا لا شك فيه ولا زيغ جاز إلى الجسر الثاني ، فيسأل عن الصلاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر الثالث ، فيسأل عن الزكاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر الرابع ، فيسأل عن الصيام ، فإن جاء به تاما جاز إلى الجسر الخامس ، فيسأل عن حجة الإسلام ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر السادس ، فيسأل عن الطهر فإن جاء به تاما جاز إلى الجسر السابع ، فيسأل عن المظالم ، فإن كان لم يظلم أحدا جاز إلى الجنة ، وإن كان قصّر في واحدة منهن حبس على كل جسر منها ألف سنة حتى يقضي اللّه عزّ وجل فيه بما يشاء ، واعلم أن القيامة أمر محقق موجود حسي مثل ما هو الإنسان في الدنيا ، والحشر المحسوس في الأجسام المحسوسة والميزان المحسوس والصراط المحسوس والنار والجنة المحسوستين ، كل ذلك حق وأعظم في القدرة ، فإذا قام الناس ، ومدت الأرض ، وانشقت السماء ، وانكدرت النجوم ، وكورت


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
"وَقُضِيَ الْأَمْرُ " بين الفريقين فريق في الجنة وفريق في السعير« وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ »( 212 )

ص 313

الشمس ، وخسف القمر ، وحشرت الوحوش ، وسجرت البحار ، وزوجت النفوس بأبدانها ، ونزلت الملائكة على أرجائها ، أعني أرجاء السماوات ، وأتى ربنا في ظلل من الغمام ، ونادى المنادي : يا أهل السعادة ، فأخذ منهم الثلاث الطوائف الذين ذكرناهم ، وخرج العنق من النار فقبض الثلاث الطوائف التي ذكرناهم ، وماج الناس ، واشتد الحر ، وألجم الناس العرق ، وعظم الخطب ، وجل الأمر ، وكان البهت فلا تسمع إلا همسا ، وجيء بجهنم ، وطال الوقوف بالناس ولم يعلموا ما يريد الحق بهم ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
فيقول الناس بعضهم لبعض ، تعالوا ننطلق إلى أبينا آدم فنسأله أن يسأل اللّه لنا أن يريحنا مما نحن فيه فقد طال وقوفنا ، فيأتون إلى آدم ، فيطلبون منه ذلك ، فيقول آدم : إن اللّه قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وذكر خطيئته ، فيستحي من ربه أن يسأله ، فيأتون إلى نوح بمثل ذلك ، فيقول لهم مثل ما قال آدم ، ويذكر دعوته على قومه وقوله ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ، ثم يأتون إلى إبراهيم عليه السلام بمثل ذلك ، فيقولون له مثل مقالتهم لمن تقدم ، فيقول كما قال من تقدم ، ويذكر كذباته الثلاث ، ثم يأتون إلى موسى وعيسى ويقولون لكل واحد من الرسل مثل ما قالوه لآدم ، فيجيبونهم مثل جواب آدم ، فيأتون إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم وهو سيد الناس يوم القيامة ، فيقولون له مثل ما قالوا للأنبياء ، فيقول محمد صلّى اللّه عليه وسلم : أنا لها ، وهو المقام المحمود الذي وعده اللّه به يوم القيامة ، فيأتي ويسجد ويحمد اللّه بمحامد يلهمه اللّه تعالى إياها في ذلك الوقت ، لم يكن يعلمها قبل ذلك ، ثم يشفع إلى ربه أن يفتح باب الشفاعة للخلق ، فيفتح اللّه ذلك الباب ، فيأذن في الشفاعة للملائكة والرسل والأنبياء والمؤمنين ، فبهذا يكون سيد الناس يوم القيامة ، فإنه شفع عند اللّه أن تشفع الملائكة والرسل ، ومع هذا تأدب صلّى اللّه عليه وسلم وقال : أنا سيد الناس ، ولم يقل سيد الخلق فتدخل الملائكة في ذلك ، مع ظهور سلطانه في ذلك اليوم على الجميع ، وذلك أنه صلّى اللّه عليه وسلم جمع له بين مقامات الأنبياء عليهم السلام كلهم ، ولم يكن ظهر له على الملائكة ما ظهر لآدم عليه السلام من اختصاصه بعلم الأسماء كلها ، فإذا كان في ذلك اليوم ، افتقر الجميع من الملائكة والناس من آدم فمن دونه في فتح باب الشفاعة وإظهار ما له من الجاه عند اللّه ، إذ كان القهر الإلهي والجبروت الأعظم قد أخرس الجميع ، وكان هذا المقام مثل مقام آدم عليه السلام وأعظم ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
« سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ » .يقول اللّه لنبيه : سل بني إسرائيل كم ، وإن كانت

ص 314

في يوم اشتدت الحاجة فيه ، مع ما ذكر من الغضب الإلهي الذي تجلى فيه الحق في ذلك اليوم ، ولم تظهر مثل هذه الصفة فيما جرى من قضية آدم ، فدل بالمجموع على عظيم قدره صلّى اللّه عليه وسلم ، حيث أقدم مع هذه الصفة الغضبية الإلهية على مناجاة الحق فيما سأل فيه ، فأجابه الحق سبحانه ، وعلقت الموازين ، ونشرت الصحف ، ونصب الصراط ، وبدئ بالشفاعة ، فأول ما شفعت الملائكة ، ثم النبيون ، ثم المؤمنون ، وبقي أرحم الراحمين ، وهنا تفصيل عظيم يطول الكلام فيه ، فإنه مقام عظيم ، غير أن الحق يتجلى في ذلك اليوم فيقول : لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، حتى تبقى هذه الأمة وفيها منافقوها ، فيتجلى لهم الحق في أدنى صورة من الصور التي كان تجلى لهم فيها قبل ذلك ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ باللّه منك ، ها نحن منتظرون حتى يأتينا ربنا ، فيقول لهم جل وتعالى : هل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها ؟ فيقولون : نعم ، فيتحول لهم في الصورة التي عرفوه فيها بتلك العلامة ، فيقولون :
أنت ربنا ، فيأمرهم بالسجود ، فلا يبقى من كان يسجد للّه إلا سجد ، ومن كان يسجد اتقاء ورياء جعل اللّه ظهره طبقة نحاس ، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ، وذلك قوله : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ )يعني في الدنيا ، والساق التي كشفت لهم عبارة عن أمر عظيم من أهوال يوم القيامة ، فإذا وقعت الشفاعة ولم يبق في النار مؤمن شرعي أصلا ، ولا من عمل عملا مشروعا من حيث ما هو مشروع بلسان نبي ، ولو كان مثقال حبة من خردل فما فوق ذلك في الصغر إلا خرج بشفاعة النبيين والمؤمنين ، وبقي أهل التوحيد الذين علموا التوحيد بالأدلة العقلية ولم يشركوا باللّه شيئا ، ولا آمنوا إيمانا شرعيا ، ولم يعملوا خيرا قط من حيث ما اتبعوا فيه نبيا من الأنبياء ، فلم يكن عندهم ذرة من إيمان فما دونها ، فيخرجهم أرحم الراحمين وما عملوا خيرا قط ، يعني مشروعا من حيث ما هو مشروع ، ولا خير أعظم من الإيمان وما عملوه ، وهذا حديث عثمان بن عفان في صحيح مسلم بن الحجاج ، قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : من مات وهو يعلم - ولم يقل يؤمن - أنه لا إله إلا اللّه دخل الجنة ، ولا قال يقول ، بل أفرد العلم ، ففي هؤلاء تسبق عناية اللّه في النار ، فإن النار بذاتها لا تقبل تخليد موحد للّه بأي وجه كان - إشارة - قرأ


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
تحتمل أن تكون خبرية ولكن الاستفهام فيها أظهر ، فإن قوله :« سَلْ »يطلبها ، والسؤال

ص 315

بعضهم« هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي »إشارة إلى قوله صلّى اللّه عليه وسلم : ( خلق اللّه آدم على صورته ) وقوله صلّى اللّه عليه وسلم عن أولياء اللّه : ( إذا رأوا ذكر اللّه ) .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 211
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ( 211 ).
« وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ »وهي ما بشّرنا به من عموم مغفرته« مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ »فمن هنا وإن كانت شرطا ففيها رائحة الاستفهام ، وقال في الجواب :« أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ »ولم يقل فإن اللّه يعاقب من بدل نعمة اللّه ، فهو كما قال شديد العقاب في حال العقوبة ، فما ثم من يقدر يبدل نعمة اللّه من بعد ما جاءته ، فيبدل نعمة اللّه بما هو خير منها بحسب الوقت ، فإن الحكم له ، قال تعالى : ( لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ )وهي أعيان العالم ، وإنما التبديل للّه لا لهم ، فقوله فيمن بدل نعمة اللّه من بعد ما جاءته إنه شديد العقاب ، أي يسرع تعالى إلى من هذه صفته بالعقاب ، وهو أن يعقبه فيما بدله أن التبديل للّه عزّ وجل ليس له ، فيعرفه أنه بيده ملكوت كل شيء ، فإن اللّه ما قرن بهذا العقاب ألما ، ومتى لم يقرن الألم بعذاب أو عقاب فله محمل في عين الأمر المؤلم ، فإنه لا يخاف إلا من الألم ، ولا يرغب إلا في الالتذاذ خاصة ، هذا يقتضيه الطبع الذي وجد عليه من يقبل الألم واللذة .


سورة البقرة ( 2 ) : آية 212
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ( 212 )
عليه .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
استفهام ، وهو استفهام تقرير ، يقول : سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيات النعم ، وقد ذكرناها فيما تقدم ، من تظليل الغمام وإهلاك عدوهم وغير ذلك ، فإذا أخبروك بما أنعمت عليهم ، وأقروا عندك بذلك واعترفوا فقل لهم :« وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ »أي من حق نعمة اللّه الشكر عليها ، فمن بدله بكفرها« فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ »على ذلك ، ووجه آخر« كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ »على صدقك في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم ، وهي نعمة مني عليهم ، حيث

ص 316
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "213 - 220" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:45 am

تفسير آلآيات من "213 - 220" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلمات الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 213
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 213 )
. . ."فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ »بشارة الأنبياء متعلقة بالعمل المشروع ، وهو أنه من عمل كذا كان له كذا في الجنة ، أو نجاه اللّه من النار بعمل كذا ، هذا لا يكون إلا


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أقمت لهم البينات على طريق هداهم ،« وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ »أي من بعد ما علمها وتحققها ، مثل قوله : ( ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ )فإن اللّه يعاقبهم على ذلك أشد العقوبة ، وإذا كانت« كَمْ »خبرية ، يقول : يا محمد« سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ »ثم يخبره سبحانه فيقول له :« كَمْ آتَيْناهُمْ »يا محمد ، أي أعطيناهم« مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ »فإنك إذا سألتهم يقولون ذلك مثل ما أخبرتك ، ويكون قوله :« وَمَنْ يُبَدِّلْ »إخبارا لمحمد عليه السلام أن الأمر في كل من بدل نعمة اللّه كذا ، أو يكون على جهة أن يعرفهم بذلك إذا سألهم واعترفوا بنعم اللّه ( 213 )« زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا »لا فاعل إلا اللّه تعالى قال تعالى : ( زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ )تنبيه أن يعتقد ذلك وأنه من قضائه وقدره ، إذ كل شيء بيده ، ثم قال : ( زين لهم الشيطان أعمالهم ) تنبيه على الأدب ، ويضاف إلى الشيطان إذ جرى عليه لسان الذم من اللّه تعالى تنزيها لجنابه ، وذلك بحسب المخاطبين فإن كان في العقد خلل أضيف التزيين إلى اللّه ليثبت في قلبه اعتقاد كل شيء بيده ، والخير والشر من اللّه ، وإن كان [ العقد ] سالما أضاف مثل ذلك إلى الشيطان أو إلى نفسه ، ثم جعل مرتبة ثالثة في ذلك ، فبنى منه فعل ما لم يسم فاعله فقال : ( أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً )وقال :« زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا »ولم يذكر من زينها لهم ، فهي حالة وسط بين العقد والأدب ، فإذا لم يترجح عند المتكلم أحد الجانبين قال بهذه الصفة ، لقرينة الحال ، حيث يجمع المجلس المخاطبين الوجهين معا ، فلا يكون إنكار ، فإن كل واحد يأخذه على حاله في الوقت ، فقال :« زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا »أي نعيم الدنيا ، وطلبوا المثابرة عليه ، فإنه من حسن عنده شيء رغب في تحصيله والتكثر منه ، وسفّه غيره في ترك طلبه إياه ، فإذا رأى من يزهد فيما

ص 317

للرسل ، وكذلك الإنذار في مخالفة اللّه تعالى وأوامره ، أما قوله تعالى :« فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ »اعلم أن اللّه اصطفى من كل جنس نوعا ، ومن كل نوع شخصا ، واختاره عناية منه بذلك المختار ، أو عناية بالغير بسببه ، فاختص اللّه من أيام الأسبوع يوم العروبة ، وهو يوم الجمعة ، وعرف الأمم أن للّه يوما اختصه من هذه السبعة الأيام ، ولما ذكر اللّه شرف هذا اليوم للأمم ولم يعينه ، وكلهم اللّه في العلم به لاجتهادهم ، فاختلفوا فيه ، فقالت النصارى : أفضل الأيام واللّه أعلم هو يوم الأحد ، فاتخذوه عيدا ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
استحسنه بما زين له سخر منه ، فقال تعالى :« وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا »حيث يعيبون عليهم ما هم فيه من نعيم الدنيا ، فيقولون : [ لا عقل لهم ] مستهزءين بهم ، فقال تعالى :« وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ »ففيه تحريض للمؤمن على التقوى ، حتى لا يشاركونهم يوم القيامة في شيء من النار ، فلو قال : [ والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة ] لكان الكافر إذا رأى المؤمنين الذين أوبقتهم الذنوب حتى أوردتهم النار إلى أن يشفع فيهم فيخرجون ، لم يكن يصدق عندهم قوله : [ والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة ] فذكر المتقين الذين يحشرون يوم القيامة إلى الرحمن وفدا ، فيعلمون عند ذلك صدق اللّه في صفة المتقي ، إذ لا طريق له إلى النار ، ثم قال :« وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ »أي هذا المتقي أيضا قد يكون له حظ عظيم من الدنيا ، ولا سيما كملك سليمان ويوسف وداود وما فتح اللّه به على محمد صلى اللّه عليهم أجمعين ، ولا أحاسبهم عليها ، كما ورد في الحديث أن من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، ومن فسره على التقدير ، أي بغير تقدير ، فليس بشيء ، فإن اللّه يقول : ( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ )( وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ )ولا تقتضي الألوهية أن تكون الأمور جزافا ، تعالى اللّه عن ذلك ، فهذا معنى« وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ »وإن قلنا معناه بغير تقدير ، فيكون عند المرزوق ، وإن كان يقول اللّه : هذا الرزق معلوم القدر عندنا ، فما أعلمنا المرزوق بذلك ، فمعناه بغير تقدير عنده ، والأول أولى وأمدح بالمتقي ( 214 )« كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً »كان حرف وجودي ، يقول إن الناس أوجدهم على الفطرة وكلهم أقروا بوجود اللّه ، ثم اختلفوا بعد ذلك بحسب ما ظهر لكل واحد منهم عندما بحث وفكر في معرفة من استند إليه في وجوده ، فاختلفت الفرق في ذلك ، وكل ذهب إلى ما أفضاه نظره ، فمنهم المصيب ومنهم المخطئ« فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ »بالكتب« مُبَشِّرِينَ »لمن أصاب الحق في نظره« وَمُنْذِرِينَ »من أخطأ أن يرجع إلى الصواب ، وعينت الأنبياء لهم ذلك« وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ »الكتب

ص 318


وقالت : هذا هو اليوم الذي أراده اللّه ، ولم يقل لهم نبيهم في ذلك شيئا ، ولا علم لنا هل أعلم اللّه نبيهم بذلك أم لا ، فإنه ما ورد بذلك خبر ، وقالت اليهود : بل ذلك اليوم السبت ، فإن اللّه فرغ من الخلق يوم العروبة واستراح يوم السبت ، واستلقى على ظهره ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال أنا الملك ، قال اللّه تعالى في مقابلة هذا الكلام وأمثاله : ( وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) *فقالت اليهود : يوم السبت هو اليوم الذي أراده اللّه بأنه أفضل أيام الأسبوع ، فاختلفت اليهود والنصارى ، وجاءت هذه الأمة ، فجاء جبريل إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم بيوم الجمعة في صورة مرآة مجلوة فيها نكتة ، فقال له : هذا يوم الجمعة ، وهذه النكتة ساعة فيه لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي إلا غفر اللّه له« فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ »فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : فهدانا اللّه لما اختلفت فيه أهل الكتاب ، وأضاف الهداية إلى اللّه ، وسبب فضله أنه اليوم الذي خلق اللّه فيه هذه النشأة الإنسانية التي خلق المخلوقات من يوم الأحد إلى يوم الخميس من أجلها ، فلا بد أن يكون أفضل الأوقات ، ولا تعرف الساعة التي فيه إلا بإعلام اللّه ، وهذه الساعة في يوم الجمعة كليلة القدر في السنة سواء ، فيوم الجمعة خير يوم طلعت فيه الشمس ، فما بيّنه اللّه لأحد إلا لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، لمناسبته الكمالية ، فإنه أكمل الأنبياء ، ونحن أكمل الأمم ، وسائر الأمم وأنبيائها ما أبان الحق لهم عنه . لأنهم لم يكونوا من المستعدين له ، لكونهم دون درجة الكمال ، أنبياؤهم دون محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وأممهم دوننا في الكمال ، فيوم الجمعة هو آخر أيام الخلق وفيه خلق من خلقه اللّه على صورته وهو آدم ، فبه ظهر كمال إتمام الخلق وغايته ، وبه ظهر أكمل المخلوقات وهو الإنسان وهو آخر المولدات ،


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ليحكموا بها بين الناس فيما اختلفوا فيه ، فيكون الحاكم اللّه بينهم في ذلك ، ثم إنهم اختلفوا في الكتاب خلافا آخر ، فمنهم من صدق به ومنهم من كذب به جهلا ، ومنهم من كذب به بغيا وحسدا كيف أنزل على شخص منهم بعينه دون غيره ، وهم مشتركون في الجنس الإنساني ، والذين صدقوا به اختلفوا فيما يتضمنه ، فمنهم من آمن به كله ، ومنهم من آمن ببعضه وكفر ببعضه ، وانقسم هذا المخلط قسمين : منهم من كفر ببعضه جهلا بمعناه وقلة فهم ، ومنهم من كفر ببعضه بغيا وحسدا كما قلنا ، مثل كفرهم بما جاء في التوراة من ذكر القرآن ونبوة محمد وملة إبراهيم ، والذين آمنوا على قسمين : منهم من اجتهد فأخطأ في بعض المسائل كيوم الجمعة الذي فرضه اللّه عليهم كما فرضه علينا ، فقالت اليهود السبت وقالت النصارى الأحد ، وهدى اللّه المؤمنين لما اختلفوا

ص 319

وأطلق اللّه على هذا اليوم اسما على ألسنة العرب في الجاهلية وهو لفظ العروبة ، أي هو يوم الحسن والزينة ، فلم يكن في الأيام أكمل من يوم الجمعة ، فإن فيه ظهرت حكمة الاقتدار بخلق الإنسان فيه ، فلما كان أكمل الأيام وخلق فيه أكمل الموجودات خصه بالساعة التي ليست لغيره من الأيام ، والزمان كله ليس سوى هذه الأيام ، فلم تحصل هذه الساعة لشيء من الزمان إلا ليوم الجمعة ، وكان خلق الإنسان في الساعة المذكورة المخصصة من يوم الجمعة ، فإنها أشرف ساعاته ، فالحمد للّه الذي اصطفانا وهدانا إلى يوم الجمعة وخصنا بساعته ، فإنه من أعظم الهداية التي هدى اللّه إليها هذه الأمة خاصة ، فإنه اليوم الذي اختلفوا فيه ، فيوم الجمعة أشرف أيام الأسبوع ، وشرفه ذاتي لعينه ، ولا يفاضل بيوم عرفة ولا غيره ، فإن فضل يوم عرفة وعاشوراء لأمور عرضت ، إذا وجدت في أي يوم كان من أيام الأسبوع كان الفضل لذلك اليوم لهذه الأحوال العوارض ، ولهذا شرع الغسل ، وهو فرض عندنا ليوم الجمعة لا لنفس الصلاة ، فإن اتفق أن يغتسل في ذلك اليوم لصلاة الجمعة فلا خلاف أنه أفضل بلا شك .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فيه من ذلك فأصبنا يوم الجمعة ، وأصبنا ملة إبراهيم وأصبنا الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله من غير أن يفرق بين أحد منهم ، فقال تعالى مخبرا :« كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً »أي على أمر واحد فاختلفوا« فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ »مرغبين ومخوفين« وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ »الحق المنزل في الكتاب .« بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ »ليبين الصواب عند من هو منهم من الخطأ ، ثم اختلف في الكتاب من أنزل إليهم من الأمم ، فقال :« وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ »يقول : المعجزات والدلائل على أن هذا الكتاب هو من عند اللّه« بَغْياً »حسدا« بَيْنَهُمْ »كيف أنزل الكتاب على فلان ولم ينزل على فلان ، كما قالوا في القرآن( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ )فذكر الطائفة التي علمت وجحدت ، والطائفة التي جاءها الدليل فلم تعقله« فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا »المؤمنين من أهل الكتاب ومنا« لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ »أي بإعلامه إيانا على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلم« وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ »منا ومنهم« إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ »إلى الطريق الذي يهدي إلى الحق الذي فيه سعادتهم عند اللّه ( 215 )« أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ »نزلت لما أصيب المسلمون يوم أحد تعزية للنبي صلّى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، بما أصاب الأمم المؤمنين قبلهم من الشدة والبلاء ، فقال لما ذكر أنهم

ص 320

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 214 إلى 216
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( 214 ) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 215 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 216 )
"وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً »وهو ما لا يوافق الغرض ، فإن أكثر الناس يسأل نيل ما


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
مهتدون إلى الإيمان« أَمْ حَسِبْتُمْ »لكونكم مؤمنين« أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ »من غير ابتلاء وامتحان« وَلَمَّا يَأْتِكُمْ »يصبكم« مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ »شبه الذين خلوا من الأمم« مَسَّتْهُمُ »الضمير يعود على الذين خلوا« الْبَأْساءُ »شدة القتل« وَالضَّرَّاءُ »ما يضرهم من البلاء الواقع بهم من الأعداء« وَزُلْزِلُوا »أي أرجفوا في قلوبهم بالمخاويف ، من قصد العدو ونكايتهم ومنازلتهم فيشتد عليهم ذلك« حَتَّى »إلى أن« يَقُولَ الرَّسُولُ »المبعوث إليهم« وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ »لشدة ما مسهم من الضر والإرجاف« مَتى نَصْرُ اللَّهِ »أي متى يأتي نصر اللّه الذي وعدنا من قوله( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ )فقال اللّه لهم« أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ »إتيانه إليكم ، بشرى لهم وتسكين لما وقع في قلوبهم من الخوف أن تعلو [ . . . ] ، إذ المؤمن الحقيقي غائب عن نفسه بإيثار جانب ربه في إعلاء كلمته وإعزازها ، ولما كانت لا تعلو ولا تظهر إلا بظهور المؤمنين وسلامتهم وقوتهم وبقائهم ، كان سؤالهم في حصول العافية لهم تبعا ، فأيقن الصحابة عند ذلك ومن يأتي بعدهم من المؤمنين إلى يوم القيامة أنه سبحانه لا بد أن يبتلي عباده ، فإنه خبّر وخبره صدق ، قال تعالى : ( ألم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ )ومثل هذه الآيات ( 216 )« يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ »الآية ، قال تعالى : ( وأنفقوا ) فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم« ما ذا يُنْفِقُونَ »فقال اللّه تعالى :« قُلْ »يا محمد« ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ »فبيّن أن النفقة من

ص 221

له فيه غرض من اللّه ، فإذا لم يفعله اللّه له يكره العبد ذلك الترك من اللّه ، ويقول : لعل اللّه جعل لي في ذلك خيرا من حيث لا أشعر ، وهو قوله تعالى :« وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ »ومن هنا يعلم فضل الحاصل على الفائت في حقك إذا كان فيه سعادتك ، ولا فضل للفائت على الحاصل إذا كان الفائت مطلوبك ولو حصل لك أشقاك وأنت لا تعلم ، فكان الفضل فيه في حقك فوته ، فإن بفوته سعدت ، وهذا لا يكون إلا لمن أسعده اللّه .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
المال الذي هو الخير ، كما قال : ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً )أي مالا ، ف » أعطوه « للوالدين والأقربين » أي صلوا به أرحامكم« وَالْيَتامى »الذين لا مال لهم« وَالْمَساكِينِ »الذين يسكنون إليكم لحاجتهم وإن لم يسألوا« وَابْنِ السَّبِيلِ »يريد الضيف وتزويد المسافر الذي هو عابر سبيل ، ثم قال :« وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ »فالخير هنا كل معروف وكل عمل محمود شرعا« فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ »أي بقدره ومنزلته ، ليكون الجزاء مطابقا له ، يقول« عَلِيمٌ »بالإنفاق وبالخير الذي وقع فيه الفعل ، وبالمنفق عليهم من الأصناف ، فإنه لكل حال جزاء معين ، فللإنفاق جزاء من حيث ما هو إنفاق مأمور به وجوبا أو ندبا ، وللمنفق منه جزاء يخصه ، كما قال : ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ )فكان ابن عمر يشتري السكر ويتصدق به ويقول إني أحبه ، وله من جهة المنفق عليه جزاء مخصوص يفضل بعضه على بعض ، فليس الإنفاق على ذوي الأرحام كغيرهم ، فإنها صدقة وصلة ، وصدقة الرجل على نفسه أفضل منها على زوجه ، ونفقته على زوجه أفضل منها على ولده ، وعلى ولده أفضل منها على خادمه ، وعلى الصالحين من المساكين أفضل منها على من ليس بصالح ، وفي هذه الآية باب من أجاب بأكثر مما سئل عنه ، كان السائل عمرو بن الجموح ، قيل نزلت قبل آية الزكاة ، وعلى أي وجه كان ، فالمراد بها نفقة التطوع ( 217 )« كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ »الآية ، أخبر تعالى في هذه الآية أنه أعلم بمصالح عباده ، وأنهم لا يعلمون ذلك ، وأنه لا يكلف عباده إلا بما هو الأصلح لهم في سعادتهم ، ولا يترك ما يترك من التكاليف إلا كذلك ، لعلمه سبحانه بذلك ولطفه بعباده ، ففي هذه الآية تحريض للمسلمين على الرضا بما يقضيه اللّه لهم ، خيرا إما عاجلا وإما آجلا ، فلا ينبغي للمؤمن أن يكره شيئا من ذلك ، قال تعالى :« كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ »أي أمر تكرهونه لما فيه من بذل المال والنفس« وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً »مما كلفكم فعله« وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ »عند اللّه مثل هذا إما عاجلا فالغنيمة والتشفي من نكاية العدو ، وإما آجلا فالأجر وإن استشهد فأجر الشهادة« وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً »وهو ترك ما


ص 222

سورة البقرة ( 2 ) : آية 217
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ( 217 )
" حَتَّى يَرُدُّوكُمْ »يعني في الفتنة« عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا »فأضاف الدين إليهم« وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ »قال صلّى اللّه عليه وسلم : من بدل دينه فاقتلوه ، فاختلف الناس


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
كلفكم فعله« وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ »عند اللّه ، ومنه هذا إما عاجلا فما ذكرناه وإما آجلا فما ذكرناه« وَاللَّهُ يَعْلَمُ »ما في ذلك من الخير والشر« وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ »وتتضمن هذه الآية فرض القتال وهو قوله :« كُتِبَ »أي فرض ، وقد وردت الأوامر الإلهية بذلك ، فقال : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ )وقال : ( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا )وقال : ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ )والضمير في« عَلَيْكُمُ »يعود على الرجال الأحرار ، فإنه لا خلاف في ذلك ، البالغين العقلاء لارتفاع التكليف عن غير البالغ بحديث [ رفع القلم عن ثلاث فذكر منهم الصبي والمجنون ] ، الأصحاء الذين يجدون ما ينفقون لقوله : ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ) ،الذين لا عذر لهم من حق يجب عليهم القيام به ، وهو من فروض الكفاية ، إذا قام به من يقع به الغناء سقط عن الباقي ، لقوله : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً )وأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما خرج قط إلى غزو عدو إلا وترك بعض الناس في المدينة ، ويتعلق بهذه الآية أحكام كثيرة هي مذكورة في القرآن ، نتكلم عليها في أماكنها ، مثل معرفة المحارب الذي أمرنا بقتاله ، ومعرفة ما يجوز من النكاية في صنف صنف من أهل الحرب مما لا يجوز ، وشروط جواز الحرب والثبات ، والفرار فيه والمهادنة ، ولما ذا نحاربهم ، وما يتفرع على هذا من المسائل ، ولها مواضع في القرآن تأتي إن شاء اللّه ( 218 )« يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ »الآية ، سأل في ذلك من كان بمكة من المسلمين غير المهاجرين قبل الفتح بسبب

ص 223

في اليهودي إن تنصر ، والنصراني إن تهود ، هل يقتل أم لا ؟ ولم يختلفوا فيه إن أسلم ، فإنه صلّى اللّه عليه وسلم ما جاء يدعو الناس إلا إلى الإسلام ، وجعل بعض العلماء أن هذا تبديل مأمور به ، وما هو عندنا كذلك ، فإن النصراني وأهل الكتاب كلهم إذا أسلموا ما بدلوا دينهم ، فإنه من دينهم الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم والدخول في شرعه إذا أرسل وأن رسالته عامة ، فما بدل أحد من أهل الدين دينه إذا أسلم ، وما بقي إلا المشرك ، فإن ذلك ليس بدين مشروع وإنما هو أمر موضوع من عند غير اللّه ، واللّه ما قال إلا« مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ »ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : من بدل دينه ، وإنما لم يسم الشرك دينا لأن الدين الجزاء ، ولا جزاء في الخير للمشرك على الشرك أصلا ، لا فيما سلف ولا فيما بقي ، فما أراد بالدين إلا الذي له جزاء في الخير والشر ، ما هو الدين الذي هو العادة ، فهو الدين المشروع الذي العادة جزء منه ، وقوله :« عَنْ دِينِهِ »الأوجه أن يكون الضمير في الهاء هنا يعود على ما هو عليه في ضمير المخاطب« مِنْكُمْ »سواء ، وإن جاز أن يكون ضمير الهاء يعود على اللّه ، لكن الأصل في الضمائر كلها عودها على أقرب مذكور إذا عريت عن قرائن الأحوال .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
طرأ ، من بعث بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى نخلة إلى المشركين ، فأصابوا منهم ، وذلك في رجب وهو من الأشهر الحرم ، فعاب ذلك المشركون على المسلمين حيث أباح القتال في شهر حرام ، فلما وصل الخبر إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم نزلت هذه الآية« يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ »أي عن القتال فيه فقال اللّه لرسوله« قُلْ »لهم يا محمد« قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ »يعني ما أردتموه من قتالكم لنا في ذي القعدة لما صددتمونا« وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ »وعن المسجد الحرام الذي كان منكم لنا« وَكُفْرٌ بِهِ »أي كفركم فيه« وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ »أي إخراجكم لنا وللمؤمنين من أهل الحرم من الحرم ، كل ذلك« أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ »من قتالنا إياكم في الشهر الحرام« وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ »إما يريد الشرك وإما يريد ما امتحنوا به من كان عندهم من المؤمنين وعذبوهم على الإسلام ، كخباب بن الأرت وبلال وغيرهما ، يقول : ذلك أكبر من القتل فيه ، فهذا تقرير وتقريع كيف أنكرتم علينا أمرا هو بالنسبة إلى ما فعلتموه أنتم وما تفعلونه كلا شيء ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم« وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا »وحتى هنا للعلة والسبب ، كما تقول : جئتك حتى تعطيني ، أي العلة في مجيئي إليك العطاء ، ثم أخبر اللّه المؤمنين فقال :« وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ »أي من يرجع لأجل الفتنة عن دينه ، أي عن إيمانه وتصديقه ، فإنه يقول : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )« فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ »أي ويبقى

224

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 218 إلى 219
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 218 ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 219 )
- راجع إيجاز البيان - كل مسكر حرام ، فالحكم التحريم ، والعلة الإسكار ، فالحكم أعم من العلة الموجبة التحريم ، فإن التحريم قد يكون له سبب آخر غير السكر في أمر آخر ، والسكران هو الذي لا يعقل وهو مذهب أبي حنيفة ، وهو الصحيح في حد


على ردته إلى حين موته ، فإنه يموت كافرا« فَأُولئِكَ »إشارة لمن ارتد من المؤمنين« حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ »أي بطل ما كانوا يرجون من الثواب على أعمالهم في الآخرة التي عملوها في الدنيا في حال الإسلام بالردة إلى الكفر ، فالعامل في الدنيا إنما هو أعمالهم ، والعامل في الآخرة حبطت ، يقول :« وَأُولئِكَ »الإشارة إليهم« أَصْحابُ النَّارِ »أهل النار« هُمْ فِيها خالِدُونَ »فيها معمول لخالدين ، وهنا تفصيل في ردتهم ، هل رجعوا عن توحيد اللّه أو عن الإيمان بما جاء من عنده ؟ ولكل ردة مما ذكرناه حكم خاص وعذاب خاص ليس للآخر ، والقتال في الأشهر الحرم مختلف فيه بين العلماء ، فإن اللّه يقول« قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ »فجعل ذلك من الكبائر وبه قال عطاء ، واحتج المبيح لذلك بغزوة حنين والطائف وأوطاس وبيعة الرضوان على القتال ، وذلك في شوال وبعض ذي العقدة ، وهو متأخر عن تحريم القتال فيه بلا شك ( 219 )« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ »الآية ، في هذه الآية تحريض لمن في مكة من المسلمين على الهجرة والجهاد في سبيل اللّه للمؤمنين ، فقال« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا »ولم يقل [ وهاجروا ] فيه تنبيه على من هاجر من دار الحرب وآثر جوار المسلمين وجاهد في سبيل اللّه مع المؤمنين« أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ »بأن يرزقهم الإيمان فيؤمنوا بطول مجالسة المؤمنين ومعاشرتهم« وَاللَّهُ غَفُورٌ »ما كان منهم من الخطايا في كفرهم« رَحِيمٌ »حيث منّ عليهم بالإيمان والمغفرة كما فعل بالمؤمنين ، وهذا الوجه سائغ في الآية ، وفي استعانة المؤمنين في القتال بالكفار خلاف ، وأنهم إن قاتلوا من غير استعانة من المؤمنين بهم بل تطوعا من أنفسهم

ص 225

السكر ، ولكن من شيء يتقدم هذا السكران قبل سكره من شربه طرب وابتهاج ، وهو الذي اتخذه غير أبي حنيفة في حد السكر ، وهو ليس بصحيح ، فكل مسكر بهذه المثابة فهو الذي يترتب عليه الحكم المشروع ، فإن سكر من شيء لا يتقدم سكره طرب لم يترتب


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فلا خلاف أعرف في ذلك ، ثم ليعلم أنه ما من طائفة من الكفار والمشركين إلا وهي ترجو رحمة اللّه ، إلا المعطلة والقائلين بأن اللّه لا يعلم الجزئيات ، قال المشركون : ( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى )فهم يرجون القرب من اللّه ، وقربه سبحانه رحمته بخلقه في الدار الآخرة ، وقد يكون قوله :« وَالَّذِينَ هاجَرُوا »تأكيد التشريف بالذكر ، لأن هاجر واصلة الذين ، إذ كانت من الأسماء النواقص ، المهاجرة المتاركة عن عداوة وشحناء وزهد ، من هجر فلان فلانا لشيء وقع بينهما ، فهو ترك خاص ، والجهاد مأخوذ من الجهد وهو المشقة ، فأثنى اللّه على هؤلاء المؤمنين بهجرتهم أوطانهم وديارهم وأهليهم إلى دار الإيمان وإخوانهم من المؤمنين ، إيثارا لجناب اللّه حتى تعز كلمة اللّه وتعلو ، وجاهدوا ذوي أرحامهم من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم في سبيل اللّه أي في طريق اللّه ، رجاء رحمة اللّه أن تصيبهم ، فأخبر اللّه تعالى أنه غفور رحيم ، فقوله« رَحِيمٌ »تحقيق لرجائهم أنه ينيلهم رحمته ، وزادهم الغفران لما وقع منهم ويقع من الزلل ، زيادة في كرم الكريم أن يعطي فوق المأمول والمرجو منه ( 220 )« يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما »الخمر معروف ، والميسر القمار كله ، ومنه المراهنة والمخاطرة ، إلا ما أباحه الشرع في سباق الخيل والرمي ، وما عدا ذلك فهو حرام ، حتى اللعب بالجوز والكعاب . في هذه الآية تحريم الخمر والقمار الذي هو الميسر ، وذلك أن الحل والحرمة والإثم وغير الإثم وجميع الأحكام لا تتعلق بأعيان الأشياء ، وإنما تتعلق بأفعال المكلفين ، فالخمر ليس عين الذنب والإثم ولا الميسر ، ولكن الإثم استعمال ذلك وهو شرب الخمر ، وهو فعل المكلف ، فقول اللّه تعالى :« فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ »أي في استعمالهما ، وإذا فعل الإنسان ما وجب عليه أو ما أبيح له لا يقال إنه أثم بهذا الفعل ، ولا خلاف في ذلك ، وإنما يأثم في الشرع إذا فعل فعلا حرم الشرع عليه ذلك الفعل ، فكان قوله تعالى :« فِيهِما إِثْمٌ »نص في التحريم في الاستعمال ، وما خص شيئا من شيء ، وأما من يجعل الإثم اسما من أسماء الخمر ويحتج بقول الشاعر :شربت الإثم حتى ضل عقلي * كذاك الإثم يذهب بالعقولفلا ننكر أن تسمى إثما ، فإن وضع الأسماء غير ممنوع إلا في أسماء اللّه ، ولكن كلامنا في الإثم

ص 226

عليه حكم الشرعة لا بحد ولا بحكم ، والحاكم إذا كان شافعيا وجيء إليه بحنفي قد شرب النبيذ الذي يقول بأنه حلال ، فإن الحاكم من حيث ما هو حاكم وحكم بالتحريم في النبيذ يقيم عليه الحد ، ومن حيث إن ذلك الشارب حنفي وقد شرب ما هو حلال له شربه في علمه لا تسقط عدالته فلم يؤثر في عدالته ، وأما أنا لو كنت حاكما ما حددت حنفيا على


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
المذكور في هذه الآية ، وبطلان من يحتج بذلك في هذه الآية من وجهين : الوجه الواحد أنه أدخل الميسر في الإثمية ، ولا يسمى الميسر إثما كما سموا الخمر ، والوجه الثاني أنك إذا فسرت الإثم بأنه اسم الخمر ، فكأنه يقول يسألونك عن الخمر قل فيه خمر ، نعم إن يتوجه أن يريد اللّه بالإثم اسم الخمر في قوله : ( إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ )فقد يكون هنا الإثم اسم الخمر ، والصحيح أنه كل ما يأثم به فاعله من المكلفين ، ثم أنه أكد ذلك بقوله :« كَبِيرٌ »فجعله من الكبائر ، والعجب ممن يقول ما ورد في القرآن تحريمها ! وأي شيء أبين من هذا ، وقوله :« وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ »أما في الميسر فمعلوم ، فإن الغالب في القمار ينتفع به بلا شك مما يحصل له من مال غيره أو أهله أو عقاره ، وأما الخمر فبوجهين : الوجه الواحد ما يحصل من ثمنها وإن كان حراما ولا يجوز له استعماله ، ولكن لا شك أنه انتفع به عاجلا في نيل أغراضه ، ولا يلزم من ذلك أنه فعل ما يجوز أو ما لا يجوز ، ذلك حكم شرعي ، وهذا انتفاع عقلي ، معلوم ذلك ضرورة ، وأما الوجه الآخر من المنافع فتعرفه الأطباء ، فإنهم أطبقوا على الثناء عليها بالمنافع التي أودع اللّه فيها ، ونحن نجوز التداوي بها والعدول إليها في الأمراض الشديدة التي لا يقوم فيها بدلها من غيرها .
والذي يحتج علينا بقوله عليه السلام : [ إن اللّه ما جعل شفاء أمته فيما حرم عليها ] فصحيح ذلك ، ولكن المضطر ما هو محرم عليه استعمال ما اضطر إليه ، ثم أنه زاد بالتكرار تأكيد الإثم فزاد تأكيد التحريم ، فقال :« وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما »فإن نفع الخمر في بيعها وفي دفع المرض باستعمالها ولو كانت حراما شرعا على المضطر ، فكيف والأمر بخلافه ، وأما الإثم فيتعلق بها من جهتين : الواحدة شربها ، والجهة الأخرى ما يستلزمها عند أخذها بالعقول من الآثام الكبائر كالقتل والزنا والكفر وشتم ما أمر اللّه بتعظيمه ، وقس على ذهاب العقل كل رذيلة ، ثم ما ينضاف إلى ذلك مما يدخل شارب الخمر من العجب والكبرياء في نفسه والخيلاء ، كما قال بعضهم :فإذا سكرت فإنني * رب الخورنق والسريروإذا صحوت فإنني * رب الشويهة والبعيرفلهذا قال :« وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما »وأما الميسر ففعله إثم نفسه ، ثم يتضمن آثاما ومحرمات ، فإنه إذا وقعت المغالبة ، لا بد أن يجد المغلوب في نفسه موجدة على غالبه فيؤديه ذلك إلى السب ،

ص 227
شرب النبيذ ما لم يسكر ، فإن سكر حددته لكونه سكرانا من النبيذ ، فالحنفي مأجور ما عليه إثم في شربه النبيذ وفي ضرب الحاكم له ، وما هو في حقه إقامة حد عليه ، وإنما هو أمر ابتلاه اللّه به على يد هذا الحاكم الذي هو الشافعي ، كالذي غصب ماله غير أن الحاكم هنا أيضا غير مأثوم لأنه فعل ما أوجبه عليه دليله أن يفعله ، فكلاهما غير مأثوم عند اللّه - راجع المائدة آية ( 90 ) -


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والتسابب إذا فحش أدّى إلى ذكر محرمات كبائر ، وأدّى إلى المؤاخذة بالأيدي من الضرب والجراحة ، فكان الإثم أكبر من المنفعة بلا شك ، والميسر قد يكون مأخوذا من اليسر واليسار ، فإن كان من اليسر فهو من يسر ، يقال : يسرته إذا قامرته ، وهو أخذ مال من قامرته بيسر من غير تعب ، ومن جعله من اليسار ، قال : يكثر يساره بما يأخذه ممن يقامره ، وكذلك اسم الخمر من خمرت الشيء إذا غطيته ، والخمر تغطي عن شاربها عقله ، يقال نزلت هذه الآية في عبد اللّه ابن عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ونفر من الأنصار ، وذلك أن الرجل كان يقول في الجاهلية : أين أصحاب الجزور ؟ فيقوم نفر فيشترون الجزور بثمن معلوم ، فيجعلون لكل رجل منهم سهما ، ثم يقترعون ، فمن خرج سهمه تبرأ من الثمن ، حتى يبقى آخرهم رجلا فيكون ثمن الجزور كله عليه وحده ، ولا يكون له نصيب في الجزور ، ويقتسم الجزور بقيتهم بينهم ، وهذا نوع من أنواع القمار ، وهذا كانت تسميه العرب الميسر ، والأزلام قداحه واحده زلمة ، وسيأتي تفسيره إن شاء اللّه في المائدة« وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ »العفو من الأضداد ، ينطلق على القليل والكثير ، وكالقرء ينطلق على الطهر والحيض ، والجون على الأبيض والأسود ، فإذا كان مما ينطلق على الشيء وضده فنجمع بينهما بأمر ونقول : الإنفاق من فضل المال قل ذلك الفضل أو كثر فهو العفو ، فيكون رحمة بالمنفق والمنفق عليه ، فكان السؤال هنا عن قدر ما ينفق ، والسؤال في الأول من أي شيء ينفق ، واختلف السؤالان في المعنى بالجواب لا بنفس السؤال ، وفهمهما المسؤول بقرائن الأحوال ، ولهذا كان علم الصحابة بالأحكام أتم من علم التابعين وغيرهم ، لمشاهدة القرآن عند نزول الحكم من اللّه ، فيفهمون منه ما لا نفهم فيعملون بمقتضى ذلك ، ونحن نعمل بمقتضى التأويل بحسب ما يعطيه الكلام معرى عن القرينة ، إلا أن تنقل القرينة كما نقل الحكم ، ووجه آخر عندي فيه ، وهو أن يكون من العافية ، كما قال عليه السلام في الدعاء : [ اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ] أي تجاوز ، وذلك أن النبي عليه السلام كان يكره لأصحابه أن يسألوه لئلا يفترض عليهم ما يعجزون عن القيام به ، وقال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ )وقال عليه السلام : [ إنما أهلك من كان قبلكم

ص 228


سورة البقرة ( 2 ) : آية 220  
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 220 ).
"فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ »الذي يقوم عليه الدليل أن كل ما سوى اللّه حادث ولم يكن ثم كان ، فينفي الدليل كون ما سوى اللّه في كينونة الحق الواجب الوجود لذاته ، فدوام الإيجاد للّه تعالى ، ودوام الانفعال للممكنات ، والممكنات هي العالم ، فلا يزال التكوين على الدوام ، والأعيان تظهر على الدوام ، فلا يزال امتداد الخلا إلى غير نهاية لأن أعيان الممكنات توجد إلى غير نهاية ولا تعمر بأعيانها إلا الخلا ، لأنه ما يمكن أن يعمر الملأ ، لأن الملأ هو العامر فلا يعمر في ملا ، وما ثم إلا ملا أو خلا ، فالعالم في تجديد أبدا ، فالآخرة لا نهاية لها ، ولولا نحن ما قيل دنيا ولا آخرة ، وإنما كان يقال ممكنات وجدت وتوجد كما هو الأمر ، فلما عمرنا نحن من الممكنات المخلوقة أماكن معينة إلى أجل مسمى من حيث ظهرت أعياننا ونحن صور من صور العالم ، سمينا ذلك الموطن دار الدنيا ، أي القريبة التي عمرناها في أول وجودنا لأعياننا ، وقد كان العالم ولم نكن نحن ، مع أن اللّه تعالى جعل لنا في عمارة الدنيا آجالا ننتهي إليها ثم ننتقل إلى موطن آخر يسمى آخرة ، فيها ما في هذه الدار الدنيا ولكن متميز بالدار كما هو هنا متميز بالحال ، ولم يجعل لإقامتنا في تلك الدار الآخرة أجلا تنتهي إليه مدة إقامتنا ، وجعل تلك الدار محلا للتكوين دائما أبدا إلى غير نهاية ، وبدّل الصفة على الدار الدنيا فصارت بهذا التبديل آخرة والعين واحدة .


من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ] فلما سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن قدر ما ينفقون ، قال اللّه له :« قُلْ »لهم« الْعَفْوَ »أي أن يتجاوزوا عن هذا السؤال لئلا يفرض عليهم ما يشق عليهم ، إذ كان يمكن أن يقول لهم : انفقوا أموالكم كلها واخرجوا عنها ، ثم قال :« كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ »( 221 )« فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ »متعلق في الدنيا والآخرة على وجه بإثمهما ، وعلى وجه بيبيّن ، وعلى وجه بقوله تتفكرون ، يقول : وإثمهما في الدنيا والآخرة


ص 329
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "221 - 228" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:47 am

تفسير آلآيات من "221 - 228" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلمات الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 221
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 221 )
مسمى النكاح قد يكون عقد الوطء ، وقد يكون عقدا ووطأ معا ، وقد يكون وطأ




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أكبر من نفعهما في الدنيا ، فإن الآخرة ليس لها تعلق بمنافعهما ، يقول : كذلك يبين أي يظهر لكم الآيات - جميع ما تقدم من الدلالات فيما مضى من ذلك في هذه السورة - في الدنيا لتؤمنوا ، والآخرة لمن لم يتبينها هنا ، لعلكم تتفكرون في الدنيا وأحوالها وفنائها فتزهدون فيها ، والآخرة وما أعد فيها للعصاة والطائعين من عباده ، فترغبون فيها بالأعمال الموصلة إلى النجاة من عذابها والحصول على نعيمها ، ثم قال :« وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »السائل هنا ثابت بن رفاعة الأنصاري ، سأله عن خلط مال اليتيم بماله ، فإنهم كانوا على ذلك ، فلما نزلت( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) *ونزلت( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً )عزل كل من كان عنده يتيم ماله عن ماله ، في طعامه وشرابه وجميع مصالحه ، فشق ذلك عليهم ، وربما صار في ذلك تبذير لمال اليتيم ، فسألوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل اللّه« وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى »فقال اللّه :« قُلْ »لهم« إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ »أي اعملوا معهم ما يكون لهم فيه مصلحة وتوفير لأموالهم وحفظها ، فإن كان ذلك الصلاح في مخالطتهم في الأكل والشرب وما تمس حاجة الإنسان إليه ومصاهرتهم وإنكاحهم ونكاحهم فخالطوهم ، فإنهم إخوانكم في الدين ، قال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )« وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ »هذا مثل قوله : ( وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ )يقول من أفسد منكم في مال اليتيم فأنا أعلمه ، والمعنى أجازيه على ذلك ، وكذلك المصلح« وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ »يقول لفرض عليكم في ذلك ما يشق عليكم بما فيه مصلحة لليتيم ومشقة شديدة عليكم ، من العنت وهو الشيء الشاق على الإنسان فعله« إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ »أي غالب لمن خالف أمره وتعدى على مال يتيم عنده« حَكِيمٌ »يقول : فيما كلفكم مما

ص 330
ويكون نفس الوطء عين العقد ، لأن الوطء لا يصح إلا بعقد الزوجين ، والعقد عبارة عما يقع عليه رضى الزوجين ، وجعل اللّه الكفاءة في النكاح بالدين« وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ »اعلم أن الإنسان قد أودع اللّه فيه علم كل شيء ، ثم حال بينه وبين أن يدرك ما عنده مما أودع اللّه فيه ، وما هو الإنسان مخصوص بهذا وحده ، بل العالم كله على هذا ، وهو من الأسرار الإلهية التي ينكرها العقل ويحيلها جملة واحدة ، وقربها من الذوات الجاهلة في حال علمها قرب الحق من عبده ، ومع هذا القرب لا يدرك ولا يعرف إلا تقليدا ، ولولا إخباره ما دل عليه عقل ، وهكذا جميع ما لا يتناهى من المعلومات التي يعلمها ، هي كلها في الإنسان وفي العالم بهذه المثابة من القرب ، وهو لا يعلم ما فيه حتى يكشف له عنه مع الآنات ، ولا يصح فيه الكشف دفعة واحدة ، لأنه يقتضي الحصر ، وقد قلنا إنه لا يتناهى ، فليس يعلم إلا شيئا بعد شيء إلى ما لا يتناهى ، فكل ما يعلمه الإنسان دائما وكل موجود فإنما هو تذكر على الحقيقة وتجديد ما نسيه ، فإن الخلق أنساهم اللّه ذلك العلم كما أنساهم شهادتهم بالربوبية في أخذ الميثاق مع كونه قد وقع ، وقد عرفنا ذلك بالإخبار الإلهي ، فعلم الإنسان دائما إنما هو تذكر ، فمنا من إذا ذكّر تذكر أنه قد كان علم ذلك المعلوم ونسيه ، ومنا من لا يتذكر ذلك مع إيمانه به إذ قد كان يشهد بذلك ، ويكون في حقه ابتداء علم ، ولولا أنه عنده ما قبله من الذي أعلمه ولكن لا شعور له بذلك ، ولا يعلمه إلا من نوّر اللّه بصيرته ، فإن الإنسان عالم بجميع الأمور الحقية من حيث روحه المدبر ، وهو لا يعلم أنه يعلم ، فهو بمنزلة الساهي والناسي ، والأحوال والمقامات والمنازل تذكّره .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
تعاملون به اليتامى وفيما لم يكلفكم من ذلك ، إذ كان الحكيم واضع الأمور في مواضعها ( 222 )« وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ »نهانا اللّه عن نكاح المشركات ، والنهي محمول على التحريم حتى تخرجه عن ذلك قرينة حال ، كما أن الأمر محمول على الوجوب ، ولما قال :« وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ »فمن تأكد عنده النهي بقوله :« وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ »تقوى عنده التحريم ، والتحريم ضد الحل ، كما قال تعالى لنبيه عليه السلام : ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُوَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ )تقوية للحكم بتحريم ذلك عليه ، ويخرج قوله :« وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ »مخرج العلة للتحريم ، ومن فهم من قوله :« خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ »المفاضلة والأولوية عدل عن نهي التحريم إلى الكراهة والأولى ، ويؤيد التحريم قوله : ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ )ويؤيده

ص 331

سورة البقرة ( 2 ) : آية 222
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ( 222 )
« وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً »فيتأذى الرجل بالنكاح في دم الحيض ، وأما الاستحاضة فلا تمنع من الصلاة ولا من الوطء فالرجل لا يتأذى بالنكاح في دم الاستحاضة وإن كان عن مرض ، ودم النفاس حكمه حكم دم الحيض ، وكلاهما له زمان ومدة في الشرع ، ودم الاستحاضة ما له مدة يوقف عندها ، والحيض يمنع من الصلاة والصيام والوطء والطواف« فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ »ولا يجتنب من الحائض إلا موضع الدم خاصة« وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ »بسكون الطاء وضم الهاء مخففا ، وقرئ بفتح الطاء والهاء مشددا ، ولذلك قال بجواز وطء الحائض قبل الاغتسال وبعد الطهر المحقق على قراءة من خفف ، ومن قائل بعدم جوازه على قراءة من شدد وهو محتمل ، وبالأول أقول ، ومن أتى امرأته وهي حائض فهو عاص ولا كفارة عليه« فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ »إن اللّه يحب التوابين ، التوبة المشروعة هي التوبة من المخالفات ، والتوبة الحقيقية هي التبري من الحول والقوة بحول اللّه وقوته ، فليست التوبة




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ )فيلحق بالنكاح الفاسد الذي لا ينعقد معه النكاح ، فإن اللّه قد أحبط عمله في الدنيا بقوله : ( وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ) *وقال فيمن يموت وهو كافر : ( حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) *وقال : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ )كسائر العبادات من الصوم والصلاة ، لم يكن ذلك عملا مشروعا لعدم المصحح وهو الإيمان ، والنكاح من جملة العبادات المشروعة ، والمشرك هو الذي يجعل مع اللّه إلها آخر سواء كان من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب ، وإذا كان أهل الكتاب هم الذين أنزل إليهم الكتاب وجاءهم الرسول بذلك وكانوا كافرين بكتابهم وأمرنا اللّه بقتالهم حتى يعطوا الجزية ، فيجوز لنا نكاح بناتهم بقوله : ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ )ونمنع من ذلك بقوله : ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ )على من يحمل النهي هنا على التحريم ، وقوله : ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ )على أظهر 


ص 332


المشروعة إلا الرجوع من حال المخالفة إلى حال الموافقة ، فاللّه يحب التوابين الذين يكثرون الرجوع إليه في كل حال يرضيه ، فالتوابون هم الراجعون من اللّه إلى اللّه ، وأما من رجع إليه من غيره فهو تائب خاصة ، فإنه لا يرجع إليه من غيره من هذه صفته إلا إلى عين واحدة ، ومن يرجع منه إليه فإنه يرجع إلى أسماء متعددة في عين واحدة ، وذلك هو المحبوب ، ومن أحبه اللّه كان سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه ، واللّه سبحانه وصف نفسه بالتواب لا التائب ، فالتواب صفة الحق تعالى ومن أسمائه عزّ وجل ، فما أحب اللّه إلا اسمه وصفته ، وأحب العبد لا تصافه بها على حد ما أضافها الحق إليه ، وذلك أن الحق يرجع على عبده في كل حال يكون العبد عليه مما يبعده من اللّه ، وهو المسمى ذنبا ومعصية ومخالفة ، فإذا أقيم




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الوجهين ، فإن النص عزيز في ذلك ، وفي قوله :« وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ »مثل ذلك ، غير أنه في هذه الآية أن ولي المرأة أحق بتزويجها منها ، إذ رجح إنكاح الولي بكونه ذكره ، ولو اعتبر ولايتها لنفسها لنصب التاء ، وبينهما من الفرق أن نكاح المرأة المشركة فيه إعلاء كلمة اللّه على كلمة الكفر لما للرجل عليها من الحكم والولاية ، وفي نكاح المشرك عكس ذلك على السواء ، فيجوز نكاح المشركة ولا يجوز إنكاح المشرك ، وقوله :« وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ »ولو أعجبكم في الحسن والمال والجاه وشرف النسب وقوله« أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ »أي إلى الأعمال المؤدية إلى النار ، أما في حق الرجل فإنه الأقوى والضعف الذي في النساء ، وأما من جانب المرأة فلما يتعلق بقلب الرجل من حبها ، والحب يعمي ويصم ، فقد تدعوه إلى دينها فيجيب ، وقد رأينا ذلك ورويناه« وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ »أي إلى أسباب ما يوجب الجنة والمغفرة من اللّه ، ونكاح المسلمة وإنكاح المسلم من الأسباب المعينة على طاعة اللّه ، وقوله :« بِإِذْنِهِ »أي بما أمر اللّه كل واحد من الزوجين أن يأمر الآخر به من الخير المؤدي إلى السعادة وقال :« وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ »أي ما نصب من الأدلة على ذلك« لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ »ما أعطاهم الفكر الصحيح والعقل الموافق لما جاءت به الشرائع من الدلالات ، فإنه ما جاء بما تحيله العقول ، بل ما تجيزه ، فنصب الآيات على ترجيح أحد الممكنين بالوقوع ، فهذا معنى قوله :« يَتَذَكَّرُونَ »فهو خطاب خاص لذوي الألباب ، وما خاطب اللّه في القرآن إلا أولي الألباب وأولي النهى ، قوله : ( 223 )« وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً »الآية ، يقول :« وَيَسْئَلُونَكَ »يا محمد عن وطئ النساء في موضع الحيض في حال الحيض ، فقل لهم :« هُوَ أَذىً »أي هو مما تتأذون بفعله ، وقد يخرج مخرج العلة في تحريم الوطء ، ويحتمل

ص 333


العبد في حق من أساء إليه من أمثاله وأشكاله فرجع عليه بالإحسان إليه والتجاوز عن إساءته فذلك هو التواب ، ما هو الذي رجع إلى اللّه ، فاللّه معنا على كل حال كما قال : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ )فإذا كنت من التوابين على من أساء في حقك ، كان اللّه توابا عليك فيما أسأت من حقه ، فرجع عليك بالإحسان ، فهكذا تعرف حقائق الأمور وتفهم معاني خطاب اللّه عباده ، فهو يحب التوابين وهو التواب ، فإنه رأى نفسه فأحبها ، لأنه الجميل فهو يحب الجمال ، فالتواب من البشر ينتقل في الآنات مع الأنفاس من اللّه إلى اللّه بالموافقات لا يكون إلا كذلك ، لا أنه الراجع من المخالفة إلى الطاعة ، فإن التائب راجع إليه من عين المخالفة ولو رجع ألف مرة في كل يوم ، فما يرجع إلا من المخالفة إلى عين واحدة ، والتواب ليس كذلك ، فالتواب هو المجهول في الخلق ، لأنه محبوب ، والمحب غيور على محبوبه فستره عن عيون الخلق ، فهم العرائس المخدرات خلف حجاب الغيرة ، والتوابون أحباب اللّه بنص كتابه الناطق بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، وجاء ذكره لهذه المحبة في التوابين عقب ذكر الأذى الذي جعله في المحيض للمناسبة ، وكذلك قال عليه السلام : إن اللّه يحب كل مفتن تواب ، أي مختبر ، يريد أن يختبره اللّه بمن يسيء إليه من عباد اللّه ، فيرجع عليهم بالإحسان إليهم في مقابلة إساءتهم ، وهو التواب ، لا أن اللّه يختبر عباده بالمعاصي ، حاشا اللّه أن يضاف إليه مثل هذا« وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ »التطهير صفة تقديس وتنزيه ، وتطهير العبد هو أن يميط عن نفسه كل أذى لا يليق به أن يرى فيه ، وإن كان محمودا بالنسبة إلى غيره وهو مذموم شرعا بالنسبة إليه ، فإذا طهر نفسه من ذلك أحبه اللّه تعالى ، كالكبرياء والجبروت والفخر والخيلاء والعجب ، فمن طهر ذاته عن أن




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
معنيين : أحدهما يتعلق بالطب ، أي يتأذى فاعله في نفسه ، والثاني أنه أذى عند اللّه من حيث حرّمه ، وقد يكون المعنيان مقصودين في الخطاب« فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ »وقت إتيانه وفي محله« وَلا تَقْرَبُوهُنَّ »فيه كناية عن الجماع« حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ »الذي ينبغي في الكلام أن لا يقدر فيه المحذوف إلا عند الحاجة إليه ولا بد لاختلال المعنى ، وأن لا ينتقل في الكلمة من الحقيقة إلى المجاز إلا بعد استحالة حملها على الحقيقة ، فنقول : المعنى« حَتَّى يَطْهُرْنَ »أي حتى يغتسلن بالماء بعد انقطاع الدم ، وهو فعل ينطلق عليه اسم الطهارة ، والمفهوم الثاني الاغتسال المشروع الذي يبيح الصلاة فعله ، ولا يحمل« حَتَّى يَطْهُرْنَ »على انقطاع الدم ، فإن الفعل إذا

ص 334


ترى عليه هذه النعوت في غير مواطنها فهو متطهر ويحبه اللّه ، كما نفى محبته عن كل مختال فخور ، فالمتطهرون هم الذين تولاهم الحق من اسمه القدوس بتطهيره ، فتطهيرهم ذاتي لا فعلي ، وهي صفة تنزيه وهو تعمل في الطهارة ظاهرا وفي الحقيقة ليس كذلك ، ولهذا أحبهم اللّه فإنها صفة ذاتية له يدل عليها اسمه القدوس ، فأحب نفسه ، والصورة فيهم مثل الصورة في التوابين ، ولهذا قرن بينهما في آية واحدة ، فعيّن محبته لهم ليعلم أن صفة التوبة ما هي صفة التطهير ، وجاور بينهما لأحدية المعاملة من اللّه في حقهما من كونه ما أحب سوى نفسه ، والمتطهر هو الذي تطهر من كل صفة تحول بينه وبين دخوله على ربه ، ومنها الطهارة للصلاة ، وطهارة القلب بصفات العبودة ، وهي حالة مكتسبة يتعمل لها الإنسان فإن التفعل تعمل الفعل ، ثم الكلام في التعمل في ذلك على صورة ما ذكرناه في التواب سواء . -[ المرأة والدم ]
إشارة واعتبار - المرأة تقابل النفس في الاعتبار ، وقد أجمعوا على أن الكذب حيض النفوس ، فليكن الصدق على هذا طهارة النفس من هذا الحيض ، وهو الكذب على اللّه تعالى والكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وكل كذب متعمد يؤذي ، وكما أن الحيض يمنع من الصلاة والصوم والطواف والجماع فاعتباره الكذب في المناجاة وهو أن تكون في الصلاة بظاهرك وتكون مع غير اللّه في باطنك ، والكذب في الصوم هو عدم إمساك النفس عن الكذب ، أما الكذب في الطواف فعبارة عن الكذب إلى غير نهاية لأنه دوران ، فهو الإصرار على الكذب ، أما اعتبار الكذب في الجماع هو إذا كانت المقدمات كاذبة خرجت النتيجة عن أصل فاسد ، وأما اعتبار مباشرة الحائض ، فقد قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أيزني المؤمن ؟
قال : نعم ، قيل : أيشرب المؤمن ؟ قال : نعم ، قيل : أيسرق المؤمن ؟ قال : نعم ، قيل له : أيكذب المؤمن ؟ قال : لا ، فأكد أن تجتنب النفس في أفعالها الكذب على اللّه وعلى رسوله ، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، ومن عود نفسه الكذب على الناس يستدرجه الطبع حتى يكذب على اللّه ، فإن الطبع يسرقه ، وأما استحاضة النفس فهو الكذب لعلة إذا كان المراد به دفع مضرة عمّن ينبغي دفعها عنه بذلك الكذب ، أو استجلاب




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أضيف إلى المكلف فلا يضاف إليه إلا إذا كان هو الفاعل له ، هذا هو الحقيقة ، وانقطاع الدم ليس من فعل المكلف ، والاغتسال بالماء على الوجهين من فعل المكلف ، وإذا حملنا« يَطْهُرْنَ »على انقطاع الدم يحتاج أن نتكلف الحذف في الكلام ، فيكون التقدير حتى يطهرن ويتطهرن« فَإِذا تَطَهَّرْنَ »

ص 335

منفعة مشروعة مما ينبغي أن يظهر مثل هذا بها وبسببها ، فيكون قربة إلى اللّه ، حتى لو صدق في هذا الموطن كان بعدا عن اللّه ، فكان في عدم منع وطء المستحاضة إشارة إلى أنه لا يمتنع تعليم من تعلم منه أن لا يكذب إلا لسبب مشروع وعلة مشروعة ، فإن ذلك لا يقدح في عدالته ، بل هو نص في عدالته . وأما الاعتبار في الاغتسال من الحيض ، فيجب تطهير القلب من لمة الشيطان [ الحيض ركضة من الشيطان ] إذا نزلت به ومسه في باطنه ، وتطهيرها بلمة الملك .[

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 223 إلى 224
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 223 ) وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 224 )
لا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم فإن اللّه لا يرحم ولا يزكي من حلف باللّه كاذبا فلا تدخل ابتداء في اليمين ، فإنك إن دخلت في اليمين راعيته ، وأوجبت عليك حقا لم يجب عليك ،




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وإن لم يكن كذلك دالا ، فليس من كلام العرب أن تقول : [ لا أعطيك ثوبا حتى تركب ، فإذا دخلت السوق أعطيتك ثوبا ] والذي تقوله العرب [ فإذا ركبت أعطيتك ثوبا ] وتكلف الحذف مع الاستغناء عنه تحكم على كلام اللّه ، فيكون المفهوم من يطهرن هو المفهوم بعينه من يتطهرن على المعاني الثلاثة التي ذكرناها ، وهو انقطاع الدم أو غسل موضع الحيض بالماء أو الاغتسال المبيح للصلاة ، وهذا هو موضع اجتهاد المجتهد ، ويعمل بحسب ما يترجح عنده ، ثم قال :« فَإِذا تَطَهَّرْنَ »على ما قدمناه« فَأْتُوهُنَّ »كناية عن الجماع ،« مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ »بإتيان المرأة إذا طهرت من الحيض في محل المحيض ، ثم قال :« إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ »يريد الذين يرجعون إلى اللّه وإلى رسوله فيما يتنازعون فيه ، فيرجعون إلى حكم اللّه ، ثم قال« وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ »يقول : الذين فعلوا الطهارة ، وهو استعمال الماء على ما ذكرناه قبل ، فأوجب محبته للمتصفين بهاتين الصفتين : التوبة والتطهير ، وقد يكون من حيث ما أمركم اللّه متعلقا بقوله :« فَاعْتَزِلُوا »التقدير : ولا تقربوهن من حيث أمركم اللّه باعتزالهن في المحيض حتى يطهرن ، وقد يتعلق بتقربوهن ( 224 )« نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ »الآية ، كناية عن الجماع

ص 336

وخشي عليك الحنث .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
في غاية الحسن بضرب من التشبيه ، ولما كان المقصود من الحرث بذر الحب في الأرض ليخرج من ذلك ما تقع به المنفعة ، وكان المراد من النكاح في الدنيا التناسل لإبقاء النوع ، أنزل ذلك منزلة الحرث ، فيكون الأوجه على هذا المعنى المفهوم من التشبيه في قوله :« أَنَّى شِئْتُمْ »كيف شئتم من الاختلاف في هيئات الجماع في موضع البذر ، ومع هذا فقوله :« أَنَّى شِئْتُمْ »فهو لفظ يصلح أن يكون موضع كيف وأين وحيث ، وقد اختلف الناس في هذه المسألة أعني وطئ المرأة الحلال في الدبر ، فمنهم من أباحه ومنهم من حرمه ، والأصل إباحة الأشياء ، ومن ادعى تحجير ما أباحه اللّه فعليه بالدليل على ذلك ، وما ورد في تحريمه ولا في تحليله شيء يصح جملة واحدة على تعيينه غير الأصل المرجوع إليه العام في كل شيء وهو الإباحة ، وقوله :« وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ »يؤيد أنه أراد النكاح في الفرج فإنه من أحسن ما يقدمه الإنسان لنفسه عند ربه ولده ، إن مات قبله كان له فرطا وإن مات الوالد دعا له ولده ، وقد ورد الخبر في الأمرين معا ، فيمن قدم ولده أو ترك ولدا بعده ، ثم قال :« وَاتَّقُوا اللَّهَ »أن تعدلوا أو تخالفوا ما أمرناكم به أو نهيناكم عنه فيما تقدم من الأحكام من الوطء وصورته ، والنكاح والإنكاح ، واليتامى ، والإنفاق ، والخمر والميسر ، والقتال في الأشهر الحرم ، ثم قال :« وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ »فيسألكم عن ذلك كله ، ففيه إنذار وتخويف وتحريض على فعل الخير ، والوقوف عندما أمر اللّه به أو نهى عنه ، ثم قال :« وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ »في مقابلة الإنذار جعل البشرى للمؤمنين العاملين بما آمنوا به ، فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم سئل عن الإيمان فقال : شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن يؤدوا الخمس من المغنم ، ونهاهم عن الدّباء والحنتم والمزفت والنقير ، وقال :
احفظوه وأخبروا به من وراءكم ، ففسر الإيمان بالأفعال ، وهو الذي أراد بالمؤمنين هنا ، زيادة على التصديق ، لأن البشرى الواردة في القرآن للمؤمنين مقرونة بالأعمال الصالحة ، مثل قوله : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى )وقال تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ )فما بشر إلا العاملين بما آمنوا به ، قوله تعالى : ( 225 )« وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »قوله عرضة من قول القائل اعترضني الشيء دون كذا ، أي حال بيني وبين الوصول إليه ، كأنه يقول : ولا تجعلوا أيمانكم باللّه تعترض بينكم وبين فعل الخير ، فتقول : لولا أني حلفت باللّه أني لا أوليك برا لأوليتك ، فنهى اللّه عن ذلك ، وذلك أنه لما كان اللّه قد شرع لعباده أن يأتوا بمكارم الأخلاق وكره لهم سفسافها ، فأمرهم بأفعال البر

ص 337

سورة البقرة ( 2 ) : آية 225   
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 225 )
لا قسم إلا باللّه ، وما عدا ذلك من الأقسام فهو ساقط ما ينعقد به يمين في المقسوم عليه ، ولهذا قال تعالى :« لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ »واللغو الساقط ، فمعناه لا يؤاخذكم اللّه بالأيمان التي أسقط الكفارة فيها إذا حنثتم« وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والتقوى والإصلاح بين الناس والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وكان الناس إذا غضبوا يحلفون باللّه لا يفعلون مع فلان خيرا ولا يولونه إحسانا ولا برا ، وإن كان في إصلاح بين اثنين يحلف الرجل باللّه لا يصلح بينهما ، ويقول : واللّه لا اتقيت اللّه فيك ، فأنزل اللّه تعالى« وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ »باسمه ، يقول : قوة وتقوية على ترك فعل الخير الذي أمركم اللّه بفعله ، فإذا قيل لك افعل هذا الخير ، تقول : قد حلفت باللّه أن لا أفعل ذلك ، فشرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في ذلك أن يكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير ، وقد أنزل اللّه في أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه وكان ينفق على مسطح - رجل من قرابته - ويحسن إليه ، فبلغ أبا بكر أنه شارك أهل الإفك فيما تحملوه ، فحلف أبو بكر أن لا يحسن إليه ، فأنزل اللّه إليه( وَلا يَأْتَلِ )أي لا يحلف( أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ )من له مال رزقه اللّه( وَالسَّعَةِ )يعني في الرزق( أَنْ يُؤْتُوا )يعطوا( أُولِي الْقُرْبى )ذوي الرحم( وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ *وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ )فرد أبو بكر رضي اللّه عنه على مسطح نفقته وأجراه على عادته ، وقوله :« أَنْ تَبَرُّوا »معناه أن لا تبروا ، فحذف لدلالة الكلام عليه ، قال امرؤ القيس : [ فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا ] أراد لا أبرح ، فحذف لا لدلالة الكلام عليه ، والعرضة القوة والشدة ، وقد قيل هو من عرضت العود على الإناء إذا غطيته به خوفا أن يصل إلى الإناء شيء ، فجعلته حاجزا ، فكأنه يقول : ولا تجعلوا أيمانكم باللّه عرضة ، أي حاجزا بينكم وبين فعل الخير« وَاللَّهُ سَمِيعٌ »ما تحلفون به« عَلِيمٌ »بما تقصدونه بأيمانكم ، قوله تعالى : ( 226 )« لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ »يقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل لغو ، أي ساقط ، فكل يمين أسقط الشرع الكفارة والإثم على الحالف فتلك اليمين لغو ، لأن الشارع ألغاها وما اعتد بها وأسقط الحكم بالمؤاخذة عن الحالف بها ، فقال تعالى :« لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ »أي لا يعاقبكم بالكفارة والإثم ، وقوله :« بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ »أي بما أسقطنا الحكم فيه من الأيمان بالمؤاخذة وإذا تقرر هذا ، فنقول : إن لغو الأيمان عند العلماء بالشريعة

ص 338

وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ »الحليم هو القادر على الأخذ فيؤخر الأمر ، ويمهل العبد ولا يهمله ، وإنما يؤخره لأجل معدود ولا يمحوه ، لأنه يبدله بالحسنى فيكسوه حلة الحسن وهو هو بعينه ، ليظهر فضل اللّه وكرمه على عبيده ، ولهذا وصف الذنوب بالمغفرة وهي الستر ، وما وصفها بذهاب العين ، وإنما يسترها بثوب الحسن ، لهذا قال :« وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ »ولا حليم إلا أن يكون ذا اقتدار ، فإن صاحب العجز عن إنفاذ اقتداره لا يكون حليما .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
على قسمين : منها مقصودة وغير مقصودة ومشتبهة ، فغير المقصودة منها هو الذي يجري على ألسنة الناس من قولهم ، باللّه ، ولا واللّه ، من غير قصد لليمين بقلبه للعادة التي استصحبوها في كلامهم ، فهذه اليمين لغو ، وبذلك فسرته عائشة ، وأما اليمين الأخرى المشتبهة فيمين المحرج والغضبان ، فقد تشبه أن تكون مقصودة وأن تكون غير مقصودة ، فجعلها القاضي إسماعيل من لغو اليمين ، وأما الأيمان المقصودة فمنها أن يحلف الحالف أن الأمر كذا ولا يعلم أن الأمر في نفسه على خلاف ما حلف عليه ، فهذا من لغو اليمين عند مالك وغيره ، ومنها أن يحلف أن يفعل معصية ، فهذه اليمين لغو عند ابن عباس ، ومن لغو اليمين أن يحلف على ما لا يملك عند ابن عباس أيضا ، ومنها أن يحلف أنه يفعل ما له أن يفعل ، فلم يفعل ، ورأى ترك الفعل خيرا له ، فليكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير ، وجعل ابن عباس هذا النوع من لغو اليمين ، وأما يمين المكره وذلك أن يلزمه ذو سلطان يمينا لم يلزمها الشرع إياه ، فالظاهر أن الشرع يلغي هذه اليمين ولا يجب عليه إبرارها ، ولا يعتبر هنا نية المستحلف ، إذ لا حق له في استحلافه شرعا ، وهي على نية الحالف ، ولنا في هذا اليمين نظر ، وهو إن حلف من هذه صورته على نية المستحلف لزمته ولم تكن لغوا ، لأنه ألزم نفسه ما لم يلزمه الشرع ، فقد أوجب على نفسه ، وإن حلف على غير نية المستحلف فهي لغو لا يلزمه فيها حكم ، ثم قال :« وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ »أي يلزمكم الكفارة والإثم« بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ »أي بما تعمدت قلوبكم اليمين عليه وهو باطل ، يقول : ولكن يعاقبكم إذا قصدتم باليمين قطع حق يجب عليكم أداؤه ، أنه ليس كذلك أو هو كذلك ، وأنت تعلم أنك كاذب في يمينك ، فهذا هو اليمين التي شرع فيها الكفارة ، إلا عند بعض الناس ، فإنه لا كفارة في اليمين الغموس وهي هذه ، ثم قال :« وَاللَّهُ غَفُورٌ »لما وقع منكم من الأيمان لغوا وعقدا ، حيث أسقط المؤاخذة في اللغو وشرع الكفارة في الأخرى ، وقوله :« حَلِيمٌ »أي من حلمه ما عجل عليكم بالعقوبة وأمهلكم لتتوبوا على قول من لا يرى الكفارة ، وعلى قول من يرى الكفارة في اليمين الغموس ليكون حليما ، حيث جعل الكفارة برفع العقوبة ولم يؤاخذكم بما فعلتموه من إسقاط حرمة اسم اللّه ،

ص 339


سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 226 إلى 227  
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 226 ) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 227 )
لما علم سبحانه أن الافتراق لا بد منه لكل مجموع مؤلف لحقيقة خفيت عن أكثر الناس ، شرع الطلاق رحمة بعباده ليكونوا مأجورين في أفعالهم ، محمودين غير مذمومين إرغاما للشياطين ،ومع هذا فقد ورد في الخبر النبوي أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ما خلق اللّه حلالا أبغض إليه من الطلاق.




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
حيث حلفتم به كاذبين وأنتم تعلمون أنه يعلم منكم خلاف ما حلفتم عليه ، وأما إضافة الأيمان إلينا فيدل ظاهرا على كل ما نحلف به عرفا وشرعا مما يسمى يمينا عندنا ، إلا أن يخرج الشرع من ذلك شيئا مثل قوله : [ لا تحلفوا بآبائكم ] وقوله : [ من كان حالفا فليحلف باللّه أو ليصمت ] ولا أعرف في صفة الأيمان المعتبرة يمينا متفقا عليها إلا اليمين باللّه ، فانقسمت الأيمان إلى قسمين :
إلى ما يجوز أن يحلف به ، وإلى ما لا يجوز أن يحلف به ، وما من قسم جوزته طائفة إلا ومنعته أخرى ، من الحلف باللّه وبأسمائه وبصفاته وبأفعاله وما عظمه الشرع ، وما عندنا نص أن اللّه أقسم بشيء دون نفسه ، ولكن ثم ظواهر ، وسيرد الكلام في الأيمان إن شاء اللّه في سورة المائدة ، ثم قال من الأيمان : ( 227 )« لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ »الإيلاء اليمين يقال :
آليت على الشيء آلية إذا حلفت عليه ، والإيلاء المعلوم في هذه الآية أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته سواء كان على غضب أو غير غضب ، فإن العلماء اختلفوا في ذلك ، فقال ابن عباس لا إيلاء إلا بغضب ، والأوجه أن لا يعتبر في الإيلاء موجب ، ولا يعتبر فيه إلا العزم على ترك الجماع ، وسواء كان بيمين أو بغير يمين ، فإن كان بيمين وفاء كفر ، وإن كان بغير يمين وفاء لم يكفر ، فليس لليمين هنا حكم إلا الكفارة ، وإنما جاءت لفظة الإيلاء إذ كان الغالب أن لا يقع مثل هذا من الرجل إلا بيمين ، وقد يقع في الغالب عن الغضب ، ولهذا اعتبره ابن عباس ، وأما قوله :« تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ »فهو حكم من اللّه تعالى لا يزاد فيه ، فمن زاد فيه فقد شرع ما لم يأذن به اللّه ، وسواء قيد المولي مدة هي الأربعة أشهر أو أكثر أو أطلقها ، فإنها لا تبلغ إلا أربعة أشهر خاصة ، لأنه قال :« تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ »يعني فيها أي في هذه المدة ، يقول : رجعوا ، ولا بد من الجماع في الرجوع فإن لم يجامع فالإيلاء باق على حكمه ، لأن الإيلاء والعزم وقع على ترك الجماع ، فلا تكون الفيئة إلا بوقوعه ، والمفهوم من الشرع في تعيين مدة الإيلاء إنما هو

ص 340

سورة البقرة ( 2 ) : آية 228   
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 228 )
[ « وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ » ]
القرء من ألفاظ الأضداد ، ينطلق على الحيض والطهر . . .« وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ »اعلم أن الإنسانية لما كانت حقيقة جامعة للرجل والمرأة ، لم يكن للرجال على النساء درجة




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
رفع الضرر عن المرأة ورعاية المصلحة لها ، فإن ورد حكم من الشارع يناقض هذه المصلحة في بعض ما في هذه المسألة من الأحكام وقفنا عنده في ذلك ، واعتبرنا المصلحة ورفع الضرر فيما عدا ذلك الوجه الذي ورد فيه الحكم ، ثم إن كان الإيلاء بيمين معتبرة في الشرع فسبيلها عندنا سبيل الأيمان ، فإن كان الإيلاء بيمين غير مشروعة ، فلا إيلاء فلا كفارة لو وقع الفيء منه ، وبقي الحكم ينسحب على العزم إلى آخر المدة ما لم يجامع ، فإذا انقضت المدة المشروعة وما فاء طلقت ولا عدة عليها إن كانت قد حاضت في تلك المدة ثلاث حيض ، وإن انتقص من ذلك شيء أتمته بعد الطلاق ، إذ كانت العدة مشروعة هنا لبراءة الرحم ، وهذه وجدت مع ما انضاف إلى ذلك من المصلحة المعتبرة في هذه المسألة ، فترجح هنا على من يرى أن العدة عبادة غير معللة ، فإن الإيلاء يشبه طلاق الرجعة ، والمدة في الإيلاء تشبه العدة في الطلاق الرجعي ، ويكون الطلاق بائنا بعد انقضاء المدة لما فيه من المصلحة للمرأة ، ووجود الضرر لو كان رجعيا ، لما يبقى له من الحكم عليها ، والعزم على الطلاق أن لا يفيء في تلك المدة ، فإن العازم على عدم الفيئة يحدث نفسه بالطلاق ، وإن أوقع الحديث فلا شك أن اللّه سميع حديثه في نفسه ، فهذا قوله : ( وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع )بما يحدث به نفسه من ذلك( عَلِيمٌ )بما قصده ونواه من ذلك ، والحر والعبد في هذه المسألة في الحكم سواء ، وما من وجه ذهبنا إليه إلا وفيه خلاف بين العلماء ، والذي يتعلق بهذه الآية من الترجمة قوله :« لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ »أي يحلفون« مِنْ نِسائِهِمْ »من أجل نسائهم أن لا يجامعوهن« تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ »تنتظر به انقضاء هذه المدة« فَإِنْ فاؤُ »أي رجعوا إما في الأربعة أشهر أو عند انقضائها يحتمل فيه الوجهان« فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »أي

ص  341


من حيث الإنسانية ، ففضل الذكور على الإناث مفاضلة عرضية لا ذاتية ، وإنما كانت الدرجة هي أن حواء منفعلة عن آدم مستخرجة متكونة من الضلع القصير ، والمنفعل لا يقوى قوة الفاعل ، فقصرت بذلك أن تلحق بدرجة من انفعلت عنه ، فلا تعلم من مرتبة الرجل إلا حد ما خلقت منه وهو الضلع ، فقصر إدراكها عن حقيقة الرجل ، فبهذا القدر يمتاز الرجال عن النساء ، ولهذا كانت النساء ناقصات العقل عن الرجال ، لأنهن ما يعقلن




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
غفور لما وقع منهم من الإيلاء إذ كان مكروها ، فإنه مناقض لقوله تعالى : ( لِتَسْكُنُوا إِلَيْها )فكأن المولي لما لم يعتبر العلة التي لها كان التزويج ، كره له ذلك ، وضرب له أجل ، وغفر اللّه له برجوعه عن ذلك ، فكان رحيما به من حيث أنه تعالى غفر له ، ورحيما بالمرأة حيث رد عليها زوجها بالعطف ، ولم يكن الإيلاء مكروها في حق النبي عليه السلام لأنه الأسوة ، فأجراه اللّه عليه لتبيين الحكم في ذلك ، وأنه لا يأتي مكروها يكرهه اللّه وإن كرّهه الناس ( 228 )« وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ »يقول : فإن رجح الطلاق على الفيئة« فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ »يحتمل التلفظ بالطلاق أو حديث النفس به ، ولذلك اشترط بعضهم التلفظ بالطلاق وحينئذ يقع ، وأنه لا يقع بانقضاء المدة عنده ولا بالعزم ، فإن العزم غير مسموع ، لكن قوله :« عَلِيمٌ »قد يكون بما عزم عليه من الطلاق بترك الفيئة في هذه المدة ، فتطلق بالانقضاء ، ويكون سميع إن تكلم بالطلاق ، مع الخلاف الذي بين أهل النظر في معنى السميع ، فأتى سبحانه بالاسمين جميعا لوجود الحالتين ، قوله : ( 229 )« وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ »هذا عام في كل حرة مدخول بها مطلقة تحيض ، فتخرج من هذه الآية من المطلقات اليائسة ، والتي لم تبلغ المحيض ، والحامل ، والأمة ، وغير المدخول بها ، والمرتفعة الحيض في سن الحيض ، والمستحاضة ، والمرتابة بالحمل لحس تجده في بطنها ، وغير المرتابة وهي التي عرفت سبب انقطاع دمها من مرض أو جماع ، والمطلقة التي تتربص ثلاثة قروء هي ما ذكرنا ، ولكل جنس مما خرج عن هذا عدة من المطلقات ، وقوله :« يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ »يلبثن بغير نكاح ، أي لا يتزوجن« ثَلاثَةَ قُرُوءٍ »يعني هذه المدة ، واختلف الناس في القرء في هذه الآية ، فطائفة قالت أراد الأطهار ، وأخرى قالت الحيض ، والأظهر أنه الحيض لقوله عليه السلام : [ دعي الصلاة أيام أقرائك ] وقد روي عدة الأمة حيضتان ، والقرء في اللسان من الأضداد ، يقال للحيض والطهر ، ويقوي من يقول إنه الحيض قوله : ( وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْفَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ )فأقام الأشهر مقام الحيض ، وهذا ظاهر ليس بنص ، وأيضا فإن استبراء الرحم إنما يقع بالحيض ، والظاهر في العدة أنها لاستبراء الرحم وقد نقل عن

ص 342

إلا قدر ما أخذت المرأة من خلق الرجل في أصل النشأة ، وأما النقصان في الدين فيها فإن الجزاء على قدر العمل ، والعمل لا يكون إلا عن علم ، والعلم على قدر قبول العالم ، وقبول العالم على قدر استعداده في نشأته ، واستعدادها ينقص عن استعداد الرجل لأنها جزء منه ، فلا بد أن تتصف المرأة بنقصان الدين عن الرجل ، وقد تبلغ المرأة من الكمال درجة الرجل ، غير أن الغالب فضل عقل الرجل على عقل المرأة ، لأنه عقل عن اللّه قبل عقل المرأة لأنه تقدمها في الوجود ، والأمر الإلهي لا يتكرر ، فالمشهد الذي حصل للمتقدم لا سبيل أن يحصل للمتأخر ، فالمرأة أنقص درجة من الرجل ، وتلك درجة الإيجاد لأنها وجدت عنه ، فإن اللّه لما خلق آدم وكان قد سبق في علم الحق إيجاد التوالد والتناسل - والنكاح في هذه الدار إنما هو لبقاء النوع - استخرج من ضلع آدم من القصيرى حواء ، فقصرت بذلك عن درجة الرجل كما قال تعالى ، فما تلحق بالرجال أبدا ، فآدم أصل لحواء ، فصح للأب الأول الدرجة عليها لكونه أصلا لها ، فالدرجة درجة الانفعال فإنها لما انفعلت عنه كان له عليها درجة السبق ، وكل أنثى من سبق ماء المرأة ماء الرجل وعلوه على ماء الرجل ، هذا هو الثابت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فاعلم ذلك ، فللرجال عليهن درجة فإن الحكم لكل أنثى بماء أمها ، وهنا سر عجيب دقيق روحاني من أجله كان النساء شقائق الرجال ، فخلقت المرأة من شق




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
العرب أقرأت المرأة إذا حاضت ، وامرأة مقرئ ، وقوله : ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ )أي لاستقبال عدتهن ، والطلاق المشروع لا يكون إلا في طهر لم تجامع فيه ، فإذا طلق فيه كانت الأطهار غير كاملة ، ولا بد أن تكون الثلاثة قروء كاملة ، فيتقوى من هذا المجموع أنها الحيض ، فإن قيل :
يقال ثلاثة قروء تجوّزا وإن لم تكمل ، قلنا : لا نرجع من الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل ، وهم بلا شك يعتدون بالطهر الذي يطلق فيه ، ولقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأنا بمكة في المنام سنة تسع وتسعين وخمسمائة ، وهو عليه السلام في الحرم ، فكنت أقول : يا رسول اللّه إن اللّه يقول :« وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ »وهو من الأضداد ، وأنت أعلم بما أراد اللّه بالقرء في هذه الآية ، إذ أنت أعلم بما أنزل اللّه عليك ، فقال : إذ فرغ قرؤها فأفرغوا عليها الماء وكلوا مما رزقكم اللّه ، فكنت أقول له : يا رسول اللّه إذن هو الحيض ، فتبسم وقال : إذا فرغ قرؤها فأفرغوا عليها الماء وكلوا مما رزقكم اللّه ، قلت : فإذن هو الحيض يا رسول اللّه ، فتبسم وقال : إذا فرغ قرؤها فأفرغوا عليها الماء وكلوا مما رزقكم اللّه ، فقلت له : فإذن هو الحيض يا رسول اللّه ، فتبسم وما زاد على ذلك ، وكنت أفهم منه في ذلك الوقت أنه يريد بقوله إذا فرغ قرؤها إذا انقطع عنها الدم فأفرغوا

ص 343


الرجل ، فهو أصلها ، فله عليها درجة السببية لأنها عنه تولدت ، فلم تزل الدرجة تصحبه عليها في الذكورة على الأنوثة ، وإن كانت الأم سببا في وجود الابن فابنها يزيد عليها بدرجة الذكورة لأنه أشبه أباه من جميع الوجود ، فلا تقل هذا مخصوص بحواء ، فكل أنثى كما أخبرتك من مائها أي من سبق مائها وعلوه على ماء الرجل ، وكل ذكر من سبق ماء الرجل وعلوه على ماء الأنثى ، فليست المرأة بكفء للرجل ، فإن المنفعل ما هو كفؤ لفاعله ، وحواء منفعلة عن آدم فله عليها درجة الفاعلية ، فليست له بكفء من ه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "229 - 243" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:48 am

تفسير آلآيات من "229 - 243" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلمات الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 229
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 229 )
من قال بالرجعة بعد ما طلق فما طلق ، وكان صاحب شبهة فيما نطق أنه به تحقق ، وإن لم يكن كذلك فهو أخرق ، الطلاق الرجعي رحمة بالجاهل الغبي ، ولو قلنا في الرجال




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لا يجيز له الشرع أن يعاملها به وينكر عليه ، وقوله :« أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ »وهي الطلقة الثالثة ، يقول : وإن عجز عن المعروف في الإمساك لأسباب يعرفها من جهته فليسرحها بإحسان ، فمن الإحسان أن لا يخالعها بشيء يأخذه منها ، ويستحي من اللّه تعالى في تسريحها فلا يرزؤها في شيء من نفسها بضرب وغيره وعرضها بكلام قبيح يسمعها ، ومال بشيء يأخذه منها مما وهبها إياه أو استحقته عليه ، وقال عليه السلام : [ الإحسان أن تعبد اللّه كأنك تراه ] فلهذا فسرناه هنا بالحياء من اللّه( أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى )ومن إحسانه إليها في هذا التسريح أن يترك لها حقا يستوجبه عليها ، أو يدفع لها شيئا من عنده تستعين به في زمان عدتها فضلا منه ، وكل ذلك من مكارم الأخلاق الذي بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ليتمها ، أو يريد بقوله :« فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ »أي بعد أن يراجعها« أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ »في وقوع الطلاق بعد المراجعة ، وإنما جعلنا هذا التفسير في الثالثة من أجل فاء التعقيب من قوله :« فَإِمْساكٌ »بعد قوله : ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ )وإنما من حيث المعاملة ، فهذا يلزمه شرعا في الطلقة الأولى ، وقوله :« وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً »يقول : وحرمت عليكم ، إذ كان ضد الحل الحرمة ، لا من أجل قوله : « لا » وإنما ذلك من أجل الفعل الذي دخل عليه النهي وقوله :« أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً »يقول : وهبتموهن شيئا ، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه ، وأما الصداق وما ألزمه الشرع من الكسوة والنفقة فذلك حق لها ، وقد نال منها العوض لذلك ، فإذا حرم عليه أن يأخذ ما وهبها منها مع أنه يمكن أن يعود في هبته لقلة مروءته وخساسة نفسه وأن له في ذلك حقا ما لم تكافيه على ذلك بقيمته ، فمن باب الأحرى والأولى أن يحرم عليه ولا يحل له أن يأخذ مما أعطاها من صداق وإنفاق يلزمه

ص 346

بالرجعة في الطلاق ، خرقنا في ذلك ما جاء به أهل اللّه من الاتفاق ، فإنه نكاح جديد ولذلك يحتاج إلى شهود أو ما يقوم مقام الشهود ، من حركة لا تصح إلا من مالك غير مطلق ، وكذا هو عند كل محقق . . .« وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ »[من يتعدى حدود اللّه فقد ظلم نفسه]
- إشارة - من يتعدى حدود اللّه فقد ظلم نفسه ، لأن لنفسه حدا تقف عنده ، وهي




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لقبوله العوض ، فكان كالبيع ، والعوض لا يمكن رده لأنه الاستمتاع بوطئها ، فأخذ ذلك منها من أكل المال بالباطل إلا أن تطيب له نفسا بشيء منه ، قال تعالى : ( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً )وذاك الإفضاء لا يصح فيه الرجوع فلا يصح أيضا في المعوّض منه ، ومع هذه الوجوه يسوغ أن يريد بقوله :« وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً »أي كل ما وصل إليها منه من صداق وغيره ، وقوله تعالى :« إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ »يقول : إلا أن يخاف كل واحد منهما أن يتعدى حدود اللّه في معاشرة صاحبه ، المرأة تخاف من النشوز وما في ضمنه ، والرجل يخاف أن يتعدى فيها حد اللّه الذي أمره بالوقوف عنده ، وبالمجموع يجوز الاختلاع بما آتاها« فَإِنْ خِفْتُمْ »الضمير يعود على الحكام أو الذين يفتون في الدين من العلماء ، لئلا يحجروا عليهما ذلك ، وإن لم يكن لهم ذكر ولكن يعرف بقرينة الحال يقول :
فإن خفتم« أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ »بالمعاشرة« فَلا جُناحَ »أي لا إثم ولا حرج« عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ »أن تعطيه وأن يأخذ منها ، فإن خافت هي ولم يخف الرجل ذلك فلا حرج عليها في البذل ، ويبقى الرجل فإن نوى بذلك الإحسان إليها في أخذه ذلك ليعصمها مما يخاف من الوقوع فيه من فساد آخرتها ، جاز له أخذه ولا جناح عليه ، وإن طلقها لا إلى عوض فهو أولى به ، وأبرأ لذمته وأرفع للحرج عنه ، وكذلك في الجانب الآخر مثله سواء ، وهذا النوع من فراق يسمى الخلع ، وهو بذل المرأة للرجل العوض على طلاقها ، فإن بذلت كل ما أعطاها عوضا كان خلعا ، وإن كان بعضه كان صلحا ، وإن كان أكثره كان فدية ، وإن كان إسقاطه عنه كان مباداة ، هذا اصطلاح الفقهاء ، وحكم الكل حكم الخلع ، وهل هذا النوع من فراق يسمى طلاقا فيعتد به في الثالثة ؟ أو يكون فسخا فلا يعتد به وتجوز له المراجعة من غير أن تنكح زوجا غيره ؟ وهل تلزمها العدة أم لا ؟ والظاهر أن العدة تلزمها فإن العدة من حكم النكاح لا من حكم الطلاق ، وفي ذلك خلاف بين العلماء ، وإنما رجحنا كون العدة من حكم النكاح لأن غير المدخول بها إذا طلقت لا عدة عليها ، ولو كانت العدة من حكم الطلاق أوجب اللّه العدة عليها ، لأن الطلاق موجود والنكاح غير موجود ، وهذا النوع من الفراق بائن ولا بد ، سواء كان فسخا أو طلاقا ، من أجل ما افتدت به ، وأنه لو ملك رجعتها مع أخذ مالها ارتفعت الفائدة في حقها ، فلا بد أن
 
ص 347 
عليه في نفسها ، وذلك الحد هو عين عبوديتها ، وحدّ اللّه هو الذي يكون له ، فإذا دخل العبد في نعت الربوبية وهو اللّه فقد تعدى حدود اللّه ، ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظالمون ، لأن حد الشيء يمنع ما هو منه أن يخرج منه وما ليس منه أن يدخل فيه .


سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 230 إلى 231 
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 230 ) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 231 )
« وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ »ومن ظلم نفسه كان لغيره أظلم . . .« وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يكون بائنا ، ثم قال :« تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها »يريد بحدود اللّه ما نصبها من الأحكام« فَلا تَعْتَدُوها »أي لا يحلل ما حرم اللّه ولا يحرم ما أحل اللّه ، ثم قال :« وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ »على قدر ما تعدى منها ، فإن تعدى منها ما يرجع لنفسه كان ظالما لنفسه ، وإن تعدى منها ما يرجع إلى غيره كان ظالما لغيره ولنفسه ، ثم قال : ( 231 )« فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ »يحتمل أن يريد بقوله :« فَإِنْ طَلَّقَها »يقول : فإن وقع ما ذكرناه من الفداء فقد طلقت بعد طلقتين ، فلا تحل له حتى تعقد على زوج آخر غيره ، ويحتمل أن لا يعتبر الخلع ولا يجعله طلاقا وأنه يجوز له مراجعتها إذا خالعها بعد التطليقتين ، ويعتبر صريح الطلاق ، يقول : فإن طلقها قبل أن يراجعها برضاها أو بعد مراجعته إياها برضاها ، فإنها بائن بالفداء ، فإنها تقع ثالثة إذ كانت بعد تطليقتين ولكن إذا تلفظ في الخلع بالطلاق أو ينويه طلاقا ويجعله مثل الكنايات فلا تحل له ، أي هي حرام عليه حتى تتزوج بغيره ، فهل تحل بمجرد العقد على الزوج الآخر للأول أم لا ؟ فظاهر الآية جواز ذلك ، فإن العقد نكاح ، وبه قال ابن المسيب ،

ص 348
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ »فيعمل بعلمه ، فما علم أنه يكون كونه ، وما علم أنه لا يكون لم يكونه ، فكان عمله بعلمه .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والذي يشترط الوطء في ذلك يفتقر إلى نص من الشرع ، وقد ورد في ذلك حديث ولكن فيه نظر من حيث أنه قضية في عين ، وتتضمن هذه الآية صحة نكاح المحلل ، فإنه أرسله مطلقا من غير تقييد ، ويخرج قول النبي عليه السلام : [ لعن اللّه المحلل والمحلل له ] مخرج اللغو في الأيمان ، إذ كانت اللعنة بمعنى البعد ، فكأنه قال : لعن اللّه ، أي أبعد اللّه ، المحلل والمحلل له ، لما في ذلك من عدم الغيرة وقلة المروءة ، فلا يريد به الجزم بالدعاء عليهما ، ولا الإخبار عن اللّه أنه أبعدهما من رحمته ، والأظهر أنه بعد من المروءة والغيرة المستحسنة في الرجال ، ولهذا جوز نكاحه من جوزه ، وهو الأوجه في المسألة ، إذ كانت لعنة المؤمن حرام ، والنبي أبعد من كل ما ينهى عنه ، فإنه اتقى للّه ، وقد روينا عن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما أنه قال لامرأة مطلقة بالثلاث : يا فلانة وهل تستحلي بأحد أفضل مني ، فتبسمت ، فلو فهم من لعنة النبي عليه السلام ما فهم من لم يجوز ذلك لكان الحسن أبعد منه رضي اللّه عنه ، قال تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )وهو من أهل البيت بلا شك ، وقد أخبر اللّه أنه طهرهم وأذهب عنهم الرجس ، وخبره صدق ، وهذا يدل على عصمة أهل البيت في حركاتهم وحفظ اللّه لهم في ذلك وليس ذلك لغيرهم ، فقد رأى الحسن نكاح التحليل« فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا »يقول : فإن طلقها الزوج الذي وقع بنكاحه الإحلال ، فللزوج الأول أن يراجعها ولها أن تراجعه« إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ »أي إن غلب على ظنهما أن كل واحد منهما يقوم بحق اللّه فيما أوجبه اللّه عليه في معاشرة صاحبه ، إذ كان سبب الخلع الخوف من ذلك قال :« وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ »يعني مواقع الكلام والبيان ، ثم قال : ( 232 )« وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا »يقول :« وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ »فإن أراد الطلقة التي يملك فيها الرجعة إلا أنه لم يراجعها حتى انقضت عدتها على اختلاف أحوال النساء في العدة ، مثل اليائسة والحائض والتي لم تحض بعد وغيرهن ، وقد يريد في الطلاق البائن الذي لا يراجعها إلا برضاها أو المحلّلة إذا انقضت عدتها من الثاني ، كل ذلك سائغ في تأويل هذه الآية ، وفي الكلام حذف ، وهو فراجعتموهن بعد فراغ الأجل« فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ »أي بما أمر اللّه أن تمسك به ، وإن لم تطق على ذلك فقد جعل لك سراحها فقال :« أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ »أي لا تسرحوهن بما لم يأمر به اللّه فهو قوله : ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ )ثم قال :« وَلا تُمْسِكُوهُنَّ

ص 249

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 232 إلى 233   
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 232 ) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 233 )
« لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها »النفس هنا عبارة عن إكمال الحس ، لأن النفس المعنوية




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ضِراراً لِتَعْتَدُوا »نهى اللّه الرجل أن يمسك المرأة ويضاررها في ذلك ليعتدي عليها ، إما مناكدة منه ورغبة في أذاها ، فقد تعدى فيها حد اللّه ، وإما يقصد بإضرارها لتختلع ويأخذ بذلك طائفة من مالها ، فقد تعدى حد اللّه في ذلك ، فإنه حرام عليه أخذه ، وإنما يحل من ذلك ما تعطيه على الخوف من جهتها أن تتعدى في زوجها حد اللّه ، قال :« وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ »يعني الإمساك على الإضرار« فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ »بما تأخذ المرأة من حسنات الرجل لذلك ، أو يحمل نفسه من أوزارها ، وعلى الوجهين فهو ظالم نفسه ، ثم قال :« وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً »أي ما نصب لكم فيما أنزل عليكم من الدلالات على مؤاخذته إياكم على مثل هذا الفعل« هُزُواً »يعني لا تبالون به وتتأولونه على غير وجهه ، وأما الاستهزاء على غير وجه التأويل فهو كفر يناقض الإيمان واستخفاف بحق اللّه نعوذ باللّه من ذلك ، ثم قال :« وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ »فيما أحله لكم من نيل شهواتكم واستمتاعكم بطيبات رزق اللّه الذي رزقكم ، واذكروا أيضا« وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ

ص 350

لا كلفة عليها إلا إذا كانت صاحبة غرض ، فكلفت بما لا غرض لها فيه ، ولهذا لم يعذر




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ »على جهة الوعظ لكم لتزدجروا وتنتهوا وتقفوا عند حدوده ، ثم قال :« وَاتَّقُوا اللَّهَ »في ذلك أي في كل ما ذكرناه« وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ »تعملونه وتضمرونه في قلوبكم من خير وشر« عَلِيمٌ »وعيد من اللّه وتعليم وتنبيه وتذكرة ، ثم قال :
( 233 )« وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ »يقول :« وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ »بانقضاء العدة على كل وجه كما تقدم« فَلا تَعْضُلُوهُنَّ »يخاطب من يخاطب المرأة من عائلته من أوليائها ، يقول : لا تمنعوهن« أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ »أن ترجع إلى زوجها إذا تراضيا على ذلك بالمعروف ، فهو أحق بها من غيره ، وفي هذه الآية دليل على أن تنكح المرأة نفسها ، وقوله :« بِالْمَعْرُوفِ »يعني :« إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ »بما تجيزه الشريعة من ذلك ، أي على الوجه المشروع ، ثم قال :« ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ »الإشارة بذلك لقوله : ( تَعْضُلُوهُنَّ )ولقوله : ( بِالْمَعْرُوفِ )في هذه الآية ، العضل في اللسان الأمر الذي لا يطاق لشدته على النفوس ، ومنه الداء العضال وهو الذي لا يطاق علاجه ، يقال عضل الفضاء بالجيش أي ضاق عنه لكثرته فلا يسعه ، وعضلت المرأة إذا نشب الولد في رحمها لضيق المخرج ، وأعضل الأمر إذا اشتد ، يقول : وهذا الوعظ المنزل من اللّه لا يقبله إلا من كان منكم يؤمن باللّه ، أي يصدق باللّه ، إنه عليم بما يكون منكم وقادر على مؤاخذتكم على ذلك« وَالْيَوْمِ الْآخِرِ »يقول : ويصدق بأن ثمّ يوما بعد انقضاء الدنيا ، يأخذ اللّه فيه من الظالم للمظلوم ، وقوله :« ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ »أي لا تعضلوهن ، وفي حق الزوجين أزكى وأطهر إن تراضيا بالمعروف« وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ »أي واللّه يعلم ما ينفعكم عنده فيأمركم به ، وما يضركم عنده فينهاكم عنه« وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ »ذلك ، ففي هذا رد على الفلاسفة حيث يزعمون أنهم عالمون بذلك من غير ورود وحي من اللّه ، وأن ذلك من مدارك العقول ، وعند المعتزلة أن بعض ذلك من مدارك العقول ، وبعضه لا يدرك إلا بإعلامه لاشتباهه علينا ، فنفى الحق ذلك بقوله :« وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ »نزلت هذه الآية في معقل ابن يسار حين عضل أخته ، وقيل في جابر بن عبد اللّه حين عضل بنت عمه ( 234 )« وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ »أمر خرج مخرج الخبر ، يقول : حق على الوالدة رضاع ولدها ، والذي يقول إنه لا يجب عليها ذلك لقوله تعالى : ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّوَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى )وأنه إنما يجب على المولود له وهو الأب ، يقول : بإيجابه إذا لم يقبل غير ثدي أمه ، أو يكون الوالد معسرا ، فالقرآن أوجب الرضاعة على الأم وأوجب على الأب نفقة

ص 351


الإنسان من حيث نفسه ، ويعذر من حيث حسه ، لخروج ذلك عن طاقته في المعهود .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الأم وكسوتها ما دامت ترضعه ، وذلك بالمعروف ، وهو أن لا تكلفه إلا على قدر ما يجده ، ولا تضاره ولا يضارها في الولد ، بأن تكلفه من أجل ولدها فوق استطاعته أو ترميه له ، ويضارها الأب بأن يأخذه منها بعد تألفه بها لتسقط عنه بذلك النفقة وما يجب لها ، وكل ضرر يتعلق بسبب الولد من كل واحد منهما بصاحبه ، وقوله :« حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ »يقول : سنتين ، وقوله :« كامِلَيْنِ »رفعا للتجوز الذي يدخل الكلام في ذلك ، تقول في بعض اليوم الثاني ما رأيت فلانا منذ يومين من قبل أن ينقضي اليوم الثاني ، فإذا قال :« كامِلَيْنِ »رفع هذا الالتباس ، ولذلك قال :« لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ »والعامل في قوله :« لِمَنْ »يرضعن فما أوجب سبحانه إتمام الرضاعة له ، ثم قال :« وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ »يريد الأب دون الأم ، فإن الولد للأب ، ويقوي هذا قول من يقول من العلماء بهذا الشأن من الحكماء ، إن ماء المرأة لا يتكون منه ولد وإنما ذلك من ماء الرجل ، والتكوين للمولود من ماء الرجل ، وكون المولود ذكرا أو أنثى أو خنثى إنما ذلك راجع إلى سبق أحد الماءين بحيث يعلو أحدهما الآخر ، فإن علا ماء الرجل أذكر ، وإن علا ماء المرأة أنث ، وإن تساويا كان الخنثى ، وتساويهما أن يحصلا معا في الرحم من غير سبق واحد منهما ، فكان هذا المقدار مؤثرا في الذكورية والأنوثة ، وهما عرضان لا في عين التكوين ، فلهذا أضيف إلى الأب ، وإذا أضيف الولد إلى أمه فمن كونه يكون في رحمها ، وكان غذاؤه منها في مدة كونه في بطنها ، وإنما أمهات الناس أوعية ومستودعات ، وللأبناء آباء ،« رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها ، لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها ، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ »وقوله :« وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ »أحسن التأويلات فيه أن يكون المعنى بالوارث الولد إذا مات أبوه ، أنفق عليه مما يرثه من أبيه من ماله ، وقوله :« مِثْلُ ذلِكَ »أي مثل ما كان يجب على الأب من النفقة والكسوة لمن يرضعه ، وقوله :« فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما »يقول : فإن أراد والداه بعد أن عرفا التحديد على أكمل الوجوه بذكر الحولين لمن أراد تتميم الرضاعة ، يقول : فإن تراضيا وتشاورا على فصاله ، أي فطامه من الرضاعة ، فلا جناح عليهما ، وسبب ذلك أن الأم أعلم بمصالح الطفل الصغير وتربيته ، فينبغي أن لا يكون الفصال إلا بعد مشورتها ومشورة الأب ورضاه لما يلزمه على ذلك ، فإذا رأيا الزيادة أصلح بالطفل زادا ، أو النقص من الحولين اتفقا على ذلك ، للحق الذي لكل واحد منها في الولد ، قال تعالى : ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً )على أقل ما يولد من زمن الحمل ويعيش وهو ستة أشهر حملا ، وسنتان رضاعا على التمام ، وإن أتم الحمل المعتاد في الغالب وهو تسعة أشهر ، كانت مدة الرضاعة حولين



ص 352

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 234 إلى 235
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 234 ) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 235 )
. . ." وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا »عبر عن النكاح بالسر في اللسان لما فيه من الأسرار المكتومة المستورة« إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ »العقد عبارة عما يقع عليه رضا الزوجين . . . .« وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ »الحق له الاقتدار التام ، لكن من نعوته الإمهال والحلم والتراخي بالمؤاخذة لا الإهمال ، فإذا أخذ لم يفلت ، وزمان عمر




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
إلا ربع حول وهي إحدى وعشرون شهرا ، ورفع اللّه الإثم عن الأبوين في الزيادة والنقص عن التحديد الذي حد اللّه من النقص والتمام« وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ »الآية ، يقول :
إن امتنعت الأم عن رضاع ولدها إما إباية أو لعذر قام بها ، من انقطاع لبن أو فساده لمرض يخاف على الصبي إن شرب منه ، فأردتم أن تسترضعوا من يرضع أولادكم من النساء وهي الظئر ، فحذف أحد المفعولين« فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ »يقول : فلا حرج عليكم في ذلك« إِذا »شرط ،« سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ »والتسليم الإعطاء بسهولة والانقياد إلى ذلك ، ومنه ( أسلمت وجهي إليك ) يقول : إذا قبضتم الظئر ما آتيتم القدر الذي تعطونها من الأجرة على ذلك« بِالْمَعْرُوفِ »بالوجه المشروع من السماحة في العطاء والمبادرة إليه من غير نقص مما وقع عليه الاتفاق بينكم من غير مطل« وَاتَّقُوا اللَّهَ »فيما أمركم به ونهاكم عنه في كل ما تقدم ذكره« وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ »من ذلك« بَصِيرٌ »أي عالم يراكم كما قال تعالى : ( الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ )وقال : ( أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى )ثم قال تعالى : ( 235 )« وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ »الآية ،

ص 353


الحياة الدنيا زمان الصلح واستدراك الفائت والجبر بمن قام بمصالح الأمور المرضية عند اللّه تعالى المسماة خيرا الموافقة لما نزلت به الشرائع ، فهو حليم لا يعجل لعدم المؤاخذة مع الاقتدار ، فإمهاله العبد المستحق للأخذ إلى زمان الأخذ ، حبس عن إرسال الأخذ في زمان الاستحقاق ، فكل عبد استحق العقاب على مخالفته لما جاء الرسول إليه به فقد أمهله




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يقول : والذين يموتون منكم ، خطابا للرجال ، ويتركون أزواجا في عصمة نكاحهم ، وهي المرأة الحرة التي عقد عليها ودخل ، ثم مات عنها وهي في نكاحه ، فأمرها اللّه أن تحبس نفسها عن النكاح وعن الزينة ، وهي الإحداد أربعة أشهر وعشرة أيام ، فقال تعالى :« وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ »يقول : إذا انقضت عدتهن التي ذكرناها« فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ »يخاطب الحكام والمسلمين ، أي لا حرج فيما فعلن في أنفسهن من نكاح أو زينة« بِالْمَعْرُوفِ »على الحد المشروع ، وفي هذه الآية أيضا دليل على إنكاحها نفسها ، لأنه أضاف الفعل إليها ، ولم يقل فيما أمرن أن يفعلن في أنفسهن ، فيكون الخطاب للأولياء« وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ »من جميع أعمالكم ، تنبيه من اللّه أن لا يتصرفوا ولا يعملوا إلا على حد ما شرع لهم سبحانه ، وقوله :« وَعَشْراً »يريد الليالي ، فحذف الهاء وكانت الأيام تبعا ، فإن الليل في حساب العرب مقدم على النهار ( 236 )« وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ »يقول : ولا حرج عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء من غير تصريح بلفظ يدل على النكاح ، لا صريحا ولا كناية للمرأة التي في العدة ، ولكن يقول لها كلاما يفهم بقرينة الحال - لا من نفس ما تكلم به دون القرينة - أنه يريد نكاحها ، فتمسك نفسها عليه إن وقع لها في ذلك غرض ، وكذا فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ذكر لأم سلمة وهي في عدتها مكانته من اللّه عزّ وجل وما شرفه اللّه على سائر خلقه ، فكان ذلك خطبة ، فلما انقضت عدتها تزوج بها ، وقوله :« أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ »يريد بذلك ما سترتم في نفوسكم من إرادتكم بذلك التعريض نكاح المرأة ، وحدثتم به أنفسكم ، لا إثم عليكم في ذلك« عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ »يقول : إن الإنسان من جبلته أنه لا يخلو ولا ينفك أن يحدث نفسه في نفسه بما يشتهي ويريد فعله قبل أن يفعله ، فرفع اللّه عن عباده الإثم في ذلك ، ثم حذف ( فاذكروهن ) لدلالة الكلام عليه ، وجاء بحرف الاستدراك الدال على المحذوف ، فقال :« وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا »أي لا تذكروا لهن في التعريض لفظة جماع ولا نكاح ، ولا تكنوا عن ذلك وقد يحتمل أن يريد بالسر هنا ضد العلانية ، لأن التستر بالكلام في مثل هذا يدل على أنه ربما يقول ما يفحش سماعه ، ولذلك استثنى استثناء متصلا فقال :« إِلَّا أَنْ تَقُولُوا »

ص 354


اللّه وما أخذه ، وهو تحت حكم سلطان الاسم الحليم ، فهو كالمهمل فلا يدري هل تسبق له العناية بالمغفرة والعفو قبل إقامة الحد الإلهي عليه بالحكم ، أو يؤخذ فيقام عليه حدود جناياته إلى أجل معلوم ، فإنه في علم اللّه السابق إما مغفور له وإما مؤاخذ بما جنى على نفسه ، فهو على خطر وعلى غير علم بما سبق له في الكتاب الماضي الحكم ، وكفى بالترقب للعارف العاصي الممهل الذي هو في صورة المهمل عذابا في حقه ، لأنه لا يدري ما عاقبة الأمر فيه .

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 236 إلى 237
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( 236 ) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 237 )
الفضل في البذل ، والبذل في الفضل ، وفي الأصل من الفضل .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
سرا معها« قَوْلًا مَعْرُوفاً »يريد قولا غير منكور شرعا في هذا الموطن ، ثم قال :« وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ »لما كان العزم على الشيء يؤذن بوقوع المعزوم عليه ، والنهي إنما ورد في وقوع عقد النكاح في العدة ، نهينا عن العزم الذي هو سبب ، فكان من باب الأحرى والأولى النهي عن وقوع المعزوم عليه ، وقوله :« حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ »وهو انقضاء العدة ، وقوله :« وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ »إذا أضمرتم فيها ما نهاكم اللّه عنه أن تضمروه ، وهو العزم هنا ليس في الآية غير ذلك ، قال تعالى :« فَاحْذَرُوهُ »أي خافوه واتقوه أن يؤاخذكم بذلك ، قال تعالى :« وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ » *ولست أعرف في القرآن ولا في السنة مؤاخذة على إرادة النفس إلا هذا وقوله تعالى : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ )وهي أشد من هذا ، إذ كان العزم خصوص وصف في الإرادة ، ثم قال :« وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ »أي يستركم ويستر عليكم ، فلا يؤاخذكم بذلك عاجلا ، فتتخيلوا أنه يسامحكم فيما

ص 355

سورة البقرة ( 2 ) : آية 238
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ ( 238 )
جعل اللّه هذه الآية بين آيات نكاح وطلاق وعدة وفاة تتقدمها وتتأخر عنها وغير ذلك مما لا مناسبة في الظاهر بينهما وبين الصلاة ، وإن آية الصلاة لو زالت من هذا الموضع




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
كان منكم من ذلك ، فذلك من مكره الخفي في عباده الذي لا يشعر به ، ولا يريد هنا غفران الذنب إزالة المؤاخذة في الدنيا والآخرة ، فإنه قال في إثره تأكيدا له :« حَلِيمٌ »والحليم هو الذي يمهل ويؤخر العقوبة ولا يهمل مع وجود القدرة على ذلك ، ولا يلزم من حلمه في الوقت التجاوز عن الذنب مطلقا وإن كان ، فنبهنا سبحانه بقوله :« حَلِيمٌ »ما أراد بالمغفرة هنا ، ثم قال : ( 237 )« لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ »الآية ، يقول لا إثم عليكم في الطلاق قبل الدخول ، وكنى بقوله :« تَمَسُّوهُنَّ »عن الجماع« أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً »يقول : ولم تسمّوا لهن صداقا ، فأمرنا سبحانه وأوجب علينا إذا طلقنا المرأة على هذه الحال« وَمَتِّعُوهُنَّ »أن نمتعها بشيء ندفعه لها من ذهب أو ثياب أو شيء تنتفع به على قدر جدة الرجل وعدم جدته ، فقال :« عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ »أي من وسع اللّه عليه رزقه« وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ »هو الذي ضيق عليه رزقه« مَتاعاً »أي يمتعها بذلك ، وقوله :« بِالْمَعْرُوفِ »باء السبب ، أي بسبب أنه شرع لكم ، وقوله :« حَقًّا »أي واجبا« عَلَى الْمُحْسِنِينَ »أي على ما من اعتقد أن اللّه يراه ويعلم سره ونجواه ، ويظهر في هذه الآية أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة ، فإنه ما أوجبه إلا على من يعتقد أن اللّه يراه ، ومن لا يعتقد ذلك فليس بمؤمن ، سأل جبريل النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن الإحسان ، فقال :
أن تعبد اللّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، وهذا لا يقول به أهل الجاهلية الجهلاء من العرب ، ومن يقول من أهل النظر من الفلاسفة إن اللّه لا يعلم الجزئيات ، وكان هذا الذي فرض اللّه لغير المدخول بها من المتعة لمن لم يفرض لها صداقا ، ونصف المهر لمن فرض لها صداقا وطلقها قبل الدخول بها ، إنما ذلك في مقابلة ما نالها من الضرر زمان عقده عليها ، فمنع العقد بينها وبين أن تتصرف في نفسها ومنافعها بحكم التزويج ، فكانت تنال في تلك المدة راحة من غيره ، فجعل سبحانه هذا القدر عوضا من ذلك ، فقد روي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قبل من واحد فلسا في المتعة ، وقال :
إنما أردت بذلك إحياء سنة ، إذ كان قدر المنفعة بالفلس خسيس ، ولم يكن في وسع الزوج أكثر من ذلك ، ثم قال : ( 238 )« وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى »الآية ، يقول : وإن طلقتم النساء اللاتي عقدتم عليهن من قبل أن تمسوهن ، كناية عن الجماع ، أو كناية

ص 356

واتصلت الآية التي بعدها بالآيات التي قبلها لظهر التناسب لكل ذي عينين ، ففي ظاهر الأمر أن هذا ليس موضعها ، وما في الظاهر وجه مناسب للجمع بينها وبين ما ذكرناه ، وقد جعل اللّه ذلك موضعها لعلمه بما ينبغي في الأشياء ، فإن الحكيم من يعمل ما ينبغي لما ينبغي كما ينبغي ، وإن جهلنا نحن صورة ما ينبغي في ذلك فالمناسبة ثمّ ولكن في غاية الخفاء ، فإن أمعنت النظر وجدت أن هناك مناسبة بين الصلاة والنكاح ، فإن الصلاة تقع بين طرفي إحرام وتحليل ، وكذلك النكاح يقع بين طرفي تحليل وتحريم ، فكانت المناسبة بين الصلاة والنكاح كونهما بين طرفي تحريم وتحليل ، متقدم أو متأخر ، فكانت المناسبة بين هذه الآيات




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
عن الدخول بها وإن لم يقربها ، فالشرع يحكم بالصداق ، ولا يدينوه في ذلك لو أنكر المسيس ، فهذا شيء لا يعلمه إلا الزوج والزوجة ، ولا شك أن المسيس إنما يكنى به عن الجماع ، ولذلك قال اللّه :« وَأَنْ تَعْفُوا »عن أخذ نصف الصداق« أَقْرَبُ لِلتَّقْوى »لأنه ما نال منها ما فرض الصداق من أجله ، فكأنه مال لا عن معاوضة ، وإن عفت المرأة عن ذلك ، فإن الرجل يتعين عليه أن يمتعها ويلحقها بمن لم يفرض لها صداق ، وإن كان لا يجب ذلك عليه ، ولكنه خير مندوب إليه ، إذ كانت الهبة على الإطلاق مشروعة ، فكيف إذا اقترن بذلك شبهة حق بدخوله بها وإن لم يمسها ، وتورعت المرأة في إسقاط ذلك الحق عنه ، وليس للذي بيده عقدة النكاح بعد الدخول بها أن يعفو عن ذلك إلا حتى يتيقن من ذلك ما تيقنت المرأة ، وهو عدم المنفعة والتلذذ بها من كل وجه ، من عناق وتقبيل وما في ضمن من ذلك ، فقال :« وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ »أي تدخلوا بهن« وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً »صداقا معينا« فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ »يجب عليكم إعطاؤه لها ، فإنه مثل المتعة في الوجوب ، غير أن المتعة على قدر حال الزوج من الجدة ، وفي هذا الموضع لما ألزم نفسه بتعيين الصداق ، ألزمه الحق مما ألزم نفسه نصف ذلك ، لكونه حجر عليها التصرف في نفسها ، وفرض لها النصف ولكونه ما نال منها شيئا أسقط عنه النصف ، فكان المهر لمنفعته بها وحجره عليها ، فلما سقط أحد الأمرين قسم الصداق على ذلك ، ولما كان المعتبر والركن الأعظم من النكاح الجماع ولم يقع ، رجح اللّه العفو عن أخذ ما عينه من نصف الصداق لها على أخذه ، من عفا الشيء إذا ذهب رسمه ، فهذا معنى قوله :« وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى »وقوله :« وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ »يؤيد ما ذهبنا إليه أن يهبها الزوج شيئا إذا هي عفت عن أخذ النصف الذي أعطاها اللّه ، فيكافئها الزوج على ذلك بشيء سماه اللّه( الْفَضْلَ )فقال :
ولا تتركوا« الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ »أي كما تفضلت عليك بترك نصف الصداق الذي كان لها
 
ص 357

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ »وليس سوى هذه الخمس الموقتة المعينة المكتوبة« وَالصَّلاةِ الْوُسْطى 
راجع إيجاز البيان  
« وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ »القيام تعظيم للّه ولقيوميته التي لا تنبغي إلا له امتثالا لأمره« قانِتِينَ »خاضعين طائعين ، فالقنوت لا يكون إلا للّه ، أي من أجله لا من أجل أجر أو أمر آخر ، فإنه أعظم من الأجر ، لذلك لم يسم أجرا على




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أخذه فأحسن أنت إليها مكافأة على ذلك« إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ »أي يرى لكم ذلك ، ويتوجه في قوله :« أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ »يريد الزوج إذا أعطاها الصداق كله عند عقد النكاح عليها ثم طلقها ، فله أن يطالبها بنصف المهر ، فقال له اللّه :« أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ »عن مطالبتها بالنصف ، وقوله :« أَقْرَبُ لِلتَّقْوى »من أنها استحقت ذلك بالعقد ، ووقع الطلاق من الزوج لا من جهتها ، فخفف اللّه عن الزوج ونبهه اللّه سبحانه على أن الإفضال ترك ما أباح له أخذه ، إذ كان له في ترك ذلك الأجر عند اللّه ، ويكون قوله :« وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ »ما كان من فضل الزوجة حيث رضيت به وأجابته إلى مراده إذ كان هو الطالب والخاطب لها ، فأسعفته في ذلك وقضت حاجته ، وأن الرجل بطلاقه إياها كسر قلبها وخجلها عند أهلها ، فرجح له ترك النصف الذي أباح له أخذه على أخذه ، فضلا منه عليها في مقابلة فضلها عليه في إجابتها ، فقال له : لا تنس ذلك الفضل واجعل الجزاء عليه ترك ما أبيح لك أخذه ، ثم قال تعالى :
( 239 )« حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى »المحافظة على الصلاة أن يؤتى بها في أوقاتها قال تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً )وأن يؤتى بها أيضا على أكمل هيئاتها ، من إتمام الركوع والسجود والقيام والجلوس وما شرع الشارع من هيئاتها ، كما ورد في الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : [ صلوا كما رأيتموني أصلي ] وتعليمه الصلاة للرجل الذي دخل عليه في المسجد فصلى ، فقال له عليه السلام : [ ارجع فصل فإنك لم تصل ] وفيه قال الرجل : [ ما أحسن غير هذا ] وفيه أنه صلّى اللّه عليه وسلم لما علمه الصلاة قال له : [ كبر ثم اقرأ ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تستوي قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس ، فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك ] ومن المحافظة على الفرائض ، منها أن يؤتى بها في المساجد في الجماعة ، ومن المحافظة عليها الاستكثار منها ، فإن النبي عليه السلام يقول أيضا في الصحيح : [ أول ما ينظر فيه يوم القيامة من عمل العبد الصلاة ، فإن كانت تامة كتبت له تامة ، وإن كان انتقص منها شيئا قال :
انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فإن كان له تطوع قال : أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ] وقال تعالى : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ )ومن المحافظة على الصلاة النافلة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قضى الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الظهر بعد العصر وبيّن أنهما تلك الركعتان إذ كان الوفد شغله

ص 358

القنوت ، فالقيام للّه ، نعت الحليم الأواه ، لولا قيامه ما رمي في النار ، ولا انخرقت العادة في الأبصار ، هي نار في أعين الأنام ، وهي على الخليل برد وسلام ، فهو عندهم في عذاب مقيم ، وهو في نفسه في جنة ونعيم ، لما هبت عليه الأنفاس ، كان كأنه في ديماس .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
عنهما ، فأمرنا اللّه تعالى بالمحافظة على الصلوات وما خص فرضا من نفل ورغبنا فيها فقد يكون قوله :« وَالصَّلاةِ الْوُسْطى »الفريضة من هذه الصلوات ، فإن صلاة الفرض بلا خلاف أفضل من صلاة النافلة ، فأكد بذكرها المحافظة عليها ، لأن السؤال عنها يقع يوم القيامة ، وأمر بالمحافظة على النوافل في التكثير منها وحسن إقامتها ، لما كان يكمل الفرائض منها بما فيها من الفرائض والسنن ، وهذا غير بعيد في التأويل ، وقد يمكن أن يريد بالصلاة الوسطى صلاة واحدة مخصوصة من الفرائض كما قد ذكر الناس ، وما من صلاة من الخمس إلا وقد روي أنها الوسطى ، ولم يرد في ذلك نص يرفع الإشكال فيها ، وكذلك اختلفوا في الوسطى ، هل هو من الوسط الذي هو الشيء بين الشيئين أو هو من الفضل ؟ فإن كان من الوسط ، فأحسن الوجوه فيها أنها المغرب ، فإن أول صلاة صلاها الظهر ، فيكون المغرب وسطا بلا شك ، وليس في الصلوات وتر إلا المغرب ، وقد ورد في الخبر الصحيح أن اللّه وتر يحب الوتر ، فهي وسط في الترتيب ، وهي أفضل من طريق الوترية ، وقد يتوجه على مذهب أبي حنيفة رضي اللّه عنه أن تكون صلاة الوتر ، إذ كانت عنده واجبة ، فهي دون الفرض وفوق النفل ، فهي وسط بينهما ، فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : [ إن اللّه قد زادكم صلاة إلى صلاتكم ] وهي الوتر ، فأضافها إلى ما فرضه علينا من الصلاة ، وقال :
[ أوتروا يا أهل القرآن ] وما نص على حفظ صلاة مما سوى الخمس ولا حافظ هو على ما نقل أكثر من الوصية وحفظه على صلاة الوتر ، وجعلها وتر صلاة الليل كما جعل المغرب وتر صلاة النهار ، وقد يتوجه في ذلك أن تكون صلاة الجمعة لما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم من الوعيد بالحرق بالنار في الدنيا على من تخلف عن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "244 - 253" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:49 am

تفسير آلآيات من "244 - 253" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلمات الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 244 إلى 245
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 244 ) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 245 )
فقالت طائفة من اليهود إن رب محمد يطلب منّا القرض ، وما طلب اللّه منك القرض وأنت تعلم أنه ما طلبه منك إلا ليعود به وبأضعافه عليك من جهة من تعطيه إياه من المخلوقين ، فمن أقرض أحدا من خلق اللّه فإنما أقرض اللّه ، وليس الحسن في القرض إلا أن ترى يد اللّه هي القابضة لذلك القرض لا غير ، فتعلم عند ذلك في يد من جعلت ذلك ، وهو الحفيظ الكريم ، وما خرج عن الملك شيء حتى يحكم فيه القبض ، وإنما يقال ذلك بالفرض ، ما خرج شيء عنه ، فالكل به وإليه ومنه ، الحق له الغنى ، ومن أقرضه بلغ المنى ، ودع اللجاج ، فما هو محتاج ، أنت من جملة خزائنه ، فما خرج الشيء عن معادنه ، فما أعطى إلا من خزانته ، لما أعطته حقيقة مكانته ، وحصلت أنت على الأجر ، إن فهمت الأمر « واللّه يقبض ويبسط » إن للّه يدين مباركتين مبسوطتين فيهما الرحمة ، فلم يقرن بهما شيئا من العذاب ، فيعطي رحمة يبسطها ويعطي رحمة يقبضها ، فإن القبض ضم إليه ، والبسط




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ »في هذه الآية رد على الأشاعرة في استدلالهم على رؤية اللّه بالأبصار بقوله : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ )أن الرؤية إذا اقترنت بها كلمة [ إلى ] كانت بالبصر ، تقول : نظرت إلى كذا ، أي شاهدته ببصري ، ونظرت في كذا ، أي فكرت فيه ، ونظرت لكذا ، أي رحمته ، ونظرت كذا ، أي قابلته ، واحتجوا بذلك على نفاة الرؤية ، فقد جاءت الرؤية هنا بإلى وليست هنا الرؤية بالبصر بلا شك ، فإنه خطاب لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ومن خوطب ، عن أمم قد مضوا ، وما رأيناهم حال خروجهم ولا حال موتهم ولا حال إحيائهم ، وكذلك قوله : ( أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ )فجاء بإلى ومعناه هنا الفكر ، أن يتفكر في ذلك مع وجود [ إلى ] فإنه معلوم في هذه الآية أن واحدا منا ما رأى ربه وهو يمد الظل ، فيعرف كيفية ذلك المد بوساطة مشاهدة البصر ، فبطل ما استشهدوا به من هذه الآية لتقييدها بحرف [ إلى ] فالرؤية في هذه الآية بمعنى التعجب والاعتبار إذا فكرت فيهم

ص 363

انفساح فيه ، واللّه يقبض بمنع غضبه ، ويبسط ببسط رحمته ، ويقول أبو عبد اللّه « 1 » : واللّه يقبض القرض ، ويبسط الأجر ، واعلم أن الفرق بين الحضرتين القبض والبسط ، أن القبض لا يكون أبدا إلا عن بسط ، والبسط قد يكون عن قبض وقد يكون ابتداء ، فالابتداء سبق الرحمة الإلهية الغضب الإلهي ، والرحمة بسط ، والغضب قبض ، والبسط الذي يكون بعد قبض كالرحمة التي يرحم اللّه بها عباده بعد وقوع العذاب بهم ، فهذا بسط بعد قبض ، وهذا




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وعلمت قصتهم وحديثهم ، فإن الخبر الصدق والمعاينة على السواء في التصديق بذلك ، ولا أصدق من اللّه حديثا ، وهو المخبر بقصة هؤلاء الذين أخبر عنهم ، فلا فرق عندنا بين أن نشهدهم بأعيننا في هذه الآية وبين هذا الخبر الإلهي ، بل أتم وأوضح ، وقوله :« وَهُمْ أُلُوفٌ »أي متألفون ، جمع ألف ، كجالس وجلوس ، وقد يمكن أن يكون من العدد ، ويكون الأمران معا ، فأخبر اللّه تعالى أنهم خرجوا فرارا من الموت ، وهو أن الطاعون كان نزل بهم ، فأراهم اللّه أنه لا ينجي حذر من قدر ، قال تعالى : ( أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ )« فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا »فماتوا ميتة رجل واحد« ثُمَّ أَحْياهُمْ »ليعتبروا ، فإن الأجل المسمى ما كان وصل وقته ، وإنما كان هذا موت اعتبار وإحياء اعتبار لهم ولنا من بعدهم ، ليعلموا أن اللّه على كل شيء قدير ، وأنه لا راد لأمره ، ويخرج على هذا قوله تعالى : ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى )يريد في الأولى التي هي الدار الدنيا ، فحذف حرف الجر ، فإن هؤلاء حصل لهم في الدنيا موتتان ، ولأمثالهم ، ثم قال :« إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ »منه هذا وأمثاله« وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ »أي يكفرون بنعم اللّه عليهم ، هؤلاء القوم الذين أخبر اللّه عنهم كانوا من بني إسرائيل ، وكان ذو الكفل نبيهم الذي بعث إليهم ، وهو حزقيل بن روم ، وقيل حزقيا بن روم ، وكان اللّه قد أمره أن يخرج بقومه لقتال عدوهم ، وكان الطاعون كثيرا ، ما يكون بأرض عدوهم ، فخاف قومه من القدوم على تلك الأرض ، فأبوا عليه ، فابتلاهم اللّه بالطاعون ، فخرجوا من مدينتهم حذر الموت ، فدعا اللّه حزقيل عليه السلام ربه أن يريهم آية يعرفون بها أنه لا ينجيهم حذرهم من قدر اللّه ، فقال لهم اللّه : موتوا ، فماتوا ميتة رجل واحد ، وجيفوا وانتثرت لحومهم عن عظامهم ، ثم دعا اللّه حزقيل أن يحييهم فأحياهم ، فلما رأوا ذلك تحققوا أن الفرار من قدر اللّه لا ينجيهم ، ثم قال تعالى : ( 245 )« وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »يحتمل أن يكون المخاطب هؤلاء القوم بالقتال ، فيكون إخبارا لنا من الحق بتمام القصة وبما أمرهم به ، ويحتمل أن يكون المؤمنون المخاطبين بهذه الآية بعد فراغ القصة ، تحريضا للمؤمنين على جهاد عدوهم ، ولا يقولوا مثل ما قال هؤلاء الذين أبوا على نبيهم ، فإن اللّه« سَمِيعٌ »لكل ما يتكلمون




( 1 ) أبو عبد اللّه هو الجامع لهذا التفسير .

ص 364

لبسط الثاني محال أن يكون بعده ما يوجب قبضا يؤلم العبد ، ومن يدعو إلى اللّه على بصيرة يدعو من باب البسط من يعلم أن البسط يعين على الإجابة من المدعو ، ويدعو من باب




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
به ،« عَلِيمٌ »بما يضمرونه في صدورهم وإن لم يتكلموا به ، وقد يكون قوله :« عَلِيمٌ »إعلام بما هي الحقائق عليه ، فإن السمع متعلقه الكلام من حيث ما هو كلام لا من حيث ما يدل عليه من المعاني ، فيكون قوله :« عَلِيمٌ »بما دل عليه الكلام المسموع ، فجعل له تعلقين : تعلق السمع والعلم ( 246 )« مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً »نزلت في أبي الدحداح عمرو بن الدحداح من الأنصار ، لما سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول : من تصدق بصدقة فله مثلها في الجنة ، وكان لأبي الدحداح حديقة ، فقال : يا رسول اللّه إن تصدقت بحديقتي فلي مثلها ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : نعم ، قال : وأم الدحداح معي ؟ قال : نعم ، قال : والصبية ؟ قال : نعم ، قال : فتصدق بحديقته ، فأنزل اللّه هذه الآية فيه ، وضاعف اللّه أجره على صدقته ، فقال :« مَنْ ذَا الَّذِي »يقول : أي إنسان كان من المؤمنين لم يخص به واحدا دون آخر« يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً »القرض السلف ، لما كان السلف يعود إلى معطيه بعد ذلك جعل الحق سبحانه ما يتصدق به من أجله قرضا ، لأنه يعيد مثله وأكثر من ذلك على من أقرضه ، ولو قال ذلك بغير لفظة القرض ما أعطى هذا المعنى ، وإذا علم المعطي أن متاعه يعود إليه مضاعفا سارع إلى إعطائه لمن يسأل منه ذلك ، وقوله :« حَسَناً »يقول طيبة بذلك نفسه ، ببسط وجه للسائل وبشاشة وفرح ، كان الحسن صلوات اللّه عليه إذا وقف السائل ببابه يسارع بالصدقة إليه بيده فرحا مستبشرا به ، ويقول : مرحبا بحامل زادي إلى الآخرة ، ومن القرض الحسن رؤية النعمة من اللّه عند العطاء ، وقوله :« قَرْضاً حَسَناً »أي من وجه ، من المال يجوز له التصدق به مما ملكه اللّه إياه بوجه صحيح يرضاه اللّه ، وقوله :« فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً »هو قوله : ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ )وقوله عليه السلام : [ إن الصدقة تقع بيد الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ] ومن القرض الحسن أن لا يتبعه أذى ولا منة ، قال تعالى : ( ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً )وقال : ( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى )والشيء إذا كثره اللّه فلا أكثر منه ، وأقل الكثرة دوامه ، فكيف إذا انضاف إلى ذلك وجود الكثرة في الأمثال ، مثل قوله : ( فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها )لكان مبالغة في الكثرة « واللّه يقبض ويبسط » يريد هنا في الرزق ، يوسع الرزق على قوم ويضيقه على قوم بقدر ما يعلمه من المصلحة في حق ذلك العبد ، وإن كان شقيا فإنه مرحوم به في شقائه بوجه ما ، فإن رحمته وسعت كل شيء ، قال تعالى : ( وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ )يعني الرزق ، وقال : ( وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ )فمن أعطاه اللّه
ص 365


القبض من يعلم أن القبض يعين على إجابة المدعو ، فيدعو بالقبض والبسط ، فإنه يراعي المصلحة ويدفع بالتي هي أحسن في حق المدفوع عنه وفي حق نفسه ، والبسط مطلب النفوس فليحذر غوائلها« وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » .


سورة البقرة ( 2) : الآيات 246 إلى 247
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 246 ) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ( 247 )
لما كانت الحضرة الإلهية لا تقتضي التكرار لما هي عليه من الاتساع ، وكان العلم صفة




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
علم ذلك فقد اعتنى به ، وقد علم شيئا من سر القدر ، ثم قال :« وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ »ليوفيكم ما أقرضتموه في دار الكرامة ، وليندم من لم يقرضه في هذه الدار حين طلب منهم ذلك بالوجه الذي يصح فيه التصرف ، فهو قوله : ( يَوْمُ التَّغابُنِ )للمعطي والمانع ، والمعطي من غير وجهه ، فيود المعطي المقبول لو أعطى جميع ما عنده ، ويود المانع لو أعطى وما منع ، ويود المعطي من غير وجهه أنه أعطى من الوجه الذي يليق ويكون معه القبول كما تقدم ، ولما خرج أبو الدحداح عن حديقته صدقة للّه تعالى ، جاء إلى حديقته التي تصدق بها ليسلمها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فوجد أم الدحداح والصبية فيها ، فامتنع من الدخول فيها ، فقال : يا أم الدحداح ، قالت له لبيك ، قال إني جعلت حديقتي هذه صدقة واشترطت مثلها في الجنة وأنت وأولادنا معنا فيها ، فقالت له أم الدحداح : بارك اللّه لك فيما شريت وفيما اشتريت ، فخرجوا منها وسلم أبو الدحداح الحديقة

ص 366

إحاطته ، قرن معه السعة ، واشتق له اسما منها كما اشتق من العلم ، فقال تعالى :« وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ »فإن الحق له الاتساع الذي لا ينبغي إلا له ، والاسم الواسع من أعظم الأسماء إحاطة ،




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ، كم نخلة مدلى عذوقها لأبي الدحداح في الجنة ، ما رأيت أعرف من أم الدحداح حيث دعت بالبركة فيما باع وما اشترى ، فأما البركة فيما باعه ، فهو قوله عليه السلام في الصدقة ، تقع بيد الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ، حتى تصير مثل جبل أحد وإن كانت غاية في الصغر ، فهذه بركته فيما باع ، فإن الجزاء يقع عليها يوم يقع على قدر ما انتهت إليه من العظم في التربية الإلهية ، لا على قدر الوقت الذي أعطاها ، والبركة التي تكون في المشتري هو ما لم يدخل تحت التعريف ، مضافا إلى القدر الذي زاد على ما كان جزاء للصدقة في أول إعطائها قبل التربية ، فهذا من أدل دليل على علمها بذلك ، ومن جملة القرض النفقة في سبيل اللّه لتجهيز الضعفاء الذين لا مال لهم إلى قتال عدوهم في قوله :« وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ » *ونفقتهم على أنفسهم في ذلك ، فوقعت النسبة بين الآيتين ، ثم قال : ( 247 )« أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى »الآية ، يقول ألم تعلم بما أخبرتك به مما كان من وجوه بني إسرائيل من بعد موت موسى ابن عمران« إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ »قيل هو شموئيل ، وهو بالعربية إسماعيل بن بالي بن علقمة بن برخام بن البهر بن يهرص بن علقمة بن ناحب بن عموط بن عزريا بن صفية بن علقمة بن أبي يأسف بن قارون بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ، وقيل هذا النبي هو شمعون ، وقيل هو يوشع بن نون بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم الخليل ، قالوا له :« ابْعَثْ لَنا مَلِكاً »يقولون يتقدم علينا ويملك أمرنا ونسمع له ونطيع ليجمعنا على قتال عدونا الذي جلانا عن أهلنا وبلادنا ، وهو جالوت وأصحابه ، فهو قوله :« نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »« قالَ »فقال لهم نبيهم :« هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا »كما قال تعالى لنا : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ )وعسى من اللّه ومن رسوله واجبة ، لأن الأنبياء قلوبهم محفوظة من الخواطر المذمومة ، فما يقع في قلوبهم إلا الحق ، وكذلك كان ، لما كتب عليهم القتال تولوا وأعرضوا إلا قليلا منهم ، كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر خاصة ، فالمعنى يقول لهم نبيهم : الأقرب من أحوالكم إن كتب عليكم القتال أنكم لا تقاتلون وتكرهون ذلك ، لأن كلمة عسى من أفعال المقاربة « قالوا » فقالوا في جواب قوله :« وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »يقولون وما يمنعنا من ذلك ونحن نطلب ثأرا من عدونا ، فقالوا :« وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا »لما ظهر علينا عدونا جالوت ، قال :« فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا »أي أعرضوا كما ظنه فيهم نبيهم صلّى اللّه عليه وسلم« إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ »فكأن فعل المقاربة إنما دخل من أجل من أطاع منهم


ص 367
وهو الاسم الذي يتضمن الأسماء الإلهية التي تطلبها الأكوان كلها لاتساعه ، وهي أكثر من أن تحصى كثرة .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ولم يتول عن القتال ، فكأنهم قاربوا أن يتولوا بأجمعهم لولا أن اللّه اعتنى بالطائفة التي استثنى منهم ، قال :« وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ »وعيد وتهديد ، وتحقيق أن اللّه يعلم ما يكون من الظالم من الظلم قبل وقوعه ، فأنطق اللّه بذلك نبيه عليه السلام ، وعرفنا اللّه بهذا كله تنبيها لنا وتذكرة لئلا نكون مثلهم فيما يأمرنا به سبحانه ، وتعزية للنبي محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وتثبيتا لفؤاده إن وقع منا في أمر اللّه ما وقع من هؤلاء ، قال تعالى : ( وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ )ثم قال : ( 248 )« وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً »يقول : لما سأل ملأ بني إسرائيل نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه عدوهم ، قيل أوحى اللّه إلى نبيه بقارورة فيها دهن مقدس ، فقال له ربه : إذا دخل عليك رجل فينشّ الدهن عند دخوله فذلك هو الملك الذي نبعثه لهم ، فدخل عليه طالوت يوما يرجو بركة دعائه في أن يرد اللّه عليه حمرا ضلت له ، فلما دخل نش الدهن في القارورة ، فدهنه به ، وكان رجلا دباغا حقيرا في قومه من سبط بنيامين ، ولم يكن في ذلك السبط نبوة ولا ملك ، وكان طالوت من أدنى بيت فيه ، وسمي طالوت لفضله عليهم في العلم والجسم من الطول وهو الفضل ، واسمه بالسريانية شانك بن قيس بن إنبال بن ضرار ابن يحرب بن أفثح بن إيش بن يامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، فقال له شمويل :
إن اللّه قد أمرني أن أبعثك ملكا لهؤلاء القوم تقاتل بهم عدوهم ، ودهنه بدهن القدس ، وأعلمه أن اللّه يوحي إليه إذا كان في مكان كذا وكذا ، ثم قال لقومه :« إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً »« قالُوا أَنَّى يَكُونُ »يقولون كيف يكون :« لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا »وليس هو من سبط فيه نبوة ولا ملك« وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ »يقولون وما له مال واسع يكون به ملكا« قالَ » 247لهم نبيهم« إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ »أي اختاره« عَلَيْكُمْ »يقول : يكون ملكا عليكم يملك أمركم« وَزادَهُ »عليكم« بَسْطَةً »أي اتساعا« فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ »أي منظره عظيم حسن ، ومخبره مثل ذلك ، وأحسن الناس من عظم منظرا ومخبرا ، وقيل كان سقاء يستقي الماء على حمار له« وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ »يقول : الملك للّه سبحانه ليس لكم فيعطيه لمن يشاء من عباده ، قال تعالى : ( قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ )ثم قال :« وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ »لما قالوا : ولم يؤت سعة من المال ، أخبرهم اللّه بأني واسع العطاء إذا شئت أغنيته بالمال ، وقوله :« عَلِيمٌ »في هذا الموضع ، يقول : عليم بمن يصلح من عبادي للنيابة عني في خلقي والتقدم عليهم ، ولما أخبرهم نبيهم بأن اللّه اصطفى عليهم طالوت بالملك ، قالوا : ما آية ذلك ؟

ص 368
سورة البقرة ( 2 ) : آية 248
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 248 )
اعلم أن المعاني التي تتصف بها القلوب قد يجعل اللّه علامة على حصولها في نفوس من شاء من عباده أن يحصلها ، فيه علامات من خارج ، تسمى تلك العلامة باسم ذلك المعنى الذي يحصل في نفسه من اللّه ، وإنما يسميه به ليعلم أن تلك العلامة لحصول هذا المعنى




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
( 249 )« وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ »فقال لهم :« إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ »أي علامة إعطاء اللّه له الملك« أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ »وكان عند أنبياء بني إسرائيل تابوتا قد جعل اللّه لهم فيه آية يسكنون إليها تدل على نصرهم على عدوهم ، فكانوا إذا قاتلوا عدوهم قدموا التابوت أمام الجيش واستنصروا به ربهم ، فيعطيهم النصر ، فهذا معنى قوله :« فِيهِ سَكِينَةٌ »كما يقال : اقبل هذا الأمر فإن فيه فرجا لك ، وكان اللّه قد رفع التابوت من بني إسرائيل لما فشت فيهم المخالفات والكفر ، فقيل أخذه منهم عدوهم ، وقيل بل رفعه اللّه إليه ، ولا شك أن هذا الملأ من بني إسرائيل إنما أوتوا في إنكارهم الملك على طالوت لكونهم ما طلبوا قتال عدوهم لأن تكون كلمة اللّه هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى إيثارا لجناب الحق تعالى ، واللّه أغنى الشركاء عن الشرك ، فقالوا : ( وما لنا أن لا نقاتل في سبيل اللّه وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ) فذكروا العلة فما قاتلوا إلا لحظوظ نفوسهم لا لجناب اللّه ، فبعدوا من اللّه فضعفوا في نفوسهم ، فلم يقبلوا فرض القتال عليهم ، ونازعوا اللّه في ولاية طالوت عليهم ، فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى أنزلته في بيت طالوت ، فحينئذ سمعوا له وأطاعوا رغبة في النصر على عدوهم ، وقوله :« فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ »أي فيه آية تدل على النصر ، فيسكن إليه من كان عنده في حال قتال عدوه ، يقال سكن إلى هذا الأمر يسكن سكونا وسكينة ، على أنه قد قيل في هذه السكينة أقوال ، كلها ترجع إلى ما ذكرناه ، فقالوا كانت السكينة التي فيه ريحا هفافة ، لها وجه كوجه الإنسان ، وقيل غير ذلك ، وسميت سكينة لما ذكرناه ، ولا فرق بين أن تكون الآية حضور التابوت عندهم أو تكون ما ذكروه ، قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ )ويحتمل أن تكون السكينة عبارة عن الملائكة الذين مع التابوت ينصرهم اللّه بهم مددا ودعاء ، فإنه قد ورد في الصحيح أن بعض الصحابة

ص 369
نصبت ، مثل قوله تعالى في تابوت بني إسرائيل إن اللّه قد جعل فيه سكينة ، وهي صورة على شكل حيوان من الحيوانات ، اختلف الناس في أي صورة حيوان كانت ، ولا فائدة لنا في ذكر ما ذكروه من صورتها ، فكانت تلك الصورة إذا هفت أو ظهرت منها حركة خاصة بصروا ، فسكن قلبهم عند رؤية تلك العلامة من تلك الصورة التي سماها سكينة ، وأن السكينة المعلومة إنما محلها القلوب ، ولم يجعل لهذه الأمة المحمدية علامة خارجة عنهم على حصولها ، فليس لهم علامة في قلوبهم سوى حصولها ، فهي الدليل على نفسها ، ما تحتاج إلى دليل من خارج كما كان في بني إسرائيل .




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
كان يقرأ القرآن وله فرس فجعلت الفرس تضرب بيديها وتنفر ، فنظر الرجل فإذا غمامتان قد نزلتا من السماء ، فلما سكت عن القراءة ارتفعتا ، فذكر ذلك للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال : تلك السكينة نزلت للقرآن وكانت الملائكة في الغمامتين ، وقوله :« وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ »يعني الأنبياء« تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ »فيقال كان فيه عصا موسى وعمامته وشيء من التوراة وثياب موسى ورضراض الألواح والطست الذي كان يغسل فيه قلوب الأنبياء ، ثم قال :« إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »وهذا دليل على مغايرة العلم للإيمان كما قدمنا ، فإن الدليل يعطي العلم لذاته ولا يعطي الإيمان ، فالإيمان نور يقذفه اللّه في قلب من خصه من عباده ، وقوله :« إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »أي مصدقين بأن النصر يكون مع التابوت ، والآية كانت في إتيانه لا فيه ، فقوله :« ذلِكَ »إشارة إلى الإتيان ، فجعله دليلا على صدق شمويل أن اللّه بعث لهم طالوت ملكا ، فأضيفت الآية للملك المضاف إلى طالوت لأنه محل النزاع ، وقوله :« لَآيَةً لَكُمْ »يدل على أنه علم سبحانه أنهم اتخذوا الإتيان دليلا ، لأنه من لم يتقرر عنده كون هذا الأمر دليلا على كذا لا يكون عنده دليلا ، وإن كان في نفس الأمر دليلا ، ولكن هنا غموض ، فإنه إذا حصل هذا الدليل عند الناظر فيه من جميع وجوهه باستيفاء أركانه ، فلا بد أن يكون عنده دليلا لأنه لذاته يدل ، ويرتبط بمدلوله ، فليس الدليل بالإضافة ، فالجهل إنما حصل من كون الناظر ما استوفى النظر فيه ، ولهذا انقسم الناظرون في آيات الأنبياء إلى قسمين : قسم لم يحصل لهم العلم بالدليل فكفروا بالمدلول ، وقسم حصل لهم العلم بذلك فجحدوا بالآية واستيقنتها أنفسهم ، فيختلف الحكم عليهم في الآخرة من عند اللّه لاختلاف أحوالهم وإن جمعهم اسم الكفر ، فلما رأت بنو إسرائيل إتيان الملائكة بالتابوت إلى بيت طالوت على حد ما ذكره نبيهم سمعوا له وأطاعوا ، فخرج بهم طالوت لقتال عدوهم ، وهو قوله : ( 250 )« فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ »من خرج من

ص 370

سورة البقرة ( 2 ) : آية 249
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( 249 )
من ذلك يعلم أن الصدق سيف اللّه في الأرض ، ما قام بأحد ولا اتصف به إلا نصره اللّه ، لأن الصدق نعته والصادق اسمه ، فينصر اللّه المؤمن الذي لم يدخله خلل في إيمانه على




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
شيء فقد فصل عنه فصولا ، فقال تعالى :« فَلَمَّا فَصَلَ »أي خرج من بيته بجنوده يطلب عدوه ، وكان في زمان الحر ،« قالَ »لهم :« إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ »قيل هو نهر الأردن الخارج من بحيرة طبرية الواقعة في بحيرة لوط ، فابتلاهم اللّه أي اختبر صدقهم في اتباع طالوت بالشرب من النهر ، إذ التكليف إنما يقع ويتعلق بفعل المكلف« فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ »يقول : من كرع فيه فشرب منه أكثر مما يسد به عطشه خاصة ، وهو الضروري من ذلك ، الذي تبقى به حياة الإنسان وإن أحس بالعطش ، يقول : فمن فعل ذلك« فَلَيْسَ مِنِّي »يقول :« وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ »وصبر على عطشه« فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ »وهو قدر الضرورة الداعية إليه فإنه مني ، وقوله :« فَلَيْسَ مِنِّي »أي الشرب منه ليس من سنتي ، كما ورد [ من غشنا فليس منا ] أي ليس من سنتنا الغش ، قال :« فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ »وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وما عدا هؤلاء فإنهم شربوا حتى رووا منه ، قال تعالى :« فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ »يعني طالوت « والذين معه » يعني عسكره ، أبصروا عسكر جالوت وكثرته وشدة بأسه ، ونظروا إلى ضعفهم وقلتهم« قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ »وهؤلاء القائلون منهم هم الذين شربوا وهم الذين وقع عليهم الشرط بقوله : ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )وهم الذين قالوا : ( وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا )فكرهوا أن يخرجوا من أنفسهم أيضا بالقتل ، فجبنوا عن قتال عدوهم ، وضعفوا عن الإيمان بالنصر المقترن بحضور التابوت ، فما كان فيه في حق هؤلاء سكينة ، لأن نفوسهم ما سكنت إليه في ذلك
 
ص 371

من دخله خلل في إيمانه ، فإن اللّه يخذله على قدر ما دخله من الخلل ، أي مؤمن كان من المؤمنين ، فالمؤمن الكامل الإيمان منصور أبدا ، ولهذا ما انهزم نبي قط ولا ولي ، ألا ترى يوم حنين لما ادعت الصحابة رضي اللّه عنهم توحيد اللّه ، ثم رأوا كثرتهم فأعجبتهم كثرتهم فنسوا اللّه عند ذلك ، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئا ، مع كون الصحابة مؤمنين بلا شك ، ولكن دخلهم الخلل باعتمادهم على الكثرة ، ونسوا قول اللّه« كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ »فما أذن اللّه هنا إلا للغلبة فأوجدها ، فغلبتهم الفئة القليلة بها عن إذن اللّه -[ الا من اغترف غرفة ]
إشارة - لما جرى نهر البلوى ، بين العدوتين الدنيا والقصوى ، وكان الاضطرار ، وقع الابتلاء والاختبار ، لما كان الظما ، اختبر الإنسان بالماء ، فلم يحصل له أمان الغرفة ، إلا من قنع في شربه بالغرفة ، فمن اغترف نال الدرجات ، ومن شرب ليرتوي عمر الدركات ، فما ارتوى من شرب ، وروي من اغترف غرفة بيده وطرب ، فمن رضي بالقليل ، عاش في ظل ظليل ، في خير مستقر وأحسن مقيل


سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 250 إلى 251
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ( 250 ) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ ( 251 )
الحكمة هي علم النبوة ، والحكماء على الحقيقة هم العلماء باللّه وبكل شيء ومنزلة ذلك




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
« قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ »فقال القليل منهم ، وهم الذين يظنون أنهم ملاقوا اللّه ، وقد تقدم الكلام في الظن في هذه السورة« كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً »الفئة الجماعة ، وقوله :« بِإِذْنِ اللَّهِ »أي الغلب لا يقع إلا بإذن اللّه ، أي بأمره ، فإنه شيء ، وقد قال : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )وقال تعالى : ( وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى )وقوله :« وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ »قد تقدم الكلام عليه في هذه السورة ثم قال : ( 251 )« وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ »


ص 372

الشيء المعلوم ، وهم على الحقيقة الرسل والأولياء« وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ »ولبطلت السنة والفرض .


سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 252 إلى 253
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 252 ) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ( 253 )
الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسول ، منهم الفاضل والأفضل ، وإن سبح الكل في فلك الرسالة ، لأن كل صنف أشخاصه يفضل بعضهم بعضا ، ولا تفاضل إلا بالعلم ، فهؤلاء




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يقول : ولما برزوا أي ظهروا إلى عدوهم ، دعوا اللّه أن يصب عليهم الصبر والثبات في الحرب ، والنصر على الأعداء ، وكيف يسألون النصر وهم قد علموا وقوع النصر لهم على أعدائهم بكون التابوت معهم ؟ فالجواب من وجهين : الوجه الواحد ، الأدب مع الحق والاعتماد عليه لا على الأسباب ، وما هم على يقين أن التابوت يكون معه النصر كما كان لمن تقدم ، لتغير الأحوال ، ومجيئه إنما كان آية على ملك طالوت لا على نصره على عدوهم ، وما يقتضيه أيضا جبلة الإنسان من الجبن ، فاستعان بالدعاء للهلع الذي قام به ، قال تعالى : ( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ) ،والوجه الآخر ، منقول عن السكينة ، فإنهم قالوا إنها كانت آية لها رأس كرأس الهر ، فإذا صاحت علموا أنهم قد نصروا ، وإذا سكتت علموا أنهم لا ينصرون ، وهم لا يدرون هل تصيح فينصرون أم لا ؟ فاستعانوا بالدعاء للّه والتضرع في النصر على أعدائهم ، فأجاب اللّه دعاءهم ، فأخبر تعالى وقال : ( 252 )« فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ »كما قال أولا بإذن اللّه ، تصديقا لهم حيث قالوا : ( غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ )« وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ »يريد داود النبي صلّى اللّه عليه وسلم وجالوت هو الملك« وَآتاهُ اللَّهُ »يعني داود« الْمُلْكَ »الذي كان لطالوت« وَالْحِكْمَةَ »الزبور الذي أنزل عليه« وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ »ما أراده من العلوم التي فيها سعادته وشرفه« وَلَوْ لا

ص 373


مع اجتماعهم في الرسالة والكمال يفضل بعضهم بعضا فيما لهم من الأخلاق الخاصة بهم ، وهي مائة وسبعة عشر خلقا ،[ مكانه محمد ( ص ) ]
وقد جمعها كلها محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، جمعت له عناية أزلية ، فإن اللّه تعالى لما خلق الخلق خلقهم أصنافا ، وجعل في كل صنف خيارا ، واختار من الخيار خواصا وهم المؤمنون ، واختار من المؤمنين خواصا وهم الأولياء ، واختار من هؤلاء الخواص خلاصة وهم الأنبياء ، واختار من الخلاصة نقاوة وهم أنبياء الشرائع المقصورة عليهم ، واختار من النقاوة شرذمة قليلة هم صفاء النقاوة المروقة وهم الرسل أجمعهم ، واصطفى واحدا من خلقه هو منهم وليس منهم ، هو المهيمن على جميع الخلائق ، جعله عمدا




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ »أي ولولا دفاع اللّه الناس بعضهم ببعض ، أي ولولا أن اللّه يدفع بأوليائه شر أعدائه وفسادهم الذي يرمونه في دين اللّه وأوليائه« لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ »أي لظهر الفساد في الأرض« وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ »أي ذو منة وعناية على العالمين ، يعني عباده ، ثم قال لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم : ( 253 )« تِلْكَ آياتُ اللَّهِ »يعني جميع ما ذكره من هذه القصة« نَتْلُوها عَلَيْكَ »أي نعرفك بها« بِالْحَقِّ »أنها حق« وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ »يقول : كما أرسل هؤلاء ، وأنك ستلقى مثل ما لقي هؤلاء ، وتعزية له لما لقيه من بني قريظة والنضير ، ولما كانت الأنبياء قد جعلها اللّه صنفين : صنف أرسلهم إلى الخلق مبشرين ومنذرين ، وصنف لم يرسلهم بل نبأهم وجعلهم على شريعة من عنده تعبدهم بها ، قال لمحمد عليه السلام :« وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ »منهم ، أي من الصنف الذي أرسل ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم أعظم الرسل ، إذ كان الرسالة إلى كافة الناس ، فجميع بني آدم من زمان رسالته إلى يوم القيامة من أمته ، من آمن منهم ومن كفر ، فميزانه أرجح الموازين ، وسواد أمته أكثر سوادا يوم القيامة من سائر الأمم ، فهو المكاثر الذي لا يكاثر ، ثم نرجع إلى ذكر القصة بعد انقضاء التفسير فنقول : إن بني إسرائيل لما استولى عليهم جالوت وأخرجهم من ديارهم وحال بينهم وبين أبنائهم بالأسر والجلاء والقتل ، وأخذ التابوت الذي كانت تستنصر به الأنبياء على أعدائها في القتال ، وكان موسى لما مات في التيه ترك التابوت عند يوشع بن نون بن أفراييم ابن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، وأوصاه به ، وما زال التابوت ينتقل من نبي إلى نبي بالوصية عليه ، إلى أن كفرت بنو إسرائيل وضلوا ، سلط اللّه عليهم جالوت فاتكا فيهم ، فقيل إن التابوت رفعه اللّه ، وقيل إن جالوت استولى عليه وأخذه منهم وبقي عنده ما شاء اللّه ، ولما رأت بنو إسرائيل ما جرى عليها ، اجتمع وجوههم إلى النبي الذي كان عندهم في ذلك الوقت وهو شمويل ، فقالوا له : إن عدونا استولى علينا وليس لنا ملك ولا رأس نرجع له ونسمع له


ص 374


أقام عليه قبة الوجود ، جعله أعلى المظاهر وأسناها ، صح له المقام تعيينا وتعريفا ، فعلمه قبل وجود طينة البشر ، وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، لا يكاثر ولا يقاوم ، هو السيد ومن سواه سوقة ، قال عن نفسه : أنا سيد الناس ولا فخر ، بالراء والزاي ، روايتان ، أي أقولها غير




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ونطيع ، فكان يغزو بنا عدونا ولا نبقى ضميمة يفتك بنا بسيفه ورجاله ، فقال لهم نبيهم :
أنا أسأل اللّه في ذلك ، ولكني أخاف عليكم إن فرض عليكم القتال ألا تقاتلوا ، وكانت الأمم تنزل عليهم الأحكام على قدر سؤالاتهم ، فقالوا لشمويل : يا رسول اللّه وكيف نتخلف عن قتال عدونا وقد أخرجنا من ديارنا وحال بيننا وبين أبنائنا ؟ وذهلوا عن الذي قال لهم شمويل من فرض القتال عليهم لما كانوا فيه من شدة الحرص على قتال عدوهم ، فما طلبوا إلا ملكا يدبر أمرهم ، لا أن يفرض عليهم القتال فيعصون بتركه ، فلما أجاب اللّه نبيه شمويل فيما سأل من ذلك ، فرض اللّه عليهم القتال ، فقال لهم نبيهم شمويل : إن اللّه قد فرض عليكم قتال عدوكم ، فلما سمع القوم بأن ذلك على جهة الفرض صعب عليهم لما في التكليف من المشقة ، فأعرض أكثرهم ورجع عن سؤاله ، وآمنت طائفة بما فرض اللّه عليها من قتال عدوها ، فكان الذين آمنوا ثلاثمائة وثلاثة عشر ، ثم قال لهم شمويل صلوات اللّه عليه : إنني سألت اللّه في أن يبعث لكم ملكا يرجع أمركم في قتال عدوكم إليه ، فأوحى اللّه إلى شمويل ونزل عليه جبريل بقارورة فيها دهن القدس ، وقال له : يا شمويل انظر إلى هذا الدهن في هذه القارورة فأي رجل دخل إليك ونش هذا الدهن لدخوله ، فهو الملك الذي قد قضيت أن أبعثه لبني إسرائيل ، وكان في زمن شمويل رجل يسقي الماء على حمار له ، وقيل بل كان دباغا ولم يكن من بيت فيه نبوة ولا ملك ولا من أشراف بيته ، وقد ذكرنا نسبه وبيته ، فضاع حماره فخرج في طلبه ، فمر بمنزل شمويل ، فدخل عليه يرجو بركة دعائه في وجدان حماره ، فلما دخل عليه نش الدهن في القارورة ، فنظر إليه شمويل وقال له :
ادنه ، فدنا منه طالوت ، فدهن رأسه بذلك الدهن وبرّك عليه ، وقال له : يا طالوت إن اللّه قد أعطاك ملك بني إسرائيل وقدمك عليهم ، وكان طالوت ذا منظر حسن وهيبة وامتداد قامة ، وكان قد آتاه اللّه علما بالحروب وترتيب الجيوش والمكايد التي يحتاج إليها في الحرب ، فقال شمويل لبني إسرائيل : إن اللّه قد بعث لكم طالوت ملكا ، وكانوا يعرفون طالوت بينهم وأنه فقير حقير مهان في عشيرته ، وعشيرته في العشائر حقيرة غير معتبرة ، فأنفوا أن يتقدم عليهم مثل ذلك ، وقالوا لشمويل : نحن أحق بالملك منه ، فإنه رجل لا أصل له فينا يرجع إليه من ملك ولا نبوة ، ولا مال له ينفقه فينا ، فقال لهم شمويل : إن اللّه قد فضله عليكم بما تحتاجون إليه في قتال عدوكم وبما ينبغي أن يكون عليه الملك ، وأعطاه اللّه العلم بالقتال والمغالبة والحروب ، وأعطاه البسطة والجمال في

ص 375


متبجح بباطل ، أي أقولها ولا أقصد الافتخار على من بقي من العالم ، وإن كنت أعلى المظاهر الإنسانية فأنا أشد الخلق تحققا بعيني« تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ »فمن حيث ما هي رسالة فلا فضل إذ الاسم يعم هذه الحالة ، ومن حيث ما هي رسالة بأمر ما وقع




من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
صورته بحيث إذا رآه عدوه هابه ، وأما المال فإنّ اللّه بيده خزائن الأرض ومقاليدها ، فهو يعطيه ويهبه ما ينفقه فيكم ، فقالوا له : إن كان اللّه اختاره لنا وبعثه ملكا علينا كما زعمت فما علامة ذلك ، وكانت بنو إسرائيل كثيرا ما تطلب الآيات من أنبيائها ، فقال لهم : إن علامة ملكه فيكم أن يرجع إليكم التابوت الذي أخذ منكم ، وتأتي به الملائكة تحمله في الهواء وأنتم تنظرون إليه حتى تنزله في بيت طالوت ، ففرحوا برد التابوت ورضوا بهذه الآية ، فبينما هم جلوس وإذا بالتابوت بين السماء والأرض تحمله الملائكة وهم ينظرون إليه ، حتى نزلت به الملائكة في بيت طالوت ، وكان في التابوت صورة يقال لها السكينة ، لها رأس كرأس الهر ووجه كوجه الإنسان وجناحان ، فإذا لقوا العدو نظروا إليها وهي في التابوت ، فإذا أنّت وصوتت وفتحت جناحيها أيقنوا بالنصر ، وسار التابوت بحركتها قدما تجاه العدو ، وسار الجيش خلف التابوت ، فيدبر عدوهم منهزما ، فلما رأت بنو إسرائيل التابوت قد نزل عند طالوت علموا أن اللّه قد أعطاه الملك عليهم ، فسمعوا له وأطاعوا واجتمعوا عليه ، فخرج بهم يطلب جالوت ، وكان عدوهم بين فلسطين وديار مصر ، وكان من عبدة الأوثان ، فلما جاء الغور وكان زمان قيظ واشتد عليهم الحر ، وأخذهم العطش ، أخرج اللّه لهم نهرا من بحيرة طبرية يجري مع طول الغور إلى أن يصب في بحيرة لوط ، يقال له الأردن ، فقال لهم طالوت : إن اللّه يختبركم بهذا النهر مع عطشكم ، فمن لم يطعمه صحبني وكان معي ، ومن شرب منه وأخذ منه فوق حاجته فليس يتبعني ولا يكون معي ، إلا من أخذ منه قدر الحاجة ، وهي الغرفة بيده ليسد بها رمقه إذا خاف الهلاك من العطش ، فشرب منه كل من تولى حين فرض عليهم القتال ، ولم يشرب منه الثلاثمائة والثلاثة عشر ، فلما جاوز النهر طالوت وعسكره ولحقوا بجالوت وعسكره ، قال أصحاب طالوت الذين شربوا من النهر : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، لما رأوه من العدة والعدد ، فقال الثلاثمائة والثلاثة عشر : لا تقولوا هكذا فإن النصر من عند اللّه ، ما هو بكثرة الجموع ، فكم رأينا وسمعنا من جماعة قليلة ضعيفة في العدة والعدد هزمت بإذن اللّه - لما ثبتت وصبرت - جماعة كثيرة قوية في العدة والعدد ، واللّه مع من يثبت في الحرب ، ولا يبرح معين له وناصر ، وكان طالوت لما بشره شمويل بالملك قال له : إني أعطيك درعا يكون معك ، تخلعه على قاتل جالوت ، وتزوجه بنتك وتعطيه نصف ملكك ، وإن هذا الدرع لا يلبسه ويكون على قده إلا قاتل جالوت ، وهذه علامة لك على ذلك ، وكان داود عليه

ص 376
التفاضل ، ووقع التفاضل بين الرسل وهم الخلفاء لاختلاف الأزمان واختلاف الأحوال ، ولهذا اختلفت آيات الأن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "254 - 275" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:50 am

تفسير آلآيات من "254 - 275" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلمات الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 254 إلى 255
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 254 ) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( 255 )
ورد أن آية الكرسي سيدة آي القرآن ، فقد ثبت في الأخبار تفاضل سور القرآن وآية بعضه على بعض في حق القارئ بالنسبة لما لنا فيه من الأجر ، فكانت آية الكرسي سيدة آي القرآن ، لأنه ليس في القرآن آية يذكر اللّه فيها بين مضمر وظاهر في ستة عشر موضعا منها إلا آية الكرسي ، ولما كانت الآيات العلامات ، ولا شيء أدل على الشيء من نفسه ، وآية الكرسي كلها أسماؤه وصفاته ، لا يوجد ذلك في غيرها من الآيات ، فدل على نفسه بنفسه ،

[ توحيد ألوهية ]
فقال :« اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ »فنفى وأثبت بضمير غائب على اسم حاضر له مسمى غيب ، وما نفى الحق إلا الألوهة أن تكون نعتا لأكثر من واحد« الْحَيُّ »صفة شرطية في وجود ما له من الأسماء ، فإنه لما لم يتمكن أن يتقدم الاسم الحي الإلهي اسم من الأسماء الإلهية ، كانت له رتبة السبق ، فهو المنعوت على الحقيقة بالأول ، فكل حي من العالم - وما في العالم إلا حي - فهو فرع عن هذا الأصل ، فالحي اسم ذاتي للحق سبحانه ، لم يتمكن أن يصدر عنه إلا حي ، فالعالم كله حي ، إذ عدم الحياة ووجود موجود من العالم غير حي لم يكن له مستند إلهي في وجوده البتة ، ولا بد لكل حادث من مستند« الْقَيُّومُ »على كل ما سواه بما كسب ، فإنه أعطى كل شيء خلقه ، ولما كانت القيومية من لوازم الحي استصحبها في الذكر مع الحي ، قال عزّ وجل : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ )فكانت القيومية من نعوت الحي ، واستصحبته فلا تذكر إلا معه ، فالاسم القيوم أخو الاسم الحي


ص 379


الملازم له ، فما جاء الاسم الحي إلا والقيوم معه« لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ »صفة تنزيه عما يناقض حفظ العالم الذي لولا قيوميته ما بقي لحظة واحدة ، فنعت الحق نفسه بصفة التنزيه عن حكم السنة والنوم ، لما يظهر به من الصور التي يأخذها السنة والنوم ، كما يرى الإنسان ربه في المنام على صورة الإنسان التي من شأنها أن تنام ، فنزه نفسه ووحدها في هذه الصورة وإن ظهر بها في الرؤيا حيث كانت ، فما هي ممن تأخذها سنة ولا نوم ، فهذا هو النعت الأخص بها في هذه الآية ، وقدم الحي القيوم لأن النوم والسنة لا يأخذ إلا الحي القائم ، أي المتيقظ ، إذ كان الموت لا يرد إلا على حي ، فلهذا قيل في الحق إنه الحي الذي لا يموت ، كذلك النوم والسنة ، والسنة أول النوم كالنسيم للريح ، فإن النوم بخار وهو هواء ، والنسيم أوله ، والسنة أول النوم ، فلا يرد إلا على متصف باليقظة ، فهذا توحيد التنزيه عمن من شأنه أن يقبل ما نزه عنه ، هذا الحي القيوم ، وهو توحيد الهوية توحيد الابتداء ، لأن اللّه فيه مبتدأ ونعته في هذه الآية بصفة التنزيه ، فهو تعالى لا يغيبه شهود البرازخ عن شهود عالم الحس عن شهود عالم المعاني الخارجة عن المواد في حال عدم حصولها في البرازخ وتحت حكمه« لَهُ »الضمير يعود عليه وهو ضمير غيب« ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ »السماوات هنا ما علا والأرض هو ما سفل ، فله ما في السماوات وما في الأرض ملكا له وعبدا ، معين الحفظ لبقاء الحكم بالألوهة« مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ »شفعية الوتر بالحكم« عِنْدَهُ »ضمير غيب« إِلَّا بِإِذْنِهِ »عدم الاستقلال بالحكم دونه ، فلا بد من إذنه إذ كان ثم شفيع أو شفعاء ، والشفاعة لا تقع إلا فيمن أتى كبيرة تحول بينه وبين سعادته ، فيعلم ما في السماوات وما في الأرض من الشفعاء والمشفوع فيهم« يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ »وهو ما هم فيه« وَما خَلْفَهُمْ »وهو ما يؤولون إليه« وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ »بالأشياء« إِلَّا بِما شاءَ »منها لا بكلها ، فبيّن الحق في هذه الآية أن العقل وغيره ما أعطاه من العلم إلا ما شاء ، وما ذكر عن أحد من نبي ولا حكيم أنه أحاط علما بما يحوي عليه حاله في كل نفس نفس إلى موته ، بل يعلم بعضا ولا يعلم بعضا ، مع علمنا بأن اللّه عزّ وجل أوحى في كل سماء أمرها ، وأن اللّه أودع اللوح المحفوظ علمه في خلقه بما يكون منهم إلى يوم القيامة ، ولو سئل اللوح المحفوظ ما فيك أو ما خط القلم فيك من علم اللّه عزّ وجل ؟
ما علم ، فإن اللّه أودع ذلك كله في نظره لمن هو دونه ، ولا يعلم ما يكون عن الأثر إلا اللّه ، فإن الأثر

ص 380
ما يظهر عن النظر بل عن استعداد القابل ، فلا يعلم الأمور على التفصيل إلا اللّه وحده ، فإن اللّه ستر العلوم والأسرار الراجعة إليه تعالى وإلى أسمائه وإلى العالم عن الخلق كلهم بالمجموع ، فلا يعلم المجموع ولا يعلم واحد من الخلق ، لكن له العلم بالآحاد ، فعند واحد ما ليس عند الآخر ، فهو بالمجموع حاصل لا حاصل ، فهو حاصل في المجموع غير حاصل عند واحد ، وهو قوله :« وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ »فجاء بباء التبعيض ، فعند واحد من العلم ما ليس عند الآخر« وَسِعَ كُرْسِيُّهُ »قال بعض أهل المعاني يريد العلم ، ونقلوه لغة ، فإن الكرسي لغة عبارة عن العلم ، أي وسع علمه« السَّماواتِ وَالْأَرْضَ »إلا أنه في هذه الآية ليس إلا جسم محسوس ، هو في العرش كحلقة ملقاة في فلاة ، فهو مخلوق فوق السماوات ودون العرش ، وهو محصور موجود متناهي الأجزاء ، وهو موضع القدمين الواردتين في الخبر كالعرش لاستواء الرحمن ، وله ملائكة قائمون به ، والمراد بالسماوات والأرض من العلو والسفل« وَلا يَؤُدُهُ »يثقله« حِفْظُهُما »يعني السماوات وهم العالم الأعلى ، والأرض وهم العالم الأسفل ، وما ثمّ إلا أعلى وأسفل ، فوصف الحق نفسه بأنه لكل شيء حفيظ ، لأنه حفظ ذاتي معنوي وإمداد غيبي ، وخلق دائم في سفل وعلو« وَهُوَ »ضمير غيب« الْعَلِيُّ »بغناه عن خلقه من ذاته ، فإن أعلى الموجودات وأعظمها من وجب له الوجود لنفسه استقلالا ، وكان له الغنى صفة ذاتية لم يفتقر إلى غيره ، وكان بالاسم« الْعَلِيُّ »أولى وأحق« الْعَظِيمُ »في قلوب العارفين بجلاله فله الهيبة فيها ، والعظمة حال المعظّم اسم فاعل ، لا حال المعظّم اسم مفعول ، إلا أن يكون الشيء يعظم عنده ذاته فعند ذلك تكون العظمة حال المعظم لأن المعظم اسم فاعل ما عظمت عنده إلا نفسه ، فهو من كونه معظما نفسه كانت الحال صفته ، وما عظم سوى نفسه ، فالعظمة حال نفسه ، وعظمة الحق في القلوب لا توجبها إلا المعرفة في قلوب المؤمنين ، وهي من آثار الأسماء الإلهية ، فإن الأمر يعظم بقدر ما ينسب إلى هذه الذات المعظمة من نفوذ الاقتدار ، وكونها تفعل ما تريد ، ولا راد لحكمها ، ولا يقف شيء لأمرها ، فبالضرورة تعظم في قلب العارف بهذه الأمور ، وهي العظمة الأولى الحاصلة لمن حصلت عنده من الإيمان ، والمرتبة الثانية من العظمة هو ما يعطيه التجلي في قلوب أهل الشهود ، بمجرد التجلي تحصل العظمة في نفس من يشاهده ، وهذه العظمة الذاتية ولا تحصل إلا لمن شاهده به لا بنفسه ، وهو الذي يكون الحق بصره ،

ص 381


ولا أعظم من الحق عند نفسه ، فلا أعظم من الحق عند من يشهده في تجليه ببصر الحق لا ببصره ، فما أحسن ما جاء هذا الاسم ، حيث جاء في كلام اللّه ببنية فعيل فقال :
« عظيم » وهي ببنية لها وجه إلى الفاعل ، ووجه إلى المفعول ، ولما كان الحق عظيما عند نفسه ، كان هو المعظم والمعظم ، فأتى بلفظ يجمع الوجهين .
علا الحق في الإدراك عن كل حادث   .... وهل يدرك التنزيه ما قيد الطبع
علاه بها عقلا وليس بذاته      ..... وليس لمخلوق على حمله وسع
عبيد وفي التحقيق رب كصورة .....     وليس له ضر وليس له نفع
عظيم على من أو جليل من أجل من  .... تعالى فلا فطر لديه ولا صدع
وآية الكرسي آية ذكر اللّه فيها ما بين اسم ظاهر ومضمر في ستة عشر موضعا ، لا تجد ذلك في غيرها من الآيات ، منها خمسة أسماء ظاهرة اللّه الحي القيوم العلي العظيم ، ومنها تسعة ضميرها ظاهر ، فهي مضمرة في الظاهر ، ومنها اثنان مضمران في الباطن لا عين لها في الظاهر ، وهما ضمير العلم والمشيئة ، وكذلك علمه ومشيئته لا يعلمها إلا هو ، فلا يعلم أحد ما في علمه ولا ما في مشيئته إلا بعد ظهور المعلوم بوقوع المراد لا غير ، فلذلك لم يظهر الضمير فيها ، ومعلوم عند الخاص والعام أن ثمّ اسما عاما يسمى الاسم الأعظم يعمل بالخاصية ، وهو في آية الكرسي وأول سورة آل عمران ، ومع علم النبي عليه السلام به ما دعا به تأدبا بالأدب الإلهي ، لأنه صلّى اللّه عليه وسلم لا يعلم ما في نفس اللّه ، فلعل الذي يدعو فيه ما له فيه خيرة ، فعدل الأنبياء عليهم السلام إلى الدعاء فيما يريدون من اللّه بغير الاسم الخاص بذلك ، فإن كان للّه في علمه فيه رضى وللداعي فيه خيرة أجاب في عين ما سئل فيه ، وإن لم يكن عوّض الداعي درجات أو تكفيرا في السيئات ، فلهذا ما دعا به صلّى اللّه عليه وسلم ، ولو دعا به أجابه اللّه في عين ما سأل فيه ، وعلم اللّه في الأشياء لا يبطل ، فلهذا أدب اللّه أهله - بحث في الكرسي - الكرسي على شكل العرش في التربيع لا في القوائم ، وهو في العرش كحلقة ملقاة ، ومقعره على الماء الجامد ، وفي جوف هذا الكرسي جميع المخلوقات من سماء وأركان ، هي فيه كهو في العرش سواء ، وله ملائكة من المقسمات ، والجسم المسمى الكرسي تدلت إليه القدمان فهو موضعهما ، وفيه انقسمت الكلمة الرحمانية الواحدة التي هي في العرش أحدية الكلمة ، إلى رحمة وغضب مشوب برحمة ، فإنه لما تدلت القدمان

ص 382

استقرت كل قدم في مكان ليس هو المكان الذي استقرت فيه الأخرى ، وهو منتهى استقرارها ، فسمي المكان الواحد جهنما والآخر جنة ، وليس بعدهما مكان تنتقل إليه هاتان القدمان ، وهاتان القدمان لا يستمدان إلا من الأصل الذي منه ظهرت وهو الرحمن ، فلا يعطيان إلا الرحمة ، فإن النهاية ترجع إلى الأصل بالحكم ، غير أنه بين البدء والنهاية طريق ، ميز ذلك الطريق بين البداية والغاية ، ولولا تلك الطريق ما كان بدء ولا غاية ، ألا ترى إلى صدق ما قلناه أن النار لا تزال متألمة لما فيها من النقص وعدم الامتلاء ، حتى يضع الجبار فيها قدمه ، وهي إحدى تينك القدمين المذكورتين في الكرسي .
والقدم الأخرى التي مستقرها الجنة قوله : ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ )فالاسم الرب مع هؤلاء والجبار مع الآخرين ، لأنها دار جلال وجبروت وهيبة ، والجنة دار جمال وأنس وتنزل إلهي لطيف ، فقدم الصدق إحدى قدمي الكرسي ، وهما قبضتان الواحدة للنار ولا يبالي والأخرى للجنة ولا يبالي ، لأنهما في المآل إلى الرحمة ، فلذلك لا يبالي فيهما ، ولو كان الأمر كما يتوهمه من لا علم له من عدم المبالاة ، ما وقع الأخذ بالجرائم ولا وصف اللّه نفسه بالغضب ولا كان البطش الشديد ، فهذا كله من المبالاة والتهمم بالمأخوذ ، إذ لو لم يكن له قدر ما عذب ولا استعد له ، وقد قيل في أهل التقوى إن الجنة أعدت للمتقين ، وقيل في أهل الشقاء( أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ).
فلولا المبالاة ما ظهر هذا الحكم ، والقدمان عبارة عن تقابل الأسماء الإلهية ، فبالقدمين أغنى وأفقر ، وبهما أمات وأحيا ، وبهما أهل وأقفر ، وبهما خلق الزوجين الذكر والأنثى ، وبهما أذل وأعز ، وأعطى ومنع ، وأضر ونفع ، ولولاهما ما وقع شيء في العالم مما وقع ، فالقدمان في الأسماء الإلهية مثل الأول والآخر والظاهر والباطن ، ومثل ذلك ظهر عنها في العالم الغيب والشهادة والجلال والجمال ، والقرب والبعد ، والهيبة والأنس ، والدنيا والآخرة ، والجنة والنار .من لا تنام له عين وليس له * قلب ينام فذاك الواحد الأحدمقامه الحفظ والأعيان تعبده * ولا يقيده طبع ولا جسدهو الإمام وما تسري إمامته * في العالمين فلم يظفر به أحدكرسيه تخزن الأكوان فيه ولا * يؤده حفظ شيء ضمه عدد

ص 383

فالحمد للّه الذي وسع كرسيه السماوات والأرض ، ووضع فيه ميزان الرفع والخفض ، ودلى إليه قدمي النهي والأمر ، وصيره طريق روحانيات التدبير في السر والجهر ..

سورة البقرة ( 2 ) : آية 256
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 256 )
وهؤلاء هم السعداء الذين حق على اللّه نصرهم بقوله تعالى: ( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ).


سورة البقرة ( 2 ) : آية 257
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ( 257 ).
« اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا »نسب اللّه لنفسه الولاية بتعلق خاص للمؤمنين خاصة ، وذلك من اسمه المؤمن ، والمؤمن من يعطي الأمان في نفوس العالم بإيصال حقوقهم إليهم ، فهم في أمان منه من تعديه فيها ، ومتى لم يكن كذا فليس بمؤمن ، والمؤمن من أعطى الأمان في الحق إن أمنه ، فلا يضيف إليه ما لا يستحق جلاله أن يوصف به مما ذكر تعالى أن ذلك ليس له بصفة ، كالذلة والافتقار ، وهذه أرفع الدرجات أن نصف العبد بأنه مؤمن ، فالمؤمن اسم للّه تعالى والمؤمن اسم للإنسان ، وقد عم في الولاية بين المؤمنين ، فهو ولي الذين آمنوا بإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور ، وليس إلا إخراجهم من العلم بهم إلى العلم به ، فإنه يقول : من عرف نفسه عرف ربه ، فيعلم أنه الحق ، فيخرج العارف المؤمن الحق بولايته التي أعطاه اللّه من ظلمة الغيب إلى نور الشهود ، فهو نور العيان وهو عين اليقين ، فيشهد ما كان غيبا له ، فيعطيه كونه مشهودا ، ولم يكن له هذا الحكم من هذا الشخص قبل هذا ،

ص 384
 
فكون الشخص مؤمنا سبب إخراجه من الظلمات إلى النور ، ولولا أنهم كانوا في ظلمة بالطبع ما امتن عليهم بإخراجهم منها إلى ما أدخل عليهم من نور اليقين ، وكذلك جاء الخبر أن اللّه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره .
فمن أصابه اهتدى ومن أخطأه ضل ، واعلم أن أشد الظلمات ظلمة الإمكان ، فإنها عين الجهل المحض ، فإذا تولى اللّه عبده أخرجه من ظلمة الجهل الذي هو الإمكان ، وليس إلا نظره لنفسه معرى عن نظره للذي تولاه ، فيخرجه بهذا التولي من ظلمة إمكانه إلى نور وجوب وجوده به .
إشارة - هل تعرف من هم أصحاب الظلم ، الناظرون في العلم باللّه بالدليل النظري ، والمهواة الشبهة ، فما يحركهم مع هذا إلا نعمة الإيمان ، فانتقلوا إلى التقليد ، فتحركوا بنور الشرع المطهر ، فأبصروا محجة بيضاء ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ولا تخاف فيها دركا ولا تخشى.
« وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ »وما أفرد اللّه الطاغوت في قوله :« يُخْرِجُونَهُمْ »لأن الأهواء مختلفة ، وأفرد نفسه لأنه واحد ، والطاغوت من طغى ، إذا ارتفع ، فهم يعتقدون في الطاغوت الألوهية ، فلذلك رفعوه .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 258
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 258 )
لما كان القوم يرجعون في عبادتهم لما نحتوه آلهة لا إلى نمروذ بن كنعان ، فإن الأنوار التي أشار إليها إبراهيم لم تكن آلهتهم ، ولا كان النمروذ إلها لهم ، لذلك قال إبراهيم عليه السلام :« رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ »لم يجرأ نمروذ أن ينسب الإحياء والإماتة لآلهتهم التي وضعها لهم لئلا يفتضح .
فقال :« أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ »فعدل إلى نفسه تنزيها لآلهتهم عندهم ، حتى لا يتزلزل الحاضرون ، فإنه يقال فيمن أبقى حياة الشخص عليه إذا استحق قتله ، أن يقال أحياه ، ولم يكن مراد الخليل إلا ما فهمه نمروذ ، ولما علم إبراهيم عليه السلام قصور أفهام الحاضرين عما جاء به لو فصله ، وطال المجلس ، فعدل إلى الأقرب في أفهامهم وهو

ص 385

أخفى في نفس الأمر وأبعد ، وهو أوضح عند الحاضرين.
فقال :« فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ »وهو أمر إمكاني فابتلى اللّه نمروذ لما ادعى ما ليس له من الألوهية بهذا الأمر الإمكاني ، فاختبره« فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ »والباهت مقطوع الحجة دارس المحجة ، فقامت الحجة عليه وافتضح كذبه في المسألة الأولى ، وهو قوله يحيي ويميت ، فإن البهت عجز ، ومن عجز فقد وقف على حقيقته ، وهو بالبهت ليس بكافر لأنه علم الحق ، ولولا شروق الشمس ما كان الشرق مشرقا ، فلو أتى بها ، أي لو شرقت من المغرب لكان مشرقا ، فما شرقت إلا من المشرق ، فبهت الكافر وهو موضع البهت ، لأنه علم أنه حيث كان الشروق لها اتبعه اسم المشرق ، فليس للمغرب سبيل في نفس الأمر ، فما بهت الكافر إلا من عجزه كيف يوصل إلى أفهام الحاضرين - مع قصورهم - موضع العلم فيما جاء به إبراهيم الخليل عليه السلام ، فأظلم عليه الأمر وتخبط في نفسه ، فبهت الذي كفر في أمر إبراهيم ، كيف عدل إلى ما هو أخفى في نفس الأمر وأبعد لإقامة الحجة ، وقامت له الحجة عليه عند قومه ، فكان بهته في هذا الأمر المعجز الذي أعمى بصائر الحاضرين عن معرفة عدوله من الأوضح إلى الأخفى ، فحصل من تعجبه وبهته في نفوس الحاضرين عجزه ، وهو كان المراد ، فظهرت حجة إبراهيم الخليل عليه السلام على نمروذ أمام الحاضرين ، ولم يقدر نمروذ على إزالة ذلك مع ما حصل في قلوب العارفين الحاضرين من ذلك ، فعلم صدقه ، وإنما نسب الكفر إليه بالمسألة الأولى .
فإنه علم ما أراده الخليل بقوله :« رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ »فستره فسمي كافرا ، فلما ارتفع الستر كان تجلي الأمر على ما هو عليه فأعطي العلم ، فبهت الذي ستر عنه الأمر قبل تجليه ، فآمن به في نفسه ولا بد ، وإن لم يتلفظ به ، وكيف يتلفظ به وقد غاب عن الإحساس بعين ما هو به محس ، ولكن اللّه ما هداه .
أي ما وفقه للإيمان : « وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ».
أي لا يبين لهم في حال سترهم وحجابهم ، فإن الإبانة بالعلم ترفع ستور الجهل بذلك المعلوم ، والإعجاز من اللّه كون النمروذ بهت فيما له فيه ، مقال وإن كان فاسدا ، لأنه لو قاله قيل له فقد كانت الشمس طالعة من المشرق وأنت لم تكن ، وأكذبه من تقدمه بالسن على البديهة ، أما المقال الفاسد فقد كان يقول ما نفعل الأمر بحكمك ولا نبطل الحكمة لأجلك ، فكان بهت النمروذ إعجازا من اللّه سبحانه حتى علم الحاضرون أن إبراهيم عليه السلام على الحق ، ولم يكن لنمروذ أن يدعي الألوهية .

ص 386


سورة البقرة ( 2 ) : آية 259
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 259 )
يقال إن هذه القرية وادي القرى ، صبّح اللّه عروشها خاوية حين لم يغير الناس بها المنكر ، وعم بلاء اللّه سكانها فأهلك المقبل والمدبر ، ويقال إن الذي سأل هذا السؤال هو العزير عليه السلام ، وكان العزير رسول اللّه عليه السلام كثير السؤال عن القدر ، إلى أن قال له الحق تعالى : يا عزير لئن سألت عنه لأمحون اسمك من ديوان النبوة ، لأن علم القدر له نسبة إلى ذات الحق ونسبة إلى المقادير ، والنسب معقولة غير موجودة ولا معلومة ، لذلك امتنع العلم به أو تصوره ، فلا ينال أبدا ، وكان مما انفرد اللّه بعلمه ، فمن علم اللّه علم القدر ، ومن جهل اللّه جهل القدر ، واللّه سبحانه مجهول فالقدر مجهول ، فمن المحال أن يعرف المألوه اللّه ، وما من وجه من المعلومات إلا وللقدر فيه حكم لا يعلمه إلا اللّه ، لأن القدر لو علم علمت أحكامه ، ولو علمت أحكامه لاستقل العبد في العلم بكل شيء ، وما احتاج إلى الحق في شيء ، وكان الغنى له على الإطلاق ، فلمّا كان الأمر بعلم القدر يؤدي إلى هذا ، طواه اللّه عن عباده فلا يعلم .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 260
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 260 )


ص 387


تنزيه الأنبياء
يجب تنزيه الأنبياء مما نسب إليهم المفسرون من الطامات مما لم يجئ في كتاب اللّه ، وهم يزعمون أنهم قد فسروا كلام اللّه فيما أخبر به عنهم ، نسأل اللّه العصمة في القول والعمل ، فلقد جاءوا في ذلك بأكبر الكبائر ، وكل ذلك نقل عن اليهود واستحلوا أعراض الأنبياء والملائكة بما ذكرته اليهود ، الذين جرحهم اللّه وملئوا كتبهم في تفسير القرآن العزيز بذلك ، وما في ذلك نص في كتاب ولا سنة ، فاللّه يعصمنا وإياكم من غلطات الأفكار والأقوال والأفعال ، آمين بعزته وقوته ، مثال ذلك في تفسير هذه الآية ما نسبوا إلى إبراهيم الخليل عليه السلام من الشك.
وما نظروا في قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : نحن أولى بالشك من إبراهيم ، فإن إبراهيم عليه السلام ما شك في إحياء الموتى .
ولكن لما علم أن لإحياء الموتى وجوها متعددة مختلفة ، لم يدر بأي وجه منها يكون يحيي اللّه به الموتى ، وهو مجبول على طلب العلم .
فكان طلب رؤية الإحياء مع ثبوت الإيمان ليجمع بين العلم والعيان فعيّن اللّه له وجها من تلك الوجوه حتى سكن إليه قلبه ، فعلم كيف يحيي اللّه الموتى .
وكذلك قصة يوسف ولوط وموسى وداود ومحمد عليهم السلام ، وكذلك ما نسبوه في قصة سليمان إلى الملكين يقول تعالى :« وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى »فطلب إبراهيم عليه السلام كيفية إحياء الموتى لاختلاف الوجوه في ذلك لا إنكار إحياء الموتى« قالَ أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى »يقول بلى آمنت ولكن وجوه الإحياء كثيرة كما كان وجود الخلق ، فمن الخلق ما أوجدته عن كن ، ومنهم من أوجدته بيدك ، ومنهم من أوجدته بيديك ، ومنهم من أوجدته ابتداء ، ومنهم من أوجدته عن خلق آخر ، فتنوع وجود الخلق ، وإحياء الخلق بعد الموت إنما هو وجود آخر في الآخرة ، فقد يتنوع وقد يتوحد ، فطلب العلم بكيفية الأمر هل هو متنوع أو واحد ؟ فإن كان واحدا ، فأي واحد من هذه الأنواع ، لذلك قال :« وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي »أي يسكن ، فإذا أعلمتني به اطمأن قلبي وسكن بحصول ذلك الوجه ، والزيادة من العلم مما أمرت به ، والطمأنينة بدء السكينة التي هي مطالعة الأمر بطريق الإحاطة من كل وجه ، فإن وجوه الإحياء كانت تجاذبه من كل ناحية ، والسكون صفة مطلوبة للأكابر ، لذلك قال إبراهيم عليه السلام :« بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي »أي يسكن إلى الوجه الذي يحيي به الموتى ويتعين لي إذ الوجوه لذلك كثيرة ومعلوم أن اليقين كان عنده ، والطمأنينة كانت المطلوبة ، التي تعطيها العين ، فإن السكون أمر زائد على اليقين ، فجاز أن يطلب ،

ص 388

فأحاله اللّه على الكيفية بالطيور الأربعة ، التي هي مثال الطبائع الأربع فقال :« فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ »إخبارا بأن وجود الآخرة طبيعي ، يعني حشر الأجساد الطبيعية ، إذ كان ثمّ من يقول لا تحشر الأجسام وإنما تحشر النفوس بالموت إلى النفس الكلية مجردة عن الهياكل الطبيعية ، فأخبر اللّه إبراهيم أن الأمر ليس كما زعم هؤلاء ، فأحال على أمر موجود عنده تصرف فيه ، إعلاما أن الطبائع لو لم تكن مشهودة معلومة مميزة عند اللّه لم تتميز ، فما أوجد العالم الطبيعي إلا من شيء معلوم عنده مشهود له ، نافذ التصرف فيه ، فجمع بعضها إلى بعض ، فأظهر الجسم على هذا الشكل الخاص ، فأبان لإبراهيم بإحالته على الأطيار الأربعة وجود الأمر الذي فعله الحق في إيجاد الأجسام الطبيعية والعنصرية ، إذ ما ثمّ جسم إلا طبيعي أو عنصري ، فأجسام النشأة الآخرة في حق السعداء طبيعية ، وأجسام أهل النار عنصرية ، فالأربعة الطبيعية الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، والأربعة العنصرية هي النار والهواء والماء والتراب ، وأما حشر الأرواح التي يريد أن يعقلها إبراهيم من هذه الدلالة التي أحالها الحق عليها في الطيور الأربعة ، فهي في الإلهيات كون العالم يفتقر في ظهوره إلى إله قادر على إيجاده ، عالم بتفاصيل أمره ، مريد إظهار عينه ، حي لثبوت هذه النسب التي لا تكون إلا لحي ، فهذه أربعة لا بد في الإلهيات منها ، فإن العالم لا يظهر إلا ممن له هذه الأربعة ، فهذه دلالة الطيور له عليه السلام في الإلهيات في العقول والأرواح وما ليس بجسم طبيعي ، كما هي دلالة على تربيع الطبيعة لإيجاد الأجسام الطبيعية والعنصرية« فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ »أي ضمهن ، والضم جمع عن تفرقة ، وبضم بعضها إلى بعض ظهرت الأجسام« ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً »وهو ما ذكرناه من الصفات الأربع الإلهيات ، وهي أجبل لشموخها وثبوتها« ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً »وما كان أذهب منهن شيئا إلا فساد عين التركيب ، وأما الأجزاء فهي باقية بأعيانها ، ولا يدعى إلا من يسمع وله عين ثابتة ، فأقام له الدعاء بها مقام قوله كن من قوله : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )فلما أشهد اللّه خليله إبراهيم عليه السلام الكيفية سكن عما كان يجده من القلق لتلك الجذبات التي للوجوه المختلفة ، وسكن سكونا لا يشوبه تحير ولا تشويش في معرفة الكيفية ، وزاد يقينه طمأنينة بعلمه بالوجه الخاص من الوجوه الإمكانية ، وهنا دقيقة ، وهي أن تعلق القدرة الأزلية بالإيجاد حارت فيها المشاهد والعقول ، وقد قال تعالى لإبراهيم عليه السلام حين قال :

ص 389

" رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى »لما أراه آثار القدرة لا تعلقها ، عرف كيفية الأشياء والتحام الأجزاء حتى قام شخصا سويا ، ولا رأى تعلق قدرة ولا تحققها ، قال له الخبير العليم :« وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »لما تقدمه في صور الأطيار وتفريقه الأطوار .


سورة البقرة ( 2 ) : آية 261
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ( 261 )
إذا أدخل الحق صورة العمل الصالح الميزان ووزنه بصورة الجزاء رجحت عليه صورة الجزاء أضعافا مضاعفة وخرجت عن الحد والمقدار منة من اللّه وفضلا ، قال تعالى : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها )وقال :« مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ »بالزيادة من النعم ، فلم يجعل للتضعيف في الخير مقدارا يوقف عنده ، بل وصف نفسه بالسعة فقال :« وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ »فإن أسرار اللّه في الأشياء لا تنحصر ، ولهذا تقول الخواص ما ثمّ تكرار للاتساع الإلهي وإنما أمثال تحجب بصورها القلوب عن هذا الإدراك ، فتتخيل العامة التكرار ، واللّه واسع عليم ، فمن تحقق بوجود هذا الاسم الواسع ، لم يقل بالتكرار ، بل هم في لبس من خلق جديد .


سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 262 إلى 263
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 262 ) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( 263 ) 

ص 390
سورة البقرة ( 2 ) : آية 264
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ( 264 )
احذر من المن في العطاء ، فإن المن في العطاء يؤذن بجهل المعطي من وجوه ، منها رؤيته نفسه بأنه رب النعمة التي أعطى ، والنعمة إنما هي للّه خلقا وإيجادا ، والثاني نسيانه منة اللّه عليه فيما أعطاه وملكه من نعمه وأحوج هذا الآخر لما في يده ، والثالث نسيانه أن الصدقة التي أعطاها إنما تقع بيد الرحمن ، والآخر ما يعود عليه من الخير في ذلك ، فلنفسه أحسن ولنفسه سعى ، فكيف له بالمنة على ذلك ، إنه ما أوصل إليه إلا ما هو له ، إذ لو كان رزقه ما أوصله إليه ، فهو مؤد أمانة من حيث لا يشعر ، فجهله بهذه الأمور جعله يمتن بالعطاء على من أوصل إليه راحة ، وأبطل عمله ، والمنعم إذا أبطل نعمته بالمن والأذى لا يكون مشكورا عند اللّه على ذلك ، وإن شكره المنعم عليه لمعرفته بذلّه وفقره إليه ، فمن مكارم الأخلاق أن لا يمن المنعم بما أنعم عليه ولا سيما مع شكره على ذلك فمن أمراض الأقوال ، الامتنان والتحدث بما يفعله من الخير مع الشخص على طريق المن ، والمن الأذى ، دواؤه لما كان يسوءه ذلك ويحبط أجر رب النعمة ، فإن اللّه تعالى قد أبطل ذلك العمل بقوله :« لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى »وأي أذى أعظم من المن ، فإنه أذى نفسي ، ودواؤه أنه لا يرى أوصل إليه مما كان في يديه إلا ما هو له في علم اللّه ، وأن ذلك الخير كان أمانة بيده ، ما كان له ، لكنه لم يكن يعرف صاحبها ، فلما أخرجها بالعطاء لمن عين اللّه في نفس الأمر ، حينئذ يعرف صاحب تلك الأمانة ، فشكر اللّه على أدائها ، ومن أعطي هذا النظر فلا تصح منه منة أصلا« وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ »أي لا يبين لهم في حال سترهم وحجابهم ، فإن الإبانة بالعلم ترفع ستور الجهل بذلك المعلوم .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 265
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 265 )
الوابل المطر الغزير ، وفيه رائحة اشتقاق من الاستبلال ، والطل هو أول نشيء المطر ،

ص 391


فهو ضعيف ، فما نزل بالنهار سمي شذا ، وما نزل من الطل بالليل سمي ندى .
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 266 إلى 268  
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 266 ) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 267 ) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ( 268 )
اعلم أن النفس جبلت على الشح ، والإنسان ما دامت حياته مرتبطة بجسده فإن حاجته بين عينيه وفقره مشهود له ، وبه يأتيه اللعين في وعده ، فقال تعالى :« الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ »فلا يغلب نفسه ولا الشيطان إلا الشديد بالتوفيق الإلهي ، فإنه يقاتل نفسه والشيطان المساعد لها عليه ، ولهذا سماها ، الشارع صدقة لأنها تخرج عن شدة وقوة ، يقال رمح صدق أي قوي شديد ، فلو لم يأمل البقاء وتيقن بالفراق هان عليه إعطاء المال ، لأنه مأخوذ عنه بالقهر شاء أم أبى ، ومن إسراف إبليس ، أنه يعدنا الفقر ويأمرنا بالفحشاء ، أي بإظهارها ، يعني بذلك وقوعها ، لما علم أن الإنسان قد رفع عنه الحق ما حدث به نفسه وما هم به من السوء إلا أن يظهر ذلك على جوارحه بالعمل ، وهو الفحشاء ، فقال تعالى :« وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا »فجعل اللّه ذلك للمؤمن إرغاما للشيطان الذي يزين للإنسان سوء عمله ، فجعل اللّه كل مخالفة تكون من الإنسان من إلقاء العدو ، وليحور على إبليس جميع ما يغوي به بني آدم ، ووعد اللّه بالمغفرة في مقابلة الفحشاء التي يأمر بها الشيطان إذا وقعت منا ، والمغفرة هي الستر الذي يجعله اللّه بين المؤمن العاصي وبين الكفر الذي يرديه عند وقوع

ص 392

المعصية ، فيعتقد أنها معصية ولا يبيح ما حرم اللّه ، وذلك من بركة ذلك الستر ، ثم ثمّ مغفرة أخرى وهو ستر خلف سترين ، ستر عليه في الدنيا ، لم يمض فيه حد اللّه المشروع في تلك المعصية ، وإن ستر عليه في الآخرة لم يعاقبه عليها ، فالستر الأول محقق في الوقت ، والثاني لطائفة لا تضرهم الذنوب التي وقعت منهم ، فلا تمسهم النار بما تاب اللّه عليهم ، واستغفار الملأ الأعلى لهم ، فقال تعالى :« وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ »لما وقع منكم من الفحشاء التي أمركم بها الشيطان« وَفَضْلًا »فجعل فضله في مقابلة ما وعد به الشيطان من الفقر الذي هو به مأمور في قوله تعالى : ( وعدهم ) فأراح اللّه المؤمن حيث ناب عنه الحق سبحانه في مدافعة ما أراد الشيطان إمضاءه في المؤمن ، فدفع اللّه عن عبده المؤمن وعدا إلهيا دفع به وعدا شيطانيا ، واللّه لا يقاوم ولا يغالب ، فالمغفرة متحققة والفضل متحقق ، وباء الشيطان بالخسران المبين ، ولهذه الحقيقة أمرنا اللّه أن نتخذه وكيلا في أمورنا ، فيكون الحق هو الذي يتولى بنفسه دفع مضار هذه الأمور عن المؤمنين ، وما غرض الشيطان المعصية لعينها ، وإنما غرضه أن يعتاد العبد طاعة الشيطان ، فيستدرجه حتى يأمره بالشرك الذي فيه شقاوة الأبد ، وهذه الآية أعظم آية وأشدها مرت على سمع إبليس ، فإنه علم أنه لا ينفعه إغواؤه ، ولهذا لا يحرص إلا على الشرك خاصة ، لكونه سمع الحق يقول : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) *وتخيل أن العقوبة على الشرك لا ينتهي أمدها ، واللّه ما قال ذلك ، فلا بد من عقوبة المشرك ومن سكناه جهنم ، فإنه ليس بخارج من النار ، فهو مؤبد السكن ، ولم يتعرض لانتهاء مدة العذاب فيها بالشقاء ، وليس الخوف إلا من ذلك لا من كونها دار إقامة لمن يعمرها ، فصدق اللّه بكون المشرك مأخوذا بشركه ، فهو بمنزلة إقامة الحد على من تعين عليه ، سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة ، فهي حدود إلهية يقيمها الحق على عبده إذا لم يغفر له أسبابها ، وجهل إبليس انتهاء مدة عقوبة المشرك من أجل شركه ، لذلك قال تعالى :« وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ »فإن الأمر بالفحشاء من الفحشاء ، فدخل إبليس تحت وعد الحق بالمغفرة فزاده طمعا وإن كانت دار النار مسكنه ، ولا يعظم الفضل الإلهي إلا في المسرفين والمجرمين ، وأما المحسنين فما على المحسنين من سبيل ، فإن الفضل الإلهي جاءهم ابتداء ، وبه كانوا محسنين ، وما بقي الفضل الإلهي إلا في غير المحسنين .

ص 393

سورة البقرة ( 2 ) : آية 269
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ ( 269 )
الحكمة علم بمعلوم خاص ، وهي صفة تحكم ويحكم بها ولا يحكم عليها ، واسم الفاعل منها حكيم ، فلها الحكم ، واسم الفاعل من الحكم الذي هو أثرها حاكم وحكم ، وبهذا سمي الرسن الذي يحكم به الفرس حكمة ، فكل علم له هذا النعت فهو الحكمة ، وما يعلم الحكمة إلا من أوتيها ، فهي هبة من اللّه تعالى ، ولما كانت الحكمة إعطاء كل ذي حق حقه ، ولا يفعل صاحب الحكمة حتى يعلم ما يستحقه كل ذي حق من الحق ، وليس إلا بتبيين الحق ، لذلك أضافها الحق إليه ، فالعلم الإلهي هو الذي كان اللّه سبحانه معلمه بالإلهام والإلقاء وبإنزال الروح ، فهو سبحانه معلم الإنسان ، ولذلك جاء بمن وهي نكرة ، ردا على من اعتقد أن اللّه لا يعلّم من ليس بنبي ولا رسول ، فقال :« مَنْ يَشاءُ »فنكر الأمر ولم يعرفه ، فهو نكرة في معرفة يعلمها هو لا غيره ، لأن الأمور معينة عنده مفصلة ، ليس في حقه إجمال ولا يصح ، ولا مبهم في علمه بالمجمل في حق من يكون في حقه الأمر مجملا ومبهما ، والحكمة في الأشياء كلها والأمور أجمعها إنما هو للمراتب والأعيان ، وأعظم المراتب الألوهية ، وأنزل المراتب العبودية ، فما ثمّ إلا مرتبتان ، فما ثمّ إلا عبد ورب ، فمن يؤت الحكمة يعلم ترتيب الأشياء وإعطاء كل شيء حقه وإنزاله منزلته ، فاللّه سبحانه حكيم ، فما وضع شيئا إلا في موضعه ، ولا أنزله إلا منزلته ، والحكيم من العباد هو الذي ينزل كل شيء منزلته ولا يتعدى به قدره ومرتبته ، ويعطي كل ذي حق حقه ، لا يحكم في شيء بغرضه ولا هواه ، لا تؤثر فيه الأغراض ، وهو من حكمته الحكمة فصرّفته ، لا من حكم الحكمة ، فإن من حكم الحكمة له المشيئة فيها ، ومن حكمته الحكمة فهي المصرفة له ، وإذا قامت الصفة بالموصوف أعطته حكمها عطاء واجبا ، فالحكيم من قامت به الحكمة فكان الحكم لها به ، كما كان الحكم له بها ، فهو عينها وهي عينه ، فالحكمة عين الحاكم عين المحكوم به عين المحكوم عليه ، فينظر الحكيم إلى هذه الدار التي أسكنه اللّه فيها إلى أجل ، وينظر إلى ما شرع اللّه له من التصرف فيها من غير زيادة ولا نقصان ، فيجري على الأسلوب الذي قد أبين له ، ولا يضع من يده الميزان الذي قد وضع له في هذا الموطن ، فإنه إن وضعه

ص 394
 
جهل المقادير ، فإما يخسر في وزنه ، أو يطفف ، وقد ذم اللّه الحالتين ، وجعل تعالى للتطفيف حالة تخصه يحمد فيها التطفيف ، فيطفف هناك على علم ، فإنه رجحان الميزان ويكون مشكورا عند اللّه ، فإذا علم هذا ولم يبرح الميزان من يديه لم يخط شيئا من حكمة اللّه في خلقه ، ويكون بذلك إمام وقته ، فمن الميزان مثلا أن لا يعرض الحكيم بذكر اللّه ولا بذكر رسوله ولا أحد ممن له قدر في الدين عند اللّه في الأماكن التي يعرفها هذا الحكيم إذا ذكر اللّه أو رسوله أو أحدا ممن اعتنى اللّه به كالصحابة عند الشيعة ، فإن ذلك داع إلى ثلب المذكور وشتمه وإدخال الأذى في حقه ، ففي مثل هذا الموطن لا يذكره« وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً »وما كثره اللّه لا تدخله قلة ، كما أن ما عظم اللّه ما يدخله احتقار« وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ »فإن الإنسان قد يغفل عن أشياء كان علمها
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تفسير آلآيات من "276 - 286" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد مايو 05, 2019 3:52 am

تفسير آلآيات من "276 - 286" من سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلمات الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

سورة البقرة ( 2 ) : آية 276
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( 276 ).
« وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ »فتزكو ، واختصت بهذا الاسم لوجود معناه فيها ، ففي الزكاة البركة في المال ، وطهارة النفس ، والصلابة في دين اللّه ، فالزكاة من حيث اسمها صدقة شديدة على النفس ، فإذا أخرج الإنسان الصدقة تضاعف له الأجر ، فإن له أجر المشقة وأجر الإخراج ، وإن أخرجها عن غير مشقة فهذا فوق تضاعف الأجر بما لا يقاس ولا يحد ، والزكاة بمعنى التطهير والتقديس ، لما أزال اللّه عن معطيها اسم البخل والشح عليه ، فلا حكم للبخل والشح فيه ، وبما في الزكاة من النمو والبركة سميت زكاة لأن اللّه يربيها - تراجع الآية 245 - ومذهب الجماعة في الأدب من المتصدق أن يضع الصدقة في كف نفسه وينزل بها حتى تعلو يد السائل إذا أخذها على يد المعطي ، حتى تكون هي اليد العليا ، وهي خير من اليد السفلى ، واليد العليا هي المنفقة ، فيأخذها الرحمن لينفقها له تجارة حتى تعظم ، فيجدها يوم القيامة قد نمت وزادت ، وأما مذهبنا فليس كذلك ، إنما السائل إذا بسط يده لقبول الصدقة من المتصدق جعل الحق يده على يد السائل ، فإذا أعطى المتصدق الصدقة وقعت بيد الرحمن قبل أن تقع بيد السائل كرامة بالمتصدق ، ويخلق مثلها في يد السائل لينتفع بها السائل ، ويأخذ الحق عين تلك الصدقة فيربيها فتربو حتى تصير مثل جبل أحد في العظم ، وهذا من باب الغيرة الإلهية حيث كان العطاء من أجله ، لما يرى أن الإنسان يعطي من أجل هواه ما يعظم شأنه من الهبات ، ويعطي من أجل اللّه أحقر ما عنده ، هذا هو الغالب في الناس ، فيغار اللّه لجنابه أن لا يرى في مقام الاستهضام ، فيربي تلك الصدقة حتى تعظم ، فإذا جلاها في صورة تلك العظمة حصل المقصود ، فيد المعطي تعلو على يد الآخذ ، ولهذا قال : تقع ، والوقوع لا يكون إلا من أعلى ، فكما ينسب العلو إلى اللّه في الاستواء على العرش ، فهو في التحت أيضا ، كما هو بكل شيء محيط .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 277
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 277 )

ص 398

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 278 إلى 280
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 278 ) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ( 279 ) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 280 )
هذه الآية حث على إنظار المعسر إلى ميسرة ، وإن وضعت عنه فهو أعظم لأجرك ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : من انظر معسرا أو وضع عنه أظله اللّه في ظله ، وإن اللّه يوم القيامة يتجاوز عمن يتجاوز عن عباده ، وقال : من سرّه أن ينجيه اللّه من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه ، فقال تعالى :« وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ »أي يؤخر إلى أن يجد ما يؤدي وأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ".

سورة البقرة ( 2 ) : آية 281
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 281 ).
« وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ »لا يصح أن يرجع إلى اللّه إلا من جهل أن اللّه معه على كل حال ، وما خاطب الحق بقوله :« تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ »إلا من غفل عن كون اللّه معه على كل حال ؛ كما قال : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ )فالرجوع إلى اللّه في الحقيقة من حال أنت عليها لحال ما أنت عليها ، ولما كانت الأحوال كلها بيد اللّه أضيف الرجوع إلى اللّه على هذا الوجه ، أي بالبناء للمجهول« ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ »الأعمال مكاسب ، ولهذا أقيم الكسب مقام العمل ، والعمل مقام الكسب ، فجاء في آية ( وتوفى كل نفس ما عملت ) وفي آية( ما كَسَبَتْ )فسمي العمل كسبا ، وناب كل واحد منهما مناب صاحبه .

ص 399


سورة البقرة ( 2 ) : آية 282
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282).
« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ »العدل هو الميل ، يقال عدل عن الطريق إذا مال عنه ، وعدل إليه إذا مال إليه ، وسمي الميل إلى الحق عدلا ، كما سمي الميل عن الحق جورا« وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ ، فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ، فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ، وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ، أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى »المرأة أنسى من الرجل ولهذا قامت المرأتان في الشهادة مقام الرجل الواحد ، وذلك أن المرأة شق الرجل ، فالمرأتان شقان ، وشقان نشأة كاملة ، فامرأتان رجل واحد ، فهي ناقصة الخلق معوجة في النشء لأنها ضلع ، قال صلّى اللّه عليه وسلم :
النساء شقائق الرجال - ومن وجه آخر ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : نسي آدم فنسيت ذريته ، فنسيان

ص 400


بني آدم ذرية عن نسيان آدم ، على أن الحق ما وصف إحدى المرأتين إلا بالحيرة فيما شهدت فيه« أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما »ما وصفها بالنسيان ، والحيرة نصف النسيان لا كله ، ونسب النسيان على الكمال للرجال ، فقال : ( فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً )فقد يمكن أن ينسى الرجل الشهادة رأسا ولا يتذكرها ، ولا يمكن أن تنسى إحدى المرأتين ، وهي المذكرة لا على التعيين ، فتذكر التي ضلت عما شهدت فيه ، فإن خبر اللّه صدق بلا شك ، وهو قد أخبر في هذه الآية أن إحداهما تذكر الأخرى ، فلا بد أن تكون الواحدة لا تضل عن الشهادة ولا تنسى ، وهذا جبر لقلب المرأة الذي يكسره من لا علم له من الرجال بالأمر ، ومن لحوق النساء بالرجال ، بل تقوم المرأة في بعض المواطن مقام رجلين ، إذ لا يقطع الحاكم بالحكم إلا بشهادة رجلين ، فقامت المرأة في بعض المواطن مقامهما ، وهو قبول الحاكم قولها في حيض العدة ، وقبول الزوج قولها في أن هذا ولده مع الاحتمال المتطرق إلى ذلك ، وقبول قولها إنها حائض ، فقد تنزلت هنا منزلة شاهدين عدلين ، كما تنزل الرجل في شهادة الدين منزلة امرأتين ، فتداخلا في الحكم« وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً ، أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ، ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ ، وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها ، وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ، وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ، وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ »واتقوا اللّه بما علمكم من أعلمته بطريق التقوى ، فللإنسان أن يسأل أمثاله عن حد التقوى المشروع ، فيتعلم منه ليتقي اللّه فقال تعالى :« وَاتَّقُوا اللَّهَ »بالأعمال المنتجة للعلوم« وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ »فكان سبحانه هو المعلم ، فبالتقوى تزيد علما لم يكن عندك ، يعلمك إياه الحق تشريفا منحك إياه التقوى ، وقد كان هذا العلم مغيبا عنك ، فأعطاك العلم به به زيادة الإيمان بالغيب الذي لو عرض على أغلب العقول لردته ببراهينها ، فالمعرفة باللّه ذوقا وتعليما إلهيا فيما لا يكون ذوقه إلا من فتوح المكاشفة لا من طريق الأدلة بالبراهين هو قوله تعالى :« وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ »وأكثر الناس يتخيلون أن العلوم الحاصلة عن التقوى علوم وهب ، وليست كذلك ، وإنما هي علوم مكتسبة بالتقوى ، فإن التقوى جعلها اللّه طريقا إلى حصول هذا العلم ، والعلم الوهبي لا يحصل عن سبب بل من لدنه سبحانه ، فالنبوات كلها علوم وهب ، لأن النبوة ليست مكتسبة ، والشرائع كلها من علوم الوهب

ص 401
 
عند أهل الإسلام الذين هم أهله ، وأريد بالاكتساب في العلوم ما يكون للعبد فيه تعمل ، كما أن الوهب ما ليس للعبد فيه تعمل ، فإن القلب المؤمن باللّه التقي الورع قد وسع الحق ، فتولى اللّه تعالى تعليم عباده المتقين الذين قال فيهم : ( إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً )« وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ »ومعناه أن يفهمكم اللّه معاني القرآن ، فتعلموا مقاصد المتكلم به ، لأن فهم كلام المتكلم ما هو بأن يعلم وجوه ما تتضمنه تلك الكلمة بطريق الحصر مما تحوي عليه مما تواطأ عليه أهل اللسان ، وإنما الفهم أن يفهم ما قصده المتكلم بذلك الكلام ، هل قصد جميع الوجوه الذي يتضمنها ذلك الكلام أو بعضها ، فينبغي لك أن تفرق بين الفهم للكلام ، أو الفهم عن المتكلم وهو المطلوب ، فالفهم عن المتكلم ما يعلمه إلا من أنزل القرآن على قلبه ، وفهم الكلام للعامة ، فكل من فهم عن المتكلم فقد فهم الكلام ، وما كل من فهم الكلام فهم عن المتكلم ما أراد به على التعيين ، إما كل الوجوه أو بعضها ، جعلنا اللّه ممن رزق الفهم عن اللّه ، ولهذا قيل : ما اتخذ اللّه وليا جاهلا قط ، فإن اللّه يتولى بالفعل تعليم أوليائه بما يشهدهم إياه في تجلياته ، فهذه الآية حظّ الورثة من النبوة ، بأن يتولى اللّه تعليم المتقي من عباده ، فيقرب سنده ، فيقول أخبرني ربي بشرع نبيه الذي تعبده به ممن أخذه وأوحى به إليه ، فهو عال في العلم ، تابع في الحكم ، وهم الذين ليسوا بأنبياء وتغبطهم الأنبياء عليهم السلام في هذه الحالة ، لأنهم اشتركوا معهم في الأخذ عن اللّه ، وكان أخذ هذه الطائفة عن اللّه بعد التقوى بما عملوا عليه مما جاءهم به هذا الرسول ، فهم وإن كانوا بهذه المثابة وأنتج لهم تقواهم الأخذ عن اللّه في موازين الرسل وتحت حيطتهم وفي دائرتهم ، ووقع الاغتباط من كونهم لم يكونوا رسلا ، فبقوا مع الحق دائما على أصل عبودية لم تشبها ربوبية أصلا ، فمن هنا وقع الغبط لراحتهم ، وإن كانت الرسل أرفع مقاما منهم« وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ »بنية فعيل ترد بمعنى الفاعل وبمعنى المفعول ، فعليم بمعنى عالم وبمعنى معلوم ، وكلا الوجهين سائغ في هذه الآية ، إذا كانت الباء من قوله :« بِكُلِّ »بمعنى الفاء فهو في كل شيء معلوم ، ولما صح بالاستواء نزوله تعالى كل ليلة إلى السماء ، ومع هذا فهو مع عباده أينما كانوا ، ولما علم أن بعض عباده يقولون في مثل هذا بعلمه ، أعلم في هذه الآية أنه بكل شيء عليم ، ليغلب على ظن السامع أنه ليس على ما تأولوه ، فإنا لا نشك أنه يحيط بنا علما أينما كنا ، وكيف لا يعلم ذلك وهو خلقنا وخلق الأينية التي نحن فيها ، فذكر اللّه ذلك عن نفسه بطريق المدحة لذاته .

ص 402

سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 283 إلى 284
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( 283 ) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 284 )
كم بين الرغبة عنه والرغبة فيه ، عبد مصطفى وعبد لا يصطفيه ، عناية أزلية ، بسعادة أبدية ، وخذلان سبق ، وكل ذلك حق ، أحق ما قال العبد ، وكلنا لك عبد ، فجمع بين المطرود والمجتبى ، ومن أطاع ومن أبى في عبودية القصاص ، لا في عبودية الاختصاص ، عبد يصلح اللّه بينه وبين خصمه فيسعده ، وعبد يأمر به إلى النار بعدله ، فيبعده ، مع القول بعدم الاستحقاق ، ومفارقة الوفاق ، وكلاهما عاصيان ، وما هما سيان ، يا ليت شعري لم كان ذلك ؟ عاص ناج وعاص هالك ، عبدان لملك واحد ، وما ثمّ أمر زائد ، إن كان لعمارة الدار فلما ذا يخرج بالشفاعة ، ولا يبقى مع الجماعة ، ما ذاك إلا لما قيل في بعض الأشعار ( ماء ونار . . . ما التقيا إلا لأمر كبّار )« يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ »فذكر اللّه عن نفسه اختيار مشيئته بين المغفرة والعذاب ، فهو غير قاطع بأحد الأمرين ، وهذا هو ما جرأ النفوس الأمارة بالسوء على ما ارتكبوه من المخالفات وتعدوه من الحدود وانتهكوه من المحارم ، فلو قطعوا بالمؤاخذة على ما صدر منهم إن ماتوا على غير توبة ما فعلوا ما لا يرضي سيدهم« وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »يخرج على أنه عين قوله للأشياء( كُنْ )إذا أراد تكوينها ، فإن اللّه ما جعل سبب إيجاد الكائنات الممكنات سبحانه وتعالى إلا الإرادة والأمر الإلهي ، وهو قوله تعالى : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ )فأتى في الإرادة والأمر ، ولم يذكر معنى ثالثا يسمى القدرة ، والتحقيق أن القدرة ما لها أثر سوى إعطاء الوجود لكل عين يريد الحق وجودها من الممكنات ، فيقول لها : ( كُنْ )وأخفى الاقتدار بقوله :

ص 403
 
(كُنْ) وجعله سترا على الاقتدار ، فكان الممكن عن الاقتدار الإلهي من حيث لا يعلم الممكن ، وسارع الممكن إلى التكوين فكان ، فظهر منه عند نفسه السمع والطاعة لمن قال له كن ، وأخفى عزّ وجل اقتداره وجاء بالقول بصيغة الأمر ليتصف الممكن بالسمع والطاعة ، فلا تزال عين الحق تنظر إليه بالرحمة وتراعي منه هذا الأصل ، مع أن القول لا حكم له في المعدوم ، ولا سيما فيمن ليس له اقتدار بالأصالة ، فأشبه صورة التكليف والفعل للّه .


سورة البقرة ( 2 ) : آية 285   
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 285 ).
« آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ »منزلة الأنبياء فيما يأخذونه من الغيب بطريق الإيمان منزلة المؤمنين مع ما يأخذونه من الأنبياء ، فالأنبياء مؤمنون بما يلقي إليهم الروح ، فلا يأخذون التشريع إلا من الروح الذي ينزل به على قلوبهم ، وهو تنزيل خبري لا علمي ، فلا يتلقونه إلا بصفة الإيمان ، ولا يكشفونه إلا بنوره ، فهم صدّيقون للأرواح التي تنزل عليهم بذلك« وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ »ونحن أمرنا بالإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم وبجميع الرسل والكتب ، وأخبر الحق عنا بذلك ، وخبره صدق ، فاستحال في أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم أن يؤمن المؤمن منهم ببعض ويكفر ببعض ، فهذه عناية إلهية حيث أخبر بعصمتنا من ذلك ، فهي بشرى لنا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم لليهود : نحن أولى بموسى منكم ، فكنى بنحن عن نفسه وأمته ، فكنا أولى بموسى عليه السلام من اليهود ، لأنهم لم يؤمنوا بكل ما أتى به موسى ، ونحن آمنا به وبما أنزل عليه ، ولا يلزم الإيمان بالشيء العمل به إلا حتى يكون فيما أنزل العمل بما أنزل أو ببعض ما أنزل ، فالتصديق يعمّ ، فنحن آمنا بما أنزل من قبلنا من حيث ما أنزل على نبينا لا من حيث ما نقل إلينا« لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ »مع علمنا بأن اللّه فضل بعضهم على بعض رسلا وأنبياء ، ثم نهانا أن نفضل بين الأنبياء قياسا ونظرا ، فإن العبد

ص 404

لا يحكم على اللّه بشيء ، فيطلب منا الإيمان باللّه وبما جاء من عنده وبالرسول وبالرسل ، فإن اللّه أوجب الإيمان علينا بنفسه ، ومن نفسه أسماؤه« وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ »فلا يستخدم العقل في الإلهيات إذا ورد النص المتواتر من الشرع الذي لا يدخله احتمال ولا إشكال فيه ، فإن الإيمان بالنص يعطي العلم الحق والكشف« وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا » :
على السمع عولنا فكنا أولي النهى ..... ولا علم فيما لا يكون عن السمع
إذا كان معصوما وقال فقوله ..... هو الحق لا يأتيه مين على القطع
فعقل وشرع صاحبان تألفا ..... فبورك من عقل وبورك من شرع
فالعاقل يقول بالسمع والطاعة لأمر اللّه وهذه حالة معجلة وراحة « غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ » .

سورة البقرة ( 2 ) : آية 286
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ( 286 )
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات« لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها »وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،

ص 405
 
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول« لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ »لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى :« لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ »فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال :« لَها ما كَسَبَتْ »فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة :« وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ »فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة« رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا »اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم :
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
 
ص 406

أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ« رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ »وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ،« وَاعْفُ عَنَّا »أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا :« وَاغْفِرْ لَنا »أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا« وَارْحَمْنا »برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص .

ص 407
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير سورة البقرة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير سورة آل عمران .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
» تفسير سورة الفاتحة .كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
» شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح الشيخ نور الدين عبد الرحمن الجامي على متن كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر أبن العربي الحاتمي الطائي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: