السـفر الخامس عشر فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الفقرة الثالثة عشر الجزء الأول .موسوعة فتوح الكلم في شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
موسوعة فتوح الكلم في شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي جامعها لإظهارها عبدالله المسافر بالله
الفقرة الثالثة عشر على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفقرة الثالثة عشر : - الجزء الأولجواهر النصوص في حل كلمات الفصوص شرح الشيخ عبد الغني النابلسي 1134 هـ :
قال الشيخ رضي الله عنه : (
فلولاه ولولانا ... لما كان الذي كانا
فإنا أعبد حقا ... وإن الله مولانا
وإنا عينه فاعلم ... إذا ما قلت إنسانا
فلا تحجب بإنسان ... فقد أعطاك برهانا
فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا
وغذ خلقه منه ... تكن روحا وريحانا
فأعطيناه ما يبدو ... به فينا وأعطانا
فصار الأمر مقسوما ... بإياه وإيانا
فأحياه الذي يدري ... بقلبي حين أحيانا
فكنا فيه أكوانا ... وأعيانا وأزمانا
وليس بدائم فينا ... ولكن ذاك أحيانا)
شعر :
قال رضي الله عنه :
( فلولاه ولولانا ... لما كان الذي كانا)
قال رضي الله عنه : (فلولاه )، أي الحق تعالى الذي هو نور السماوات والأرض بالعلم الإلهي الظاهر في القابل المستعد له من أهل السماوات والأرض على حسب قابليته واستعداده ، والكل قابل ومستعد لما هو فائض عليه من ذلك النور ومن طلب فوق قابليته واستعداده لا يجد ذلك ؛ ولهذا قال :
ولولانا فإن النور عين الوجود ، وقد اتصف بالوجود كل شيء ، فهو متصف بالعلم ولا علم إلا باللّه كما أنه لا جهل إلا باللّه تعالى ، والجاهل ناقص العلم باللّه تعالى ، فلا جهل باللّه من كل وجه بل الكل عالم باللّه .
ولكن قال تعالى : " وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ " [ يوسف : 76 ] ، وأخبر أنه سبحانه :"رَفِيعُ الدَّرَجاتِ"[ غافر 15 ] ،
وقال سبحانه : " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ " [ المجادلة 11 ]
والكل آمنوا ولو من وجه والكل أُوتُوا الْعِلْمَ ولو بشيء ، فهم مرفوعون ولكن رفعتهم درجات متفاوتة ، وذلك عين ما هم فيه وهي درجاته ، لأنه رفيع الدرجات لما كان الذي كانا وهو الظهور الصفاتي في عين البطون الذاتي ؛ ولهذا قال .
(فإنا أعبد حقا ... وإن الله مولانا)
قال رضي الله عنه : (فإنا) معشر الكائنات (أعبد) جمع عبد (حقا) على حسب ما في كل واحد من العبودية ، فالبطون بالربوبية على مقدار الظهور بالعبودية .
فمن كثرت عبوديته كثر فيه ظهور ربوبية اللّه تعالى .
ومن قلّت فيه العبودية ، كثر فيه بطون الربوبية .
وأن اللّه سبحانه (مولانا) بربوبيته لنا وهذا حكم الظهور والبطون وهما تجليان صفاتيان.
وأما التجلي الذاتي فقد أشار إليه بقوله:
(وإنا عينه فاعلم ... إذا ما قلت إنسانا )
قال رضي الله عنه : (وأنا) معشر الكائنات أيضا (عينه) ، أي بعد فنائنا في أنفسنا ذوقا وكشفا ،لأنه لا يبقى إلا هو.
(فاعلم) يا أيها السالك هذه الأنانية الذاتية بعد تلك الأنانية الصفاتية الاسمائية ، وهذا الجمع بعد ذلك الفرق إذا ما قلت أنت أو أنا إنسانا فإن الإنسان هو الكامل في النشأة ، العارف بنفسه وبربه الجامع بالمعنى الفارق بالصورة ، وما عداه من الناس فهو إنسان ناقص ، غلبت عليه الحيوانية ، ولم يكمل فيه ظهور الربوبية لنقصان العبودية .
(فلا تحجب بإنسان ... فقد أعطاك برهانا )
قال رضي الله عنه : (فلا تحجب) يا أيها السالك عن العين الإلهية الحقيقة الوجودية المطلقة (بإنسان) كامل أو ناقص ، فإنه ظهور لتلك العين المطلقة على التمام أو على النقص .
فقد أعطاك ، أي الحق تعالى برهانا فيك على أنه عينك تشهده منك ذوقا وكشفا في طور كمالك ، وهو قوله تعالى في يوسف عليه السلام :" لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ " [ يوسف : 24 ] .
ثم أشار إلى جمع الجمع وهو الفرق الثاني بعد الجمع بقوله :
(فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا)
قال رضي الله عنه : (فكن) يا أيها السالك (حقا) بعين وجودك القائم الدائم (وكن خلقا) بصورك الثلاث الصورة الروحانية العقلية ، والنفسانية الخيالية ، والجسمانية الطبيعية العنصرية .
تكن حينئذ باللّه تعالى متحققا من حيث صورتك الروحانية العقلية رحمانا مستويا بصورتك النفسانية الخيالية على عرش جسمانيتك الطبيعية العنصرية.
وصورتك الجسمانية الطبيعية العنصرية لها قلب وهو عرشها ، ودماغ وهو كرسيها ، وصفات سبعة هي كواكبها ، في أفلاك سبعة ، وهي قواها العرضية ، في مواضع سبعة هي سمواتها ، ويظهر عن تلك الكواكب في سباحتها في أفلاكها مواليد أربعة جماد العمل القاصر ، ونبات العمل المتعدي ، وحيوان الاعتقاد القاصر ، وإنسان الاعتقاد المتعدي ، عن عناصر أربعة : تراب الخاطر ، وماء النية ، وهواء العزم ، ونار الهمة .
وهو قوله :
(وغذ خلقه منه ... تكن روحا وريحانا )
قال رضي الله عنه : (وغذّ) أمر من الغذاء وهو القوت الذي به القوام (خلقه) تعالى ، أي مخلوقاته وهي المواليد الأربعة فيك العمل القاصر والمتعدي ، والاعتقاد القاصر والمتعدي ، فعملك واعتقادك خلقه سبحانه .
وذلك في يوم القيامة متصوّر في صورة حسنة أو قبيحة ، يحشر مع صاحبه ويوزن ويحاسب عليه ويجازى به ، فأمره أن يغذيه أي يقيته ويمده منه تعالى بماء النية ومأكل الإخلاص تكن حينئذ يا أيها الفاعل ذلك روحا لذلك العمل والاعتقاد القاصر والمتعدي الذي خلقه اللّه فيك فيكون عملك حيا .
وكذلك اعتقادك بنوعيه فيحملك بكونه مظهرا لك كونك متجليا به ، فهو كلمك الطيب الصاعد بك إلى ربك كما قال سبحانه: " إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" [ فاطر : 10 ]
كما أن عمل ربك حي بربك ، وعلمه كذلك فهو مظهر له لأنه متجل به ، فهو نازل إليك منه تعالى وتكن ريحانا ، أي زكاء أو طيبا لعملك واعتقادك القاصر والمتعدي ، أو أن المعنى قيام السالك بالفرق والجمع حتى يكون متحققا في نفسه بجمع الاسم اللّه ، وظاهرا بين الناس بفرق الاسم الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء .
فهو مأمور حينئذ أن يغذي خلق اللّه من كل من وجده مؤمنا به بالغذاء الرحماني ، وهو العلم الإلهي منه تعالى لا من نفسه بحسب فتوح الوقت ، فإنه يكون له حينئذ روحا معنويا بنفخه فيه ، فيحييه به حياة علمية ذاتية إلى الأبد ، وريحانا : أي جنة معنوية يدخله فيها ، عيونها جارية وقطوفها دانية .
(فأعطيناه ما يبدو ... به فينا وأعطانا )
قال رضي الله عنه : (فأعطيناه ) ، أي الحق تعالى (ما يبدو) ، أي يظهر من العمل والاعتقاد بنوعيه به ، أي بقدرته فينا ، وهو الكلم الطيب الذي يصعد إليه ، وإذا أعطيناه ذلك فلا يبقى عندنا دعوى له ، فإذا قدمنا عليه لا نقدم عليه بشيء بل نقدم عليه به ، لأنه هو الذي يبقى عندنا فنعمل به ما نعمل وأعطانا هو أيضا ما يبدو ، أي يظهر بنا من عمله وعلمه وهو كلماته التامات .
فإذا قدم علينا لا يقدم علينا أيضا بشيء ، وإنما يقدم علينا بنا لأننا نحن الذين نبقى عنده فيعمل بنا ما يعمل ، أو المعنى أن الذي نغذي به خلقه من الطالبين لمعرفته إذا أعطيناهم إياه فقد أعطيناه ما يظهر به سبحانه فينا من فيضه ، وأعطانا هو أيضا ما يظهر بنا فيه من استعدادنا لكماله وفيض جلاله وجماله
.
(فصار الأمر مقسوما ... بإياه وإيانا )
قال رضي الله عنه : (فصار) بسبب ما ذكر منا ومنه سبحانه الأمر الإلهي الواحد (مقسوما ) بيننا وبينه بإياه وهو البطون والجمع وإيانا وهو الظهور والفرق .
(فأحياه الذي يدري ... بقلبي حين أحيانا )
قال رضي الله عنه : (فأحياه) سبحانه من حيث ظهوره بنا الوجود الحق (الذي) هو (يدري) به ، أي يعلمه فلا يعلمه غيره وهو لقلبي الذي وسعه كما ورد : « ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ".
حين أحيانا نحن أيضا من حيث بطونه عنا بما أحيا به نفسه في ظهوره بنا .
(فكنا فيه أكوانا ... وأعيانا وأزمانا )
قال رضي الله عنه : (فكنا) بانقلاب الأمر الذي وسعناه به وهو قلبنا (فيه) سبحانه (أكوانا) جمع كون وأعيانا جمع عين وأزمانا جمع زمان ، وذلك جميع العوالم في بصائر العارفين كلها ثابتة من غير وجود لأنه عين الوجود ، فلا يصير وصفا لغيره وهو قوله تعالى :" يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا" [ إبراهيم : 27 ].
أي يجعلهم ثابتين لا منفيين فإن المنفي هو المحال وهم ممكنون والمضارع حكاية الأزل .
ثم قال تعالى بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ وهو عين الوجود الحق من حيث هو أمر نازل كلمح بالبصر .
ثم عمم تعالى هذا الحكم فيهم فقال: " فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ" [ إبراهيم : 27 ] ، أي يحيرهم فلا يهديهم إلى معرفة الأمر على ما هو عليه لظلمهم لأنفسهم أو لغيرهم ، فكلما عدلوا عن الحق عدل بهم " فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ"[ يونس : 32 ] .
(وليس بدائم فينا ... ولكن ذاك أحيانا )
(وليس) ما ذكر من شهود الثبوت في الوجود (بدائم فينا) معاشر المؤمنين (ولكن ذاك أحيانا )، أي في أوقات دون أوقات ، فلا بد من شهود الثبوت في الوجود ، وشهود الوجود في الثبوت ، فالوجود واحد والثبوت كثير ، والوجود مطلق والثبوت مقيد ، والوجود له الظهور والبطون والثبوت له الظهور والبطون ، وهما كالليل والنهار ، بل الليل والنهار كما قال تعالى :" وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وهي القمر وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً"[ الإسراء : 12 ] وهي الشمس .
وفي الحديث : " فإنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر " رواه الترمذي في سننه
. وفي رواية أخرى : " كما ترون الشمس في الظهيرة ". رواه الدارقطني
شرح فصوص الحكم مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي 1069 هـ :
قال الشيخ رضي الله عنه : (
فلولاه ولولانا ... لما كان الذي كانا
فإنا أعبد حقا ... وإن الله مولانا
وإنا عينه فاعلم ... إذا ما قلت إنسانا
فلا تحجب بإنسان ... فقد أعطاك برهانا
فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا
وغذ خلقه منه ... تكن روحا وريحانا
فأعطيناه ما يبدو ... به فينا وأعطانا
فصار الأمر مقسوما ... بإياه وإيانا
فأحياه الذي يدري ... بقلبي حين أحيانا
فكنا فيه أكوانا ... وأعيانا وأزمانا
وليس بدائم فينا ... ولكن ذاك أحيانا)
قال رضي الله عنه :
(فلولاه ولولانا ... لما كان الذي كانا )
( فلولاه ولولانا ) أي ولو لم يكن الحق وأعياننا ( لما كان الذي كانا ) أي لما ظهر في الكون ما ظهر وهو بيان لاتحاد الإنسان مع الحق في الربوبية
( فأنا أعبد حقا .... وأن اللّه مولانا )
وهو بيان للفرق
( وأنا عينه فاعلم ..... إذا ما قلت إنسانا )
أي إذا سميت عينك بإنسان أي لا ينافي عينيتنا مع الحق إنسانيتنا
(فلا تحجب بإنسان ... فقد أعطاك برهانا )
( فلا تحجب ) على صيغة المجهول ( بإنسان ) أي لا تحجب بأن تسمى بالإنسانية عن عينيتك مع الحق ( فقد أعطاك ) على عينيتك أو عينيتنا مع الحق ( برهانا ) وهو قوله كنت سمعه وبصره وغير ذلك
(فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا )
( فكن حقا ) بحقيقتك وروحك ( وكن خلقا ) بنشأتك العنصرية (تكن باللّه رحمانا) أي عام الرحمة بإفاضتك الكمالات الإلهية على عباده
(وغذ خلقه منه ... تكن روحا وريحانا)
( وغذ خلقه منه ) الضميران عائدان إلى اللّه ( تكن روحا ) وغذاء روحانية الخلق يغتذي بك ويتلذذ بك ( وريحانا ) تشم من نفخات إنسك مع الحق .
(فأعطيناه ما يبدو ... به فينا وأعطانا )
( فأعطيناه ما يبدو به ) أي أعطيناه الحق ما يظهر به من صورة استعدادنا ( فينا ) من الأسماء والصفات كالحياة والعلم والقدرة فيظهر فينا بهذه الصفات بحسب استعدادنا وفاعل ما يبدو ضمير عائد إلى الحق وبه عائد إلى الموصول ( وأعطانا ) ما ظهرنا به من وجودنا وأحوالنا ومقتضيات ذواتنا
(فصار الأمر مقسوما ... بإياه وإيانا )
( فصار الأمر مقسوما بإياه ) أي بما أعطيناه إياه ( وإيانا ) أي بما أعطاه إيانا
(فأحياه الذي يدري ... بقلبي حين أحيانا )
( فأحياه ) الضمير للقلب المذكور حكما أي أحيى قلبي بالحياة العلمية ( الذي يدري بقلبي ) أي يعلم قلبي واستعداده الأزلي ( حين أحيانا ) بالحياة الحسية .
(فكنا فيه أكوانا ... وأعيانا وأزمانا )
( وكنا فيه ) أي وكنا في غيب الحق قبل الحياة ( أكوانا وأعيانا وأزمانا ) لا حياة لنا بالحياة الحسية والعلمية
(وليس بدائم فينا ... ولكن ذاك أحيانا )
( وليس ) هذا المذكور وهذا التقرب مع اللّه ( بدائم فينا ولكن ذاك أحيانا ) أي وقتا دون وقت كما قال عليه السلام:
شرح فصوص الحكم عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني 690 هـ :
قال الشيخ رضي الله عنه : (
فلولاه ولولانا ... لما كان الذي كانا
فإنا أعبد حقا ... وإن الله مولانا
وإنا عينه فاعلم ... إذا ما قلت إنسانا
فلا تحجب بإنسان ... فقد أعطاك برهانا
فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا
وغذ خلقه منه ... تكن روحا وريحانا
فأعطيناه ما يبدو ... به فينا وأعطانا
فصار الأمر مقسوما ... بإياه وإيانا
فأحياه الذي يدري ... بقلبي حين أحيانا
فكنا فيه أكوانا ... وأعيانا وأزمانا
وليس بدائم فينا ... ولكن ذاك أحيانا)
قوله : فلولاه و لولانا لما كان الذي كانا يعني لولا لاهوته تعالى لما أحيا عيسى الموتى وإبراء الأكمة والأبرص
ولولانا سوتنا وهو قسط عيسى من أمه، لما حصل التواضع من عيسى
حتى قال لأصحابه: إذا لطمك على خدك فأدر له الخد الآخر وإذا أخذ رداءك فزده قميصك وإذا سخرك ميلا فامض معه ميلين،
فصح قوله: فلولاه ولولانا لما كان هذا الوصفان التواضع والرفعة.
قوله:
فإنا أعبد حقا ….. وأن الله مولانا
يعني بال" أعبد"، الأعيان الثابتة وهي الممکنات عنده.
قوله:
وإنا عينه فاعلم ….. إذا ما قلت إنسانا
يعني أنه إنما سمي الإنسان إنسانا لأنه إنسان عين الحق وقد تقدم ذكر ذلك في كلمة آدم عليه السلام.
قوله:
فلا تحجب بإنسان …… فقد أعطاك برهانا
يعني لا تستبعد أن يكون الإنسان هو إنسان عین الحق فقد أعطاك برهانا على ذلك. ذكره في حكمة آدم، عليه السلام، وفي غيرها.
قوله:
فكن حقا وكن خلقا …… تکن بالله رحمانا
يعني" فصرح في نفسك بأنك حق خلق باعتبار الأسماء الكونية والأسماء الإلهية التي فيك بما أنت إنسان فتصير بذلك رحمانا أي جامعا لوجودات المراتب.
قوله:
وغذ خلقه منه …… تکن روحا وريحانا
يعني ما تقدم مما ذكره أن الخلق غذاء الحق وبالعكس وقد تقدم ذكر ذلك. قال: وإذا صرت غذاء فأنت الروح له والريحان.
قوله:
فأعطيناه ما يبدو ….. به فينا وأعطانا
يعني أن ظهورنا في وجوده أعطيناه به أنه الآخر والظاهر من كوننا آخرا وظاهرين وأعطانا هو الوجود فإن الوجود له لا لنا.
قوله:
فصار الأمر مقسوما ……. بإياه وإيانا
یعنی صارت الحضرة الإلهية مجموع الأسماء الكونية والأسماء الإلهية وهي منا ومنه.
قوله:
فأحياه الذي أدري ….. بقلبي حين أحيانا
وأحياه الذي أدري أي ظهورنا أحياه، أي أحيا له اسما كالخالق المتحصل من المخلوق والرازق المتحصل من المرزوق وحصول حياته لو كانت حين حصلت لنا الحياة منه.
قوله:
فكنا فيه أقواتا …. وأعيانا وأزمانا
يعني بالأقوات " ما تقدم من الغذاء ويعني بالأعيان ظهوراتنا بأزمانها.
قوله:
وليس بدائم فينا … ولكن ذاك أحيانا
يعني لا يدوم لنا هذا الشهود أي أنه غذاؤنا ونحن غذاؤه، وأنا أحييناه كما هو أحيانا، فإن هذا إنما يظهر في بعض الأوقات.
وأقول: إن الشهود إذا حصل لا يتغير وأما توهم الشهود، فهو الذي يتغير وما تجلي الله لشيء، فاحتجب عنه بعد ذلك.
شرح فصوص الحكم الشيخ مؤيد الدين الجندي 691 هـ :
قال الشيخ رضي الله عنه : (
فلولاه ولولانا ... لما كان الذي كانا
فإنا أعبد حقا ... وإن الله مولانا
وإنا عينه فاعلم ... إذا ما قلت إنسانا
فلا تحجب بإنسان ... فقد أعطاك برهانا
فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا
وغذ خلقه منه ... تكن روحا وريحانا
فأعطيناه ما يبدو ... به فينا وأعطانا
فصار الأمر مقسوما ... بإياه وإيانا
فأحياه الذي يدري ... بقلبي حين أحيانا
فكنا فيه أكوانا ... وأعيانا وأزمانا
وليس بدائم فينا ... ولكن ذاك أحيانا)
قال رضي الله عنه : ( فلولاه ولولانا .... لما كان الذي كانا)
يعني رضي الله عنه : أنّه لا بدّ في كون الأفعال الكونية والإلهية من الله من صدور وجود أعيانها ، ولا بدّ أيضا من الحقائق الكلَّية الكمالية العبدانية القابلة للوجود الحق الواحد وأكوانه الفعلية من التجليات والتعيّنات ، فنحن بعبوديّتنا ومألوهيّتنا ومربوبيتنا نظهر كونه ذا أسماء وتجلَّيات .
والله بإلهيته وربوبيته يفيض علينا الوجود وعلى الأكوان وعلى الأفعال الصالحة ، إضافة إلى الله من وجه ، و إلينا من وجه ، ولا بدّ منه .
كما قلنا في الغرّاء التائية :
فلا بدّ منه .... إنّه كلّ بدّنا
ولا بدّ منّا .... في أصحّ الأدلَّة
قال رضي الله عنه :
(فإنّا أعبد حقّا ..... وإنّ الله مولانا)
(وإنّا عينه فاعلم ..... إذا ما قلت إنسانا)
يعني : أنّ المظهر كهو في ذاته بخلاف غير الإنسان من الأعيان ، وإن كان الحق عين الكلّ وعين كلّ عين ، ولكن كون الحق في كل عين بحسبها لا بحسب الحق ، فلا يصحّ فيها أن يقال : إنّ هذا العين عين الحق ، بخلاف الإنسان مع كون الحق عينه يكون هو عين الحق .
قال رضي الله عنه :
(فلا تحجب بإنسان ...... وقد أعطاك برهانا )
يعني : أنّ الإنسان وإن كان في العرف اسما من أسماء الأكوان من حيث شخصه ، ولكنّه في الحقيقة هو اسم للحق مع كونه - تعالى - عين الأعيان والوجود والمراتب ، فإنّ الحق من كونه إنسانا هو عين العالم لا من كونه ربّا إلها ، فإنّ الإله إله أبدا لا مألوه ، والربّ ربّ أبدا لا مربوب ، والإنسان - برزخيّة بين بحرى الربوبية والمربوبية - عين البحرين ، فافهم ، فإنّه البرهان الذي أعطاكه الإنسان .
قال رضي الله عنه - :
(فكن حقا وكن خلقا ...... تكن بالله رحمانا)
يشير رضي الله عنه : إلى تمام المدّعى أنّك بإنسانيتك وبرزخيتك لك أن تكون عين الحق ، فتقوم بك جميع الأشياء الإلهية ، ولك - بما ذكرنا كذلك - أن تكون خلقا فتكون في أعمّ الحقائق والأعيان ، فتعمّ الحق بمظهريتك الكلَّية الجامعة للذات الإلهية والأسماء كلَّها ، وتعمّ الخلق برحمة الله وفيضه الواصل إلى العالم كلَّه ، من كونك خليفته والواسطة ، وتقوم بجميع ما يحتاج العالم إليه وتسعه ، فتسع الحق والخلق بعين ما وسع الحقّ بك ذلك ، فتكون رحمانا ، لعموم وجودك .
قال رضي الله عنه :
( وغذّ خلقه منه ..... تكن روحا وريحانا)
يشير رضي الله عنه : إلى ما قرّرنا من قبل أنّ الحقّ بالوجود غذاء الخلق ، إذ به قوامه وبقاءه وحياته ، كالغذاء به يكون قوام المغتذي وحياته وبقاؤه .
وكذلك تغذّي أنت بالوجود الحق الفائض جميع الخلق ، لأنّك النائب في ذلك عن الله ، وكذلك تغذّي الوجود الحقّ بأحكام الكون وصوره ، وتوجد بذلك له أسماء وصفات ونعوتا وأحكاما ونسبا وإضافات ، وبهذا تكون روحا للحقائق الكونية العدمية تريحها بالوجود عن العدم ، وتروّحها عن ظلمتها بنور القدم ، وكذلك تكون ريحانا للوجود الحق بالروائح الخلقية الكيانية والنشآت الصورية الإمكانية .
قال رضي الله عنه :
(فأعطيناه ما يبدو ..... به فينا وأعطانا)
( فصار الأمر مقسوما ..... بإيّاه و إيّانا )
أي أعطانا الحق من خصوصيات قابلياتنا ما يظهر به فينا في تعيّنه بنا ، وأعطانا وجودا به أيضا ظهورنا لنا ، فصار الأمر الوجودي ذا وجهين له نسبة إلينا ونسبة إليه ، فيقسم في العقل قسمين لا في العين فقرّبنا عين العينين ، ولهذا سمّانا إنسان العين لأهل الإشارة والفوز بالحسنيين في الطرفين .
قال رضي الله عنه :
( فأحياه الذي يدري .... بقلبي حين أحيانا )
(وكنّا فيه أكوانا ...... وأزمانا وأعيانا )
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الحقائق الكلَّية الإنسانية أعيان الشؤون الذاتية الإلهية ، والوجود الحق مظهر ومجلى لتلك الأعيان ، فإنّا نحن فيه أكوانه الأزلية التي كان بنا ولم نكن معه لأعياننا ، لكوننا عين كونه الذي كان ولم نكن في غيب العلم الأزلي .
وكذلك في الوجود العيني بكوننا ، ويكون سمعنا وبصرنا وأعياننا وقوانا وجوارحنا في قرب النوافل ، ونكون أيضا كذلك سمعه وبصره ولسانه وأعيان أسمائه وأكوانه .
وأمّا كوننا أزمانا فيه فمن حيث إنّ مظهرياتنا موجبة لتقدّر الاسم الدهر ، فإنّ مبدأ إضافة الوجود وتعيّنه امتداد النفس الرحماني والفيض الوجودي إلى أبد الأبد ، لا يتقدّر ولا يتعين إلَّا بحسب القوابل ، والزمان مقدار حركة الفلك المحيط عرفا فلسفيا وهو عند المحقّق صاحب الكشف صورة الزمان لا حقيقته ، وحقيقته معنى امتداد أمداد الأنفاس الرحمانية والتجلَّيات الوجودية بالتعلَّقات الإرادية الإلهية إلى الحقائق والأعيان لإيجاد الأكوان في حضرة الإمكان .
فلو لا الحقائق الكيانية ، وأقدارها في قابلياتها وخصوصياتها في مراتبها الذاتية ، وتقدّمها وتأخّرها المرتبتان الذاتيتان ، لما تعيّنت المقادير الإيجادية ، فنحن بكمال قابلياتنا وسعتها نقبل أمداد الأنفاس الرحمانية بالتقدّم وبالتأخّر في القابليات الناقصة التابعة ، فإنّ الحقائق منها تابعة ومنها متبوعة ، وملزومة ولازمة ، ولوازم لوازم وعوارض ولواحق .
فالحقائق المتبوعة الملزومة الكاملة تقبل الوجود أوّلا ومنها ينفذ نور الوجود إلى التوابع واللوازم وما ذكر ، فتحقّق بين المبادي والغايات حقيقة التقدّم والتأخّر الذاتي والمرتبي بحقيقة معقولية امتداد الوجود من أوّل قابل - مثلا - إلى آخر موجود .
فحقيقة الزمان معقولية ذلك الامتداد ، ومعقولية تعلَّقه بكل عين عين حقيقة الآن الذي لا ينقسم ، فإنّ تعلَّق النور النفسي الوجودي الحق بكل عين غير قبوله باستعداده الذاتي ، ومعقولية أحدية جمع الامتدادات والتعلَّقات النورية الوجودية النفسية الإلهية إلى ما لا يتناهى حقيقة الاسم الدهر ، فمن حيث إن الوجود بنا وبحقائقنا يتقدّر ويتعين كنّا فيه أزمانا .
وقد قال بعض المحقّقين من أهل الحق :
الوقت وعاء لما قدّر أو فيه ، ونحن كذلك أوعية لما يتقدّر فينا من التجلَّي والتعين وتنوّعاتهما إلى الأبد ، فافهم .
وفيه إشارة أيضا إلى أنّا بحقائقنا وأعياننا الثابتة كنّا في الحق قبل قبول الوجود أزمانا لا تعرف أوّليّة ، إذ لا مبدأ وأزماننا بمعنى الحقيقة الذاتية ، لا بصورة الزمان ، فافهم ذلك .
قال رضي الله عنه :
( وليس بدائم فينا .... ولكن ذاك أحيانا )
يشير إلى ما قاله زين العابدين عليه السّلام : « لنا وقت يكوننا فيه الحق ولا نكونه » وإلى قوله صلى الله عليه وسلم « لي مع الله وقت » وهو زمان غلبة حقّية الإنسان الكامل على خلقيته ، وليس ذلك بدائم فيه ، فإنّ ذلك مقتضى الحقيقة الإنسانية الكمالية ، فإنّه الحق الخلق الجامع بين بحري الوجوب والإمكان ، المطلق في جمعه بين الحقّية والخلقية عن الجمع والإطلاق دائما ، فليس له أن يكون على الدوام حقا محضا ، فإنّ ذلك لحقيقة الحق لا غير ، لا شريك له في خصوصه سبحانه .
وفي هذا المقام سرّ للخواصّ وهو :
أنّ الإنسان الكامل في كل عصر يقابل دائما بمألوهيته ومربوبيته وعبوديته الذاتية وخلقيته الكاملة حضرة الألوهية ، والربوبية والحقّية ، وكذلك يقابل بربوبيته وبما فيه من الألوهة وصورة الله من جهة خلافته وتحقّقه بجميع الأسماء الإلهية حضرة الكون والخلق بالإمداد والفيض الواصل إلى العالم بواسطته ولا بدّ ، وإلَّا فلا يكون خليفة ، فهو يسع بأحد طرفيه ما يقابله من الحقية والخلق ، وبجمعه بينهما يحاذي ويقابل الجمعية الإلهية بين حضرات الأسماء والمسمّيات وحقائق المسمّيات - بكسر الميم اسم فاعل - والمعيّنات كذلك وهي - دون تعيّن حقا وخلقا - جانب إطلاق الحق ، فهو من هذا الوجه حق دائما ، وخلق دائما ، جامع بينهما ، مطلق في كل ذلك ، كما هو ربّه ، فيكون على هذا الذوق .
قوله رضي الله عنه : « وليس بدائم فينا » فافهم هذا السرّ .
شرح فصوص الحكم الشيخ عبد الرزاق القاشاني 730 هـ :
قال الشيخ رضي الله عنه : (
فلولاه ولولانا ... لما كان الذي كانا
فإنا أعبد حقا ... وإن الله مولانا
وإنا عينه فاعلم ... إذا ما قلت إنسانا
فلا تحجب بإنسان ... فقد أعطاك برهانا
فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا
وغذ خلقه منه ... تكن روحا وريحانا
فأعطيناه ما يبدو ... به فينا وأعطانا
فصار الأمر مقسوما ... بإياه وإيانا
فأحياه الذي يدري ... بقلبي حين أحيانا
فكنا فيه أكوانا ... وأعيانا وأزمانا
وليس بدائم فينا ... ولكن ذاك أحيانا)
يقول رضي الله عنه :
( فلولاه ولولانا .... لما كان الذي كانا )
أي لا بد في الأكوان والتجليات الفعلية من الحق الذي هو منبع الفيض والتأثير، ومن الأعيان القابلة التي تقبل التأثير وتتأثر فتظهر التجليات الأسمائية والأفعالية ، ووجه الارتباط بما قبله أن الإحياءين وجميع الأفعال والأكوان لا بد لها من الألوهية والعبدانية ليتحقق الفعل والقبول والتجلي والمجلى
"" أضاف بالي زادة : (فلولاه ولولانا ) أي فلو لم يكن الحق وأعياننا ( لما كان الذي كانا ) أي لما ظهر في الكون ما ظهر وهو بيان لاتحاد الإنسان مع الحق في الربوبية : ( فأنا أعبد حقا وإن الله مولانا )
وهو بيان للفرق ( وأنا عينه فاعلم إذا ما قلت إنسانا ) أي إذا سميت عينك بإنسان لا ينافي عينيتنا مع الحق إنسانيتنا اهـ بالى . ""
يقول الشيخ رضي الله عنه :
( فأنا أعبد حقا ..... وإن الله مولانا )
(وأنا عينه فاعلم ...... إذ ما قلت إنسانا )
أي أنا أعبد الحقيقة لأنا نعبده بالعبادة الذاتية أي الأحدية الجمعية ، وإن الله بجميع الأسماء متولينا وولينا ومدبر أمورنا بخلاف سائر الموجودات ، فإنهم عبيده ببعض الوجوه والله مولاهم ببعض الأسماء . وأما الإنسان الكامل فإنه عين الحق لظهوره في صورته بالأحدية الجمعية ، بخلاف سائر الأشياء ، فإنها وإن كان الحق عين كل واحد منها فليست عينه لأنها مظاهر بعض أسمائه فلا يتجلى الحق فيها على صورته الذاتية ، وأما إذا قلت إنسانا أي إنسانا كاملا في الإنسانية فهو الذي يتجلى الحق على صورته الذاتية فهو عينه
.
يتبع