منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي    شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:27 pm

شرح ما بين ضال المنحنى وظلاله الأبيات من 01 إلى 13 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة ما بين ضال المنحنى وظلاله الأبيات من 01 إلى 13
[ الجزء الثاني ]
[ شرح القصيدة الأولى ما بين ضال المنحنى وظلاله  ]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قال رضي اللّه تعالى عنه :
01 - ما بين ضال المنحنى وظلاله *** ضلّ المتيّم واهتدى بضلاله
أقول « ما » في أول البيت زائدة إذ المراد بين ضال . و « الضال » نوع من السدر وأظنه البري . و « المنحنى » بضم الميم وسكون النون وفتح الحاء وفتح النون وآخرها ألف مقصورة موضع وهو في الأصل مكان ينحني فيه الوادي وينعرج .
 
و « الظلال » بكسر الظاء جمع ظل وهو نقيض الضح أو هو الفيء أو هو بالغداة والفيء بالعشيّ جمعه ظلال . قوله « ضل » بالضاد من الضلال خلاف الهدى .
و « اهتدى بضلاله » .
 
الإعراب :
بين : ظرف مضاف إلى ضال . المنحنى وظلاله : معطوف على ضال والعامل في الظرف المذكور ضل . والمتيم : فاعله أي ضل المتيم بين ضال المنحنى وظلاله .
والمراد من ضلاله حيرته بالحب ودهشته في بيداء عشقه وهذه الحيرة عين الهداية في الحقيقة لأن ضلال الحب هدى ولذلك قال ضل المتيم واهتدى بضلاله .
 
والمعنى :
قد تاه المتيم الذي تيمه الحب وكان آخر ضلاله به أول هدايته به .
وفي البيت الطباق بين الضلال والهداية ، وجناس المضارعة بين ظلال وضلال ، وشبه جناس الاشتقاق بين ضال وضلال .
 
( ن ) : يشير بالضال إلى حضرة العلم الإلهي . وبالمنحنى إلى الوجود الحق المطلق فإنه باعتبار ما يظهر عن أمره من حضرة علمه كأنه ينحني بالنظر إلى من يشهده فمن يشهده يحنيه فيتجلى بما عليه الكائنات من أحوالها وصفاتها وهو معنى النزول الوارد في حديث ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا . وقوله وظلاله ، كناية عن هذه العوالم العلوية والسفلية الحسية والعقلية من جميع الأشياء فإنها بمنزلة الظلال عن

 
« 4 »
 
المعلومات الربانية والمرادات الإلهية كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله :أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ[ الفرقان : الآية 45 ]
أي ظل الكائنات . وقوله ضل المتيم ، أي خفي المحب وغاب وهو الفناء والاضمحلال في الوجود الحق فإن العارف إذا تحقق بمعرفة نفسه عرف أنه بمنزلة الظل المرسوم بالحق المعلوم فتضمحل دعاويه ويجزم بأن العدم يساويه وهذا معنى ضلاله الذي هو فيه .
وقوله واهتدى بضلاله ، أي ضلاله المذكور عين هدايته وهذا هو الضلال المحمود . اهـ .
 
02 - وبذلك الشّعب اليماني منية *** للصّبّ قد بعدت على آماله
 
[ الاعراب ]
« الشعب » بكسر الشين وسكون العين الطريق في الجبل ومسيل الماء في بطن أرض ، أو ما انفرج بين الجبلين وموضع معروف ولعل الإشارة إليه والإشارة بذلك إما للبعد وإما للتعظيم . و « اليماني » صفة كأنه في بلاد اليمن أو منسوب إلى القبيلة اليمنية . و « منية » بضم الميم وسكون النون بمعنى مطلوب .
وقوله « للصب » متعلق بها ويمكن تعلقه بمحذوف على أن يكون صفتها . والصب العاشق . وقوله « قد بعدت على آماله » جملة وقعت صفة لمنية ، أي مطلوب لا تصل إليه الآمال ولا تهتدي إليه مطالب الرجال .
وما ألطف قوله « قد بعدت على آماله » فإنها مبالغة في غاية اللطف لأن الإنسان يؤمّل المستحيل في بعض الأوقات وهذه المنية بعدت على الآمال فلا تتمناها .
وما أحسن قوله رضي اللّه عنه :
وكيف أرجى وصل من لو تصوّرت * حماها المنى وهما لضاقت بها السبل
وتنكير « منية » للتعظيم أي مطلوب عظيم .
وما أحسن قول من قال وأجاد في المقال :
وبالجزع حيّ كلما عن ذكرهم * أمات الهوى مني فؤادا وأحياء
تمنيتهم بالرقمتين ودارهم * بوادي الغضا يا بعد ما أتمنا
هو الظاهر أنه لا يريد البعد الحسي بل يريد بعد المنال الذي يتعدى إلى الآمال لأن الآمال جمع أمل وهو الرجاء .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله وبذلك أي في ذلك والإشارة بصيغة البعد إلى ضال المنحنى على حسب ما ذكرنا وكنى عنه بالشعب لتشعبه وكثرة فروعه وهو أصل واحد فهو واحد وكثير وباليماني لأنه عن يمين الكعبة بيت اللّه ويمين الكعبة شمال المستقبل لها والقلب شمال الإنسان وهو بيت اللّه كما ورد : ما وسعني سماواتي ولا أرضي

 
« 5 »
ووسعني قلب عبدي المؤمن . وقوله منية ، أي مطلوب كناية عن المحبوبة الحقيقية والحضرة العلية . وقوله قد بعدت فبعدها كمال تنزهها عن مشابهة الأكوان . اهـ .
 
03 - يا صاحبي هذا العقيق فقف به *** متولّها إن كنت لست بواله
 
نادى صاحبه وأخبره بأنه قد وصل إلى « العقيق »
فأشار إليه إشارة القرب بقوله هذا العقيق وكأنه يشير إلى أن صاحبه قد تبله وتوله فهو لا يعرف العقيق مع أنه له لصيق.
 
إعرابه :
الهاء : حرف تنبيه وذا : مبتدأ والعقيق : خبره . وقف : فعل أمر من الوقوف . وبه : متعلق به . ومتولها : حال من فاعل قف والمتوله الذي يظهر الوله تكلفا لا حقيقة . والوله : الحيرة ويرد لمعان غيرها . قوله إن كنت لست بواله : أي حقيقة يريد أيها الرفيق حيث وصلت إلى العقيق فوافق الصديق في الحيرة والشهيق وأظهر الحيرة مجازا إن لم تحصلها على التحقيق وما ألطف قول المتنبي :
إذا اشتبكت دموع في خدود * تبين من بكى ممن تباكى
وقد قلت في مثل ذلك من قصيدة مقصورة فمنها :
تباكى بغير دموع جرت * وأين التباكي وأين البكا
 
وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله أي إن كنت لست بواله حقيقة . فقف متولها : ويروي متوالها من باب التفاعل وهو صحيح لإظهار ما ليس حقيقة وإنما أمره بذلك الوقوف لأن العقيق بالقرب من طابة المستطابة وعند قرب الديار يذكر الصب أحبابه
كما قال من قال وأجاد في المقال :
وأقرب ما يكون الشوق يوما * إذا دنت الديار من الديار
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله يا صاحبي ينادي عقله الملازم له من سنّ التمييز . وقوله هذا العقيق إشارة إلى القرب لأن وادي العقيق الذي بقرب المدينة المنوّرة نصب عينه لأنه بقرب ديار الأحبة .
وقوله فقف به ، أي لا تتجاوزه فلا وصول إلا إليه وهو سدرة منتهى العقول . اهـ .
 
03 - وانظره عنّي إنّ طرفي عاقني *** إرسال دمعي فيه عن إرساله
 
[ الاعراب ]
الخطاب في قوله و « انظره » لصاحبه . بقوله يا صاحبي هذا العقيق ، والهاء في وانظره للعقيق . وقوله « عني » أي بطريق النيابة عني . ثم علل طلبه من صاحبه أن ينظر العقيق نيابة عنه بقوله إن طرفي عاقني إلى آخره . و « طرفي » اسم إن . و « إرسال » بالرفع

 
« 6 »
 
فاعل « عاقني » وهو مضاف إلى دمعي . وقوله « فيه » أي في العقيق على أنه ظرف لإرسال الدمع أو لأجله على أن في تعليلية وعن « إرساله » متعلق بعاقني ، والإرسال الأول إسبال الدمع من غير تعويق كما يقال أرسل فلان الفرس إذا أطلقها من غير إمساك برسن أو ما أشبهه والإرسال الثاني إطلاق الطرف إلى المنظور من غير إغماض وحاصل البيت أنه يقول لصاحبه انظر العقيق عني فإن كثرة البكا منعتني من رؤيته
وقد قلت في مثل ذلك :
وما نظرت عيني سواك من الورى * لأن حجاب الدمع غطى نواظر
يوفي البيت الجناس التام في الإرسالين .
 
[ المعنى ]
( ن ) : كنى بإرسال دمعه عن فناء نفسه واضمحلالها في الوجود الحق . اهـ .
 
05 - واسأل غزال كناسه هل عنده *** علم بقلبي في هواه وحاله
 
[ الاعراب ]
قوله « واسأل » أمر من السؤال معطوف على قف ، والمخاطب الصاحب و « الكناس » بكسر الكاف ، موضع الغزال الذي يكنس فيه ، أي يختفي ومنه في القرآن العظيم والجوار الكنس أي النجوم التي تدخل تحت السحاب كالغزلان تدخل تحت كناسها .
وجملة « هل عنده علم بقلبي في هواه وحاله » مفسرة للسؤال المفهوم من قوله واسأل أي اسأل ذلك الغزال ، هل عنده علم بالحال في جميع الأحوال لا بخصوص المحبة وما يتبعها من الأوجال .
فقوله وحاله عطف على هواه من عطف العام على الخاص لأن هواه من جملة أحواله .
و « عنده » خبر مقدم . و « علم » مبتدأ مؤخر .
و « بقلبي » متعلق به . قوله « في هواه وحاله » الجار والمجرور صفة لعلم ، أي هل عنده علم متعلق بهواه وحاله .
ومعنى البيت اسأل غزال كناس العقيق هل يعلم حال القلب على التحقيق .
وما أحسن قول من قال وهو الشيخ محمد المغربي التبريزي وإنما سمي المغربي لأنه سافر من تبريز إلى جانب الغرب فنسب إليه
أو لأنه أحب الشيخ محيي الدين بن العربي رضي اللّه عنه :
يا سادتي هل يخطرن ببالكم * من ليس بخطر غيركم في باله
حاشاكم أن تغفلوا عن حال من * هو غافل في حبكم عن حاله
 
[ المعنى ]
( ن ) : الكناية بغزال كناس العقيق عن الحقيقة المحمدية وكناسها الوجود الحق الغائبة في حضرة كلامه . وقوله هل عنده ، أي عند ذلك الغزال وكنى عنه بالغزال لنفرته عن جميع الأغيار وتآلفه بالأنوار . اهـ .


« 7 »
06 - وأظنّه لم يدر ذلّ صبابتي *** إذ ظلّ ملتهيا بعزّ جماله
[ الاعراب ]
كما أمر بسؤال غزال الكناس رجع وقال « وأظنه لم يدر ذل صبابتي » كأنه يقول يغلب على ظني أن « عز جماله » يلهيه عن العشاق وما بهم من الداء الذي ليس له أفواق .
وجملة « لم يدر ذل صبابتي » في موضع نصب على أنها مفعول ثان لأظن وأضاف الذل إلى الصبابة لأنه مكتسب منها وناشىء عنها .
وإذ في قوله « إذ ظل » تعليلية ويجوز أن تكون ظرفية ويكون التعليل حينئذ مفهوما من قوة الكلام كما إذا قلت : ضربت العبد إذ أساء ، أي وقت إساءته لأجلها فظل بمعنى استمرّ مطلقا لا بقيد النهار فقط بقرينة المقام إذ المراد لأنه استمر ملتهيا غافلا عن عشاقه بعزة الجمال وسورة الدلال وفي البيت الطباق بين الذل والعز . اهـ .
 
07 - تفديه مهجتي الّتي تلفت و*** لا منّ عليه لأنّها من ماله
 
[ الاعراب ]
« تفديه » من فداه يفديه بفتح حرف المضارعة والجملة دعائية . قوله « التي تلفت » صفة مهجتي وإنما ذكر تلفها لأنه بسببه ومنه . فكأنه يقول أنت أتلفت مهجتي ومع ذلك فتكون فداء لك . وقد لاحظ الأدب في قوله تفديه مهجتي التي تلفت ولم يقل أتلفها أدبا . قوله « ولا من عليه » أي على المفدي لأن المهجة من ماله فكيف يمنّ عليه بماله .
 
والأصل في هذا المعنى قول القائل :
كالبحر يمطره السحاب وما له * فضل عليه لأنه من ماله
ويروي البيت فإنها من ماله وهي صحيحة أيضا لأن الفاء وإن في صدر الجملة نص في التعليل لما قبلها من الحكم القابل للتعليل .
 
08 - أترى درى أنّي أحنّ لهجره *** إذ كنت مشتاقا له كوصاله
 
[ الاعراب والمعنى ]
الهمزة في « أترى » استفهامية . و « ترى » بضم التاء بمعنى تظن . و « درى » من الدراية وهي العلم . و « أني » أن مفتوحة والياء اسمها . و « أحن » بكسر الحاء بمعنى اشتاق . و « لهجره » بفتح الهاء وسكون الجيم بمعنى الترك متعلق به .
« إذ كنت مشتاقا له كوصاله » : « إذ » تعليلية متعلقة بقوله أحن وكنت مشتاقا كان واسمها وخبرها وله متعلق بمشتاق .
وقوله « كوصاله » الكاف اسم وقع صفة لمصدر مأخوذ من مشتاقا . أي إذ كنت مشتاقا له شوقا ، مثل شوقي إلى وصاله والاستفهام هنا للاستبعاد لأن الشوق إلى الهجر كالشوق إلى الوصال أمر في غاية الاستبعاد لا يكاد يصدّقه الفؤاد ، لأن من شأن القلوب أن تميل إلى الوصل المطلوب ، وأن تنفر عن الهجر الذي ليس بمطلوب ، فأما الميل إليهما بالسوية فهو ضد الطبيعة البشرية وهل يستوي الحياة

 
« 8 »
 
والموت والإدراك والفوت اللّهم إلا لقوم هذبوا نفوسهم وأذهبوا بؤسهم فاستوى عندهم القرب والبعاد والنوم والسهاد ومن كان سعيد بالذوق شهيد الشهد الشوق عاكفا على محاريب قبلة التوق ذاق كلام الشيخ رضي اللّه تعالى عنه فإن فيه حالة تعرف ولا تعرّف .
وقد قلت فيما ينتظم في هذا السلك :
تيقن أني فيه أصبحت مغرما * ولكنه لم يدر ما سبب الحب
تعشقت منه حالة لست قادرا * على وصفها إذ لم يذقها سوى قلبي
 
وفي البيت الطباق بين الوصل والهجر وفيه لطف السجع في قوله أترى درى .
 
09 - وأبيت سهرانا أمثّل طيفه *** للّطرف كي ألقى خيال خياله
 
قوله « وأبيت » معطوف على وأحن منسحب عليه حكم الاستفهام .
يعني : أترى درى أني أحن لهجره وأترى درى أني أبيت سهرانا أمثل طيفه .
قوله « أمثل طيفه » أي أشبه خياله الطائف لطرفي لعلي أجد « خيال خياله » لأن الممثل خيال وتمثيله يحصل خيال الخيال .
والمراد من تمثيل خياله للطرف استحضار صورته المخزونة في الخيال .
 
الإعراب :
أبيت : معطوف على أحن والتاء اسمها . وسهرانا : خبرها وكان قياسه منع الصرف لكن نوّن للضرورة . وجملة أمثل طيفه للطرف : حال من التاء أو هي خبر بعد خبر . وكي : تعليلية والمعلل أمثل ، إذ المراد أمثل لعلي أن ألقى بذلك التمثيل خيال خياله .
وللمتنبي في هذا المعنى قوله :
إن المعيد لنا المنام خياله * كانت إعادته خيال خياله
ولكن بيت الشيخ رضي اللّه عنه أبلغ لأنه لم ينظر في منام فكان تمثيله في حالة السهر وأما المتنبي فإنه نام فشبه في منامه ما كان قد رآه في المنام أيضا .
وفي بيت المتنبي تعقيد في التركيب بخلاف بيت الشيخ فإن ألفاظه الدر المنظوم كما يظهر لأرباب الفهوم .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله وأبيت سهرانا : أي من غير نوم ولا غفلة عنه . وقوله أمثل طيفه : أي طيف ذلك الغزال المكنى به عن الحقيقة المحمدية التي هي المجلي التام للحقيقة الإلهية .
وتمثيل طيفه كناية عن تخيله في اليقظة واليقظة منام كما ورد في الحديث الناس ينام فإذا ماتوا انتبهوا فإذا مثله في اليقظة فكأنه منام في نومه .
وقوله كي ألقي خيال خياله : فإن خياله يلقاه في نومه فإذا كان في اليقظة التي هي منام ومثل فيها طيفه

« 9 »
 
فكأنه نام ورأى في منامه أنه نام ورأى في منامه طيف خيال محبوبه فإنه يكون رأى خيال خياله . اهـ .
10 - لا ذقت يوما راحة من عاذل *** إن كنت ملت لقيله ولقاله
 
[ المعنى ]
« لا » دعائية لأنه يدعو على نفسه بعدم ذوق الراحة من عاذله إن كان قد مال يوما لكلامه . واعلم أن بعض أهل اللغة صرّح بأن القيل والقال يقالان في الشر ، وهذا مناسب للمقام لأن العاذل إنما يقول الشر بالنظر إلى اعتقاد أهل المحبة لأن كل ما خالف مرامهم في المحبة فهو شر في اعتقادهم . والشيخ رضي اللّه تعالى عنه يقول هنا : « إن كنت قد ملت يوما لقيله ولقاله فلا ذقت يوما راحة منه » .
 
الإعراب :
لا : دعائية . ويوما : ظرف . لقوله ذقت ، وراحة : مفعوله . ومن عاذلي : صفة لراحة متعلق بمحذوف . وجملة ملت لقيله ولقاله : خبر كنت . وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله .
 
11 - فوحقّ طيب رضا الحبيب و*** وصله ما ملّ قلبي حبّه لملاله
 
[ الاعراب ]
« الفاء » استئنافية ، ويروى و « وحق » بواو عطف تليها واو قسم . و « طيب » بكسر الطاء وسكون الياء بمعنى اللذة . و « وصله » معطوف على طيب أو على رضا .
أي وحق وصله أو طيب وصله . وجواب القسم قوله « ما مل قلبي حبه لملاله » أي لملاله إياي إذا ملني فأنا لا أملّ من حبه لأن الحبيب يعز ومحبه يذل وما أحسن قول القائل .
لك أن تعز كما تشاء وتهجرا * وعلى محبك أن يذل ويصبر
 
12 - اواها إلى ماء العذيب وكيف *** لي بحشاي لو يطفا ببرد زلاله
13 - ولقد يجلّ عن اشتياقي ماؤه *** شرفا فواظمئي للامع آله
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « واها » كلمة تعجب من طيب شيء وكلمة تلهف والمراد هنا الثاني إذ المراد أتلهف وأتحسر . « إلى ماء العذيب » والعذيب على صيغة التصغير ماء معروف .
أي كيف أصنع بحشاي لو يطفا ببرد زلاله ، و « لو » هنا للتمني . و « يطفا » أي حشاه .
« ببرد زلاله » أي زلال العذيب والزلال ماء بارد عذب صاف سهل سلس سريع الجري في الحلق . ولما طلب إطفاء علته ببرد زلاله استأنف ورجع عن ذلك الطلب . فقال « ولقد يجل » بمعنى يعظم . « وعن اشتياقي » متعلق بقوله يجل . و « ماؤه » بالرفع فاعل يجل . قوله « شرفا » مفعول لأجله أي يجل ويعظم لأجل شرفه ورفعة شأنه . قوله

 
« 10 »
 
« فواظمئي للامع آله » الآل السراب الذي يرى كالماء من شدة الحر وليس ماء يقول إذ كان ماء العذيب جليلا فلا أصل إلى مائه لكون مقامي دونه ، فيا طول ظمئي إلى آله اللامع وسرابه الساطع فإن ذلك يكفي ولعلتي يشفي وهذا دليل على كمال الاشتياق إلى ذلك المكان لأجل من به من السكان :ومن أجل أهليها تحب المنازل
 
( ن ) : ماء العذيب ، كناية عن وجود الحق الحقيق الذي قام به كل شيء من محسوس ومعقول . وقوله بحشاي المراد به هنا القلب . وقوله لو يطفا ، أي الحشا من نيران المحبة الموقدة فيه . وقوله ببرد زلاله ، أي زلال ماء العذيب المذكور . اهـ .
.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الخميس يناير 04, 2024 8:32 pm عدل 1 مرات

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح احفظ فؤادك إن مررت الأبيات من 01 إلى 21 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:28 pm

شرح احفظ فؤادك إن مررت الأبيات من 01 إلى 21 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة احفظ فؤادك إن مررت الأبيات من 01 إلى 21
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة الثانية احفظ فؤادك إن مررت ]
وقال رضي اللّه عنه وأرضاه وجعل الجنة مثواه :
01 - احفظ فؤادك إن مررت بحاجر *** فظباؤه منها الظّبا بمحاجر
 
احفظ أمر والمخاطب به كل من يصلح للخطاب للإشارة إلى أن كل من يصلح للخطاب فهو أصل لأن يؤخذ بحسن هؤلاء الظباء و « حاجر » اسم موضع معلوم و « الظباء » الغزلان . والهاء عائدة إلى « حاجر » . و « الظبا » بضم الظاء وفتح الباء جمع ظبة وهي السيف أو طرفه . و « المحاجر » جمع محجر وهو ما يحيط بالعين . والباء في « بمحاجر » بمعنى في .
 
الإعراب :
احفظ : فعل أمر وفاعله ضمير المخاطب . وفؤادك : مفعول والكاف في محل جر على أنه مضاف إليه . وجواب إن في قوله إن مررت بحاجر : محذوف يدل عليه ما قبله أي إن مررت فاحفظ فؤادك . قوله فظباؤه : جملة وقعت تعليلية لمضمون الأمر والهاء في فظباؤه لحاجر . وظباؤه : مبتدأ . والظبا : مبتدأ ثان .
وبمحاجر : خبر الثاني . ومنها حال من محاجر لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالا والصغرى خبر عن ظباؤه .
 
المعنى :
إن مررت بحاجر أيها الرجل المار فاحفظ فؤادك لئلا يصاب ، فإن السيوف قاطعة بعيون غزلان ذلك الموضع واعلم أنه كثيرا ما تشبه العيون بالسيوف ولكن هذا نمط خاص تستعمله الخواص قال الأعزاري :
صاح في العاشقين يال كنانه * رشا بالجفون منه كنانه
وفي البيت الجناس المحرف بين الظباء والظبا ، والجناس الناقص بين حاجر ومحاجر .
 
( ن ) : احفظ يا أيها السالك في طريق اللّه تعالى . وقوله حاجر منزل من منازل الحاج والإشارة به إلى مقام الإدراك العقلي في مقام الشهود بكل صورة وهو منزل من

« 12 »
 
منازل الحج الإلهي ، فإن الحجر بالكسر العقل والتجلي بالصور وإنما هو للعقل بمناسبة الربط الذي يؤدّيه معناه وهم عقلاء اللّه المحققون الكاملون فاحتفاظ القلب من هؤلاء المحققين في مجالستهم بالأدب والاحترام أمر لازم على جميع الأنام كما ورد :
من جالسهم وخالفهم نزع اللّه تعالى من قلبه حلاوة الإيمان ، وهم أهل المقام العقلي المكنى عنه بحاجر . وقوله فظباؤه : كناية عن الصور الكاملة في مقام التحقيق والعرفان فإنهم نوافر يسرحون في ذلك الميدان ، يعني أن ظباء حاجر لها محاجر عيون كحدّ السيوف ونصول السهام من نظرت إليه قصمته وأصمته . اهـ .
 
02 - فالقلب فيه واجب من جائز *** إن ينج كان مخاطرا بالخاطر
 
الهاء في « فيه » راجع إلى حاجر لأنه اسم مكان و « واجب » هذا بمعنى الساقط .
ومنه قوله تبارك وتعالى : فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها [ الحجّ : الآية 36 ] أي إذا سقطت و « الجائز » بمعنى المارّ . يقال جاز بالمكان إذا مرّ به . و « الماخطر » اسم فاعل من المخاطرة وهي الهجوم على مكان يكون مظنة للهلاك ونحوه . و « الخاطر » هنا القلب .
 
الإعراب :
القلب : مبتدأ . أو واجب : خبره . وفيه : متعلق به . ومن جائز :
كذلك . ومن : تعليلية إذ المراد سقط القلب في ذلك المكان بسبب ذلك الحبيب الجائز . إن : شرطية . وينج : فعل الشرط مجزوم بحذف الواو وفاعله يعود إلى القلب وكان : جواب الشرط واسمها ضمير . ومخاطرا : خبره ، وبالخاطر : متعلق به .
 
المعنى :
والقلب في ذلك المكان ساقط من حبيب جائز فيه يجلو حسنه على عشاقه فإن نجا ذلك القلب بعد سقوطه في ذلك المكان كان مخاطرا بنفسه . فإن قلت : قد فسرت الخاطر هنا بالقلب فكيف يقال : إن ينج القلب كان مخاطرا بالخاطر . قلت : يكون حينئذ من وضع الظاهر موضع المضمر وكأنه قال إن نجا كان مخاطرا بنفسه . وفي ذلك من النكتة إفادة الجناس بين المخاطر والخاطر . وفي البيت إيهام التناسب بين الواجب والجائز والجناس الناقص بين المخاطر والخاطر .
 
( ن ) : قوله والقلب ، أي كل قلب عارف من بحار المحبة الإلهية غارف . وقوله فيه ، أي في حاجر . وقوله واجب ، أي خافق من شدة الخوف والخشية . وقوله من جائز ، بيان للقلب يعني القلب من كل إنسان جائز أي مار سار .
وقوله إن ينج ، أي يسلم ذلك الإنسان الجائز فلم يهلك في الدنيا أو في الدين . وقوله كان مخاطرا بالخاطر فإن أهل المعرفة الإلهية من الأولياء والصدّيقين يحسون بخواطر الناس في

« 13 »
 
الاعتقاد والانتقاد ويؤاخذون المريد بالخواطر والناس تؤذيهم بالخواطر السيئة منهم فيعفون تارة ويؤاخذون أخرى ويتسعون تارة ويضيقون أخرى . اهـ .
 
03 - وعلى الكثيب الفرد حيّ دونه *** الآ ساد صرعى من عيون جآذر
 
« الكثيب » تل الرمل . و « الفرد » هو كثيب في وسط صحراء مستوية السطح ليس بها كثيب سواه فكان فردا في هاتيك الصحراء . و « الحي » البطن من القبيلة . و « دونه » أي قبل الوصول إليه . « والآساد » على وزن أفعال جمع أسد . و « صرعى » جمع صريع مثل شتى جمع شتيت والصريع الساقط بغير شعور . و « العيون » جمع عين وهي الباصرة . و « الجآذر » جمع جؤذر بجيم مضمومة وسكون الهمزة وفتح الذال المعجمة وضمها وهو ولد البقرة الوحشية .
 
الإعراب :
وعلى الكثيب : خبر مقدم . والفرد : بالجرّ صفة لكثيب . وحي : مبتدأ مؤخر . ودونه : خبر مقدم . والآساد : مبتدأ مؤخر . وصرعى : خبر بعد خبر أو حال من الضمير المستتر في دونه . ومن عيون جآذر : متعلق بصرعى . وجملة دونه الآساد صرعى الخ : في محل رفع على أنه صفة حي .
 
المعنى :
وقد استقرّ على ذلك الكثيب المعروف بالمحاسن المنفرد عن مشابه ومماثل حيّ تخاف صرعة غزلانه الأسود وتفوق على أسنة الذوابل وتسود وآخر المصراع الأول اللام الساكنة في الآساد والهمزة أول الثاني .
 
( ن ) : الكثيب هنا كناية عن المقام المحمدي والجمع الأحمدي المشتمل على الفرق التعددي . وقوله الفرد ، أي الذي هو من حضرة الفردية الإلهية فهو فرد من فرد ولا يكون فيه إلا الأفراد الورثة المحمديون من أهل اللّه تعالى أولي الكمال من أوليائه المشار إليهم فيما سبق بظباء حاجر . وقوله حي وهو الواحد من أحياء العرب كناية هنا عن جماعة متناسبين في المقام الواحد والمرتبة الواحدة العلية وإن كانوا على مشارب شتى . وقوله دونه ، أي دون ذلك الحيّ المذكور أي بالقرب منه . وقوله الآساد جمع أسد كناية عن العارفين بربهم أهل السلوك في طريق اللّه تعالى بالتقوى والإخلاص .
 
وقوله جآذر جمع جؤذر ولد البقرة الوحشية كناية عن أصحاب القلوب المتولدة من النفوس البشرية فإن النفس يكنى عنها بالبقرة وكونها وحشية لعدم تألفها بعالم الأكوان فإذا فنيت في اللّه ظهرت القلوب الروحانية التي هي من أمر اللّه فكانت متولدة عنها في الورثة المحمديين . اهـ .
 
04 - أحبب بأسمر صين فيه بأبيض *** أجفانه منّي مكان سرائري
 


« 14 »
 
[ الاعراب والمعنى ]
« أحبب » فعل تعجب . و « الباء » في بأسمر زائدة . و « أسمر » فاعله وليس في أحبب ضمير مستكن . و « صين » ماض مجهول من الصيانة ونائب الفاعل ضمير لأسمر . و « الهاء » في « فيه » عائدة لحاجر أو للكثيب الفرد . وقوله « أبيض » متعلق بصين والمراد من الأسمر المحبوب المشبه بالأسمر الذي هو الرمح . و « الأبيض » هنا عبارة عن السيف . و « الأجفان » هنا عبارة عن أغماد السيف . « فالهاء » في أجفانه للأبيض أيضا . إذ المراد أجفان سيفه قلبي أي لا يغمد سيف لحظه إلا في قلبي لأن مكان السرائر عبارة عن القلب فهو كقول الشاعر :والطاعنون مجامع الأحقاد
وقال عبد المطلب جد النبي صلى اللّه عليه وسلم وأجاد فيما أفاد :
لنا نفوس لنيل المجد طالبة * ولو تسلت أسلناها على الأسل
لا ينزل المجد إلا في منازلنا * كالنوم ليس له مأوى سوى المقل
وقال المتنبي :وهل صفت الأسنة من هموم * فما يخطرن إلا في فؤاد
واعلم أن الفضلاء بحثوا في خبر أجفانه وقد وقع الإجماع على أنه مكان لكن اختلفوا في أنه هل هو مرفوع لفظا ليكون خبرا أي أجفان ذلك السيف نفس مكان السرائر أو هو منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف على أنه خبر لأجفانه ، أي مستقرّة مني مكان السرائر وكلاهما جائز والأول أبلغ . وجملة « أجفانه مني مكان سرائري » في محل جر على أنها صفة لأبيض وفي البيت الطباق بين الأسمر والأبيض والتورية الحسنة في أجفانه .
 
( ن ) : الأسمر ، الرمح وهو هنا كناية عن المحقق الكامل في المعرفة فإنه تغلب عليه السمرة من كثرة مجاهدته في طريق العرفان وسبيل التحقيق والإيقان . وقوله صين ، أي صانه اللّه تعالى من كل سوء في الدنيا والآخرة . وقوله فيه ، أي في المقام المكنى عنه بالكثيب الفرد أو بحاجر .
 
على معنى أن صيانته وحفظه باعتبار أنه في ذلك المقام . والأبيض ، السيف وضد الأسود وفيه إشارة إلى أن ذلك المقام المذكور كالسيف في التصرف به بالقطع في الأمور وفي إشراقه ونورانيته والكشف به عن الغيب وغيب الغيب . وقوله أجفانه ، جمع جفن وهو غمد السيف وإنما جمع الجفن لكثرة أصحاب ذلك المقام وسريان حقيقته في أعضاء الكامل الواحد بطريق التجلي والانكشاف وقوله مني ، أي من نشأتي الإنسانية . وقوله مكان سرائري ، فمكان :
 
« 15 »
 
بالنصب على الظرفية بتقدير في . وسرائري جمع سر أو سريرة . يعني أن قلوبه لذلك المقام المذكور من حيث أنه سيف قاطع أجفان يغمد فيها ويستل منها وجمع القلوب المذكورة في المعنى لسرعة تقلبها من الأمر الإلهيّ الذي كملح البصر أو باعتبار أعضائه المتعددة المشتمل كل منها على سر إلهي . اهـ .
 
05 - وممنّع ما إن لنا من وصله *** إلّا توهّم زور طيف زائر
 
يجوز في « واو » و « ممنع » العطف على « أسمر » أي أحبب بأسمر وبممنع ويجوز كونها « واو » رب على أن المعنى ورب ممنع . و « ما » نافية . و « إن » زائدة مؤكدة لمعنى النفي المفهوم من ما . و « من » ابتدائية والاستثناء مفرّغ إذ المراد ما لنا من وصله شيء نستريح به سوى ما نتوهمه من زيارة طيف يزورنا في المنام . على أن « الزور » بفتح الزاي مصدر بمعنى الزيارة أو « إلا توهم زور » لا أصل له لأنه أمر مزوّر . و « زائر » صفة طيف إذ هو الخيال الطائف .
 
الإعراب :
الواو : عاطفة أو واو : ربّ . وما : نافية . وإن : زائدة مؤكدة . ولنا :
خبر مقدم . وتوهم : مبتدأ مؤخر . وزور : مضاف إليه سواء كان مفتوحا أو مضموما وهو مضاف إلى الطيف الموصوف بزائر .
 
المعنى :
وما ألطف وما أحب ممنعا قد تمنع عني بجماله وجلاله ومواليه ورجاله فلا يمكن أن يتصوّر منه الوصال إلا في عالم الخيال وما ألطف قول من قال في استقصار أيام الوصال هي زيارة طيف وسحابة صيف وإقامة ضيف . أي أتعجب من حبيب ممنع عن أحبابه ما لهم من وصله واقترابه سوى توهم زيارة الطيف ، وذلك أسرع في الزوال من سحابة صيف .
 
والاستثناء في البيت منقطع إن أريد بالوصل حقيقته ، وإن أريد به مطلق ما تفرح به القلوب من جانب المحبوب فالكل وصال على كل حال . ولك أن تجعل البيت من تأكيد الشيء بما يشبه ضده . كقولك ما للحبيب من الوصل سوى عدم اقترابه من أحبابه .
 
( ن ) : قوله وممنع ، كناية عن الحق تعالى من حيث ذاته العلية التي لا تدرك لقصور الأكوان جميعها عنها . وقوله لنا ، أي معشر العارفين أصحاب المقام المذكور .
وقوله من وصله ، أي وصل ذلك الممنع والوصل إشارة إلى التحقق به . وقوله زور ، بالضم أي كذب . وقوله طيف ، كناية عن كل صورة من صور الأكوان الحسية والعقلية فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا كما ورد في الخبر . اهـ .

« 16 »
 
06 - للماه عدت ظما كأصدى وارد *** منع الفرات وكنت أروى صادر
 
اعلم أن « عاد » في البيت بمعنى صار ترفع الاسم وتنصب الخبر . و « اللمى » سمرة الشفة في الأصل والمراد منه هنا الطريق للمجاورة . و « ظما » مصدر ظمىء غير أنه في الأصل مهموز فخفف بقلبه ياء « 1 » ، وهو العطش . و « أصدى » اسم تفضيل من صدى أي عطش وهو أيضا في الأصل مهموز « 2 » والوارد اسم فاعل من ورد الماء .
 
و « منع » ماض مجهول . و « الفرات » ماء معلوم ويقال له نهر الفرات ويطلق الفرات ويراد به الماء الصافي اللطيف . و « أروى » اسم تفضيل من الري خلاف العطش . و « الصادر » اسم فاعل من صدر عن الماء رجع بعد وروده .
 
الإعراب :
التاء : اسم عاد . وظما : خبرها على تأويله بظامئا اسم فاعل .
وللماه : متعلق به . أي عدت ظامئا للماه . وكأصدى وارد : حال من اسمها أو خبر بعد خبر أو هو الخبر . وظما : يكون مفعولا لأجله أو يكون حالا ونائب فاعل منع يعود لوارد . والفرات : مفعوله الثاني . وجملة منع الفرات : في محل جر على أنه صفة لوارد .
 
والمعنى :
صرت من الظما كأعطش رجل وارد قد منع الفرات شوقا لريقه والحال أنني كنت أروى رجل رجع عن الماء بعد وروده فكأنه يقول أنا ما صرت بهذه المرتبة في العطش إلا لشوقي إلى الماه وإلا فأنا في الحقيقة كنت مرتويا من الماء .
وفي البيت الطباق في أصدى وأروى وفي وارد وصادر والقلب في أصدى وارد وأروى صادر .
 
( ن ) : اللمى هنا كناية عن العلم الإلهي الذي يظهر من حضرة الأمر الرباني للقلب الروحاني .
والمعنى : أنه كان في حالة سلوكه بالتقوى والمجاهدة الشرعية ريان القلب من ربه ومن علوم المعرفة العقلية الخيالية صادرا عنها لا يطلب الزيادة لتحصيله علوم السعادة فلما تحقق بالمعرفة الذوقية والحقيقة الوجودية كشف عن نفس الأمر وعلم أنه كان في رسوم الخيالات يهيم وعلوم الظلالات غير مستقيم وشرب من بحر الحقائق المالح فازداد عطشا بعد عطش إلى أهمّ المصالح وإلى العلوم الذوقية لعلمه بضروريتها في المقامات الكشفية . اهـ .
..........................................................................................
( 1 ) قوله : فخفف بقلبه ياء فيه نظر بل هو مخفف بحذف الهمزة .
( 2 ) قوله : وهو أيضا في الأصل مهموز ذكره صاحب القاموس في المعتل .

« 17 »
 
07 - خير الأصيحاب الّذي هو آمري *** بالغيّ فيه وعن رشادي زاجري
 
[ الاعراب والمعنى ]
« خير » اسم تفضيل وأضيف إلى « أصيحاب » وهو مصغر أصحاب وتصغيره للتقريب والتحبيب . و « آمري » اسم فاعل من أمر فهو آمر وهو مضاف إلى ياء المتكلم . و « الغي » خلاف الرشاد و « الرشاد » خلاف الغي . و « زاجري » اسم فاعل من زجر فهو زاجر وهو مضاف إلى ياء المتكلم .
 
الإعراب :
الذي : اسم موصول مرفوع المحل على الابتداء . وجملة هو آمري صلة الموصول . وبالغيّ : متعلق بآمري . وفيه : متعلق بالغي . والخبر خير : المضاف إلى الأصيحاب . قوله وعن رشادي زاجري : الواو عاطفة لزاجري على آمري وعن رشادي : متعلق بزاجري . فيصير المعنى خير الأصيحاب القريبين مني من يأمرني بالغواية في هواه ويزجرني عن رشادي في اتباع رضاه وفي البيت المقابلة بين الآمر والزاجر وبين الرشاد والغي.
 
08 - لو قيل لي ماذا تحبّ وما *** الّذي تهواه منه لقلت ما هو آمري
 
[ الاعراب والمعنى ]
« لو » حرف يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه . و « قيل » مبني للمجهول ونائب فاعله « ماذا تحب » . و « ما » استفهامية مبتدأ . و « ذا » اسم موصول خبره والعائد محذوف أي تحبه . قوله « وما الذي تهواه منه » من تتمة المحكي ، بالقول إذ المراد لو قال قائل أيّ وصف تحبه منه وأي معنى تهواه من معانيه . لقلت له في الجواب الذي أهواه منه هو الوصف الذي يأمرني به فمهما أمرني به فهو المحبوب ومهما طلب مني فذلك عين المطلوب لا أبغي سواه ولا أروم إلا إياه .
 
وقد قلت في المعنى :
لست مولاي أرتجي منك وصلا * لا ولا أبتغي اقتراب حماكا
إنما منيتي وغاية قصدي * وسروري من الزمان رضاكا
كل ما في الوجود غيرك وهم * أبعد اللّه كل شيء سواكا
 
( ن ) : قوله منه ، أي من خير الأصيحاب أو من الممنع السابق ذكره . وقوله ما هو آمري ، أي ما يأمرني به خير الأصيحاب من الغي المذكور والزجر عن الرشاد أو ما يأمرني به ذلك المحبوب الممنع حيث يأمرني بكل ما يريد لأنني عبد له من جملة العبيد . اهـ .


09 - ولقد أقول للائمي في حبّه *** لمّا رآه بعيد وصلي هاجري
10 - عنّي إليك فلي حشى لم يثنها *** هجر الحديث ولا حديث الهاجر



« 18 »
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن التعبير بالمضارع قد يكون حكاية حال ماضية . فقول الشيخ رضي اللّه عنه « ولقد أقول » يحتمل أن يكون من هذا القبيل بناء على أنه قال ذلك القول في الماضي ، ويريد أن يحكيه كأنه واقع الآن . وذلك يكون في الأمور الغريبة التي تراد فتحكى .
ويحتمل أن يكون على بابه بأن يكون المراد يصدر مني القول للائم وقتا بعد وقت على أسلوب لومه لأنه يلومه وقتا بعد وقت ويقول جواب لومه وقتا بعد وقت و « اللام » في لقد جواب قسم مقدر أي وباللّه .
لقد أقول و « في حبه » متعلق بلائمي إذ المراد أقول لمن يلومني في حبه .
 
وقوله « لما رآه » متعلق بلائمي أي لامني وقت رؤيته هاجرا لي بعد الوصل . وجملة « عني إليك » إلى قوله فاعجب لهاج كل ذلك مقول القول وقد تقدّم أن إليك في مثل هذا التركيب اسم فعل بمعنى تنح عني .
قوله « فلي حشى » الخ جملة تعليلية لأمره بالكف عنه أي كف عني لومك لأن حشاي ثابتة على الوداد لا تتحول عن حسن الاعتقاد . وقوله « لم يثنها » مفتوح حرف المضارعة من ثناه يثنيه أي لواه عن اعتقاده . و « هجر الحديث » « الهجر » بضم الهاء وسكون الجيم الهذيان وإضافته إلى « الحديث » من إضافة الصفة إلى موصوفها أي الحديث الهجر أي المهجور به .
 
قوله « ولا حديث الهاجر » أي لا يثني حشاي ما تهذي به أيها اللائم ولا حديث من هجر أحبابه ونسي أصحابه فهو يظنني من أمثالهم ويتوهمني من أشكالهم ولست في الحب كذلك ولا أنا سالك هاتيك المسالك وفي البيتين الطباق بين الوصل والهجر والقلب في « هجر الحديث » و « حديث الهاجر » .
 
( ن ) : قوله لما رآه ، أي لما رأى لائمي ذلك الممنع . وقوله وصلي ، أي وصل ذلك الممنع لي بأن كان معتلا علي بأنواع الإقبال بحيث أنا وإياه حقيقة واحدة تتقلب في صفات الكمال .
وقوله فلي حشى كنى به عن القلب الروحاني المتوجه بالأمر إلى الأمر الرباني .
وقوله ولا حديث الهاجر ، الهاجر هو المحبوب وحديثه هو الحديث عنه بما لم يصدر منه مما يزخرفه اللائم لإزالة المحبة والعشق من قلب المحب العاشق . اهـ .
 
11 - لكن وجدتّك من طريق نافعي *** وبلذع عدلي لو أطعتك ضائري
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « لكن » أداة استدراك مخففة لا تعمل شيئا وموقعها هنا باعتبار أنه لما أظهر شكايته من اللائم كأنّ فاهما فهم أنه لا خير فيه وأن أفعاله كلها قبيحة وصفاته تؤدّي إلى الفضيحة فاستدرك دفع ذلك الفهم ورفع بقية الوهم . بقوله « لكن وجدتك من

« 19 »
 
طريق نافعي » الخ . فكأنه قال اللوم طريقان أحدهما يضرني والثاني ينفعني فأما طريقة النفع فهي المفهومة من قوله بعد هذا البيت إلى قوله :
فاعجب لهاج مادح عذاله
 
وأما طريقة الضرر فهي ما يفهم من قوله « وبلذع عذلي » البيت ولذع بذال معجمة وعين مهملة لمس النار وما أشبهها وأما ذوات السموم فيقال في قرصها لدغ بالدال المهملة والغين المعجمة وكلاهما محتمل في البيت غير أن الأول أولى ليكون جناسا مقلوبا مع عذل .
فإن قولك لذع عذل مقلوب مستو على حد قولك ربك فكبر وكل في فلك .
 
وكقول العماد الكاتب مخاطبا للقاضي الفاضل سر فلا كبا بك الفرس وجواب القاضي الفاضل له بقوله دام علا العماد . وكقول العماد له أيضا أرض خضراء ، وجوابه له أيضا بقوله فيها أهيف . وكقول القاري سور حماه بربها محروس .
 
وكقول القائل لا بقاء لإقبال . وكقول القائل :
اشرب معنا وأنعم برشا
وكقول الأرّجاني القاضي ناصح الدين أبي بكر وهو من عجائب الدنيا .
مودّته تدوم لكل هول * وهل كل مودته تدوم
 
ولهم فيما يقرب من ذلك بيت كل كلمة منه تقرأ طردا وعكسا وهو :
ليل أضاء هلاله * أنى يضيء بكوكب
وقلت في ذلك بحر رحب ملح أخا حلم «وضائري» اسم فاعل من ضاره الأمر يضوره ويضيره ضورا وضيرا ضرّه.
 
الإعراب :
وجدتك : يتعدّى إلى مفعولين الكاف أحدهما . ونافعي : مضافا إلى ياء المتكلم ثانيهما . ومن طريق : متعلق بنافعي أي نافعي من طريق واحد وأما الطريق الثاني وهو طريق لذع العذل فأنت ضائري فيه فيكون المعنى ووجدتك ضائري من طريق آخر وهو لذع عذل لأنه بمنزلة إحراق النار .
وقوله لو أطعتك : جملة معترضة بين المعمولين وهي تنفي ضرره عند عدم الإطاعة للعاذل فالعذل بغير إطاعة للعاذل نافع ليس بضار لأنه إسماع لذكر المحبوب وبه تلذ القلوب وفي البيت المقابلة بين النافع والضار وفيه القلب المستوي في لذع عذل ثم شرع في بيان الطريق النافعة له بقوله :
 
12 - أحسنت لي من حيث لا تدري *** وإن كنت المسئ فأنت أعدل جائر
 


« 20 »
 
[ الاعراب والمعنى ]
إنما قال « من حيث لا تدري » لأنه لم يكن قاصدا للإحسان ولكنه أحسن من حيث أنه قاصد للمساءة . قوله « وإن كنت المسئ » مؤخر في المعنى عن قوله « فأنت أعدل جائر » إذ المعنى أحسنت لي وأنت لا تدري أنك أحسنت فأنت أعدل جائر .
وإن كنت المسئ وتكون « إن » هذه هي الوصلية و « الواو » حينئذ عاطفة لما بعدها على جملة مقدّرة قبلها هي أولى بالحكم أي أنت أعدل جائر إن لم تكن المسئ وإن كنت المسئ .
 
وتجوز هذه الطريقة بعينها على أن يكون الترتيب في البيت على أصله من غير تقديم ولا تأخير فيكون المعنى أحسنت لي من حيث لا تدري إن لم تكن المسئ وإن كنت المسئ فأنت حينئذ أعدل جائر .
فإن قلت : ألا يجوز أن يكون قوله فأنت أعدل جزاء لأن المذكورة في البيت . قلت : يجوز على أن المعنى أحسنت لي من حيث لا تدري وإن فرض أنك مسيء غير محسن فأنت حينئذ أعدل جائر فتوصف بالعدل وإن كنت جائرا .
فإن قلت : كيف قال أعدل جائر مع أن شرط اسم التفضيل أن يكون المفضل عليه مشاركا للمفضل في أصل الفعل وإن كان المفضل راجحا على المفضل عليه فيه وهنا لا مشاركة للجائر في العدل فكيف صح استعماله .
قلت : هذا من باب المشاركة التقديرية . كما يقال أنت أعلم من الحمار فكأنك قلت إن أمكن أن يكون للحمار علم فأنت مثله مع زيادة العلم . وليس المراد بيان الزيادة بل الغرض التشريك في شيء معلوم انتفاؤه وما هنا كذلك أي إن فرض أن يكون للجائرين عدل فأنت أعدلهم لوجود إحسانك لي من حيث لا تدري لأنك لم تكن قاصدا للإحسان .
 
وجملة لا تدري في محل جر بإضافة حيث إليها . وحيث هنا عبارة عن مكان مجازي وهو وجوده بصفة لا يعلم أن لومه يتضمن الإحسان إلى الملوم . وما أحسن قوله وإن كنت المسئ فإنها تتضمن وإن كنت المسئ الذي لا مسيء سواه لأن تعريف الطرفين يفيد الحصر .
 
( ن ) : ثم شرع في بيان ذكر انتفاعه بلوم اللائم وإحسانه إليه باللوم وأما تضرره به وإساءته فذلك أمر ظاهر لا يحتاج إلى البيان فقال . اهـ .
 
13 - يدني الحبيب وإن تناءت داره *** طيف الملام لطرف سمعي السّاهر
 
[ الاعراب والمعنى ]
« يدني » مضارع من أدنى يدني بمعنى قرب يقرب . و « الحبيب » منصوب على أنه مفعول مقدم . و « طيف الملام » فاعله مضاف إلى الملام . وجملة « تناءت داره » معترضة . و « إن » وصلية لا تحتاج إلى جواب لكونها لمجرد التأكيد . و « تناءت » بمعنى بعدت . و « داره » فاعله . وقوله « لطرف سمعي » متعلق بيدني . و « الياء » في سمعي ياء المتكلم . و « الساهر » صفة لسمعي . وفي قوله « طيف الملام » استعارة بالكناية وتقريرها

« 21 »
 
أنه شبه الملام بالمنام وحذف المشبه به وأثبت الطيف الذي هو من خواص المنام للمشبه وحاصله أن المنام كما أنه يرى الخيال ويصوره للرائي كذلك الملام فإنه يصوره من استماع اللائم وإضافة الطرف إلى السمع من إضافة المشبه به إلى المشبه فكأنّ الذي يدركه السمع في الملام يدركه الطرف في المنام وفي البيت الطباق بين الدنو والبعد في يدني وتناءت وبين طيف وطرف الجناس اللاحق وفي البيت إدماج الشكاية من كثرة السهر .
 
( ن ) : شبه لوم اللائم له بحالة النوم فكأنه في تلك الحالة نائم لا يقظة له إلى كلام اللائم من عدم اعتنائه بلومه وعدم التفاته إليه .
وشبه ذكر محبوبه في كلام لائمه على محبته له بطيف الخيال . وقد شبه قوّة سمعه بقوّة بصره ثم وصف سمعه بالسهر إشارة إلى أنه ليس بنائم بالنظر إلى يقظة المحبة والعشق وإنما نومه بالنظر إلى لوم اللائم فقط فلوم اللائم بمنزلة النوم للمحب العاشق واللائم بلومه ذلك محسن للمحب العاشق من جهة أن طيف خيال المحبوب ينكشف للمحب فيتمتع به المحب واللائم لا يدري بذلك بل هو مسيء للمحب من جهة أنه لوم له وتوبيخ على اتصافه بالمحبة . اهـ .
 
14 - فكأنّ عذلك عيس من أحببته *** قدمت عليّ وكان سمعي ناظري
 
[ المعنى ]
هذا تتمة معنى الذي قبله فإنه لما جعل الملام كالمنام في إدناء الحبيب من السمع الذي هو شبيه بالناظر شبه عذل العاذل بعيس الحبيب حين قدمت عليه ولكن كان سمعه مدركا مكان ناظره وإنما شبه العذل بعيس الحبيب لأن العذل عنه يدنيه وكذلك العيس أيضا تدنيه غير أن العيس تدني إلى النظر والملام يدني إلى الخبر .
 
فلذلك أحتاج إلى أن يقول وكان سمعي ناظري وفي بعض النسخ عنس بالنون وفتح العين ، وهي الناقة العظيمة فيكون المراد ناقة الحبيب التي تحمله فيكون أقرب إلى إحضار الحبيب في الذهن أيضا فتأمل .
 
15 - أتعبت نفسك واسترحت بذكره *** حتّى حسبتك في الصّبابة عاذري
 
[ المعنى ]
يقول للائم « أتعبت نفسك واسترحت » أنا « بذكره » أي بذكرك إياه . حتى لقد « حسبتك » أيها اللائم عاذر إلي ولا شك أن العاذر ملائم لطبع المحب فيوجب الراحة فلما كان العذل موجبا للراحة شبه بالعاذر في ذلك وفي البيت الطباق بين الراحة والتعب .
 
16 - فاعجب لهاج مادح عذّاله *** في حبّه بلسان شاك شاكر
 

« 22 »
[ المعنى ]
لما ذكر حال العاذل الذي يلوم المحب في محبته من عند قوله « لقد أقول للائمي في حبه » إلى قوله « فاعجب لهاج مادح عذاله » بين أن الأوصاف المذكورة في هذه الأبيات تفيد هجوا ومدحا وشكاية وشكرا .
فإنه يقول لكن وجدتك من طريق نافعي ، وبلذع عذلي لو أطعتك ضائري فجمع بين النفع والضرر وفيما بعده جمع بين الإحسان والإساءة .
وذكر في بيت آخر التعب والراحة من جهتين فلذلك عقب ذلك بقوله « فاعجب لهاج مادح عذاله » الخ . وقوله « في حبه » متعلق بقوله عذاله ، أي الذين يعذلونه في حبه رضي اللّه تعالى عنه وأرضاه .

17 - يا سائرا بالقلب غدرا كيف لم *** تتبعه ما غادرته من سائري
 
[ المعنى ]
الشيخ رضي اللّه عنه يكرر هذا المعنى في أساليب مختلفة وتراكيب غير مؤتلفة .
قوله « غدرا » قيد لقوله « سائرا » أي يا من سار بقلبي غادرا أو سير غدر أو غدرت غدرا وغادرته بمعنى تركته . و « سائري » مهموز بمعنى الباقي مني بعد القلب وقد قيل في الفرق بين سائر مهموز أو غير مهموز بأن المهموز من السؤر بمعنى البقية وغير المهموز من السور المحيط بالمدينة فيكون بمعنى الجميع وفي البيت الجناس التام بين سائر وسائري وجناس شبه الاشتقاق بين غدرا وغادرته .
 
( ن ) : يريد بالسائر بقلبه المحبوب الحقيقي على حد قوله تعالى : وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [ الإسراء : الآية 70 ] ، وقوله تعالى : سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [ الإسراء : الآية 1 ] .
وقوله غدرا ، المعنى به هنا القهر . وقوله كيف لم تتبعه : الخ .
يعني كيف لم تأخذ مع قلبي الذي أخذته ما أبقيته من بقيتي الظاهرة والباطنة . اهـ .

18 - بعضي يغار عليك من بعضي ويح *** سد باطني إذ أنت فيه ظاهري
 
[ المعنى ]
البعض الذي يغار هو الجسد وغيرته على أنه لم يكن عند الحبيب مع القلب فلذلك قال ويحسد ظاهري باطني لأجل أنك في الباطن وآخر المصراع الأول « الحاء » في و « يحسد » وأول الثاني « السين » و « إذ » تعليلية أي لأجل أنك فيه . اهـ .


19 - ويودّ طرفي إن ذكرت بمجلس *** لو عاد سمعا مصغيا لمسامري
 
[ المعنى ]
الخطاب في قوله « بعضي يغار عليك من بعضي » . وفي قوله « ويودّ طرفي لو ذكرت بمجلس » للسائر الذي خاطبه بقوله « يا سائرا بالقلب » وهذا البيت من جملة بيان أن بعضه يغار عليه من بعضه فإنه إذا ذكر بالمجلس يكون صاحب الحظ من الذكر المسامع فيغار عليه الطرف ويودّ أن لو كان سمعا . و « لو » في قوله « لو عاد سمعا » مصدرية . و « مسامري » بياء المتكلم وهو المصاحب بالليل .

« 23 »
 
( ن ) : والذي يسامره في ليل الأكوان إما محبوبه الحقيقي لابسا عليه صور الأعيان أو عذوله ولائمه يذكر له المحبوب فتتمنى عينه أنها تكون أذنه لسماع تلك الأذكار الحسان . اهـ .
 
20 - متعوّدا إنجازه متوعّدا *** أبدا ويمطلني بوعد نادر
 
[ الاعراب والمعنى ]
« متعوّدا » حال من ضمير المحب وهو من العادة والإنجاز إيفاء الوعد .
و « إنجازه » مفعوله أي إنجاز وعده . « متوعدا » أي المحبوب فيقول أنا معتاد أنه ينجز وعدي إذا توعدني بهجر وصدّ فإنه يوفيه قطعا وأما الوعد بالوصل والقرب فإنه يمطل به ومع ذلك فإن الوعد أيضا نادر فهو يقول الوعد بالوصل نادر ومع ندرته فهو ممطول وأما التوعد فإنه منجز غير مخلف . وفي البيت الجناس المقلوب بين متعود ومتوعد والطباق بين الإنجاز والمطل وبين الوعد والتوعد وبين الندرة والعادة .
 
( ن ) : المعنى أن هذا المحبوب الحقيقي تعوّدنا على معاملته في الدنيا رحمة بنا أنه إذا توعدنا بالشرّ ينجز وعيده تطهيرا لنا وإذا وعدنا بالخير يمطل ذلك فيؤخره إلى الآخرة ليكمل الجزاء وأما أمر وعيده بالشر ووعده بالخير في حكم الآخرة فعلى الخلاف من حكم الدنيا المذكور. اهـ .
 
21 - ولبعده اسودّا الضّحى عندي كما *** أب يضّت لقرب منه كان دياجري
 
[ المعنى ]
يقول لبعده صار الضحى عندي أسود ومن عادته البياض ولقرب منه ابيضت الدياجر ومن شأنها السواد .
وقوله كان إشارة إلى أنه الآن ليس موصوفا باقتراب المحبوب وإنما كان له منه قرب ماض وآخر المصراع الأوّل « الباء » في « ابيضت » وأوّل المصراع الثاني « الياء » فيها وفي البيت الطباق بين القرب والبعد وبين السواد والبياض وبين الضحى والدياجر .

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح أرج النّسيم سرى من الزّوراء الأبيات من 01 إلى 50 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:23 pm

شرح أرج النّسيم سرى من الزّوراء الأبيات من 01 إلى 50 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة أرج النّسيم سرى من الزّوراء الأبيات من 01 إلى 50
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة الثالثة أرج النّسيم سرى من الزّوراء ]
وقال رضي اللّه عنه :
01 - أرج النّسيم سرى من الزّوراء *** سحرا فأحيا ميّت الأحياء
« الأرج » محركة شدّة رائحة الطيب . و « النسيم » نفس الريح . و « سرى » أي جاء ليلا . و « الزوراء » اسم لبغداد . لأن أبوابها الداخلة وضعت مزورّة عن الخارجة واسم لدجلة أيضا وموضع بالمدينة قرب المسجد والمراد هنا المعنى الأخير لأن المذكور في القصيدة من المواضع يناسبه . و « السحر » قبيل الصبح .
و « أحيا » الأوّل فعل ماض و « الأحياء » جمع حي بمعنى ضدّ الميت وبمعنى البطن من بطون العرب . ولعل المراد الأوّل على معنى فأحيا ميتا في الأحياء أي من جملهم فيصير المعنى فأحيا ميتا معدودا في جملة الأحياء وهذا شأن المحب أن يكون ميتا من دواعي المحبة ، وإن كان حيّا في الظاهر وتصح إرادة الثاني على بعد .
 
الإعراب :
أرج النسيم : مبتدأ ومضاف إليه . وجملة سرى من الزوراء سحرا :
من الفعل والفاعل والجار والظرف خبره والمراد سحرا من الأسحار ولذلك صرف .
قوله فأحيا : عطف على سرى والضمير في أحيا للأرج . والميت : مفعوله وهو مشدّد بمعنى الميت المخفف . وقيل المخفف الذي مات والمشدّد الذي لم يمت بعد وهو مناسب لما شرحناه . في قوله ميت الأحياء .
 
والمعنى :
وردت رائحة النسيم الطيب من المكان المقارب للمسجد الذي حلّ به خير النبيين وسيد المرسلين وكان وروده في وقت السحر الذي هو أطيب الأوقات فنشأ عن سراه أنه أحيا ميتا من المحبة معدودا في جملة الأحياء .
وفي البيت الجناس التام بين أحيا والأحياء والطباق بين الميت والحي .
 
( ن ) : قوله أرج النسيم ، كناية عن انتشار ما تحمله الروح الآمري المنبعث عن توجه أمر اللّه تعالى من علوم المعارف الإلهية والحقائق الربانية . وقوله سرى : أي

« 25 »
 
سار في ظلمة ليل الكون الجسماني . والزوراء ، كناية عن الحضرة المحمدية الجامعة للكمالات كلها ظاهرا وباطنا . وقوله سحرا : كناية عن أوائل الفتح الرباني على السالكين . وقوله فأحيا ، يعني بالحياة الأبدية الإلهية .
والأحياء جمع حيّ من الحياة فهو خلاف الميت أو جمع حي أي قبيلة من قبائل العرب كناية عن منزل من منازل القرب المعني فأحيا ذلك الأرج المذكور من مات بظهور الحياة الحقيقية الربانية بسبب ظهورها له أو من مات بالوصول إلى مقام الجمع وفارق الفرق فإن مقام الجمع منزل من منازل القرب . اهـ .
 
02 - أهدى لنا أرواح نجد عرفه *** فالجوّ منه معنبر الأرجاء
 
« أهدى » من الهدية وهو ما يتحف به ويقال أهدى الهدية وهداها . و « الأرواح » جمع ريح وتجمع أيضا على أرياح ورياح وريح كعنب وجمع الجمع أراويح وأراييح .
و « العرف » بفتح العين الريح طيبة أو منتنة وأكثر استعمالها في الطيبة وهو المراد هنا .
 
و « الجوّ » الهواء . و « المعنبر » الذي أعطى رائحة العنبر يقال مكان معنبر أي توجد فيه رائحة العنبر كأنه قد بخر بالعنبر . و « الأرجاء » بفتح الهمزة ممدودا جمع رجا مقصورا وهو الناحية .
 
الإعراب :
الأرواح : مرفوع على أنه فاعل أهدى . وعرفه : منصوب على أنه مفعوله فالأرواح أهدت العرف والضمير في عرفه يجوز رجوعه إلى أرج النسيم ويجوز عوده إلى نجد لأن نجدا مكان . والفاء في قوله فالجوّ : للسببية لأن وجود العنبر في نواحي الجوّ ناشىء عن العرف .
والجوّ : مبتدأ . ومعنبر الأجراء : خبر ومضاف إليه .
ومنه : متعلق بمعنبر ومن : تعليلية أي صار الجوّ معنبر النواحي من ذلك العرف .
ومعنبر في البيت مضاف إلى الأرجاء إضافة اسم المفعول إلى نائب فاعله . كقولك فلان مغسول الوجه أي غسل وجهه وهنا المراد عنبرت أرجاؤه بسبب ذلك العرف .
 
والمعنى :
أتحفنا ريح نجد بعرفه ورائحته الطيبة فصار الجوّ لذلك طيب النواحي كأنما ضمخ بالعنبر والبيت في غاية اللطف .
 
( ن ) : قوله لنا ، أي معاشر المحبين الإلهيين . وقوله أرواح جمع ريح وهي هنا كناية عن الأرواح جمع روح وهي المنفوخة في الجسد الإنساني عن الروح الأعظم القائم بأمر اللّه تعالى . وقوله نجد ، كناية عن الحضرة الإلهية الآمرية فإن الأرواح منفوخة من أمر اللّه تعالى . وقوله عرفه ، أي عرف ذلك الأرج المذكور في البيت قبله .

« 26 »
 
والمعنى :
إن شدة رائحة الطيب الروحاني المنبعث عن روح اللّه الآمري أهدى لنا أخبار التجليات الربانية وأسرار التدليات الإلهية الرحمانية . وقوله فالجوّ منه معنبر الأرجاء ، يعني أن نواحي الدنيا أو نواحي قلوب الأولياء العارفين مبتهجة متزينة بما يلقى إليها من جهة العوالم الروحانية والعجائب الملكوتية والأسرار الغيبية من الحضرة الإلهية . اهـ .
03 - وروى أحاديث الأحبّة مسندا *** عن إذخر بأذاخر وسحاء
 
الرواية نقل الحديث و « الأحاديث » جمع حديث بمعنى الخبر على سبيل الشذوذ . و « الأحبة » من تحبهم . « ومسندا » على صيغة اسم الفاعل . و « الإذخر » بكسر الهمزة وبالذال المعجمة الساكنة وكسر الخاء المعجمة وبالراء حشيش طيب الريح .
و « الأذاخر » بالفتح أيضا موضع قرب مكة . و « سحاء » بكسر السين والحاء المهملة على وزن كساء نبت شائك ترعاه النحل عسله غاية .
 
الإعراب :
فاعل روى : يعود إلى أرج النسيم . وأحاديث : مفعوله مضاف إلى الأحبة . ومسندا : حال أي روى أحاديث أحبتي ناقلا لها عن نبتين وهما الإذخر والسحاء . فقوله عن إذخر : متعلق بمسند وسحاء معطوف على الإذخر . وقوله بأذاخر : صفة لإذخر متعلق بمحذوف أي عن إذخر كائن بهذا الموضع المقارب لمكة .
 
ومعنى :
روايته أحاديث الأحبة عن هذين النبتين أن رائحته كرائحتهما فكان تكيف الأرج برائحتهما نقل لأحاديث الأحبة أو أن الأحبة مقيمون هناك عند النبتين المذكورين وبالقرب منهما فالنسيم حيث نقل أحاديث النبتين المذكورين كان ناقلا أحاديث الأحبة أيضا ، لما هناك من الاقتراب . وفي البيت المناسبة بذكر الرواية والأحاديث والإسناد وفيه قرب اللفظ بين إذخر وأذاخر .
 
( ن ) : قوله الأحبة ، كناية عن حضرات الأسماء الإلهية الظاهرة في صور الهياكل الإنسانية أي روي ذلك عن حضرات الذات الربانية . وكنى بالإذخر عن حضرة الصفات الجمالية . وبالسحاء عن حضرة الصفات الجلالية وكنى بأذاخر عن حضرة الذات الإلهية الجامعة للجمال والجلال فهي ظاهرة بينهما بحضرة الكمال . اهـ .
 
04 - فسكرت من ريّا حواشي برده *** وسرت حميّا البرء في أدوائي
 
قوله « فسكرت » معطوف على روى مسبب عنه إذ المعنى لما روى سكرت .
و « الريا » الريح الطيبة . « والحواشي » جمع حاشية وهي طرف الشيء . « والبرد » بضم

« 27 »
 
الباء ثوب مخطط . و « سرت » هنا بمعنى دخلت . و « الحميا » بضم الحاء وفتح الميم وتشديد الياء وهي هنا سورة الكاس أو شدّتها أو إسكارها أو أخذها بالرأس .
« والبرء » بضم الباء الموحدة والهمزة في آخرها الشفاء . و « الأدواء » جمع داء وهو المرض .
 
الإعراب :
ظاهر والهاء : في برده للنسيم الواقع في البيت الأول ولعمري أن هذه الألفاظ الواقعة في هذا البيت مع ما تشتمل عليه من الاستعارات تجذب الفؤاد إليها وتجعل حسن الذوق موقوفا عليها ، فإنه قد جعل للنسيم بردا وأثبت له الحواشي وأضاف الريا إلى حواشيه وأثبت لنفسه السكر من تنشق هاتيك الريا والبرء من سري تلك الحميا وبالجملة فنطاق البيان قاصر عن إدراكها ولكن هي لأولي الشوق الموصوفين بالذوق . وتأمّل سكرت وسرت والبرد والريا والحميا والبرء والداء تعلم محاسن البديع وقطع الروض في زمن الربيع .
 
05 - يا راكب الوجناء بلّغت المنى *** عج بالحمى إن جزت بالجرعاء
 
« الوجناء » الناقة الشديدة بلغت دعاء للراكب بأن اللّه تعالى يبلغه مناه . و « التاء » نائب الفاعل . و « المنى » مفعول ثان . وقوله « عج » أي أقم بالحمى أو قف أو ارجع أو اعطف رأس البعير بالزمام . و « جزت » من جاز يجوز بالمكان إذا مر به و « الجرعاء » مؤنث الأجرع وهو مكان فيه حجارة أو بعضه حجارة .
 
الإعراب :
يا راكب الوجناء : منادى مضاف إلى الوجناء . وجملة بلغت المنى : جملة معترضة للدعاء .
وقوله عج بالحمى : جواب النداء . وجواب إن : محذوف دل عليه ما قبله أي إن جزت بالجرعاء فعج بالحمى ، كان الاجتياز بالجرعاء يقتضي القرب من الحمى فيقف به .
 
والمعنى :
أيها الراكب للناقة الشديدة بلغك اللّه من مرادك مزيده عرّج على الحمى وقف بنواحيه وناد من به من أهليه فإن الحمى مرامي لأجل ساكنيه ومن أجل أهليها تحب المنازل . وهذا البيت يمكن أن تفصل جمله مسجعة ، وذلك بأن تقول يا راكب الوجناء إن جزت بالجرعاء فعج بالحمى بلغت المنى . ومن تأمّل كلام الشيخ رضي اللّه عنه وجد من هذا النوع شيئا كثيرا .
 
( ن ) : كنى بالوجناء ، أي الناقة الشدية عن النفس المطمئنة فإنها شديدة القوّة لاطمئنانها على أمر اللّه تعالى القائمة به وهي نفس السالك الصادق في سلوكه فإنه راكبها وهي مطمئنة معه مطاوعة له . وكنى بالحمى عن الحضرة الإلهية يعني أقم في

« 28 »
 
مراقبتها . وكنى بالجرعاء عن مقام المجاهدات النفسانية والمكايدات الإنسانية في طريق اللّه تعالى .
 
6 – متيمّما تلعات وادي ضارج *** متيامنا عن قاعة الوعساء
 
قوله « متيمّما » أي متعمدا متوخيا متقصدا . و « التلعات » جمع تلعة وهي ما ارتفع من الأرض ويقال لما انهبط منها وهي ضدّ ومنه في الأمثال لا أثق بسيل تلعتك يضرب لمن لا يوثق به ولا أخاف إلا من سيل تلعتي أي من بني عمي وأقاربي .
و « ضارج » موضع معروف على ما في القاموس . وقوله « متيامنا » أي آخذا جهة اليمين وفي القاموس تيامن بفلان ذهب به ذات اليمين وكنتم تأتوننا عن اليمين أي تخدعوننا بأقوى الأسباب أو من قبل الشهوة لأن اليمين موضع الكبد والكبد مظنة الشهوة والإرادة انتهى .
و « القاعة » أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والأكام ويوم القاع من أيامهم وفيه أسر بسطام بن قيس أوس بن حجر . و « الوعساء » رابية من رمل لينة والمراد هنا موضع بين الثعلبية والخزيمية .
 
الإعراب :
متيمما : حال من فاعل عج . وتلعات : منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة على حد هندات . وقوله متيامنا : حال بعد حال . وعن قاعة الوعساء : متعلق به .
 
المعنى :
عج أيها الراكب للوجناء بالحمى حال كونك قاصدا هذه التلعات آخذا يمينا عن قاعة الوعساء . فإن مطلوبي في المكان الذي وصفته لك . ولا تخفى المقاربة بين حروف متيامنا ومتيمما ، والشيخ رضي اللّه عنه لا يخلى شعره غالبا من المجانسة في ألفاظه ولو بالمقاربة في الجملة .
 
( ن ) : كنى بالتلعات ، عما يجده السالك من الأحوال التي ترتفع به مرة وتنخفض به أخرى . وكنى بوادي ضارج عن القلب الإنساني الذي تعتريه الأحوال .
وقوله متيامنا ، أي آخذا جهة اليمين والنفس هي من جهة اليمين كما أن القلب في جهة اليسار . وكنى بقاعة الوعساء عن النفس الحيوانية ذات الشهوات الكثيفة الجسمانية .
 
07 - وإذا أتيت أثيل سلع فالنّقا *** فالرّقمتين فلعلع فشظاء
08 - فكذا عن العلمين من شرقيّه *** مل عادلا للحلّة الفيحاء
 
« الأثل » شجر ، والأثيل مصغره . و « سلع » جبل بالمدينة . و « النقا » من الرمل القطعة تنقاد محدودبة ولعل المراد به موضع مخصوص . و « الرقمتين » مثنى رقمة

« 29 »
 
والرقمة الروضة وجانب الوادي أو مجتمع مائه . و « لعلع » السراب وجبل وموضع وماء بالبادية وشجر حجازي . و « شظا » جبل .
 
الإعراب :
إذا : ظرف لما يستقبل من الزمان وتجيء للماضي وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [ الجمعة : الآية 11 ] وللحال وذاك بعد القسم نحو وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ( 1 ) [ الليل : الآية 1 ] ، وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ( 1 ) [ النجم : الآية 1 ]
وناصبها شرطها أو ما في جوابها من فعل أو شبهه وأثيل : مفعوله مضاف إلى سلع . وقوله فالنقا : معطوف على المضاف أي وإذا أتيت النقا وكذا الكلام في الرقمتين وما بعدها عن العلمين وهما مثنى علم محركا وهو الجبل الطويل أو عام .
وقوله من شرقيه : يحتمل أن يكون المراد من شرقي شظا ، أي وإذا أتيت جانبا متجاوزا عن العلمين متجانبا عنهما حال كون العلمين من شرقي شظا .
وقوله مل : جواب إذا على حذف الفاء الرابطة ، أي إذا أتيت هذه الأماكن فمل حال كونك عادلا للحلة بكسر الحاء وهي هنا مكان العرب النزول . والفيحاء : الواسعة يعني إذا أتيت يا راكب الوجناء هذه الأماكن فمل واعدل إلى الدار الواسعة التي ينزل بها من أحبه ومن أجل أهليها تحب المنازل .
 
[ المعنى ]
( ن ) : الخطاب لراكب الوجناء وأثيل سلع ، كناية عن مقام من المقامات المحمدية الناشئة من الكشف عن الحقيقة النورية . والنقا ، كناية ، عن مقام محمدي تتبين الأحوال فيه لصاحبه لأن الرمل غير ملتصق الأجزاء . والرقمتين ، كناية عن مقام محمدي متداخل مع مقام آخر نتبين فيه الأحوال كالوشى في الثوب . ولعلع ، كناية عن مقام محمدي جامع . وقوله فشظا ، اسم جبل مقام آخر محمدي جامع .
وقوله فكذا : أي مثل ذا المذكور وهو التنقل في المقامات والمنازل المحمدية التي بعضها فوق بعض وأكشف من بعض وأشار بالعلمين إلى المأزمين وهما الجبلان بين عرفة والمزدلفة .
وقوله من شرقيه ، أي شرقي شظا ، كناية عن مقام جمع الجمع المشتمل على الفرق والجمع فإنهما علمان عظيمان من شرقي شظا وشظا القوم خلاف صميمهم وهم الاتباع والدخلاء عليهم بالحلف فإن هذين العلمين من جنس ما هم فيه الاتباع والدخلاء من المريدين في ابتداء سلوكهم من عدم الثبات على جمع أو فرق .
وكنى بالحلة عن منازل العارفين الكاملين المحمديين ثم وصفها بالاتساع لكمال الكشف فيها عن الملك والملكوت والجبروت . اهـ .
09 - وأقر السلام عريب ذيّاك اللّوى *** عن مغرم دنف كئيب نائي
 


« 30 »
 
اعلم أنه يقال قرأ عليه السلام يقرأ مثل سال يسال فكان مقتضى القياس أن يقال « واقرا السلام » مثل واقرا القرآن لكن خفف بتخفيف الهمزة ألفا وتحذف الألف في الأمر فيصير وأقر السلام كما هنا ، و « السلام » في الأصل من أسماء اللّه تبارك وتعالى ، وبمعنى السلامة والبراءة من العيوب فيكون هنا بمعنى السلامة كأنه دعاء لمن يسلم عليه بالسلامة وهو معنى الأمان لأنه إيذان من المسلم بأنّ المسلم عليه سالم منه آمن من شرّه .
و « العريب » تصغير عرب وهو للنجيب . و « ذياك » تصغير ذلك على غير قياس . و « اللوى » كالي ما التوى من الرمل أو مسترقه .
و « المغرم » على صيغة اسم المفعول أسير الحب . و « دنف » بفتح الدال المهملة وكسر النون صفة مشبهة على وزن فرح من ثقل في مرضه والمرض هنا من الحب . و « الكئيب » فعيل من الكآبة وهي الحزن . و « النائي » من النأي وهو البعد .
 
الإعراب :
ظاهر لأن فاعل اقرأ : ضمير المخاطب . والسلام وعريب : مفعولاه .
وعن مغرم متعلق باقرأ والكل صفات لموصوف محذوف إذ المعنى عن رجل مغرم كئيب ناء .
 
والمعنى :
مل إلى تلك الحلة الواسعة وأبلغ تحيتي لمن أحبهم من العرب المقيمين بذاك اللوى ، وليكن الإبلاغ عني مع بيان ما عندي من الحبّ والمرض والحزن والبعد عنهم .
 
( ن ) : قوله عريب ذياك اللوى ، إشارة إلى أهل المعارف والحقائق الذين كنى عنهم بالحلة الفيحاء في البيت قبله . واللوى ، كناية عن المقام المحمدي الجامع .
وقوله عن مغرم ، يعني نفسه لكمال اشتياق الجنس إلى جنسه . اهـ .
 
10 - صبّ متى قفل الحجيج *** تصاعدت زفراته بتنفّس الصّعداء
11 - كلم السّهاد جفونه فتبادرت *** عبراته ممزوجة بدماء
 
[ الاعراب والمعنى ]
« صب » بالجرّ صفة لموصوف . مغرم في البيت قبله ويجوز رفعه ، أي هو صب ونصبه أي أعني صبّا . « متى » ظرف زمان والصب المشتاق . و « قفل » رجع ومنه القافلة لرجوعها ويقال للذاهبة قافلة تفاؤلا برجوعها . و « الحجيج » أي القوم الحاجون .
 
و « تصاعدت » أي رقت إلى الجهة الفوقية شيئا بعد شيء . و « زفراته » أي أنفاسه التي أخرجها بعد مده إياها . وقوله « بتنفس الصعداء » بيان لكيفية تصاعد زفراته .
 
و « الصعداء » على وزن البرحاء النفس الطويل أي تصاعدت أنفاسه عند رجوع الحجيج لكن بالأنفاس الطويلة الممدودة الصاعدة إلى الجهة العالية مفتوحة أبوابها غير مسدودة

« 31 »
 
وقد قلت فيما يقارب المراد بعون اللّه رب العباد :
وتنفس الصعداء ليس شكاية * مني لهجرك يا ضياء الناظر
لكن بقلبي من جفاك تألم * فأرى بذلك راحة للخاطر
 
والمعنى :
هو صب مشتاق موصوف بأنه متى رجع ركب الحج تتابعت أنفاسه صاعدة إلى الجهة العلوية ممتدّة التطويل يستدل بنفسها الضعيف على القلب العليل .
قوله « كلم السهاد » أي جرح مأخوذ من الكلم بفتح الكاف وسكون اللام ، بمعنى الجرح .
و « السهاد » بضم السين الأرق . « جفونه » جمع جفن وهو غطاء العين من أعلى وأسفل جمعه أجفان وأجفن وجفون وهو بفتح الجيم ويستحسن فيه الكسر . وقوله « فتبادرت » أي أتت عجلة .
والعبرات : جمع عبرة بفتح العين مع سكون الباء في المفرد وفتحه في الجمع وهو الدمعة قبل أن تفيض أو تردّد البكاء في الصدر أو الحزن بلا بكاء . ويقال استعبر ، أي جرت عبراته . والممزوج ، على صيغة اسم المفعول المخلوط من المزج بمعنى الخلط . و « الدماء » بكسر الدال جمع دم بالتخفيف وتشديده لغة قليلة .
 
الإعراب :
كلم : فعل ماض . السهاد : فاعله . وجفونه : مفتوحة منصوبة لسهرها . وقوله فتبادرت : معطوف على كلم والفاء في فتبادرت ، إشارة إلى أن تبادر العبرات ممزوجة بالدم مسبب عن كلم السهاد لجفونه إذ لا ريب في أن جرح الجفون يعقبه خروج الدمع مخلوطة بالدم . وقد قلت فيما يقرب من ذلك :
رمى فأصمى الحشى مني وما علما * حتى رأى مقلتي القرحى تفيض دما
 
وقلت أيضا في مثل ذلك من أبيات خمسة :
وليس عجيبا أن دمعي أحمر * وفي باطني جرح ومن ناظري رشح
 
وما أحسن ما أشار إليه القاضي أبو بكر ناصح الدين الأرّجاني حيث قال :
دم القلب في عيني وتسخو بمائها * فقل في إناء لا بما فيه راشح
 
وعبراته : مرفوع على أنه فاعل تبادرت . وممزوجة : بالنصب حال من عبراته .
وقوله بدماء : متعلق بقوله ممزوجة ، وإنما كتبنا البيتين معا وتكلمنا عليهما جميعا لأن كلا منهما متعلق بوصف الصب لأن جملة كلم السهاد جفونه من وصفه ، أي هو موصوف بأنه قد جرح سهده الليالي جفونه .

« 32 »
 
( ن ) : كنى بالحج ، عن قصد الحضرة الإلهية والتوجه القلبي إلى التحقق بالوجود الحق الحقيقي المتجلي بالأعيان الكونية بعد الإحرام والتجرد بالفناء الأصلي عن نسبة الوجود للتقادير العدمية ، والحجيج هم العارفون بأنفسهم وبربهم على الكمال ورجوعهم هو عودهم إلى ما كانوا فيه من العادات والعبادات في الفرق الثاني بعد الجمع . وقوله بتنفس الصعداء ، تأسف منه وتحسر على تحصيل تلك المقامات العلية والتملي بهاتيك التجليات الربانية . وذلك في ابتداء مسلوكه في الطريق وظهور بوارق التوفيق . اهـ .
 
12 - يا ساكني البطحاء هل من عودة *** أحيا بها يا ساكني البطحاء
13 - إن ينقضي صبري فليس بمنقض *** وجدي القديم بكم ولا برحائي
14 - ولئن جفا الوسميّ ماحل تربكم *** فمدامعي تربي على الأنواء
15 - واحسرتي ضاع الزّمان ولم أفز *** منكم أهيل مودّتي بلقاء
16 - ومتى يؤمّل راحة من عمره *** يومان يوم قلى ويوم تنائي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الساكنون » هنا القاطنون . و « البطحاء » والأبطح مسيل واسع فيه دقاق الحصى جمعه أباطح وبطاح وبطائح وتبطح السيل اتسع في البطحاء وقريش البطاح الذين ينزلون بين أخشبي مكة . و « هل » حرف استفهام لطلب التصديق فقط . و « من » زائدة للنص على استغراق إفراد العودة .
 
وقوله « أحيا » يجوز أن يكون بفتح الهمزة على أنه مضارع من حيى كرضى يحيى كيرضى وهي همزة المفرد المتكلم ويجوز كون الهمزة مضمومة على أن المراد أحيا ، أي أصير حيّا على أنه مضارع مجهول من أحياه اللّه تعالى فهو يحيى وأنا أحيا ونائب فاعله ضمير المتكلم . و « بها » متعلق بالفعل .
وقوله « يا ساكني البطحاء » ردّ العجز على الصدر وهو من محاسني التكرار لوقوعه في غاية الحلاوة وفي نهاية الطلاوة . « إن » بكسر الهمزة وتخفيف النون حرف شرط .
 
و « ينقضي » فعل الشرط وكان الواجب فيه حذف الياء وكسرة الضاد دليل عليها لكونه معتلا بالياء مجزوما بحذفها لكن أشبعت بالكسرة المذكورة فتولدت منها ياء لأجل الوزن على حدّ قوله تبارك وتعالى : إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [ يوسف : الآية 90 ]
وجملة « فليس بمنقض وجدي القديم بكم ولا برحائي » جواب الشرط في محل جزم .
 
و « ليس » فعل ماض يرفع الاسم وينصب الخبر . و « ليس » وإن كانت في الأصل لنفي الحال إلا أن المراد منها هنا النفي مطلقا لأن المقام يقتضي ذلك وأصله ليس على وزن فرح فكان مقتضى القانون الصرفي أن تقلب ياؤه ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها

« 33 »
 
لكن لما كانت فعلا غير متصرف آثروا فيها عدم التصرّف واكتفوا في التخفيف بسكون الباء . و « وجدي » اسمها . و « القديم » مرفوع على أنه صفته . و « بكم » متعلق بوجدي .
 
( ن ) : والباء ، للسببية . اهـ . ولا برحائي ، بالإضافة إلى ياء المتكلم عطف على وجدي ، والبرحاء الشدّة . وبمنقض ، خبر ليس مقدم . والباء فيه زائدة لتأكيد النفي المفهوم من ليس ، أي ليس وجدي القديم منقضيا . وكذا الكلام في قوله ولا برحائي ، أي وليست برحائي القديمة بكم منقضية .
 
والمعنى :
إذا كان صبري قد انقضى فوجدي بكم ما مضى ، فعلم أن الوجد أكثر من الصبر كما قلت مشيرا إلى هذا المعنى من أبيات لطيفة .
وأنفقت صبري والغرام بحاله * فحققت أن الحبّ أكثر من صبري
وما ألطف قول من قال ، وأجاد في المقال :
ومصبر للصبّ قلت له وهل * صبر لمن عنه الحبيب يغيب
واللّه إن الشهد بعد فراقهم * ما لذّ لي فالصبر كيف يطيب
ولئن : اللام موطئة للقسم . وإن : شرطية أي أقسم باللّه لئن جفا الوسمي .
والوسمي : بياء النسبة والمنسوب إلى الوسم وهو المطر الأوّل الذي يسم الأرض أي يعلمها وما بعده يقال له الوليّ لأنه يلي ما قبله وإلى ذلك أشار المتنبي حيث قال :
بغير وليّ كان عارضها الوسمي
 
أي كان أوّل مطرها بغير ثان يشير بالمطر إلى وصلها ، أي وصلتنا المرأة الأولى ولم تعد الوصال ثانية وما أحلى تشبيه الوصال بالمطر على الأرض اليابسة يسمها .
والماحل : الذي انقطع عنه المطر وإضافة لفظة ماحل إلى تربكم من إضافة الصفة إلى الموصوف . والترب : بضم التاء المثناة من فوق وسكون الراء بمعنى التراب المفرد .
وقوله فمدامعي : الفاء رابطة للجواب . ومدامعي : مبتدأ . وجملة تربي على الأنواء خبره .
 
وتربي من أربى على وزن أفعل يفعل مثل أكرم يكرم بمعنى تزيد مأخوذ من الرباء وهو الزيادة . والأنواء : جمع نوء وهو النجم مال للغروب جمعه أنواء أو سقوط النجم في المغرب مع الفجر وطلوع آخر يقابله من ساعته في المشرق . والمراد به هنا المطر النازل عند سقوطه بقرينة المقام .
 
المعنى :
إن كان قد جف المطر الوسمي الذي يسم الأرض أي يعلمها بسقوطه عليها لكونه أوّل مطر نازل عليها فمدامعي زائدة على الأمطار التي تحصل عند سقوط

« 34 »
 
النجم كما هو معلوم فهي تنوب مناب الحيا ، وتروي الظامئين في سائر الأحيا . قوله وا حسرتي : وا هنا للندية ، أي يندب حلول حسرته وحصول حرقته .
قوله ضاع الزمان ، أي لم أحصل من زماني مراما حيث لم أركم ولا مناما .
وقوله ولم أفز إلى آخر البيت ، جملة حالية لقوله ضاع أي ضاع الزمان حال كوني غير فائز منكم يا أهيل مودّتي القريبين من محبتي بلقاء .
وما ألطف قوله وا حسرتي ، أوّلا ويذكر بعده ضياع الزمان وأنه لم يفز من أهل مودّته باللقاء . ولم يزل عن قلبه بذلك تعب ولا شقاء .
 
ولك أن تقول جملة قوله ولم أفز : جملة معطوفة على جملة قوله ضاع الزمان والمناسبة حينئذ بين الجملتين المتعاطفتين ظاهرة .
وقوله بلقاء : متعلق بقوله لم أفز ، ومنكم في الأصل صفة للقاء ، أي بلقاء كائن منكم وجملة أهيل مودّتي جملة دعائية معترضة بين المتعلق والمتعلق . ومتى يؤمل راحة من عمره ، متى : هنا استفهامية أي لا يؤمل لأنه استفهام إنكاري . ويؤمل : على وزن يفرح . والراحة : ضد التعب .
 
ومن : بفتح الميم اسم موصول محله الرفع على أنه فاعل يؤمل وراحة بالنصب مفعوله مقدم . وعمره : مبتدأ . ويومان : خبره .
وقوله يوم قلى : برفع يوم المضاف إلى قلى على أنه بدل التفضيل من الإجمال من المثنى . ويوم تنائي : كذلك معطوف على البدل المذكور فهو بدل أيضا .
 
والمعنى : لا يؤمل ولا يتراجى راحة ولا سرورا الرجل الذي جميع عمره منحصر في يومين : أحدهما للقلى وهو البغض والثاني يوم التنائي وهو البعد .
 
ومن المعلوم أن من يجد القلى من حبيبه لا يجد راحة ولا تخلو له من التعب ساعة . وكذا من يبعد عن أحبابه وينأى عن أصحابه كيف يجد السرور في عمره أو يصادف النعيم في إقامته أو سفره . وما ألطف قوله ومتى يؤمل ، أي لا يؤمل فإذا انتفى من المراد ترجيه ومن المرام تمنيه فانتفاء الحصول من باب أولى فكأنه يقول لا طمع في الراحة أصلا ولا سبيل إلى أن الفكر يترقبها لا سرعة ولا مهلا . ومن المعلوم أن هاتين الصفتين تورثان أشد العذاب وأفظع العقاب . أما القلى، فإنه أعظم البلا وأما البعاد فنار الأكباد وعلى كل تقدير فالقرب أولى من البعاد.
 
قال ابن عنين :
لا تجمعنّ عليّ عتبك والنوى * حسب المحب عقوبة أن يهجرا
لو عاقبوني في الهوى بسوى النوى * لرجوتهم وطمعت أن أتصبرا
عبء الصدود أخف من عبء النوى * لو كان لي في الحب أن أتخيرا

« 35 »
 
وما أحسن قول ابن الخياط الدمشقي :
يا عمر وأيّ خطير خطب لم يكن * خطب الفراق أشد منه وأوبقا
كلني إلى عنف الصدود فربما * كان الصدود من النوى بي أرفقا
 
وما ألطف قوله رضي اللّه تعالى عنه في قصيدته اللامية التي تفوق على اللاميتين :
وكيف أرجى وصل من لو تصوّرت * حماها المنى وهما لضاقت به السبل
 
( ن ) : كنى بالساكنين بالبطحاء عن الأولياء العارفين بربهم المراقبين للحضرة الإلهية وهم المشايخ الكاملون المحققون . وقوله هل من عودة ، يعني إلى ذلك المقام السامي والسر النامي . وقوله أحيا بها ، أي تظهر بها حياتي الحقيقية لي وهي الحياة الإلهية لأني أنا في نفسي ميت من جهة نفسي . كما قال تعالى : إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ( 30 ) [ الزّمر : الآية 30 ]
والتشوق إلى الكاملين من أهل المعرفة الإلهية تشوّق إلى الظاهر بهم المتجلى عليهم فلا يظن أحد أنه ميل إلى الأغيار .
 
وقوله وا حسرتي ، إلى آخر البيت يعني أن مدّة عمره انقضت ولم يتحقق على وجه الكمال بالكشف التام على وجه الوجود الحق الظاهر على كل شيء فهو يتحسر ويتلهف ويتأسف على ذلك في ابتداء سلوكه . وقوله ومتى يؤمّل راحة ، إلى آخر البيت يعني أن جميع عمره منقسم إلى قسمين يوم يظهر له فيه بغض المحبوب الحق بعلامة صدور التقصير منه في طاعته ويوم يظهر له فيه تباعده عنه بظهور الغفلة له عنه في قلبه وهذه كلها أتعاب يقاسيها فكيف يؤمّل مع ذلك أن يجد راحة في مجموع عمره فضلا عن أن يجد ذلك . اهـ .
 
17 - وحياتكم يا أهل مكّة وهي لي *** قسم لقد كلفت به أحشائي
18 - حبّيكم في النّاس أضحى مذهبي *** وهواكم ديني وعقد ولائي
 
« كلف » بالشيء على وزن فرح أولع به وأكلفه غيره . و « الأحشاء » جمع حشى وهو ما في البطن . و « أضحى » هنا بمعنى صار . وإن كان في الأصل بمعنى اتصاف الاسم بالخبر في وقت الضحى . و « الولاء » بفتح الواو والموالاة المحبة .
 
الإعراب :
وحياتكم : قسم . ولقد كلفت أحشائي : جوابه وما بينهما اعتراض .
وحبيكم : مبتدأ وهو مصدر مضاف لفاعله . والكاف : مفعوله إذ المراد حبي إياكم .
وقوله في الناس : ظاهره حشو وعند التأمل له فائدة وهي الإشارة إلى أن حبهم مذهبه

« 36 »
 
المشهور بين الناس الذي يفتخر به فيهم . وأضحى : اسمها المرفوع وضمير فيها يعود إلى حبيكم . ومذهبي : خبرها والجملة مرفوعة المحل على الخبرية . وهواكم : مبتدأ .
وديني : خبر . وعقد ولائي : خبر لعطفه على الخبر .
المعنى :
يقسم بحياة أهل مكة ويناديهم ويخبر بأن حياتهم قسم له يحلف به دائما بأن أحشاءه وما في باطنه قد تولعت بحبهم وأن مذهبه المشهور ودينه المبرور حبهم وهواهم وودهم وولاهم .
 
( ن ) : قوله يا أهل مكة ، خطاب لأهل اللّه المراقبين لتجلياته تعالى في كل شيء فإن حياتهم المقسم بها هي حياة ربهم لأنهم موتى من طرف نفوسهم على كشف منهم وشهود بصيرة .
وكنى بأحشائه عن نفسه وقلبه فإن محبته لهم كناية عن محبته لربه الحق المتجلي بهم فإنهم عنده مظاهر ربه تعالى على الكشف والوجدان . اهـ .
 
19 - يا لائمي في حبّ من من أجله *** قد جدّ بي وجدي وعزّ عزائي
20 - هلّا نهاك نهاك عن لوم امرئ *** لم يلف غير منعّم بشقاء
21 - لو تدر فيم عذلتني لعذرتني *** خفّض عليك وخلّني وبلائي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« من » موصولة أو نكرة موصوفة . و « من » حرف جر متعلق بقوله جدّ . و « وجدي » فاعله والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة أو في محل جر على أنها صفة المضاف إليها أعني من . وقوله « عز عزائي » معطوفة على جد بي وجدي إذ المراد يا من يلومني في حب الذي جد بي وجدي لأجله وعزّ بي صبري لأجله . و « الوجد » الحزن والحب . و « العزاء » بفتح العين والمد الصبر ومنه التعزية إذ هي التصبر على الفائت . و « عز » بمعنى قل وجوده . و « هلا » حرف تحضيض وهو طلب بإزعاج .
 
و « نهاك » فعل ماض من النهي . و « نهاك » بالضم جمع نهية وهي العقل وما أحسن قول الزمخشري في النصائح عقلك ليعقلك وحجرك ليحجرك ونهيتك لتنهاك . و « لم يلف » لم يوجد وفي الفعل ضمير مستتر هو نائب الفاعل يعود إلى امرئ . و « غير » مفعول ثان لأن ألفي يتعدى إلى مفعولين والاستثناء مفرغ إذ المراد لم يوجد إلا وهو منعم بالشقاء فالذي يرى الشقاء نعيمه فكيف يرعوي إلى عذل العاذلين أو ينتهي بنصح الناصحين . قوله « لو تدر » الفعل وقع هنا محذوف الياء وهذا شأن الفعل المجزوم .
 
و « لو » ليست جازمة إلا أن بعضهم جوّز الجزم بها على قلة لما فيها من معنى الشرط .
وقوله « لعذرتني » جواب لو . وقوله « فيم عذلتني » معترضة بين الشرط وجزائه و « فيم » متعلق بعذلتني ، والاستفهام إنكاري إذ المعنى أنت لا تعرف حالي . فإن كنت تعرف

« 37 »
 
ذلك ففيم عذلتني بين لي ذلك . قوله « خفض » أي اجعل همتك العالية في عذلي منخفضة وتنزل عن هذه المرتبة في العذل واتركني وبلائي أي اجعلني مصاحبا لبلائي ولا تدخل بين العصا ولحائها :
فلا تدخلوا بيني وبين جفونه * إذا تدخلوا بين المهند والغمد
 
ومفعول تدري محذوف أي لو تدري محبتي لهذا الحبيب الذي لمتني فيه لعذرتني ، وما عذلتني ولكنك لا تعرفه فإن كنت تعرفه فقل لي في أي شي عذلتني بيّنه لي إن كنت قادرا والمانع من تعليق فيم عذلتني بتدري ، وجهان الأول أن تدري يتعدى بنفسه لا بحرف نحو في الثاني أن تعلقه بما قبله يمحو عنه رسم الصدارة فافهم وهذه الأبيات الثلاثة عجب عجاب .
وفيها الرقة التي تسبي أولي الألباب يقول : يا من يلومني في حب حبيب قد جد بي فيه وجدي العجيب .
 
وقل صبري وزاد مني النحيب هلا نهاك عقلك يا أديب عن لوم صب حاله غريب يتنعم بما فيه الشقاء للبعيد والقريب .
فمن كان متصفا بذلك ويحيا بما فيه الغير هالك فقد ضاعت فيه النصيحة وطابت له الفضيحة ورضي بالقصة الشنيعة دون المليحة فدعه فإنه رأى التعب مريحه وخفف ما عندك من الهمة العالية في نصيحة نفسه الفانية ودعه وغرامه وقلل نصيحته وملامه وأغرب من ذلك أنك لا تعلم من يهواه وليس عندك خبر من هواه والحكم على الغائب شاهد عليك بالمعايب لأن ذلك في مذهب الهوى خلل وهو عند أرباب المعارف وأهل الهوى جلل .
 
أوما سمعت قول القائل :
إن لامني من لا رآه فقد * جار على الغائب في الحكم
وإن لحاني من رآه فقد * أضله اللّه على علم
 
وفي الأبيات جناس التحريف بين من ومن ، فالأول بفتح الميم والثاني بكسرها وجناس شبه الاشتقاق بين جد ووجدي ، وشبهه أيضا بين عز وعزائي ، وفيها جناس الاشتقاق بين نهاك ونهاك ، وفيها الطباق بين النعيم والشقاء ، والجناس المضارع بين عذلتني وعذرتني ، لقرب المخرج ببين الراء واللام .
 
( ن ) : والمعنى لو أنك تدري يا أيها اللائم بسبب ، أي أمر عظيم عذلتني لعذرتني في عدم إطاعتك فإن محبة الحق تعالى الظاهر لي بتجليه في المظاهر أمر عظيم هو كمال في حقي ونجاة لي في الدارين ودخول تحت قوله تعالى : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ المائدة : الآية 54 ] الآية . اهـ .

« 38 »
 
22 - فلنازلي سرح المربّع فالشّبيكة ***  فالثّنيّة من شعاب كداء
23 - ولحاضري البيت الحرام وعامري  ***  تلك الخيام وزائري الحثماء
24 - ولفتية الحرم المريع وجيرة *** الحيّ المنيع تلفّتي وعنائي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« السرح » بالسين المهملة والراء والحاء المهملة شجر عظام وكل شجر لا شوك فيه وكل شجر طال وفناء الدار . و « المريع » على وزن معظم اسم موضع في بلاد الحجاز . و « الشبيكة » على وزن جهينة واد قرب العرجاء وموضع قرب مكة والزاهر ومياه لبني سلول . و « الثنية » العقبة أو طريقها أو الجبل أو الطريقة فيه أو إليه .
 
و « الشعاب » على وزن كتّاب جمع شعبة بالضم وهو صدع في الجبل يأوي إليه المطر .
و « كداء » على وزن سماء الجبل الذي بأعلى مكة ومنه دخل النبي صلى اللّه عليه وسلم .
و « الحثماء » في آخر البيت الثاني بقية في الوادي من الرمل . و « الفتية » بكسر الفاء الشبان . و « المريع » كالخصيب وزنا ومعنى . و « الحي المنيع » الممنوع ممن يريد به سوءا . و « العناء » في آخر البيت التعب .
 
الإعراب :
 تلفتي : مبتدأ . وعنائي : معطوف عليه . وقوله فلنازلي : خبر . وقوله ولحاضري البيت الحرام : وما عطف عليه من قوله ولفتية الحرم المريع في حيز الخبر أيضا ، إذ المراد وتلفتي وعنائي لنازلي سرح المريع وتلفتي وعنائي لحاضري البيت الحرام ولعامري تلك الخيام ولزائري الحثماء وتلفتي وعنائي لفتية الحرم المريع ولجيرة الحي المنيع فلا ألتفت إلا إليهم ولا أنصب إلا عليهم فهم مرادي من الزمان ومقصدي في كل أوان .
 
وما ألطف مراعاة السجع في قوله ولحاضري البيت الحرام ، وعامري تلك الخيام ، وكذا قوله ولفتية الحرم المريع ، وجيرة الحي المنيع ، ولعمري أن تشوقه إليهم وتشوفه لأن يرد عليهم هو المرام لأرباب العقول وهو النهاية لكل طالب ومطلوب .
 
( ن ) : الأماكن المذكورة في البيت الأول كناية عن منازل إلهية يتجلى بها الحق تعالى لأهل المعرفة والتحقيق وذوي الكشف والوجدان من خير فريق وكنى بالحاضرين في بيت اللّه الحرام عن أصحاب الحضور مع اللّه تعالى أقطاب المقامات أهل الشهود والعرفان فإنهم مظاهر كاملون لتجلي حضرة الرحمان .
وقوله وعامري تلك الخيام ، إشارة إلى المسافرين إلى حضرة الحق تعالى من المريدين السالكين في طريق اللّه تعالى الذين هم تحت خيام النفوس السعيدة التي هي في كل وقت جديدة وفي ظل اللّه الذي لا ظل إلا ظله ولا نوال إلا وابله وطله . وقوله وزائري الحثماء ،

« 39 »
 
لعله يشير بذلك إلى الصخيرات التي في عرفات ويكني بزائريها عن أهل الموقف بعرفة كناية عن الواقفين على سر الوجود الحق الساري بلا سريان في جميع الأعيان الكونية ملكها وملكوتها وجبروتها . وقوله ولفتية الحرم ، يكني بذلك عن المريدين المبتدئين في سلوك طريق اللّه تعالى . وكنى بالحرم ، عن حضرة التكليف الشرعي الذي تلك الفتية فيه لصدق عبوديتهم وخلوص سرائرهم وكمال خدمتهم لأحكام ربهم .
وقوله المريع وصف للحرم بمعنى المخصب . كنى بذلك عن زيادة الإمداد الإلهي في ذلك الحرم ونتائج الخير والجزاء الوافي . وكنى بجبرة الحي عن المحبين المعتقدين في أولياء اللّه الصالحين بأعيانهم من عامة الناس فإن المرء مع من أحب وكون الحي منيعا ، أي محصونا بحصن اللّه تعالى . وقوله تلفتي وعنائي ، أي تعبي من الاعتناء بمن ذكر والاشتغال بهم ومشاهدة الحق تعالى بتجلياته بظواهرهم وبواطنهم . اهـ .
 
25 - فهم هم صدّوا دنوا وصلوا جفوا *** غدروا وفوا هجروا رثوا لضنائي
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « فهم هم » اعلم أن مثل هذا التركيب مشكل بحسب الظاهر لأن المتبادر من التركيب اتحاد المبتدأ والخبر فيكون ممنوعا لأن اتحادهما يمنع صحة الحمل بينهما والجواب أن الشرط في الموضوع ومحموله أن يتحدا باعتبار ما صدقا عليه وأن يختلفا باعتبار المفهوم كقولك زيد قائم ، وههنا الأمر كذلك هم هم الأولون الذين أعرفهم بالوفاء وأعهدهم بموارد الصفاء ، أي هؤلاء قومي المذكورون هم الذين عهدتهم لم يتغيروا عن وصفهم الأول الذين هم الآن عليه وعليه المعول فهو على حد قول الشاعر :
أنا أبو النجم وشعري شعري
 
أي الذي كنت تعهده من شعري هو الآن بعينه وفي المعنى قول مؤيد الدين الطفرائي من قصيدته المعروفة بلامية العجم :
مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع * والشمس راد الضحى كالشمس في الطفل
ومعنى البيت يرجع إلى أنه محب لهم على حالاتهم في الدنو والصد وفي الجفاء والوصل وفي الوفاء والغدر والهجر والترحم لما عند المحب من الضنا المقيم والجسم السقيم .
 
قوله « صدوا دنوا » هكذا رأيته في بعض النسخ وهو وإن كان تحصيل الطباق فيه ممكنا بإرادة البعد من الصد لما أن الصد بمعنى الإعراض والإعراض بعد معنوي أو أنه يؤوّل الصد بالبعد الحقيقي لأن الصد يجر إلى البعد ولو بعد حين

يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح أرج النّسيم سرى من الزّوراء الأبيات من 01 إلى 50 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:24 pm

شرح أرج النّسيم سرى من الزّوراء الأبيات من 01 إلى 50 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة أرج النّسيم سرى من الزّوراء الأبيات من 01 إلى 50
« 40 »
ويشهد للأول قول القائل :
حبيب نأى وهو القريب المصاقب * وسخط نوى لم تنض فيه الركائب
فقد سمى الحبيب وهو جار ملاصق قريب نائيا وجعل نواه بعدا لكن وصفه بأنه لم يتعب الركائب ولم يهزلها بالسير إلى قصد الحبيب لكونه بعيدا في المعنى وهو في الظاهر قريب وفي البيت الطباق بين الصد والدنو على ما ذكرناه وبين الوصل والجفاء وبين الغدر والوفاء وبين الهجر والرحمة لكن النسخ الكثيرة على أن يكون البيت هكذا فهم هم بعدوا دنوا وعلى هذه النسخة لا يحتاج تحصيل الطباق إلى تأويل فاعلم ذلك .
 
26 - وهم عياذي حيث لم تغن الرّقى *** وهم ملاذي إن عدت أعدائي
27 - وهم بقلبي إن تناءت دارهم عنّي *** وسخطي في الهوى ورضائي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« العياذ » بكسر العين المهملة وآخرها ذال معجمة مصدر عاذ به عياذا ومعاذا والمعاذة والتعوذ والكل بمعنى الالتجاء فعلى هذا يكون العياذ بمعنى اسم المفعول أي هم أحبابي الذين التجىء إليهم في المهمات وأعوذ بهم في الملمات . و « حيث » ظرف للمكان مبنية على الضم أو الفتح أو الكسر والضم أرجح .
وقوله « لم تغن الرقى » أي لم تفد العوذات فإن « الرقى » بضم الراء وفتح القاف وآخرها ألف مقصورة جمع رقية وهي العوذة أي ما يتعوذ به الإنسان أي أنا أعوذ بهم إذا لم تنفعني رقية ولم تفدني عوذة . قوله : « وهم ملاذي » الملاذ الحصن ، أي هم حصني الذي أتحصن به إذا عدت أعدائي عليّ . وما أحسن قوله « وهم عياذى » و « هم ملاذي » .
 
قوله « وهم بقلبي » مبتدأ وخبر وهو دليل جزاء الشرط الذي هو « إن » إذ المراد : إن تناءت دارهم فهم بقلبي . يعني فإنهم مقيمون بقلبي . و « عني » متعلق بتناءت .
 
قوله « وسخطي » معطوف على الخبر أي هم بقلبي وهم سخطي وهم رضائي في مذهب الهوى لأنهم إن رضوا عني فهم رضائي وإن سخطوا عليّ فهم سخطي ولا يخفى المبالغة في الحكم عليهم بأنهم عين سخطه ورضائه وهذان البيتان يتضمان غاية انتسابه إليهم وخضوعه بين يديهم حيث كانوا عياذه حيث لم تفده الرقى ، وملاذه عندما تعدى عليه أهل العداوة والشقا وهم المقيمون منه في داخل الفؤاد وهم سبب رضاه وسخطه في حالتي القرب والبعاد .
 
( ن ) : المعنى أن حقائق هؤلاء المذكورين حيث بهم تجلى على الحق تعالى عياذى وحفظي واعتصامي من جميع المؤذيات في الدنيا والآخرة حيث لا تنفع الرقى والتعويذات وهم حصني عند الشدائد وهجوم المصائب . وقوله وهم بقلبي ، أي

« 41 »
 
حاضرون به لا يغيبون عنه من حيث حقائقهم الراجعة إلى حقيقة واحدة متجلية بأسمائها الحسنى وصفاتها العليا . وقوله إن تناءت دارهم عني ، أي إن بعدت عن ملاحظتي ومشاهدتي وإدراكي صورهم الروحانية والجسمانية التي هي مظاهر تلك الحقيقة الواحدة المذكورة :
 
28 - وعلى محلّي بين ظهرانيهم *** بالأخشبين أطوف حول حمائي
 
قوله « بين ظهرانيهم » أي في وسطهم وفي معظمهم ، قال في القاموس وهو بين ظهريهم وظهرانيهم ولا تكسر النون وبين أظهرهم أي في وسطهم وفي معظمهم .
و « الأخشبان » جبلا مكة وجبلا منى وحمائي في آخر البيت ممدود هو ما يحمي من شيء ما واعلم أن القصر فيه هو الأكثر والمد فيه لغة قليلة .
 
الإعراب :
على محلي : متعلق بقوله أطوف . وبين ظهرانيهم : حال من محلي أي أطوف على محلي كائنا في وسطهم ومعهم . والباء في بالأخشبين : ظرفية ويمكن أن يكون حالا ثانية من محلي فتكون الحال الأولى مبينة كون محله بينهم ومعهم والثانية بين أن ذلك المحل في الأخشبين . وحول : ظرف مضاف إلى الحمى والمعنى أطوف مرة بعد أخرى حول حمائي مفتشا على محلي لأن محله واستقراره بينهم في ذلك الموضع الشريف قد ضاع منه فهو يطوف عليه ويتفحص عنه كما قال القائل :
ضل من تهواه عنها * فهي تبكي وتطوف
أي تطوف متفحصة عنه مفتشة عليه وقال الآخر :
الورد ضاع بخدّه * وأنا عليه دائر
 
[ المعنى ]
( ن ) : محله حاله ومقامه في درجات القرب الإلهي . وكنى بالأخشبين عن مقامي الفرق والجمع . ويشير بالحمى إلى حمى الكعبة المشرفة وهو الحرم المحترم الذي من دخله كان آمنا كناية عن المعمور بمعرفة ربه تعالى صاحب الحضور التام فإن كل من وقع في خاطره من الناس أمن كل سوء لأنه حرم آمن وقبلة بيت اللّه ولهذا أضاف الحمى إلى ياء المتكلم وطوافه فيه بالأخشبين كناية عن جمعه بين مقام الجمع والفرق وذلك كله محله بين أصحابه من العارفين الكاملين أهل التحقيق بالحق . اهـ .
 
29 - وعلى اعتناقي للرّفاق مسلّما *** عند استلام الرّكن بالإيماء
 
الاعراب
أي وأطوف على اعتناقي للرفاق حال كوني مسلما بالإيماء عند استلام الركن في الطواف . فيكون قوله « وعلى اعتناقي » معطوفا على محلي لأن تفتيشه على استقراره

« 42 »
 
وعلى اعتناقه فهما وصفان وجدا منه ثم فقدا فهو يطوف متفحصا عنهما ومفتشا عليهما . والاعتناق مصدر اعتنقت الحبيب أي وضعت عنقي على عنقه عند السلام وحصول الاستلام . و « الرفاق » على وزن كتاب جمع رفيق . و « مسلما » حال من الياء في اعتناقي وللرفاق متعلق باعتناقي . و « عند استلام الركن » متعلق بمسلما وبالإيماء كذلك . و « الإيماء » مصدر أومأ إليه أي أشار وهو مهموز .
 
[ المعنى ]
( ن ) : معنى اعتناقه معانقته لرفاقه وأصحابه القادمين من السفر الإلهي أو عليه ممن يفارق نفسه إلى ربه في سفره الأول ومن ربه إلى ربه على وجه التحقق به في سفره الثاني ومن ربه إلى نفسه في سفره الثالث ليعرف نفسه حق المعرفة ومن نفسه إلى نفسه متحققا بنفسه وبربه وهو السفر الرابع فتداخل الروحانيات بهذا الاعتناق المذكور ويجتمع الكل في الروح الآمري في عالم الجبروت بعد العبور عن عالم الملك وعالم الملكوت وطوافه على هذا الاعتناق تردده فيه المرة بعد المرة .
وقوله الركن ، يشير إلى ركن الكعبة أما ركن الحجر الأسود أو الركن اليماني وهو كناية عن ركن العلم باللّه الذي بنيت عليه كعبة القلب الإنساني الكامل الإيمان والمعرفة والثلاثة الأركان الباقية ركن الحياة وركن الإرادة القلبية وركن القدرة والحجر الأسود وهو النفس الإنسانية في ركن الباب وهو ركن العلم .
وقوله بالإيماء ، يعني عند توجهي بالإشارة إلى العلم الإلهي الذي في قلبي بحصول الحضور وغيبة المحسوس والمعقول . اهـ .
 
30 - وتذكّري أجياد وردي في *** الضّحى وتهجّدي في اللّيلة اللّيلاء
 
[ الاعراب والمعنى ]
« التذكر » مصدر تذكر الشيء أحضره في ذكره بضم الذال وهو في البيت مضاف إلى فاعله . و « أجياد » مفعوله وهو معطوف على محلي أي وعلى محلي وعلى اعتناقي وعلى تذكري وتهجدي كذلك . و « الليلاء » تأكيد لليلة إذ يقال ليلة ليلاء بالمد وقد تقصر طويلة شديدة أو هي أشد ليالي الشهر ظلمة أو ليلة ثلاثين وليل أليل كذلك ويقال يوم أيوم أي شديد وقيل آخر يوم في الشهر .
 
( ن ) : أجياد ، مفعول تذكري وهو جبل بمكة . وقوله وردي ، أي حيث كان في ذلك الجبل وردي وهو الوظيفة من قراءة ونحو ذلك . وقوله في الضحى ، يعني في وقت الضحى كان له في ذلك الجبل أوراد صلوات وأذكار أيام سلوكه ومجاهدته في طريق اللّه تعالى فتذكر ذلك وحن إليه . وقوله وتهجدي ، أي صلاتي بالليل بعد إلقاء الهجود وهو النوم والسهر وهو من الأضداد ومنه قيل لصلاة الليل التهجد . اهـ .

« 43 »
 
31 - وعلى مقامي بالمقام أقام في  *** جسمي السّقام ولات حين شفاء
 
[ الاعراب والمعنى ]
« المقام » المضاف إلى ياء المتكلم بضم الميم بمعنى الإقامة . و « المقام » بفتح الميم عبارة عن مقام إبراهيم عليه السلام . قوله « ولات حين شفاء » معدودة من الحروف التي ترفع الاسم وتنصب الخبر والغالب حذف الاسم وإبقاء الخبر أي ليس الحين حين شفاء . وقد يعكس الأمر وهو قليل والتاء في لات زائدة كما في ثمت ولا تكون لات إلا مع حين .
 
وقد تحذف وهي مرادة . واعلم أن الشيخ أحمد بن خلكان رحمه اللّه ذكر في تاريخه أن الشيخ أبا عمرو عثمان بن الحاجب رحمه اللّه حضر عنده بمصر وهو هناك نائب الشرع الشريف لأداء شهادة قال فسألته عن أشياء منها قول المتنبي :
قد كنت أصبر حتى لات مصطبر * فالآن أقحم حتى لات مقتحم
وقلت له ما وجه الجر بعد لات في مصطبر ومقتحم ، والحال أنها ليست من حروف الجرّ . قال فأجابني بجواب حسن ولولا خوف الإطالة لذكرت ما أجاب به .
انتهى بمعناه . وأقول الظاهر أن الجر في البيت ونحوه على معنى حذف حين التي هي خبر لات وإبقاء المضاف إليه بعد حذف المضاف على الجر
على حد قوله تعالى : تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [ الأنفال : الآية 67 ]
بكسر الآخرة على معنى واللّه يريد عرض الآخرة والتقدير في البيت قد كنت أصبر حتى لات الحين حين اصطبار وأنا الآن أقحم حتى لات الحين حين مقتحم .
 
الإعراب :
وعلى مقامي : متعلق بقوله أقام . وبالمقام : متعلق بمقامي أي أقام السقام في جسمي تحسرا على مقامي في المقام ولكنه سقام لا يرجى شفاء له فيكون قوله ولات إلى آخره بمنزلة قوله :
زعم العواذل أنني في غمرة * صدقوا ولكن غمرتي ما تنجلي
وفي البيت ما تراه من المقام والمقام وأقام والسقام والطباق بين الشفاء والسقام .
 
( ن ) : يعني أقام السقام في جسمي تحسرا على مقامي بالمقام أي مقام إبراهيم عليه السلام بالقرب من الكعبة المشرفة كناية عن وراثة المقام الإبراهيمي الخليلي في ولايته فإن إقامته في ذلك المقام اقتضى له الاضمحلال بالكلية عن دعوى وجوده .
 
ولهذا قال أقام ، أي سكن ولم يرتحل . وقوله ولات حين شفاء ، أي ليس الحين الذي حصل فيه ذلك السقام حين شفاء منه فهو الداء الذي لا دواء له لأنه كشف عن حقيقة الأمر . اهـ .

« 44 »
 
32 - عمري ولو قلبت بطاح *** مسيله قلبا لقلبي الرّيّ بالحصباء
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن هذا البيت قد اختلفت فيه الرواة على أساليب مختلفة وطرق غير مؤتلفة وما ذاك إلا أن ديوان الأستاذ رضي اللّه عنه لم ينقل من خطه ولا رواه أحد بالسلسلة عن ضبطه . وقد أطلت البحث فيما يتعلق بتصحيح لفظه وتحقيق معناه فلم أجد ما يشفي العليل ولا ما يروي الغليل غير أن أقرب ما يقال فيه ما أذكره لك الآن بعون الملك المنان .
فأقول « عمري » بفتح العين بمعنى حياتي والمراد القسم بها وهو مبتدأ خبره محذوف وجوبا أي قسمي .
و « لو قلبت بطاح مسيلة » قلبت مجهول من قلبه إذا حوله عن وجهه . و « البطاح » جمع الأبطح وهو مسيل واسع فيه دقاق الحصا . و « الهاء » في « مسيله » راجعة للحرم المريع .
 
( ن ) : الهاء في مسيله راجع إلى أجياد في البيت قبله . اه . قوله قلبا : بضم القاف واللام وبسكون اللام أيضا جمع قليب وهي البئر أو العادية القديمة منها .
 
والري : بكسر الراء وبفتحها . قال في القاموس روي من الماء واللبن كرضى ريا وريا وروّى وتروّى وارتوى بمعنى والاسم الري بالكسر والحصباء الحصى .
 
الإعراب :
 عمري : مبتدأ وخبره محذوف كما سبق . لقلبي : جار ومجرور خبره مقدم . والري : مبتدأ مؤخر . وبالحصباء : متعلق بالري أي يرتوي بالحصباء ولو قلبت بطاح مسيله قلبا . والواو في ولو : اعتراضية ولو وصلية لا تحتاج إلى جواب لأن المراد منها مجرد التوكيد إذ المراد ادعاء ارتواء قلبه من عطشه بالحصباء الموجودة في ذلك الحرم الشريف لشدة ميله إليه وإلى من فيه من ساكنيه وإن انقلب بطاح مسيله قلبا .
وإيضاح ذلك أن البطاح مجاري الماء ومنها يشرب أهل تلك الديار فلو فرض أنها قلبت عن صفة المجرى إلى أن تكون آبارا عادية يتعسر الشرب منها لبعد الوصول إليها فإن قلبي يرتوي بحصباء هاتيك المواضع الشريفة والمواطن المنيفة . هذا غاية ما تيسر لي في بيان البيت المذكور وعندي فيه إلى الآن شبهة لم ينثلج معها الصدر .
 
وفي البيت المجانسة بين قلبت وقلب وقلبي والجناس الناقص بين عمري وري فتأمل ولعل اللّه تبارك وتعالى يفتح بعد ذلك بابا يظهر به حقيقة المرام والسلام .
 
( ن ) : ارتواؤه بالحصباء لأن عطشه ليس عطشا طبيعيا يزول عنه فيرتوي بشرب الماء وإنما عطشه عطش شوق وحب وعشق فيزول برؤية الحصباء وأثر ذلك المسيل . اهـ .

« 45 »
 
33 - أسعد أخيّ وغنّني بحديث من *** حلّ الأباطح إن رعيت إخائي
34 - وأعده عند مسامعي فالرّوح *** إن بعد المدى ترتاح للأنباء
 
[ الاعراب والمعنى ]
« أسعد » أمر من الإسعاد فهو مفتوح الهمزة ساكن السين مكسور العين ومعناه أعن وأسعف .
و « أخي » منادى مضاف حذف منه حرف النداء وهو مصغر وتصغيره للتحبيب وهو بضم الهمزة وفتح الخاء وتشديد الياء . و « غنني » أمر من غناه بكذا أي شدا له باسمه وأوصافه وفي كلامهم غنني باسم الحبيب وفي القاموس الغناء ككساء من الصوت ما طرّب به وغناه الشعر وبه تغنية تغنى به وبالمرأة تغزل وبزيد مدحه أو هجاه كتغنى فيهما والحمام صوّت . و « حديث » مضاف إلى من . و « من » اسم موصول بمعنى الذي .
و « حل الأباطح » صلته وحل المكان وبه نزل . و « الأباطح » جمع الأبطح وهو مسيل واسع فيه دقاق الحصا . و « رعيت » بمعنى حفظت . و « الإخاء » بكسر الهمزة والمد مصدر آخاه اتخذه أخا ولا تقل وأخاه إلا على ضعف .
 
الإعراب :
 إن : شرطية . ورعيت : فعل الشرط والتاء فاعل . وإخائي : مفعول والياء مضاف إليه والجزاء محذوف دل عليه ما قبله أي إن رعيت أخائي فاسعدني يا أخي بحديث الأحبة النازلين بالأباطح . قوله وأعده : أمر من الإعادة وهو أيضا مفتوح الهمزة على سنن أسعد ، والهاء في أعده لحديث من حل الأباطح .
وعند مسامعي : متعلق به . والمسامع : جمع مسمع وهو مكان السمع والمراد به الأذن . قوله فالروح : جملة مستأنفة للتعليل أي طلبت من أخي القريب أنه يغنيني بحديث سكان الأباطح ورغبت في أن يعيد لي ذلك لأن الروح ترتاح وتميل للأخبار إذا بعد المدى عن الأحباب . وترتاح من الارتياح ، وهو النشاط والرحمة . وارتاح اللّه له برحمته أبعده من البلية . والمدى كالفتى الغاية . والأنباء : جمع نبا وهو الخبر .
 
الإعراب :
وأعده : معطوف على الأمر في البيت قبله . والهاء في أعده للحديث . وعند مسامعي : متعلق به . والروح : مبتدأ . وإن : شرطية . وبعد : في محل جزم على أنه فعل الشرط . والمدى : فاعله .
وترتاح : جواب الشرط وإنما لم يجزم لأن الشرط ماض والجزاء مضارع وفي مثله يكون الجزم مختارا والرفع حسنا كقول زهير بن أبي سلمى :
وإن أتاه خليل يوم مسئلة * يقول لا غائب مالي ولا حرم
 
ورفعه عند سيبويه على تقدير تقديمه وكون الجواب محذوفا وعند أبي العباس على تقدير الفاء والجملة الشرطية بجزءيها خبر المبتدأ والرابط الضمير في ترتاح .

« 46 »
 
( ن ) : كنى بمن حل الأباطح عن الروح الذي هو من أمور اللّه المنفوخ منه في الأجسام الإنسانية الكاملة العرفان . وقوله وأعده ، أي الحديث أي أسمعني حركة الأمر الإلهي الذي هو كلمح البصر . اهـ .
 
35 - وإذا إذا ألم ألمّ بمهجتي  *** فشذا أعيشاب الحجاز دوائي
 
« إذا » هي الظرفية الشرطية . و « إذا » التي بعدها هي بمعنى الأذية فالكلمة الأولى مكسورة الهمزة والثانية مفتوحتها . « ألم » هو الألم الذي بمعنى الضرر مفتوحة الهمزة واللام . و « ألمّ » فعل ماض بمعنى نزل أصله ألمم على وزن أكرم ولما سكنت الميم الأولى لتدغم في الثانية فتحت اللام لئلا تلتقي ساكنة مع الميم الساكنة . و « المهجة » بقية الروح . قوله « فشذا » الفاء رابطة للجواب . و « شذا » بمعنى الرائحة الطيبة وهو مبتدأ مضاف إلى أعيشاب المضاف إلى الحجاز . و « أعيشاب » تصغير أعشاب . و « دوائي » خبره مضاف إلى ياء المتكلم .
 
الإعراب :
إذا : الشرطية داخلة على فعل محذوف تقديره وإذا ألمّ أذى ألم ويفسره ألمّ ، فأذى بعد إذا : فاعل ذلك الفعل المقدر المفسر . وبمهجتي : متعلق بقوله ألمّ . وجملة فشذا أعيشاب الحجاز دوائي : جواب إذا فلا محل لها من الإعراب لأن إذا شرط غير جازم .
 
والمعنى :
إذا نزل بمهجتي أذى حاصل من الألم فدواء ذلك الأذى الشذا الحاصل من أعشاب الحجاز ونكتة التصغير التعظيم لنسبتها إلى ذلك المقام الشريف أو للقلة على معنى أن الرائحة الحاصلة من أعشاب الحجاز تداويني وإن كانت قليلة لأن نفعها كثير عظيم . وفي البيت ما لا يخفى من الجناس المحرف بين إذا وإذا والجناس التام بين ألم وألم وفيه الطباق بين الأذى والدواء .
 
واعلم أنني رأيت في طبقات الشافعية للإمام جمال الدين الإسنوي بيتين كتبهما بعض الفضلاء لبعض العلماء وكان قد اعتل وفيهما ما يناسب بيت الشيخ رضي اللّه تعالى عنه وأرضاه وأجاد حيث قال :
ألم ألمّ بمهجتي * مذ قيل أنك تشتكي
يا مفردا في عصره * بعداك لا بك ما حكي
 
( ن ) : يكنى بالحجاز عن حضرة الأسماء الإلهية وأعشابها ما ينبت فيها من الأشخاص الإنسانية الكاملة . قال تعالى : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ( 17 ) [ نوح :

« 47 »
الآية 17 ]
ورائحة ذلك العشب ما يظهر عنه من المعارف الإلهية والعلوم الربانية فإن الاطلاع على ذلك مزيل لكل ألم وجيع وهو فظيع وداء منيع . اهـ .
 
36 - أأذاد عن عذب الورود بأرضه *** وأحاد عنه وفي نقاه بقائي
37 - وربوعه أربي أجل وربيعه *** طربي وصارف أزمة اللّأواء
38 - وجباله لي مربع ورماله *** لي مرتع وظلاله أفيائي
39 - وترابه ندّي الذّكيّ وماؤه *** وردي الرّويّ وفي ثراه ثرائي
40 - وشعابه لي جنّة وقبابه لي *** جنّة وعلى صفاه صفائي


[ الاعراب والمعنى ]
الهمزة في « أأذاد » استفهامية . و « أذاد » مضارع مبني للمجهول ونائب فاعله ضمير المتكلم وهو من الذود بمعنى الطرد والمنع أي هل يليق أن أمنع عن الورود العذب فيكون حينئذ من إضافة الصفة إلى الموصوف . و « الهاء » في « بأرضه » للحجاز . و « الباء » ظرفية أي في أرضه .
قوله و « أحاد عنه » من حاد عنه إذا مال والذي يفهم من القاموس أنّ حاد لازم يتعدى بعن وعبارة الشيخ رضي اللّه عنه تقتضي أن يكون متعديا وكلامه رضي اللّه عنه حجة قاطعة وبينة شموسها ساطعة ولعله ضمنه معنى منع لأنه يقال منعه عنه فيكون المعنى وأمنع عنه والحال أنّ في نقاه بقائي والبقاء خلاف الفناء .
قوله « وربوعه » أي ربوع الحجاز . « أربي » أي مطلوبي . و « الربوع » جمع ربع وهو المنزل والدار .
قوله « أجل » حرف جواب بمعنى نعم . وذكر حرف الجواب هنا بملاحظة سؤال مقدّر . كأن قائلا يقول هل لك أرب في ربيعه ، فقال نعم « ربيعه طربي » . قوله « وصارف » أي ربيعه يصرف عني أزمة اللأواء .
و « الأزمة » الشدّة من نحو قحط و « اللأواء » شدّة الوقوع في الاحتباس .
قوله و « جباله » أي الحجاز « لي مربع » أي أماكن ربيعي التي أتنزه فيها زمن الربيع هي جبال الحجاز .
قوله « ورماله » أي رمال الحجاز جمع رمل . « مرتع لي » أي فيها أرتع .
قوله « وظلاله » أي ظلال الحجاز « أفيائي » أي أتفيأ ظلاله وأتقي بها حرارة هاتيك الأماكن .
قوله « وترابه » أي تراب الحجاز. « ندّي الذكّي ». « الندّ » شيء من أنواع الطيب مركب من أجزاء طيبة.
و « الذكي » حسن الرائحة فهو بمنزلة الصفة المؤكدة .
قوله و « ماؤه وردي » بكسر الواو . و « الورد » مصدر بمعنى اسم المفعول أي مورودي .
و « الروي » صفة له كالتي قبله إذا الماء من شأنه أن يكون رويا .
قوله « وفي ثراه ثرائي » أي في ثرى الحجاز أي ترابه ثرائي أي غناي مأخوذ من الثروة .
قوله « وشعابه » بكسر الشين جمع شعبة وهي ما عظم من سواقي الأودية وصدع في الجبل يأوي إليه المطر . و « الجنة » بفتح الجيم الحديقة ذات النخل والشجر .
و « القباب » بكسر القاف جمع قبة وهي البناء المجوّف المرتفع على نمط


« 48 »
 
التدوير . « لي جنة » بضم الجيم بمعنى الترس . وقوله « وعلى صفاه » يريد جبل الصفا الذي منه إلى المروة السعي . و « صفائي » أي صفاء معيشتي وصفاء خاطري يريد أن صفاءه على جبل الصفا لكونه هناك .
لأن الهاء في صفاه راجعة إلى الحجاز كالضمائر في الأبيات المذكورة والاستفهام مقيد بالجمل الواقعة في الأبيات أي هل يليق أن أطرد عن الورود العذب بأرض الحجاز والحال أن بقاء وجودي في نقاه وأن ربوعه أربي وربيعه طربي وصارف شدّتي وجباله مربعي ورماله مرتعي وظلاله أفيائي التي بها أتوقى حرّ الشمس .
وبقية الجمل في الأبيات كذلك فكأنه يقول جميع مطالبي وكل مآربي في بلاد الحجاز فكيف أطرد عنها وأمنع منها . وما ألطف هذه الأبيات وما فيها من محاسن البديع في أأذاد وأحاد .
وفي النقا والبقا وربوعه وربيعه وأربي وطربي وجباله ورماله ومربعي ومرتعي وترابه ندي وماؤه وردي ندّي الذكي ووردي الروي وثرائي في ثراه وشعابه وقبابه جنتي وجنتي وصفائي في صفاه .
 
( ن ) : كنى بعذب الورود عن ماء زمزم والأسرار الإلهية والعلوم الربانية التي يفتح بها على بيت القلب الصادق وحرم العقل الموافق .
وكنى بالنقا المضاف إلى ضمير الحجاز عن المقام المحمدي الجامع فإن العلوم والأسرار فيه متبينة غير ملتبسة ولا متداخلة فأشبهت الكثيب من الرمل ولم يجعله تلا من تراب لذلك .
وكنى بربوع الحجاز عن أهل المراقبة والمشاهدة لدوام معاينتهم بيت ربهم في عباداتهم يعني هم مقصوده ومراده لدوام ترقيه بصحبتهم ولقائهم وكنى بربيع الحجاز عن التجليات الإلهية والتوليات الربانية من المشرب المحمدي والمشهد الأحمدي .
 
والمعنى :
أن الربيع المذكور طرب وسرور له ومزيل عنه شدّة كل شدّة . قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [ الحجّ : الآية 38 ]
وكنى بجبال الحجاز عن مقامات القرب الإلهي التي يرسخ فيها العبد فلا يزول عنها . وقوله ورماله ، أي الحجاز كناية عن العلوم الربانية .
وقوله لي مرتع ، أي استفادة الأحوال الشريفة من تلك العلوم الربانية . وقوله وظلاله ، أي الحجاز أفيائي يكني بالظلال عن الأحوال التي تغلب على القلب من شدّة ظهور الحق له في تجليه عليه .
ويكني بالأفياء عن رجوع تلك الأحوال إليه المرة بعد المرة حتى تصير مقامات له ثابتة فيه بحيث يملكها وقد كانت تملكه . وقوله وترابه ، أي الحجاز ندّي الذكي يعني العلوم الكونية المستفادة من الحضرة الاسمائية الإلهية وجعلها ترابا لأنها ملتبسة .
وأضاف الندّ إلى نفسه لأنه هو الذي يشم من تلك العلوم الكونية روائح الحق تعالى دون غيره . ووصفه بشدة الرائحة لأن العلوم الكونية والمعلومات العينية عند غيره أغيار وعنده تجليات آلهية في صورة

« 49 »
 
التقادير العدمية . وقوله وماؤه ، أي ماء الحجاز كناية عن صفة الحياة الإلهية السارية بلا سريان في كل شيء محسوس أو معقول ، كما قال تعالى : وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [ الأنبياء : الآية 30 ] أي من جهة كونه موصوفا بالحياة جعل من الماء .
وقوله وفي ثراه ثرائي ، يعني في ثرى الحجاز استغناء عن كل شيء أي في نداه الذي ينزل على أرضه كناية عن مدد الإلهام الذي ينزل من سماء الغيب على النفوس البشرية ، وقوله وشعابه لي جنة ، كنى بشعاب الحجاز عن الطرق الموصلة إلى معرفة الحق تعالى من الصبر والشكر والزهد والورع والقناعة والتوكل والتقوى إلى غير ذلك وأخبر بأنها عنده جنة يتنعم بها .
وقوله وقبابه لي جنة ، كنى بالقباب عن صور التجليات الإلهية الإنسانية المعتكفة في حرم المشاهدة الربانية وكونه يستتر بها أي يتوقى بحفظها له من مهالك الدنيا والآخرة .
وقوله وعلى صفاه ، أي صفا الحجاز وهو موضع بمكة كناية عن قلب القطب الجامع والسر النوراني اللامع . وقوله صفائي ، أي خلوصي من أكدار الأغيار وغبار الآثار . اهـ .
 
41 - حيّا الحيا تلك المنازل والرّبا *** وسقى الوليّ مواطن الآلاء
42 - وسقى المشاعر والمحصب من *** منى سحّا وجماد مواقف الأنضاء
43 - ورعى الإله بها أصيحابي الألى *** سامرتهم بمجامع الأهواء
44 - ورعى ليالي الخيف ما كانت *** سوى حلم مضى مع يقظة الإغفاء
 
[ الاعراب والمعنى ]
« حيا » فعل ماض من التحية . و « الحيا » المطر . و « الربا » بضم الراء جمع ربوة وهي مثلثة الراء أعلى الشيء ومنه المثل بلغ السيل الربا على رواية ضعيفة والأصح أنها الزبى بالزاي جمع زبية وهي حفيرة للأسد ولا تكون إلا في رؤوس الجبال وهو مثل يضرب لتجاوز الأمر حدّه . قوله « وسقى » ماض من السقاية و « الوليّ » المطر الثاني الذي يلي الوسمي .
و « المواطن » جمع موطن وهو مكان الإقامة ويقال مواطن مكة أي مواقفها . و « الآلاء » « 1 » النعم واحدها إلى وإلى .
و « المشاعر » جمع مشعر وهي معظم مناسك الحج وعلاماته والمشعر الحرام وقد تكسر ميمه المزدلفة . فإن قلت : قول الشيخ رضي اللّه عنه « وسقى المشاعر والمحصب من منى » يقتضي أن تكون أماكن .
 
وما نقلته من أنها عبارة عن معظم مناسك الحج يقتضي أنها أمور مشروعة معنوية فكيف يدعي لها بالسقيا . قلت : يجوز أن يكون المشاعر في كلامه رضي اللّه عنه عبارة عن المشعر الحرام وجمعه باعتبار أن كل قطعة منه مشعر على ما قيل غزات .
..........................................................................................
( 1 ) قوله : واحدها الخ . فيه قصور ففي القاموس واحدها إلى وألو وإلى وإلى وإلى . اه .

 
« 50 »
 
مع أن المراد غزة وهي المدينة المعروفة بناء على أن كل قطعة منها غزة . ومثله كثير في كلامهم ويجوز أن يكون أراد بالمشاعر أماكن النسك إما على سبيل التغليب كما قيل في العمرين وإما على تسمية الموضع باسم ما يقع فيه من الأفعال مجازا والمحصب على وزن معظم موضع رمي الجمار بمنى .
قوله « سحا » هو بالسين والحاء المهملتين مصدر سح المطر سحا إذا وقع وقعا شديدا .
قوله « وجاد » من الجود بفتح الجيم وهو المطر الغزير . و « المواقف » جمع موقف وهو مكان الوقوف . و « الأنضاء » جمع نضو وهو بكسر النون المهزول من الإبل . قوله « ورعى » أي حفظ الإله هو اللّه جل وعلا بها أي بتلك المنازل والربا « أصيحابي » أصحاب وهو تصغير تحبيب .
 
و « الألى » اسم موصول للجمع بمعنى الذين . و « سامرتهم » حادثتهم ليلا إذ السمر حديث الليل . قوله « بمجامع الأهواء » متعلق بسامرتهم والباء بمعنى في .
على أن مجامع الأهواء أماكن تجتمع أهواء المحبين فيها . ويجوز أن تكون الباء صلة لسامرتهم على معنى سامرتهم يقال سامرت أصحابي بحديث ليلى والمجنون .
قوله « ورعى ليالي الخيف » الخيف ناحية من منى فمراده بليالي الخيف ليالي التشريق في منى .
وقوله « ما كانت سوى » إلى آخر البيت بيان لسرعة زوالها وتسكين ليالي لضرورة الوزن ولكن بالضرورة مقبولة لكونها بتخفيف الكلمة بسكون حرف العلة . قوله « مع يقظة الإغفاء » « اليقظة » محركة نقيض النوم . وقد تسكن لمصلحة وزن الشعر كما هنا .
أو أن السكون فيها لغة قليلة . و « الإغفاء » فترة في الحواس . أو هو أوّل النوم ففيه نوع يقظة إذ ليس عبارة عن النوم الكامل .
فلذلك قال رضي اللّه عنه مع يقظة الإغفاء . و « الحلم » بضمتين أو ضمة واحدة الرؤيا في في النوم .
فكأنه يقول رضي اللّه عنه : ما كانت ليالينا في جوانب مسجد الخيف بمنى إلا كرؤيا يراها الشارع في أوائل النوم وهو إلى الآن لم يستغرق فيه وذلك مع كمال قصره بمنزلة المعدوم لكونه من قسم الأحلام ولما حكم رضي اللّه عنه على ليالي الخيف بأنها نفس الحلم ، على سبيل الحصر ، بقوله ما كانت سوى حلم مضى وبكون الحلم في يقظة الإغفاء لا في النوم المعتاد بالغفلة الكاملة كان كلامه أبلغ من قول أبي تمام حبيب بن أوس حيث قال :
أعوام وصل كان ينسي طولها * ذكر النوى فكأنها أيام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها * فكأنها وكأنها أحلام
ثم انبرت أيام هجر أعقبت * بنوى أسى فكأنها أعوام
 
هذا ولكن قوله الإغفاء في آخر البيت يقتضي أن يكون قد سمع أغفى في نومه من باب الأفعال . وقال بعضهم لم يسمع أغفى وإنما سمع غفى بدون همزة وأقول

« 51 »
 
هذه الدعوى باطلة بل سمع أغفى وغفا . قال في القاموس الغفو والغفوة والغفية الزبية وغفا غفوا نام أو نعس كأغفى .
فقوله كأغفى شاهد للإغفاء الواقع في كلامه رضي اللّه عنه ولعمري إنه أعلى مقاما وأصدق كلاما من أن ينطق بغير الصواب بل كلامه شاهد لصحة النطق عند ذوي الألباب .
 
( ن ) : قوله تلك المنازل ، إشارة إلى منازل الحجاز المذكورة في الأبيات قبله كناية عن المنازل التي ينزلها السالك في طريق اللّه تعالى .
وقوله والربا ، كناية عن الأحوال العالية التي تعتري السالك في الطريق فيعلو فيها ثم يتحوّل فينزل إلى نفسه .
 
وقوله الوليّ ، كنى به عن العلوم الوهبية الإلهية . وقوله اللألاء « 1 » ، بتشديد اللام وسكون الهمزة الأولى وفتح اللام الثانية بعدها ألف وهمزة يعني الفرح التام وكنى بمواطن اللألاء عن مقامات أهل القرب الإلهي وأحوال قلوبهم.
وكنى بالمشاعر عن المواضع التي يشعر فيها العارف بربه كالطاعات والعبادات .
وكنى بالمحصب عن مقام الجمع الذي ترمى فيه جمار الأغيار لظهور الواحد القهار .
وقوله من منى موضع بمكة كناية عما يتمناه من مقاصده وأغراضه .
وقوله مواقف الأنضاء ، يعني أن هذه الأماكن المذكورة مواضع وقوف المكلفين من العارفين أهل المجاهدة في السلوك في طريق اللّه تعالى فإن الجمل مكلف بحمل الأثقال .
وقوله بها ، أي بالمواقف المذكورة . وقوله أصيحابي الألى سامرتهم ، إشارة إلى أهل زمانه من العارفين المحققين الذين كان يتكلم معهم في أحاديث الأكوان المشيرة إلى ظلمات الأعيان .
وقوله بمجامع الأهواء ، أي كانت مسامرتي معهم بأهواء النفوس المجتمعة وذلك بأيام السلوك والمجاهدات النفسانية .
وقوله ورعى ليالي الخيف ، يشير إلى ليالي وادي منى في أيام الحج كناية عن أوقات السلوك في طريق اللّه تعالى .
وقوله مع يقظة الإغفاء ، يعني مع استصحاب يقظة الغافلين عن معرفة ربهم فإن يقظتهم إغفاء ونوم . اهـ .


45 - واها على ذاك الزّمان وما *** حوى طيب المكان بغفلة الرّقباء
46 - أيّام أرتع في ميادين المنى *** جذلا وأرفل في ذيول حيائي
47 - ما أعجب الأيّام توجب للفتى *** منحا وتمنحه بسلب عطاء
48 - يا هل لماضي عيشنا من عودة *** يوما وأسمح بعده ببقائي
49 - هيهات خاب السّعي وانفصمت عرا *** حبل المنى وانحلّ عقد رجائي
50 - وكفى غراما أن أبيت متيّما *** شوقي أمامي والقضاء ورائي
..........................................................................................
( 1 ) قوله الألاء : الذي وقع للشارح البوريني الآلاء كما رأيت فلعلها نسخة أخرى .
 
« 52 »
 
[ الاعراب والمعنى ]
« واها » في البيت كلمة تلهف أو كلمة تعجب والتلهف هنا أنسب . « على ذاك الزمان » متعلق بما يفهم منها إذ المعنى أتلهف على ذاك الزمان . وما حوى طيب المكان « الواو » عاطفة . و « ما حوى » معطوف على ذاك الزمان .
أي وأتلهف على ما حواه طيب ذلك المكان المعظم . قوله « بغفلة الرقباء » « الباء » بمعنى مع أو سببية متعلقة بقوله حوى أي وما حواه المكان من الوصل للحبيب عند غفلة الرقيب 
وما ألطف قول من قال :
لا حظته فتبسما * وخلا المكان فسلما
وبدا الرقيب فقلت لا * سلم الرقيب من العمى
قوله « أيام » منصوب على الظرفية مضاف إلى الجملة متعلقة بقوله حوى .
 
و « في ميادين المنى » متعلق بقوله أرتع . قوله « جذلا » بفتح الذال المعجمة مصدر جذل جذلا أي فرح فرحا فيكون منصوبا على المصدرية من أرتع على حذف مضاف أي رتع جذل . ويجوز فيه كسر الذال على أنها صفة مشبهة فتنصب على الحال أي ارتع حال كوني جذلا فرحا . قوله و « أرفل » معطوف على أرتع . ومعنى أرفل أجرّ ذيلي وأتبختر . و « الذيول » جمع ذيل . و « الحياء » بالحاء المهملة و « الياء » المثناة من تحت هنا عبارة عن الخصب والرخاء . أي وأتبختر في ذيول خصبي ورخائي .
قوله « ما أعجب الأيام » إلى آخر البيت « ما » فيه تعجبية محلها الرفع على الابتداء . و « أعجب » فعل ماض وفاعله مستتر فيه وجوبا يعود إلى ما .
و « الأيام » بالنصب مفعوله والجملة خبر ما في محل رفع . قوله « توجب للفتى » أي توجب للإنسان وتعطيه . « منحا » جمع منحة بتقديم النون على الحاء وهي مكسورة الميم اسم بمعنى العطية وفعلها من باب منع ومن باب ضرب .
قوله وتمحنه بتقديم الحاء على النون من المحنة وهي والعياذ باللّه بمعنى الاختبار للصبر والرضا بالقضاء ، والسلب خلاف الإعطاء .
أي أتعجب من الأيام حيث كانت تعطي وتسترد ما تعطيه ومن ذلك قول المتنبي :
أبدا تسترد ما تهب الدن * يا فيا ليت جودها كان بخلا
 
قوله « يا هل لماضي عيشنا من عوده » البيت . « يا » هنا للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف أي يا أخلائي هل لعيشنا الماضي من عودة أي من رجوع .
و « يوما » متعلق بعودة أي هل يعود عيشنا الماضي يوما من الأيام . قوله « وأسمح بعده ببقائي » أي إذا عاد عيشنا الماضي يوما من الأيام فأني أسمح بعد ذلك اليوم الذي عاد فيه العيش

« 53 »
 
الماضي بوجودي وحياتي . قوله « هيهات خاب السعي » البيت . « هيهات » اسم فعل بمعنى بعد وفاعله ضمير يعود لرجوع العيش الماضي أي بعد ذلك الرجوع .
قوله « خاب السعي » الخ جمل ثلاث تحقق عدم رجوع عيشه الماضي بعد استبعاده بقوله هيهات . و « خاب » لم يظفر بمطلوبه في سعيه .
قوله « وانفصمت عرا حبل المنى » ، انفصم فعل ماض بمعنى انقطع . والعرا جمع عروة وهي أخت الزر التي تكون في جهة اليسار والمراد منها الرباط المشدود . و « المنى » جمع منية وهي المطلوب .
قوله « وانحل عقد » ، « العقد » بفتح العين مصدر عقده خلاف حله . و « الرجاء » الأمل .
قوله « وكفى غراما أن أبيت متيما » ، « غراما » تمييز .
 
وأن مع أبيت في تأويل المصدر على أنها فاعل « كفى » واسم أبيت ضمير المتكلم . ومتيما خبرها .
 
قوله « شوقي أمامي » مبتدأ وخبر . وأمام بفتح الهمزة ظرف مكان مضاف إلى ياء المتكلم متعلق بمحذوف على أنه خبر المبتدأ .
قوله « والقضاء ورائي » كذلك لأن وراء ظرف مكان أيضا مضاف إلى ياء المتكلم يريد شوقي إلى الأحباب أمامي لأنه متوجه إليه فبالضرورة يكون قدّامه لأنه طالبه وقاصده وصارف إليه قصده وسعيه و « القضاء » الذي هو الحكم النافذ وهو حكم اللّه تعالى من ورائه فهو بين شوق متقدم مطلوب وقضاء متأخر نافذ مكتوب ومن كان بهذه الصفة فإنه حيران ومن العجز ولهان لا يستطيع أن يدرك ما أمامه ولا أن يفوت ما وراءه .
 
وما ألطف قول الشيخ أحمد الرفاعي الشافعي رحمه اللّه حيث قال وأجاد في المقال :
إذا جنّ ليلي هام قلبي بذكركم * أنوح كما ناح الحمام المطوّق
وفوقي سحاب يمطر الهمّ والأسى * وتحتي بحار بالجوى تتدفق
سلوا أمّ عمر وكيف بات أسيرها * تفك الأسارى دونه وهو موثق
فلا هو مقتول ففي القتل راحة * ولا هو ممنون عليه فيعتق
 
( ن ) : قوله على ذاك الزمان ، يشير إلى زمان السلوك والمجاهدات النفسانية .
 
وقوله طيب المكان ، كناية عن المكانة وهي الرفعة والمنزلة بمعنى المقام الجمعي الإلهي أو كناية عما سهل وتيسر وهو الحال يعتري السالك في طريق معرفة اللّه تعالى . وطيبه ، أي عطره أو لذته .
وقوله أيام أرتع إلى آخر البيت ، يعني أنني في أيام السلوك في طريق المعرفة الإلهية والمجاهدة النفسانية كنت مطلق العنان في فضاء الملك والملكوت زائد الفرح بلقاء الحي الذي لا يموت وأتبختر في حلل المواهب الربانية والعطايا الرحمانية .
وقوله ما أعجب الأيام إلى آخره ، يعني أن

« 54 »
 
الأيام تعطي وتمنع وتمنح وتمحن وهي كناية عن الدهر الوارد في الحديث ( لا تسبوا الدهر فإن اللّه هو الدهر ) .
قوله يا هل لماضي الخ . هذا حنين منه وتشوق إلى أيام السلوك في طريق معرفة اللّه تعالى وأوقات المكابدة والمجاهدة في حال كونه مريدا طالبا للحق تعالى مع التدرج في مقامات القرب فإن لذلك لذة عظيمة . وقوله هيهات خاب السعي الخ .
يعني أنه لم يظفر بما سعى في تحصيله من عود ماضي عيشه المذكور .
وقوله وكفى غراما الخ . يعني وكفى عذابا أن شوقي إلى ما مضى لي مع الحق تعالى قبالة وجهي أجد غيره وقضاء اللّه ورائي أي في غيب عني ولا يتم إلا ما تضمنه من الأحوال . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح أوميض برق بالأبيرق لاحا الأبيات من 01 إلى 26 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:28 pm

شرح أوميض برق بالأبيرق لاحا الأبيات من 01 إلى 26 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة أوميض برق بالأبيرق لاحا الأبيات من 01 إلى 26
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة الرابعة أوميض برق بالأبيرق لاحا ]
قال رضي اللّه تعالى عنه :
01 - أوميض برق بالأبيرق لاحا *** أم في ربا نجد أرى مصباحا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الهمزة » للاستفهام و « الوميض » فعيل من الومض وهو أن يلمع البرق خفيفا ولم يتعرض في نواحي الغيم و « الأبيرق » تصغير الأبرق وهو مكان فيه حجارة ورمل وطين مختلطة جمعه أبارق . و « لاح » ظهر و « الألف » فيه للإطلاق . و « ربا » جمع ربوة هي أعلا الشيء . « ونجد » أرض معروفة مرتفعة ويقال لكل ما أشرف من الأرض نجد .
و « أرى » مضارع رأى والرؤية هنا بصرية . المصباح السراج .
 
الإعراب :
أوميض : مبتدأ مضاف إلى برق . وجملة لاح بالأبيرق في محل رفع على أنها خبر المبتدأ . وأم : متصلة استفهامية . وفي ربا نجد : متعلق بأرى ، إذ المراد السؤال عن ضوء لاح أهو وميض بالأبيرق لاح أم هو يرى في ربا نجد مصباحا .
وفي البيت جناس الاشتقاق بين برق وأبيرق وفيه تجاهل العارف في الاستفهام .
 
( ن ) : كنى بالبرق عن ظهر الوجود الحق لأنه نور ، وكنى بالأبيرق عن عالم الأجسام المؤلفة من الطبائع والعناصر المختلفة ، وكنى بالوميض عن الروح الآمري المنفوخ في الأجسام الإنسانية الكاملة فإنها تشعر بحالها وأن الروح من عالم الأمر كلمح بالبصر ، وكنى بالربا عن الأرواح المنفوخة عن أمر اللّه تعالى ، وبنجد عن الجسم الطبيعي المطهر عن الأخلاق الذميمة ، وبالمصباح عن أمر اللّه تعالى المتوجه على عالم الأرواح فهي مشرقة به . اهـ .
 
02 - أم تلك ليلى العامريّة أسفرت *** ليلا فصيّرت المساء صباحا
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « أم تلك ليلى العامرية أسفرت » « أم » هنا منقطعة لأن الظاهر أنها بمعنى بل إذ المراد لا وميض برق لاح ولا في ربا نجد أرى مصباحا بل ما يرى من الأنوار الساطعة في الليالي الداجية إنما هو من ليلى العامرية وقد علمت أن ليلى العامرية

« 56 »
 
تطلق ويراد بها مطلق الحبيبة لأنها اشتهرت بذلك الوصف فأطلقت عليه كما يطلق يوسف ويراد به الجميل مطلقا وكما يراد من إطلاق يعقوب مطلق العاشق فاعلم ذلك .
« أسفرت » أي أظهرت وجهها ومنه الإسفار في صلاة الصبح .
قوله « ليلا » بيان من الإسفار وفيه إغراق . قوله « فصيرت المساء صباحا » أي كان الوقت مساء فصار صباحا فلذلك اشتبهت بوميض البرق وبالمصباح الذي رآه في ربا نجد .
وفي البيت الجناس التام بين ليلى وليلا والمقابلة بين المساء والصباح .
 
( ن ) : قوله ليلا ، أي في عالم الليل كناية عن ظلمة الأكوان .
والمعنى : أن هذه المحبوبة لما كشفت عن وجهها أي توجهت بأمرها القديم على ما في علمها وهو الذكر الحكيم ظهرت ظلال المعلومات بنوره فكان ذلك الظاهر هو العوالم باعتبار الصور والأشكال والحدود والمقادير وكان ذلك الظاهر هو النور وهو الوجود الحق وجميع العوالم على ما هي عليه من عدمها الأصلي . ومعنى قوله فصيرت المساء صباحا أي أرجعت الظلمة العدمية بظهور وجهها وانكشافه نورا وجوديّا فالوجود لها والصور العدمية للأكوان . اهـ .
 
03 - يا راكب الوجناء وقّيت الرّدى *** إن جبت حزنا أو طويت بطاحا
04 - وسلكت نعمان الأراك فعج *** إلى واد هناك عهدته فيّاحا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الوجناء » الناقة الشديدة . « وقيت » ماض مجهول من وقاك اللّه تعالى المكروه مثلا أي حماك اللّه من الردى فمفعوله الأول التاء التي هي نائب الفاعل . و « الردى » مفعوله الثاني . « إن » شرطية . و « جبت » بمعنى قطعت من جاب البلاد يجوبها أي قطعها .
ومنه قوله تعالى : وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ( 9 ) [ الفجر : الآية 9 ] .
 
و « الحزن » بفتح الحاء وسكون الزاي خلاف السهل . وقوله « أو طويت بطاحا » في مقابلة « إن جبت حزنا » يعني إن مشيت في الوعر أو مشيت في السهل فإن ذكر طويت يقتضي أن الأرض كالقماش الذي يطوى . و « البطاح » جمع أبطح وهو مسيل الماء فيه دقاق الحصا . قوله « سلكت » أي مشيت . و « نعمان » بفتح النون اسم واد .
و « الأراك » شجر السواك . و « عج » بضم العين وسكون الجيم أمر من عاج يعوج إذا مال وعرّج أي مل « إلى واد هناك » أي في هاتيك النواحي . قوله « عهدته » أي عرفته سابقا . « فياحا » أي واسعا قال في القاموس بين الفيح واسع ومنه دار فيحاء أي واسعة .
 
الإعراب :
 إن : شرطية . وجبت : فعل الشرط . وحزنا : مفعوله . وأو : عاطفة .
وطويت : معطوف على جبت . وبطاحا : مفعوله . قوله وسلكت : معطوف على جبت

« 57 »
 
فهو داخل معه في حيز الشرط كالذي قبله . قوله فعج : الفاء رابطة للجواب .
وعج : فعل أمر وفاعله ضمير المخاطب وهو راكب الوجناء وجملة الجزاء في موضع جزم على أنها جواب الشرط . وإلى واد : متعلق بعجج .
وهناك : متعلق بمحذوف على أنه صفة لواد . وعهد : يتعدى إلى مفعولين أحدهما الهاء والثاني فياحا .
وما أحسن قوله وقيت الردى : فإنه دعاء لراكب الوجناء لأنّ قانون الخطاب للعزيز لا سيما عند طلب أمر عزيز يقتضي التلطف قبل الطلب وهنا يريد من راكب الوجناء أن يعرّج إلى الوادي الذي يعهده واسعا وفيه أحبته ومثله قوله في اليائية .
منعما عرّج على كثبان طيّ
وفي البيت المقابلة بين الحزن والبطاح والجوب والطي .
 
( ن ) : كنى بالوجناء عن النفس الشديدة في سلوك الطريق إلى معرفة اللّه تعالى وراكبها هو المريد السالك الغالب على نفسه القاهر لها بالرياضة الشرعية والمجاهدة المرضية ، وكنى بالحزن عن مقام مخالفة النفس الذي هو أصعب ما يكون على السالك في طريق معرفة اللّه تعالى ، وكنى بطي البطاح عن قطع مقامات السلوك كالصبر والشكر والتقوى والورع والزهد .
فإن السالك ما دام قائما بأحد هذه المقامات فهو في السلوك لم يصل إلى معرفة اللّه تعالى الذوقية الحقيقية . وقوله وسلكت نعمان الأراك ، كناية عن الدخول في التجليات الإلهية والخروج عن الأغيار الكونية . وقوله إلى واد هناك هو الوادي المذكور المسمى بنعمان الأراك .
وقوله عهدته فياحا ، إشارة إلى أن وادي التجليات الاسمائية واسع جدا بحيث لا نهاية لما فيه من المظاهر الإلهية والآثار الربانية ويفيض بالعلوم الإلهامية . اهـ .
 
05 - فبأيمن العلمين من شرقيّه *** عرّج وأمّ أرينه الفوّاحا
 
قوله « فبأيمن » « الفاء » فيه داخلة في المعنى على عرّج إذ المراد عطفه على عج فيصير المعنى عج فعرج بأيمن العلمين من شرقي ذلك الوادي . و « العلمان » جبلان معروفان .
و « الهاء » في « شرقيه » لنعمان الأراك . و « عرج » فعل أمر من التعريج . وفي القاموس وعرّج تعريجا ميل وأقام وحبس المطية على المنزل .
و « أمّ » بضم الهمزة وتشديد الميم فعل أمر بمعنى أقصد . و « الأرين » على وزن أمير موضع معروف .
و « الفوّاح » شديد فوح الرائحة الطيبة وهو واويّ إذ يقال فاح يفوح .
 
الإعراب :
الفاء في قوله فبأيمن : للعطف والمعطوف . عرج : والمعطوف عليه عج . وبأيمن العلمين متعلق بعرج . قوله من شرقيه : حال من أيمن العلمين ، أي من

« 58 »
 
شرقي نعمان الأراك . وأم : معطوف على الأمر أيضا . أرينه : مفعول أم . والفوّاحا :
صفة أرينه .
 
والمعنى :
وبعد أن تعوج إلى الوادي عرج بأيمن العلمين من الجانب الشرقي في نعمان واقصد مكانه الذي فاحت رائحته الطيبة .
 
( ن ) : العلم بفتح اللام الجبل والجبل المنجبل من العناصر والطبائع والعلم من العلم وهو الإدراك ومن العلامة . وأيمن العلمين ، النفس التي هي في الجانب اليمين من الإنسان والعلم الآخر القلب الذي هو في الجانب اليسار منه .
وقوله من شرقيه ، أي شرقي ذلك الوادي الذي هو نعمان الأراك فإن في شرقي ذلك الوادي الذي هو كناية عن التجليات الاسمائية هذين العلمين من جملة صور تلك التجليات وإشراق نور الروح الآمري المنفوخ في القلب ظاهر في النفس الإنسانية .
وقوله عرّج ، يعني إحبس مطيتك يا أيها السالك واجعل توجهك إلى أيمن العلمين المذكورين . والأرين مصدر أرن أرنا وأرينا نشط وهو اسم موضع أيضا يعني أقصد النشاط الذي يحصل في ذلك الوادي لكل من دخله أو أقصد الموضع الذي في ذلك الوادي إشارة إلى مقام الاعتدال الذي هو الكمال الجامع للجلال والجمال . اهـ .
 
06 - وإذا وصلت إلى ثنيّات اللّوى *** فأنشد فؤادا بالأبيطح طاحا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الثنيات » جمع ثنية بفتح الثاء وكسر النون وبعدها ياء مشدّدة وهي العقبة أو طريقها والجبل أو الطريق فيه أو إليه . و « اللوى » على وزن إلى ما التوى من الرمل أو مسترقه جمعه الواء وألوية . و « الفاء » في قوله « فأنشد » في جواب « إذا » . و « انشد » فعل أمر من نشد ينشد من باب كتب يكتب فهو بضم الشين أي اسال عن الفؤاد الذي طاح أي هلك . و « الأبيطح » تصغير أبطح وهو مسيل الماء فيه دقاق الحصا .
 
الإعراب :
 الواو : عاطفة . وإذا : شرطية . وجملة وصلت الخ في محل جر لإضافة إذا إليها . والفاء في فأنشد : جواب إذا . وفؤادا : مفعوله . وبالأبيطح : متعلق بطاح . وجملة طاح بالأبيطح في موضع نصب على أنها صفة فؤادا . إذ المراد فؤادا موصوفا بأنه هلك في ذلك المكان المعروف .
 
( ن ) : الخطاب لراكب الوجناء وكنى بثنيات اللوى عن حضرات الأسماء الإلهية والصفات الربانية ووصوله كناية عن محو تعينه في حضرة الوجود الظاهر وتجلي السر الباهر والأمر القاهر والأبيطح كناية عن المقام الذاتيّ الجامع لجميع الأسماء والصفات . اه .

« 59 »
 
07 - وأقر السّلام أهيله عنّي *** وقل غادرته لجنابكم ملتاحا
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أنه يقال قرأ عليه السلام فحينئذ يكون الأمر منه اقرأ بسكون الهمزة في آخره لكن تخفف الهمزة بأن تقلب ألفا فيبنى الأمر على حذف الألف مثل أخش أو يقال حذفت الهمزة اعتباطا فبقيت الراء بعد حذفها مفتوحة كما هنا . فيقال « وأقر السلام » مثل واخش السلام .
الإعراب : أقر : فعل أمر كما ذكرناه وفاعله ضمير المخاطب المفرد .
والسلام : مفعوله الأول . وأهيله : مصغر أهل والضمير فيه لنعمان الأراك وهو مفعول ثان للأمر .
وعني : متعلق به . وقل : الواو عاطفة .
وقل : معطوف على أقر السلام وفاعله مستتر فيه كذلك . وغادرته : تركته . والهاء مفعول أول . وملتاحا : مفعول ثان ولجنابكم متعلق به إذ المراد تركته عطشانا إلى جنابكم . واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن اقرأ يتعدى إلى مفعولين والحال أن ما في القاموس يقتضي أن اقرأ يتعدى إلى السلام بنفسه وإلى المسلم عليه بعلى فيقال أقر عليه السلام ولا يتعدى إليهما بنفسه إلا مع الهمزة فيقال اقرأه السلام اللهمّ إلا أن يتضمن معنى فعل يتعدى بنفسه إلى مفعولين .
 
( ن ) : قوله أهيله ، كناية عن الأولياء الذاتيين المتحققين والضمير فيه للأبيطح والضمير في غادرته للفؤاد . اهـ .
 
08 - يا ساكني نجد أما من رحمة *** لأسير الف لا يريد سراحا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« يا » حرف نداء . و « ساكني » منادى مضاف إلى نجد ولذا حذفت منه نون الجمع .
و « نجد » مواضع مرتفعة عالية وكثيرا تذكرها شعراء العرب في أشعارهم الغرامية لارتفاع مواضعها وطيب هوائها وحسن أشخاصها .

و « أما » كلمة عرض يطلب بها المرام بلطف في الكلام . و « من » في رحمة زائدة أي أما رحمة . و « الرحمة » رقة القلب وغايتها إيصال الجميل إلى من ترحمه .
قوله « لأسير الف » خبر المبتدأ إذ المراد أما من رحمة كائنة لأسير الف والإلف بكسر الهمزة وسكون اللام الأليف .
وقوله « لا يريد » أي لا يطلب ذلك الأسير سراحا فجملة « لا يريد سراحا » صفة أسير الف .


و « السراح » بفتح السين بمعنى الانطلاق . ويقال فلان أعطاه السلطان سراحا أي انطلاقا يتوجه حيث شاء . وقوله « لا يريد سراحا » يفيد إغرابا لأن من شأن الأسير طلب السراح .
 
( ن ) : قوله يا ساكني نجد ، كناية عن أصحاب المقام العالي في التحقق بمعرفة الحق تعالى فإنهم مظاهر إلهية ومجالي رحمانية إذا وجدهم المريد فهو الواصل إلى كل ما يريد . اهـ .

« 60 »
09 - هلّا بعثتم للمشوق تحيّة في *** طيّ صافية الرّياح رواحا
 
« هلا » كملة تحضيض وهو الطلب بالإزعاج وهي مركبة من هل ولا وقيل بسيطة غير مركبة .
و « بعثتم » أرسلتم . و « المشوق » أصله مشووق اسم مفعول نقلت ضمة الواو فيه إلى الشين الساكنة قبلها فالتقى ساكنان وهما واو الكلمة والواو بعدها فحذفت الواو الأولى لذلك فوزنه مفعول لأن الواو المحذوفة عين الكلمة وإنما قلنا إن لفظ مشوق اسم مفعول لأن الفعل يتعدى .
فيقولون شاقني ذكر المنازل فهو شائق وأنا مشوق والتحية السلام .
قوله « في طيّ صافية الرياح » أي في ضمن الرياح الصافية .
والصافية هنا من الصفاء أي الرياح التي لا يخالطها غبار ولا ما شابهه فالتركيب من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الرياح الصافية ويقال صفا الجو إذا لم تكن فيه لطخة غيم ويوم صاف وصفوان أي بارد بلا غيم ولا كدر .
وقوله « صافية » تروى صافنة بالفاء وبالنون من أوصاف الخيل فإن ثبتت الرواية فلعلها من باب تشبيه الرياح بالخيل الجياد فكأنه قال في طيّ الرياح المشبهة بالخيل الجياد ويكون على هذا من باب عكس التشبيه . قوله « رواحا » أي في وقت العشاء أو من وقت الزوال إلى الليل .
 
الإعراب :
هلا : كلمة بمعنى التحضيض أي الطلب بالإزعاج . وبعثتم : أرسلتم .
وتحية : مفعوله . وللمشوق : متعلق به أيضا وهو مضاف إلى صافية المضاف إلى الرياح . ورواحا : منصوب على الظرفية أي في وقت الرواح .
 
والمعنى :
أطلب منكم يا سكان نجد أن ترسلوا إليّ تحية . وقوله للمشوق من وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على وصف الشوق من الطالب المقتضى لاستحقاقه التحية كأنه يقول ابعثوا تحية في مطاوي الرياح وقت الرواح لمن هو موصوف بالشوق الذي شبّ عمره عن الطوق وإنما خص ذلك بوقت الرواح لأنه من الأوقات الطيبة كوقت السحر ولأن النسيم يهب بعد زوال الشمس بلطف وفي البيت الجناس اللاحق بين الرياح والرواح مع تخريف في الحركات .
 
( ن ) : الخطاب في بعثتم لساكني نجد . وقوله للمشوق ، يعني نفسه . ويكني بصافية الرياح عن الروح المنفوخة عن أمر اللّه تعالى يقول هلا بعثتم معها حيث نفخت فيه عن أمركم تحية له وسلاما وأمانا من المكر به من قبيل الإرث اليحيوي من قوله تعالى : وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ( 15 ) [ مريم : الآية 15 ]
وقول الروح العيسوي والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّا . اهـ .
 
10 - يحيا بها من كان يحسب هجركم *** مزحا ويعتقد المزاح مزاحا

« 61 »
[ الاعراب والمعنى ]
« يحيا » أصله يحيى على وزن يعلم وفعله كرضي يرضى . وضمير بها للتحية .
و « من » اسم موصول . و « يحسب » بكسر السين وفتحها بمعنى يظنّ . و « المزح » الدعابة .
و « المزاح » بضم الميم بمعنى المزح أيضا . والذي في آخر البيت بضم أيضا اسم مفعول من أزحت الشيء أزلته من موضعه بها متعلق بيحيا ومن فاعله . و « كان » اسمها ضمير يعود إلى من .
وجملة « يحسب هجركم مزحا » من الفعل والفاعل المستتر فيه مفعوليه بعده في محل نصب على أنها خبر كان . وكان مع الاسم والخبر لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول .
 
قوله « يعتقد » معطوف على يحسب وله أيضا مفعولان وهما المزاح ومزاحا أي كان يظن هجركم له من باب مداعبة الإخوان للإخوان وكان يجزم ويعتقد أن المزاح مزاحا لا أصل له ولا وجود له في التأثير فظهر الأمر بخلاف ذلك إذ قد تبين أن هجركم قاتل فلو كان دعابة لم يؤثر ولذلك طلب التحية التي توجب له الحياة وذلك يقتضي أنه مات بالهجر الذي كان يظنه مزحا ومزاحا مزالا ذاهبا عن أصله لا واقعا في محله فتبين أن الأمر ليس كما كان يحسب ويعتقد ولا هو كما كان يتفرس ويعتمد ( وما أحسن قول من قال وأجاد في المقال ) :
الحب أول ما يكون مجانة * فإذا تمكن كان شغلا شاغلا
 
( وما ألطف قول الآخر ) :
وسألتها بإشارة عن حالها * وعليّ فيها للوشاة عيون
فتنفست كمدا وقالت ما الهوى * إلا الهوان وزال منه النون
وفي البيت جناس محرف بين مزاحا والمزاح « 1 » .
 
( ن ) : والمعنى أن تلك التحية إنما يحيا بها الإنسان الذي يظن هجركم له وإعراضكم عنه دعابة منكم وملاعبة معه ويقطع ويجزم بأنّ المداعبة بعيدة منكم ذاهبة زائلة غير لائقة بجنابكم وهذا شأن الغافل المحجوب إذا جاءته تحية منكم أي وصل إليه الكشف المكري والإمداد الاستدراجي يظن أن هجركم له مداعبة ويعتقد مع ذلك أن المداعبة والممازحة بعيدة عنكم لا تليق بجنابكم وتقدير معنى البيت وأما نحن فإنا لا نحيا بتلك التحية وإنما نموت فيها فيظهر أنّ الحي بها أنتم لا سواكم فإن من يحيا بها يعتقد الثنوية والشركة معكم في الوجود وفي الحياة وهو الغافل المغرور . اهـ .
..........................................................................................
( 1 ) قوله : جناس محرف لا يظهر إلا إذا قرىء المزاح الأول بالكسر مصدر مازحه ، والثاني بالضم وهو خلاف ما قرّره أوّلا .

« 62 »
 
11 - يا عاذل المشتاق جهلا بالّذي *** يلقى مليّا لا بلغت نجاحا
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « يا عاذل المشتاق » منادى مضاف . وقوله « جهلا » منصوب على المصدرية لكن بتقدير مضاف أي عذل جهل أو على الحالية أي يا عاذل المشتاق حال كونك جاهلا بالذي يلقي مليّا اعلم أن لفظ « مليّ » له معنيان ذكرهما المفسرون . في قوله تعالى : وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [ مريم : الآية 46 ]
قال البيضاوي زمانا طويلا أو مليّا بالذهاب عني والأقرب أن يكون في البيت قيدا للمشتاق أي يا من يعذل المشتاق مطيقا وقادرا بالذي يلقى ولذلك كان العدل جهلا لأن المعدول إذا كان قادرا على غرامه فما معنى إطالة ملامه ويجوز وجه ثان وهو أن يكون قوله بالذي يلقى قيد القول جهلا أي تعذل المشتاق حال كونك جاهلا بالذي يلقاه المشتاق ويكون قوله مليّا بمعنى الزمان الطويل أي يا من يعذل المشتاق في زمان طويل ودهر مديد .
قوله « لا بلغت نجاحا » « التاء » في بلغت مفتوحة للمخاطب وهو العاذل والجملة دعائية يدعو على العاذل بأن اللّه تعالى لا يوصله إلى النجاح ولا يبلغه الفلاح .
 
12 - أتعبت نفسك في نصيحة من يرى *** أن لا يرى الإقبال والإفلاحا
 
[ الاعراب والمعنى ]
الخطاب في « أتعبت نفسك » للعاذل يقول له عذلت وتعبت في نصيحة رجل رأيه أن لا يرى الإقبال ولا الإفلاح فمن كان رأيه أن لا يريد الإقبال ولا الإفلاح فكيف تنفع فيه نصيحة النصاح فيرى الأول من الرأي بمعنى الاعتقاد أي بمعنى المذهب يقال رأي الشافعي كذا ، ويرى المنفي في قوله « أن لا يرى » من الرؤية البصرية وفي الحقيقة الرجل الذي مذهبه أن لا يرى إقبالا لنفسه ولا إفلاحا نصيحته في ذلك تعب لا تفيد وناصحه لا يفيد ولا يستفيد .
وما ألطف قوله « من يرى أن لا يرى » و « الإقبال » و « الإفلاح » مصدران من باب الإفعال وبين يرى ويرى في البيت الجناس التام .
 
( ن ) : عدم رؤيته الإقبال والإفلاح لاشتغاله بما هو أعلى من ذلك من شهود تجليات ربه في باطنه وفي ظاهره بحيث لم يبق عنده ما يغاير ربه من كل شيء . اهـ .
 
13 - أقصر عدمتك واطّرح من أثخنت *** أخشاءه النّجل العيون جراحا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« أقصر » فعل أمر على وزن أكرم أي انته أيها العاذل . قوله « عدمتك » جملة دعائية يدعو بها على العاذل بأنه يعدمه أي يرى عدمه وزواله وهي معترضة بين المعطوف وهو « اطرح » والمعطوف عليه وهو أقصر ومعنى اطرح ارم وأبعد عنك رجلا عاشقا وصل في المحبة إلى أن العيون النجل أي الواسعة جمع نجلاء قد أثخنت أحشاءه جراحا يقال أثخن في العدو أي بالغ في الجراحة فيهم .

« 63 »
 
الإعراب : أقصر : فعل أمر وهو مسند إلى ضمير المخاطب . وجملة « عدمتك » إنشائية دعائية . و « اطرح » معطوف على أقصر . « ومن » مفعول اطرح .
و « أحشاءه » مفعول مقدم . و « النجل » فاعل مؤخر . و « العيون » بدل أو عطف بيان من النجل .
 
و « جراحا » تمييز مبين إبهام النسبة الواقع في أثخنت أحشاءه النجل العيون وفي كون العيون نجلا إشارة إلى أن جرحها واسع لأن الجراحة على مقدار النصل وإلى ذلك أشار من قال وأجاد :
إن أنكرت نجل العيون جراحتي * فدليل قتلي أنها نجلاء
 
( ن ) : يكني بالعيون النجل عن عيون الوجود الحق الظاهر في كل شيء ولا شيء سواها . 
قال تعالى : تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [ القمر : الآية 14 ]
فكل عين له وما زاد على الوجود الحق هالك فان . اهـ .
 
14 - كنت الصّديق قبيل نصحك *** مغرما أرأيت صبّا يألف النّصّاحا
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « كنت الصديق » عبارة بليغة لأنها تقتضي أنه لم يكن للشيخ رحمه اللّه تعالى صديق سواه لتعريف الطرفين فيكون المعنى كنت صديقا ليس وراءه صديق ومع هذه الصداقة الكاملة لما نصحتني ذهبت صداقتك .
وفي البيت وضع الظاهر مقام المضمر لأن المراد قبيل نصحك لي ونكتته الإشارة إلى أن الغرام سبب لقطع الصداقة عند النصح فيه .
ثم استدل على ذلك بقوله « أرأيت صبّا يألف النصاحا » والاستفهام إنكاري أي ما رأيت صبّا .
و « التاء » مفتوحة في رأيت لكل من يصلح منه الخطاب أي هل رأى صبّا يألف النصاح .
وأتى بالنصاح جمعا للإشارة إلى أن الناصح من حيث هو ناصح لا يقبله المغرم ولو كان نصحه متعلقا بغيره وهذه مبالغة أخرى في عدم قبول المحب لنصح الناصح .
 
الإعراب :
التاء في كنت : اسمها . والصديق : منصوبا خبرها . وقبيل نصحك : متعلق بكنت بناء على صحة التعلق بها .
والكاف في نصحك فاعلة إذ هو مصدر مضاف إليه . ومغرما : مفعوله ، وجملة يألف النصاحا في محل نصب على أنها صفة صبّا وفيه أن الأوصاف لا توصف « 1 » .
ويروى النصاحا بفتح النون على أنه فعال للمفرد مبالغة وفي معناه ركاكة تعلم من توجه النفي إلى القيد والجواب عنه معلوم من الجواب
عن قوله تعالى : وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ فصّلت : الآية 46 ] فافهم .
..........................................................................................
( 1 ) قوله : وفيه أن الأوصاف الخ . فيه نظر فتأمّل .

 
« 64 »
 
15 - إن رمت إصلاحي فإنّي لم أرد *** لفساد قلبي في الهوى إصلاحا
 
الخطاب في قوله « إن رمت » للعاذل أي إن كنت تريد بنصحك لي إصلاحي فقد أخطأت مرامي لأني لا أريد في الهوى إلا فساد الفؤاد فدع عنك ما قصدته من إصلاحي فإنه عين الفساد وإن كنت تريد غير الإصلاح فإني ما فهمت مرادك ولا تحققت مرامك فدع هذا المرام وولّ عني بالسلام .
 
الإعراب :
قوله فإني لم أرد ، قد أشرنا إلى أن جواب الشرط محذوف بناء على أن الجزاء يجب كونه مسببا عن الشرط ومن قال يكفي في الجزاء وجود العلاقة بينه وبين الشرط في الجملة فالموجود في العبارة هو الجزاء . وما أحسن قوله في الهوى كأنه يقول فساد الهوى عندي أحسن من الإصلاح وأما غيره فلا يناسب مثلي من أهل الصلاح وفي البيت رد العجز على الصدر في ذكر الإصلاح والمقابلة بين الفساد والصلاح المأخوذ من الإصلاح
وما ألطف قول المتنبي :
يا عاذل العاشقين دع فئة * أضلها اللّه كيف ترشدها
 
16 - ماذا يريد العاذلون بعذل من *** لبس الخلاعة واستراح وراحا
 
ماذا يريد العاذلون « ما » استفهامية مبتدأ . و « ذا » اسم موصول في محل رفع على أنها خبر . وجملة « يريد العاذلون » لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول والعائد محذوف تقديره ماذا يريده العاذلون . و « بعذل من » متعلق بيريد . و « من » اسم موصول . و « لبس الخلاعة » صلته ويجوز في « من » أن تكون نكرة موصوفة على أن المعنى بعذل رجل موصوف بأنه لبس الخلاعة . 
وما ألطف قوله « لبس الخلاعة » فإن الخلاعة في مقابلة اللبس في الأصل لأنها عبارة عن خلع أثواب التستر وذلك لعدم التقيد بما عليه الناس من الحجاب ورعاية مقام المودة الظاهرية . قوله و « استراح » أي من قيد الالتفات إلى ما يقوله الناس من أن فلانا تهتك فإن :
من راقب الناس مات غمّا * وفاز باللذة الجسور
 
قوله واستراح أي وجد الراحة في خلاعته وفقد التعب . وقوله « وراح » أي وجد الخفة في خلاعته وزال عنه ثقل الحجاب وكلفة التستر عن الأحباب ويقال راح للمعروف وللشيء أخذته له خفة وأريحية .
 
والمعنى :
ماذا يقصد العاذلون من نصح رجل لبس الخلاعة واستراح بترك ما اعتاده أمثاله من التستر وقطع منه أطماعه فمن كان كذلك وسلك من التهتك أوسع

« 65 »
 
المسالك فنصيحته إضاعة وملامه رقاعة فإنه قد استراح ومن تعب الحجاب قد أراح فليس عليه ملام فالواجب تركه في خلاعته والسلام .
 
17 - يا أهل ودّي هل لراجي وصلكم *** طمع فينعم باله استرواحا
18 - مذ غبتم عن ناظري لي أنّة *** ملأت نواحي أرض مصر نواحا
19 - وإذا ذكرتكم أميل كأنّني من *** طيب ذكركم سقيت الرّاحا
20 - وإذا دعيت إلى تناسي عهدكم *** ألفيت أحشائي بذاك شحاحا
 
قوله « فينعم باله استرواحا » على وزن يسمع ويكون على وزن ينصر ويضرب والبال الخاطر والاسترواح مصدر استروح يستروح استرواحا والاسترواح وجود الراحة كاستراح كذا في القاموس .
 
الإعراب :
يا أهل ودّي : منادى مضاف . وهل : أداة استفهام لطلب التصديق وهي داخلة على طمع وهو مبتدأ . ولراجي وصلكم : خبره وتسويغ الابتداء بالنكرة لدخول أداة الاستفهام ولتقدم الخبر . قوله فينعم : بالنصب بأن مضمرة بعد الفاء لتقدم الاستفهام . وباله : فاعل . واسترواحا : منصوب على التعليل لقوله فينعم .
 
المعنى :
يا من هم أهل ودي وهم أصحاب محبتي هل طمع يكون لمحب يرجو وصلكم واستفهامه عن الطمع يقتضي أن لا طمع في الوصال حتى يستفهم عن نفس الوصال كأنّ طمعه ممنوع فهو يستفهم عن إمكانه وأمّا الوصال فذلك مما لا إمكان لوجدانه .
قوله فينعم باله استرواحا يريد إن كان الطمع ممكن الحصول فإنه ينشأ عن ذلك لباله النعيم ويستريح به من العذاب الأليم وفي البيت ما لا يخفى من المناسبة بذكر الرجاء والطمع وبذكر الوصل والنعيم والراحة ولنا في ذلك :
ولم أحسد على نسب * ولا حسب ولا مال
ولكني حسدت فتى * يبيت منعم البال
 
قوله « مذ غبتم عن ناظري » البيت . « منذ » بسيط مبني على الضم ومذ محذوف منه النون مبنيّ على السكون وتكسر ميمها فإن وليهما اسم مجرور فهما حرفا جرّ بمعنى من في الماضي وفي الحاضر وإن وليهما اسم مرفوع كمنذ يومان فهما مبتدآن وما بعدهما خبر أو ظرفان مخبر بهما عما بعدهما ومعناهما بين وبين كلقيته منذ يومان أي بيني وبين لقائه يومان وتليهما الجملة الفعلية نحو :
ما زال مذ عقدت يداه إزاره

« 66 »
 
والإسمية نحو :
وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع
 
وحينئذ فهما ظرفان مضافان إلى الجملة أو إلى زمان مضاف إليها والبيت من قبيل ما وليه جملة فعلية . و « عن ناظري » متعلق بغبتم . و « لي أنة » مبتدأ وخبر .
وتنكير « أنة » للتعظيم وهي واحدة من الأنين وهو التأوّه . قوله « ملأت نواحي أرض مصر نواحا » فاعل ملأت ضمير يعود إلى أنة ونواحي بالنصب مفعوله .
و « مصر » مضاف إليه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي . و « نواحا » منصوب على التمييز أي ملأت هاتيك الأنة العظيمة نواحي مصر وجهاتها بالنواح .
 
المعنى :
ثبت لي أنه من زمان مغيبكم عن ناظري ملأت هاتيك الأنة نواحي مصر وجهاتها بالنواح . وحاصل الأمر أنه بعدهم ما استراح ولا وصف بالانشراح .
ثم إنه قال وإذا ذكرتكم أميل شوقا وأهتز توقا كأنني من طيب الذكر سقيت راحا ورقصت لذة وانشراحا .
« فإذا » شرطية للاستقبال ومحل جملة « ذكرتكم » الجر بإضافة إذا إليها .
 
و « أميل » جواب الشرط . و « إذا » منصوبة المحل به . وقوله « كأنني » ، هي واسمها .
وجملة « سقيت الراحا » من الفعل المجهول ونائب فاعله الذي هو مفعوله الأول ، والراح الذي هو مفعوله الثاني خبرها . وقوله « من طيب ذكركم » متعلق بمعنى التشبيه المفهوم من كأنّ أي أنا شبيه بشارب الراح لأجل ذكركم لأن من تعليلية .
 
قوله « وإذا دعيت » جملة شرطية معطوفة على مثلها . و « دعيت » ماض مبني للمجهول .
و « التاء » نائب فاعله أي وإذا دعاني داع إلى تناسي عهدكم وذكر التناسي هنا في غاية اللطف لأنه إظهار النسيان من غير أن يكون هناك نسيان في الحقيقة .
و « العهد » الميثاق واليمين . و « ألفيت » جواب الشرط وهي بمعنى وجدت .
 
و « أحشائي » جمع حشا وهو ما في الباطن . و « شحاحا » جمع شحيح وهو البخيل الحريص .
و « ألفيت » يتعدّى إلى مفعولين أحدهما أحشائي والثاني شحاحا وبذاك متعلق به .
 
المعنى :
وإذا دعاني داع إلى أن أتناسى عهدكم وأظهر نسيانه من غير نسيان حقيقي فأني أجد أحشائي بذاك شحيحة فإذا كان لا يسمح بالتناسي فهل يمكن أن يقال أنه ناسي .
وهذه الأبيات الأربعة كأنها فرقة مجتمعة فلذلك كتبناها على حسب ائتلاف معناها وبعدها ستة مثلها وهي الآتية .

« 67 »
 
( ن ) : غيبتهم عن ناظره كناية عن غلبة الغفلة عليه بحيث يرى المظاهر أغيارا لهم وأجانب عنهم وإلا فلا تتصور غيبة الحق أصلا لا عن الظاهر ولا عن الباطن .
وقوله ملأت نواحي أرض مصر نواحا ، يعني أن تلك الأنة العظيمة أوجبت كمال الحزن لجميع أهل الجهات المصرية فأكثروا النواح عليه . وقوله تناسي عهدكم هو عهد الربوبية المأخوذ على كل نسمة آدمية حين قال تعالى : أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [ الأعراف : الآية 172 ] . اهـ .
 
21 - سقيا لأيّام مضت مع جيرة *** كانت ليالينا بهم أفراحا
22 - حيث الحمى وطني وسكّان الغضى *** سكني ووردي الماء فيه مباحا
23 - وأهيله أربي وظلّ نخيله  *** طربي ورملة وادييه مراحا واها
24 - على ذاك الزّمان وطيبه *** أيّام كنت من اللّغوب مراحا
25 - قسما بمكّة والمقام ومن أتى  *** البيت الحرام ملبّيا سيّاحا
26 - ما رنّحت ريح الصّبا شيح الرّبا *** إلّا وأهدت منكم أرواحا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« سقيا » بفتح السين مصدر سقاه سقيا يقال سقيا الفلان ورعيا أي سقاه ورعاه اللّه فيجعلون التلفظ بالمصدر بدلا عن التلفظ بالفعل واعلم أن قاعدة العرب أنهم يدعون دائما بالسقيا لمن يحبونه سواء كان المدعو له مما يسقى أم لا .
وما ذلك إلا لأن الغالب على أموالهم أنها إنما تنتفع بنتائج السقي وجرت عادة من اقتفاهم على ذلك في الأشعار العربية
فلذلك دعا الشيخ رحمه اللّه بالسقاية لأيامه التي مضت مع جيرانه الذين كانت لياليه أفراحا وأعراسا بسببهم وإنما خص تلك الليالي بكونها أفراحا لأن العرس في الغالب لا يكون إلا ليلا .
وقوله « مضت مع جيرة » جملة في محل جر على أنها صفة أيام .
وجملة « كانت ليالينا بهم أفراحا » في موضع جر على أنها صفة جيرة وحكم على الليالي بأنها نفس الأفراح مبالغة وإلا فالليالي زمان الأفراح .
قوله « واها » إلى آخر البيت يقال واها له وقد يترك تنوينه كلمة تعجب من طيب شيء وقد تكون كلمة تلهف وهي هنا للتعجب من طيب الزمان الذي أشار إليه الشيخ رحمه اللّه .
 
و « الزمان » مجرور على أنه صفة لاسم الإشارة . و « طيبه » .
بالجر معطوف على اسم الإشارة . وقوله « أيام » منصوب على أنه مفعول لفعل مقدر تقديره أمدح .
« أيام كنت » وترك تنوينها لأنها مضافة إلى الجملة بعدها فكأنه لما تعجب أو تلهف على ذلك الزمان وطيبه أراد أن يبين أن ذلك الزمان هو الأيام التي كان بها مراحا من اللغوب .
و « اللغوب » التعب أو أشدّه . و « المراح » بضم الميم اسم مفعول من أرحت زيدا من

« 68 »
 
التعب فأنا مريح اسم فاعل وهو مراح اسم مفعول . و « من اللغوب » متعلق به . قوله « قسما » مصدر بمعنى اليمين باللّه . فظاهر كلام صاحب القاموس أنه مخصوص باللّه تعالى ولعله أراد التمثيل فلذلك قال الشيخ رحمه اللّه « قسما بمكة والمقام » بالجر معطوف عليها و « من » كذلك . وجملة « أتى البيت الحرام » لا محل لها من الإعراب .
و « ملبيّا سياحا » حالان مترادفتان من فاعل أتى أو متداخلتان بناء على أن الثانية حال من فاعل الأولى وهو الضمير المستكن فيها فقد أقسم الشيخ رحمه اللّه بثلاثة أشياء بمكة وبمقام إبراهيم عليه السلام وبمن قصد البيت الحرام حال تلبيته وسياحته .
قوله « ما رنحت ريح » الخ . جواب القسم و « رنح » بمعنى ميل . و « ريح الصبا » فاعل مضاف إليه .
و « شيح الربا » مفعول ومضاف إليه . و « الشيح » بكسر الشين نبت معروف طيب الرائحة .
قوله « إلا وأهدت منكم أرواحا » أعلم أن الجملة الواقعة بعد « إلا » هنا حالية ولا تحتاج إلى تقدير قد وصاحب الحال « ريح الصبا » أي ما ميلت ريح الصبا شيح الربا إلا حال كونها مهدية إلينا أرواحا منكم .
والأرواح يكون جمع روح وجمع ريح أيضا فلعل المراد هنا الأول فعلى هذا يكون المراد متى هبت ريح الصبا وميلت شيح الربا أهدت لأموات المحبة أرواحا وأحيت منهم أشباحا لأن من يحبهم ينتعش برباهم ويحيا برؤياهم .
 
( ن ) : قوله سقيا لأيام يريد أيامه في مكة المشرفة زمان سياحته . ويكني عن أيام اللّه التي قال اللّه تعالى لموسى عليه السلام : وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [ إبراهيم : الآية 5 ] .
وقوله مضت مضيها بالنسبة إليه حيث خبثت نفسه عنده بإدراكه للحياة الدنيا وكنى بمعيته للجيرة عن ثبوته بالقول الثابت في حضرة الكلام والعلم كما قال تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [ الحديد : الآية 4 ] .
وقوله كانت ليالينا ، كناية عن النشأة الإنسانية الممكنة باعتبارها في نفسها فإنها مظلمة بالظلمة العدمية فإذا طلع عليها نهار الوجود الحق وأبصره السالك زالت الليلة وذكر الليالي ولم يذكر الأيام لثبوته في الظلمة العدمية لا في النور الوجودي . وقوله حيث الحمى ، يكني بالحمى عن الحضرة الجامعة للأسماء والصفات .
وقوله وطني ، أي معلوم فيه مقول به أزلا وأبدا وأما المنزل الدنيوي فإنه منزل سفر لا وطن . وقول الغضى بالغين المعجمة والضاد المعجمة شجر وخشبه من أصلب الخشب .
وكنى بسكان الغضى عن المعلومات الإلهية النازلة إلى حضرة الكلام والقول .
وقوله سكني بالتحريك أي أسكن إليهم واعتمد عليهم في أموري كلها من حيث أنهم تجليات الحضرة الذاتية .
وقوله ووردي الماء بكسر الواو والورد خلاف الصدر وورد زيد الماء فهو وارد ووردي مبتدأ ، والماء

« 69 »
 
مفعول وردي . وقوله فيه خبر المبتدأ والضمير يعود إلى الحمى ، يعني لا أرد على الماء إلا في الحمى كناية عن العلم فلا أستند فيه إلا إليه . وقوله مباحا حال من الماء ، أي غير محظور ولا ممنوع عني .
وقوله وأهيله ، أي أهيل الحمى تصغير أهل كناية عن التجليات الإلهية والمظاهر الربانية . وقوله أربي بالتحريك ، أي مقصودي ومرادي .
وقوله وظل نخيله ، أي نخيل الحمى . كنى بالطل عن الآثار الكونية وبالنخيل عن الحقائق العلمية .
قال تعالى : أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [ الفرقان : الآية 45 ] ،
أي ظل تلك الحقائق . وقوله طربي يقال طرب طربا من باب تعب وهو خفة تصيبه لشدّة حزن أو سرور العامة تخصه بالسرور ، يعني أن الآثار الكونية ألحان مطربة لأنها متحرّكة بالحركة الآمرية على الوزن .
قال تعالى : وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ( 19 ) [ الحجر : الآية 19 ] .
 
وقوله ورملة وادييه أفرد الرملة وثنى الواديين نحو قطعت رأس الكبشين .
قال الدماميني في شرح التسهيل رأس الكبشين بإفراد الرأس يختار على رأسي الكبشين بصيغة المثنى ولفظ الجمع نحو رؤوس الكبشين يختار على لفظ الإفراد فعلم أنها على هذا النمط عند ابن مالك الجمع ثم الإفراد ثم التثنية إلى آخر كلامه .
والرملة واحدة الرمال ومدينة بالشام كنى بالرملة عن علوم الوهب الإلهي . وكنى بالواديين عن الشريعة والحقيقة فإن كل واحدة منهما واد مسلوك وفيه علوم وهبية الهبة تخصه .
وقوله مراحا أصله مراحان بصيغة التثنية خبر المبتدأ الذي هو رملة لأنها على معنى التثنية .
كما تقول رأس الكبشين مقطوعان ثم حذفت النون من قوله مراحا على وجه الترخيم لغير المنادى فإنه يجوز للضرورة .
وقوله مراحان بضم الميم من أراحت الإبل بالألف أو بفتح الميم من راحت .
والمراح بضم الميم حيث تأوي الماشية بالليل والفتح بهذا المعنى خطأ لأنه اسم مكان واسم المكان والزمان والمصدر من أفعل بالألف مفعل بالضم على صيغة المفعول .
وأما المراح بفتح الميم فاسم الموضع من راحت بغير ألف واسم المكان من الثلاثي بالفتح والمراح بالفتح أيضا الموضع الذي يروح القوم منه أو يرجعون إليه فإن اعتبر تحمل أثقال التكاليف في أهل الواديين جعل ذلك مراحين من أراحت الإبل أو راحت بالضم أو الفتح وإن جعلهما أهل تشريف بالأحكام لا تكليف من قوله تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [ الإسراء : الآية 70 ]
أي في الشريعة والحقيقة وبنو آدم من غلبت عليهم الإنسانية على الحيوانية فتحت الميم وكان الموضع الذي يروح القوم منه أو يرجعون إليه .
وقوله أيام كنت من اللغوب مراحا ، يعني أيام اللّه التي أنا فيها بلا وجود ومقامي تشريف الحق لي بجريان أحكامه فكنت

« 70 »
 
فيها من أتعاب التكاليف مستريحا . وقوله قسما بمكة ، كنى بمكة عن الحضرة الإلهية التي تفنى فيها جميع الأعيان الكونية .
وقوله والمقام ، أي مقام إبراهيم عليه السلام كناية عن مقام الإسلام . وقوله ومن أتى البيت الحرام وهو الكعبة المشرفة كناية عمن يتوجه إلى حضرة الذات الغيبية الظاهرة بآثار الأركان الأربعة الأسمائية ركن الاسم الحيّ وركن الاسم العليم وركن الاسم المريد وركن الاسم القادر .
 
وقوله ملبيا ، كنى بالتلبية عن سرعة الإنجذاب إلى الحضرة الربانية . وقوله سياحا ، كناية عن الذي يسيح في الأراضي الامكانية بهمته النورانية فيستجلي قوابل ظهور الحضرة الذاتية .
وقوله ما رنحت إلى آخر البيت ، كنى بريح الصبا عن الروح الأعظم الذي هو من أمر اللّه من مطلع شمس الأحدية .
وكنى بشيح الربا عن الأجسام النابتة في المراتب العالية .
وقوله منكم الخطاب لأهل ودّه باعتبار ما كنى بذلك عنهم .
وقوله أرواحا ، يعني أنها تهدي أرواحا أمرية قدسية لأهل الأرواح الحيوانية المعتنية بالسلوك في الطريق الربانية . اهـ .

.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم الأبيات من 01 إلى 18 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:29 pm

شرح هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم الأبيات من 01 إلى 18 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم الأبيات من 01 إلى 18
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة الخامسة هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم ]
قال الناظم رحمه اللّه تعالى :
01 - هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم *** أم بارق لاح بالزّوراء فالعلم
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن المحبين قد تلوح لهم بوارق المحبة من طور التجلي فيهيمون عند مشاهدتها في مقام الحيرة وينطقون عن حالاتهم مترجمين عن أطوارهم الموضحة لأسرارهم .
فلذلك قال رحمه اللّه « هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم » ونار ليلى عبارة عن نار حبها لأن لكل حي من أحياء العرب نارا يوقدونها إمّا للقرى وإما لأمر آخر ومن عادة العارفين أنهم يكنون بليلى وسلمى ولبنى وعلوي عن مراداتهم . و « بدت » بمعنى ظهرت . و « ليلا » منصوب على الظرفية والعامل فيه بدت . و « ذي سلم » موضع معروف فيه شجر السلم والواحدة سلمة و « الباء » بمعنى في . و « البارق » سحاب ذو برق . و « لاح » ظهر أيضا . و « الزوراء » لقب بغداد دار السلام وتطلق على أماكن متعددة منها موضع بالمدينة قرب المسجد وهو المراد هنا . و « العلم » مكان هناك معروف .
 
الإعراب :
هل : حرف استفهام . ونار : مبتدأ وهو مضاف إلى ليلى . وبدت :
فعل ماض والتاء علامة تأنيث . وفاعله ضمير يعود إلى نار ليلى . وليلا : منصوب على الظرفية . والباء في بذي سلم : ظرفية بمعنى في أي ظهرت نار ليلى في الليل في المكان المشهور المعروف . والجملة خبر . وأم : حرف استفهام وعطف .
وبارق : معطوف على نار ليلى والتقدير هل ما رأيته وظهر لعيني نار ليلى ظهرت من ذي سلم أم هو بارق ظهر في الزوراء والعلم .
وهذا من باب تجاهل العارف كأن الدهشة أدركته فهو لا يدري ما هو فلذلك يسأل عنه وفي البيت الجناس التام بين ليلى وليلا وتجاهل العارف .
قال في المفتاح ومنه سوق المعلوم مساق غيره ولا أحب تسميته بالتجاهل .
 
( ن ) : كنى بنار ليلى عن ظهور الوجود الحق على صور التقادير العلمية إذا توجهت بتلك التقادير الإرادة الأزلية . قال تعالى : وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ( 9 )

« 72 »
 
إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً ( 10 ) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى ( 11 ) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ( 12 ) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى ( 13 ) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ( 14 ) [ طه : الآيات 9 - 14 ] .
وقوله : بدت ليلا ، أي في ظلمة الليل وهو عالم الأكوان فانكشفت به ظلمة الإمكان . وقوله بذي سلم ، كناية عن القلب السالم السليم الذي ينفع صاحبه إذا أتى اللّه به .
كما قال تعالى : يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ( 88 ) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( 89 ) [ الشعراء : الآيتان 88 ، 89 ]
وقوله أم بارق ، كناية عن القطب فإنه سحاب على شمس الأحدية ذو برق روحاني .
وقوله بالزوراء ، الإشارة هنا بالزوراء إلى بغداد من الزور بالتحريك وهو الميل وبغداد مسكن القطب . 
وقوله فالعلم ، يكني بالعلم عن الفرد الجامع الخارج عن حكم القطب وعن دائرته فلا يكاد يعلم به . اهـ .
 
02 - أرواح نعمان هلّا نسمة سحرا *** وماء وجرة هلّا نهلة بفم
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « أرواح نعمان » . أقول « أرواح » هنا جمع ريح كما تقدمت حكايته وهي مضافة إلى نعمان بفتح النون اسم واد معروف وهو المراد في قول الشاعر :
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره * هو المسك ما كرّرته يتضوّع
 
وهو المراد في قول الشاعر الآخر :
أيا جبلي نعمان باللّه خليا * طريق الصبا يخلص إلى نسيمها
 
فإن قلت : قد ورد أن الإمام الشافعي رضي اللّه عنه سمع رجلا يذكر محاسن أوصاف الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي اللّه عنه .
 
فقال لذلك الرجل الذاكر الأوصاف : أعد ذكر نعمان لنا البيت والإمام بضم النون والذي في البيت بفتحها فكيف جاز أن يتمثل بفتح النون في مضمونها .
 
قلت يقع مثل هذا كثيرا والمتمثل يغير بعض حركات الحروف إلى ما يريد فالإمام لما تمثل بالبيت ضم نونه ليوافق اسم الإمام الأعظم رضي اللّه عنهما فكأنه غير ذلك ابتداء وأعجب من ذلك أنهم جوزوا زيادة ألف الإطلاق في ألفاظ القرآن العظيم إذا أتى بها على سبيل الاقتباس
 
كما في قوله :
كان الذي خفت أن يكونا * إنا إلى اللّه راجعونا
فإذا كان التغيير اليسير جائزا في تضمين ألفاظ القرآن أفلا يجوز في التمثل ببعض الأبيات من باب أولى . و « هلا » كلمة تحضيض وهو الطلب الحثيث . و « النسمة »

« 73 »
 
واحدة النسمات وهي الهبة الواحدة . و « سحرا » بالنصب على الظرفية والسحر قبيل الصبح والمراد هنا سحر يوم غير معين ولذلك صرف لتنكيره ولو أريد به سحر يوم معين لكان ممنوعا من الصرف . قوله « وماء وجرة » .
كقوله « أرواح نعمان » فكل منهما منادى مضاف منصوب لذلك أي يا أرواح نعمان ويا ماء وجرة .
و « وجرة » موضع بين مكة والبصرة أربعون ميلا ما فيها منزل فهي مدب للوحوش أي مجمع .
و « هلا » كالتي في البيت قبلها . و « النهلة » واحدة النهلات وهي المرّة من الشرب الأول ويقابله العلل لأنه الشرب الثاني .
قوله « بفم » أي نهلة فم يريد بذلك تقليلها كما يقال نغبة فم وشربة شفة أي هل لي منك يا ماء وجرة شربة قليلة يجرعها الفم دفعة واحدة .
 
الإعراب :
أرواح نعمان : منادى مضاف منصوب حذف حرف ندائه .
والأرواح : جمع ريح هنا . قوله هلا : كلمة تحضيض . ونسمة : بالنصب مفعول لفعل محذوف أي هلا بعثت إلي نسمة أرتاح بها وقت السحر . وسحرا : متعلق بالفعل المحذوف ويجوز فيها الرفع بتقدير فعل يلائمه أي هلا حصلت لي نسمة منك وقت السحر .
قوله وماء وجرة : على نمط أرواح نعمان في تقدير النداء وحذف حرفه وفي تجويز النصب والرفع في قوله هلا نهلة بفم ، كما جوزناهما في قوله أرواح نعمان .
 
وأقول المعنى ظاهر لأن غاية مرامه أنه يطلب من أرواح نعمان نسمة وقت السحر ويطلب من ماء وجرة نهلة تطفئ ما بقلبه من لهيب الشرر ويحضرني فيما يناسب ذلك أيضا قول الشيخ أبي العلاء المعري التنوخي :
أيا برق ليس الكرخ داري وإنما * رماني إليه الدهر منذ ليال
فهل فيك من ماء المعرة قطرة * تغيث بها ظمآن ليس بسال
 
ولقد بلغنا فيما رويناه أن الخليفة لما سمع قوله فهل فيك من ماء المعرة قطرة أرسل إلى المعرة دواب البريد وأتى منها بماء لطيف ووضع ذلك الماء في شربة الشيخ أبي العلاء من غير أن يعلمه بذلك فلما شرب منها التفت إلى الخليفة متبسما وقال يا مولانا هذا ماؤها فأين هواؤها فقال له الخليفة أما الماء فإن القدرة تصل إليه وأما الهواء فإنه ليس داخلا تحت القدرة البشرية فليس لنا عليه حكم أبدا واللّه سبحانه وتعالى أعلم .
 
( ن ) : كنى بأرواح نعمان عن أقطاب المنازل والمقامات كقطب مقام التوكل وقطب مقام الصبر وقطب مقام الزهد إلى غير ذلك فهو منزل ما دام مسافرا فيه فإذا أقام فهو مقام فإذا رسخ فهو قطب فيه تدور عليه دوائر كل متعلق به من أهل الإسلام


« 74 »
 
وإمدادهم منه . وكنى بالنسمة عن الروح الآمري الذي يكون إذا تجرد الروح الحيواني عن العلائق الطبيعية . وكنى بالسحر عن ابتداء أحوال السالكين فإنهم يكونون في أواخر ليل نشأتهم الطبيعية الليلية قبيل صبح نشأتهم الروحانية . وكنى بماء وجرة عن حضرة الأفراد أصحاب ماء العلم الإلهي النازل عليهم من سحائب نفوسهم في سماوات الغيبة عنها . وكنى بنهلة الفم عن العلوم التي تتلقى بالمشافهة الروحانية وتوجه المشايخ بالإذن الرباني على قلوب المريدين الصادقين . اهـ .
 
03 - يا سائق الظّعن يطوي البيد معتسفا *** طيّ السّجلّ بذات الشّيح من إضم
04 - عج بالحمى يا رعاك اللّه معتمدا *** خميلة الضّال ذات الرّند والخزم
05 - وقف بسلع وسل بالجزع هل مطرت *** بالرّقمتين أثيلات بمنسجم
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « يا سائق الظعن » منادى مضاف . و « الظعن » بالفتح إما مصدر على وزن سمع والمراد به المظعون بهم ، أو بمعنى الجماعة الظاعنين كالركب للجماعة الراكبين والشرب والصحب . اهـ .
 
ولك أن تقرأه بضم الظاء وتسكين العين على أنه جمع ظعينة وهي الهودج فيه امرأة أم لا والمرأة ما دامت في الهودج . قوله « يطوي البيد » حال من سائق الظعن .
 
وقوله « معتسفا » حال من الضمير في يطوي ولا يجوز كونها من سائق الظعن لأن الاعتساف قيد لطي البيد لا لسوق الظعن والمعتسف الذي يمشي على غير طريق .
و « طيّ السجل » منصوب على أنه مصدر من يطوي مبين للنوع وأضيف للسجل .
و « ذات الشيح » اسم مكان عظيم ينبت فيه الشيح . قوله « من أضم » حال من ذات الشيح ومن تبعيضية لأن المراد يطوي البيد في ذات الشيح حال كون ذات الشيح بعضا من المكان المسمى بأضم .
قال في القاموس : و « أضم » كعنب جبل والوادي الذي فيه المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام عند المدينة يسمى القناة ومن أعلى منها عند السد النظاة ثم ما كان أسفل ذلك يسمى أضما وذو أضم ما بين مكة واليمامة .
قوله « عج » أمر من عاج يعوج أي أقام وقد يتعدى ويكون بمعنى وقف ورجع وعطف رأس البعير بالزمام وعاج مبنية على الكسر زجر للناقة . و « الحمى » ما يجب أن يحمى من شيء والحامية الرجل يحمي أصحابه .
قوله « يا » حرف تنبيه ولذلك دخلت على الفعل وإن حملت على معنى النداء فالمنادى محذوف . وجملة « رعاك اللّه » دعائية إنشائية .
و « معتمدا » حال من ضمير عج . و « خميلة الضال » مفعول ومضاف إليه والعامل في المفعول « معتمدا » . و « الضال » شجر معروف . و « ذات » بالنص

« 75 »
 
صفة خميلة و « الرند » مضاف إليه وهو بالراء المهملة والنون والدال المهملة شجر معروف من أشجار بوادي الحجاز . و « الخزم » جمع خزامى بضم الخاء وهي مقصورة وهو نبت طيب الرائحة والجمع بضم الخاء والزاي وقد تستعمل الخزامى غير مقصورة وهو غلط .
قوله « وقف بسلع وسل » الخ . « سلع » جبل بالمدينة و « سل » فعل أمر من السؤال ولكن خفف بأن حذفت الهمزة من الأمر بعد إلقاء حركتها على السين فلما تحرّكت السين استغنى الفعل عن همزة الوصل فحذفت ولك أن تقول حصل التخفيف في المضارع فلحق الأمر لأنه منه .
و « الجزع » بكسر الجيم منعطف الوادي .
و « الرقمتان » روضتان بناحية الصمان .
و « أثيلات » بضم الهمزة وفتح الثاء المثلثة وسكون الياء والتاء المثناة من فوق في آخرها مرفوع على أنه نائب فاعل مطرت وبالرقمتين حال مقدم من أثيلات لأنه نعت نكرة قدم عليها . و « بمنسجم » جار ومجرور متعلق بمطرت أي هل مطرت بمطر منسجم سهل الجري واللّه سبحانه أعلم .
( ن ) : كنى بسائق الظعن عن الروح الأعظم الآمري الذي هو أول مخلوق ظهر عن أمر اللّه وكنى بالظعائن عن الأجسام المشتملة على نساء النفوس البشرية أو عن نساء النفوس البشرية ما دامت تحت حكم أجسامها .
وقوله يطوي من قوله تعالى :وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ[ الحديد : الآية 4 ] يعني بروحه الآمري .
وكنى بالبيد عن تجليه تعالى بالروح الأعظم الموسوم بالمظاهر الكونية ثم استتاره بها عنها .
وكنى بقوله معتسفا عن قيام الحق تعالى بالروح المذكورة على كل نفس بما هو مقدر عليها من الأعمال والأحوال والأقوال .
وكنى بطي السجل عن إذهاب النفوس البشرية وانمحاء آثارها شيئا فشيئا والتحاقها بالسجل الأعظم الروح الكلي الآمري
 من قوله تعالى :وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ( 13 ) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً( 14 ) [ الإسراء : الآيتان 13 ، 14 ]
فكتابه نفسه التي انتقشت فيها صور أعماله . وقوله بذات الشيح ، كناية عن الخلق قال تعالى :وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ( 17 ) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً( 18 ) [ نوح : الآيتان 17 ، 18 ] .
 
وقوله أضم ، كناية عن النور المحمدي الذي هو أول مخلوق وهو المسمى أولا بالروح الأعظم كما قدمناه باعتبار وهو نور باعتبار آخر وقد خلق اللّه تعالى منه كل شيء كما ورد في الأحاديث النبوية .
وقوله عج بالحمى ، كناية عن التجلي الروحاني في الصور يقال له تجل فيما تصوره فإن ذلك حماك .
وقوله يا رعاك اللّه ، المنادى محذوف تقديره يا سائق الظعن رعاك اللّه ، أي راقبك واحترمك اللّه ، أي الاسم الجامع لجميع الأسماء والخميلة الطنفسة وجمعه خميل . وكنى بخميلة الضال عن الدنيا

« 76 »
النابت فيها كل شيء من إنسان وحيوان وجماد ونبات ونفوس وأعمال وأحوال إلى غير ذلك وفيها الخير والشر والنفع والضر .
 
والمعنى في ذلك انظر يا أيها الروح الآمري بأمر ربك إلى أحوال أهليها وعاملهم باللطف والإحسان . وكي بالرند عن الأعمال الصالحة التي تنبت في تراب الأجسام البشرية . وكنى بالخزم عن الأعمال غير الصالحة التي تقيد أهلها عن الإطلاق في عوالم الملكوت .
وقوله وقف بسلع أمر السائق أن يقف وهو معاملته بالرفق والإحسان عن أمر ربه للمحمديين من الأولياء المشار إليهم . بقوله بسلع وهو جبل بالمدينة . والجزع كناية عن اللوح المحفوظ الذي فيه أحوال العوالم كلها . وكنى بالرقمتين عن حضرة العلم الإلهي وحضرة الإرادة الربانية .
كما قال تعالى :كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[ الأنعام : الآية 54 ] .
 
وكنى بأمطار الأثلات العظام في الرقمتين عن أعراض المحمديين من الأولياء وهي ما يمدح من أوصافهم وأحوالهم وأقوالهم وأعمالهم وما يذم منها فإن ذلك معنى عرض الإنسان وكون أعراضهم مطرت أي هي ظاهرة بتتابع الفيض الإلهى في حضرة العلم والإرادة أزلا فإن ذلك غير معلوم لسوى الحق تعالى إلا بطريق الفيض منه سبحانه على روحه الآمري والمقصود حصول ذلك الاطلاع الكشفي عندهم في الحياة الدنيا .
 
كما قال تعالى :لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ[ يونس : الآية 64 ] .
وقال تعالى :إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ( 30 ) [ فصّلت : الآية 30 ]
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ[ فصّلت : الآية 31 ] .
وأشار بقوله بمنسجم إلى كون المطر كالدمع من العين لا من عالم الأسماء والصفات لأنهم ذاتيون لكونهم محمديين. اهـ.
 
06 - نشدتك اللّه إن جزت العتيق ضحى *** فاقر السّلام عليهم غير محتشم
07 - وقل تركت صريعا في دياركم *** حيّا كميت يعير السّقم للسّقم
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « نشدتك اللّه » أي سألتك اللّه أي باللّه . « إن » شرطية . و « جزت » ماض من الجواز وهو المرور .
و « العقيق » واد بالقرب من المدينة المنورة . و « ضحى » منصوب على الظرفية أي إن جزت العقيق في وقت الضحى . قوله « فاقر السلام » ، « أقر » فعل أمر مخفف المهموز وهو مثل اخش وفاعله ضمير المخاطب . و « السلام » بالنصب مفعوله .
و « عليهم » متعلق به . و « غير محتشم » حال ومضاف إليه وإنما قيد الأمر بقوله غير محتشم ليكون قادرا على أن يقول للأحبة تركت صريعا في دياركم فإنه لو احتشم لما قدر أن يقول ذلك . وضمير عليهم يعود إلى مضاف محذوف أي إن

 
« 77 »
 
جزت بساكني العقيق أو أن العقيق عبارة عن ساكنيه مجازا والصريع الواقع من غير شعور وهو بمعنى المفعول . و « في دياركم » إما متعلق : بتركت أو بصريع . و « حيّا » حال من ضمير صريع . وقوله « كميت » صفة لحي أي هو حي لكنه في عدم الحركة والشعور كالميت الفاقد للحياة . وجملة قوله « يعير السقم للسقم » جملة حالية أيضا متداخلة أو مترادفة . و « السقم » على وزن قفل وهو مفعول يعير .
وقوله « للسقم » بفتح السين وكسر القاف على أن يكون عبارة عن السقيم فهو حينئذ صفة مشبهة على وزن فرح أي يعير سقمه للرجل السقيم ويجوز كون الثاني للسقم على وزن جبل أي يعير سقمه للسقم وهنا لكن يكون المقصود المبالغة ومن هذا الأسلوب قول المتنبي :
وجبت هجيرا يترك الماء صاديا
 
( ن ) : الخطاب لحضرة الروح الأعظم المذكور القائم باسم بعد اسم من الأسماء الإلهية يقول له ذكرتك اللّه أي ذكرت لك الاسم الجامع لجميع الأسماء وأقسمت عليك به .
وقوله إن جزت العقيق ، كنى بالعقيق عن المحمديين من الأولياء وجوازه بهم كناية عن قيامه بأحوالهم وتحليه بمظاهرهم .
وقوله ضحى ، كنى بالضحى عن كمال إشراق شمس الأحدية على المظاهر الإمكانية . وقوله عليهم ، أي على أهل العقيق من الأولياء المحمديين المذكورين .
وقوله غير محتشم ، أي غير مؤذ ولا خجل ولا غضب كناية عن كمال التلطف بهم في إيصال الأمان إليهم من كل سوء . وقوله صريعا ، كناية عن نفسه المقتولة بسيوف المجاهدة في طريق العرفان .
وقوله في دياركم خطاب للمشار إليهم بذكر العقيق وهم الأولياء المحمديون وديارهم دائرتهم التي تدور عليها أحوالهم . اهـ .
08 - فمن فؤادي لهيب ناب عن قبس *** ومن جفوني دمع فاض كالدّيم
 
[ الاعراب والمعنى ]
في البيت التفات من الغيبة إلى التكلم واللهيب اشتعال النار إذا خلص من الدخان وناب عن قبس سد مسده والقبس محركة شعلة نار تقتبس من معظم النار كالمقباس . قوله « ومن جفوني دمع » ، « ياء » جفوني محركة بالفتح للوزن . و « فاض » الوادي انطلق .
و « كالديم » متعلق بقوله فاض أي فاض فيضا كفيض الديم وهو جمع ديمة وهي المطر الدائم وفي البيت إفادة الطباق بين اللهيب والدمع من جهة أنهما ماء ونار في بدن واحد وقد قلت :
ماء ونار بعينيه ومهجته * والماء والنار في جسم من العجب

« 78 »
 
فمعناه أن السقم الذي ادعاه في البيت الذي قبله أحدث في قلبه لهيبا ناب عن الشعلة العظيمة من النار وفي عيونه دمعا فاض كفيض الديمة المدرار .
 
( ن ) : اللهيب في فؤاده لهيب التجلي الإلهي كما كان لموسى عليه السلام .
وقوله ومن جفوني ، جمع جفن والعبد جفون على العين الإلهية وكسر الجفون من صفات الحسن ولهذا ورد في الحديث القدسي أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي .
وقوله دمع ، كناية عما ينزل على القلب من معاني الحقائق ولطائف الرقائق . وقوله فاض كالديم ، كناية عن كثرة الفيض الرباني والإمداد الرحماني . اهـ .
 
09 - وهذه سنّة العشّاق ما علقوا *** بشادن فخلا عضو من الألم
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « وهذه » إشارة إلى الحالة المفهومة من قوله « وقل تركت صريعا في دياركم » ومن قوله « فمن فؤادي لهيب ناب عن قبس » البيتين يريد أن هذه سنة العشاق وعادتهم ثم قرّر ذلك بقوله « ما علقوا بشادن فخلا عضو من الألم » وتقديره فخلا عضو فيهم من الألم ، و « الشادن » بالشين المعجمة والدال المهملة وهو عبارة عن الحبيب المشبه بالغزال لأنه في اللغة موضوع على ولد الظبية إذا قوي واستغنى عن أمّه .
 
( ن ) : قوله وهذه ، أي لهيب القلوب وفيض دموع العيون كناية عن كشف التجليات الإلهية بالقلوب وفيض العلوم الربانية من حضرات الغيوب . وقوله العشاق هم العشاق الإلهيون أصحاب النظر الحقيقي إلى الجمال الحقيقي . 
وقوله بشادن ، كنى به عن مجلي الحضرة الربانية على القلب الإنساني على قدر استعداده فإنه سريع النفرة عنه والوحشة منه. 
وقوله من الألم ، هو ألم المجاهدة وتوجع المكابدة التي يراها السالك في طريق اللّه تعالى لتحصيل مقام المشاهدة . اهـ .
 
10 - يا لائما لامني في حبّهم سفها *** كفّ الملام فلو أحببت لم تلم
 
[ الاعراب والمعنى ]
يخاطب اللائم بأنه لامه في حبهم سفها والسفه الجهل ويقال سفه علينا فهو سفيه أي جهل والمراد أنه لامه بغير طريق بل بالجهل من غير علم بما تقتضيه المحبة . وقوله « كف الملام » فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت . و « الملام » مفعوله .
 
قوله « فلو أحببت لم تلم » أي لو كنت محبّا عاشقا لعلمت أن المحب لا يلام لأن الحب أمر اضطراري ولا قدرة للإنسان على دفع الأمر الاضطراري لعدم دخوله تحت القدرة . ويروى فلو أنصفت من الإنصاف أي لو كنت منصفا عادلا لما لمت رجلا

« 79 »
 
محبّا مضطرا فيما هو مشتمل عليه من الوداد الذي لا قدرة له على دفعه ولا إزالته وما أحسن قوله :
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى * فإذا عشقت فبعد ذلك عنف
 
( ن ) : كنى باللائم عن الغافل المحجوب . وقوله في حبهم ، أي حب المظاهر الإلهية والمجالي الربانية المكشوفة للعاشق في الصور الإنسانية . اهـ .
 
11 - وحرمة الوصل والودّ العتيق وبال *** عهد الوثيق وما قد كان في القدم
12 - ما حلت عنهم بسلوان ولا بدل *** ليس التّبدّل والسلوان من شيمي
 
[ الاعراب والمعنى ]
ما ألطف هذين البيتين لعمري أنهما سرور للفؤاد وقرّة للعين أقسم بما لوصل الأحبة من الحرمة وبالود العتيق الذي لا يستطيع المرء كتمه وبالعهد الوثيق المحكم عقده الصادق عهده وما كان له في القدم من الإجابة بالإقرار عند النداء من الملك الجبار وأجاب قسمه بقوله « ما حلت عنهم » أي عن الأحبة ولما كان طريق ترك الأحبة محصورا في أمرين أحدهما السلوان وثانيهما التبدل عن الحبيب بحبيب آخر فلذلك نفى عنه تغييره عن الأحبة بالطريقين المذكورين وأكد ذلك بقوله ليس التبدل والسلوان من شيمي أي ليس ذلك من عوائدي ولا في طبيعتي وتكلف الإنسان ما ليس في طبيعته في غاية الصعوبة وقد قلت في المعنى من قصيدة :
تخيل لي نفسي على البعد سلوة * وذلك في التحقيق سلوان سلوانيّ
وكيف سلوى عن هواك بغيره * وما شمت إنسانا سواك بإنساني
وقلت :
فلا يتّهمني من جفاني بسلوة * وحق الوفا ليس الجفا من عوائدي
 
( ن ) : الوصل هو رجوع السالك بالفناء إلى حضرة العلم القديم والإرادة والكلام الأزليين وقوله . والود العتيق ، أي القديم وهو المحبة الأصلية الإلهية محبة الكائنات المشار إليه بقوله تعالى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ المائدة : الآية 54 ] .
وقوله وبالعهد الوثيق ، أي المحكم وهو عهد الرب تعالى الذي أخذه على الأرواح في عالم الذر المشار إليه بقوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [ الأعراف : الآية 172 ] ،
وقوله وما قد كان في القدم ، أي وجد وثبت من علمه تعالى بنفسه الذي هو علمه بكل ما سواه منذ الأزل . اهـ .
 
13 - ردّوا الرّقاد لجفني علّ طيفكم *** بمضجعي زائر في غفلة الحلم
 


« 80 »
 
[ الاعراب والمعنى ]
في البيت التفات من الغيبة إلى الخطاب لأنه قال « ما حلت عنهم » . وقال بعد ذلك « ردّوا الرّقاد لجفني على طيفكم » . « ولجفني » متعلق بردوا . و « عل » لغة في لعل . و « الطيف » الخيال الطائف . و « زائر » خبر لعل . و « الباء » في « بمضجعي » بمعنى في وهو متعلق بزائر . و « في غفلة الحلم » كذلك وفي المعنى
قول المهيار الديلمي من قصيدة :
وابعثوا أشباحكم لي في الكرى * إن أذنتم لعيوني أن تناما
و « الحلم » بضمتين الرؤيا ولا يخفى ما في البيت من المحاسن .
 
( ن ) : الرقاد النوم ليلا كان أو نهارا قال تعالى : وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ [ الكهف : الآية 18 ] ،
قال المفسرون إذا رأيتهم حسبتهم أيقاظا لأن أعينهم مفتوحة وهم نيام وهذه حالة المحبين الإلهيين من أصحاب كهف الأبواء والانتساب الإلهي تحسبهم أيقاظا وهم رقود لأنه تعالى ردّ عليهم رقودهم الذي كانوا فيه زمان جاهليتهم فرأوه تعالى في شيء فأحبوا كل شيء من حيث تجلى الحق تعالى به عليهم بعد أن أيقظهم له فرأوه به من حيث هو .
وقوله لجفني ، أي لغطاء عيني فإن النفس البشرية غطاء العين الحقيقية .
وقوله عل طيفكم ، هذا الطيف هو ما يقع في الخيال حالة الجهل باللّه تعالى من المعاني وهو إله المعتقدات الذي وسعه قلب عبده المؤمن وهو المناظر العلا .
وقوله بمضجعي ، أي موضع الضجوع كناية عن محل طبعه وعادته .
وقوله زائر لم يجعله ساكنا لتحوله في كل وقت لأنه معنى عرضي على علم منه بذلك . وقوله في غفلة الحلم كما ورد الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا . اهـ .
 
14 - آها لأيّامنا بالخيف لو بقيت *** عشرا وواها عليها كيف لم تدم
 
[ الاعراب والمعنى ]
« آها » كلمة توجع أو شكاية ، وواها كلمة تعجب وكلمة تلهف ، و « الخيف » الناحية وغرة بيضاء في الجبل الأسود الذي خلف جبل أبي قبيس وبها مسجد الخيف وهو المراد هنا .
و « لو » هنا للتمني وللشرط والجواب محذوف أي لو بقيت عشرا لاشتفى بها البال وانتظم بها الحال . والمراد لو بقيت عشرة أيام أو عشر ليال .
فإن كان المراد الليالي فلا إشكال وإن كان المراد الأيام فالقياس عشرة بالتاء لكن نص أهل التحقيق على أن المعدود إن كان مذكرا وحذف معدوده جاز فيه حذف التاء كقوله صلى اللّه عليه وسلم :
« من صام رمضان وأتبعه ستّا من شوّال » ولما توجع من عدم دوام أيام خيفه تعجب من عدم دوامها مع كمال اشتياقه إلى الدوام . و « كيف » للتعجب لأنها ترد كثيرا للاستفهام التعجبي .

« 81 »
 
( ن ) : قوله لأيامنا ، جمع يوم وأضافها إليه ومن معه لأنه دائم القصد والتوجه إلى حضرة الحق تعالى وإلى بيته القلب العامر بذكره سبحانه وهو الحج المعنوي الذي هو القصد الأعلى للعارفين المحققين والحج الظاهر عندهم إشارة إليه . وقوله بالخيف ، كناية هنا عن سفح جبل الجسم المنجبل من الطبائع والعناصر . وقوله لو بقيت عشرا ، أي عشر ليال إذ لو أراد بقاء الأيام لقال عشرة وهي ثلاثة أيام بثلاث ليال تكون في وادي منى للحاج إشارة إلى ثلاث ليالي النشأة الإنسانية ليلة الجسم وليلة النفس وليلة العقل وفي أيامها الثلاثة رمي جمار الصفات السبع الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام جمرة العقبة العقلية والجمرة الوسطى النفسانية وجمرة مسجد الخيف الجسمانية حتى تزول دعوى الصفات بالكلية وتمني بقاءها عشر ليال ليتكرر له ذلك الرمي فيرسخ فيه . وقوله عليها ، أي على تلك الأيام يدل أن كلمة واها هنا للتلهف لا للتعجب لأنه يقال تلهف عليه . اهـ .
 
15 - هيهات وا أسفي لو كان ينفعني *** أو كان يجدي على ما فات واندمي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« هيهات » اسم فعل بمعنى بعد وفاعله ضمير يعود إلى ما تمناه في البيت قبله من تمنّيه دوام لقائه . وكلمة « وا » ويؤتى بها للندبة على مدخولها لكن تارة يندب الشيء لحلوله وتارة لزواله وهذا من قبيل الأول لأنه يتوجع لحلول أسفه . و « لو » هنا للتمني .
و « كان » يجوز فيها أن تكون ناقصة ويجوز كونها زائدة إذ لو قلت لو ينفعني أو يجدي لقام المعنى وفاعل ينفعني يعود إلى قوله « وا أسفي » وفاعل يجدي . قوله « واندمي » على إرادة اللفظ . و « على ما فات » متعلق بقوله ندمي . لأن المعنى : أو كان يجدي وا ندمي على ما فات .
 
والمعنى :
لو كان ينفعني وا أسفي أو كان يجدي واندمي يريد أن التأسف لا ينفعه والندم لا يجديه ويجدي من أجدى من باب الأفعال بمعنى ينفع ويعطي .
 
16 - عنّي إليكم ظباء المنحنى كرما *** عهدت طرفي لم ينظر لغيرهم
 
[ الاعراب والمعنى ]
« إليكم » بمعنى تنحوا . و « عني » متعلق به . و « الظباء » هنا عبارة عن حسان الأنس ولذلك استعمل فيهم ميم جمع العقلاء في قوله إليكم . و « ظباء » المنحنى منادى مضاف حذف منه حرف النداء أي يا ظباء المنحنى . و « كرما » مفعول لأجله أو حال على تأويله باسم الفاعل أي تنحوا عني . « كرما عهدت طرفي لم ينظر لغيرهم » يقال عهدت طرفي أي عرفته . وجملة « لم ينظر لغيرهم » جملة حالية أي عرفت عيني حال

« 82 »
 
كونها غير ناظرة إلى غيرهم فاذهبوا عني يا غزلان المنحنى كرما منكم وإحسانا فإني قد عرفت أن عيني لا تنظر إلى سواهم ولا تعلم غير هواهم وقال بعضهم :
ولقد رأيت برامة بان النقا * فمنعت طرفي منه أن يتمتعا
ما ذاك من ورع ولكن من رأى * أشباه عطفك حق أن يتورّعا
ويروى البيت عاهدت فيكون معناه عاهدت طرفي على أن لا ينظر لغير أحبابي ولا يتفقد سوى أصحابي .
 
( ن ) : قوله ظباء المنحنى ، كناية عن حضرات الأسماء والصفات من حيث أعيان الأغيار فإنها تنزلات الذات الأقدس وتدلياته وكونها ظباء لنفورها عن البقاء لأنها آثار عرضية لا بقاء لها إلا بتكرار الأمثال .
وقوله كرما ، أي تنحوا عني إكراما منكم لي والمعنى إذهاب المغايرة منهم للحضرة الظاهرة بهم .
ولهذا قال عهدت طرفي لم ينظر لغيرهم ، أي لغير هؤلاء الظباء المذكورين يعني من حيث إنهم تجليات إلهية ومظاهر ربانية فإنهم الأحبة السابق ذكرهم . اهـ .
 
17 - طوعا لقاض أتى في حكمه عجبا *** أفتى بسفك دمي في الحلّ والحرم
18 - أصمّ لم يصغ للشّكوى وأبكم لم يحر *** جوابا وعن حال المشوق عمي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« طوعا » مفعول مطلق يقال طاع طوعا انقاد انقيادا . و « لقاض » متعلق به . و « أتى » هنا بمعنى فعل أي فعل « في حكمه عجبا » . وقوله « أفتى بسفك دمي » الخ .
تفسير للعجب قبله فإن الإفتاء بقتله « في الحل والحرم » عجب لأن إراقة الدم في الحرم ممنوعة وجملة « أتى في حكمه عجبا » مجرورة المحل على أنها صفة قاض .
وكذلك جملة « أفتى بسفك دمي في الحل والحرم » في محل جرّ على أنها صفة قاض .
قوله « أصم » يجوز فيه الحركات الثلاث الجر على أنه صفة قاض وأصم ممنوع من الصرف لوزن الفعل والوصف والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والنصب على أنه حال من فاعل أتى .
وجملة « لم يصغ للشكوى » بيان وتفسير لأصم ويجوز في ياء « يصغ » الضم من أصغى بمعنى استمع والفتح من صغا يصغو بمعنى مال ليستمع والشكوى حكاية حال الشخص في الضرر لمن يرجو منه إزالتها .
قوله « وأبكم » يجوز فيه الحركات الثلاث كما جازت في أصم .
وجملة قوله « لم يحر جوابا » بيان وتفسير لأبكم وهو الأخرس أو من يولد لا ينطق ولا يسمع ولا يبصر وفعله كفرح فهو أبكم وبكم .
قوله « لم يحر جوابا » بضم ياء المضارعة وكسر الحاء من قولهم ما أحار جوابا ما ردّ .
« وعن حال المشوق » متعلق بقوله « عمى » فيكون أصم لا يسمع وأبكم لا ينطق وأعمى

« 83 »
 
لا يبصر . فإن قلت لم أطاع هذا القاضي مع أنه غير ماش على الطريق المستقيم ولا سالك على الأسلوب الحكيم قلت إما لكونه قاضي الهوى وأهل الهوى لهم طريق تخصهم وليس عليهم اعتراض ولا تنسب أفعالهم إلى الأغراض أو لكونه أصم أبكم أعمى ومن كان كذلك فهو معذور وليس عليه حرج في القول المشهور وعلى الثاني فالمراد من الإطاعة السكوت على ما فعل من غير رد لمقاله وتقبيح لفعاله لا الرضا بما يحكم به من غير دليل وحسبنا اللّه ونعم الوكيل .
 
( ن ) : طوعا ، مفعول لأجله لقوله في البيت قبله عهدت طرفي لم ينظر لغيرهم لأجل طاعته . وقوله لقاض تنكيره للتعظيم وهو القاضي الذي هو الهوى بمعنى المحبة والشوق الملازم .
وقوله في الحل هو ما خرج عن حرم مكة .
وقوله والحرم ، أي حرم مكة وهو حرم اللّه وحرم رسوله وله حدود معروفة ومن دخله كان آمنا حتى لا يقتل صيده ولا يرعى حشيشه ولعمري فإن الهوى قاض جائر كل عقل في حكمه حائر لا يعبأ بكبير ولا يشفق على صغير . اهـ .

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح ما بين معترك الأحداق والمهج الأبيات من 01 إلى 44 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:30 pm

شرح ما بين معترك الأحداق والمهج الأبيات من 01 إلى 44 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة ما بين معترك الأحداق والمهج الأبيات من 01 إلى 44
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة السادسة ما بين معترك الأحداق والمهج ]
قال رضي اللّه عنه :
01 - ما بين معترك الأحداق والمهج *** أنا القتيل بلا إثم ولا حرج
 
[ الاعراب والمعنى ]
ما في قوله « ما بين » زائدة إذ المراد أنا القتيل . « بين معترك الأحداق والمهج » وعلى هذا تكون بين ظرفا لقتيل . و « معترك » بضم الميم وسكون العين وفتح التاء والراء اسم موضع العراك وهو القتال .
قال في القاموس والمعترك موضع العراك والمعاركة أي القتال وكل معترك يوجد فيه قتيل أو مجروح غالبا يقول لما اعتركت المهج والعيون نشأ عن ذلك قتله في ذلك الموضع .
قوله « بلا إثم ولا حرج » أي بلا إثم ولا حرج على قاتله لأن قتله بحكم العيون .
أو أن المراد بلا إثم ولا حرج مني يوجب القتل فيكون قتيلا في طريق الغرام بغير ذنب صدر منه في ذلك المقام .
و « الحرج » في آخر البيت مفتوح الحاء والراء بمعنى الضيق في الشريعة .
 
( ن ) : قوله ما بين معترك الأحداق والمهج ، يعني بين حرب سواد العيون من المحبوب وبين نفوس العشاق كنى بالعيون عن مظاهر تجليات الوجود الحق وسوادها كونها آثارا عدمية فإن الكون كله ظلمة فهو أحداق الوجود الحق
من قوله تعالى : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ [ البقرة : الآية 115 ] ،
ومهج العشاق نفوسها التي هي قائمة بها .
وقوله بلا إثم ولا حرج ، أي بلا ذنب يرتكبه قاتلي يعني أنه مقتول بلا إثم من قاتله ولا حرج عليه في قتله إما لأن قتله إبطال لحياته الوهمية لتتحقق له الحياة الحقيقية الأبدية أو لأن قاتله متصرف في ملكه عادل في حكمه فلا يسأل عما يفعل. اهـ .
 
02 - ودّعت قبل الهوى روحي لما نظرت *** عيناي من حسن ذاك المنظر البهج
 
[ الاعراب والمعنى ]
ما ألطف هذه المبالغة التي قصدها الشيخ رحمه الله فإن المحبين يدعون ذهاب الأرواح بعد الوقوع في مهاوي الهوى والشيخ يقول أنا ودّعت روحي بمجرد المشاهدة

« 85 »
 
علما مني أن هذا الحسن لا بد أن يعشقه من يراه ولا بد مع ذلك أن يسلب الأرواح فضلا عن الأشباح . والمراد بقوله « قبل الهوى » قبل حصول الهوى .
و « ما » في « لما نظرت » إما مصدرية أو موصولة .
و « من » بيانية « لما » لأن المنظور هو « حسن ذاك المنظر » بفتح الميم والظاء مكان النظر وهو الوجه وغيره من محاسن ذاك المنظور .
و « البهج » بفتح الباء وكسر الهاء صفة وهو من البهجة بمعنى الحسن .
( ن ) : قوله عيناي ، أي عين البصر في عالم الملك الظاهر وعين البصيرة في عالم الملكوت الباطن . وكنى بالمنظر هنا عن وجه الحق في كل شيء .
قال تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : الآية 88 ] . اهـ .
 
03 - للّه أجفان عين فيك ساهرة  *** شوقا إليك وقلب بالغرام شجي
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أنه يقال للّه فلان في مقام المدح والمراد المبالغة في مدح وصفه والمراد هنا للّه ما صنعت هذه الأجفان الساهرة لأجل شوقها إليك فلم يكن ذلك السهر لغير اللّه تعالى بل كان للّه تعالى لكونه موافقا لأمره .
و « في » في قوله « فيك » بمعنى لام العلة أي سهرت لمحبتها لك ، ويجوز في « ساهرة » الرفع والجر فإن رفعتها كانت صفة للأجفان وإن جررتها كانت صفة للعين .
و « شوقا » منصوب على التعليل لساهرة أي سهرت شوقا إليك .
و « قلب » بالرفع عطف على « أجفان » أي وللّه شجو قلب شجاه الغرام .
و « شجي » صفة قلب أي قلب حزين بسبب الغرام لأن الشجو هو الحزن فالمراد أن سهر أجفانه وشدة أشجانه لم يكونا لغير اللّه بل ذلك من الأوصاف الموجودة على نمط القبول من القول المقبول وشوقا وإن كان قد وقع قيد الساهرة فهو أيضا قيد لشجو القلب فالمراد أن العين ساهرة شوقا إليك . وكذلك حزن القلب إنما كان لأجلك وعليك . ثم قال :
 
( ن ) : الخطاب للمنظر البهج على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الحضور وكنى بالعين عن ذات الوجود الحق وبالأجفان عن صور الكائنات فالأرواح الأجفان العليا والأجسام الأجفان السفلى فإذا انكسرت الأجفان العليا الروحانية النفسانية أو السفلى الجسمانية كان ذلك من دواعي القبول ومقتضيان الحسن كما ورد أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي .
وقوله ساهرة ، كناية عن عدم الغفلة في ظلمة الأكوان بمشاهدة نور الوجود الحق المتجلي باسم الرحمن على عرش الأعيان والتنبه لكل يوم هو في شأن .
وقوله شوقا إليك وهو المحبة الإلهية للوجه الإلهي . وقوله وقلب المراد قلبه إشارة إلى لب الروح وهو العقل الكامل المقبل على الوجود الحق تعالى كما ورد أول

« 86 »
 
ما خلق اللّه العقل فقال له أقبل فأقبل .
ثم قال له أدبر فأدبر الحديث . فالمقبل قلب والمدبر نفس . اهـ .
 
04 - وأضلع أنحلت كادت تقوّمها *** من الجوى كبدي الحرّا من العوج
 
مثله :
وإن بقلبي نحوهن لغلة * يقوّم معوج الضلوع زفيرها
 
[ الاعراب والمعنى ]
أي وللّه « أضلع أنحلت » بالبناء للمجهول أي أنحلها الشوق وكاد من أفعال المقاربة واسمها « كبدي » الموصوفة بالحراء . وجملة « تقومها » خبرها . و « من العوج » متعلق بتقومها . و « من الجوى » متعلق بانحلت .
والمعنى : وللّه نحول أضلع قاربت حرارة كبدي تقوّمها من اعوجاجها إذ من العادة أن الغصن المعوج إذا كان دقيقا يقوم بحرارة النار ولأجل تحصيل الرقة قال رحمه اللّه انحلت وإنما قال كادت لأن تقويم الأضلاع غير ممكن باعتبار بقاء الجسد على عادة الخلقة الإنسانية وفي البيت الطباق بين الإعوجاج والاستقامة .
 
( ن ) : قوله وأضلع ، كناية عن أخلاق كريمة اتصف بها في طريق اللّه تعالى بني أمره عليها كبناء الجسد على الأضلاع . وقوله انحلت ، كناية عن ظهور ضعف تلك الأخلاق بتجلي الحق تعالى بحقائقها كما ورد تخلقوا بأخلاق اللّه .
وقوله كبدي الحرا ، فالحرارة في كبده من الحب الإلهي المستولي عليه .
وقوله من العوج تقويم إعوجاج الأضلع زوال انحرافها حتى ترجع إلى استقامتها وتعود إلى أصولها الإلهية كما ذكرنا . اهـ .
 
05 - وأدمع هملت لولا التّنفّس من نار *** الهوى لم أكد أنجو من اللّجج
 
[ الاعراب والمعنى ]
أي وللّه « أدمع هملت » أي فاضت . و « اللجج » جمع لجة وهي معظم الماء .
و « ال » في « اللجج » كالعوض من المضاف إليه . إذ المراد لولا تنفسي من نار الهوى أي من نار المحبة لم أقارب النجاة من لجج دموعي فقد أثبت لنفسه لججا من دموعه وتنفسا من نار هواه وأن التنفس من نار الهوى عند ضيق المجال أوجب نجاته من لجج الدموع عند الانهمال .
 
وقد تقدم الكلام على كاد وعلى نفيها وإثباتها مفصلا عند قوله رضي اللّه عنه .
لم تكد أمنا تكد من حكم لا * تقصص الرؤيا عليهم يا بني

« 87 »
 
وعلى أن إثباتها إثبات ونفيها نفي يكون معنى البيت لولا التنفس من نار الهوى لم أقارب النجاة من نار الجوى وهو ما نجا ولكن حصل التنفس من نار الهوى فقارب النجاة . وذكر الهوى في البيت مع التنفس لطيف لأن من عادة الهوى أنه يكون سبب النجاة من لجج البحار ولكن ذاك ممدود والذي في البيت مقصور والمناسبة في الجملة كافية لأن الممدود يقصر .
 
( ن ) : وقوله وادمع معطوف على أضلع ، كناية عما يخرج من عين الوجود الحق من العلوم بالتجليات الإلهية والمراد أدمعه من عين حقيقته وكنى بالتنفس عن ظهور نفسه وانفراده بها لرجوعه إلى الفرق بعد الجمع . وقوله لم أكد أنجو من اللجج ، يعني لم أكد أسلم من بحار تلك العلوم الإلهية الفائضة عليّ من عين وجودي الذي أنا قائم به فتارة أغرق فيها وتارة أطفو عليها . اهـ .
 
06 - وحبّذا فيك أسقام خفيت بها *** عنّي تقوم بها عند الهوى حججي
 
[ الاعراب والمعنى ]
أي وحبذا أسقام حصلت فيك ولأجلك وبسببك . لأن « في » هنا للتعليل على حد قوله صلى اللّه عليه وسلم إن امرأة دخلت النار في هرّة أي بسبب هرّة . قوله « خفيت » على وزن رضيت بها أي بسبب تلك الأسقام خفيت فلا أتشخص للعين . و « عني » متعلق بتقوم .
و « حججي » فاعل « تقوم » . أي تقوم أدلتي عند الهوى بسبب هذه الأسقام . وعني و « بها » و « عند الهوى » متعلقات بتقوم إذ المراد سلطان الهوى إذا جلس لفصل القضاء بين المحبين وطلب من كل واحد برهانه ودليله على صدق المحبة فحججي عنده هذه الأسقام التي أخفت لشدتها الأجسام وما أحسن ما أشار إليه من أن الأسقام المذكورة كانت سببا للخفاء والظهور أما الخفاء فلجسمه وأما الظهور فلحبه . و « حبذا » إعرابها حب فعل ماض ، و « ذا » فاعله . و « أسقام » مبتدأ مؤخر والجملة قبله خبره .
وجملة « خفيت بها » في محل رفع على أنها صفة أقسام . وكذلك جملة « تقوم بها عند الهوى حججي » فإن المراد وصف الأسقام بالصفتين المذكورتين الأولى أنه خفي بها والثانية أن حجته قامت عنه بها عند القضاء وفي البيت الطباق المعنوي بين الخفاء الظاهر ، والظهور المخفي .
 
( ن ) : قوله فيك الخطاب للمنظر البهج وهو وجه الوجود الحق في كل شيء على التنزيه التام . وقوله أسقام هو ضعف العرفان ومرض التحقق بحقيقة الوجدان وظهور القوّة الإلهية الحافظة للأكوان .
وقوله خفيت بها عني ، يعني فنيت فلم أدرك من ظاهري ولا باطني شيئا وذلك لتحققي بأنّ قوّة إدراكي فانية في تلك القوّة الإلهية الحقيقية .

« 88 »
 
07 - أصبحت فيك كما أمسيت مكتئبا *** ولم أقل جزعا يا أزمة انفرجي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« أصبحت » هنا على بابها من إرادة اتصاف الاسم بالخبر وقت الصباح . و « فيك » أي في محبتك ولأجل محبتك و « التاء » اسمها . و « مكتئبا » خبرها وخبر « أمسيت محذوف دل عليه خبر « أصبحت » أي أمسيت مكتئبا كما أصبحت ومكتئبا على صيغة اسم الفاعل هو الحزين . قال « ولم أقل جزعا يا أزمة انفرجي » الأزمة على وزن فرحة الشدّة وهو منادى نكرة مقصودة . و « الواو » واو الحال . و « جزعا » مفعول لأجله أي ولم أقل لأجل جزعي من شدّة الحزن يا أزمة انفرجي واذهبي ليأتي غيرك من الفرج والفرح وهذا ينظر إلى قول صاحب المنفرجة اشتدي أزمة تنفرجي .
كأنه طلب الفرج من شدّته وأما أنا فلا أطلب الفرج من شدّتي لا سيما وهي شدّة الهوى وضيق الجوى .
وذلك عند القوم محبوب وفي شرعهم مطلوب .
يحكى أن الشيخ رحمه اللّه لما قال هذا البيت ابتلي بعده بحصر البول فما أطاق الصبر على شدته فكان يصيح توجعا ويمرّ على الأطفال ويقول يا أطفال اصفعوا عمكم عمر الكذاب يشير إلى قوله « ولم أقل جزعا يا أزمة انفرجي » فإنه ادّعى الثبات على شدائد الأحزان فلما ابتلي ببعضها أنّ وحنّ بليله الذي جنّ وفي البيت الطباق بين الصباح والمساء وهنا دقيقة ينبغي التنبيه عليها وهي أنه رحمه اللّه قال « أصبحت فيك كما أمسيت مكتئبا » فشبه حاله في الصباح بحاله في المساء ولو قال أمسيت فيك كما أصبحت لجاز وزنا
ومعنى وسبب ذلك أن الأصل في الحزن أن يكون في المساء وأما كونه في الصباح فنادر بالنسبة إلى وجوده في المساء ومثل ذلك يقتضي أن تكون حالته أصلا يشبه به ويدل على ما ذكرنا من كون الحزن في المساء أصلا ينبغي أن يكون مشبها به قول قيس بن الملوح الملقب بالمجنون صاحب ليلى :
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى * ويجمعني والهم بالليل جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا * لي الليل هزتني إليك المضاجع
 
وأشار إلى ذلك بعض المغاربة حيث قال :
لي كلما ابتسم النهار تعلة * بمحدث ما شان قلبي شانه
حتى إذا جاء الظلام وجنحه * فهناك يدري الهمّ أين مكانه
 
( ن ) : قوله أصبحت ، أي دخلت في صباح نور الأحدية فانمحت ظلمة كوني ظاهرا وباطنا . وقوله كما أمسيت ، أي كالحالة التي دخلت بها في ظلمة كوني وإنما جعل مساءه مشبها به وصباحه مشبها لأن مساءه أصل عنده لثبوت عينه فيه وثبوت

« 89 »
 
عينه أصل وإنما انتفاؤه في صباح نور الأحدية الإلهية فهو أمر طارىء عليه فأخبر أن أمره وشأنه في الحالين سواء ومحبته الإلهية لم تنقص منه باستيلاء الفناء والاضمحلال عليه كما أنها كذلك في حالة غفلته ورجوعه إلى ذاته الكونية وأحواله النفسانية . وقوله مكتئبا ، خبر لأصبح وأمسى على طريقة التنازع وهو من الكآبة وهي الغم وسوء الحال والانكسار من حزن فإن شهود سطوة الحق تعالى غالبة عليه تمحقه وتفنيه وتثبته وتبقيه . وقوله ولم أقل جزعا الخ .
 
عدم قوله ذلك نقصان من بشريته بالنسبة إلى بشرية النبي صلى اللّه عليه وسلم الذي قال اشتدي أزمة تنفرجي لأنه صلى اللّه عليه وسلم كامل البشرية مع كمال الملكية وكامل البشرية من غير الأنبياء عليهم السلام لا يقدر أن يثبت لظهور التجليات الملكية فيه إلا وتنقص بشريته لنقصان إدراكه في نفسه
ولهذا لما مات ابن النبي صلى اللّه عليه وسلم إبراهيم بكى عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال : « إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لمحزونون عليك يا إبراهيم » ،
ولما مات ابن بعض الأولياء ضحك فقيل له في ذلك فقال ألا أفرح بأمر إرادة اللّه تعالى فجرى على خلاف مقتضى البشرية والنبي صلى اللّه عليه وسلم جرى على مقتضى البشرية مع جريانه على مقتضى الولاية والنبوّة والرسالة ولم ينقص منه شيء من ذلك في جميع أطواره صلى اللّه عليه وسلم وقد وقع لي في ابتداء السلوك أنه مات لي ابن لم يكن لي غيره فكان يغلب الضحك عليّ في وقت مشاهدة تغسيله وتكفينه ودفنه فرحا بمراد اللّه تعالى حتى أتى صديق لي يريد تعزيتي وتسليتي فرآني على تلك الحالة من الفرح فعجب من ذلك وهو لا يعلم بحالي ثم زال عني ذلك الحال فعلمت نقصانه ولكن السلوك له أطوار يقتضيها فمنها ذلك واللّه أعلم بما هنالك . اهـ .
 
08 - أهفو إلى كلّ قلب بالغرام له *** شغل وكلّ لسان بالهوى لهج
 
[ الاعراب والمعنى ]
« أهفو » بمعنى أميل . « إلى كل قلب » له شغل بالغرام وتنكير الشغل للدلالة على أنه يميل إلى كل قلب مشتغل بالغرام أي شغل سواء كان شغله المحبة أي لحكاية أو لتذكير أو لنظر حال من الأحوال التي لأرباب الغرام .
قوله « وكل لسان » بالجرّ عطف على كل قلب أي أميل إلى كل قلب مشتغل بالغرام وكل لسان لهج بالحب ولو بأدنى كلام . و « لهج » على وزن فرح من قولهم لهج فلان بكذا أي صار يكثر من ذكره .
 
الإعراب :
 إلى كل قلب : متعلق بأهفو وله خبر مقدم . وشغل : مبتدأ مؤخر .
وبالغرام : متعلق يشغل . والجملة في محل جر على أنها صفة قلب إذ المعنى أميل إلى كل قلب موصوف بأنه مشتغل بالغرام ولو بأدنى إلمام . ولهج : صفة لسان .
وبالهوى : متعلق بلهج .

« 90 »
( ن ) : يشير بالقلب الذي له شغل بالغرام إلى قلب السالك في طريق اللّه تعالى الذي لا اشتغال له إلا بمحبة اللّه تعالى . اهـ .
 
09 - وكلّ سمع عن اللّاحي به صمم *** وكلّ جفن إلى الإغفاء لم يعج
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « وكل سمع » بالجرّ عطف على كل قلب أي وأميل إلى كل سمع به صمم عن اللاحي . و « اللاحي » الذي يلحي أي يلومه على المحبة . و « كل جفن » بالجر .
كذلك قوله « لم يعج » بضم العين من عاج على المكان أي عرج إليه وإنما كان بضم العين لأنه واويّ من عاج يعوج .
 
المعنى :
وأميل إلى كل سمع لا يسمع لوم اللائم على المحبة وأميل إلى كل جفن لا يعرج ولا يميل إلى الإغفاء والإغفاء نوم خفيف والمراد المبالغة في المصراعين وذلك بإثبات الصمم في السمع مع أن المراد عدم الاستماع وبكون الجفن لا يميل إلى الإغفاء مع أن المراد عدم النوم للتفكر في أحوال المحبوب وهذا هو غاية المطلوب . اهـ .
 
10 - لا كان وجد به الآماق جامدة *** ولا غرام به الأشواق لم تهج
 
[ الاعراب والمعنى ]
« لا » هنا دعائية وإن كانت في الأصل نافية والقانون أن لا الدعائية إذا دخلت على الفعل الماضي يجب تكرارها . و « كان » هنا تامّة إذ المراد لا وجد وجد تكون الآماق جامدة به . والباء في به للمعية أو بمعنى في . و « الآماق » مبتدأ . و « جامدة » خبره . و « به » متعلق بجامدة والجملة في موضع رفع على أنها صفة وجد .
والمصراع الثاني على نمط الأول أي ولا وجد غرام الأشواق لم تهج به . و « الهاء » في « تهج » مكسورة لأنه يائي تقول هاج يهيج والمصدر الهيجان ومعناه الاضطراب وما ألطف هذا البيت وما أحسن المناسبة والمساواة في ألفاظه وجمود الآماق عبارة عن عدم جودها بجود المطر قال الشاعر :
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط * عليك بجاري دمعها لجمود
 
والمعنى :
لا أوجد اللّه وجدا يكون صاحبه معه خاليا من الدموع ولا غراما لا تكون الأشواق معه هائجة مضطربة وفي البيت التصريع لا كان وجد به الآماق ولا غرام به الأشواق .
 
11 - عذّب بما شئت غير البعد عنك  *** تجد أوفى محبّ بما يرضيك مبتهج
 
هذا خطاب للحبيب الذي خاطبه أولا بقوله للّه أجفان عين فيك ساهرة وما بين أدوات الخطاب أبيات مقرّرة للمراد .

« 91 »
 
والمعنى :
عذبني بما شئت من أنواع العذاب تجدني أوفى محب مبتهج بما يرضيك .
وما في قوله بما شئت عبارة عن أنواع العذاب واستثنى البعد بقوله غير البعد عنك .
وتجد ، مجزوم في جواب الأمر لكن يجب عليك أن تلاحظ جوابيته حال كون الأمر مقيدا بالمستثنى وإلا كان تجد جوابا لعذب وحده ويصير المعنى حينئذ عذب بما شئت تجد أوفى محب في ذلك البعد أيضا والحال أنه لا يريد ذلك فافهم والمجزوم في جواب الأمر إذا نظرت إلى الحقيقة مجزوم في جواب شرط مقدّر أي أن تعذب تجد ومفعول تجد أوفى محب ، ومبتهج صفة محب ، وبما يرضيك متعلق بمبتهج .
 
والمبتهج الفرح المسرور ، وهذه عادة المحبين يبتهجون بالقرب ولو قارن صدّا لأنّ البعد عنهم أشد أنواع العذاب ولا يعادله في الشدة شيء من أصناف العقاب
 
قال شرف الدين بن عنين رحمه اللّه :
لو عاقبوني في الهوى بسوى النوى * لرجوتهم وطمعت أن أتصبرا
عبء الصدود أخف من عبء النوى * لو كان لي في الحب أن أتخيرا
 
وقال ابن الخياط الدمشقيّ :
يا عمرو أي خطير خطب لم يكن * خطب الفراق أشدّ منه وأوبقا
كلني إلى عنف الصدود فربما * كان الصدود من النوى بي أرفقا
 
( ن ) : الخطاب للمحبوب الحقيقي الذي خاطبه فيما سبق . وقوله بما شئت ، أي أردته من أنواع العذاب فإنه مستعذب لديه غاية الاستعذاب وسببه معرفة الفاعل فإن العاشق إذا وقع به ضرب شديد في ظلمة يتألم تألما شديدا بمقتضى الطبع فإذا انكشفت عنه تلك الظلمة فوجد محبوبه هو الذي يضربه ذلك الضرب الشديد ينقلب ذلك العذاب عذوبة ويشغله شهود جمال الوجه عن ألم العذاب على خلاف مقتضى الطبع ،
 
قال الشاعر الغائب عن إدراك المشاعر :
ولقد ذكرتك والسيوف تنوشني * عند الإمام بساعد مغلول
فوددت تقبيل السيوف لأنها * لمعت كبارق ثغرك المعسول
 
وقال الآخر :
ويا ليت ليلى في المنام ضجيعتي * لدى الجنة الخضراء أو في جهنم
 
12 - وخذ بقيّة ما أبقيت من رمق *** لا خير في الحبّ إن أبقى على المهج
 


« 92 »
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « ما أبقيت من رمق » يشير إلى أن الذي أخذ أولا من حياة المتكلم أخذه المخاطب . بقوله « وخذ بقية ما أبقيت » فيقول الشيخ خذ البقية التي أبقيت وهي الرمق وهو بقية الحياة وفيه احتمال دقيق وهي أن تكون من في قوله « من رمق » تبعيضية وتكون متعلقة بما أبقيت ، أي وخذ البقية التي أبقيتها من الرمق يعني أنك أخذت بعض الرمق فخذ بقيته وعلى القول الأول تكون من تبيينية ويكون الرمق حينئذ كله باقيا وهو الذي أبقاه ويكون المعنى خذ البقية التي أبقيتها وهي الرمق والرمق بقية الروح . وقوله « لا خير في الحب » الخ تعليل لأمره للحبيب أن يأخذ بقية ما أبقى من الرمق يريد ما أمرتك بأخذ البقية التي تركتها من الروح . إلا لأن الحب الذي تبقى فيه من المهج بقية خال من الخير والشر عند أهله . وجواب « إن » محذوف دل عليه ما قبله والمعنى إن أبقى الحب على المهج فلا خير فيه .
 
( ن ) : الخطاب للمحبوب الحقيقي وكنى بالرمق عما بقي من نفسه وروحه التي يجذبها الحق تعالى إليه بحكم أنها نفخ من روحه ويجذبها المحب إليه من حكم قوله تعالى : يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [ النّحل : الآية 111 ] ومقام المحبة الإلهية يقتضي هذا التجاذب والنزاع الشديد من الطرفين . اهـ .
 
13 - من لي بإتلاف روحي في هوى *** رشأ حلو الشّمائل بالأرواح ممتزج
 
[ الاعراب والمعنى ]
من في « من لي » استفهام استعطاف واسترحام أي من يرق لي باتلاف روحي في هوى غزال حول الشمائل أي حلو الأخلاق والحركات والأعطاف . قوله « بالأرواح » متعلق بممتزج .
و « ممتزج » صفة رشأ . وكذلك « حلو الشمائل » أي من أين لي رحيم يرفق بي ويتلف روحي في هوى حبيب كالغزال لطيف الحركات والأخلاق ومن شدّة لطفه صار كأنه ممتزج بالأرواح ولا يمازج الشيء إلا ما ساواه في لطفه فلما صار روحا امتزج بالروح وما ألطف قول من قال :
لست أدري من رقة وصفاء * هي في كأسها أم الكأس فيها
 
وقال الصاحب بن عباد :
رق الزجاج وراقت الخمر * فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح * وكأنما قدح ولا خمر
 
( ن ) : قوله من لي ، يعني أي إنسان يعينني ويساعدني . وقوله باتلاف ، أي بسبب إهلاك وإفناء وإعدام . وقوله روحي ، أي نفسي الناطقة والمعنى بإتلاف الروح هنا شهود الأمر الإلهي لا بنفسها فهي فانية مضمحلة في نفسها وهي عند نفسها عدم

« 93 »
 
صرف وإنما تحققها بظهور الأمر فيها كظهور النور في الظلمة . والرشأ هنا كناية عن مقدار ما يظهر للمحب الإلهي في تجلي محبوبه الحق المطلق عليه من معاني الجلال والجمال والكمال فإن المخلوق لا يقدر أن يدرك من الحق تعالى إلا مقدار استعداده وكما أن الرشأ مسكنه الفلوات والصحارى البعيدة عن العمران والقرى والبلدان مساكن الإنسان كذلك هذه الحضرة المكنى عنها بالرشأ لا تظهر إلا بعد الخروج عن عوالم الصور الجسمانية والمعنوية وعمران قيود الشهوات واللذائذ الجسمانية والروحانية ولهذا قال بإتلاف روحي ، يعني فضلا عن جسمي .
وقوله بالأرواح ممتزج امتزاجه بالأرواح كناية عن كون كل شيء مصوّرا بتجلي اسمه المصوّر . اهـ .
 
14 - من مات فيه غراما عاش مرتقيا *** ما بين أهل الهوى في أرفع الدّرج
 
[ الاعراب والمعنى ]
« من » هنا شرطية . و « مات » فعل الشرط . و « فيه » متعلق به . و « غراما » مفعول لأجله . و « عاش » جواب الشرط وفاعله ضمير غيبة مستتر تقديره هو . و « مرتقيا » حال منه . و « ما » زائدة . و « بين » ظرف مكان متعلق بمرتقيا .
وكذلك في « أرفع الدرج » وفيه الإغراب لأنه جعل من مات عاش وذلك إن قتلى المحبة أحياء لأنهم لا يموتون لأنهم شهداء قال صلى اللّه عليه وسلم فيما رواه ابن عباس « من عشق وكتم وعف ومات مات شهيدا » . وقد تقدم أن شهادة العشاق من قبيل شهادة الآخرة .
 
( والمعنى ) : قوله من مات ، أي في محبة ذلك الرشأ المذكور في البيت قبله .
والمعنيّ بالموت في محبته الموت الاختياري بفناء الإنسانية النفسانية والتحقق بوفاء العهود الربانية والموت الاختياري المذكور هو الموت الاضطراري المشهور .
قال تعالى : لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [ الدّخان : الآية 56 ] .
ولهذا كان شهداء المحبة الذين قتلوا بسيوف المجاهدة الشرعية التي قال تعالى فيها : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [ العنكبوت : الآية 69 ]
أي الطريق الموصلة إلى التحقق بنا قال تعالى : وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( 169 ) [ آل عمران : الآية 169 ]
وفي الحديث موتوا قبل أن تموتوا ، يعني موتوا اختيارا قبل أن تموتوا اضطرارا . اهـ .
 
15 - محجّب لو سرى في مثل طرّته *** أغنته غرّته الغرّا عن السّرج
 
[ الاعراب والمعنى ]
يجوز في « محجب » الجر على الاتباع لرشأ أي رشأ محجب والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو محجب والنصب على المدح أي أمدح محجبا لو سرى في ليل مثل طرته أي طرة شعره الفاحم لأغنته غرته البيضاء عن الاستضاءة بالسرج

« 94 »
 
فطرته ليل وغرته نهار . و « السرج » بضمتين على السين والراء جمع سراج وهو معروف ومن جملة أسماء الشمس السراج . و « الطرة » بالضم طرف الشعر و « الغرة » بالضم أيضا بياض في الجبهة . و « الغراء » بفتح الغين وتشديد الراء الشديدة البياض . وفي البيت الطباق بين الطرة والغرة .
 
( ن ) : قوله محجب ، مجرور صفة لرشأ . في البيت السابق والمعنى في ذلك أن النفوس تستره وتحجبه عنها بأنفسها لا هو محجوب في نفسه لأن المحجوب اسم مفعول باستيلاء شيء عليه أعظم منه ولا أعظم من الحق تعالى بل ولا عظيم معه تعالى ولولا أن النفوس في أهلها أعرضت عنه تعالى ونسيته فنسيت حقارتها في عظمته ،
كما قال تعالى : نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [ الحشر : الآية 19 ]
ما حجبته عنها وسترت ظهوره بظهورها . وقوله سرى ، أي سار ليلا والليل المفهوم هنا من قوله سرى إشارة إلى ليل الأكوان المشار إليه بقوله في مثل طرته ، أي في ليل أسود مثل طرته . والطرة من الشعر إشارة إلى الشعور بمعنى الإدراك .
والمعنى لو سرى وجوده الحق في عالم الكون الذي هو في الأصل شعوره وعلمه بالمعلومات التي هي الأعيان الثابتة في الوجود الحق الغير المنفية التي هي عدم صرف .
 
أغنته غرته ، أي جعله غنيا نور وجهه الكريم عن السرج ، أي عن الشموس المضيئة التي يطرد نورها ظلمة الليل ومعنى البيت أن هذا المحجب بحجاب النفس الساترة له ولوجوده الحق لو كشف عن وجهه في كل شيء لأغنى تلك النفس عن الأنوار كلها . اهـ .
 
16 - وإن ضللت بليل من ذوائبه أهدى *** لعيني الهدى صبح من البلج
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « وإن ضللت » معطوف على لو الشرطية و « التاء » المضمومة للمتكلم .
و « الباء » في « بليل » ظرفية أو للسببية . و « من » ابتدائية أي بليل بداية حصوله من ذوائب ذلك الرشأ . و « الذوائب » جمع ذؤابة وهي الخصلة من الشعر .
و « أهدى » جواب الشرط وهو من الهداية .
و « الهدى » مفعول مقدم . و « صبح » فاعل مؤخر .
و « لعيني » متعلق بأهدى . قوله « من البلج » على أسلوب من ذوائبه .
 
المعنى :
 إن حصل لي ضلال من شعر ذلك الرشا فإن صبح بلجه يهدي لي الهدى ويزيل الضلال ففيه الهداية من بلجه . والبلج ، بفتح الباء واللام بياض في الجبهة بين الحاجبين والوصف منه أبلج . وفي البيت المقابلة بين الضلال والهدى وبين الليل والصبح وجناس شبه الاشتقاق بين أهدى والهدى .
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح ما بين معترك الأحداق والمهج الأبيات من 01 إلى 44 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:31 pm

شرح ما بين معترك الأحداق والمهج الأبيات من 01 إلى 44 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة ما بين معترك الأحداق والمهج الأبيات من 01 إلى 44
« 95 »
( ن ) : قوله وإن ضللت ، أي تحيرت في محبته . وقوله بليل ، أي بسبب ليل أو في ليل والليل إشارة إلى الكون الحادث وتنكيره للتقليل أو للتعظيم بانتسابه إليه .
وقوله « من ذوائبه » الضمير للرشأ المحجب ، والإشارة بالذوائب إلى الأكوان الصادرة عن أمره تعالى وكونها ذوائب لأنها شعور من شعر بالشيء علمه فإنها من علمه تعالى .
وقوله أهدى ، أي بعث على سبيل الإكرام . وقوله لعيني ، أي الباصرة أو عين البصيرة وهي القلب .
وقوله الهدى أي الرشاد والمعنى به هنا الوصول إليه تعالى والتحقق بمعرفته . وقوله صبح من البلج ، كنى بالصبح هنا عن ابتداء ظهور نور الوجود الحق في ليل ظلمة النفس البشرية . والبلج بمعنى الإسفار والإنارة . اهـ .
 
17 - وإن تنفّس قال المسك معترفا *** لعارفي طيبه من نشره أرجي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« وإن » عطف على لو الشرطية . و « تنفس » فعل شرط في موضع جزم وضمير تنفس عائد للرشأ في قوله « من لي بإتلاف روحي في هوى رشأ » . و « قال » جواب الشرط . و « المسك » فاعل . و « معترفا » حال من المسك . وقوله « لعارفي طيبه » متعلق بمعترفا . و « الهاء » في « طيبه » يجوز أن يكون راجعا للمسك ويجوز أن يكون راجعا للرشأ و « من نشره » خبر مقدم . و « أرجى » مبتدأ مؤخر . و « النون » في لعارفي طيبه نون الجمع حذفت للإضافة . وجملة « من نشره أرجى » في محل نصب على أنها مقول القول .
 
المعنى :
وإن تنفس الحبيب وظهر نفسه من فمه قال المسك معترفا لقوم يعرفون نشر المسك وطيبه إن أرجى وما في ذاتي من الرائحة الطيبة نشر ذلك الحبيب أو لقوم يعرفون طيب الحبيب ونفاسته أرجى من نشره . وإنما قيده بقوله لعارفي طيبه ليسلموا قول المسك إن أرجه من طيبه وفي البيت جناس الاشتقاق بين معترف وعارف ، وفيه المناسبة بين الطيب والنشر والأرج .
 
( ن ) : قوله تنفس ، أي ظهر عنه النفس بفتح الفاء . وقد ورد في الحديث قال صلى اللّه عليه وسلم : « أني لأجد نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن » . فكان الأنصار أهل اليمن فسماهم عليه السلام نفس الرحمن
كما قال تعالى في حقهم : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [ الأنعام : الآية 52 ]
فهم نفس الرحمن المتجلي على العرش الذي نفس اللّه تعالى به الكرب عن قلوب المؤمنين .
وقوله طيبه ، أي نفس ذلك المتنفس . وطيبه ، كناية عن رائحة إيمانه بالحق لما جاءه وهو ظاهر في صورة بشرية متجليا بها عليها إشارة إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم في أهل اليمن المذكورين : « أهل


« 96 »
 
اليمن أرق قلوبا وألين أفئدة وأسمع طاعة » . وقال أيضا الإيمان يمان وطيبه المذكور باعتبار ظهوره في صور الأنصار لدين اللّه تعالى . اهـ .
 
18 - أعوام إقباله كاليوم من قصر *** ويوم إعراضه في الطّول كالحجج
 
[ الاعراب والمعنى ]
معنى هذا البيت مكرر في كلام العرب من ذلك قولهم سنة الهجر سنة وسنة الوصل سنة . وقال المفتي أبو السعود رحمه اللّه تعالى من قصيدته الميمية المشهورة :
أرى عمر نوح كل يوم يمر بي * وما حام حام حول ذاك وسام
دهور تقضت بالمسرة ساعة * ويوم تقضى بالمساءة عام
 
وما أحسن قول أبي تمام حبيب بن أوس :
أعوام وصل كاد ينسي طولها * ذكر النوى فكأنها أيام
ثم انبرت أيام هجر أعقبت * بنوى أسى فكأنها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها * فكأنها وكأنهم أحلام
 
وقوله « أعوام إقباله » مبتدأ ومضاف إليه . وقوله « كاليوم » خبر المبتدأ . وقوله « من قصر » قيد للتشبيه إذ المعنى أشبه أعوام إقباله في القصر باليوم . وأشبه « يوم إعراضه في الطول بالحجج » وهي السنون .
كقوله تبارك وتعالى : عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ [ القصص : الآية 27 ] .
وقوله « ويوم إعراضه » مبتدأ ومضاف إليه . و « كالحجج » خبره .
وقوله « في الطول » قيد للتشبيه أيضا على نمط ما ذكرناه في المصراع الأوّل .
المعنى : أعوام إقبال ذلك الحبيب يراها المحب في القصر كاليوم ويوم إعراضه وصدوده يراه في الطول كالأعوام وفي البيت الطباق بين العام واليوم وبين الإقبال والإعراض .
 
( ن ) : المعنى بإقباله كشف النفس عن عين بصيرته . والمعنيّ بإعراضه سدل حجاب النفس على عين بصيرته . اهـ .
 
19 - فإن نأى سائرا يا مهجتي ارتحلي *** وإن دنا زائرا يا مقلتي ابتهجي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الفاء » في قوله « فإن نأى » تؤذن بتفريع ما بعدها على ما قبلها . فكأنه يقول حيث ثبت أن أعوام إقباله كاليوم وأن يوم إعراضه كالحجج . فمتى بعد سائرا يقال للمهج ارتحلي ومتى دنا زائرا يقال للعيون ابتهجي . و « نأى » بعد وفاعله مستتر تحته يعود إلى الرشأ . و « سائرا » حال من فاعل نأى . و « نأى » فعل الشرط وجوابه محذوف تقديره قلت . و « يا مهجتي ارتحلي » مقول ذلك القول . ومثله « وإن دنا زائرا يا مقلتي


« 97 »
 
ابتهجي » ولك أن تجعل جواب الشرط مأخوذا من معنى يا مهجتي ارتحلي ومن معنى يا مقلتي ابتهجي أي ارتحلت مهجتي وابتهجت مقلتي .
 
والمعنى :
أن بعده يقتضي الموت وقربه يقتضي الحياة وفي البيت الطباق بين نأى ودنا وبين سائر وزائر . وكذلك بين المهجة والمقلة باعتبار أن المهجة في الباطن والمقلة في الظاهر .
وكذا بين ارتحلي وابتهجي لأن الارتحال يقتضي البعد والحزن بخلاف الابتهاج فإنه على خلاف ذلك وهذا البيت من أفصح أبيات الشيخ .
 
( ن ) : قوله سائرا سيره استتار تجليه بحيث يرجع العبد إلى غلبة حكم نفسه عليه . قوله يا مهجتي ارتحلي ارتحال مهجته ذهابها وهلاكها تحسرا وتلهفا على فقد مطلوبه ومفارقته مشاهدة محبوبه . وقوله وإن دنا زائرا يا مقلتي ابتهجي فرح العين كناية عن فرح صاحبها والدنو بالزيارة كناية عن رفع حجاب النفس وذهاب المغايرة الوهمية التي كانت تدركها النفس وقد قرت العين بالعين وانمحت من بينهما نقطة الغين وارتفع البين من البين .
 
20 - قل للّذي لامني فيه وعنّفني *** دعني وشأني وعد عن نصحك السّمج
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الهاء » في « فيه » عائد إلى الرشأ . والمأمور في قوله « قل » كل من يصلح للخطاب وفي تعميم الخطاب إشارة إلى أن كل أحد يساعد هذا المحب في محبته وكل من يصلح للخطاب قابل لتحرير هذا الجواب .
و « اللوم » بفتح اللام وسكون الواو نصيحة العاشق بغير رفق بدليل العنف . و « دعني » أمر من يدع بمعنى يترك فدعني أمر بمعنى اتركني . و « الواو » واو المعية . و « شأني » مفعول معه والشأن الأمر .
و « عد » بمعنى ارجع « عن نصحك » لي بلومك لي . و « السمج » بفتح السين وكسر الميم وبعدها جيم بمعنى القبيح وفيه بمعنى من أجله أي لأجل محبته .
وجملة « دعني وشأني » في محل نصب على أنها مقول القول أي قل أيها القائل للرجل الذي لامني في ذلك الرشأ ونصحني في محبته اتركني مع أمري وشأني وارجع عن نصحك البارد فإن الناصح إذا كان يعرف أن نصيحته لا تجدي فارتكابه ذلك ليس من فعل العقلاء فاعلم ذلك وفي البيت في حروف دعني وعد عن المقاربة .
 
( ن ) : قوله قل ، أي يا أيها الإنسان الذي يصلح للمخاطبة بهذا الشأن وهو من سيذكره بقوله يا ساكن القلب وقوله يا صاحبي . وقوله لامني اللائم هو الغافل الجاهل المغرور بصور الأعمال الظاهرة والعاري من الأحوال الطاهرة والأخلاق الباهرة والتجليات الإلهية القاهرة يلتبس عليه الهدى بالضلال من عدم ذوقه ومعرفته بمقامات


« 98 »
 
الرجال فينكر على العارفين بقياس عقله مستندا في ذلك إلى ظواهر نقله . وقوله دعني ، أي اتركني وقل له هكذا بتنزيل نفسك منزلتي لأنك رسولي إليه ولا تقل دعه فأكون غائبا عنك إذا لم ينقل الرسول لفظ المرسل فما أدى الرسالة على الكمال لتصرفه فيها كما أدى صلى اللّه عليه وسلم كلام اللّه ولم يتصرّف في شيء منه أصلا فقال قل هو اللّه أحد ولم يقل هو اللّه أحد فقط كما أمر ونقل صيغة الأمر أيضا بقوله قل ونحو ذلك كثير في القرآن .
وقوله وشأني ، الواو للمعية أي مع أمري وحالي الذي أنا فيه ولا تعرفه أنت .
وقوله عن نصحك بمقتضى ما تزعمه في نفسك من الحق وتزعم أني على خلاف ذلك . اهـ .
 
21 - فاللّوم لؤم ولم يمدح به أحد *** وهل رأيت محبّا بالغرام هجي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الفاء » في قوله « فاللوم » تدل على ما بعدها بمنزلة التعليل لما قبلها « دعني وشأني وعد عن نصحك السمج » أي أمرتك بتركي مع شأني من غير أن تلومني لأن « اللوم لؤم » بضم اللام وبعدها همزة ساكنة هو خلاف الكرم .
واللؤم لا يكون سببا للمدح وكيف يكون سببا للمدح وهو نقيض الكرم .
« فاللؤم » يكون سبب الذم حيث كان منافيا للكرم . وأما « الغرام » فلا يكون سببا للهجاء وللملام فعلى كل تقدير يكون الملام قبيحا ولا يكون الغرام إلا مليحا .
وفي البيت الجناس المحرّف بين لوم ولؤم والطباق بين المدح والهجاء .
 
( ن ) : قوله فاللوم لؤم ، يعني إن لوم أهل الإيمان الكامل على كمال محبتهم الإلهية من الغافلين الجاهلين بأحوال العارفين الكاملين لوم صريح ولا يصدر ذلك إلا من خبيث شحيح . وقوله وهل رأيت ، خطاب للمخاطب أوّلا المقول له قل وقوله محبّا ، أي صاحب محبة إلهية . وقوله هجي بالبناء للمجهول يعني أن المحبين لم يهجهم أحد بسبب أنهم محبون ولا تكون المحبة سبّا وشتما لأحد أصلا . اهـ .
 
22 - يا ساكن القلب لا تنظر إلى سكني *** واربح فؤادك واحذر فتنة الدّعج
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « يا ساكن القلب » أي يا من قلبه ساكن بعد المحبة لأن المحبة إذا دخلت إلى قلب أوجبت له الاضطراب وحركت جوانحه وأعدمته السكون عن تفقد الأحباب .
 
« لا تنظر إلى سكني » والسكن هنا عبارة عن الحبيب الذي يسكن إليه القلب عن الوجيب . قوله « واربح فؤادك » هو من الربح أي اغنمه لئلا يضيع من يدك واحذر الفتنة الحاصلة من الدعج . و « الدعج » شدة سواد العين مع سعتها . وما أحسن هذا البيت وما ألطف ما فيه من الدعاء إلى الهوى وإن كان بحسب الظاهر تحذيرا منه .

« 99 »
 
الإعراب : يا ساكن القلب : منادى مضاف أي يا من قلبه ساكن . ولا : ناهية .
وتنظر : مجزوم بها . وإلى سكني : متعلق به . واربح : أمر معطوف على جملة النهي .
وفؤادك : مفعوله . واحذر كذلك .
وفتنة : مفعوله مضافا إلى الدعج وإضافة الفتنة إلى الدعج بيانية بناء على ادّعاء أن الفتنة عين الدعج أو لامية أي الفتنة الحاصلة منه .
وفي البيت جناس الاشتقاق في ساكن وسكني .
 
( ن ) : قوله يا ساكن القلب ، أي يا من قلبه غير مضطرب بلواعج المحبة والأشواق . وقوله لا تنظر إلى سكني ، أي لا تتعرض أنت بنفسك إلى النظر والمشاهدة لوجه حبيبي الذي أسكن إليه فإنك لا تقدر قدر محبته وعشقه واصبر حتى هو يتعرض لك فيكشف لك عن وجهه الكريم ويرفع عنك حجاب الصور المحسوسة والمعقولة فاثبت على صراطه المستقيم وكف بصرك عن الطمع في رؤية جماله مراعاة لحرمه .
وقوله واحذر فتنة الدعج ، المعنى بفتنة الدعج ظهور عين الوجود الحق في الحس وفي العقل بحيث أن نورها زائد الظهور وسواد أكوانها وممكناتها العدمية زائدة الظهور أيضا فيتحير الحس والعقل في ذلك ولا يقدر يسلك فيه أعدل المسالك . اهـ .
 
23 - يا صاحبي وأنا البرّ الرّؤوف وقد *** بذلت نصحي بذاك الحيّ لا تعج
24 - فيه خلعت عذاري واطّرحت به *** قبول نسكي والمقبول من حججي
 
[ الاعراب والمعنى ]
وهذا البيت أيضا من محاسن البيوت المنعوتة بألطف النعوت وقد وقع فيه جملتان معترضتان بين النداء وجوابه . فإن النداء « يا صاحبي » وجوابه « لا تعج » . وقوله « وأنا البر الرؤوف » جملة معترضة . وكذا قوله « وقد بذلت نصحي » وفيهما تأكيد نصحه وتسديد طلب نجحه .
 
و « بذاك الحي » متعلق بقوله « لا تعج » وعين تعج مضمومة فإنه يقال عاج يعوج مثل صان يصون . ومعناه لا تقم بذاك الحيّ ولا تعرّج عليه ، ثم علل ذلك بقوله « فيه خلعت عذاري » أي لا تمل إلى ذلك الحي فإنك تفتضح وغرامك المستور يتضح فإني قد خلعت فيه عذاري وانهتكت في جوانبه أستاري وظهرت للعالمين أسراري .
 
و « اطرحت » أي طرحت في ذلك قبول نسكي أي قبول طاعتي وطرحت فيه أيضا ما كان مقبولا من حججي إلى بيت اللّه الحرام فكأنه يقول من عاج بذلك الحي فإنه يصير مثلي مخلوع العذار مطروح الطاعات بغير وقار تارك المناسك وإن كانت مقبولة عند المالك الغفار . فهذا هو معنى قوله فيه خلعت عذاري الخ .
 
وتقديم الجار في قوله فيه خلعت عذاري واطرحت به لإفادة الحصر والاهتمام بذكره لموافقة المقام .


« 100 »
 
( ن ) : قوله يا صاحبي ، يخاطب به ساكن القلب أيضا في البيت قبله مناديا له بيا الموضوعة لنداء البعيد لبعد حالته من حالته .
وقوله وأنا البر الرؤوف ، يعني أنا متصف في صحبتك بالصدق والتقوى وشدّة الرحمة بك . وقوله وقد بذلت نصحي ، أي فيما قلت لك من قبل لا تنظر إلى سكني .
وأقول لك الآن زيادة على ذلك بذاك الحي لا تعج ، أي لا تقم ولا تقف ولا تعطف رأس بعيرك بالزمام مخافة عليك أن تفتتن بالمحبة وتقع في شرك البلاء والمحنة .
ثم أخذ في شرح حاله تأكيدا لنصحه المصرح به في مقاله . فقال فيه خلعت عذاري وخلع العذار ، كناية عن عدم المبالاة بما يفعل .
 
وقوله واطرحت به قبول نسكي الخ . يعني ألقيت عن قلبي الإقبال على غير الحق تعالى وأفردت توجهي إليه سبحانه ولم أشتغل عنه بقبول طاعة ولا عبادة وتوجهت همتي إليه تعالى فتوجه تعالى إلى خلق الأعمال الصالحة لي وإظهارها مني واستعملني في طاعته ظاهرا وباطنا به لا بنفسي . اهـ .
 
25 - وابيضّ وجه غرامي في محبّته *** واسودّ وجه ملامي فيه بالحجج
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الوجه » في البيت يجوز أن يكون بمعنى الجارحة ويجوز أن يكون بمعنى الطريق فعلى الأول يكون المعنى الوجه الذي يدعو صاحبه إلى غرامي فهو أبيض .
 
والوجه الذي يدعو صاحبه إلي ملامي فهو أسود وعلى الثاني يكون المعنى الطريق الذي يسوق إلى المحبة ويدعو إليها أبيض والطريق الذي يسوق إلى الملامة أسود ويجوز كون الأول بمعنى الجارحة والثاني بمعنى الطريق وبالعكس . وقوله « بالحجج » متعلق باسودّ أي اسودّ وجه ملامي فيه بالأدلة والبراهين . والحجج بضم الحاء جمع حجة وهي الدليل .
وأما الحجج في قوله والمقبول من حججي فهي بكسر الحاء اسم مصدر من الحج وهو قصد مكة للنسك وكذا قوله ويوم إعراضه في الطول كالحجج فهي أيضا بكسر الحاء
ومن ذلك قوله تبارك وتعالى : ثَمانِيَ حِجَجٍ [ القصص : الآية 27 ]
إذ المراد بها الأعوام وما ألطف هذا البيت فإنه جامع بين لطف اللفظ وصحة المعنى ففيه مطابقة بين أبيض وأسود ، وكذا بين الغرام والملام مع ما هناك من التصريع في قوله « وابيض وجه غرامي » و « اسودّ وجه ملامي » .
 
( ن ) : ابيضاض وجه الغرام بمعنى أنه صار مقبولا عنده وعند الحق تعالى واسوداد وجه الملام كونه غير مقبول عنده وعند الحق تعالى لأنه صدّ عن سبيل اللّه تعالى بالغفلة والجهل. اهـ.
 
26 - تبارك اللّه ما أحلى شمائله *** فكم أماتت وأحيت فيه من مهج

« 101 »
[ الاعراب والمعنى ]
« تبارك اللّه » تقدّس وتنزه وهي صفة خاصة باللّه تعالى فإن قلت ما النكتة في كون الشيخ بدأ هذا البيت بالجملة التنزيهية في قوله « تبارك اللّه ما أحلى شمائله » .
 
قلت النكتة في ذلك أنه لما قال « فكم أماتت وأحيت فيه من مهج » لزم أنه جعل الشمائل تميت وتحيي . فأشار إلى أن الإماتة والإحياء حقيقة للذات المقدسة التي تنزهت عن أن يكون جاعل في الوجود غيرها وأنه بدأ بها إشارة إلى أن خالق هذه الشمائل إله مقدس منزه عن مشابهة المحدثات .
 
الإعراب :
ما : تعجبية مبتدأ . وأحلى : فعل ماض فاعله ضمير مستتر فيه وجوبا يعود إلى ما .
وشمائله : بالنصب مفعوله ، والجملة مرفوعة المحل على الخبرية . وكم في البيت خبرية .
ومن في قوله من مهج : زائدة ومميزكم مهج . ومفعول أماتت وأحيت : محذوف أي كم من مهج أماتتها الشمائل وأحيتها فيه أي بسببه ولأجل حسنه وأخر التمييز لأجل موافقة الوزن والقافية وحرف الروي . وفي البيت الطباق بين الإماتة والإحياء .
 
( ن ) : قوله شمائله ، أي صفاته وأسماءه وأحكامه والضمير إلى المكنى عنه فيما مضى بالرشأ المحجب وحلاوتها التذاذ المحب بآثارها سواء كانت بلاء أو عافية .
وقوله فكم أماتت ، أي كشفت لمن يشهدها أنه ميت من كمال تصرفها فيه ظاهرا وباطنا في الحياة الدنيا ولم يكن يشعر قبل ذلك . وقوله وأحيت ، أي تلك الشمائل أيضا بالحياة الحقيقية الإلهية بأن كشف للميت عن ذلك فتحقق به فعرف أنه حي باللّه لا بنفسه . اهـ .
 
27 - يهوى لذكر اسمه من لجّ في عذلي *** سمعي وإن كان غذلي فيه لم يلج
 
[ الاعراب والمعنى ]
« يهوى » على وزن يرضى بمعنى يحب من الهوى المقصور . و « سمعي » فاعله .
« ومن لج في عذلي » مفعول . و « لذكر اسمه » متعلق بيهوى . قوله « وإن كان عذلي فيه لم يلج » . « الواو » فيه حالية أو اعتراضية أو عاطفة على مقدر . و « إن » وصلية لا تحتاج إلى جزاء لأن المراد بها مجرد التأكيد . و « عذلي » مصدر مضاف إلى مفعوله أي عذله إياي . و « فيه » الضمير لسمعي .
و « يلج » بكسر اللام من ولج يلج على وزن ورث يرث . ومعنى « لم يلج » لم يدخل .
يقول يحب سمعي العاذل الذي لج في عذله لي وبالغ في خصومته إياي من أجل سماع اسمه مع أن العذل لم يدخل في سمعي لكمال كراهته إياه ففي البيت إشارة إلى أن السمع يحب الملام ويبغضه فأما محبته إياه فلكونه يأتي بذكر المحبوب وأما بغضه إياه فلكونه متضمنا لطلب الإعراض عن المحبة والشيخ يكرر هذا المعنى في كلامه على أساليب مختلفة وطرق غير مؤتلفة .

« 102 »
 
( ن ) : قوله لذكر اسمه ، أي لسبب ذكر اسم ذلك الرشأ المحجب . وقوله في عذلي بفتح الذال اسم مصدر وهو الملامة . وقوله وإن كان عذلي مصدر ساكن الذال . اهـ .


28 - وأرحم البرق في مسراه منتسبا *** لثغره وهو مستحي من الفلج
 
[ الاعراب والمعنى ]
سبحان من أعطى الشيخ طلاوة في كلامه وطراوة في نظامه فإن حكاية تشبيه البرق بثغر الحبيب مكررة في أشعار الأدباء لكن رحمة البرق لقصوره وخجالته من الفلج عند مروره كلام جديد لم يسمع من غير الشيخ . قوله « وأرحم » فعل مضارع للمفرد المتكلم . و « البرق » مفعوله .
و « في مسراه » متعلق بأرحم . والمسرى مصدر ميمي . و « منتسبا » حال من البرق .
و « لثغره » متعلق به و « الواو » واو الحال . و « من الفلج » متعلق بمستحي .
والجملة في موضع نصب على أنها حال من الضمير في وأرحم .
و « الفلج » بفتح الفاء واللام تباعد ما بين الأسنان .
والمعنى وأرحم البرق لما حصل له من القصور الذي أوجب خجالته لأنه شارك الثغر في البريق واللمعان لكنه خجل لما شاهد قصوره عن الفلج الذي هو زينة الإنسان
 
وما أحسن قول ابن الخيمي من قصيدة :
يا بارقا بأعالي الرقمتين بدا * لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
 
ويقرب من ذلك قول ابن خطيب دايا :
يا برق لولا الثنايا اللؤلؤيات * ما شاقني في الدجى منك ابتسامات
 
( ن ) : استحياء البرق من فلج أسنان المحبوب انقباضه وانزواؤه لأنه يشبهه في البريق واللمعان فيخاف أن يفتضح بنقصانه عنه إشارة إلى ظهور أمر اللّه تعالى الذي هو كلمح بالبصر والبرق إشارة إلى عالم الأرواح الصادر عن أمره تعالى فإنه كالبرق اللموع وهو من عالم الأمر الإلهي لعدم الواسطة بينه وبين الأمر وعالم الخلق من الأمر أيضا لكنه بواسطة الروح الآمري . اهـ .
 
29 - تراه إن غاب عنّي كلّ جارحة *** في كلّ معنى لطيف رائق بهج
 
[ الاعراب والمعنى ]
هذا البيت وما بعده إلى استكمال ستة أبيات من ألطف النظام وأحسن الكلام لأنه أسلوب غريب ونمط عجيب . والضمير في « تراه » يعود للحبيب والمعنى إن غاب عني الحبيب صارت جوارحي عيونا تراه لكنها تراه في كل معنى لطيف رائق بهج .
وفسر ما أراده من المعاني التي يراه فيها عند غيبته بقوله « في نغمة العود » و « في

« 103 »
مسارح غزلان الخمائل » و « في مساقط أنداء الغمام » و « في مساحب أذيال النسيم » و « في التثامي ثغر الكاس » إلى آخر الأبيات المذكورة كما سنذكرها ونتكلم عليها تفصيلا بعون اللّه تعالى . والجارحة في قوله « كل جارحة » عضو الإنسان جمعها جوارح .
 
والمعنى :
تراه جوارحي عند غيبته في مشاهدة حسنة ومناظرة مستحسنة فمن جملة هاتيك المعاني نغمة العود ونغمة النأي .
 
( ن ) : الضمير في تراه لذلك المكنى عنه بالرشأ المحجب ، أي تنظر إليه الحواس الخمس فهو محسوس وما سواه معقول عند أهل المعرفة به . وقوله إن غاب عني ، أي غابت ذاته العلية لإطلاقها عن جميع القيود والحدود الإمكانية ، وأما إذا لم يغب عنه فإنه هو يغيب في حضوره وتختفي ظلمة كونه في ظهور نوره فلا يبقى شيء في بصر العارف ولا في بصيرته ويرجع الكل إلى العدم الأصلي في جريرته ثم فصل ذلك التجلي الإلهي والظهور الرباني في أنواع المعاني قال . اهـ .
 
30 - في نغمة العود والنّاي الرخيم *** إذا تألّفا بين ألحان من الهزج
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الناي » بنون مشددة بعدها ألف لينة وبعدها ياء ساكنة اسم للقصبة التي ينفخ فيها للطرب وأظن هذا الاسم فارسيا لا أصل له في العربية . و « الرخيم » هو الصوت الذي يخرج سهلا عند النطق يقال رخمت الجارية أي صارت سهلة المنطق فهي رخيمة ورخيم .
وألف « تألفا » للعود والناي . ومعنى تألفهما اتفاقهما وامتزاج نغماتهما من غير مخالفة بين صوتيهما .
و « الألحان » جمع لحن وهو من الأصوات ما كان مصوغا موضوعا .
و « الهزج » بفتح الهاء والزاي من الأغاني ما فيه ترنم وكل كلام متدارك متقارب يسمى هزجا .
وهذا باب من بيان المظاهر التي تتعدد والمجالي التي لا تتقيد فكأنه يقول أراه عند الغيبة في مظاهر لطيفة والشيخ من القوم الذين يقولون بوحدة الوجود فهذا هو الكلام على قوله « في نغمة العود » الخ . والهزج جنس من العروض وكذلك البسيط وبينهما بعد
ولذلك ألغز بعضهم في ذلك فقال :
يا أيها المولى الذي * علم العروض به امتزج
بين لنا دائرة * فيها بسيط وهزج
 
أراد بالدائرة دائرة الدولاب وأراد بالبسيط فيها الماء وأراد بالهزج صوت الدولاب فيكون المعنى بين لنا دائرة جمعت بين البسيط والهزج والمتبادر من ذلك اصطلاح العروض بدليل قوله « علم العروض به امتزج » . ولذلك يحكى أن المسؤول لما خوطب بذلك أطال التفكر وقال المراد هنا دائرة الدولاب فقال السائل أصبت لكن
 
« 104 »
 
بعد أن أطلت الدوران في الدائرة . وقوله تألفا ، أي وافق كل منهما الآخر فتوافقا بين الأغاني المشتملة على الترنم والتقارب في الحركات والسكنات .
 
( ن ) : والمعنى أن الوجود الحق يتجلى له وينكشف لآذانه في وقت السماع وطيب الألحان بصورة الصوت المطرب لأنه تعين من جملة التعينات التي عينها الوجود الحق فظهرت به وظهر بها من حيث أسماؤه الحسنى وصفاته العليا وذاته غائبة لكمال تنزهها عن الأكوان ومحوها وإفنائها لكل ما هو كائن أو كان .
 
31 - وفي مسارح غزلان الخمائل في *** برد الأصائل والأصباح في البلج
 
أي وتراه عند غيبته عني جوارحي في مسارح غزلان الخمائل . « فالمسارح » جمع مسرح بفتح الميم وهو المرعى وأراد هنا مراعي الغزلان . و « الخمائل » جمع خميلة وهي مكان منهبط من الأرض ونباته يكون كريما لغزارة مائه وتطلق الخميلة على معان غير هذا وهذا هو الأنسب . و « برد » بفتح الباء وسكون الراء خلاف الحر إذ المراد أنه يراه في هذه الأماكن اللطيفة حيث يوجد برد الأصائل . والمراد من « الأصائل » جمع أصيل وهو الوقت الذي بعد العصر إلى العشاء يوصف باللطف كالإسحار قال الشاعر :
والريح تعبث بالغصون وقد جرى * ذهب الأصيل على لجين الماء
 
قوله « والإصباح » بالجر عطف على برد الأصائل وهو مصدر على وزن الإكرام ويجوز عطفه على « مسارح غزلان الخمائل » .
قوله « في البلج » بفتح الباء واللام وهو قيد للإصباح لأن الإصباح قد يكون في أوله وقد يكون في آخره .
فلما قال في البلج علم أن المراد وأراه في انبلاج الصبح في أوائل ظهور الصباح عند ابتداء الإصباح .
 
( ن ) : والمعنى أن الحق تعالى يتجلى له ويظهر لعيونه في صور مراعي الغزلان بين الأشجار المجتمعة الملتفة فكان تجليه وظهوره في ذلك كله لأنها تعيناته التي عينها بتأثير أسمائه فيها فهو ظاهر بها وهي ظاهرة به ويتجلى له الحق تعالى أيضا ويظهر لحسن لمسه في صورة برد الهواء وقت العشي ووقت الصباح فإن ذلك لذيذ في مذاق الأرواح . وقوله الأصباح بفتح الهمزة جمع صبح وهو الفجر وأول النهار . اهـ .
 
32 - وفي مساقط أنداء الغمام على *** بساط نور من الأزهار منتسج
 
[ الاعراب والمعنى ]
وهذا مظهر آخر لبيان تجليه وإبراز نقوش تكونه في مجاليه أي وتراه جوارحي أيضا في أماكن سقوط أنداء الغمام . و « المساقط » جمع مسقط والمفرد على وزن مقعد

« 105 »
 
وهو اسم مكان السقوط . و « أنداء » على وزن أفعال جمع ندى وهو المطر ولذلك أضافه إلى الغمام . لأن « الغمام » جمع غمامة وهي السحابة . و « على بساط نور » متعلق بمساقط . و « البساط » معلوم . و « النور » بفتح النون وسكون الواو الزهر .
و « منتسج » بالجر صفة نور . و « من الأزهار » متعلق به أي وأراه أيضا في أماكن سقوط أمطار السحاب حال كونها ساقطة على بساط قد انتسج من الأزهار وما أعلى هذا المجلي وما أنور هذا الزهر وما ألذ الانبساط على مثل هذا البساط فمن أراه هذه المظاهر وهو بقدرته في منصتها ظاهر فقد حياه وأحياه وأكرمه واجتباه وأعطاه وحباه وله سبحانه عطايا ولخواصه من لطفه مزايا بها امتازوا ولجميله مع الجمال حازوا .
وقال :
( ن ) : والمعنى أنه يتجلى الحق تعالى له أيضا في المواضع التي تسقط عليها أنداء الأمطار فيها وألوان الأزهار منتثرة كالبساط المنسوج بأنواع النقوش ويظهر لعيونه كذلك منكشفا بصورة ما هنالك . اهـ .
 
33 - وفي مساحب أذيال النّسيم إذا *** أهدى إليّ سحيرا أطيب الأرج
 
[ الاعراب والمعنى ]
وهذا أيضا من المظاهر الرفيعة والمجالي اللطيفة البديعة أي وتراه إن غاب عني جميع جوارحي « في مساحب أذيال النسيم » . و « المساحب » جمع مسحب بفتح الميم وسكون السين وفتح الحاء وهو مكان السحب أي في أماكن يسحب فيها النسيم اللطيف أذياله . وقيد ذلك بقوله « إذا أهدى ذلك النسيم إليّ » وكان الظاهر إذا أهدى لي ولكن ضمنه معنى الإيصال فعدّاه بإليّ . و « أطيب » اسم تفضيل منصوب على أنه مفعول أهدى وتصغير « سحيرا » للتحبيب أو للتقريب من وقت الصباح . و « الأرج » بفتح الراء توهج ريح الطيب فالمراد إذا سحب النسيم أذياله وأهدى إليّ سحيرا أطيب طيبه وإليّ أماله شاهدته مني الجوارح ومالت إليه جميع الجوانح فنظرته عند المغيب وشاهدته مشاهدة الحبيب القريب .
 
( ن ) : والمعنى أنه تعالى يتجلى له ويظهر بصورة المواضع التي يمر النسيم عليها ويتردد فتفوح منه روائح الطيب ونفحات الأزهار من كل غصن رطيب وينكشف سبحانه بذلك لأنفه فيشمه ويلتذ بلطفه . اهـ .
 
34 - وفي التثامي ثغر الكاس مرتشفا *** ريق المدامة في مستنزه فرج
 
[ الاعراب والمعنى ]
أي وتراه عند غيبته عني كل جارحة فيّ عند التثامي وتقبيلي ثغر الكاس حال كوني مرتشفا ريق المدامة في مستنزه فرج . 
و « الالتثام » من اللثم وهو التقبيل . تقول لثم فلان فاها كسمع وضرب بمعنى قبلها . فقد جعل الشيخ وضع الفم على طرف


« 106 »
القدح لشرب ما فيه تقبيلا لما هناك من نوع المشابهة وسمى طرف القدح ثغرا تشبيها .
و « الثغر » هنا بمعنى الفم . و « الكاس » الإناء يشرب فيه أو ما دام الشرب فيه وهي مؤنثة مهموزة والشراب أيضا وجمعها أكؤس وكاسات وكياس . و « المدامة » الخمرة .
 
و « المستنزه » بضم الميم وسكون السين وفتح التاء وسكون النون وفتح الزاي على صيغة اسم المفعول والمراد منه اسم مكان أي في مكان يستنزه فيه الإنسان أي يكتسب النزهة .
و « فرج » بفتح الفاء وكسر الراء على وزن فرح مكان فرجة وهي انشراح الصدر .
و « الالتثام » مصدر مضاف إلى الفاعل . و « ثغر الكاس » بنصب الثغر مفعوله مع إضافته إلى الكاس . و « مرتشفا » حال من الياء التي هي فاعل المصدر .
 
و « ريق » منصوب على أنه مفعول مرتشفا وهو مضاف إلى « المدامة » . وفي « مستنزه » متعلق إما بالمصدر أو باسم الفاعل . و « فرج » صفة مستنزه أو هما صفتان لموصوف محذوف أي في مكان موصوف بأنه يكسب النزهة بالتفرّج وانشراح الصدر .
ولا يخفى ما في البيت من المناسبات في الالتثام والثغر والكاس والرشف والريق والمدامة وفي المستنزه والفرج . ثم لما أتم الكلام على ذكر المظاهر والمنصات التي تراه جوارحه بها عند غيبته عنه شرع في ذكر غربته مع عدم غيبته فقال :
 
( ن ) : قوله : ريق المدامة ، كناية عن مطالعة المعاني الإلهية والحقائق الوجدانية .
وقوله في مستنزه فرج ، يعني أن المستنزه الفرج وما حصل مما ذكر كل ذلك تجليات إلهية لحاسة الذوق وللعيون في كل صورة تكون لأنها مخلوقاته المعدومة الظاهر فيها بحضرة وجوده المعلومة . اهـ .


35 - لم أدر ما غربة الأوطان وهو *** معي وخاطري أين كنّا غير منزعج
 
[ الاعراب والمعنى ]
« لم أدر » أي لم أعرف . و « ما » يجوز أن تكون زائدة وتكون « غربة » حينئذ منصوبة على أنها مفعول أي لم أعرف غربة الأوطان . و « الغربة » بضم الغين النزوح عن الوطن ومثله الاغتراب والتغرب . ويجوز في ما أن تكون استفهامية على أنها مبتدأ .
وغربة خبر والجملة في موضع نصب على أنها سدت مسد مفعولي الفعل قبلها .
و « الواو » في قوله « وهو معي » واو الحال وهو مبتدأ .
و « معي » متعلق بمحذوف على أنه خبر والجملة في موضع نصب على أنها حال من ضمير المتكلم .
و « خاطري » مبتدأ والمراد من الخاطر هنا القلب . و « غير منزعج » خبر ومضاف إليه .
وقوله « أين كنا » قد يروى حيث كنا .
و « كنا » هنا فعل وفاعل إذ المراد حيث وجدنا . والجملة في موضع جر على أنها مضاف إليه والظرف متعلق بما في غير منزعج من معنى النفي إذ المراد انتفى الانزعاج والاضطراب عن خاطري في المكان الذي يوجد حبيبي معي فيه


« 107 »
 
وحاصله أن الاغتراب مع كونه سبب الحزن والاكتئاب ، ينفي علمه عن صاحبه ولا يشعر به المغترب من جميع جوانبه إذا كان مصاحبا للحبيب نازلا بالمنزل القريب فالقريب مع بعد الحبيب غريب والغريب مع قربه حبيب .
 
( ن ) : المعنى أنه لا يعرف ما هي الغربة عن الأوطان لإعراضه عن كل ما سوى المتجلي الحق في جميع الأكوان وإنما يدرك ذل الغربة ومشقتها الغائب عنه تعالى الحاضر مع الأشياء في الأماكن والأزمان وفي الحديث حب الوطن من الإيمان وأول الأوطان حضرة العلم الإلهي القديم ثم حضرة الإرادة الربانية ثم حضرة الكلام النفساني القديم ثم حضرة القلم الأعلى واللوح المحفوظ إلى أن يظهر الكائن في عالم الدنيا فيكون غريبا عن أوطانه فإذا شهد الحق تعالى الغائب عنه بالذات وهو حاضر بالأسماء والصفات في أنواع التجليات لم يدر ما غربة أوطانه في جميع أزمانه . وقوله وهو معي ، أي ذلك المكنى عنه بالرشأ فيما سبق من الكلام معي لا يفارقني على كل حال لأنه وجودي الحق الذي أنا به موجود مع أني باطل معدوم محال
قال تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [ الحديد : الآية 4 ] .
 
فالأبنية والكونية لنا لا له تعالى وإنما له المعية فقط وهي الظهور بالوجود في مراتب الحدود .
وقوله غير منزعج ، أي غير متألم بفراق من أحبه أو بعد ما بيني وبينه لأني أشهده ظاهرا متجليا في جميع الأكوان بالوجود الحق في باطل الأعيان . اهـ .
 
36 - فالدّار داري وحبّي حاضر ومتى *** بدا فمنعرج الجرعاء منعرجي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الفاء » تدل على أن ما بعدها متفرع عن الذي قبلها فهو يقول حيث كان حبيبي مصاحبي وبوجوده تنتفي غربة الأوطان فقد ثبت أن الدار التي ليست لي تصير بوجوده دار أهلي ومحل وطني إذ الحزن من بعده يكون والفرح بوجوده يتوفر للفؤاد المحزون .
فالدار داري وحبي حاضر بأوطاني جالب لأوطاري . و « الحب » هنا بكسر الحاء بمعنى المحبوب . و « متى » هنا شرطية . و « بدا » بمعنى ظهر .
 
و « المنعرج » هنا بضم الميم وسكون النون وفتح الراء على صيغة اسم المفعول والمراد به هنا اسم المكان أي موضع تعريج الأحباب في الجرعاء ومكان اجتماعهم في هاتيك الصحراء هو مكان انعراجي المعهود هناك وبه أراك في شجر الأراك حيث يجتنى السواك ولا نطلب سواك
 كما قال :
باللّه إن جزت بوادي الأراك * وقبلت أغصانه الخضر فاك
فابعث إلى المملوك من بعضها * فإنني واللّه ما لي سواك

يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح ما بين معترك الأحداق والمهج الأبيات من 01 إلى 44 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:32 pm

شرح ما بين معترك الأحداق والمهج الأبيات من 01 إلى 44 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة ما بين معترك الأحداق والمهج الأبيات من 01 إلى 44
« 108 »
 
( ن ) : قوله حاضر ، أي لا غيبة له عني لأنه وجودي الذي أنا موجود به في ظاهر الحال ولا يغيب أحد عن وجوده وإن غاب عن خصوص كونه وتعيينه لأن ذلك أمر عدمي في الحقيقة .
 
وقوله ومتى بدا ، يعني أنه متى استترعني بإظهار صورته العدمية لي فأراني إياها موجودة بوجوده من غير أن أعرف أنها موجودة بوجوده
وهي الغفلة التي قال تعالى : وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا [ الكهف : الآية 28 ]
 
وذلك لأنه تعالى يملك القلوب والأبصار ويقلبها على حسب ما يريد ويختار . والجرعاء أرض طيبة النبات والمعنى بمنعرج الجرعاء مكابدة السلوك بالذل والتقوى في طريق اللّه تعالى وجمع الهمة بالتوجه إليه سبحانه والإعراض عما سواه تعالى بالكلية وهي المجاهدة الشرعية فإن هذه الحالة يستقيم فيها أمره فيجد فيها قلبه فكأن محبوبه نازل فيها حيث يجده هناك ، لقوله عنه بدا ، أي خرج إلى البادية . ومنعرج الجرعاء من جملة البادية .
 
فمنعرج الجرعاء ، كناية عن حالات السلوك في الطريق المستقيم الذي يدخل في إمكان المريد السالك تحت اختياره لاشتماله على تجرع الشدائد بترك العوائد فيصير ذلك المنعرج الذي هو موطن محبوبه موطنا له أيضا ولهذا قال منعرجي . اهـ .
 
37 - ليهن ركب سروا ليلا وأنت بهم *** بسيرهم في صباح منك منبلج
38 - فليصنع الرّكب ما شاؤوا بأنفسهم *** هم أهل بدر فلا يخشون من حرج
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « ليهن » تقرأ بكسر اللام وفتح الياء وسكون الهاء وفتح النون أي ليصير صاحب هناء . و « ركب » فاعله وأصله الهمز فقلبت الهمزة ألفا وحذفت الألف للجازم وهو لام الأمر مثل ليخش زيد . و « الواو » في « سروا » للركب عبارة عن القوم الذي يركبون الإبل وهو اسم جمع أو جمع وهم من العشرة فصاعدا وقد يكون للخيل .
 
و « ليلا » متعلق بسروا . والسرى وإن كان مخصوصا بالليل لكن قد يذكر الليل مع الفعل تأكيدا وإيضاحا على حد قوله تبارك وتعالى : سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [ الإسراء : الآية 1 ]
و « الواو » للحال . و « أنت » مبتدأ . و « بهم » خبر . و « في صباح » متعلق بسروا .
و « منبلج » صفة صباح . و « منك » صفة صباح .
وهي إشارة إلى أن الصباح الذي سروا فيه منه وبسببه . و « بسيرهم » متعلق بما تعلق به الخبر إذ المعنى وأنت معهم في سيرهم .
و « الباء » بمعنى في . و « المنبلج » المنير الساطع .
و « الفاء » للتفريع أي حيث كان الركب قد سروا في صباح منبلج منك فليصنعوا بأنفسهم ما أرادوا فإنهم أهل بدر وهذه إشارة إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم في حق الغزاة من أهل بدر وهذا تلميح وهو من المحسنات

« 109 »
 
البديعية وما أحسن ما قال بعضهم وأجاد :
يا بدر أهلك جاروا * وعلموك التجري
وقبحوا لك وصلي * وحسنوا لك هجري
فليصنعوا ما أرادوا * لأنهم أهل بدر
 
وقد نظم بعضهم مواليا وأجاد :
يا بدر أهلك يقولوا لك عليّا جور * وعلموك التجافي يا بهيّ النور
فليصنعوا ما أرادوا يا شقيق الحور * لأنهم أهل بدر ذنبهم مغفور
 
( ن ) : كنى بالركب عن طائفة أهل اللّه العارفين به المحققين لقوله تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [ الإسراء : الآية 70 ]
والجسمانيات وبحر الروحانيات فهم المحمولون على كل حال لشهودهم الحامل الحق وقيامهم به ظاهرا وباطنا فهم ركب دائما لا مشاة سائرون به إليه في طريقه المستقيم . وقوله سروا ليلا ، كنى بالليل عن ظلمة الأكوان فهم محمولون به سائرون إليه به في ظلمات النفوس والطبائع لتحققهم بها أنها تجلياته الربانية في حضراته الإنسانية .
 
وقوله وأنت بهم ، أي ظاهر بوجودك الحق في تقادير أعيانهم العدمية . وقوله بسيرهم متعلق بيهن ، أي ليهنوا بسيرهم والضمير للركب . وقوله في صباح منك ، أي ظاهر لهم من ظهور وجودك الحق وهو النور الحقيقي وهذا من التجريد البياني كقولهم رأيت من زيد أسدا .
 
وقوله ليصنع الركب ما شاؤوا لأنفسهم ، أي لأجل أغراض أنفسهم فإنهم قائمون بأنفسهم بربهم فأنفسهم بيد ربهم يتصرف بها كيف يشاء وهو يصرفهم بها كيف يشاؤون . قال تعالى : وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [ الإنسان : الآية 30 ]
 
والغافل قائم بنفسه ذوقا وبربه علما لا ذوقا فعلمه حجاب على ذوقه وهؤلاء الركب قائمون بأنفسهم بربهم ذوقا وكشفا . وقوله هم أهل بدر ، الإشارة بأهل بدر إلى معنيين الأول أنهم أهل الغزوة المشهورة التي غزاها النبي صلى اللّه عليه وسلم قبل فتح مكة بعد الهجرة والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش وعلى ذلك اليوم بني الإسلام وكان تاريخ بدر يوم سبعة عشر من رمضان يوم الجمعة لثمانية عشر شهرا من الهجرة وكان عدد الصحابة ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا وكان عدد عدوهم ما بين التسعمائة إلى الألف .
 
والمعنى الثاني أنهم أهل بدر وهو القمر على معنى التشبيه بتجلي الحق تعالى بهم عليهم وانكشافه لهم بهم كما أن الشمس متجلية ليلا بالقمر ظاهرة به لأهل الليل فإن نور البدر المشرق هو نور الشمس قام لها كالمرآة المجلوّة فأظهر نورها

« 110 »
 
بصفائه من غير انتقال ولا حلول أصلا . فكذلك الوجود الحق تعالى ظاهر في مرايا الأكوان فإذا صفا الكون وارتفع عنه حجاب الوهم بالغيرية ظهر فيه نور الوجود الحق فشهده المريد السالك العارف المحقق فكان هو البدر لظهور شمس الأحدية من الحضرة الإلهية . قال عليه السلام إنكم سترون ربكم كما ترون البدر ليس دونه سحاب وفي رواية كما ترون الشمس .
وقوله فلا يخشون من حرج ، أي إثم إشارة إلى معنى ما ورد في حديث البخاري من أنه لما أراد عمر ضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة لخيانته للرسول بالكتابة للمشركين فقال عمر إنه قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال أليس من أهل بدر لعل اللّه اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو قد غفرت لكم فدمعت عينا عمر وقال اللّه ورسوله اعلم .
وفي رواية له أيضا قال فقال يا عمر وما يدريك لعل اللّه اطلع الخ .
فدمعت عينا عمر وقال اللّه ورسوله أعلم . اهـ .
 
39 - بحقّ عصياني اللّاحي عليك وما *** بأضلعي طاعة للوجد من وهج
40 - أنظر إلى كبد ذابت عليك جوى *** ومقلة من نجيع الدّمع في لجج
41 - وارحم تعثّر آمالي ومرتجعي *** إلى خداع تمنّي الوعد بالفرج
42 - واعطف على ذلّ أطماعي بهل وعسى *** وامنن عليّ بشرح الصّدر من حرج
 
[ الاعراب ]
« انظر » نظر اللّه إليك وعطف بلطفه عليك إلى هذه الأبيات الساميات وما اشتملت عليه من الألفاظ الرشيقة والمعاني الأنيقة وما بها من الغرام الذي يأخذ بالألباب والأفهام وتسحر العقل سحر هاروت وتجعل العاقل بالجنون منعوت ليس ما بها شبيها بألفاظ من مضى من أهل الفصاحة ولا قريبا من بلاغة من اتصف ميزان أدبه بالرجاحة .
 
قال « بحق عصياني اللاحي عليك » وفي القسم به إشارة إلى كونه عنده أمرا عظيما ووصفا جسيما فإنه لا يقسم إلا بعظيم ولا يحلف إلا بكريم .
 
أي أحلف بحق عصياني الشخص الذي يلحاني عليك ويقول ما لك محبّا لهذا الحبيب وهو ليس من مقام محبتك بقريب فاعصه غراما وابعد عنه هياما ، وذلك يقتضي شدة الالتزام بالغرام .
قوله « وما » عطف على « عصياني » أي واقسم أيضا بالحب والنار التي تنشأ عنه مستقرا ذلك في داخل أضلعي لأجل طاعتي للوجد ويجوز في طاعة أن يكون منصوبا على التعليل لعصياني فيصير المعنى أقسم بحق عصياني من لحاني على محبتك لأجل طاعتي للوجد فإن من أطاع الوجد عصى من لحاه عليه والذي استقر في الأضلع من اللهيب إنما هو لطاعة الحبيب .
و « من » في قوله « من وهج » بيانية . والمبين ما في قوله « وما بأضلعي » و « الوهج » بفتح الواو والهاء لهيب النار . قوله « انظر » فعل أمر

« 111 »
 
والمخاطب به الحبيب الذي خاطبه بقوله « بحق عصياني اللاحي عليك » . وانظر هنا من النظر الذي هو بمعنى الحنوّ . و « عليك » متعلق « بذابت » أي ذابت لأجل محبتك .
 
و « جوى » مفعول لأجله أي ذابت في محبتك لأجل الجوى الذي هو مرض الباطن لأجل الحب . و « مقلة » بالجر عطفا على « كبد » أي انظر إلى الكبد الذائبة والمقلة التي هي بدم القلب صائبة فهي في دمائها غرقى من دم الكبد التي ذابت عليك عشقا .
 
واعلم أنني لم أسمع في مدة العمر ألطف من قوله « تعثر آمالي » و « ذل أطماعي » ومن سمع تعثر الآمال وذل الأطماع قبل هذا الكلام والآمال إذا ما تعثرت تراها تتمنى الوصال ثم تراه بعيد المنال فتسقط في مقام اليأس ثم تستند إلى قوة الرجاء فتقوم طامعة ثم تخور راجعة فلا تزال بين اليأس والرجاء والفزع والالتجاء ومن كان بهذه الحالة فإنه يبكى عليه رحمة لما هو فيه من الحيرة وبعد ذلك يرجع إلى خداع تمنيه أن يوعد بالفرج فانظر إلى هذه المراتب أوّلا الرجوع فإن المرتجع مصدر ميمي على صيغة اسم المفعول ويرجع إلى تمنيه فالتمني المرتبة الثانية والمرتبة الثالثة الوعد والمرتبة الرابعة الفرج .
 
والمعنى :
وارحم رجوعي بعد تعثر آمالي إلى خداع أن أتمنى أن أوعد منك بالفرج فهو راض بالخيال من غير مآل لتعثر الآمال وتمني وعد الوصل بالفرج من ضيق الحال ، نعم نعم هكذا هكذا وإلا فلا لا طرق الجد غير طرق المزاح وما أحسن عطفه العطف على الرحمة في قوله واعطف عطفا على وارحم وإنما أضاف الذل إلى الأطماع لأن من شأن الطمع الذل . وفي الأمثال من طمع ذل والأطماع بفتح الهمزة على وزن أفعال جمع طمع وهو الحرص على الشيء .
 
قوله بهل وعسى متعلق بأعطف أي تعطف على ذل طمعي إذا شاهدته فإن العزيز إذا رأى ذل عبده بين يديه تعطف عليه . لكن قوله بهل وعسى فيه إشكال من جهة هل لأن هل للاستفهام والحبيب إذا عطف لا يقول لعاشقه هل نعم قد يقول له إذا طلب منه لطفا وعطفا عسى يكون ذلك وأما الاستفهام ففيه إشكال ويمكن الجواب أيضا بأن هل هنا استعملها الشيخ بمعناها الأصلي وهو قد فيكون المعنى اعطف على أطماعي إذا شاهدت ذلها بما يقتضي تحقيق اللطف والالتفات وهو قد وبما يقتضي الرجاء وهو عسى ويمكن الجواب أيضا بأن هل ترد بمعنى الجزاء أي اعطف على ذل أطماعي عند مشاهدتها جزاء للذل ويمكن هنا جواب آخر غير أنه بعيد في غاية البعد وهو أن يكون المعنى اعطف على ذلي بأن تجعلني مستفهما منك عن سبب الوصال وأنت عند استفهامي تجيبني بلفظ الرجاء ومع ذلك فاللفظ مشكل . قوله وامنن على وزن وانصر


« 112 »
 
معطوف على قوله واعطف . ومن حرج متعلق بشرح الصدر . والحرج محركة يرد بمعنى المكان الضيق ويرد بمعنى الضيق وهو المعنى المصدري . والمراد الثاني قوله وامنن من المن الذي هو بمعنى التفضل لا بمعنى المن المذموم فافهم .
 
( ن ) : الخطاب للمكنى عنه بالرشا في البيت السابق . وقوله انظر المراد نظر رحمة خاصة استعدّ لها وإلا فإن الرحمة العامة شاملة للكل قال تعالى : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ الأعراف : الآية 156 ] . وقوله إلى كبد المعنيّ بذلك القلب الروحاني المنفوخ فيه من الأمر الرباني . وقوله ذابت لأن الكبد مؤنثة وذوبانها كناية عن فنائها في شهود الأمر الإلهي فإن الروح منفوخ من أمر اللّه وهي مخلوقة من الأمر الرباني من غير واسطة فإذا فنيت بعد فناء الجسد المسوّى لم يبق إلا الأمر قال تعالى : ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ [ الطّلاق : الآية 5 ]
 
وقوله ومقله عطف على كبد والمقلة عبارة عن العين الباصرة دعاه أن ينظر إليها من قوله عليه السلام كنت بصره الذي يبصر به حتى ينظر إليه ولا يحجبه عنه حاجب . وقوله من نجيع الدمع في لجج يكنى باللجج ، أي المقادير الكثيرة من دم الدمع التي غرقت فيها العين ، عن الصور الكونية المدعية للوجود بنجاسة الشرك الخفي .
كما قال تعالى : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [ التّوبة : الآية 28 ]
 
كما أن الدم نجس . وقد أضيف إلى الدمع فنجسه فإذا كان الحق بصره الذي يبصر به رأى به فناء الأكوان وشهد المتجلي الحق في جميع الأعيان .
وقوله إلى خداع تمني الوعد بالفرج يعني أن نفسه تخدعه فتطمعه في حصول الفرج من الشدة التي هو فيها ولا فرج في وصوله إلى المحبوب الحقيقي لعدم المناسبة بينهما بوجه من الوجوه . وقوله بهل ، يعني اسأل عني ولو مستفهما بقولك هل هنا أحد ولا تعرض عني بالكلية بحيث لا تلتفت إلي وأجبر بذلك كسري وتعطف على ذل طمعي فيك .
 
وقوله وعسى ، يعني أن يقول له محبوبه عسى أن أصلك أو التفت إليك فإن هذا إطماع للمحب من المحبوب قاله المحبوب يحمل بذلك محبه على الرجاء منه . اهـ .
 
43 - أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه قول *** المبشّر بعد اليأس بالفرج
44 - لك البشارة فاخلع ما عليك فقد *** ذكرت ثمّ على ما فيك من عوج
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن سبط الشيخ ذكر في ديباجة الديوان ما صورته حكى لي ولده قال لما حج الشيخ شهاب الدين السهروردي شيخ الصوفية وكان آخر حجة في سنة ثمان وعشرين وستمائة وكانت وقفة الجمعة وحج معه خلق كثير من أهل العراق ورأى كثرة ازدحام الناس عليه في الطواف بالبيت والوقوف بعرفة واقتدائهم بأقواله وأفعاله وبلغه

« 113 »
 
أن الشيخ في الحرم فاشتاق إلى رؤيته وبكى وقال في سره يا ترى هل أنا عند اللّه كما يظن هؤلاء فيّ ويا ترى هل ذكرت في حضرة الحبيب في هذا اليوم فظهر له الشيخ وقال يا سهروردي :
لك البشارة فاخلع ما عليك فقد * ذكرت ثم على ما فيك من عوج
 
فصرخ الشيخ شهاب الدين وخلع كل ما كان عليه وخلع المشايخ والفقراء والحاضرون كل ما كان عليهم وطلب الشيخ فلم يجده فقال هذا إخبار من كان في الحضرة ثم اجتمعا بعد ذلك في الحرم الشريف واعتنقا وتحدثا سرا زمانا طويلا انتهى .
 
قوله « أهلا » مفعول بفعل محذوف أي زرت أهلا في أصل وضعه . وأمّا الآن فإن أهلا يستعمل بمعنى مطلق التعظيم عند الإقبال . وما في « بما » واقعة على قول المبشر . ل
أن قول المبشر مجرور على أنه بدل من ما . والمعنى سررت وفرحت وابتهجت بالمعنى الذي ما كنت أهلا لموقعه أي لصدوره ووجوده . وهو قول المبشر .
فقول المبشر إما مجرور على أنه بدل من ما وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح أي امدح أو أخص قول المبشر .
و « بالفرج » متعلق بالمبشر و « بعد اليأس » كذلك والقول بمعنى المقول عبارة عن قوله رضي اللّه عنه .
و « البشارة » الإخبار بما يوجب الفرح أي أنا أخبرك بما يوجب لك السرور الكامل فاستحق عليك أن تعطيني ما عليك في مقابلة تبشيري لك بهذا الأمر العظيم وهو أنك قد ذكرت هناك .
فإن « ثم » بفتح الثاء المثلثة اسم إشارة للبعيد والتبعيد هنا معنوي للتعظيم والتقديس والتنزيه عن مقاربة الحوادث . وقوله « على ما فيك » متعلق « بذكرت » .
 
و « على » هنا بمعنى مع أي ذكرت في الحضرة العلية مع ما فيك من عوج في طريق المعرفة الإلهية وسبب ذلك أن الاستقامة الحقيقية في مقام المعرفة الربانية متعذرة ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم : « شيبتني هود وأخواتها » يريد بذلك قوله تبارك وتعالى : فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [ هود : الآية 112 ]
وذلك أمر عزيز المنال واللّه أعلم بحقيقة الحال وهذه من محاسن قصائد الشيخ .
 
( ن ) : قوله المبشر هو الوارد الرباني أو غيره في هواتف الغيب . وقوله بعد اليأس ، أي اليأس من الوصول إلى حضرات القبول . وقوله لك البشارة الخطاب للناظم قدس اللّه سره من المبشر له . وقوله فاخلع ما عليك ، أي انزع واترك ما عليك من الثياب وهو الصورة المستولية على روحه الآمري من عالم الطبائع والعناصر انتهى .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح خفّف السّير واتّئد يا حادي الأبيات من 01 إلى 37 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:33 pm

شرح خفّف السّير واتّئد يا حادي الأبيات من 01 إلى 37 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة خفّف السّير واتّئد يا حادي الأبيات من 01 إلى 37
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة السابعة خفّف السّير واتّئد يا حادي ]
قال رضي اللّه عنه :
01 - خفّف السّير واتّئد يا حادي *** إنّما أنت سائق بفؤادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « واتئد » بواو عطف على « خفف » . وتاء مشدّدة وهمزة مكسورة وهو أمر بمعنى ارفق أي ترفق بي ولا تبالغ في الحداء فإن ذلك يكون سببا لشدة إسراع الإبل وأنا قلبي معكم يساق في جملة ما يساق من المطايا فإذا أسرعت في السير ولم تتئد في الحداء كان ذلك سببا لتمزيق الفؤاد وتقطيع الأكباد وقد فرق بعضهم بين السير والسرى فالأول ما كان نهارا والثاني ما كان ليلا وما أحسن قول الأرجاني ناصح الدين :
ما سار إلا في نهار ضيائه * فأقول سار ولا أقول له سرى
 
و « الحادي » اسم فاعل من الحداء وهو سوق الإبل وزجرها وقد يطلق على التغني بأصوات محننة لنهرها فتسرع في السير وإلى ذلك أشار كشاجم حيث قال :
إن كنت تنكر أن في الأ * لحان فائدة ونفعا
فانظر إلى الإبل التي * لا شك أغلظ منك طبعا
تصغي لأصوات الحدا * ة فتقطع الفلوات قطعا
 
وقوله « إنما أنت سائق » للحصر أي ما أنت سائق إلا مع فؤادي .
ويجوز أن تلاحظ « الباء » في قوله « بفؤادي » للظرفية أي تسوق في فؤادي أي تطؤه في سيرك لأنه سائر تحت الركاب مع الأحباب ولذلك طلب منه تخفيف السير والترفق به .
 
واعلم أن السلف قد ذكروا لتأثير أصوات الحداة أمورا عجيبة وأحوالا غريبة منها ما ذكره الإمام الدميري أن رجلا صار ضيفا لبعض أكابر العرب فبينما هو جالس في خيمته ينتظر إتمام الضيافة إذا به قد لمح أسود صغيرا في جانب الخيمة مقيدا فقال له ما بالك يا

« 115 »
 
أسود فقال ذنبي عند سيدي أنني حدوت له عشرة من الإبل وكانت من محاسن الجمال فقطعت مسافة عشرة أيام في يوم فكان ذلك سببا لموتها فغضب سيدي عليّ وقيدني كما ترى ولكنه كريم فلو امتنعت من أكل طعامه عند إحضاره إلا أن يطلقني لم يخالفك فصبر الضيف إلى حضور الزاد فلم يمد يده إليه فعزم عليه صاحب الضيافة أن يأكل فقال لي عندك حاجة فإن قضيتها أكلت وإلا فلا فقال وما هي حاجتك قال أن تطلق هذا الأسود
فقال يا سيدي إن ذنبه عظيم وذكر قصة الجمال العشرة وما صنع بها من الحداء حتى أهلكها
فقال لا بأس فلم يسع صاحب البيت إلا إطلاق العبد وقيل إن بعض العرب أعطش جماله عشرة أيام ثم أطلقها على الماء فغنّى لها الحادي إلى جهة غير جهة الماء فعدلت إلى جانب الحادي وتركت شرب الماء بعد عشرة أيام لم تشربه فيها .
 
( ن ) : قوله السير ، كناية عن السلوك بالروحانية في طريق الأذواق الوجدانية وهي الجذبة الإلهية لأنه لا بد منها في تحقيق معرفة الحضرة الربانية إذ لا يمكن الوصول إليه تعالى إلا به سبحانه لا بالنفس وقد أمر بتخفيف السير ليكمل التحقق في المقامات وتتمكن الروحانية من أنواع المنازلات ، فإن الجذب الشديد يدهش البصائر ويذهل العقول عن كمال إدراك الأسرار بالسرائر .
وقوله يا حادي ، كناية عن المتكلم عن الحق الروح الأعظم والنور المحمدي المفخم المخلوق من نوره كل شيء الذي أنزل اللّه تعالى منه عليه الكتب وأرسل الرسل يدعون إليه بإذنه
قال تعالى : رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [ آل عمران : الآية 193 ] الآية .
والمنادي هو النبي صلى اللّه عليه وسلم . وقد ورد في بعض الكتب الإلهية المنزلة لقد غنيت لكم فلم ترقصوا . اهـ .
 
02 - ما ترى العيس بين سوق وشوق *** لربيع الرّبوع غرثى صوادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن المحققين نصوا على أن « ما » استفهام لطلب التصور فقط ويطلب بها شرح الاسم كقولك ما العنقاء طالبا أن يشرح هذا الاسم ويبين مفهومه وأنه لأيّ معنى وضع فيجاب بإيراد لفظ أشهر وقد يطلب بها ماهية المسمى أي حقيقته التي هو بها كقولنا ما الحركة تريد ما حقيقة مسمى هذا اللفظ ويجاب بإيراد بيانه من الجنس والفصل فالتي في بداءة البيت ليست الاستفهامية فيجب تقدير الهمزة وتكون ما حينئذ للعرض بمنزلة إلا وتختص حينئذ بالفعل نحو إما تقوم إما تقعد ولك أن تدعي في ذلك أنّ الهمزة للاستفهام التقريري مثلها في ألم وألا وأن ما في ذلك نافية واعلم أن

« 116 »
 
هذه الهمزة سمع حذفها في كلام الفصحاء كما في قول الشاعر :
ما ترى الدهر قد أباد معدّا * وأباد السراة من عدنان
 
فلا يكون حذفها في كلام الشيخ بغير شاهد والخطاب في « ترى » للحادي .
و « العيس » بكسر العين وسكون الياء الإبل البيض يخالط بياضها شقرة وهو أعيس وهي عيساء وهي من محاسن الإبل و « السوق » بالسين المهملة زجر الإبل وما أشبهها .
 
و « الشوق » بالمعجمة نزاع النفس وحركة الهوى . و « الغرثى » الجائعة . و « الصوادي » العاطشة .
و « الربيع » ربيعان ربيع الشهور وربيع الأزمنة فربيع الشهور شهران بعد صفر ولا يقال إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وأما ربيع الأزمنة فربيعان الربيع الأول الذي يأتي فيه النور والكمأة والربيع الثاني تدرك فيه الثمار . وقيل السنة ستة أزمنة شهران منها الربيع الأول وشهران صيف وشهران قيظ وشهران الربيع الثاني وشهران خريف وشهران شتاء .
و « ترى » إن كانت رؤية بصرية فغرثى صوادي حالان من العيس .
وبين سوق وشوق متعلق بترى . و « لربيع الربوع » متعلق بغرثى صوادي .
إذ يقال فلان جائع لفلان وعطشان لفلان والمراد من ربيع الربوع النعيم الحاصل للعيس في ربوعها لأن الربيع قد يطلق ويراد به مراد القلوب . وفي البيت الجناس المصحف في سوق وشوق وفيه نوع طباق في غرثى وصوادي ولا يخفى المجانسة في ربيع وربوع .
 
( ن ) : قوله ما ترى أصله أما ترى فحذفت الهمزة تخفيفا وأما معناها العرض بمنزلة إلا والخطاب للحادي .
وقوله العيس هي إبل بيض في بياضها ظلمة خفية كناية عن نفوس السالكين التي ابيض طرف منها بلمحات الروحانية .
وقوله لربيع الربوع ، كناية عن مقامات العارفين ومنازلهم ومنازلاتهم وما يجدون فيها من الحقائق والعلوم . اهـ .
 
03 - لم تبقّي لها المهامه جسما *** غير جلد على عظام بوادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن هذه القصيدة يذكر فيها الشيخ منازل السير إلى مكة لكن الشيخ يذكر المنازل من جهة مصر ولذلك بدأ بذكر الحادي والمطايا وما يناسب ذلك .
قوله « لم تبقي » في تبقي إشباع كسرة القاف فتولد منها ياء وإلا فالجازم يحذف الياء ومثله قوله تبارك وتعالى : إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [ يوسف : الآية 90 ]
فإن من شرطية جازمة وقد أشبعت كسرة قاف يتقي فتولد منها ياء .
« والمهامه » جمع مهمه وهي المفازة البعيدة والبلد المقفر جمعه مهامه والمراد سير المهامه فإنه موجب لأن يذوب الجسم والمراد

« 117 »
 
أنه لم يبق من جسم العيس إلا جلد على عظام ظاهرة فإن « البوادي » جمع بادية أي ظاهرة والعظام إذا كانت ظاهرة كان الجسم في غاية الهزال لأنها لا تظهر إلا لفقد اللحم الذي من عادته أن يسترها .

( ن ) : قوله لها أي للعيس المذكورة . وقوله المهامه ، كناية عن منازل السائرين إلى اللّه تعالى فإنهم يجدون في طريق سيرهم أحوالا وتنكشف لهم أمور لا يشاركهم فيها أحد من الغافلين فهي مقفرة من الواجدين ولهذا ينكرها عليهم أهل الغرور بالدنيا . وقوله جسما مفعول تبقي لأنها تسقمه وتمرضه بتراكم البلاء وتزاحم المؤذيات . وقوله غير جلد على عظام ، كناية عن القوى النفسانية . وقوله بوادي جمع باد من باد يبيد هلك . اهـ .

 
04 - وتحّفت أخفافها فهي تمشي *** من جواها في مثل جمر الرّماد

[ الاعراب والمعنى ]

« الحفوة » مثلثة الحاء اسم والحفاء رقة القدم والخف . فالمعنى قد رقت أخفافها من كثرة السير . « والأخفاف » جمع خف والخف للجمل كالحافر للفرس . قوله « فهي » الضمير للعيس . و « الجوى » بالجيم له معان وهو هنا بمعنى شدة الوجد على الأقرب .
 
وقوله « في مثل جمر الرماد » يمكن شرح هذا على ثلاثة أوجه:
الأوّل أن يكون المراد تشبيه صورة وقع خفها على التراب أو الرمل بجمر بين أجزاء الرماد لأنها ترسم بخفها حمرة الدم الحاصل من حفو خفها ورقة قدمها فإن تتابع السير مع حفوة الخف موجب لإدماء خفها ولا يكون إلا بعضه فيكون حينئذ مرتسما في لون الرماد كجمر بين أجزاء الرماد .
الثاني أن يكون المراد تشبيه ذات أسفل الخف الذي يقع على الأرض فإنه يكون بعض أجزائه أحمر والبعض الآخر يبقى مغبرا كلون الرماد فالمراد تشبيه صورة ما يقع من الخف على الأرض بعد حفوة الخف ورقته وذلك موجب لأن يكون كجمر بين أجزاء رماد .
الثالث أن يكون المراد بيان الحرارة الموجودة في موطىء خف العيس لأن رقة القدم وحفوته مما يوجبان سرعة تأثير حرارة الأرض التي تطؤها العيس في أخفافها فهي تمشي من شدة وجدها مع حفوة قدمها في أرض كالجمر الذي يكون في الرماد ووجه تخصيصه حينئذ طول بقائه وعدم سرعة انطفائه فتأمل .

( ن ) : قوله وتحفت أخفافها ، كناية عن ترك النفوس التعلق بالأسباب الدنيوية .

وقوله فهي أي العيس المذكورة . وقوله تمشي من جواها يعني سيرها في الأمور الدنيوية والمصالح المعاشية من شدة تركها للأسباب وتباعدها عنها .
وقوله في مثل جمر الرماد لصعوبة الأمور عليها وتعذر حصولها من غير معاطاة أسبابها . اهـ .


« 118 »
 
05 - وبراها الونى فحلّ براها *** خلّها ترتوي ثماد الوهاد
 
[ الاعراب والمعنى ]
برى يبري نحت ينحت فالمراد ونحت هذه العيس وأزال غالب شحمها ولحمها كما إذا بريت القلم فإنك ترققه وتزيل ما عليه من الغلظ . و « الونى » بفتح الواو وبعدها نون التعب . و « حل » بالحاء المهملة خلاف عقد . و « البرى » بضم الباء وبعدها راء جمع برة على وزن ثبة حلقة في أنف البعير أو في لحمة أنفه .
« خلها » فعل أمر من التخلية أي اتركها واعلم أن الرواة يروون بعد خلها ، « ترتوي ثمام » بتاء مثناة من فوق وراء ساكنة وتاء مثناة أيضا وواو وياء من الري وهو إزالة العطش بشرب الماء وهو تحريف غير مستقيم وفيه غلطان : غلط من جهة اللفظ وغلط من جهة المعنى .
 
أما ما كان من جهة اللفظ فهو أن ترتوي لا يتعدى بنفسه إلى المفعول به بل بواسطة حرف الجر فيقال ارتوى من الماء وهي ترتوي من الماء ، وأما ما كان من جهة المعنى فلأن الثمام بضم الثاء المثلثة عبارة عن نبت معروف والنبت لا يرتوى به وإنما يرعى فالصواب أن الرواية ترتعي من الرعى وهي تناول الماشية النبت فيصير المعنى دعها تستريح قليلا برعيها هذا النبت فإن رعيها له مما يوجب نعيمها وراحتها .
و « الوهاد » بكسر الواو جمع وهدة . وهي الأماكن المنخضة وإنما خص ثمام الوهاد لأن الزرع الذي يكون في المكان المنخفض يكون يانعا نضيرا لطيفا هذا ما خطر لي بإلهام اللّه تبارك وتعالى . ثم أنني قد تفكرت وطلبت من اللّه تعالى أن يطلعني على حقيقة الحال
 
فظهر لي بعد ذلك أن تكون الرواية ترتوي كما نقل في كثير من النسخ ولا يكون ثمام الوهاد بل ثماد بكسر الثاء على وزن كتاب وآخرها دال مهملة وهو الماء القليل وكونه في الوهاد مما يرجح كونه ماء وحينئذ يبقى في اللفظ حسن آخر وهو الموازنة بين ثماد ووهاد
ولكن يبقى على هذا غلط اللفظ إذ لا يقال « ترتوي ثماد » بنصب ثماد على أن يكون مفعولا لترتوي ، لما ذكرناه من أن ترتوي لا يتعدى بنفسه والجواب أنه منصوب بنزع الخافض أي من ثماد الوهاد أو أن ترتوي يتضمن معنى تشرب فيتعدى بنفسه على التضمين .
 
فتأمل فإن هذا الكلام على هذا البيت من نتائج الأفكار بل كل ما نقلته في هذا الشرح من بيان أو إعراب أو لغة أو بديع إنما هو من نتيجة فكري لكوني شرحته بكرا لم أسبق إلى بيانه ولم يتقدمني أحد إلى تبيانه ولم يكن سوى التوفيق باعثا عليه وسائقا إليه . وفي البيت الجناس المحرّف بين براها وبراها ، وانظر إلى حل وخل فإن بينهما تحريفا وتصحيفا .
 
( ن ) : قوله وحل براها حل البرا كناية عن رفع القيود الطبيعية والشهوات النفسانية . وقوله خلها الخطاب للحادي السابق ذكره والضمير للعيس المذكورة يعني يا

« 119 »
 
أيها الحادي أترك عيس النفوس تشرب وتزيل عطشها من ماء المطر الذي هو ماء الإلهام الرباني الذي يقع على الأرض الجسمانية المنخفضة والهوة الترابية الطبيعية .
وفي نسخة أخرى خلها ترتعي ثمام الوهاد فيكون المعنى أتركها يا أيها الحادي تستعمل ما تجده من كثائف المعاني وزخارف العرض الفاني . اهـ .
 
06 - شفّها الوجد إن عدمت رواها *** فاسقها الوخد من جفار المهاد
07 - واستبقها واستبقها فهي ممّا *** تترامى به إلى خير وادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« شفها الوجد » أي هزلها . و « رواها » يجوز في الراء الكسر والفتح قال في القاموس وماء روى ورواء كإلى وسماء كثير مرو .
واعلم أن المشهور في الرواية أن يكون الوجد الأوّل بالجيم والدال على أن المراد وجد المحبة وحزنها .
والثاني « الوخد » بالخاء المعجمة على أن المراد به السير بالإسراع للبعير وأن يرمي قوائمه كمشي النعام . و « جفار » بالجيم والفاء والراء على وزن كتاب جمع جفرة وهي عبارة عن سعة في الأرض مستديرة .
و « المهاد » بكسر الميم أرض موطأة ممهدة شبيهة بالبساط الذي استوى سطحه فالمراد وصف هذه الإبل بأنها قد هزلها الحب وتذكر ما تروم زيارته فإن عدمت ما ترويها به فاسقها الوخد أي السير المعلوم من الأرض الواسعة المستديرة أي اجعل السير لها مكان الماء يرويها المهاد .
وقد يروى الأول « وخد » بالخاء المعجمة والثاني وجد بالجيم وهو صحيح إذا قطعت النظر عن قوله « من جفار المهاد » فإنه يوجب الأسلوب الأول .
ولا يخفى ما في البيت من الوخد والوجد ومن شفها واسقها . قوله « واستبقها » أي سابقها لتنظر رتبتها في السبق .
قوله « واستبقها » أي لا تفرط فيها بأن تجور عليها في المسابقة فربما يخشى عليها التلاف من ذلك .
وقوله استبقها من البقاء أي أطلب بقاءها بالترفيه والملاطفة في المسابقة .
 
قوله « فهي مما تترامى به إلى خير وادي » يريد تعليل قوله واستبقها كأنه يقول ما طلبت منك استبقاء هذه العيس إلا لكونها إلى خير وادي والمراد من « خير وادي » هنا مكة المعظمة شرفها اللّه تعالى أي فهي من السير التي تتسابق فيه سائرة إلى خير وادي فحقها أن تستبقى يقال ترامت الإبل بفلان إذا كانت تتسابق في رميه وترامت في السير إذا تسابقت فيه . ولا يخفى الجناس في قوله واستبقها واستبقها . وقد شرع في مخاطبة الحادي فقال :
 
( ن ) : قوله إن عدمت رواها ، يعني إن عدمت ما ترويها به من الماء بمعنى العلم الإلهي لعدم استعدادها لقبوله . فاسقها الوخد وهو كناية عن المجاهدة في الحق


« 120 »
 
والمكابدة في العبادة مع الإخلاص والتقوى . وقوله من جفار المهاد ، كناية عن الطبيعة ومقتضياتها من الأخلاق البشرية .
وقوله واستبقها بكسر الباء وسكون القاف أمر للحادي يعني اسبق بها إلى مواطن الخير ومواسم العبادات والطاعات .
وقوله واستبقها بفتح التاء وسكون الباء يعني أنك ترفق والطف في مسابقتك بها إلى الخيرات .
قال تعالى : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [ البقرة : الآية 185 ] ،
وقال تعالى : وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ الحجّ : الآية 78 ] ،
وقوله فهي مما ، أي فهذه العيس من العيس التي تترامى أي ترمي بنفسها في السير المفهوم من الكلام أو الضمير للاستبقاء . في قوله استبقها . وقوله إلى خير وادي هو مكة المشرفة حضرة الأسماء الإلهية والصفات الربانية المشتملة على كعبة الذات الصمدانية لأنها المقصود بالحج الروحاني في السير الإنساني . اهـ .
 
08 - عمرك اللّه إن مررت بوادي ***  ينبع فالدّهنا فبدر غادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « عمرك » بفتح العين والراء منصوبة وهو بمعنى التعمير ولفظ الجلالة منصوب أيضا وهما مفعولان لفعل محذوف والتقدير سألت اللّه تعميرك .
و « ينبع » على وزن ينصر حصن له عيون ونخيل وزرع بطريق حاج مصر . والشيخ كان يحج من مصر .
و « الدهناء » الفلاة واسم موضع لتميم وبنجد ويقصر واسم دار الإمارة بالبصرة وموضع إمام ينبع جهة الحجاز والمراد هنا الأخير .
و « بدر » هنا موضع معروف ويذكر أو اسم بئر حفرها بدر بن قريش .
و « غادي » أي ذاهب في وقت الغداة أي لا في وقت المساء وهو منصوب على أنه حال من التاء في مررت أي إن مررت أيها الحادي بهذه المواضع ذاهبا وقت الغداة والوقف على الحال لغة ربيعة مع موافقة حرف الروي فافهم .
 
( ن ) : الخطاب للحادي بالمعنى السابق المكنى به عن النور المحمدي والسر الأحمدي والروح الرباني والنفس الرحماني ، وقوله إن مررت بالتنزل فيما هو متنزل به وسماه مرورا لعدم بقائه نفسين لأنه كلمح بالبصر كما يعرفه العارفون .
وقوله بوادي ينبع ، كناية هنا عن حضرة الأمر الإلهي الذي قال به كل شيء وهو المستولي على هذا الحادي المشار إليه في كلامنا وهو الغالب عليه وهو واد من حيث نزوله بالاستيلاء والأضواء والمرور به فيه كلمح بالبصر .
وقوله فالدهنا ، كناية عن النفس الكلية المسماة في لسان الشرع باللوح المحفوظ ومرور الحادي بها استيلاؤه عليها لأنها نفسه المنتقش فيها كل ما ينزل به الأمر عليها من حضرة العلم بالكلام القديم .
وقوله فبدر ، كنى بذلك عن الطبيعة الكلية قبل أن تصير أربعة حرارة وبرودة ورطوبة

« 121 »
 
ويبوسة فإن ابتداء الإيهام في الجمود منها وهي نظير البدر القابل لظهور نور الشمس فيه فكل ما هو منتقش في النفس الكلية ظاهر في هذه الطبيعة بوجه الإجمال . اهـ .
 
09 - وسلكت النّقا فأودان ودّان *** إلى رابغ الرّوي الثّماد
 
[ الاعراب ]
و « سلكت » معطوف على « مررت » داخل في حيز الشرط . و « النقا » من الرمل القطعة تنقاد محدودبة . والمراد هنا نقا خاص معروف في طريق مكة شرّفها اللّه تعالى .
و « الفاء » عاطفة . و « أودان » بالهمزة والواو الساكنة يليها دال مهملة والفتحة فيها على النون التي هي آخر الكلمة فتحة إعراب لعطفها على النقا وهو مضاف إلى ما بعدها ، والتي بعدها « ودّان » بفتح الواو وتشديد الدال المهملة وعلى النون التي هي آخر الكلمة فتحة منع الصرف لأن ودان علم على بلدة قرب الأبواء سكنها الصعب بن جثامة الودّاني . و « رابغ » بغين معجمة واد بين الحرمين قرب البحر فإن لاحظته علما لبقعة كان مفتوحا ممنوعا من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي وإلا كان مصروفا حذف تنوينه منه للوزن ويكون مجرورا .
و « الروي » بالجرّ صفته . والثماد مضاف إليه . ويكون الروي صفة مشبهة أضيف إلى فاعلها على حد مررت بزيد الحسن الوجه أي الذي يروي ثماده العطشان . و « الثماد » بكسر الثاء المثلثة من فوق جمع ثمد بسكون الميم أو هو مفرد على وزن كتاب الماء القليل .

 
والمعنى :
إن سلكت أيها الحادي النقا وعقبته بالسلوك إلى أودان ودان منتهيا في ذلك السير إلى رابغ الذي يروي العطشان ماؤه القليل لشوقهم إليه . وجواب الشرط يأتي في قوله فأبلغ سلامي البيت ونصف البيت الأول ينتهي إلى الألف في ودان ، وأول النصف الثاني النون فيه والقصيدة من بحر الخفيف وفي الإتيان بالفاء العاطفة إشارة إلى قرب ما بين النقا وودان .

( ن ) : قوله وسلكت النقا ، يكني بالنقا عن العرش المحيط في لسان الشرع والمستوى الرحماني من قوله تعالى : الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ( 5 ) [ طه : الآية 5 ]

فإذا وصل إليه الحادي المذكور بالمعنى المراد لم يرد عليه في التجلي الرحماني بجميع الأسماء الحسنى ،
كما قال تعالى : قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [ الإسراء : الآية 110 ]
وسماه نقا من حيث بياضه ونورانيته وعدم لصوق أجزائه التي في ضمنه بعضها ببعض كالرمل المتباين الأجزاء ولنقاوته أي نظافته من الأغيار .
وقوله فأودان جمع ودن بفتح الواو وسكون الدال المهملة . قال في الصحاح ودنت الشيء ودنا ودانا بللته فهو مودون وودين أي منقوع والودن أيضا حسن


« 122 »
 
القيام على العروس يقال أخذوا في ودانه والمعنى منقوعات الأراضي بالبلل بماء الأمطار أو أنواع القيام في حسن الزخرفة والتهيئة للقبول وقد أضاف ذلك إلى قوله ودان قرية قرب الأبواء ومنزل بين مكة والمدينة وكنى بأودان ودّان عن حضرة الكرسي الذي وسع السماوات والأرض وتدلت منه القدمان بالخير والشر .
وقوله إلى رابغ الروي الثماد ، بمعنى الروي الثماد الذي ماؤه القليل يروي العطاش يكني بذلك عن فلك زحل الكوكب المشهور بكيوان وهو نجم من الخنس لا ينصرف وهو إشارة إلى أعلى مقامات الفناء عن الوجود في مقامات السالك عند طلوع شمس الأحدية الوجودية وهو فناء النفس الإنسانية عن حولها وقوتها . اهـ .
 
10 - وقطعت الحرار عمدا الخيمات *** قديد مواطن الأمجاد
11 - وتدانيت من خليص فعسفان *** فمرّ الظّهران ملقى البوادي
12 - ووردت الجموم فالقصر *** فالدّك ناء طرّا مناهل الورّاد
13 - وأتيت التّنعيم فالزّاهر الزّاهر *** نورا إلى ذرا الأطواد
14 - وعبرت الحجون واجتزت *** فاخترت ازديارا مشاهد الأوتاد
15 - وبلغت الخيام فابلغ سلامي *** عن حفاظ عريب ذاك النّادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « وقطعت » أي تجاوزت . « الحرار » جمع حرّة وهي أرض ذات حجارة نخرة سود ووقعة الحرّة أيام يزيد والمراد منها الحرّة التي هي بظاهر المدينة تحت وأقم .
 
قوله « عمدا » المتبادر منه أنه قيد لقطعت أي قطعتها بالعمد وهذا حشو لا فائدة فيه فالصواب أن يكون المراد عامد الخيمات قديد فيكون المعنى وقطعت الحرار قاصد الخيمات قديد ويكون الفائدة فيه الاحتراز عن أن يقطع الحرار قاصد الغير خيمات قديد .
و « قديد » على صيغة التصغير علم أضيفت الخيمات إليه ومواطن الأمجاد بالجر بدل من خيمات . و « المواطن » جمع موطن وهو اسم مكان الإقامة لأنه من الوطن .
 
و « الأمجاد » هنا الأولياء فكأنّ هذا المكان معروف بوجود الأولياء فيه . قوله « وتدانيت » أي قربت . « من خليص » وهو مكان معروف .
و « عسفان » بالضم موضع أيضا وعطفه على خليص بالفاء للدلالة على تقاربهما وهو بضم العين .
و « مر الظهران » موضع أيضا وعطفه بالفاء لما ذكرناه . قوله « ملقى البوادي » صفة لمرّ الظهران . والمراد في « ملقى » اسم مكان من لقي يلقى على وزن رضي يرضى أي مكان تلتقي فيه أهل البوادي لأن البوادي محيطة من جميع الجوانب فإذا جاء سكان البوادي إلى جانب مكة شرفها اللّه تعالى التقوا هناك ومنه يدخلون إلى ما يقارب مكة .
قوله « ووردت الجموم » عطفا على

« 123 »
 
الشرط داخلا في حيزه أي وإن وردت الجموم . والمراد من « الجموم » جمع جم وهو الكثير من الماء . و « القصر » موضع أيضا . و « الدكناء » موضع أيضا . و « طرا » حال من الأماكن المذكورة أي وإن وردت أيها الحادي الجموم ووردت القصر ووردت الدكناء .
والكاف في الدكناء نهاية المصراع الأول والدكناء في البيت ممدودة . قوله « مناهل الورّاد » بنصب مناهل على أنها صفة الأماكن المذكورة في البيت .
و « المناهل » جمع منهل وهو موضع الشرب . و « الوراد » بضم الواو وتشديد الراء بعدها بمعنى الواردين أي هذه الأماكن مواضع شرب الواردين عليها .
قوله « وأتيت التنعيم » ، « التنعيم » موضع على ثلاثة أميال أو أربعة من مكة أقرب أطراف الحل إلى البيت سمي بالتنعيم لأن على يمينه جبل نعيم وعلى يساره جبل ناعم والوادي اسمه نعمان .
قوله « فالزاهر » عطف على التنعيم . والزاهر الثاني صفة الأوّل إذ الأول اسم لموضع والثاني المراد منه الذي أزهر بالنور أي وأتيت الموضع الذي أزهر نوره . لأن « نورا » منصوب على التمييز . وقوله « إلى ذرا الأطواد » متعلق بمحذوف أي بالغا إلى ذرا الأطواد .
 
و « الأطواد » الجبال . و « الذرا » بضم الذال المعجمة جمع ذروة وهي أعلى الشيء .
وقوله « وعبرت الحجون » في القاموس ، « الحجون » جبل بمعلاة مكة وموضع آخر .
قوله « واجتزت » بالجيم والتاء والزاي من الاجتياز وهو المرور على الشيء .
وقوله « فاخترت » بالخاء من الاختيار . وقوله « مشاهد » بالنصب منصوب على أنه مفعول اخترت . وهو مضاف إلى الأوتاد .
و « الأوتاد » هنا عبارة عن الأولياء الصالحين الذين هم سبب لبقاء نظام العالم في الباطن بتقدير اللّه تعالى وجل وعلا وهذا إطلاق اصطلاحي وإلا فالأوتاد في اللغة ما ذكره صاحب القاموس . وأوتاد الأرض جبالها ومن البلاد رؤساؤها .
وقوله « ازديارا » منصوب على أنه مفعول لأجله أي واخترت زيارة مشاهد الأوتاد لأجل طلب ما عندها من الصلاح الذي ينور القلوب والأبصار .
 
قوله « وبلغت الخيام » معطوف على مررت . في قوله « عمرك اللّه إن مررت » فيكون داخلا في حيز الشرط . وأراد بالخيام مكانا أراده في الحجاز بل ربما أراد به أهل مكة لأنهم غاية سعيه ونهاية مطلبه .
قوله « فابلغ سلامي » وصل الشيخ الهمزة في قوله فابلغ سلامي لأجل الوزن والقياس قطعها على نحو أكرم لأن بلغ لا يتعدى في مثل هذا فلا يقال بلغ زيد سلام عمرو وإنما يقال أبلغه السلام .
و « الحفاظ » بكسر الحاء هنا بمعنى المواظبة أي أبلغ سلامي إبلاغا ناشئا عن مواظبة لا عن ندرة وقلة .
و « عريب » تصغير عرب وهو منصوب على أنه مفعول ثان لأبلغ لأن أبلغ يتعدى إلى مفعولين يقال أبلغ القوم ودادي وكلامي . و « النادي » والندوة والمنتدى مجلس القوم نهارا أو المجلس ما


« 124 »
داموا مجتمعين فيه . قوله فأبلغ سلامي جواب الشرط . و « الفاء » رابطة للجواب أي اسأل اللّه تبارك وتعالى أن يعمرك أيها الحادي إن مررت بوادي ينبع وإن قطعت الحرار وإن تدانيت من خليص إلى آخر المعطوفات فأبلغ سلامي والتصغير في عريب إما للتحبيب أو للتقريب أو للتعظيم .
 
( ن ) : قوله الحرار هنا اسم مكان قرب المدينة المنورة كنى بها عن فلك المشتري وهو نجم من الخنس إشارة إلى مقام من مقامات الفناء في حق السالك وهو فناء الأفعال والأقوال .
وقوله عمدا أي حال كونك متعمدا أي قاصدا قصدا .
وقوله الخيمات قديد على صيغة التصغير وهو منزل من منازل الحاج يكني به عن فلك المريخ وهو الأحمر قال في الصحاح المريخ من الخنس في السماء الخامسة إشارة إلى مقام من مقامات الفناء في شمس الأحدية الوجودية وهو فناء الأسماء والصفات .
 
وقوله مواطن الأمجاد جمع ماجد وهم الأولياء المقربون الفانون عن أسمائهم وصفاتهم وعن أفعالهم وأقوالهم وعن حولهم وقوتهم .
وقوله وتدانيت من خليص بالتصغير منزل معروف بين الحرمين كناية عن فلك الشمس وهو الفلك الرابع في السماء الرابعة قلب الأفلاك والسماوات منبع النور والإمداد في أهل القبول بالاستعداد .
 
وقوله فعسفان كعثمان منزل من منازل الحاج بين الحرمين يشير بذلك إلى فلك عطارد وهو نجم من الخنس في السماء الخامسة وفيه الحجاب عن نور شمس الأحدية الوجودية بالعكس من الخنس الثلاث العلويات زحل والمشتري والمريخ وفيه بقاء الحول للّه والقوة . وقوله فمر الظهران ، الفاء للعطف .
 
ومر كفلس اسم موضع بقرب مكة من جهة الشام والظهر الطريق في البر .
والظهران بلفظ التثنية اسم واد بقرب مكة ونسب إليه قرية هناك فقيل مر الظهران ، والإشارة بذلك إلى فلك الزهرة وفيه حجاب النفس عن شمس الأحدية الوجودية .
وقوله ملقى البوادي إشارة إلى أن النفس يلتقي فيها كل باد من أصل العدم من الأشياء فتجتمع فيها المعاني المختلفة .
 
قوله ووردت الجموم ، بفتح الجيم وهي البئر الكثيرة الماء كنى بذلك عن فلك القمر والإشارة بالجموم إلى النفس الحيوانية المنفردة بدعوى الاستقلال في الأعمال والأقوال والأحوال .
وقوله فالقصر وهو اسم موضع يشير به إلى عالم العناصر الكلية قبل أن تتميز إلى أربعة وهو ابتداء انتشاء الأجسام وتركيبها وابتداء ظهور أنواع الإعراض .
 
وقوله فالدكناء من الدكنة وهو لون بين الحمرة والسواد وهو اسم موضع أيضا كناية عن أول تميز العناصر وتعينها في عنصر النار الكلية السارية في جملة العالم السفلي .
وقوله طرّا ، أي جميعا تأكيد للمواضع الثلاثة المذكورة قبيله أو حال منها من

« 125 »
 
طررته طرّا شققته فكان السائر يقطع الأرض قطعا ويشقها شقّا . وقوله مناهل صفة للمواضع الثلاث جمع منهل . وقوله الوارد بالإضافة جمع وارد إشارة إلى منازل الأولياء العارفين الكاملين .
وقوله وأتيت التنعيم ، التنعيم اسم موضع قريب من مكة أقرب أطراف الحل إلى البيت وهو كناية هنا عن عنصر الهواء لأن فيه حياة الحيوان وتنعيم القلوب بالأنفاس وفيه تتشكل الحروف الحاملة لآيات معاني القرآن . وقوله فالزاهر وهو مستقى بين مكة والتنعيم .
وقوله الزاهر بالنصب وصف له من زهر أي تلألأ يكنى بالزاهر عن عنصر الماء وهو ماء الحياة للأجسام إلى أجل معلوم وبه الأجسام تقبل التشكل بالأشكال المختلفة وتنحل بسرعة وتتولد المواليد الجسمانية .
 
وقوله إلى ذرا الأطواد ، يعني مرتقيا إلى ذرا أطواد المعاني العالية والإشارات السامية من الحضرات المائية والأسرار الآدمية . وقوله وعبرت الحجون وهو جبل بمعلاة مكة ، كنى بذلك عن عنصر التراب وهو الأرض منها خلق الإنسان ومنها يعود وكذلك الجماد والنبات والحيوان قال تعالى : مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى ( 55 ) [ طه : الآية 55 ]
 
وهي أسفل سافلين ، وقوله ازديارا تمييز من زاره زيارة قصده شوقا إليه . وقوله مشاهد جمع مشهد وهو محضر الناس وهو مفعول اخترت أو مفعول ازديارا ثم أضاف المشاهد للأوتاد وهم الأولياء المحققون جمع وتد بالتحريك أصله ما رزّ في الأرض والحائط من خشب ، وأوتاد الأرض جبالها ومن البلاد رؤساؤها ، يعني أن ذلك موضع شهودهم وحضورهم في الحضرات الإلهية . وقوله وبلغت الخيام جمع خيمة كناية عن عالم العقل الساري في صور الأشياء والخيال الإنساني وغيره فإنه بمنزلة الخيام على ما ستر من الحقائق والأسرار .
وقوله وأبلغ سلامي ، أي تحيتي وأماني لهم من ترك ما وجب لهم علي وهو إيماني بهم ، أي تصديقي لهم في كل ما بلغني عنهم وتسليمهم من تكذيبي .
وقوله غريب ذاك النادي ، أي المجمع من ندا القوم ندوّا اجتمعوا والمعنى هنا أهل الجمع والتوحيد من التجليات الإلهية الكاملة والهياكل الربانية الفاضلة . اهـ .
 
16 - وتلطّف واذكر لهم بعض ما *** بي من غرام ما إن له من نفاد
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « وتلطف » فعل أمر أي افعل اللطف عندما تدخل على الأحباب لأن اللطف يكون سببا لقبول ما تلقى من ذكر بعض ما ألقاه لأن ذكر الكل غير سهل . وبين ما في قوله « ما بي » بقوله « من غرام » فكأنه قال بعض غرامي . ووصف الغرام بقوله « ما إن له من نفاد » .
و « ما » نافية . و « إن » زائدة مؤكدة للنفي المفهوم من ما . و « من » زائدة للتنصيص على العموم الواقع في النكرة وهو نفاد لكونها في سياق النفي . و « النفاد »

« 126 »
 
بالدال المهملة يقال نفد ينفد نفادا ووزن الفعل علم يعلم أي لم يبق منه شيء أي اذكر لهم بعض غرامي الذي لا نفاد له ولا زوال بل هو باق بدوام الأيام والليال .
 
( ن ) : قوله لهم ، أي لعريب ذاك النادي . وقوله ما إن له من نفاد فإن الحب الإلهي لا ينفد ولا ينقطع لأن متعلقه قديم لا يتغير لأنه ظهور الحب الإلهي القديم ، قال تعالى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ المائدة : الآية 54 ] فإن يحبونه هو عين ظهور يحبهم . اهـ .
 
17 - يا أخلّاي هل يعود التّداني *** منكم بالحمى بعود رقادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الأخلاء » أصله أخللاء نقلت حركة اللام الأولى وهي الكسرة إلى الخاء قبلها وأدغمت اللام في اللام وهو جمع خليل وأضافه إلى ياء المتكلم أي أصحابي الذين كل منهم خليل صافي وصديق موافي . « هل يعود التداني » أي هل يرجع الاقتراب منكم في الحمى بعود بالباء الموحدة .
فقوله « بعود » متعلق بقوله « يعود » ، أي هل يعود قربكم مصاحبا لعود رقادي وذلك أن « رقادي » ما نفر من عيوني إلا بسبب بعدكم عن الحمى فهل يعود قربكم بعود رقادي .
و « الباء » في قوله « بعود » للمصاحبة أي يعود قربكم للحمى مصاحب العود رقادي إليّ .
 
( ن ) : قوله يا أخلاي جمع خليل والخليل الصديق والفقير المحتاج وقد نسب الأخلاء إليه لأنهم أصدقاؤه في سلوك طريق اللّه تعالى أو في ظهور تجلياته تعالى بهم عليه أو لأنهم شاركوه في التحقق بالفقر الحقيقي إلى ربهم من قوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ [ فاطر : الآية 15 ] .
وقوله هل يعود التداني منكم فالتداني منهم كناية عن رجوع الكثرة إلى الوحدة بفناء ما به المغايرة .
وقوله بالحمى ، كناية عن الحضرة الإلهية . وأشار إلى أن ذلك عود ورجوع إلى ما كان عليه الأمر من قبل الظهور الكوني في ذلك البطون العيني .
وقوله بعود رقادي ، كناية عن رجوعه إلى بدايته بعد نهايته كما قالوا النهاية رجوع إلى البداية وهو الكمال الحقيقي أي أن يعود إلى رقاده بعد يقظته الحقيقية وطول سهاده . اهـ .
 
18 - ما أمرّ الفراق يا جيرة الحيّ *** وأحلى التّلاق بعد انفراد
 
[ الاعراب والمعنى ]
« ما » تعجبية . و « أمرّ » فعل ماض وفاعله مستتر وجوبا يعود إلى ما . و « الفراق » مفعوله . والجملة في محل رفع على أنها خبر ما التعجبية .
و « أحلى » عطف على أمرّ فهو أيضا فعل تعجب . و « التلاق » بكسر القاف وكان الواجب التلاقي بفتح الياء لأنه منصوب لكن حذفت الياء للوزن فلزم بقاء القاف مكسورة للدلالة على الياء المحذوفة

« 127 »
 
وآخر المصراع الأول الياء الأولى الساكنة في الحي . والثانية المكسورة أول المصراع الثاني . وقوله « بعد انفراد » متعلق بالتلاقي أي يعجب من مرارة الفراق ومن حلاوة التلاقي والاجتماع بعد الانفراد والوداع . وفي البيت المقابلة بين أمرّ وأحلى وبين الفراق والتلاق . وقوله « يا جيرة الحي » معترضة بين المتعاطفين .
 
( ن ) : قوله يا جيرة الحي هم أمثاله النازلون في منزله من أولياء اللّه العارفين المحققين في مقام الجمع . وقوله وأحلى التلاق بعد انفراد كنى بالتلاقي عن الدخول في الجمع بعد الفرق فإن الفرق انفراد بنفسه . اهـ .


19 - كيف يلتذّ بالحياة معنّى *** بين أحشائه كوري الزّناد
 
[ الاعراب والمعنى ]
« كيف يلتذ » استفهام لإبطال ما بعده وإنكاره وهو التذاذ المعنى بالحياة والحال أن « بين أحشائه كوري الزناد » . و « الوري » بفتح الواو وسكون الراء وبعدها الياء هو خروج النار من حجر القدح . و « الزناد » جمع زند بفتح الزاي في المفرد وكسرها في الجمع وزند اليد بفتح الزاي أيضا لكنه جمعه زنود وزند النار جمعه زناد ، فالفرق بالجمع وإذا قدح بالزند فأظهر النار يقال أورى وإذا لم يظهرها يقال صلد الزند .
والمعنى : على وزن المفعول التعبان الذي قدحت نار المحبة في قلبه فكيف تكون الحياة له لذيذة واللذة إدراك الملائم .
 
( ن ) : قوله كيف يلتذ بالحياة معنى فالحياة لمن سوى اللّه تعالى مجرد توهم فإن الحي على الحقيقة ما كانت حياته بذاته فحياة الأجسام بالأرواح وحياة الأرواح بأمور اللّه تعالى فالعوالم كلهم موتى عن أنفسهم وهم أحياء بحياة ربهم عز وجل فكيف يتصور أن يلتذ بالحياة الوهمية التي هي مجرد دعوى نفسانية والمعنى العاشق . وقوله الزناد كناية عن نار المحبة والشوق . اهـ .
 
20 - عمره واصطباره في انتقاص *** وجواه ووجده في ازدياد
 
[ الاعراب ]
جملة « عمره واصطباره في انتقاص » وكذا ما بعدها في محل رفع على الوصفية لقوله « معنى » وكذا جملة « بين أحشائه كوري الزناد » وفي البيت المقابلة بين الوجد والصبر وبين الازدياد والانتقاص .
 
21 - في قرى مصر جسمه والأصيحاب ***  شآما والقلب في أجياد
 
[ الاعراب والمعنى ]
آخر المصراع الأول الألف في الأصيحاب والياء أول المصراع الثاني والجملة في محل رفع أيضا على أنها صفة معنى . « والقرى » جمع قرية وهي المصر الجامع من
يتبع 

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح خفّف السّير واتّئد يا حادي الأبيات من 01 إلى 37 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:33 pm

شرح خفّف السّير واتّئد يا حادي الأبيات من 01 إلى 37 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة خفّف السّير واتّئد يا حادي الأبيات من 01 إلى 37
« 128 »
 
قريت الماء أي جمعته غير أن العرف الآن خصها بالضيعة القليلة السكان . فقوله « جسمه » مبتدأ وخبره في قرى مصر . و « الأصيحاب » مبتدأ وخبره « شآما » بتقدير أنه مكان لأن المراد به أرض الشام أي في الشام . و « القلب » مبتدأ . و « في أجياد » خبره .
و « أجياد » موضع بمكة فالمعنى الذي قلبه بمكة وجسمه في مصر وأصحابه في الشام كيف يلتذ بالحياة أي لا يلتذ بها مع تفرّق باله وتجمع بلباله .
 
( ن ) : قوله والأصيحاب هم أمثاله من الأولياء الكاملين من شيوخه وغيرهم وأراد بما ذكره أنه متفرق الحال غير منتظم الأمور وهي حال سلوكه في طريق اللّه تعالى في ابتداء أمره . اهـ .
 
22 - إن تعد وقفة فويق الصّخيرات *** رواحا سعدت بعد بعادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
آخر المصراع الأول الألف في « الصخيرات » والتاء أول المصراع الثاني .
و « فويق » تصغير فوق وهو هنا للتحبيب والمراد هنا الصخرات التي كان صلى اللّه عليه وسلم يقف عندها في عرفات .
و « رواحا » منصوب على الظرفية الزمانية . والمراد منه وقت المساء . وقوله « سعدت » جواب « إن » الشرطية فإن قلت مقتضى تناسب أعطاف الكلام أن يقول سعدت بعد شقائي قلت هو كناية عن الشقاء فإنه يلزم من البعاد عن المطلوب شقاء القلوب فكأنه قال سعدت بعد الشقاء الحاصل من بعادي عن المحبوب واحتجابي عن مراد القلوب ولا شك أن التباعد عن اللقاء من موجبات الشقاء وهذا من محاسن الكلام وانتظام أطراف النظام . وفي قوله « تعد » إشارة إلى أنه سبق له الوقوف في ذلك المكان وأنه رمى بعد الاقتراب بسهم البعاد والحرمان .
وفي البيت المقابلة بين السعادة والشقاء على ما حققناه . واقتراب اللفظ في تعد وبعاد كما شرحناه .
 
( ن ) : قوله إن تعد وقفة هي وقوف عرفات بمعنى الوصول إلى تمام المعرفة الإلهية في حج التوجه إلى بيت الرب تعالى وهي حضرة صفاته وأسمائه الرحمانية وكونها تعود إشارة إلى أنها كانت في حضرة العلم الإلهي والكلام الرباني القديم فالمراد رجوع الأمر إلى ما كان عليه .
 
وقوله صخيرات إشارة خواطر القلب المتصلب في معرفة اللّه تعالى على اليقين القاطع كما قال تعالى : وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ [ البقرة : الآية 74 ]
 
وهي قلوب أرباب اليقين من أهل التمكين وأن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وهي قلوب أرباب التوسط في طريق الوصول إلى حضرات القرب الإلهي وذلك لأهل التلوين وأن منها لما يهبط من خشية اللّه وهي قلوب أهل

« 129 »
 
الفناء في اللّه والانمحاق من السالكين . وقوله رواحا أي مساء وقت الوقوف بعرفات وهو وقت تحوّل الظل من المغرب إلى المشرق بإقباله على مطلع الشمس وامتداده في جهة المشرق فإذا مالت شمس الوجود الأحدي إلى جهة المغرب الروحاني امتد الظل الجسماني إلى جهة المطلع الرباني من البرج الروحاني . اهـ .
 
23 - يا رعى اللّه يومنا بالمصلّى *** حيث ندعى إلى سبيل الرّشاد
 
[ الاعراب والمعنى ]
« يا » هنا للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف أي يا قومنا على حد قوله تعالى :
يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا [ مريم : الآية 23 ] و « رعى » حفظ وحمى . « يومنا » مفعوله وأضاف اليوم إلى ضميرنا لما فيه من الاختصاص بصدور دعوتهم فيه إلى سبيل الرشاد .
و « المصلى » مكان بمكة . و « الباء » بمعنى في . و « حيث » ظرف مكان متعلق بما دل عليه يومنا .
أي رعى اللّه وحفظ اليوم الذي تواصلنا فيه في المكان الذي دعينا فيه إلى سبيل الرشاد . ويجوز أن تستعار حيث هنا للزمان فتكون بدلا من يومنا . و « ندعى » مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مقدر بنحن . و « إلى سبيل الرشاد » طريق الخير والهدى وذلك كله بمكة المعظمة .
 
( ن ) : قوله بالمصلى كناية عن مقام عبادة اللّه تعالى الذي فيه العبد قائم بنفسه ونفسه قائمة بربه عنده فنفسه حجابه عن ربه تعالى . وقوله ندعى مبني للمفعول والفاعل المحذوف كناية عن نبينا صلى اللّه عليه وسلم . اهـ .
 
24 - وقباب الرّكاب بين العلمين *** سراعا للمأزمين غوادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الواو » للحال . و « قباب » مبتدأ ، و « الركاب » مضاف إليه . وأراد بقباب الركاب هوادج الحجيج المرتفعة فوق الجمال مستديرة في الغالب والخبر غوادي . ويجوز أن يكون « بين العلمين » خبر المبتدأ . و « غوادي » خبر بعد خبر . و « سراعا » حال من ضمير غوادي . و « للمأزمين » متعلق بسراع أي ندعى إلى سبيل الرشاد والحال أن هوادج الأظعان غادية صباحا بين العلمين سرعة للمأزمين . و « المأزمين » مثنى مأزم بفتح الميم وسكون الهمزة وكسر الزاي وهو المضيق في الجبال . وهذا وصف ليوم الصعود من مكة إلى الجبل . والعلمان عبارة عن مكان معروف .
 
( ن ) : أشار بالقباب إلى هوادج الحجيج وكنى به عن صور الأولياء الكاملين المحمولين بمعنى قوله تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [ الإسراء : الآية 70 ]
 
وقوله الركاب كناية عن الأرواح الآمرية الحاملة للصور الجسمانية وقوله بين العلمين كناية عن علمي الشريعة والحقيقة . وقوله للمأزمين كناية عن الأمر والنهي 

« 130 »
 
الواردين في الشريعة . وقوله غوادي كناية عن السير بين النور الوجودي الرباني والظلمة العدمية النفسانية . اهـ .
 
25 - وسقى جمعنا بجمع ملثّا *** ولويلات الخيف صوب عهاد
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الجمع » الأول الاجتماع خلاف الانفراد . والجمع الثاني عبارة عن مزدلفة أي وسقى صوب العهاد جمعنا واجتماعنا بالمزادة . « ملثّا » حال مقدم من « صوب العهاد » الذي هو الفاعل وكان في الأصل تبعا له فلما قدم عليه أعرب حالا . و « لويلات » تصغير ليلات جمع ليلة وهو منصوب بالعطف على « جمعنا » معربا كهندات .
 
و « الخيف » ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل ومسجد الخيف معروف وسمي بذلك لكونه في سفح الجبل وفي صفة خليفة رسول اللّه أبي بكر الصديق أخيف بني تيم . والخيف في الرجل أن تكون إحدى عينيه زرقاء والأخرى سوداء .
 
و « الملث » بضم الميم وكسر اللام وتشديد الثاء المثلثة المطر الذي يختلط بالتراب والصوب المطر الصائب أي النازل من باب إطلاق المصدر على اسم الفاعل .
 
و « العهاد » بكسر العين جمع عهد وهو المطر فيكون العهد مشتركا بين المعاهدة والمطر . وفي البيت الجناس التام بين جمع وجمع والتصغير للتحبيب والتقصير لأنها ليالي الوصل .
 
( ن ) : قوله وسقى جمعنا معاشر أهل اللّه تعالى من الأولياء المقرّبين . وقوله بجمع ، كنى بذلك عن مقام الجمع خلاف الفرق . وكنى بلويلات الخيف عن القيام بأحكام الشريعة ظاهرا وباطنا أمرا ونهيا عن إخلاص وتقوى . وكنى بالعهاد عن العلوم الوهبية الربانية التي تنزل من سماوات الغيوب على المحققين من أهل اللّه تعالى أصحاب القلوب . اهـ .
 
26 - من تمنّى مالا وحسن مآل *** فمنائي منى وأقصى مرادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« من » هنا شرطية . و « تمنى » فعل الشرط وجوابه الجملة من قوله فمناي . والمنى جمع منية بضم الميم فيهما وهي المطلوب الذي يتمناه الشخص . والمنى مقصورة لكن مدها هنا للضرورة . و « منى » بكسر الميم وادي منى .
و « أقصى مرادي » عطف على المبتدأ أي ومطلوبي وغاية مرادي والجواب على تقدير حذف شيء أي فله أن يتمنى ما شاؤوا وأمّا أنا فمناي منى وهي غاية مرامي ونهاية مرادي .
وبين مال ومآل الجناس الناقص . وبين منى ومنى الجناس المحرّف أي مختلف فيه بالحركات والحروف واحدة .

« 131 »
 
( ن ) : قوله من تمنى مالا وحسن مآل يعني من تمنى الدنيا والآخرة أو أحدهما من الناس فمناي منى ، كنى بمنى عن الوصول إلى حضرة الحق تعالى بفناء كل ما عداه . اهـ .
 
27 - يا أهيل الحجاز إن حكم الدّهر *** ببين قضاء حتم إرادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« أهيل » تصغير أهل والتصغير في مثله للتحبيب أو للتشويق لإضافته إلى « الحجاز » الذي هو مطلوبه على الحقيقة لا المجاز وقد تقرّر أن الأرض المعهودة سميت حجازا لكونها حاجزا أي فاصلا بين نجد وتهامة وآخر المصراع الأول الهاء في « الدهر » . و « ببين » متعلق « بحكم » والتنكير فيه للتعظيم والتهويل لوجود مقام التخويف من البين المخيف .
و « قضاء » بالنصب مفعول لأجله . و « حتم » مضاف إليه .
والحتم هنا بمعنى المحتوم به وهو صفة لموصوف محذوف أي حكم الدهر ببين عظيم لوجود قضاء حكم محتوم به إرادي .
و « إرادي » هنا بكسر الهمزة والياء في آخر الكلمة مشددة الأصل للنسبة أي قضاء حكم محتوم به تابع لإرادة اللّه تعالى ولكن الياء الآن مخففة لحذف الياء الواحدة للوزن والقافية ويجوز أن يقرأ « قضاء » بالجرّ مضافا إلى حتم أي ببين مقضي حكم محتوم به إرادي .
و « إرادي » مخفف مجرور على التقدير . ويروى قضاء حكم بالكاف وهو أظهر من حتم بالتاء فليتأمل .
 
( ن ) : كنى بأهيل الحجاز عن الورثة المحمديين من الأولياء المقربين . وقوله إن حكم الدهر هو من أسماء اللّه تعالى لقوله عليه السلام : « لا تسبوا الدهر فإن اللّه هو الدهر » وكنى بالبين عن احتجاب القلب عن مشاهدة الرب في صور أهل الكمال من ذوي الجلال والجمال . اه .
 
28 - فغرامي القديم فيكم غرامي *** وودادي كما عهدتم ودادي
 
[ الاعراب ]
قوله « فغرامي القديم » جواب لقوله « إن حكم الدهر » . و « غرامي » مبتدأ .
و « القديم » بالرفع صفته . و « غرامي » خبره .
 
والمعنى
أن حكم الدهر علينا بفراق عظيم ناشىء عن قضاء محتوم به إراديّ أي منسوب إلى الإرادة الأزلية التي لا يتخلف أثرها فلا تظنوا أن ذلك البين غير ودادي أو نقل جوهر المحبة الذي مقرّه فؤادي بل غرامي فيكم الآن هو ذلك الغرام المعهود تنتقض فيه الأوصاف ولا تنتقض فيه العهود والتغاير في الغرامين الواقعين مبتدأ وخبرا بالقدم والجد هو كما في قول الشاعر :
أنا أبو النجم وشعري شعري

« 132 »
 
قال وودادي الآن كما عهدتم وعلمتم سابقا ودادي الماضي وأنا عليه مقيم وبه راضي قال الشريف الرضى الموسوي :
لا تحسبوا إذا البعد غيرني * فالبعد غير مغير عهدي
وإذا الفتى حسنت رعايته * في القرب ضاعفها على البعد
 
29 - قد سكنتم من الفؤاد سويداه *** ومن مقلتي سواء السّواد
 
نصف المصراع الأول الألف في « سويداه » والهاء أول الثاني والمعنى قد سكنتم يا أهيل الحجاز في داخل السواد من الفؤاد وقد نصوا على أن في داخل كل قلب نقطة سوداء وهي التي غسلت من قلب نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم والمراد بيان كمال الخصوص للأحبة بأن سكناهم داخل فؤاده .
وسويداء بضم السين وفتح الواو تصغير سوداء كحميراء تصغير حمراء . كما ورد في خطابه صلى اللّه عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة من قوله كلميني يا حميراء أي سكنتم من مقلتي ما عدا سوادها إذ لو سكنتم سواد العين لكنت أراكم وأتنعم برؤياكم .
فالمعنى أما الفؤاد فأنتم منه في السواد وأما ما ورد في الحديث من قوله صلى اللّه عليه وسلم سجد لك سوادي فالمراد منه جميع الأعضاء أي سجد لك وخضع كل شيء داخل في جسمي وأما العين فإنكم سكنتم ما عدا سوادها ولو سكنتم سواد العين لزالت نقطة الغين ، واضمحل وصف البين
 
ومن محاسن ما اتفق لي من الشعر قولي :
أيا قمرا قد بت في ليل هجره * أراقب أسراب الكواكب حيرانا
جعلتك في عيني لتخفي عن الورى * وما كنت أدري أن في العين إنسانا
« وسواء » بالمد وفتح السين هنا بمعنى غير وهي مضافة إلى السواد .
 
( ن ) : قوله السويداء تصغير السوداء وهي النقطة السوداء التي في القلب وسكناهم فيها تجليهم بها عليها فإذا حجبوا بها عنها فهي سوداء وإذا ظهروا بها فهي نور وهي بيضاء . اه .
 
30 - يا سميري روّح بمكّة روحي *** شاديا إن رغبت في إسعادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« السمير » المصاحب في الليل وهو مضاف إلى ياء المتكلم . و « روّح بمكة روحي » « روح » فعل أمر من الترويح أي اعط الراحة لروحي بذكرك مكة وما سلف بها من الأيام الطيبة وما همع بها من السحائب الصيبة فإن أيام الوصال ذكرها يذهب البلبال من البال ويفيد الراحة والإقبال واللطف والاعتدال .
و « شاديا » بشين معجمة ودال مهملة اسم فاعل من شدا يشدو أي غنى يغني أي إن رغبت في إسعادي فروح

« 133 »
 
بذكر مكة روحي وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله والإسعاد من قولك أسعد فلان فلانا أي أعانه . و « شاديا » حال من ضمير المخاطب في روح أي روح روحي بذكر مكة ولياليها . فإن لها في ذلك أقصى أمانيها وغاية مطلوبها ومعانيها .
 
( ن ) : قوله يا سميري كنى بذلك عن أصحابه من أهل الغفلة والحجاب الذين يسمر معهم ويتحادث وهم غافلون في ليل الأكوان قبل طلوع فجر العيان وذهاب ظلمة الإمكان عن حوادث الأعيان .
وقوله بمكة ، أي بذكر بيت اللّه الحرام وجيرانه السادة الكرام كناية عن أهل اللّه العارفين به أصحاب القلوب الهائمة في مظاهر تجلياته وذكر كرامات الأولياء ومحاسن أوصافهم تقوية لأحوال المريدين وتنشيطا لهممهم . اهـ .
 
31 - فذراها سربي وطيبي ثراها *** وسبيل المسيل وردي وزادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« سربي » مبتدأ و « ذراها » خبر مقدم وهو بفتح الذال المعجمة عبارة عن المكان الذي يقرب من البيت . يقال فلان ساكن في ذرا فلان أي في حماه وبالقرب من بيته وسرب الرجل بكسر السين نفسه وموطنه ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : « من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه مالكا قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها » أي من أصبح ونفسه آمنة غير خائفة .
و « طيبي » مبتدأ و « ثراها » خبره . و « الثرى » التراب أي فطيبي ثراها وسربي ذراها .
و « السبيل » الطريق والمراد طريق مسيل الماء .
 
و « وردي » بكسر الواو ما أرده أي موردي . و « زادي » أي ما يتزوّده الرجل في طريقه من المطعوم والمشروب فكأنه يقول إن طريق مسيل الماء بمكة لي ورد أرده فيرويني وطعام في المجاعة يكفيني فهو ماء للظمآن وطعام للجوعان كماء زمزم لما شرب له وما أحسن ما رأيته في ذكر محاسن الشام لابن عنين :
بلاد بها الحصباء در وتربها * عبير وأنفاس الشمال شمول
تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق * وصح نسيم الروض وهو عليل
 
( ن ) : قوله « ذراها » بإبدال الهمزة ألفا من ذرأ اللّه الخلق يذرؤهم ذرأ خلقهم ومنه الذرية والجمع الذراري ، والمعنيّ بذراها خلقها وأهلها الناشؤون فيها المتولدون بها وهم أهل الجذب الإلهي من أصل خلقتهم السالكون بهممهم العلية في طريق العرفان حتى وصلوا إلى مقام التحقيق والإيقان . وقوله « سربي » أي قومي وعشيرتي .
 
وقوله « ثراها » كناية عن أجسام أهل اللّه من الصديقين المقربين الذين قلوبهم بيت الرب سبحانه فهم على قلب رجل واحد لسريان الوحدانية الإلهية في آثار تجلياتهم

« 134 »
 
ومظاهرها الكاملة في هياكلها الفاضلة على وجه الظهور لا الحلول . وقوله « وسبيل » أي طريق . وقوله « المسيل » هو أسفل الوادي مكان الكعبة الشريفة بيت اللّه المعمور بذكره .
 
وسبيل مسيله بثر زمزم وعرفانه في جوانب قلوب أهل إيمانه من أئمة الصفاء أهل الحفاظ والوفاء . وقوله « وردي » يعني به أحيا من موت جهلي ، وأروى من عطش شوقي وعشقي . وقوله و « زادي » هو طعام يتخذ للسفر ، وفيه إشارة إلى أنه مسافر من نفسه إلى ربه . اهـ .


32 - كان فيها أنسي ومعراج قدسي *** وسقامي المقام والفتح بادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
يشير بهذا البيت إلى ما حصل له بمكة من الأنس ومعراج القدس ، والمراد من معراج القدس ارتقاؤه في مدارج الكمال إلى منازل العز والإجلال . و « المقام » اسم مكان مبتدأ .
أو « مقامي » خبرها مقدم . والمراد بالمقام مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام أي مكان مقام إبراهيم موضع إقامتي .
و « الفتح بادي » وكان الفتح في مكة شرّفها اللّه تعالى باديا لي أي ظاهرا .
والمراد هنا الفتح الرباني والأنس الصمداني .
 
( ن ) : قوله ومعراج قدسي يعني في مراقي مقامات القرب إلى حضرته تعالى وأنسه به سبحانه ، وحصول طهارته ونزاهته عن رذائل أخلاقه الذميمة واتصافه بمكارم الأخلاق ، كان في مكة الشريفة ظاهرا ، وفي حضرة المشاهدة الربانية والفناء عما سواها من الحضرات الكونية باطنا . ومقامي بضم الميم أي موضع إقامتي ، وهو المنزلة والرتبة التي حصلت له في مكة المشرفة زمن سياحته في جبالها وآكامها .
وقوله المقام هو هنا إشارة إلى مقام إبراهيم عليه السلام عند بناء الكعبة المشرّفة ، كناية عن مقام الإسلام الحقيقي ظاهرا وباطنا بالقلب وبالقالب . اهـ .
 
33 - نقلتني عنها الحظوظ فجذّت *** وارداتي ولم تدم أورادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
الضمير في « عنها » لمكة . و « الحظوظ » جمع حظ ، وهو البخت والنصيب ، أي كانت مواقع أنسي ومعراج قدسي فنقلتني عنها الحظوظ المؤلمة والبخوت المسقمة ، فكان ذلك النقل سببا لقطع الواردات الإلهية وعدم دوام الأوراد الرحمانية لأن للّه تبارك وتعالى وجل وعلا تجليا خاصا في الأزمنة والأمكنة والأشخاص .
 
( ن ) : قوله نقلتني عنها الحظوظ ، يعني أنه انتقل من مكة إلى مصر ورجع إلى وطنه الأصلي بعد أن فتح عليه في مكة نقلته حظوظه النفسانية وطباعه وعاداته البشرية إلى أحوال أدنى من أحواله وهو في مكة المشرفة ، وغلبت عليه الفتنة الأولية في البلاد المصرية . قوله فجذت بالبناء للمفعول أي قطعت . وقوله وارداتي جمع واردة

« 135 »
وهي المعاني الواردة على خاطره وقلبه من الأسرار الإلهية والمعارف الغيبية . وقوله ولم تدم أورادي جمع ورد بكسر الواو وهو الجزء من القرآن والنصيب من الماء ، يعني أنه لم يبق له ما كان يواظب عليه من الأوراد من تلاوة قرآن أو ذكر أو تهجد بالليل أو صلاة أو صوم أو مراقبة أو نحو ذلك من أنواع العبادات ، ولهذا قالوا : لا وارد لمن لا ورد له .
فاستنزال المعاني الإلهية بالأوراد الربانية . اهـ .
 
34 - آه لو يسمح الزّمان بعود *** فعسى أن تعود لي أعيادي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« آه » بهمزة لينة بعدها مدّة وهاء مكسورة وهي كلمة توجع . و « لو » هنا دخلت على المضارع والظاهر أنها للتمني وعبارتهم وقد يتمنى بلو نحو لو تأتيني فتحدثني ، أي أتمنى أن يحصل من الزمان السماح بالعود إلى مكة لأن الكلام في شوقه إليها وإقباله عليها .
و « عسى » فعل للترجي أي فلعل أعياد أفراحي أن تعود بعودي إلى مكة المعظمة ، وشهود مشاهدها المكرّمة . ولا يخفى جناس الاشتقاق في تعود والأعياد ، وفي ضمن كلامه إشارة إلى أنّ جميع أيامها أعياد ، وإلى أنسها يكون المعاد .
 
( ن ) : قوله أعيادي كنى عن حصول تلك الأحوال الشريفة الربانية له وهو في مكة المشرّفة بالأعياد الداخلة عليه لسرور قلبه بذلك وقرّة عينه بما هنالك . اهـ .
 
35 - قسما بالحطيم والرّكن والأستار *** والمروتين مسعى العباد
36 - وظلال الجناب والحجر و *** الميزاب والمستجاب للقصّاد
37 - ما شممت البشام إلّا وأهدى *** لفؤادي تحيّة من سعاد
 
[ الاعراب والمعنى ]
آخر المصراع الأوّل السين في الأستار وأوّل الثاني التاء بعدها . و « الحطيم » مكان معروف هناك . و « الركن » عبارة عن ركن البيت الحرام ، وفيه أركان أربعة .
 
فالمراد جنس الركن ليعم الأربعة ، أو أنه إذا أطلق فالمراد به الركن اليماني ، أو الركن الذي فيه الحجر الأسود لشرفه . و « الأستار » هنا أستار الكعبة المعظمة .
و « المروتان » هنا فيه تغليب إذ المراد الصفا والمروة ، وهما علما جبلين بمكة .
ولذلك فسر المروة بعضهم بقوله ، والمروة في الأصل اسم الحجر ، وتثنية مروة أخف من تثنية صفا ، فلذلك اختير التغليب في تثنيتها دون تثنيته ، ومسعى العباد بدل من المروتين ، إذ المراد وأقسم بالمروتين ، وهو مكان سعي العباد لأن السعي بينهما ففيه نوع تجوّز .
 
و « العباد » بكسر العين عباد اللّه من المؤمنين ذكورا كانوا أو إناثا . قوله « وظلال الجناب » مجرور بالعطف على الحطيم ، أي وأقسم بظلال الجناب ، « والظلال » جمع ظل وهو الفيء . و « الجناب » هضاب معروفة . و « الحجر » بكسر الحاء وسكون الجيم ،

« 136 »
 
وهو حجر إسماعيل في البيت الحرام ، وقد يطلق الحجر على مكان معروف في ديار ثمود قال اللّه تبارك وتعالى : كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ [ الحجر : الآية 80 ] .
والحجر أيضا العقل ، وآخر المصراع الأوّل الياء من الميزاب وأوّل الثاني الزاي .
 
و « الميزاب » هنا عبارة عن ميزاب الرحمة في البيت الحرام . و « المستجاب » على صيغة اسم المفعول موضع به يستجاب الدعاء بالنص عليه . و « للقصاد » متعلق بقوله المستجاب ، أي هو مستجاب للقصاد ، أي لقوم يقصدون الدعاء ويطلبون من اللّه إجابته .
 
و « ما شممت » جواب القسم ، وشممت على وزن علمت . و « البشام » بفتح الباء الموحدة وبعدها الشين المعجمة ، شجر معروف طيب الرائحة . قوله « إلا وأهدى » اعلم أنه قد ترد الجملة الحالية الماضوية بعد أداة الاستثناء ويكون الاستثناء مفرغا ، ويكون المستثنى منه أعم الأحوال . كقوله : ما يئس الشيطان من بني آدم إلا وأتاهم من قبل النساء .
 
والمعنى :
ما شممت البشام في حال من الأحوال إلا في حال إهدائه لفؤادي تحية من حبيبتي سعاد . ولا يحتاج الفعل الماضي حينئذ إلى قد لوقوعه بعد أداة الاستثناء . وتحية بالنصب مفعول أهدى من سعاد للفؤاد لكونها هدية لطيفة تناسب الفؤاد لأنها عبارة عن طلب الرائحة التي تهدى إلى القلب . من شم رائحة البشام فتذكر طيب سعاد وما مضى بوصلها من الأيام . ولا يخفى السجع في البيت الأوسط حيث قال : وظلال الجناب والحجر والميزاب والمستجاب . وفي بيت البشام مسك الختام .
 
( ن ) : قوله الحطيم كناية هنا عن نفس العارف لأنها محتطمة من الحطم وهو الكسر من قبله فالقلب بيت الرب ، والنفس منه كالحطيم من البيت الشريف احتطمه الجهل من جاهلية السالك في مقام عرفانه . وقوله الركن ، كناية عن الركن الشديد في قول لوط عليه السلام فيما حكاه اللّه تعالى عنه . قال تعالى : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [ هود : الآية 80 ]
 
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « رحم اللّه أخي لوطا إنه كان يأوي إلى ركن شديد » وهو الالتجاء إلى اللّه تعالى والاعتماد عليه في جميع الأمور .
قوله والأستار جمع ستر وهي الحجب النورانية قال عليه السلام إنّ للّه سبعين ألف حجاب من نور وظلمة ، الحديث ، فالحجب النورانية عالم الأرواح ، والظلمانية عالم الأشباح أو النورانية عالم الأسماء والصفات القديمة والظلمانية عالم الأفعال والآثار الحادثة .
 
وقوله والمروتين يكني بذلك عن الروحانية والجسمانية فإنّ ذلك مما يشعر باللّه سبحانه لأنه أثره المخلوق بتوجه أسمائه وصفاته . وقوله مسعى العباد فإنّ السعي بين الصفا

« 137 »
 
والمروة واجب في الحج الظاهر وسعي البصيرة بين صفا الروحانية ومروة الجسمانية واجب أيضا في القصد إليه تعالى وهو الحج الباطن . قوله وظلال .
قال تعالى : أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [ الفرقان : الآية 45 ]
أي الظل الذي هو الكائنات بجميع أنواعها فإنها ظلال عن شواخص الإرادة الإلهية فكل شيء يريده اللّه تعالى يمتد على طبق شاخص الإرادة الإلهية فهو ظلها الممدود .
وقوله الجناب ، أي الحضرة الإرادية الإلهية فإنّ الأشياء كلها ظلالها الظاهرة في نور الوجود الذاتي الحق القديم الأزلي .
 
وقوله والميزاب ، كناية عن لسان العارف المحقق ولغته التي يعبر بها عما يجده من الأسرار الإلهية . وقوله والمستجاب إشارة إلى حرم مكة المشرّفة .
قال تعالى : وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [ آل عمران : الآية 97 ] كناية عن مجلس العارف المحمدي الجامع وجواره ومحلته .
قال تعالى : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( 33 ) [ الأنفال : الآية 33 ] أي من نفوسهم ودعوى وجودهم .
 
وقوله البشام ، كنى به هنا عن الروح الكلي والنور المحمدي الممتد منه في كل حقيقة كونية بالصبغة الإلهية وشمه كناية عن إدراك رائحته أي الإحساس بسريانه في الحقائق الكونية والآثار الحسية والمعنوية . وقوله من سعاد ، كنى بها عن الخضرة الإلهية . اهـ . 
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح أرى البعد لم يخطر سواكم على بالي الأبيات من 01 إلى 25 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:34 pm

شرح أرى البعد لم يخطر سواكم على بالي الأبيات من 01 إلى 25 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة أرى البعد لم يخطر سواكم على بالي الأبيات من 01 إلى 25
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة الثامنة أرى البعد لم يخطر سواكم على بالي ]
قال رضي اللّه تعالى عنه :
01 - أرى البعد لم يخطر سواكم على بالي  *** وإن قرّب الأخطار من جسدي البالي
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن هذا البيت يروى على طريقين الأولى « أرى البعد لم يخطر » بضم ياء يخطر من أخطر يخطر ، الثانية « على البعد لم يخطر » بفتح ياء يخطر من خطر يخطر إذا جاء في البال . وقال بعض اللغويين خطر يخطر مثل نصر ينصر أي جال في البال وخطر الرمح يخطر مثل ضرب يضرب ، اضطرب واهتز ،
ولذلك قال بعض شرّاح المتنبي عند الكلام على قوله :
وهل صغت الأسنة من هموم * فما يخطرن إلا في فؤادي
فإن أرجعت الضمير في قوله فما يخطرن لهموم فهو على وزن ينصر ، وإن أرجعت الضمير في يخطرن للأسنة فهو على وزن يضربن . والرواية الثانية هي الثابتة إذ معناها لم يخطر سواكم على بالي على زمن البعد .
وقيل « على » هنا بمعنى مع ، أي مع الاتصاف بالبعد لم يخطر سواكم على بالي ، ومن كان وداده ثابتا زاد في حالة البعاد على حالة الاقتراب .
كما قال الشريف الموسوي :
لا تحسبوا إذا البعد غيرني * فالبعد غير مغير عهدي
وإذا الفتى حسنت رعايته * في القرب ضاعفها على البعد
 
و « سواكم » فاعل يخطر ، وعلى البعد : متعلق به ، وعلى بالي : كذلك قوله « وإن قرّب الأخطار من جسدي البالي » الواو هنا قيل حالية ، وقيل عاطفة ، وقيل اعتراضية على اصطلاح أهل البيان .
« وإن » هنا وصلية لا تحتاج إلى الجواب لأنها لمجرّد التأكيد كما نص على ذلك أهل البيان ، وضمير قرب راجع إلى البعد ، والأخطار جمع خطر ، وهو الأمر الذي يخشى منه ويخاف ، ويقال فلان على خطر أي على أمر قريب ، والبالي الأول مضافا إلى ياء المتكلم بمعنى الخاطر . والبالي الثاني بمعنى

« 139 »
 
المتصف بالبلى ، يقال بلي الثوب أي دخل فيه البلى وهو الإشراف على الزوال من القدم والتهلهل ، وفي البيت الجناس التام في بالي وبالي ، والطباق بذكر القرب والبعد ، وجناس شبه الاشتقاق في يخطر والأخطار .
 
( ن ) : المعنى لم يخطر البعد على بالي حال كونه سواكم ، وإنما الذي يخطر هو رؤية البعد ليس سواكم عندي وأنه تجل من بعض تجلياتكم ، ولا شك أن الحق تعالى له في كل شيء تجل خاص ويريد أن التجليات الإلهية واردة عليه بكل حال من الأحوال سواء كان ذلك الحال مما يلائمه أو مما لا يلائمه من الإدبار أو الإقبال . اهـ .
02 - فيا حبّذا الأسقام في جنب طاعتي *** أوامر أشواقي وعصيان عذّالي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الفاء » فصيحة أي إذا علمت أنه لم يخطر على البعد سواهم على البال . و « يا » للتنبيه أو للنداء ، والمنادى محذوف . و « حب » ماض . و « ذا » فاعله . و « الأسقام » مبتدأ .
والجملة قبله خبره . وقوله في جنب طاعتي : متعلق بما في حبذا من معنى فعل الرضا والقبول . و « طاعتي » مصدر مضاف إلى فاعله . و « أوامر » بالنصب مفعوله . و « عصيان » بالجر عطف على طاعتي . فكأنه يقول رضيت بالأسقام الحاصلة لي بسبب أنني أطعت أوامر الأشواق وعصيت العاذلين على وصف الاشتياق . وفي البيت الطباق بين الطاعة والعصيان .
 
( ن ) : قوله وعصيان : بالنصب عطف على أوامر . ومعنى البيت أنه مطيع عصيان من يلومه على المحبة كما أنه مطيع أوامر أشواقه . وذلك يوجب السقم والنحول في المحبة الإلهية طلبا للوصول وحصول القبول . اهـ .
 
03 - ويا ما ألذّ الذّلّ في عزّ وصلكم وإن عزّ ما أحلى تقطّع أوصالي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« ويا » كالتي قبلها في جواز الوجهين . و « ما » تعجبية مبتدأ . و « ألذ » فعل تعجب وفاعله مستتر فيه وجوبا يعود إلى ما . و « الذل » مفعوله ، والجملة في محل رفع على أنها خبره . وفي عز وصلكم : متعلق بالذل . قوله « وإن عزّ » ، « إن » وصلية ، وضمير عز يجوز أن يعود إلى وصلكم ، ويجوز أن يعود إلى الذل ، لأن المراد الذل الحاصل في عز وصلكم ، وإلا فالذل ليس مرضيا على الإطلاق قوله « ما أحلى » جملة مستأنفة للتعجب . و « ما » تعجبية مبتدأ . و « أحلى » فعل تعجب وفاعله مستتر فيه وجوبا .
 
و « تقطع » مفعوله ، وهو مضاف إلى أوصالي ، والجملة خبر ما . وفي البيت جناس القلب في ألذّ والذل ، والطباق بين الذل والعز ، وجناس التحريف في عز وعز ، لكن العز المضاف إلى الوصل هو العز المقابل للذل ، وأمّا عز الذي هو فعل ماض فإنّ

« 140 »
 
الضمير فيه إن كان للوصل فيجوز أن يكون منه أيضا ، كما يجوز أن يكون من الشيء العزيز القليل الوجود ، كما يقال : عز التبر . أي قلّ وجوده . وإن كان الضمير للذل المذكور ففيه الوجهان أيضا ، غير أن الأول أرجح في الأوّل والثاني أرجح في الثاني فتأمل . وفي البيت أيضا الطباق بين الوصل والقطع ، وجناس شبه الاشتقاق بين الوصل والأوصال .
 
( ن ) : الخطاب للحضرات الإلهية والتجليات الربانية ، فإن وصلها عزيز وحرزها حريز . اه .
 
04 - نأيتم فحالي بعدكم ظلّ عاطلا وما *** هو ممّا ساء بل سرّكم حالي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« نأيتم » أي بعدتم ، مأخوذ من النأي بمعنى البعد . « فحالي بعدكم » أي بعد بعدكم ظل أي استمرّ عاطلا ، أي معطلا ليس له صلاح ولا إصلاح .
قوله « وما هو » أي ليس ما صدر لي من تعطل حالي من الأمور التي تسوءكم وتضرّكم بل سرّكم حالي العاطل وعملي الباطل . والحال الأوّل بمعنى الشأن والأمر . أي استمرّ حالي عاطلا وما ساءكم ما ساءني بل سرّكم . قوله « بل سركم حالي » في حالي احتمال ثلاثة معان:
 الأوّل أن يكون بمعنى الشأن والأمر أي سركم شأني الذي تعطل .
الثاني بمعنى سركم مزينا لكم ليس عاطلا لكونه يسركم ولا يضركم .
الثالث أن يكون حاليا من الحلاوة أي سركم ما ساءني حاليا لكم ترونه حلوا لسروره لكم ،
لكن على الأوّل يكون حالي فاعلا ، وعلى الثاني والثالث يكون الوقوف على حالي على لغة ربيعة لكون حالي حالا على الوجهين المذكورين .
وفي البيت إيهام التضادّ بين العاطل والحالي أو الطباق الحقيقي بالنظر إلى تجويز بعض المعاني في حالي الواقع آخر البيت . والجناس التام بين حالي وحالي ، والطباق بين السرور والمساءة فاعلم ذلك .
 
( ن ) : معنى المصراع الأوّل : بعدتم فصار حالي وشأني عاطلا لا زينة له يتزين بها من إدراك وفهم شيء من أحوال أهل الدنيا . وقوله وما هو أي حالي المذكور .
وما ، نافية وهو مبتدأ . وقوله مما ساء ، أي ساءني وأحزنني . وبل : للإضراب . وقوله سركم ، أي بل مما سركم يا أحبتي . وقوله حالي ، خبر المبتدأ ، من الحلي ، وهو ما يتزين به من مصوغ المعدنيات أو الأحجار .
 
والمعنى :
أن حالي صار عاطلا وما هو متزين بزينة ما يسوءني من الشدائد والمصائب من حيث أنها تسوءني ، بل من حيث أنها تسركم وتفرحكم فأنا متزين بها من هذه الجهة .

« 141 »
05 - بليت به لمّا بليت صبابة *** أبلّت فلي منها صبابة إبلال
 
[ الاعراب والمعنى ]
« بليت » بضم الباء وكسر اللام مجهول ، من البلاء بالمد أعاذنا اللّه منه . و « به » متعلق به . و « بليت » الثانية بفتح الباء وكسر اللام ، من البلى بكسر الباء ، وهو اضمحلال الجسد وذهاب جدّته .
و « صبابة » بفتح الصاد رقة الشوق ، منصوب على أنه مفعول لأجله وهو قيد للفعلين لأن البلاء والبلى من الصبابة .
و « أبلت » بمعنى زالت يقال أبلّ فلان من مرضه ، أي شفي منه وعافاه اللّه منه . و « الصبابة » بضم الصاد بمعنى البقية ، يقال في الإناء صبابة من الماء ، أي بقية منه .
و « إبلال » مصدر أبلّ من مرضه أي فلي من تلك الصبابة صبابة ، لأن المريض إذا شفاه اللّه من مرضه لا بدّ من بقايا مرض في أوائل مبادي الشفاء والبقايا تزول شيئا فشيئا ، وما أحسن قول القائل :
والهوى يستزيد شيئا فشيئا * فكذا ينسلي قليلا قليلا
وفي البيت الجناس المحرّف في بليت وبليت ، وفي صبابة وصبابة ، وجناس الاشتقاق بين أبلت وإبلال .
 
( ن ) : الضمير في به ، للمحبوب الحقيقي ، والضمير في منها للصبابة . اهـ .
 
06 - نصبت على عيني بتغميض جفنها *** لزورة زور الطّيف حيلة محتال
 
[ الاعراب والمعنى ]
« نصبت » أي أقمت يقال فلان نصب فلانا حاكما في الواقعة الفلانية ، أي أقامه حاكما فيها . ومفعول نصبت حيلة المضاف إلى محتال . إذ المراد أقمت حيلة محتال على عيني وما نصبت الحيلة المذكورة إلا بأني غمضت جفنها بأن أوصلت الجفن إلى الجفن ، وسترت المقلة عن النظر ، وذلك « لزورة » بفتح الزاي واحدة من الزيارة .
 
« زور الطيف » الزور بضم الزاي خلاف الحق . و « الطيف » الخيال الطائف .
والمراد أنّ الطيف خيال مزوّر لا حقيقة له لكونه يرى شخصا يكلم من يراه ويواصله ويحادثه ، وذلك كله خيال محال لا حقيقة له في حال من الأحوال .
وقوله « على عيني » ، وقوله « بتغميض جفنها » متعلقان بنصبت .
وقوله « لزورة » متعلق بنصبت أيضا أو بتغميض جفنها ، لأن المراد بتغميض الجفن لأجل حصول زيارة الطيف الزور الذي لا أصل له ، وجعل التغميض سببا للزيارة من الإغراب لأن إغلاق الباب مانع من دخوله للزيارة وغيرها فهنا جعل إغلاق الباب أي باب العين سببا لحصول زيارة الطيف .
وهذا كما قال الشاعر :
وأقسم لو جاد الخيال بزورة * لصادف باب الجفن بالفتح مقفلا

« 142 »
 
( ن ) : قوله لزورة زور الطيف ، المعنى في ذلك طيف خيال المحبوب الحقيقي ، وهو ما يتجلى به الحق تعالى من الصور الخيالية ، فإنه لما استيقظ من نوم الغفلة بالموت الاختياري من قوله صلى اللّه عليه وسلم : « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » لم يثبت عنده ذلك في خياله ، وتحقق بالغيب المطلق عن الحس وعن العقل ، وزادت عليه الأشواق فتمنى حصول طيف الخيال له .
 
وعلم أنّ ذلك لا يحصل له إلا في نوم الغفلة فتعرّض لنوم الغفلة وهو في اليقظة الحقيقية ، فتغافل بتغميض عين بصيرته طمعا في حصول ذلك الطيف له مع علمه بأن محبوبه لا صورة له من حيث هو ، وهو يعلم أنّ الصور كلها له من حيث ما هو نائم بنوم الغفلة عنه . اهـ .
 
07 - فما أسعفت بالغمض لكن تعسّفت ***عليّ بدمع ثم الصّوب هطّال
 
[ الاعراب والمعنى ]
« فما أسعفت » أي فما أعانت العين بالغمض بضم الغين لضم العين . « لكن تعسفت » أي ركبت التعاسيف وسلكت طريقا إلى التعب ليس بلطيف . و « عليّ » متعلق بتعسف .
و « بدمع » متعلق به أيضا . و « دائم الصوب » مجرور صفة لدمع ، وكذلك « هطال » .
و « الصوب » بفتح الصاد وسكون الواو النزول ، يقال صاب المطر صوبا أي نزل .
و « الهطال » ، على صيغة فعال من الهطل ، وهو السكب فكان الدمع النازل سببا لعدم الغمض ، وعدم الغمض سببا لعدم زيارة الطيف فارتفعت حينئذ حيلته المنصوبة وبعدت عنه زيارته المطلوبة ، وحصل عليه التعسف وبعد الإسعاف ، وجارت عليه جيرانه لعدم الألطاف .
 
وما أحسن قول الأرجاني :
ما زار إنساني سواهم بعدهم * إلا وألقى ستر دمع فاحتجب
وفي البيت قرب اللفظ في أسعفت وتعسفت ، والطباق لتضاد المعنيين فيهما . اهـ .
 
08 - فيا مهجتي ذوبي على فقد بهجتي *** لترحال آمالي ومقدم أوجالي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« المهجة » بقية الروح و « ذوبي » أمر للمؤنثة المخاطبة بالذوبان ، وحقيقته اضمحلال الجسم وصيرورته ماء كالثلج يذوب ويصير ماء .
و « البهجة » بفتح الباء الموحدة وهي ما يبتهج به الشخص أي ما يتزين به . أي ذوبي يا بقية روحي لأجل فقد ما كنت أبتهج به وهو الحبيب .
وقوله « لترحال آمالي ومقدم أوجالي » مقابلة اثنين بإثنين لأنّ الترحال في مقابلة المقدم ، والآمال في مقابلة الأوجال ، ولو بطريق اللزوم ، لأنّ الأوجال جمع وجل وهو الخوف ولا شك أنّ المطلوب خلاف ما يخاف منه .

« 143 »
 
و « الترحال » بفتح التاء المثناة فوق من الرحيل . وبين المهجة والبهجة الجناس اللاحق وفيه الانسجام التامّ .
( ن ) : قوله ذوبي أي اتركي الجمود المانع عن شهود أمر اللّه تعالى الذي هو كلمح بالبصر ، وقوله على فقد بهجتي أي غيبة حسني وجمالي الذي هو حقيقة ذاتي عن إدراكي بتوجه أسمائي وصفاتي . اهـ .
 
09 - وضنّي بدمع قد غنيت بفيض ما *** جرى من دمي إذ طلّ ما بين أطلالي
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « وضني » فعل أمر المؤنثة المخاطبة ، وهي مهجتي أي ابخلي يا مهجتي بإجراء الدمع ، فإنني قد استغنيت بفيض ما جرى من الدم وهو ذوب المهجة . وقوله « إذ » تعليلية أو ظرفية . أي غنيت به لكونه طل أي أريق ما بين أطلالي . و « ما » زائدة .
و « بين » ظرف لقوله طل . و « الأطلال » جمع طل ، وهو ما شخص من آثار الدار ، و « ما » في قوله بفيض ما واقعة على الدم لما بينت من قوله من دمي ، ويجوز أن تكون من تبعيضية أي غنيت بفيض الشيء الذي جرى من دمي ، كقولك جرى من النهر حصة .
وفي قوله « بفيض ما جرى » لطيفة لا تخفى إذ هو يوهم بفيض ما جرى على أنه مقصور من الماء . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين طل والأطلال . وطل مبني للمجهول بمعنى أريق وبين ما وما جناس تام . اهـ .
 
10 - ومن لي بأن يرضى الحبيب وإن *** علا ال نّحيب فإبلالي بلائي وبلبالي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« من » هنا استفهام للاستعطاف . ولي متعلقة بما يقتضيه المقام ، أي من يحصل لي رضا الحبيب . والمعنى الذي يناسب تعلق الباء أن يقدر من يتكفل لي برضا الحبيب . و « لو علا النحيب » والبكاء بسبب ما يحصل من البكا . قوله « فإبلالي » الذي أراه أن يروي هكذا ، فإبلالي على أن الإبلال على وزن إكرام مضاف إلى ياء المتكلم ، ومعناه حينئذ النجاة من المرض ، ويكون المراد إن نجاتي من المرض هو البلاء ، و « البلبال » الحزن لأنه لما طلب رضا الحبيب ولو علا النحيب والحزن ، ولا يعلو النحيب إلا مع وجود البلاء والبلبال والحاصل أنه يقول رضاي رضاك ولا أبتغي سواك .
 
11 - فما كلفي في حبّه كلفة له *** وإن جلّ ما ألقى من القيل والقال
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الكلف » بالتحريك زيادة المشقة . و « الكلفة » ما يتكلف الإنسان فعله بغير نشاط ، يقال فلان قام لفلان ولكن بكلفة . أو أن المراد ليس كلفي ووجدي ومشقتي وتعبي في حبه كلفة عليّ ، أي ثقتي عليّ بل أراه مع كمال المشقة سهلا وأرى أهله وإن

« 144 »
 
بعدوا عني أهلا . ولكن قوله « وإن جل ما ألقى من القيل والقال » يؤكد المعنى الثاني أي ليس حبه ثقيلا عليّ وإن كان ما أجده في محبته أعظم من أن يحصر بالقيل والقال ، وأن يحصى بتصوير المشابهة والمثال ، و « إن » هنا وصلية للتوكيد فلا تحتاج إلى جواب .
 
( ن ) : قوله له ، أي لأجله يعني لأجل المحبوب المذكور . وقوله من القيل والقال ، يعني ما يكثر في طريق المحبة من القال والقيل من العذول والرقيب الواشي وغيرهم من الناس . اهـ .
 
12 - بقيت به لمّا فنيت بحبّه *** بثروة إيثاري وكثرة إقلالي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« بقيت به » أي بالحبيب عندما فنيت بحبه فكان الفناء سبب البقاء ، وما ألطف قول من قال :
موت النفوس حياتها * من رام أن يحيا يموت
وقال الآخر :
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا * فكم أحيا عليك وكم أموت
 
وعنه صلى اللّه عليه وسلم : « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » وما ألطف قوله « بقيت به » ، و « فنيت بحبه » فجعل البقاء باللّه ، والفناء بحبه لأن الإضافة إلى الوجود الواجب هي سبب الوجود ، ومتى انقطعت النسبة بين الواجب والجائز من جميع الوجوه حق الفناء الذي ليس هو مطلوب أرباب المعارف ، وأما الفناء الناشئ عن المحبة فهو عبارة عن انقطاع العبد عن شؤونه ، واتصاله بالشؤون الذاتية ، وذلك بقاء بعد فناء لكنه فناء باللّه وفي اللّه وبقاء به وفيه .
هذا هو المشار إليه بقوله « بقيت به لما فنيت بحبه » .
 
قوله « بثروة » الثروة بالثاء المثلثة من فوق الغنى وكثرة المال والنشب ، والإيثار بالشيء أن تعطيه لغيرك مع احتياجك إليه .
وقال بعض الصوفية من أخلاق أهل اللّه الإيثار مع الإقتار والإعطاء بغير إبطاء .
 
قوله و « كثرة إقلالي » الإقلال كون الشخص مقلا أي قليل المال والنشب ، فكثرة ذلك عبارة عن كمال الإقلال .
 
فكأنه قال وكثرة فقري ، ولا يخفى ما في قوله « بثروة إيثاري » من الإغراب لأن الإيثار من شأنه الإقتار والفقر لا الثروة والغنى .
وكذلك الإقلال فإن شأنه أن ينشأ عنه العدم والفقر لا الكثرة والغنى هذا كما نص عليه المصراع الأوّل على أنّ البقاء به حاصل من الفناء بحبه .
وفي البيت الطباق بين البقاء والفناء مع التصحيف بنوع قلب أيضا ، وبين الثروة والإيثار والإقلال والإكثار .

« 145 »
 
( ن ) : قوله لما فنيت ، أي زال عني وجودي الذي كنت أتوهمه وظهر لي أنه وجود الحق تعالى منزها عن صورتي الظاهرة والباطنة لأنها عدم في وجوده تعالى .
 
وقوله بحبه ، أي بسبب محبتي له لأنه لا وسيلة بين القديم والعديم إلا المحبة . وقوله بثروة إيثاري ، يعني أنه وصل إلى مقام البقاء باللّه بعد الفناء فيه بسبب كثرة تقديم الغير على نفسه في كل نفع وكل خير دنيويّ .
قال تعالى : وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [ الحشر : الآية 9 ]
وأما في أمور الآخرة فيؤثرون أنفسهم على غيرهم .
وقوله وكثرة إقلالي ، يعني وبسبب زيادة فقري إلى اللّه تعالى ،
قال سبحانه وتعالى : يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ [ فاطر : الآية 15 ]
والخطاب في الآية للكاملين . اهـ .
 
13 - رعى اللّه مغنى لم أزل في ربوعه *** معنّى وقل إن شئت يا ناعم البال
 
[ الاعراب والمعنى ]
« المغنى » بالغين المعجمة المنزل ، وسمي مغنى لأنه يغني صاحبه عن منازل غيره . والغانية المرأة التي استغنت ببيتها عن بيوت الجيران ومنازل الخلان . وقوله « رعى اللّه » جملة دعائية للمغني ، ومعناها حفظه اللّه تعالى .
وقوله « لم أزل في ربوعه معنى » ومعنى بالعين المهملة أي تعبان ، والهاء في ربوعه تعود للمغني ، فهو يقول حفظ اللّه منزلا ما زلت تعبا في منازله لأن التعب في المحبة راحة ، والبخل من الحبيب على المحب سماحة .
قوله و « قل إن شئت يا ناعم البال » أي وإن شئت قل إني في ربوعه ناعم البال ، فنادني بذلك .
 
والحاصل أنه يقول ما زلت في مغنى الحبيب منعما ، والحال أني متعب ولهان :
تعب الحبيب على الحقيقة راحة * عند المحب وناره رضوان
فإذا أردت فصف فؤادي بالهنا * أو شئت قل في قلبه أحزان
وفي البيت جناس التصحيف بين مغنى ومعنى ، والطباق بين المعنى وناعم البال .
 
( ن ) : قوله مغنى كناية عن عالم الكون كله ، أو عن عالمه الإنساني . فإن أهله وهو الحق تعالى كان ظاهرا متجليا به على قلبه ، ثم احتجب عنه لسبب مّا من أسباب الحجاب .
 
وقوله لم أزل في ربوعه ، أي لم أزل ساكنا في تلك الربوع ، يعني لم أزل ذائقا أسرار تلك التجليات بها والظهورات الإلهية عليها ، وكاشفا عن ذلك بالحس لا بالفكر والعقل مع الغيبة عنها . وقوله وقل خطاب لكل من يراه من الناس ويحس بحاله التي هو فيها ولو بعض إحساس . اهـ .

« 146 »
 
14 - وحيّا محيّا عاذل لي لم يزل *** يكرّر من ذكري أحاديث ذي الخال
15 - روى سنّة عندي فأروى من الصّدى *** وأهدى الهدى فاعجب وقد رام إضلالي
16 - فأحببت لوم اللّؤم فيه لو أنّني *** منحت المنى كانت علامة عذّالي
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « وحيا محيا عاذل لي لم يزل » جملة دعائية معطوفة على قوله رعى اللّه مغنى ، وحيا اللّه محيا عاذل ، أي وجه رجل عاذل لي في باب المحبة .
من دأبه وعادته أن يكرر من ذكر أحاديث الحبيب الذي له خال على وجنته .
و « لي » متعلق بعاذل ، وإنما دعا بالتحية لمحيا العاذل لكونه كان يكرّر أحاديث الحبيب ، ثم أنه قرّر في البيت الثاني معنى تكراره لأحاديث ذي الخال ،
فقال : « روى سنة عندي » أراد بالسنة الطريقة ، أي روى ونقل سنة المحبة ، وطريق الصبابة عندي أي رواها عندي فأروى قلبي من الصدى أي من عطش الهجران وظمأ الأحزان ، وأهدى الهدى بروايته تلك السنة عندي فاعجب أيها الخليل من إهداء العاذل الهدى بعذله ، والحال أنه رام بروايته تلك إضلالي لأنه رام ترك المحبة ، والإعراض عن المودّة ، ومجانبة ربع الحبيب ، والبعد عن الأنس القريب ، وذلك عين الضلال في قصد العذال ، وما أفشى عندي سوى الهدى وأبعد عني موارد الردى ، وقوله « فاعجب » جملة معترضة بين الحال وصاحبها . فإن جملة « وقد رام إضلالي » حال من فاعل أهدى .
وفي البيت المناسبة بذكر الرواية والسنة والتجنيس بين روى وأروى ، والسجع في قوله « فأروى » من الصدى وأهدى الهدى ، وفيه الطباق بين الهدى والضلال ، قوله « فأحببت لوم اللؤم » ، « اللوم » بفتح اللام الملامة على الشيء والاعتراض على فاعله .
و « اللؤم » بضم اللام وسكون الهمزة بعده الملاءمة وهي خلاف الكرم أي فأحببت اللوم الناشئ عن لؤم العاذل في باب المحبة .
واستفتح جملة فقال : « لو انني منحت » أي لو أعطيت .
« المنى » المطلوب والمقصود . و « منحت » بالبناء للمجهول ، والتاء نائب الفاعل ، والمنى مفعوله الثاني ، والضمير في كانت للمنحة المفهومة من منحت .
و « علامة عذالي » هكذا في بعض النسخ علامة بالعين واللام ، ومعناها بعيد عن المقام غير ملائم للمرام .
ويروي عناية بالعين والنون والياء المثناة من تحت ، وهذه الرواية حسنة في المقام مستحسنة في الكلام ، لأنّ منحة الهدى عناية من العذال لأنهم كانوا سببا لذلك الاتصال .
وفي البيت قرب اللفظ في لوم ولؤم .
 
( ن ) : قوله الخال كناية هنا عن النقطة السوداء في الوجه الإلهيّ ، وهي الكون لأنّ الكون ظلمة ، وإنما أناره ظهور الحق فيه وأما أن يراد بالخال النفس الإنسانية الغافلة عن ربها فإنها ظلمة سوداء . وقوله روى ، أي العاذل المذكور . وقوله سنة ، أي

« 147 »
 
طريقة مسلوكة في المحبة الإلهية من طرائق محمد حبيب اللّه .
وقوله عندي ، أي بالنسبة إلي لا بالنسبة إليه لأنه جاهل غافل لا يعرف الأعالي من الأسافل .
وقوله فاعجب أمر من العجب خطاب لكل من يعلم بالحال من جهابذة الرجال .
وقوله كانت ، أي الحالة التي ذكرها وهي محبته للوم الصادر عن لؤم العذول وحماقته .
وقوله علامة عذالي ، أي سميتهم التي يعرفون بها بين المحبين مثلي فيحبونهم لذلك ويرغبون في لومهم لهم . اهـ .
 
17 - جهلت بأن قلت اقترح يا معذّبي *** عليّ فأجلى لي وقال أسل سلسالي
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « جهلت » أي ذهبت مذهب الجاهلين ، واتصفت بصفة الجهل بقولي لمحبوبي اقترح عليّ أي طلب مني مطلبا تريده بغير فكر وروية فإني أتبعك في مطلوبك ، وأطيعك في إرادة محبوبك . قوله « فأجلى لي » أي أظهر لي ثغره وفتح مبسمه وأهدى دره ، فقال لي مقترحا عليّ حسبما طلبت منه ، « أسل » بضم الهمزة وضم اللام فعل أمر من سلا يسلو ناقص واويّ . والمراد « بسلسالي » الطريق الذي تسلسل فيما بين الأسنان ، والمراد أنه يشكو من جهل نفسه بقوله للحبيب اقترح عليّ يا معذبي شيئا من أنواع المطالب ، فكان جوابه أنه أبرز لي ثغره البراق ، وعقد جوهره الفائق على كل نطاق ، وقال لي أسل محبة هذا الريق السلسال ، والمورد الذي في مجاري ماء الحياة قد جرى وسال ، ودع محبة هذا الريق ، واترك من خاطرك ذلك النور والبريق . وفي البيت السجع في قوله فأجلى لي وقال اسل سلسالي .
 
( ن ) : قوله يا معذبي ، أي يا حبيبي الذي يعذبني بصدّه ويعاقبني بهجره وبعده ، وهو ذو الخال المشار إليه سابقا وهو محبوبه الحقيقي . وقوله فأجلى لي أي كشف لي وحققني بمظاهر تجلياته من حضرات أسمائه وصفاته ، وقوله سلسالي ، كناية عما يظهر من الأكوان عن قوله تعالى للشيء : كُنْ فَيَكُونُ [ البقرة : الآية 117 ]
وقوله له أسل سلسالي ، أي أعرض عنه ، ولا قدرة له على الإعراض عنه لتحققه به ومعرفته التامّة بأنه غاية نصيبه منه لأن زهد المحققين في الكائنات انقطاع منهم عن رب الأرض والسماوات بالعكس من حالات السالكين في طريق المعرفة واليقين ، فإن زهد السالك ، في جميع الممالك ، منقذ له من المهالك . اهـ .
 
18 - وهيهات أن أسلو وفي كلّ *** شعرة لحتفي غرام مقبل أيّ إقبال
 
[ الاعراب والمعنى ]
استعاذ لما طلب منه الحبيب سلو ذلك المورد العذب . وقوله « هيهات » أي بعد سلوّي لذلك السلسال بذلك المقال ، والحال أن في كل شعرة من بدني غراما قد أقبل

« 148 »
 
لحتفي إقبالا ، أيّ إقبال ، فأين السلو عن ذلك السلسال ، لا سلو ولا نسيان مع عموم الغرام لشعر البدن بغير نقصان . والغرام إذا أقبل ودنا فقد بعد السلو عن حبيب المنى .
وتسكين الواو في أسلو لضرورة الشعر . و « الواو » في قوله « وفي كل شعرة » واو الحال والجار والمجرور خبر مقدم . و « غرام » مبتدأ مؤخر . و « مقبل » صفته .
و « أيّ » بالنصب صفة لمصدر محذوف وتقديره مقبل إقبالا ، أي إقبال .
و « لحتفي » متعلق بقوله مقبل ، أي أقبل لأجل حتفي وهلاكي .
 
19 - وقال لي اللّاحي مرارة قصده *** تحلّ بها دع حبّه قلت أحلى لي
 
[ الاعراب والمعنى ]
( ن ) : « وقال لي اللاحي » أي اللائم الذي يلومني على محبة المحبوب المذكور وليس عنده بما أشعر به شعور . وقوله « مرارة » مبتدأ . وقوله « قصده » من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي مرارة قصدك له وإقبالك عليه ، وهو ممتنع عنك ومحتجب بما لديه . وقوله « تحل » خبر المبتدأ وهو فعل أمر مبنيّ على حذف الياء من الحلاوة ضد المرارة .
وقوله « بها » أي بتلك المرارة . يعني أنك تجد المرّ حلوا من عدم شعورك بالوجدانيات فضلا عن النظريات لزيادة حمقك وعدم اعتبارك لمراعاة حقك .
 
وقال هذا على سبيل التهكم به عسى من سكر عشقه ينتبه . وقوله « دع » أي أترك بدل من تحل . وقوله « حبه » أي محبتك له . وقوله « قلت » أي لذلك اللاحي .
وقوله « أحلى لي » أي تلك المرارة المذكورة أو حبه المرّ أكثر حلاوة عندي من كل شيء حلو ، وأشهى لذة من كل لذيذ ، فكيف أترك ما أجده حلوا ، وأصير من محبته خلوا . اهـ .
 
20 - بذلت له روحي لراحة قربه *** وغير عجيب بذلي الغال في الغالي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« بذلت » أي أعطيت ، والضمير في له لذي الخال في قوله يكرّر من ذكرى أحاديث ذي الخال . و « روحي » مفعوله . و « لراحة قربه » متعلق به ، والراحة خلاف التعب ، أي لراحة حاصلة من قربه . ثم قال « وغير عجيب بذلي الغالي في الغالي » والغالي الأوّل الروح ، والغالي الثاني راحة القرب ، و « غير عيجب » مبتدأ ومضاف إليه .
و « بذلي » خبره . والبذل : مصدر مضاف إلى فاعله وكان قياسه أن يكمل بمفعوله ، فيقال وغير عجيب بذلي الغالي بالغالي ، ولكنه حذف الياء المفتوحة للوزن ،
 
فيقرأ الغال بكسر اللام على حدّ قوله :
ولو أن واش باليمامة داره * وداري بأعلى حضر موت اهتدى ليا
وفي الغالي متعلق ببذلي وما أحسن قول القائل :
تهون علينا في المعالي نفوسنا * ومن طلب العلياء لم يغله المهر

« 149 »
 
وفي البيت الجناس في روح وراحة ، والطباق بين البذل والغلو .
( ن ) : قوله الغال ، كناية عن روحه التي بذلها . وقوله في الغالي ، أي في محبة المحبوب الغالي على قلوب العاشقين ، وهو ذو الخال الذي تقدّم ذكره ، وفاح في فلوات المعاني نشره . اهـ .
21 - فجاد ولكن بالبعاد لشقوتي *** فيا خيبة المسعى وضيعة آمالي
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « فجاد ولكن بالبعاد » من باب القول بالموجب كقول الأرّجاني :
ثم قالت أنت عندي في الهوى * مثل عيني صدقت لكن سقاما
فإن قوله « جاد » يوهم أنّ المراد فجاد براحة القرب كما بذلت له روحي فبيّن أنّ المراد ضده بقوله « ولكن بالبعاد » . و « الشقوة » بكسر الشين وسكون القاف الشقاوة خلاف السعادة ، وأظهر التأسف لعدم حصول مطلوبه ، بقوله « فيا خيبة المسعى » بنصب الخيبة والضيعة ، فالأولى مضافة إلى المسعى ، والثانية مضافة إلى الآمال فيقول بذلت الروح طلبا لطيب القرب الذي يفوح ولبدر الوصال الذي يلوح فجاد بخلاف المراد ، وأبعد القرب وقرب البعاد ، فيا ضيعة الآمال وخراب الأعمال ويا طول الأسف وقرب اللهف .
 
22 - وحان له حيني على غرّة  *** ولم أدر أنّ الآل يذهب بالآل
 
[ الاعراب والمعنى ]
« حان » قرب . و « حيني » بفتح الحاء بمعنى الهلاك . و « حين » الثاني بكسر الحاء بمعنى الوقت .
و « غرّة » بكسر الغين المعجمة بمعنى الاغترار بالشيء والانخداع به ، ولم يكن على حقيقة كما يرى الإنسان الآل في وقت الهجيرة فيظنه ماء .
وأما « الآل » فإنه وضع في كلام العرب لمعان منها السراب ومنها الأقارب ومنها الشخص والذات .
 
والمراد من الأوّل الغرة التي هي الاغترار بالشيء والانخداع به من غير أن تكون له حقيقة في نفس الأمر كما يرى الآل ويظن ماء وليس به ، والآل الثاني بمعنى الذات ، والمعنى قرب موتي وذهبت ذاتي على حين الاغترار ، وما كنت أظن أن الآل الذي لا حقيقة له يذهب بالذات ويكون سببا للهلاك . ففي البيت الجناس المحرف بين حين وحين ، والجناس التام في الآل والآل .
 
( ن ) : قوله له ، أي لأجله ، والضمير للمحبوب ذي الخال المذكور سابقا ، وقوله الآل ، أي السراب كناية عن عالم الأكوان المكنى به عما سبق من السلسال كما قدّمناه ، فإن المحب الإلهي إذا تحقق بمعرفة الحق تعالى يتعلق بذلك من حيث صدوره عن الحق تعالى وهو ليس بشيء ، لأن كل شيء هالك إلا وجهه تعالى أي

« 150 »
 
إلا ذاته العلية وليس بيد الكائن إلا الأكوان فإذا تعلق قلبه بها من الحيثية المذكورة كان تعلقه بالسراب فيغترّ به اغترار الظمآن بالشراب . وقوله بالآل وهو الشخص كناية عن نفسه ظاهرا وباطنا وإنما ذهب بنفسه لأن نفسه من جملته ، وهي محمولة بحملته . اهـ .
 
23 - تحكّم في جسمي النّحول فلو أتى *** لقبضي رسول ضلّ في موضع خالي
 
[ المعنى ]
اعلم أن الشيخ يكرر معنى النحول في كلامه بأساليب مختلفة ، وتراكيب غير مؤتلفة . قوله « تحكم في جسمي النحول » اعلم أن تحكم هنا بمعنى ثبت ولزم ، كما يقال فلان تحكمت فيه الحمى أي لزمته وثبتت في جسده ، و « النحول » الرقة وذوب الجسد وتغيره . قوله « فلو أتى » مفرع على تحكم النحول في جسده وثبوت حرارة المحبة في كبده ، أي لما تحكم النحول في جسده نشأ عن ذلك أنه لو أتى لقبضه ملك الموت استمرّ وبقي في موضع خال .
 
هذا على رواية ظل بالظاء المشالة . ويروى « ضل » بالضاد الساقطة ، وعليه فيكون من الضلال أي تاه وتحير في طلب الجسم الذي يريد قبض روحه أي تحير في موضع خال من الجسد . وفي البيت السجع في قوله تحكم في جسمي النحول فلو أتى لقبضي رسول .
 
24 - فلو همّ باقي السّقم بي لاستعان في *** تلافي بما حالت له من ضنا حالي
 
[ المعنى ]
هذا مفرّع على البيت الذي قبله لما أثبت أن النحول تحكم في جسده . قال « فلو همّ باقي السقم بي » يقال هم بفلان أي أراد قتله ، وتحمل في كل مقام على ما يناسبه . قوله « لاستعان » أي طلب الإعانة في هلاكي . « بما حالت له » أي بتحول حالي . « من الضنا » أي النحول والضعف . والمعنى لو همّ ما بقي في جسدي من السقم بتلافي لاستعان فيما همّ به بتحول حالي من الضنا والأسقام .
وفي البيت الجناس التامّ في في وفي تلافي ، وجناس الاشتقاق في حالت وحالي لأنّ الكل من الحيلولة بمعنى التغير . اهـ .
 
25 - ولم يبق منّي ما يناجي توهّمي *** سوى عزّ ذلّي في مهانة إجلالي
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « ولم يبق » بفتح القاف وفتح ياء المضارعة من بقي يبقى على وزن رضي يرضى ، أي لم يبق من وجودي شيء من الأشياء يناجي ، أي يتحدّث بالنحول مع توهمي .
وحاصل البيت أنه لم يبق من وجودي سوى أمور اعتبارية لا يشار إليها في الحس ، وتلك الأمور هي التوهم أي القوّة الوهمية والعز الناشئ عن الذل في مقام المحبة ، فإن ذل المحبة عز والمهانة الحاصلة من إجلالي للحبيب كرامة . وحاصل

« 151 »
 
البيت أن جسده قد ذاب لفراق الأحباب ولم يبق منه صفة من الصفات تحسب في عدد المحسوسات . نعم قد بقي منه وهم يناجي عزه الصادر من ذله في وادي المحبة مع مهانة الجلال للحبيب الموصوف بكمال الجمال ، وجمال الكمال ، والحمد للّه على كل حال .
 
( ن ) : قوله مهانة ، أي ابتذال وحقارة . وذلك في طريق المحبة إجلال وتعظيم ، ومعنى البيت أنه فني في ظهور وجود محبوبه الحقيقي ، واضمحلت رسومه الظاهرة والباطنة ، فلم يبق منه ومن نفسه ما يناجي به نفسه لأنه صار أمرا اعتباريا اعتبره موجده الحق بالوجود الوهمي المحكوم به عند نفسه الموهومة وبنيته المهدومة ، لا في نفس الأمر ، وهذه حقيقة الأكوان عند أولي التحقيق والعرفان وإنما بقي منه ذله وانكساره ، الذي هو عزه وافتخاره ، ومهانته وابتذاله ، الذي هو تعظيمه وإجلاله . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل الأبيات من 01 إلى 62 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:38 pm

شرح هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل الأبيات من 01 إلى 62 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل الأبيات من 01 إلى 62
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة التاسعة هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ]
قال رضي اللّه تعالى عنه :
01 - هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى *** سهل فما اختاره مضنى به وله عقل
 
قوله « هو الحب » كلمة تقال في مقام تعظيم الشيء . وإعرابه هو ضمير عائد إلى حاضر في الذهن وهو مبتدأ خبره الحب ، والجملة بعده استئناف ،
وهذا كما قال أبو العلاء المعرّي :

هو الهجر حتى لا يلم خيال * وبعض صدود الزائرين وصال
 
[ المعنى ]
والمراد هنا تعظيم مقام الحب وتهويله ، كان الذهن استحضره لعظمته وتصوّره لرفعته ، وفسره بقوله « الحب » كأنه هو لا غيره ، ولذلك قال بعد ذلك « فاسلم بالحشا » والفاء في جواب شرط مقدّر ، أي حيثما علمت أن الحبّ في هذه المرتبة العظيمة التي لا يكاد الذهن يتصوّر سواها ، فاسلم بحشاك وإلا ذهب حشاك من شدة هواك .
 
وهكذا يقال في مقام التخويف انج بنفسك ، وأكد ذلك بقوله « ما الهوى سهل » . وقوله « فما اختاره مضنى به وله عقل » مفرع على ما فهم من المصراع الأوّل من تعظيم مقام الحب وتهويل أمره .
 
الإعراب :
الفاء في فاسلم : فصيحة . والباء في قوله بالحشا : للمصاحبة . أي اسلم أيها المتعرض للهوى بحشاك وإلا كنت قتيل هواك . ومضنى : فاعل اختاره .
 
وبه : متعلق به . والواو : حالية . والجملة حال من الفاعل ، أي ما اختار الحبّ رجل يكون مريضا به مرضا مخامرا كلما قرب برؤه نكس ، وكلما استقام أمره عكس ، وهو من ذوي العقول لأن من علم ضرر شيء وعاد إليه كان قليل العقل قطعا .
 
( ن ) : قوله هو الحب ، يعني المحبة الإلهية منه تعالى له تعالى .
قال تعالى : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ المائدة : الآية 54 ]
فإتيانه تعالى بهم تجلية

« 153 »
بصورهم وظهور وجوده بهيّا كلهم ، فإذا أتى بهم يحبهم فيشهدونه متجليا بهم فيحبونه بالمحبة التي أحبهم بها . فالمحبة واحدة والإتيان واحد . وقوله فاسلم خطاب للسالك في طريق اللّه تعالى ، والسلامة هي الموافقة لأمر اللّه تعالى من غير مخالفة .
وقوله بالحشا ، أي بالقلب لأنه موضع نظر الرب من عبده ، فإذا سلم العبد بقلبه من المهالك سلم في الدنيا والآخرة من كل ما يؤذيه مما هنالك . وقوله ما الهوى ، أي الميل النفساني بالاشتهاء الحيواني إلى هذا العرض الفاني . وقوله سهل ، أي ليس هو هينا لا خطر فيه بل فيه الخطر العظيم والهول الجسيم . اهـ .
 
02 - وعش خاليا فالحبّ راحته *** عنّا فأوّله سقم وآخره قتل
[ المعنى ]
قوله « وعش » عطف على أسلم . والمراد من « الخالي » من خلا قلبه من الحب .
قوله « فالحب راحته عنا » جملة تعليلية لما قبلها . أي ما أمرتك أن تعيش خاليا من الحب إلا لأن الحب عناء فما بالك بعنائه . قوله « فأوّله سقم وآخره قتل » بيان لما في الحب من المتاعب ، وهو السبب المقتضي لأمر المخاطب بأن يعيش خاليا منه .
 
الإعراب :
الواو : عاطفة لقوله عش على قوله فاسلم . والحب : مبتدأ أوّل .
وراحته : مبتدأ ثان . وعنا : خبر الأوّل . وفي البيت الطباق بين الراحة والعناء ، وبين الأوّل والآخر والمناسبة بذكر القتل والسقم . اهـ .
 
03 - ولكن لديّ الموت فيه صبابة *** حياة لمن أهوى عليّ بها الفضل
 
« لكن » هنا استدراكية ، وذلك أنه رضي اللّه عنه لما حذر فيما سبق عن الحب ، وصرّح بأنّ السقم في أوّله والموت في آخره . أفهم أنه ليس بمقبول عند أحد . لأن الغالب في الطبيعة البشرية عدم الإقبال على ذلك ، فرفع ذلك بأنّ الموت في الحب عنده عين الحياة بل هو حياة يستحق بها الحبيب أن يوصف بالتفضيل والإحسان .
 
الإعراب :
لكن : حرف استدراك وهو مخفف لم يعمل شيئا . والموت : مبتدأ وفيه متعلق به أي الموت لأجله . وحياة : خبر المبتدأ . وصبابة : منصوب على أنّه مفعول لأجله والعامل فيه الموت ، وجملة لمن أهوى عليّ بها الفضل : جملة اسمية في موضع رفع على أنها صفة حياة .
 
المعنى :
موتي في الحب لأجل الصبابة حياة تفضل بها الحبيب عليّ لأن الموت في المحبة عين الحياة وبه ينال الطالب مناه ، لأنهم لا يرون الوفاء إلا بالوفاة . وفي البيت الإغراب بالغين المعجمة والراء المهملة من الغرابة وذلك أنه جعل الموت عين الحياة لأن الموت في الحب عندهم معدود من الحياة كما تقرّر في وصفه .

« 154 »
 
قال الشيخ السهروردي رضي اللّه عنه :
الشرط بذل النفس أوّل وهلة * لا يطمعن ببقائها الأشباح
وفي البيت الطباق بين الموت والحياة .
 
( ن ) : لكن : حرف استدراك لما سبق قبله من المعنى ، وكأنه جواب عن سؤال مقدّر تقديره أنت قلت بأنّ الحب والعشق أمر عظيم هائل ، وحذرت منه غيرك وأخبرت أنه لا يختاره لنفسه إلا المجنون الذي لا عقل له ، وقلت أنّ أوّله سقم وأنّ آخره قتل .
فما بالك أنت اخترته واتصفت به فأجاب بما ذكره ، وكأنه قال إن الحب والعشق الذي عندي وأنا اخترته ليس كحب غيري وعشقه ، وإن كان الحب والعشق واحدا لا يختلف في نفسه وإنما اختلافه مدحا وذمّا من حيث متعلقه .
وقوله لديّ ، أي عندي وفي نظري لنفسي واختياري ذلك لها .
وقوله الموت فيه حياة لأن الميت خارج عن دعوى حوله وقوّته ، فإذا خرج عن دعواه ذلك ظهر له أن حوله وقوّته لربه لا له فمات الموت الاختياري قبل الموت الاضطراري ، فظهر له حينئذ أن موته حياة له لانكشاف الحياة الحقيقية له القديمة الأزلية .
وقوله لمن أهوى عليّ به الفضل ، أي الذي أهواه له الفضل عليّ بالموت المذكور لأنه حققني به في نفسي فعرفتها فعرفت ربي ، وقد ورد من عرف نفسه فقد عرف ربه . اهـ .
 
04 - نصحتك علما بالهوى والّذي أرى *** مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو
 
[ المعنى ]
اعلم أنّ الخطاب في قوله « فاسلم بالحشا » . وفي قوله « فعش خاليا » لكل من يصلح للخطاب .
وكذا في قوله « نصحتك علما بالهوى » إذ المراد تعميم النصيحة لكل من يصلح للمخاطبة .
قوله « نصحتك » أي بذلت لك النصيحة لأجل علمي بالهوى وما ينشأ عنه من المتاعب أو حال كوني عالما بالهوى .
قوله « والذي أرى مخالفتي » يريد أنّ مقتضى الإيمان بذل النصيحة ، وقد نصحتك لذلك على مقتضى ما عليه عامّة الناس ، وأمّا رأيي بالخصوص وما يقتضيه مرامي فهو مخالفتك لي ، فإن شئت تبعت طريق السلامة وإن شئت سلكت سبيل الملامة . فالذي يحلو لك من الطريقين فاتبعه بغير مين .
 
الإعراب :
علما : مفعول لأجله أو حال على التأويل . وبالهوى : متعلق به .
والذي : مبتدأ وصلته جملة أرى والعائد محذوف أي أراه . ومخالفتي : خبر .
وقوله فاختر لنفسك ما يحلو : فما : مفعول اختر . ولنفسك : متعلق باختر وجملة

« 155 »
 
يحلو صلة ما والفاعل هو العائد . والمراد من قوله ما يحلو الحلاوة المعنوية ، وهي عبارة عن الرضا بالشيء ، وقد توهم بعضهم أنّ في البيت رجوعا حيث قال :
 
نصحتك علما بالهوى ، وقال بعده : والذي أرى مخالفتي : فقد رجع عن الذي قرّره ويظهر لي أنه لا رجوع في البيت لأنّ كلا من الحكمين على طريق خاص وأسلوب معين ، فالنصيحة على أسلوب عامّة الناس في الرغبة عن المضرّة ، والذي اختاره هو ما يخصه ويختاره ، وقد ضمن بعضهم المصراع فيما يتعلق بالقهوة البنية
حيث قال :
فقلت على ما قد حوت من مرارة * رضيت بها فاختر لنفسك ما يحلو
 
( ن ) : الخطاب للسالك ، وقوله علما ، يعني أنه صار عالما بالهوى بعد أن كان جاهلا به . وقوله والذي أرى ، أي أعتقد . وقوله مخالفتي ، أي قولي لك فاسلم بالحشا الخ . وقوله : عش خاليا ، يعني الرأي عندي والاعتقاد أن تخالفني فيما نصحتك به من ترك الهوى ، فإن الهوى سم ودرياق ، فمن أحب وعشق طالبا للوصول إلى الصور الفانية فهو عليه سم ، ومن أحب وعشق طالبا للوصول إلى المصوّر الباقي فهو له درياق من سم الأغيار ، ولما كان الهوى يطيب ويخبث على حسب المهوي به ، نصح فيه ورجع عن نصحه يستكمله ويستوفيه .
ثم قال فاختر لنفسك ما يحلو ، فإن اخترت الهوى فاحترز من قبائحه وتجنب عن فضائحه ، وإن أعرضت عنه فارض أن تكون مع الخوالف ولا تخض المتالف . اهـ .
 
05 - فإن شئت أن تحيا سعيدا فمت به *** شهيدا وإلّا فالغرام له أهل
06 - فمن لم يمت في حبّه لم يعش به *** ودون اجتناء النّحل ما جنت النحل
07 - تمسّك بأذيال الهوى واخلع الحيا *** وخلّ سبيل النّاسكين وإن جلّوا
08 - وقل لقتيل الحبّ وفّيت حقّه *** وللمدّعي هيهات ما الكحل الكحل
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أنّ هذه الأبيات متعلقة برأي الشيخ في اتباع الهوى وترك الاعتناء بما عليه العامّة ، قوله « فإن شئت أن تحيا سعيدا » استئناف مبني على رأي الشيخ ، وما أحسن قوله « فإن شئت أن تحيا سعيدا فمت » كما قال الأوّل :
موت النفوس حياتها * من رام أن يحيا يموت
 
وكلامه رضي اللّه عنه مبني على القواعد الشرعية لأن الشهداء لا يموتون وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( 169 ) [ آل عمران : الآية 169 ]
 
وكلامه في البيت الأوّل إشارة إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم : « موتوا قبل أن تموتوا » والشيخ

« 156 »
يكرّر هذه المعاني على أساليب مختلفة . قال في التائية الكبرى :
هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا * من الحب فاختر ذاك أو خل خلتي
وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن * وأنت حييّ إن تكن صادقا مت
 
و « تحيا » بفتح التاء من باب علم يعلم ، وقوله « شهيدا » حال من فاعل مت ، واعلم أن الشهداء على ثلاثة أقسام :
الأوّل شهيد الدنيا والآخرة ، وهو من قتل في معركة الكفار ، وكان قصده بقتاله أن تكون كلمة اللّه هي العليا ، فأمّا كونه شهيد الدنيا فمعناه أنه لا يغسّل ولا يصلّى عليه ، وأمّا كونه شهيد الآخرة فمعناه أنه يلقى مراتب الشهداء ،
الثاني شهيد الآخرة فقط ، وهو من مات حريقا أو مات غريقا أو قتل ظلما أو مات مبطونا أو مطعونا ، وكذا من مات عشقا أو بالطلق .
الثالث شهيد الدنيا فقط وهو من مات في حال القتال « 1 » ،
 ولم يبق فيه حياة مستقرّة بسبب قتال الكفار ، وبدأ به بسلاحه وسلاح مسلم خطأ أو جهل السبب ، فإن بقيت فيه حياة مستقرّة فلا وإن قطع بموته .
 
فإن قلت لم سمي الشهيد شهيدا قلت لأن اللّه ورسوله شهدا له بالجنة ، أو لأنّ ملائكة الرحمة تشهده ، أو لأنّ اللّه تبارك وتعالى وملائكته شهود له بالجنة ، أو لأنه ممن يستشهد يوم القيامة على الأمم الخالية ، أو لسقوطه على الشاهدة أي الأرض ، أو لأنه حاضر عند ربه حي ، أو أنه يشهد ملكوت اللّه تعالى وملكه .
 
قوله « وإلا » أصله أن لا فإن هي الشرطية ، ولا هي النافية وفعل الشرط محذوف تقديره ولا تمت في حبه .
« فالغرام » له أهل يموتون فيه فالمعنى إن كنت تريد الحياة السعيدة فاجعل نفسك بقتل المحبة شهيدة ، وإن كنت تريد المورد السهل ، فعرّج فإنّ الغرام له أهل ، فهم في حياتهم به يموتون وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( 169 ) [ آل عمران : الآية 169 ]
 
قوله « فمن لم يمت في حبه لم يعش به » لا يظهر للضمير في قوله في حبه مرجع سوى أن نقول إنه راجع إلى الحبيب المفهوم من المقام ، ويجوز أن يرجع إلى الهوى على سبيل المبالغة ، لأن القوم صرّحوا بأنّ من جملة مقامات العشاق مقاما يقال فيه حب الحب ولب اللب .
 
وقد تكلم على هذا المقام الشيخ العارف بربه مولانا عبد الرحمن الجامي في كتابه المسمى بنفحات الأنس . قوله « ودون اجتناء النحل » اعلم أنّ الاجتناء هنا عبارة عن إخراج أقراص العسل من مواضعها ، فيكون في التركيب مضاف محذوف أي دون اجتناء عسل النحل ، أي قبل أن تصل إلى عسل النحل في خلاياه لا بدّ أن تصيبك
..........................................................................................
( 1 ) قوله : وهو من مات في حال القتال الخ . هذه العبارة غير ظاهرة فلتحرّر . اهـ .
 
« 157 »
 
جناية النحل وأذاه ، وذلك لأن القرص قبل حصول القرص ، والجناية قبل الاجتناء ، فمن لم يوطن نفسه على المرارة لا يصل إلى ذوق الحلاوة ، وقد نطق بذلك المتنبي حيث قال :
تريدين لقيان المعالي رخيصة * ولا بدّ دون الشهد من إبر النحل
 
قوله « تمسك بأذيال الهوى واخلع الحيا » أمر بما هو عنده مقبول ، وعلى العين والرأس محمول ، من إظهار دعوى المحبة والتمسك بأسبابها ، فإن التمسك بالأذيال عبارة عن كمال الملازمة ونهاية المقاربة ، فهو ضرب من الكناية ، وأما خلع الحياء فهو عبارة عن طرح أسبابه وخلع أثوابه وإظهار التهتك وإخفاء الوقار وإظهار الخلاعة بترك الأستار ، فإن قلت الحياء مطلوب وهو معدود من شعب الإيمان ، فكيف ساغ للشيخ أن يأمر بخلعه ، قلت لا شبهة في أنّ هوى الشيخ وأمثاله مطلوب مرغوب ، وصاحبه ملسوب بحية الغرام وليس بمسلوب .
 
فيكون المعنى حينئذ اخلع الحياء الداعي إلى ترك هذا الهوى ، فإن هوانا وإن جلب هوانا ، فهو لدينا مقبول وعلى العينين والرأس محمول ، وكيف لا يكون كذلك ومن سلك هذه المسالك فقد ارتقى من الأثر إلى العين وفاز بسعادة الدارين ، ولا شك أن الهوى المقبول معدود عندهم من أسباب الوصول . قوله « وخل » أي اترك واطرح .
 
و « السبيل » الطريق ويجوز فيه التذكير والتأنيث . و « الناسكون » العابدون .
قوله « وإن جلوا » إن هنا وصلية وأمثالها تذكر لمجرّد التأكيد لا للشرط ، ومن ثم لا تحتاج إلى جواب .
و « جلوا » ماض مسند إلى ضمير الناسكين ، وهو من الجلالة بمعنى العظمة ، فكأنه قال : اترك طرائق العابدين الذين لا سلوك لهم في طريق المحبة ، وإن كانوا أجلاء فلا تتبع طريقهم ولا تعاشر فريقهم . قوله « وقل لقتيل الحب وفيت حقه » أي قل أيها المخاطب لمن قتل في الغرام وفيت حقه بتاء مفتوحة للمفرد المخاطب المذكر ، أي قل أنت وفيت حق الحب بسبب أنك قتلت في معركة شهداء المحبة فعلم من ذلك أن حق الحب الموت في رضا الحبيب . وإن لم يحصل له من الوصال حظ ولا نصيب .
 
قوله « وللمدّعي هيهات ما الكحل الكحل » أي قل للمدّعي الذي لم يمت في طريق المحبة ، وما أحسن ما أفاده رضي اللّه عنه ، من أن من لم يمت في الحب فهو مدّع وكل مدّع كذاب ، فمن مات في هواه صدق في دعواه ، ومن استمرّ حيّا مع دعوى الحب فهو كذاب ، وليس معدودا في الحقيقة من أولي الألباب .
 
قوله « هيهات ما الكحل الكحل » من مقول القول أيضا بمقتضى العطف إذ المراد وقل للمدّعي الذي ينطق بلسانه ، ولا يوافق باعتقاد جنانه ، هيهات قد بعد عنك الوصول ونأى عنك القبول ، فإن التكحل المصنوع

« 158 »
 
ليس كالكحل المطبوع ، كما قال المتنبي :
لأنّ حلمك حلم لا تكلفه * ليس التكحل في العينين كالكحل
وقال الشريف الرضي :
هيهات لا تتكلفنّ إلى الهوى * غلب التطبع شيمة المطبوع
 
قوله « ما الكحل الكحل » اعلم أنّ المبتدأ والخبر هنا معرفتان ، ولكن فيهما ما يميز المبتدأ عن الخبر مثل أبو حنيفة أبو يوسف تقدّم أو تأخر هو المبتدأ لأنه في مقام أن يشبه بأبي حنيفة . إذ المعنى أبو يوسف مثل أبي حنيفة .
 كذلك الكحل هنا مبتدأ تقدّم أو تأخر إذ المراد ليس الكحل المجلوب للعين مثل الكحل المخلوق فيها ، والكحل الذي يكون اسم الجنس بضم الكاف وسكون الحاء . وأما الصفة المخلوقة في العين فهي كحل بالتحريك ، وما هنا ليست عاملة لعدم ترتيبها .
 
( ن ) : قوله شهيدا ، أي مشاهدا من الشهادة وهي المعاينة للأمر على ما هو عليه وهي حال ، والحال قيد في الكلام ، يعني لا تمت إلا وأنت شهيد مشاهد لأمر الحق تعالى ، وهو مقام الإسلام التام وصاحبه صاحب ذوق وإحساس لا تخيل ووسواس ، وقوله ومن لم يمت في حبه ، أي الموت الاختياري بوجه أن حوله وقوته لربه لا لنفسه .
 
وقوله لم يعش به ، أي بسبب حبه تلك العيشة الحقيقية الباقية وإنما يعيش بغيره من قوى روحانيته العرضية الفانية ، وقوله ودون اجتناء النحل ما جنت النحل ، النحل ذباب العسل ، وفيه تلميح بقوله تعالى : وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [ النّحل : الآية 68 ] إلى آخر الآية .
 
أي إلى نفوس أهل المعرفة من الأولياء المحققين أولي الذوق والوجدان واليقين ، وكلام الناظم يعني ودون اجتناء واقتطاف عسل علومهم ومعارفهم الإلهية والوصول إلى مقاماتهم ما جنت النحل ، أي ما جرته من الجنايات والبلايا والمحن وكون النحل تجني على من أراد اجتناء عسلها أي تكون سببا لوقوع السالكين في المحن الإلهية والفتن الربانية التي يبتلى بها المريد في طريق اللّه تعالى ، فإنهم الأئمة المرشدون والورثة المحمديون ، والعسل أحد أنهار الجنة الأربعة وهي علوم الفتح الرباني والإلهام الصمداني وهي علوم الصالحين من الأولياء والمقربين .
 
وقوله تمسك بأذيال الهوى ، يعني إذا لم يبق في قدرتك إلا تحصيل آخر أطرافه فاقبض عليه وتعلق به ، ولا يفوتك فإن فيه نجاتك بالإخلاص فيه والتقوى أو هلاكك بعدم ذلك .
 
وقوله واخلع الحيا ، إنما أمر بخلع ثوب الاستحياء لكمال قيامه بالإخلاص والتقوى في ظاهره وباطنه . كما قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما

« 159 »
فَوْقَها[ البقرة : الآية 26 ] إلى آخر الآية .
وكذلك العارف المحقق لا يستحي من الحق لأنه على الحق في ظاهره وباطنه . وقوله وخل سبيل الناسكين ، أي العابدين الزاهدين من أهل الغفلة ، المتوجهين بعلو هممهم إلى عبادة اللّه وطاعته ، المشتغلين بذلك عنه تعالى وعن التوجه إلى معرفته ومعاني تجلياته ، ولا يطلبون ذلك ولا يرغبون فيه وإنما رغبتهم في طاعته وعبادته فقط .
وقوله وإن جلوا ، أي وإن عظموا في عيون عوام المسلمين لرؤيتهم منهم أنواع الطاعات والعبادات في الليالي والأيام من الصلاة والصيام .
 
ولهذا ورد عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه لما أكثر من التهجد والقيام حتى تورمت منه الأقدام ، أنزل اللّه عليهما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ( 2 ) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى( 3 ) [ طه : الآيتان 2 ، 3 ]
يعني أن حكمة نزول القرآن عليك لتذكر بآياته ، وتوصل المؤمنين إلى المعرفة الإلهية بإشاراته فيتوصلون إلى الخشية وهي الإجلال والاحترام قال تعالى :إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ[ فاطر : الآية 28 ]
أي العلماء به تعالى بمعرفته فيعرفون من خلق الأرض والسماوات . وقوله وقل ، أي يا أيها السالك .
وقوله لقتيل الحب ، أي للذي قتله عشقه الرباني ، وقتل المحبة الإلهية الكشف عن نفسه ومعرفته بها بحيث لم يبق فيه لنفسه حركة أصلا وهو الموت الاختياري كما قدمناه وإن بقي بأحواله كلها في ظاهره على ما هو عليه في حياته الدنيوية .
وقوله وفيت حقه ، أي حق الحب وما يقتضيه من نتيجته النافعة في الدنيا والآخرة ، وهي ظهور أمر اللّه تعالى في ظاهر العبد وباطنه .
وقوله وللمدعي ، أي وقل للمدعي الذي يدعي لنفسه بنفسه مقامات العارفين وأحوال الواصلين ، وليس له معرفة ذوقية ووجدانية ، بل هو مؤمن مصدق .
 
وقوله هيهات اسم فعل بمعنى بعد أي الذي أنت فيه من الأحوال النفسانية بعيد جدّا عن الأحوال الوجدانية والأمور الذوقية التي تدعيها بالكذب والبهتان ، وإنما أنت مؤمن بالغيب بعيد من مقام الإحسان .
 
وقوله ما الكحل ، بفتح الكاف وفتح الحاء وهو أن يعلو منابت الأشفار سواد خلقة أو أن تسود مواضع الكحل .
 
وقوله الكحل ، بضم الكاف وسكون الحاء وهو الإثمد وكل ما وضع في العين لتشفى به ، وهذا مثل أصله ( ليس التكحل في العينين كالكحل ) والمعنى ليس الكحل الأسود الموضوع في العين مثل الكحل بالتحريك السواد الخلقي الذي جعله اللّه تعالى في العين .
وكذلك ليس ذوق المعرفة الإلهية ووجدان المعارف الربانية ، والإحساس بالأمور الحق الذي أقام به كل شيء على الكشف والشهود مثل فهم ذلك بالعقل وتخيله بالقوة الخيالية وهو غائب عنه فيدعيه زورا وبهتانا وظنّا وحسبانا .

« 160 »
 
فَوْقَها [ البقرة : الآية 26 ] إلى آخر الآية .
وكذلك العارف المحقق لا يستحي من الحق لأنه على الحق في ظاهره وباطنه . وقوله وخل سبيل الناسكين ، أي العابدين الزاهدين من أهل الغفلة ، المتوجهين بعلو هممهم إلى عبادة اللّه وطاعته ، المشتغلين بذلك عنه تعالى وعن التوجه إلى معرفته ومعاني تجلياته ، ولا يطلبون ذلك ولا يرغبون فيه وإنما رغبتهم في طاعته وعبادته فقط .
وقوله وإن جلوا ، أي وإن عظموا في عيون عوام المسلمين لرؤيتهم منهم أنواع الطاعات والعبادات في الليالي والأيام من الصلاة والصيام .
ولهذا ورد عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه لما أكثر من التهجد والقيام حتى تورمت منه الأقدام ، أنزل اللّه عليه ما:
 أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ( 2 ) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ( 3 ) [ طه : الآيتان 2 ، 3 ] يعني أن حكمة نزول القرآن عليك لتذكر بآياته ، وتوصل المؤمنين إلى المعرفة الإلهية بإشاراته فيتوصلون إلى الخشية وهي الإجلال والاحترام قال تعالى : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [ فاطر : الآية 28 ]
أي العلماء به تعالى بمعرفته فيعرفون من خلق الأرض والسماوات . وقوله وقل ، أي يا أيها السالك .
وقوله لقتيل الحب ، أي للذي قتله عشقه الرباني ، وقتل المحبة الإلهية الكشف عن نفسه ومعرفته بها بحيث لم يبق فيه لنفسه حركة أصلا وهو الموت الاختياري كما قدمناه وإن بقي بأحواله كلها في ظاهره على ما هو عليه في حياته الدنيوية .
وقوله وفيت حقه ، أي حق الحب وما يقتضيه من نتيجته النافعة في الدنيا والآخرة ، وهي ظهور أمر اللّه تعالى في ظاهر العبد وباطنه .
وقوله وللمدعي ، أي وقل للمدعي الذي يدعي لنفسه بنفسه مقامات العارفين وأحوال الواصلين ، وليس له معرفة ذوقية ووجدانية ، بل هو مؤمن مصدق .
 
وقوله هيهات اسم فعل بمعنى بعد أي الذي أنت فيه من الأحوال النفسانية بعيد جدّا عن الأحوال الوجدانية والأمور الذوقية التي تدعيها بالكذب والبهتان ، وإنما أنت مؤمن بالغيب بعيد من مقام الإحسان . وقوله ما الكحل ، بفتح الكاف وفتح الحاء وهو أن يعلو منابت الأشفار سواد خلقة أو أن تسود مواضع الكحل .
 
وقوله الكحل ، بضم الكاف وسكون الحاء وهو الإثمد وكل ما وضع في العين لتشفى به ، وهذا مثل أصله ( ليس التكحل في العينين كالكحل ) والمعنى ليس الكحل الأسود الموضوع في العين مثل الكحل بالتحريك السواد الخلقي الذي جعله اللّه تعالى في العين .
 
وكذلك ليس ذوق المعرفة الإلهية ووجدان المعارف الربانية ، والإحساس بالأمور الحق الذي أقام به كل شيء على الكشف والشهود مثل فهم ذلك بالعقل وتخيله بالقوة الخيالية وهو غائب عنه فيدعيه زورا وبهتانا وظنّا وحسبانا .

« 161 »
 
09 - تعرّض قوم للغرام وأعرضوا *** بجانبهم عن صحّتي فيه واعتلّوا
10 - رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم *** وخاضوا بحار الحبّ دعوى فما ابتلّوا
11 - فهم في السّرى لم يبرحوا من مكانهم *** وما ظعنوا في السّير عنه وقد كلّوا
12 - وعن مذهبي لمّا استحبّوا العمى على *** الهدى حسدا من عند أنفسهم ضلّوا
 
[ المعنى ]
« التعرض » للشيء التصدّي له . وتنكير « قوم » إشارة إلى كونهم مجهولين غير معلومين . و « الغرام » العشق .
قوله « وأعرضوا بجانبهم » أي صدّوا بجانبهم وجعلوا وجهة نظرهم إلى غير صحتي . « والهاء » في فيه للغرام . قوله « واعتلوا » أي ذكروا علة وسببا لإعراضهم عن صحتي بالغرام .
وهو بيت عجيب وفيه معنى غريب ، والمراد من صحته في الغرام ثباته عليه ، وتصميمه على ما يبدو فيه من الأمور التي تحار فيها العقول ويذهب منها المعقول .
قوله « رضوا بالأماني » هي جمع أمنية ، وهي ما يتمناه الإنسان ويطلبه وقد يعتل الإنسان بالأماني ، ويشغل فكره عن تحصيل المطالب والمعاني بترتيب المقاصد والأماني . قوله « وابتلوا بحظوظهم » أي صارت حظوظهم من الدنيا بلاء عليهم . والحظوظ جمع حظ وهو النصيب من الخير أو مطلق النصيب .
 
قوله « دعوى » اعلم أن الدعوى شاعت فيما بين القوم في ادّعاء الأمر المكذوب الذي لا أصل له ، وهي هنا بهذا المعنى لأن المراد وصف قوم ادّعوا المحبة من غير دليل .
ورضوا من الوصال بالخيال فالأماني تخيل لهم الوصال وهم في الانقطاع ودعواهم تقرر لهم الأمن وهم في الارتياع ، وتراهم في السرى وما فارقوا ويتخيلون أنهم ظعنوا مع بعدهم عن الأظعان والعجب أنهم تعبوا وما ساروا وشكوا طول الطريق وهم في الحيرة قد داروا .
قوله « فهم في السرى » أي هم دائما في السرى ، ولكن ليل نفوسهم أضلهم عن الطريق ، وأبعدهم عن مشاهدة الرفيق ، فتراهم يجدّون وهم يرجعون إلى الوراء كأنهم حائرون في التيه لا ينفعهم النصح ولا التنبيه ، وكلما ساروا شبرا رجعوا في السير ميلا ، وحيثما تقدموا طالبين رفيقا فقدوا دليلا . فقد وصلوا إلى مرتبة التعب والكلال وهم في الحيرة والضلال . قوله « وعن مذهبي » متعلق بقوله ضلوا أي وضلوا عن مذهبي .
« لما استحبوا العمى على الهدى حسدا من عند أنفسهم » أي مجرد حسد صادر من أنفسهم من غير دليل ولا بيان ولا طريق ولا برهان ، فلو تركوا حسدهم ورجعوا عن إضلال نفوسهم لاهتدوا إلى المرام ووصلوا إلى المقصود بسلام .
 
الإعراب :
قوله بجانبهم : متعلق بأعرضوا وعن صحتي كذلك ، وفيه متعلق بصحتي . واعتلوا : معطوف على أعرضوا . وقوله وابتلوا : ينبغي أن يضبط ابتلوا مبنيا للمجهول بوصل الهمزة وسكون الباء وضم التاء مع ضم اللام ، أي ابتلاهم اللّه تعالى

« 162 »
 
وكذلك هم ليس عندهم شيء من ذلك ، وإنما يتخيلونه بإفهام عقولهم وتخيلات أفكارهم . وقوله فما ابتلوا ، أي لم يصبهم البلل أصلا من خوضهم تلك البحار التي خاضوها بمجرد دعواهم خوضها . وقوله فهم في السرى وهو سير العارف في عالم الأكوان إلى أن يقطعه فيظهر له نهار عالم الوجود من مطلع الكشف والعيان .
وقوله لم يبرحوا من مكانهم ، يعني هم في سيرهم الذي ساروه لم يذهبوا ولم يزولوا عن حالهم الأوّل وعادتهم وطبعهم وغفلتهم وحجابهم عن ربهم . وقوله في السير ، أي سيرهم من نفوسهم إلى ربهم الذي هو سير السالكين الصادقين في طريق معرفة اللّه تعالى المعرفة الذوقية . وقوله عنه ، أي عن مكانهم الذي كانوا فيه واقفين ، ومكانهم في سيرهم هذا هو نفوسهم الأمارة بالسوء . وقوله وقد كلوا ، أي تعبوا ونصبوا وهم في زعم السير وليسوا بسائرين ، وإنما هم واقفون عند نفوسهم والتعب كله حاصل لأجسامهم يكدونها بالرياضات وشغلهم كله في أعمالهم الظاهرة ونفوسهم على ما هي عليه .
وقوله وعن مذهبي متعلق باستحبوا . ومذهبه هو الاشتغال بالتقوى في القلب موضع نظر الرب تعالى والانهماك في أعمال الباطن فقط . وأما الظاهر فإن التقوى فيه والأعمال الصالحة المرضية تحصل بالتبعية وقوله لما استحبوا العمى على الهدى ، المعنى بالعمى هنا زيادة الغفلة في النفس والقلب ، وعدم التيقظ لأمر اللّه تعالى ، والانهماك في عمل الجوارح بالقوى النفسانية مع الإعراض عن اللّه تعالى ، وعدم الالتفات إلى تجلياته وظهوراته في آثار قدرته الكلية وفيه اقتباس من قوله تعالى : وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [ فصلت : الآية 17 ] .
 
وقوله حسدا تمييز أو مفعول من أجله . وقوله ضلوا نقيض اهتدوا ، ولا شك أن من استحسن العمى على الحق وترك الرشاد وارتكب الحسد فإنه ضل عن سواء الطريق . اهـ .
13 - أحبّة قلبي والمحبّة شافعي لديكم *** إذا شئتم بها اتّصل الحبل
14 - عسى عطفة منكم عليّ بنظرة *** فقد تعبت بيني وبينكم الرّسل
15 - أحبّاي أنتم أحسن الدّهر أم أسا  *** فكونوا كما شئتم أنا ذلك الخلّ
 
[ الاعراب والمعنى ]
« أحبة قلبي » منادى مضاف أي يا أحبة قلبي . المراد قوم يحبهم قلبي . وقوله « عسى » عطفة جواب النداء وما بينهما اعتراض . وذلك قوله « والمحبة شافعي » .
 
و « لديكم » متعلق بشافعي . وقوله « إذا شئتم » قيد للشفاعة أي تشفع لي المحبة عندكم إذا أذنتم في الشفاعة ، فيكون ناظرا إلى قوله تبارك وتعالى : مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [ البقرة : الآية 255 ]
وقوله « بها اتصل الحبل » جملة تصلح أن تكون خبرا

« 163 »
 
بعد خبر لقوله « والمحبة » ويجوز كونها جملة مستأنفة لبيان أن المحبة هي سبب الاتصال ، كما أن ضدها سبب الانفصال واتصال الحبل عبارة عن دوام المحبة وانتظام أسباب المودة . وقال الشاعر :
كأن لم يكن بيني وبينكم هوى * ولم يك موصولا بحبلكم حبلي
 
قوله « عسى عطفة » اعلم أن عسى ترفع الاسم وتنصب الخبر والغالب في خبرها أن يكون مضارعا مقترنا بأن المصدرية ، ويقل كونه مضارعا بدون أن تشبيها لها بكاد ، وورود خبرها اسما شاذ على حد قوله ( لا تلحني إني عسيت صائما ) ، وقوله ( عسى الغوير أبؤسا ) .
فعسى التي في البيت يجوز أن تجعل خبرها محذوفا والتقدير عسى عطفة كائنة منكم .
و « علي » صلة عطفة . وكذا « بنظرة » يقال عطف بالنظر أي توجه .
 
قوله « فقد تعبت بيني وبينكم الرسل » أي طلبت منكم عطفة لعلكم أن تلتفتوا إليّ بنظرة أراكم بها فإن الرسل قد تعبت بيني وبينكم ، ولم يفد ترددها شيئا فحيث لم يفد الترسل ولم ينتج التوسل فقد لجأت إلى طلب الرحمة والانعطاف ، فأنتم أهل الإنجاد والإسعاف .
 
ثم قرر أنهم أحبة على كل حال وإليهم يرجع منه المآل ، ولو لم يعطفوا عليه ولم ينظروا إليه .
وما أحسن تعريف الطرفين في قوله « أحباي أنتم » أي ليس لي حبيب سواكم ، ولا أتمنى سوى لقياكم ، وقوله « أحسن الدهر أم أسا » من محاسن العبارات ولم يقل أحسنتم أم أسأتم لأنه لا يريد نسبة الإساءة إليهم ولا على سبيل الترديد .
قوله « فكونوا كما شئتم » أي اجعلوا فعلكم الظاهر تابعا لمشيئتكم في الباطن ، فمهما رأيتم فهو الصواب وعليه تثبت إرادة الألباب .
وقوله « أنا ذلك الخل » أي المعهود الذي لا يخالف عقد العهود ، فلا تغيره الأيام والليالي ، ولا تحوله حوادث الدهر عن وداده في المدد الخوالي .
 
( ن ) : أضاف الأحبة إلى قلبه لصدقه في محبتهم وخطابه بالنداء للحضرات الإلهية حضرات الأسماء والصفات الظاهرة بآثارها في عوالم الإمكان .
وقوله والمحبة شافعي لديكم يعني لا وسيلة لي إلى قربكم والوصول إلى لقائهم إلا محبتي لأن عملي لكم واعتقادي فيكم من واجبات عبوديتي وما بقي عندي إلا المحبة فهي الشافعة لي في تحصيل القرب .
وأيضا فإن المحبة القديمة من أوصافه تعالى لخلقه قال تعالى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ المائدة : الآية 54 ]
وقوله بها اتصل الحبل ، أي بسببها ، والضمير للمحبة . قال تعالى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [ آل عمران : الآية 103 ]
وحبل الله هو القرآن طرفه الأعلى بيد اللّه وهو جهة كونه كلامه القديم ، وطرفه الآخر النازل بأيدينا ، وهو كوننا نقرأه ونفهم معناه ونؤمن به ونعمل بمقتضاه ،

« 164 »
 
فمن تمسك به وسار على طريقة ما فيه وصل إلى اللّه تعالى ومن تركه وعدل عن العمل بمقتضاه انقطع به ولم يتصل به الحبل . وقوله عسى عطفة منكم علي بنظرة ، الخطاب للحضرات الإلهية الظاهرة بالآثار الكونية .
المعنى أنه يترجى من أحبته أن يحنوا عليه ويعطفوا بنظرة منهم إليه ، وهي نظرة الاعتناء بشأنه والإصلاح لظاهره وباطنه .
وقوله فقد تعبت بيني وبينكم الرسل وهم الأنبياء المرسلون من اللّه تعالى إلى الخلق لإصلاحهم على طبق شريعة اللّه تعالى التي حكم بها على كل أمة من الأمم بحسب ما يناسبهم في الإصلاح .
والمعنى أن النفوس الأمارة بالسوء من الأمم أتعبت الرسل عليهم السلام في إصلاحها وإيصال التوحيد إليها حتى أمرهم اللّه تعالى أن يقنعوا منهم بإصلاح ظواهرهم ، وهو سبحانه يتولى بواطنهم .
وقوله أحباي ، منادى حذف منه حرف النداء وهم أحبته المذكورون في البيت السابق .
وقوله أنتم مبتدأ خبره محذوف تقديره موجودون بتحقيق الوجود لكم ، ويجوز أن يكون أحباي مبتدأ ، وأنتم خبره . يعني أنتم أحباي على كل حال لا أتحول عن محبتكم أبدا .
وقوله أحسن الدهر أم أسا ، أي سواء كان الدهر محسنا أو مسيئا .
والدهر من جملة الأسماء قال صلى اللّه عليه وسلم : « لا تسبوا الدهر فإن اللّه هو الدهر » .
وإنما عدل الناظم عن صريح اسم اللّه تعالى أدبا أن تنسب الإساءة إليه سبحانه جريا على عادة العرب في نسبة الأمور إلى أسبابها الظاهرة .
وقوله فكونوا ، أي ابقوا ودوموا . وقوله كما شئتم ، أي على الوصف الذي أنتم فيه بمقتضى مشيئتكم القديمة الأزلية .
وقوله أنا ذلك الخل ، أي المعهود الذي لا محبة كمحبتي ، لأن محبته محبة محمدية موروثة موجبة للشكر في السراء ، والصبر في الضراء ، وهي المحبة الذاتية الظاهرة بالتجليات الباهرة . اهـ .
 
16 - إذا كان حظّي الهجر منكم ولم يكن *** بعاد فذاك الهجر عندي هو الوصل
 
[ الإعراب والمعنى ]
الأولى في البيت أن يقرأ « الهجر » بالرفع على أنه اسم كان وهو بفتح الهاء بمعنى الترك .
و « حظي » خبرها . وحاصل البيت أن الصد مع القرب خير من البعاد .
وقد وقع هذا في كلامهم كثيرا . قال الأول على أن قرب الدار خير من البعد .
وقال شرف الدين بن عنين :
عبء الصدود أخف من عبء النوى * لو كان لي في الحب أن أتخيرا
 
وقال ابن الخياط الدمشقي :
يا عمرو أي خطير خطب لم يكن * خطب الفراق أشدّ منه وأوبقا
كلني إلى عنف الصدود فربما * كان الصدود من النوى بي أرفقا

« 165 »
 
« ويكن » تامة أي ولم يوجد بعاد . و « الفاء » في قوله فذاك الهجر عندي رابطة للجواب بالشرط وهو ضمير الفعل ، وهو لتأكيد الهجر المستفاد من تعريف الطرفين ، أي ذلك هو الأصل لا غير قطعا .
والإتيان باسم الإشارة للبعيد مع قرب ذكره تعظيما للهجر عند المعنف لكونه مطلوبا له بسبب كونه حاصلا في القرب . وفي البيت الطباق من ذكر الهجر والوصل .
 
( ن ) : المعنى بالهجر هنا ترك المناجاة الإلهية في السر وعدم الاعتناء من الرب تعالى بالعبد بعدم الحفظ له من طوارق الأمور المزعجة وتأخير الإجابة له في الدعاء . والضمير في منكم للأحبة المذكورين .
وقوله ولم يكن بعاد ، حيث كان الهجر للتأديب وحثا على التوبة والأوبة فما هو هجر في المعنى ولا هو إعراض بل هو إقبال وطلب ومزيد اعتناء بالعبد ما لم يكن ذلك الهجر إبعادا وطردا . اهـ .
18 - وما الصّدّ إلّا الودّ ما لم يكن قلى *** وأصعب شيء غير إعراضكم سهل
 
[ الاعراب والمعنى ]
« وما الصدّ إلا الودّ » أي ليس الصدّ شيئا غير الودّ والمحبة إذا لم يكن صادرا عن قلى وبغض ، فإن الصدّ إذا كان عن الدلال دون الملال فهو من مطالب المحبين ومن مقصاد العاشقين .
وما ألطف قول القائل :
ويدل هجركم على * أني خطرت ببالكم
وقال أبو تمام :
وخلصني من غمرة الموت أنه * صدود دلال لا صدود ملال
 
وقد أجمع أهل المحبة على أن إعراض الحبيب إذا لم يكن صادرا عن غيظ وبغض كان مقاربا للوصال ، ومقارنا لانتظام الأحوال .
واعلم أن قلى في البيت خبر يكن واسمها ضمير يعود إلى الصدّ .
أي ما لم يكن ذلك الصدّ قلى ، ويجوز أن يكون قلى فاعل يكن على أنها تامة .
أي ما لم يوجد من الحبيب قلى وبغض . « وأصعب » مبتدأ مضاف إلى شيء .
و « غير » يجوز فيها الجرّ والنصب على الصفة أو الحالية .
 
و « سهل » خبر المبتدأ أي وأصعب الأشياء منكم ما لم يكن ذلك الشيء إعراضا منكم فإنه سهل . فالقلا عين البلا والإعراض سبب لشدّة الأمراض ، وإلا فالصدّ مع الودّ سهل ولا بد .
كلهم يطلبون وصلا وقربا * ومرادي من الزمان رضاكا

« 166 »
 
( ن ) : قوله وما الصدّ الخ . يعني أن الإعراض منكم عني بحسب ظاهر الحال كما مرّ ليس هو إلا الإقبال والمحبة ، فإن سوء معاملة الرب للعبد المؤمن في الدنيا قد تكون إصلاحا في حقه . قال صلى اللّه عليه وسلم : « إذا أراد اللّه بعبده خيرا عجّل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد اللّه بعبده الشرّ أمسك عنه حتى يوافي به يوم القيامة » .
وأما إذا كان الصدّ والإعراض عن بغض وكراهة للعبد ، كان وبالا على العبد وعقابا له فأصعب البلايا سهل دون هذا الإعراض . اهـ .
18  - وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم  *** عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل
 
[ الاعراب والمعنى ]
« وتعذيبكم » مبتدأ مضاف إلى كاف الخطاب مع ميم الجمع . و « العذب » السائغ السهل المقبول . و « لدي » متعلق بعذب ، أي هو عندي وفي اعتقادي عذب ، وإن كان الغير يراه عذابا فإني أرى الخطأ منكم عندي صوابا . « وجوركم » مبتدأ .
و « عدل » خبره . و « بما » متعلق بجوركم أي جوركم عليّ بما يقضي به الهوى لكم من البعد والصدّ والإعراض عدل عندي وقيد كون العذاب عذبا وكون الجور عدلا بأن ذلك عنده وفي اعتقاده وإن اعتقدت خلاف ذلك قلوب عذاله وحساده ، وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين العذب والتعذيب ، والطباق بين الجور والعدل ، وفيه السجع في قوله عذب لدي وجوركم عليّ .
 
( ن ) : قوله وجوركم نسب الجور للأحبة على مقتضى حال المحب العاشق فإنه يجد عدم جريان المحبوب على مقتضى حاله وما يطلبه هواه من دوام الوصل جورا وظلما له من محبوب حكيم يفعل ما هو الأكمل من الأمور .
وقوله عدل إنما كان جور المحبوب على محبه وظلمه له عدلا منه في حقه لأن الظلم منع الحق عن صاحبه ، ولا حق هنا للمحب على محبوبه لأن المحب هو الذي تحرّش بالمحبوب فأحبه وعشقه لما رأى حسنه وجماله والظلم أيضا وضع الشيء في غير موضعه والمحبوب حكيم يضع كل شيء في موضعه فكل حكم منه عدل وكل نقمة منه فضل . اهـ .
 
19 - وصبري صبر عنكم وعليكم *** أرى أبدا عندي مرارته تحلو
 
[ المعنى ]
اعلم أن الصبر باعتبار متعلقه ينقسم إلى قسمين فصبر عن الحبيب باعتبار أنه تحمل البعد عنه ، ورضي أن لا يراه ، ولا يتلذذ بلقياه ، وصبر عليه بمعنى أنه تحمل مشاق صده ورضي بما يكابده من إعراضه وبعده راضيا بما يرضاه .
وإن كان في تحمله طعم الوفاة فالأوّل لا يقدر عليه العشاق والثاني يتحمله الصادق من الرفاق .
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل الأبيات من 01 إلى 62 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:38 pm

هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل الأبيات من 01 إلى 62 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل الأبيات من 01 إلى 62
« 167 »
والشيخ كثيرا ما يكرر هذا المعنى في شعره قال :
فصبري أراه تحت قدري عليكم * مطاقا وعنكم فاعذروا فوق قدرتي
 
وقال رضي اللّه تعالى عنه :
والصبر صبر عنهم وعليهم * عندي أراه إذا أذى أزاذا
و « الصبر » الأول نقيض الجزع .
والثاني أصله بفتح الصاد وكسر الباء على وزن كتف .
وهو هنا كالأول مفتوح الصاد ساكن الباء ولا يخالف وزن كتف إلا لضرورة الشعر وقد استعمله على أصله أبو تمام في قوله :
لا والذي هو عالم أن النوى * صبر وأن أبا الحسين كريم
 
الإعراب :
صبري : مبتدأ . وعنكم : متعلق به ، والخبر صبر والذي يتعلق به عليكم محذوف ، أي وصبري عليكم أرى مرارته تحلو عندي وإنما قيد بقوله عندي لأن لكل عاشق مذهبا ( وللناس فيما يعشقون مذاهب ) .
وفي البيت الجناس التام في صبر وصبر ، والطباق في عنكم وعليكم ، وفي المرارة والحلاوة .
 
20 - أخذتم فؤادي وهو بعضي فما *** الّذي يضرّكم لو كان عندكم الكلّ
 
[ الاعراب والمعنى ]
المعنى المفهوم من هذا البيت كرره الشيخ في أبيات كثيرة ، وهذه عادته في البيان الصريح ، واللفظ المليح . والبيت ظاهر اللفظ والمعنى .
و « لو » في قوله لو كان عندكم الكل شرطية حذف جوابها لدلالة ما قبله عليه ، أي لو كان عندكم الكل ما ضركم وجوده شيئا . وفي البيت الطباق بين البعض والكل .
 
( ن ) : الخطاب للأحبة الظاهرين له بطريق التجلي بالأسماء والصفات في آثارها الكونية ، وإنما هو واحد بالذات كثير بأنواع الظهور والتجليات . وقوله لو كان عندكم الكل ، أي كل بدني بجميع أجزائه أيضا مع أن الكل عند الأحبة أيضا .
قال تعالى : وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [ الرّعد : الآية 8 ]
أي مجرّد مقادير عدمية لا أعيان لها عنده تعالى . وقال تعالى : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ( 21 ) [ الحجر : الآية 21 ]
وقد أراد الناظم بقوله لو كان عندكم الكل ، أي لو رجعت إلى أصل التقدير العلمي وزال عني لبس الوجود بالتجلي فكنت كما كنت وكان كما كان .
 
قال العارف الشيخ عبد الكريم الجيلي قدّس اللّه سره :
تعالوا بنا حتى نعود كما كنا * فلا عهدنا خنتم ولا عهدكم خنا

« 168 »
 
نأيتم فغير الدّمع لم أر وافيا سوى زفرة من حرّ نار الجوى تعلو
« نأيتم » من النأي وهو البعد . و « الفاء » في قوله فغير الدمع تدل على تفريع ما بعدها على ما قبلها ، فإن عدم وفاء جميع الأصدقاء سوى الدمع والزفرة التي علت بالعين المهملة أو بالغين المعجمة فإن النار توصف بالعلو وبالغلو ، أما كونها عالية أي رفيعة ذاهبة إلى جانب المحيط فذلك من كثرتها وقوّتها ، وأما كونها غالية بالمعجمة .
فمن قولك غلا في الأمر غلوا إذا جاوز حدّه ناشىء من النأي . وقوله « سوى زفرة » يشبه تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وحاصل الأمر أن له صديقين وفيين بعهده بعد بعد أحبابه ونأي أصحابه وهما الدمع والزفرة والبكاء والحسرة .
وما أحسن قول القائل :
وعما قليل لا دموعي ولا دمي * ترين ولكن لوعتي وتحرقي
 
( ن ) : قوله نأيتم ، أي أعرضتم عني أيها الأحبة المذكورون فلم تتجلوا بي عليّ ، وحجبتموني بي عنكم ، ثم أخذ يشكو حاله وما يقاسيه في طريق المحبة .
فقال إنّ الدمع فاض فوفّى بعهد محبتي ، وفرّج عني بعض ما أجد ووفّى لي بالعهد أيضا التنفس الشديد والتحرّق المديد وتنكير الزفرة للتعظيم والتهويل .
وقوله تعلو بالعين المهملة ، أي ترتفع ولو كانت « 1 » بالمعجمة لكانت تغلي بالياء لأن الغليان يائي . اهـ .
 
22 - فسهدي حيّ في جفوني مخلّد *** ونومي بها منيت ودمعي له غسل
 
[ الاعراب والمعنى ]
ثم أخذ يذكر أحواله وما بدّل حاله بقوله « فسهدي » السهد بضم السين الأرق ، وفعله سهد كفرح وحياته عبارة عن بقائه وتأثيره في الجفن ، و « مخلد » خبر بعد خبر .
 
و « في جفوني » متعلق بحي . و « نومي » مبتدأ . و « ميت » خبر . وهو بتسكين الياء . وذكر بعضهم أن الميت بالتخفيف من اتصف بالموت بالفعل .
وأن الميت بالتشديد من حضرته الوفاة ولم يمت بعد . و « دمعي » مبتدأ . و « غسل » خبر وله متعلق به .
ولا يخفى حسن البيت فإن النوم في مقابلة السهد طباق وكذلك الحي والميت ، والضمير في بها للجفون ولا تخفى المناسبة في ذكر الموت والغسل للميت وهو النوم .
قال الشيخ في التائية :
فإنسانها ميت ودمعي غسله * وأكفانه ما أبيض حزنا لفرقتي
..........................................................................................
( 1 ) لو كانت لم تكن كما قال إذ ليس ذلك بلازم كما تقرر أوّلا . اه .

 
« 169 »
 
هوى طلّ ما بين الطّلول دمي فمن جفوني جرى بالسّفح من سفحه وبل
 
[ الاعراب والمعنى ]
يقال « طل » الدم لازما ، أي ذهب هدرا ، وطل بالطاء أكثر ، وطللته أنا أي أهدرته ، وفاعل « طل » ضمير يعود للهوى . و « دمي » مفعوله . فالهوى صير دمه هدرا ، ولكن قوله « فمن جفوني » الخ . يدل على أن المراد من طل سكب فتأمل . ومن جفوني : متعلق بجرى . و « وبل » فاعل جرى . و « بالسفح من سفحه » متعلقان بجرى .
 
والوبل والوابل : المطر الكثير . وفي البيت شبه جناس الاشتقاق بين طل والطلول ، والجناس التام بين سفحه والسفح ، لأن السفح الأول موضع ، والثاني مصدر سفح السحاب المطر أي سكبه وأنزله .
 
( ن ) : قوله هوى ، بدل من الجوى في قوله : من حر نار الجوى ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هو هوى بضمير راجع إلى الجوى أو التقدير عندي هوى خبر مقدم ومبتدأ مؤخر وتنكير للتعظيم . وقوله الطلول بلام العهد ، أي ما بقي شاخصا من آثار دار الأحبة المعهودة لي سابقا وهي عامرة بهم ، كناية عن جسده البالي بتراكم الأشواق ، فإن نفسه لما كانت مدبرة له عن أمر اللّه تعالى كان عامرا بالأرواح المنفوخة فيه ، وهو غافل عن الأمر الرباني والشأن الرحماني ، وجمع الطلول باعتبار تجدد جسده البالي مع الأنفاس القائم بأمر اللّه تعالى أيضا .
 
ثم أنه لما انكشف له أمر ربه انعزلت نفسه عن تدبيره وظهر له التدبير الإلهي فماتت نفسه الأمارة بالسوء وحييت المطمئنة ، ولم يبق من دار جسمانيته إلا الأثر وانتظام طبيعته ومزاجه الحيواني قد انتثر . وقوله فمن جفوني ، أي من أغطية عيوني عين قلبي وعيون حواسي الخمس .
 
وقوله جرى بالسفح ، أي بسفح جبل مزاجي وطبيعتي والمعنى أن ذلك الهوى جعل دمي هدرا من تذكري أحبابي الذين هم تلك الحضرات الإلهية المتصرفون سابقا في بدني ظاهرا وباطنا ، فلما ماتت نفسي وهدر دمي وكان خراب بنيان جسدي بحيث صار كالأطلال البالية ترتب على ذلك جريان مياه المعارف والعلوم الإلهية من أغطية عيوني أي حجب حواسي وعقلي على سفح مزاجي المنجبل من الطبائع والعناصر والأخلاط الأربعة . اهـ .
 
24 - تباله قومي إذ رأوني متيّما *** وقالوا بمن هذا الفتى مسّه الخبل
 
[ المعنى ]
« تباله » على وزن تفاعل ، ومعناه أظهر قومي البله وعدم الإدراك ، وليسوا بلها وإنما تبالهوا في هذا العلم لأنهم لا يرون الحب مذهبا ، ولا يعتقدون رشدا لمن صبا ، فيكرهون انتساب من هو منهم إلى مقام المحبة ، ولا يسمحون بادّعاء ذلك ولو كان

« 170 »
 
مقدار حبة . و « إذ » متعلق بقوله تباله وهي إما للظرفية أو للتعليل وعلى الأول فالتعليل مفهوم من قوّة الكلام . قوله « وقالوا » الخ .
بيان لتبالههم كأنهم أظهروا جهلهم بسبب ما جعله متيما فسألوا عن سبب خبله ، ولم يفرقوا بين وبله وطله . و « من » في قوله بمن استفهامية .
و « الباء » متعلقة بمسه والفتى عبارة عن الشيخ المتكلم .
 
الإعراب :
متيما : مفعول ثان إن كانت الرؤية علمية ، وإن كانت بصرية فقوله متيما يكون حالا . وقالوا : عطف على تباله . والهاء : للتنبيه . وذا : مبتدأ .
والفتى : صفة ، وجملة مسه الخبل خبر المبتدأ . وبمن : متعلق بمسه ومن عبارة عن الحبيب ، أي بأي حبيب مسه الخبل وأغرقه من المحبة الوبل . و « الخبل » الجنون وفساد الأعضاء .
 
25 - وماذا عسى عنّي يقال سوى غدا *** بنعم له شغل نعم لي بها شغل
 
[ المعنى ]
هذا البيت نشأ معناه من البيت الذي قبله ، كأنه استشعر من تباله قومه عن سبب هواه ، وما الذي أوقعه واستهواه أنهم لا يرون مقام المحبين رفيعا ، ولا يجدون حصن هواهم منيعا . فقال « وماذا عسى عني يقال سوى غدا » إلى آخره يريد أن غاية تشنيعهم عليّ ونسبة القبح إليّ بكوني ذا شغل بالحبيبة المعروفة .
« بنعم » بضم النون وسكون العين المهملة ، فأنا أصرح بنسبة ما استقبحوا نسبته ، وأصدّق من وصفني بالحب ولا أكذب صفته . نعم لي بها شغل عظيم ، وليس لي إباء عن الوصف الذي يجلب الحب ، ورضيت بما قالوا من العشق والهوى وإن كان وصفا منه ينصدع اللب .
 
الإعراب :
ما : مبتدأ . وذا : اسم موصول في محل رفع على أنها خبر . وعسى :
فعل ماض يرفع الاسم وينصب الخبر واسمها ضمير يعود إلى ذا . وعني : متعلق بيقال . ويقال : مجهول نائب فاعله ضمير عائد إلى الموصول والجملة في محل نصب على أنها خبر عسى . وغدا : بمعنى صار ترفع الاسم وتنصب الخبر . وله خبرها مقدم . وشغل : اسمها مؤخر . ونعم : جواب لكلام مقدّر ، كأنه قيل له هل ما قيل عنك من الشغل بنعم له أصل .
فقال : نعم لي بها شغل . والتنكير في شغل للتعظيم أي شغل عظيم . وفي البيت الجناس المحرّف بين نعم ونعم .
 
( ن ) : كنى بنعم عن الحضرة الإلهية الاسمائية . وقوله له شغل ، أي هو مشغول بحبها وتجليها عليه بالآثار الكونية من الروحانية والجسمانية .
وقوله نعم لي بها شغل ، أي عن كل شيء بل هو عن نفسه وأحوالها . والقائل ذلك غائب عن شغله الذي هو

« 171 »
 
مشغول به لا يعرفه فيظن أنه مشغول بغير تلك الحضرة المذكورة ولا يعلم أنه لا شغل إلا بها . اهـ .
26 - وقال نساء الحيّ عنّا بذكر *** من جفانا وبعد العزّ لذّ له الذّلّ
 
[ الاعراب والمعنى ]
« عنا » هنا بفتح العين وتشديد النون بعدها ، هو اسم فعل بمعنى تنح . و « بذكر » متعلق به . و « من » اسم موصول عبارة عن المتكلم . و « لذ » معطوف على جفانا ، أي جفانا ولذ له الذل بعد العز ، والمراد الإخبار عن نساء الحي بأنهن كرهن ذكره ، وقلن قد جفانا ولذ له الذل بعد العز وذلك بمحبته غيرنا .
وهذه عادة نساء العرب يظهرن الغيرة إذا مال بعض فتيان الحي إلى مليحة في حيّ آخر . وفي البيت الطباق بين العز والذل ، والجناس في لذ له والذل .
 
( ن ) : المعنى أن من عرف اللّه تعالى وتحقق به عرف فناء كل ما سواه سبحانه ، فلا يكون عنده عز إلا عز الحق تعالى ، وعز الإيمان والإسلام له والانقياد إليه ، ما عدا ذلك من الأكوان كله ذل وهوان . اهـ .
27 - إذا أنعمت نعم عليّ بنظرة فلا  *** أسعدت سعدى ولا أجملت جمل
 
[ الاعراب والمعنى ]
« نعم » بضم النون وسكون العين المهملة . و « سعدى » بضم السين وسكون العين المهملة وآخره ألف مقصورة . و « جمل » بضم الجيم وسكون الميم ، والثلاثة أسماء محبوبات مشهورات بين الناس . وانظر إلى ما في ذكر الأسماء الثلاثة من الجناس في أنعمت ونعم ، وأسعدت وسعدى ، وأجملت وجمل .
إذا أنعمت نعم عليّ بنظرة أنظرها إليها ، فلا أسعدت سعدى بوصلها ولا أجملت جمل بفضلها . يريد بذلك أنه يريد واحدا وهو معشوقه ، وما عداه عنده في حكم المعدوم ، وهذا البيت جواب لما قاله نساء الحي فكأنه قال لا أبالي بنساء الحي ولا بمقالتهن في النشر والطي ، فنعم مرامي وبيدها زمامي ، وما عداها فليس بمراد ، ولا أعبأ بما يأتي منهن من الإسعاف والإسعاد .
إذا ظفرت من الدنيا بقربكم * فكل ذنب جناه الدهر مغفور
 
( ن ) : نعم ، كناية عن الحضرة الإلهية . وقوله بنظرة ، أي بنظرة منها إليّ اعتناء بي وبأحوالي ، أو بنظرة مني إليها بأن أراها في آثار أفعالها متجلية بستائر الأكوان ، وملابس الصور والأعيان . اهـ .
 
28 - وقد صدئت عيني برؤية غيرها *** ولثم جفوني تربها للصّدا يجلو
 


« 172 »
 
[ الاعراب والمعنى ]
يقال « صدىء السيف » مهموز اللام إذا لبسه الصدأ ، وهو سواد ينشأ عن وسخ يربو بتطاول الأيام . ويقال « صدئت العين » أي وقع على جرمها المشرق غبار أسود فمنعها من اجتلاء الأشياء المرئية ، كما يقع على جرم المرآة ما يورثها صدأ يمنعها من انعكاس الأنوار إليها .
ولا شك أن الشيخ يريد صدأ مرآة وجوده بمشاهدة الأغيار ومباعدة المزار بعد قرب الدار .
قوله « ولثم » مصدر لثم فاها كسمع وضرب قبلها ، وهو مضاف إلى جفوني وهي فاعل .
و « تربها » مفعول . و « للصدا » متعلق بيجلو . واللام في للصدا لام التقوية لتقدم المعمول إذ يقع أن يقال يجلو الصدا ، لكن لما تقدّم المعمول على العامل ضعف العامل فدعموه باللام ، ولذلك تسمى لام الدعامة .
ولثم : مبتدأ مضاف إلى جفوني وتربها مفعوله ، وجملة يجلو للصدا خبره ، وفي البيت المقابلة بين الصدا والجلاء .
 
( ن ) : قوله غيرها ، أي غير نعم المكنى بها عن الحضرة الإلهية . وقوله جفوني ، أي أغطية عيوني كناية عن حجبه الوهمية وهي حواسه الظاهرة والباطنة .
والضمير في تربها عائد إلى نعم المكنى بها عما ذكر . وكنى بتربها عن الصور الجسمانية التي هي آثار أسمائها أو صفاتها . ولثم ذلك كناية عن النظر في انحلال تراكيبها ، وإرجاعها إلى التراب الذي هو معظم أجزائها . وقوله للصدا يجلو ، الصدا بالقصر وحذف الهمزة لضرورة الوزن ، فإذا انجلى وانكشف عن عين قلبه وسخ الأغيار ظهرت له الأسرار وتجلت له حضرة الواحد القهار بفناء أستار الآثار . اهـ .
 
29 - وقد علموا أنّي قتيل لحاظها *** فإنّ لها في كلّ جارحة نصل
 
[ الاعراب والمعنى ]
« وقد علموا » أي قومي المذكورون قبل ذكل . وقوله « أني قتيل لحاظها » أي المحبوبة الحقيقية السابق ذكرها . و « اللحاظ » بالفتح مؤخر العين بالكسر سمة تحت العين ، كناية عن تجلياتها بالصور الإنسانية الكاملة ، وكونه قتيل تلك اللحاظ أي متوصلا بها إلى الفناء والاضمحلال في الوجود الحق بطريق الإرشاد والتعريف بالهمم الربانية من قلوب المشايخ الكاملين . وقوله « فإن لها » أي لتلك اللحاظ المذكورة .
 
وقوله « في كل جارحة » أي عضو من أعضائي . وقوله « نصل » النصل حديدة السهم والرمح والسيف ما لم يكن له مقبض ، وهو القوّة التي يظهر للعارف أنها من أمر اللّه تعالى فإنها سارية في كل عضو منه وإنما يظهرها له ويعرفه بها شيخه الكامل المحقق بهمته الربانية .
 
فكأنما هي صادرة منه لكمال توجهه عليه بالأمر الإلهي . وقوله فإن لها بكسر الهمزة حذف اسمها ، وهو ضمير الشأن والتقدير فإنه أي الشأن . وقوله نصل :

« 173 »
 
خبرها . قال ابن هشام في المغني وقد يرتفع المبتدأ بعد إنّ ، فيكون اسمها ضمير شأن محذوف ، كقوله عليه السلام : ( إن من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون ) الأصل أنه أي الشأن إلى آخر ما ذكره . اهـ .
 
30 - حديثي قديم في هواها وماله *** كما علمت بعد وليس له قبل
 
[ المعنى ]
« الحديث » هنا بمعنى الكلام ، والمراد منه قصة محبته لها . و « القديم » هنا عبارة عن النداء الواقع في قوله تبارك وتعالى : أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [ الأعراف : الآية 172 ]
في عالم الأرواح . و « في هواها » متعلق بقوله قديم . وفي قوله « حديثي قديم » إيهام الطباق لأنه يوهم أن المراد من الحديث الجديد الذي في مقابلة القديم .
قوله « وماله » بعد هو بفتح الباء بمعنى الزمان المتأخر مطلقا من غير نظر إلى إضافته إلى شيء من الأشياء . وهذا استعمال حادث لأن الأصل استعمالها مضافة إلى شيء من الأشياء ومثله قوله الشاعر :
هواها هوى لم يعرف القلب غيره * فلا قبله قبل ولا بعده بعد
 
الإعراب :
ما : نافية . وله : خبر مقدم . وبعد : مبتدأ مؤخر . وليس : اسمها قبل . وله : خبر . والضمير لهواها . وفي البيت إيهام الطباق بذكر الحديث والقديم ، والطباق بين بعد وقبل وقريب من هذا البيت قول بعضهم :
ولست جديد العهد وجدّا وصبوة * حديث غرامي في هواك قديم
 
( ن ) : المعنى بحديثي ، أي الحادث مني وهو كلي روحا ونفسا وجسما ، أو خبري وهو ما يعرفه مني العالم بي ، أو ما هو المعلوم من أحوالي .
وقوله قديم ، أي لا بداية له في الحضرة العلمية القديمة الأزلية . والضمير في هواها لنعم .
وقوله كما علمت ، أي نعم المحبوبة المكنى بها عن الحضرة الإلهية الاسمائية فإن العلم الإلهي قديم أزليّ محيط بالواجبات والممكنات والمستحيلات . اهـ .
 
31 - وما لي مثل في غرامي بها كما *** غدت فتنة في حسنها ما لها مثل
 
[ الاعراب والمعنى ]
هذا المعنى يكرّره الشيخ في كلامه كثيرا ، وحاصله أنه مفرد في هواها ، وهي مفرة في حسنها أو بهاها . و « لي » خبر مقدم . و « مثل » بكسر الميم وسكون الثاء المثلثة مبتدأ مؤخر .
و « ياء » لي محرّكة لاستقامة الوزن . و « في غرامي » متعلق به على أنه بمعنى المماثل .
و « بها » متعلق بغرامي . و « كما » متعلق بمحذوف مأخوذ من معنى الكلام السابق .
أي انتفت مشابهتي في تعلقي بها ، كما انتفت مماثلتها في الحسن حيث صارت فتنة في الحسن ، كل من يراها يفتتن بمشاهدة محياها . وإطلاق الفتنة

« 174 »
 
على ذات المحبوب نوع عظيم من المبالغة ، لكن لما كانت أنواع الفتنة كثيرة قيدها بقوله « في حسنها » أي سبب كونها فتنة الحسن لا غير . وقوله « ما لها مثل » مقرر كونها فتنة بديعة فريدة في جمالها بذاتها ومقامها .
 
32 - حرام شفا سقمي لديها رضيت ما *** به قسمت لي في الهوى ودمي حلّ
 
[ الاعراب والمعنى ]
المراد من « الحرام » هنا الممتنع الذي لا يصير ، لا الحرام الذي يثاب تاركه ويعاقب فاعله . و « شفا » مضاف إلى سقمي فلذلك كان مبتدأ . و « حرام » خبر .
و « لديها » متعلق بحرام أي ممتنع عندها وفي اعتقادها . وقوله « رضيت » الخ مستأنف لتقرير رضاه بما قسمت .
و « به » متعلق بقسمت لتضمنه معنى رضيت و « لي » متعلق بقسمت .
 
و « في الهوى » متعلق بحل ، أي ودمي حل حلال في دين الشرع . والبيت من محاسن الأبيات فالشفاء عندها ، ودمه حلال في الهوى ، فقد قيد الحرمة بكونها عندها ، وقيد الحل بكونه في الهوى أي في شرعه .
وفي البيت إيهام الطباق في الحلال والحرام ، إذ قد تقرّر أن المراد بالحرام الممتنع لا ما يقابل الحلال . والطباق في الشفاء والسقم ، والجناس المقلوب في سقم وقسم . وجملة « رضيت ما به قسمت لي في الهوى » معترضة بين المتعاطفين ، لأن قوله و « دمي حل » معطوف على جملة قوله « حرام شفا سقمي لديها » .
 
( ن ) : الضمير في لديها راجع إلى نعم المكنى بها عما ذكر ، وهذا السقام الذي شفاؤه والبرء منه حرام ممتنع لا يكون أصلا ، هو الضعف الكوني والمرض الحبي والداء الافتقاري فلا قوّة إلا باللّه وما باللّه فهو للّه ، والضعف ملازم في عين القوة الإلهية وضمير به عائد إلى سقمي . وقوله ودمي حل ، أي حلال لها لأني ملكها والمالك يفعل بمملوكه ما يشاء ويحكم عليه بما يريده . اهـ .
 
33 - فحالي وإن ساءت فقد حسنت بها *** وما حطّ قدري في هواها به أعلو
 
[ الاعراب والمعنى ]
يقول إن « حالي وإن ساءت » أي وإن كانت حالا سيئة فهي حسنة لكون المساءة بسببها ، أو ما ينسب إليها من السيئة فهي حسنة وعذابها لديه عذب وبعدها قرب ، وذلة قدره في محبتها بها يسمو بين الأقران ويعلو بين الإخوان والخلان .
وفي البيت المقابلة بذكر السوء والإحسان ، والعلو والحط . و « ما » موصولة عبارة عن السبب الذي أوجب انحطاط قدره وسقوط أمره ، وهي مبتدأ وخبره الجملة . و « به » متعلق بقوله أعلو .

« 175 »
 
34 - وعنوان ما فيها لقيت وما به *** شقيت وفي قولي اختصرت ولم أغلو
35 - خفيت ضني حتّى لقد ضلّ عائدي *** وكيف ترى العوّاد من لا له ظلّ
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن هذين البيتين مرتبط أحدهما بالآخر ، لأن قوله و « عنوان » مبتدأ مضاف إلى ما ، وخبره قوله « خفيت ضني » إلى آخر البيت ، على أن المراد لفظ البيت ، أو حاصل ما في البيت على أن المراد عنوان ما فيها لقيت ، والذي شقيت به في هواها مفهوم قولي خفيت ضني ، فالعنوان كونه خفي عن عائده عندما أراد عيادته في مرضه ،
ثم استشهد على ذلك بقوله « وكيف ترى العواد شخصا لا ظل له » فيكون عدما أراد عيادته في مرضه إذ لو كان مجسما لكان له ظل ، وحاصله أنك إذا أردت أن تطلع على حقيقة حالي وما أنا فيه من جميع أحوالي ، فانظر إلى عنوانه ، واستدل بالخل على خلانه ، وإذا كان العنوان العدم الذي اضمحل به الجسد بحيث لا يشخصه أحد حتى صار كصورة مرسومة في جدار أو خط يرقم على ماء الأنهار فما بالك بما في باطن الكتاب من أنواع السقم الذي يقضي منه بالعجب العجاب .
وقد قلت في مثل ذلك :
سقمي يدل على حقيقة حالتي * فاقرأ كتاب العشق من عنوانه
 
و « ما » في ما فيها لقيت وما به شقيت ، للتهويل أي الأمر العظيم الذي لا يقدر قدره ؛ ولا يستطاع حصره . وجملة قوله « وفي قولي اختصرت ولم أغلو » معترضة بين المبتدأ والخبر ، وفائدتها كمال التهويل في بيان التعليل .
بقوله هذا عنوان الأحوال وعلامة الأهوال على أنه بالاختصار في تحقيق حقيقة الأسرار . وإثبات الواو في أغلو مع وجود الجازم للإشباع على حد قوله تبارك وتعالى : إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [ يوسف : الآية 90 ]
وقلت من قصيدة :
خذ قصة الأشواق يا حادي السرى * إن كنت عن أهل الغرام مخيرا
واقرأ صحيفة وجنتي مصفرة * تدر الغرام فمن قرأ خبري درى
 
و « أغلو » في آخر هذا البيت بالغين المعجمة ، من قولك غلا فلان في الأمر أي اتسع فيه حتى وصل غايته ، ولذلك يقال للمبالغة في الشيء غلو .
وفي البيت الذي قبله « أعلو » بالعين المهملة ، من علا يعلو إذا ارتفع ، ولذا أوقعه الشيخ في مقابلة انحطاط القدر فافهم .
 
( ن ) : والمعنى في ذلك أنه فنى وجوده عنه في وجد محبوبته المكنى عنها بنعم فيما تقدم ، بحيث لو ورد عليه خاطر منه يعوده في مرضه ذلك لم يجد له أثرا في الوجود أصلا فضلا عن عائد يأتيه من غيره ، وهي حالة المولهين في اللّه تعالى . اهـ .

« 176 »
 
36 - وما عثرت عين على أثري ولم تدع *** لي رسما في الهوى الأعين النّجل
 
[ المعنى ]
يقال فلان « عثرت عين على أثره » يعني أصابته ، والعين حق كما ورد ذلك في الآثار . وفي البيت شبه الإغراب بالغين المعجمة لأنه نفى عثور العين على أثره ، وادعى أن الأعين النجل ما تركت له عينا ، فالعين الأولى عبارة عن العين التي تصيب ، والعين الثانية عبارة عن عين الحبيب التي تصيب بكل سهم مصيب .
و « النجل » بضم النون جمع نجلاء ، وهي العين الواسعة مع سواد . وما أحسن ذكر الأثر والرسم . وأراد بالرسم رسم ذاته يريد أن الأعين النجل من كل جميل قد محت رسمه ، وأعدمت مسماه واسمه ، ومحت وصفه ووسمه .
ولا يخفى ما في البيت من إيهام الطباق في ذكر العين والأثر إذ ليس المراد بالعين هنا ما يقابل الأثر ، بل المراد بها العين التي تصيب، وهي التي قال فيها صلى اللّه عليه وسلم : «العين حق».
 
وفيه المناسبة في ذكر الأثر والرسم ، والجناس في الأعين والعين ، وحاصله أنه ما أصابته عين ، ومع ذلك فإن الأعين النجل لم تدع له رسما بل محت رسمه وجعلته عدما بعد الوجود .
وعلى ذكر العين فيعجبني ما حكاه شيخ الإسلام الشهاب بن علي بن حجر ،
قال : بنى الملك المؤيد جامعا بمصر ، وبنى له منارة عظيمة ، فاتفق أن المنارة سقطت .
فقال في ذلك شيخ الإسلام المذكور لما كان بينه وبين الشيخ العيني الحنفي من المنافرة هذين البيتين :
لجامع مولانا المؤيد رونق * منارته تزهو من اللطف والزين
تقول وقد مالت علينا تعجبوا * فليس على حسني أضر من العين
 
قال ابن حجة ولم يكن العيني المذكور يحسن النظم ، فأعطى شمس الدين النواجي دراهم ، ونظم له هذين البيتين مقبحا على ابن حجر ، فقال :
منارة كعروس الحسن إذ جليت * وهدمها بقضاء اللّه والقدر
قالوا أصيبت بعين قلت ذا خطأ * ما آفة الهدم إلا خسة الحجر
 
وقد أفتى ابن حجر بلزوم المؤاخذة العظيمة لقائل البيتين لكونه أنكر العين .
والحال أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « إن العين حق » وأجيب بأن مراده إنكار كون الهدم من العين لا إنكار صحة العين من أصلها ، لأن قوله : قلت ذا خطأ أي قولكم إن هدمها من العين خطأ ، لا أن العين لا أصل لها .
 
( ن ) : قوله وما عثرت ، أي وجدت واطلعت . وقوله عين ، أي باصرة أو عين قلب وهي البصيرة . وقوله على أثري ، أي وجودي الذي هو أثر الوجود الحق تعالى .

« 177 »
وقوله لم تدع لي ، أي لم تترك لحقيقتي الظاهرة والباطنة . وقوله إلا عين النجل ، أي الواسعة ، وهي أعين المشايخ العارفين المحققين من أهل اللّه تعالى فإن أعين أبصارهم متسعة جدا فلا يخفى عليهم من عالم الملك ، وأعين بصائرهم أوسع فلا يخفى عليهم شيء في عالم الملكوت .
 
وكونهم لم يتركوا له رسما وإنما أفنوا رسمه بالكلية بإرشادهم له ودلالتهم له إلى الحق بأقوالهم وعلو هممهم لصدقه معهم في صحبتهم وكمال توجهه إلى طلب الحق عناية من اللّه تعالى وهداية له . اهـ .
37 - ولي همّة تعلو إذا ما ذكرتها *** وروح بذكراها إذا رخصت تغلو
 
[ المعنى ]
قوله « ولي همة تعلو » تعلو من العلوّ بالعين المهملة خلاف السفل ، أي تتصف همتي بالارتفاع والعلو عند ذكري لهذه الحبيبة لأن من تأهل لذكرها ، واستحق أن يقف في موقف شكرها ، علا مقامه وتسهل مرامه وسعدت أيامه ووجب إكرامه .
 
و « ما » بعد إذا زائدة . وروح عطف على همة ، أي ولي همة ولي روح ، فأما الهمة فإنها بذكرها تعلو بعد الاستفال ، وأما الروح فإنها وإن كانت من قسم المتاع الرخيص ، فإنها بذكرها تعد من النفيس الغالي ، فالهمة السافلة بذكرها تعود عالية ، والروح الرخيصة تعود بذكرها غالية .
وفي البيت جناس التصحيف في تعلو وتغلو ، والطباق بين الرخيص والغالي .
 
( ن ) : قوله ولي همة تعلو ، أي إن باعث قلبه يرتفع إذا ذكر المحبوبة المكنى عنها بما مر . وقوله وروح بذكراها ، أي بذكر المحبوبة المذكورة ، ويصح رجوع الضمير إلى الروح أي بتذكرها نفسها من قبيل من عرف نفسه فقد عرف ربه .
وقوله إذا رخصت ، أي إذا صارت رخيصة بغفلتها وجهلها فتغلو بذكراها .


38 - جرى حبّها مجرى دمي في مفاصلي *** فأصبح لي عن كلّ شغل بها شغل
 
[ المعنى ]
« جرى حبها » أي المحبوبة الحقيقية المذكورة . وقوله « مجرى دمي » أي في المجرى الذي يجري فيه دمي . وقوله « في مفاصلي » جمع مفصل ، أحد مفاصل الأعضاء . وقوله « فأصبح » الفاء تفريعية .
وقوله « لي عن كل شغل » يعني من أشغال نفسي وأشغال غيري حيث لم تبق عنده نفسه لأنها ذهبت مع الذاهبين إلى اللّه تعالى ولا بقي عنده غيره ، وما بقي إلا الحق تعالى قائم بنفسه ، وقائم به كل أفعاله سبحانه والجميع أفعاله .
وقوله « بها » أي لا بغيرها أي المحبوبة الحقيقية المذكورة . وقوله « شغل » أي اشتغال وذلك بالضرورة الوحدانية حيث وجد الحق بالحق فاشتغل بالحق بشغل من الحق بالحق ، فعل من أفعال الحق وقد زهق الباطل من النفس ، وغيرها .

« 178 »
 
قال تعالى للنبي صلى اللّه عليه وسلم : وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ( 81 ) [ الإسراء : الآية 81 ] . اهـ .


39 - فنافس ببذل النّفس فيها أخا الهوى *** فإن قبلتها منك يا حبّذا البذل
40 - فمن لم يجد في حبّ نعم بنفسه *** ولو جاد بالدّنيا إليه انتهى البخل
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « فنافس » فعل أمر من المنافسة ، وهي المغالبة في طلب النفيس ، أي أغلب غيرك يا أخا الهوى من بقية المحبين ببذل نفسك النفيسة في محبتها . ولك أن تقول البذل في قوله « ببذل النفس » بمعنى الابتذال أي ابذل نفسك وإن كانت نفيسة واطرحها في أرض الهوان . و « الهاء » في فيها للحبيبة ، والمراد في محبتها . و « أخا الهوى » منادى مضاف أي يا أخا الهوى . والأخ هنا بمعنى الصاحب .
قوله « يا حبذا البذل » فاء الجزاء محذوفة ، أي فيا حبذا . و « حب » فعل ماض فاعله ذا . و « البذل » مبتدأ خبره ما قبله ، والجملة جزاء الشرط .
وقوله « فإن قبلتها منك » يوجب أن يكون البذل الثاني بمعنى الإعطاء ، والأول أيضا كذلك على الأظهر .
قوله « فمن لم يجد » من هنا شرطية . و « يجد » بضم الجيم من جاد يجود أي كرم وأعطى . و « في حب نعم وبنفسه » متعلقان به . وجملة « إليه انتهى البخل » جواب الشرط على حذف فاء الجزاء .
ومعنى « إليه انتهى البخل » أي سلسلة البخل إليه تنتهي فيكون معدن البخل ، ويكون جميع ما في الوجود من البخل في أي زمان كان متفرعا على ما عنده من البخل ،
وذلك لأنهم قالوا من عرف ما طلب هان عليه ما بذل ، وأيضا قالوا :
تهون علينا في المعالي نفوسنا * ومن طلب الحسناء لم يغله المهر
 
وحيث كانت نعم في الجمال آية ، وإليها ينتهي في الحسن كل غاية ، كان ما يبذل فيها من المال رخيصا ليس بغال ، وإنما النفوس ثمن حبها العزيز فما قدر مقدار الذهب الإبريز .
الشرط بذل النفس أوّل حبها * لا تطمعن ببقائها الأشباح
 
والشيخ يقول :
الروح لنا فهات من عندك شيء
ومثل ذلك في كلامهم كثير لا يحصى وعزيز لا يستقصى . وجملة قوله « لو جاد بالدنيا » معترضة بين الشرط والجزاء . و « لو » وصلية فلا تحتاج إلى الجزاء .
 
وفي البيتين شبه الاشتقاق بين نافس والنفس ، والجناس التام في بذل والبذل إن كان الأول بمعنى الابتذال ، والطباق بين الجود والبخل .

« 179 »
 
( ن ) : المعنى هنا ببذل النفس الإحساس والذوق والوجدان . وقوله فيها ، أي في نعم ، كناية عن الحضرة الاسمائية يعني في محبتها .
وقوله أخا الهوى ، أي يا من هو أخي في المحبة الإلهية .
وقوله فإن قبلتها ، أي إن قبلت نفسك نعم المحبوبة المذكورة .
وقوله منك بأن تبدلت نفسك بتجلي ربك عليك بجميع أفعالك ، فتصير من الأبدال الذين تبدلت نفوسهم بتجليات ربهم .
وهذا معنى القبول من الحضرة الإلهية الاسمائية المكنى عنها بنعم المحبوبة المشهورة .
وقوله يا حبذا ، أي يا أخا الهوى حبذا . وقوله البذل اللام للعهد ، أي البذل المذكور ، وهو بذل النفس في هوى المحبوبة المذكورة .
وقوله فمن لم يجد إلى آخر البيت ، يعني أن المحبة الإلهية تقتضي الخروج عن كل ما سواه تعالى من الدنيا والآخرة ، والزهد في جميع ذلك بحيث لا يبقى قلبه متعلقا بشيء من ذلك أصلا ، وهذا مقام السالكين المحجوبين عنه تعالى بأنفسهم فلا يعتبر ذلك منهم في طريق المحققين حتى يخرجوا عن أنفسهم أيضا ويزهدوا فينكشف حجابها عنه تعالى . اهـ .
 
41 - ولولا مراعاة الصّيانة غيرة *** ولو كثروا أهل الصّبابة أو قلّوا
42 - لقلت لعشّاق الملاحة أقبلوا *** إليها على رأيي وعن غيرها ولوا
43 - وإن ذكرت يوما فخرّوا لذكرها *** سجودا وإن لاحت إلى وجهها صلّوا
 
[ المعنى ]
اعلم أن البيت الأول يصحفه الرواة كثيرا ، فيقولون ولولا مراعاة الصبابة بباءين ، ويقولون وإن كثروا أهل الصبابة كالأولى على أنهما صبابة بمعنى الشوق أو رقة الشوق .
والصواب أن الأولى الصيانة بصاد مهملة وياء مثناة من أسفل على أنها مصدر بمعنى الحفظ من صان سرّه يصونه ، أي يحفظه ولم يظهره .
وأن الثانية صبابة بالباء الموحدة على أنها الشوق أو رقته ، أي ولولا مراعاتي لمقام الصيانة الذي به يؤدّى حقيقة الأمانة لأظهرت الحال ، وأوضحت في العشق المقال ، وقلت لعشاق الملاحة أقبلوا إلى الحبيبة بإعلان الإباحة ، واتركوا ما سواها ، وأعرضوا عن غير هواها ، وقلت للعشاق أيضا إذا ما سمعتم ذكر سلمى ، فاسجدوا تعظيما لوصفها الأسمى ، وإن ظهر وجهها للناظرين ، فكونوا إليه من المصلين ، ولكني تركت ذلك المقال سترا لما عندي من الحال ، فإن صيانة الهوى مطلوبة ، وإذاعته غير مرغوبة ، وكيف يذيع الغرام من أخفته بواعث السقام ، وأخذت عليه العهود بشهادة الشهود ، أن يكتم أحواله وأن يخفي أقواله ، مخافة الافتضاح ، على حفظ حمى المحبة أن يستباح .
وما أحسن هذين البيتين لحضرة القطب الأمجد سيدي العارف باللّه تعالى
 
« 180 »
 
أحمد الرفاعي وقد خمستهما فقلت :
كتمت غرام القلب حين فقدته * وإن كنت في طيّ الفؤاد نشرته
ومستكشف سرّا وعنه كتمته * يسائلني عن سر ليلى رددته
بعمياء من ليلى بغير يقين * لقد جف من تلك العيون معينها
فيا ليت شعري في البكا من يعينها * ومن عجب أني بسري أصونها
يقولون خبرنا فأنت أمينها * وما أنا إن خبرتهم بأمين
 
وفي الأبيات جناس التصحيف في الصيانة والصبابة ، والطباق في الكثرة والقلة ، وكذلك الإقبال والتولية والمناسبة بذكر السجود والصلاة والذكر .
 
( ن ) : قوله الصيانة ، أي الحفظ . والمراد هنا حفظه للأشياء الخمسة التي فرضها الشرع المحمدي ، وواجب على كل مسلم حفظها ومراعاتها .
وهي : الدين والعقل والدم والمال والعرض ، ولكل واحدة حد في الشرع واجب على من انتهكها وضيعها ، فالدين قتل من ضيعه بالردة ، والعقل الحد على من ضيعه بشرب الخمر ، والدم القتل بالقصاص على من أراقه ، والمال القطع بالسرقة فيه ، والعرض الحدّ على من ضيعه بالزنا أو القذف .
وقوله غيرة ، يعني غيرة منه على أحكام اللّه تعالى أن تنتهكها الجاهلون وتتشبه بأهل المعرفة الغافلون .
وقوله العشاق الملاحة هم المفتتنون بملاح الأكوان من النساء والولدان ، وأنواع الأموال والمآكل والمشارب والمناكح والمراكب والصنائع والجاه والمناصب ، وما أشبه ذلك مما يراه الإنسان حسنا ذا ملاحة .
وقوله اقبلوا إليها ، أي إلى هذه المحبوبة الواحدة ، المكنى عنها بنعم فيما سبق من الأبيات .
 
فإن جميع هذه الملاحة الظاهرة في الأكوان ملاحتها على جميع صيغ الآثار وألوان الأطوار . وقوله وعن غيرها ولوا لأن غيرها مجرّد صور وأشكال فانية في نفسها لا وجود لها ، والوجود كله الظاهر عليها في حال فنائها وعدمها هو وجود هذه المحبوبة المذكورة والحضرة الإلهية المتجلية بكل صورة .
وأمرهم بالسجود وحده لذكرها فإنه دون ظهورها ، وبالصلاة ذات الركوع والسجود لظهورها فإنه المطلوب الكامل عند كل عالم عامل كما ورد ( إن اللّه في قبلة أحدكم ) الحديث . اهـ .
 
44 - وفي حبّها بعت السّعادة بالشّقا *** ضلالا وعقلي عن هداي به عقل
 
[ الاعراب والمعنى ]
« وفي حبها » متعلق بقوله بعت . و « السعادة » بالنصب مفعوله . و « بالشقا » متعلق به . و « ضلالا » مفعول لأجله لقوله بعت . و « عقلي » مبتدأ . و « به » خبر مقدم . و « عقل »

« 181 »
 
مبتدأ مؤخر . وجملة به عقل عن هداي هي خبر المبتدأ الذي هو عقلي . و « عن هداي » متعلق بقوله عقل .
و « العقل » الأول بمعنى الحجر بكسر الحاء . وما أحسن قول الزمخشري في ذكر أسماء العقل : وهو عقلك ليعقلك ، وحجرك ليحجرك ، ونهيتك لتنهاك .
والثاني بمعنى المنع . يقال عقلت الجمل عن السير ، أي ربطته ومنعته من السير ، أي وعقلي فيه منع عن هداي به أي الحب .
ففي البيت قد قرّر أنه أعطى السعادة وتعوض بالشقاء لما عنده من الضلال ، وأن عنده مانعا يمنع عقله عن أن يهتدي بالحب لأن الحب عند السالكين طريق الهدى وبه تحصل السلامة ويذهب الردى .
وفي البيت الطباق بين السعادة والشقا ، وبين الضلال والهدى ، والجناس التام في عقل وعقل .
 
( ن ) : قوله وفي حبها ، أي المحبوبة المذكورة . وقوله بعت السعادة ، أي السعادة الدنيوية التي يرغب فيها الغافلون ، وينهمكون في تحصيلها من مال وجاه ووجاهة ومنصب ونحو ذلك ، وبيعها كناية عن الإعراض عنها والزهد فيها بالظاهر والباطن .
وقوله بالشقا ، أي التعب والمشقة وما يناله السالك في الدنيا من الأذى وإنكار أهل الغفلة عليه وجحودهم ما لديه . وقوله ضلالا ، تمييز لنسبة بيع السعادة المذكورة ، يعني حيرة مني واندهاشا في حال المحبوبة المذكورة .
وقوله وعقلي عن هداي به عقل ، يعني قوّة إدراكي مربوطة عن اطلاعي على مصالح معاشي وتدبير أحوالي بما أنا ساع في تحصيله ، ومهتم بتأصيله من المعرفة الإلهية والفتوحات الربانية . اهـ .


45 - وقلت لرشدي والتّنسّك والتّقى *** تخلّوا وما بيني وبين الهوى خلّوا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« لرشد » بضم الراء وسكون الشين الهداية . « والتنسك » كالتعبد وزنا ومعنى .
« والتقى » اتباع ما أمر اللّه تعالى به والانتهاء عما نهى اللّه تعالى عنه .
وقوله « تخلوا » الخطاب فيه بالواو للثلاثة المذكورة وما ساغ ذلك إلا لتنزيل الرشد ، والتنسك والتقى منزلة العقلاء ، وسبب التنزيل خطابها بالقول في قوله « وقلت » إذ لا يخاطب حقيقة إلا العقلاء . فهو على حدّ قوله تبارك وتعالى : قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [ فصّلت : الآية 11 ]
 
وقله : إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [ يوسف : الآية 4 ]
و « تخلوا » أمر للجماعة بالترك ، أي اتركوني واذهبوا عني فإن الرشد والتنسك والتقى ليست من أوصاف المحبين ، ولا يتقيد بها من تاه في بيداء المحبة من الضالين .
 
و « خلوا » في آخر البيت بفتح الخاء وضم اللام المشدّدة عطف على تخلو ، أي اتركوني ودعوني مع الهوى أعالج تباريح الجوى . « وما » زائدة أي خلوا بيني وبين

 يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل الأبيات من 01 إلى 62 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:39 pm

هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل الأبيات من 01 إلى 62 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل الأبيات من 01 إلى 62
« 182 »
 
الهوى ، ولا تدخلوا في هذه المضائق ، واتركوني أعالج مشاق النوى سالكا الحقائق .
وما أحسن قول القائل :
بهت العذول وقد رأى ألحاظها * تركية تدع الحليم سفيها
فثنى الملام وقال دونك والهوى * هذي مضائق لست أدخل فيها
وفي البيت المناسبة في ذكر الرشد والتنسك والتقى ، والطباق في تخلوا وخلوا ، والجناس الناقص المحرف في خلوا وتخلوا . 


( ن ) : المعنى أنه قال لهذه الثلاثة هدايته في دين اللّه وعبادته للّه تعالى على الوجه الأكمل ، وتقواه في الشريعة المحمدية بطريق الكناية ، اتركوني ولا تشغلوا قلبي بالالتفات إليكم ، ورؤية محاسنكم عن الاشتغال بالتوجه التام القلبي إلى التحقق بتجليات ربي ، وأضاف الرشد إلى ياء المتكلم لثبوته عنده ودوام إقامته فيه ، وأتى بالتنسك والتقى معرفا بلام العهد لأن ذلك معهود منه ومعروف لديه وثابت في ظاهره وباطنه . 

وأشار بخطابه لهذه الثلاثة إلى أنها عنده لا تفارقه مع إعراضه عن الاشتغال بها ، وتوجه قلبه بالكلية إلى جناب ربه ، وهذه حالة الكاملين ، وطريق أهل اللّه الصادقين ، ولما كانت هذه الحالة خفية على العلماء من أهل الشريعة فضلا عن خفائها على عامة المؤمنين لا يعرفونها في المحققين من الأولياء العارفين ظنوا أن طريقهم ترك الشريعة ، والتهاون بأحكامها المنيعة ، فصغرت عندهم مشارب الحقيقة ، وقبحت في أعينهم محاسن أهل الطريقة . اهـ . 

46 - وفرّغت قلبي عن وجودي مخلصا *** لعلّي في شغلي بها معها أخلو 

[ الاعراب والمعنى ]

« وفرغت » أي أخليت قلبي عن وجودي . اعلم أنه تارة يروى عن وجودي بسكون الياء ، فيكون مخلصا : اسم فاعل من خلص يخلص تخليصا . وتارة يروى عن وجودي بفتح الياء ، فيكون مخلصا : اسم فاعل من أخلص يخلص إخلاصا . و « لعلي » لا بد فيها من فتح الياء . وفي هذا البيت مبالغة في الخلاص ، وإشارة إلى نهاية الإخلاص فإن القلب إذا تخلى عن الوجود وتباعد عن مقاربة كل موجود ، أخلص في حب مولاه وعلم أن مشاهدة محياه هي الحياة . 

فعلى رواية مخلص بالتشديد يصير المعنى مخلصا قلبي عن الوجود الذي هو بالنسبة إليّ إخلاص الشهود من الأغبار ، وعلى رواية التخفيف يكون المعنى مخلصا في ذلك التفريغ صادقا في رواية التبليغ .

وجملة لعلّي إلى آخر البيت تعليل لتفريغ قلبه عن وجوده طالبا لمشاهدة الحبيب ويا فرحته في شهوده ، أي مرتجيا أن أخلو بالحبيبة حال كوني مشتغلا بها عني . وقد

« 183 »
 
رأيت في ديوان المتنبي :
فشغلت عن رد السلا * م فكان شغلي عنك بك
وفي البيت الطباق في الفراغ والشغل ، والمناسبة بذكر التفريغ والخلو . و « بها » متعلق بشغلي و « معها » متعلق بأخلو . و « مخلصا » حال من تاء فرغت . والمراد أخلو في شغلي بها عنها .
 
( ن ) : المعنى أن تفريغ قلبي عن وجودي بحيث يبقى وجودي كله له وأبقى أنا فرضه ، وتقديره من غير وجود لي لعلي بسبب ذلك أصير في خلوة مع المحبوبة المذكورة ، وخص قلبه بالتفريغ عن وجوده لأنه الأصل في نسبة الوجود إليه .
 
47 - ومن أجلها أسعى لمن بيننا سعى *** وأعدو ولا أغدو لمن دأبه العذل
 
[ الاعراب والمعنى ]
« أسعى » الأول بمعنى أمشي وأقصد وأذهب . والثاني بمعنى سعى في الصلح يريد أنني أسعى قاصدا لمن سعى بيني وبينها في الملاطفة بدليل قوله وأعدو ، وهو معطوف على أسعى الأول ، أي أسعى إلى الساعي بيننا بالوداد ، وأعدو إليه من العدو بالعين المهملة ، وهو شدة السير ، وقوله « ولا أغدو » بالغين المعجمة والدال المهملة أي ولا أذهب لمن دأبه أي لرجل عادته ودأبه العذل بالعين المهملة والذال المعجمة ، لأن العاذل في المحبة يعنف المحب عليها ويلومه على الاتصاف بها . « ومن أجلها » متعلق بأسعى الأول .
و « بيننا » متعلق بسعى الثاني . « وأعدو » معطوف على أسعى الأوّل . و « دأبه » مبتدأ . و « العذل » خبره .
والجملة صلة من . والغالب في غدا أنه يتعدى بإلى ، فاللام حينئذ قائمة مقام إلى . وفي البيت الجناس الناقص في أسعى وسعى ، والمصحف في أعدو وأغدو .
 
( ن ) : قوله ومن أجلها ، أي المحبوبة المذكورة . وقوله أسعى ، أي أقصد عمل الخير والنفع والطاعة . وقوله لمن بيننا سعى ، أي لمن مشى بيني وبين المحبوبة المذكورة بالصلح وقصد الخير والنفع كالأنبياء عليهم السلام ، فإنهم ساعون لتأليف القلوب النافرة عن اللّه تعالى لتجتمع عليه ، كذلك ورثتهم من الأولياء المحققين .
 
وقوله وأعدو بالمهملة أي وامتثل أوامرهم ، وأجتنب نواهيهم بشدة عزم وهمة صادقة ، وأما اللائم المعنف فلا أغدو ولا أسرع إلى قبول كلامه . ويمكن أن يكون قوله لمن بيننا سعى ، يعني بالإفساد والفتنة ، وهو الشيطان المقارن له الذي شأنه دائما الوسوسة وتهوين المعاصي لإيقاع العداوة بين الإنسان وربه ، وكونه يسعى إليه ويعدو لعلمه بالحفظ له والصيانة منه من جهة الحق تعالى وعدم غدوه وميله إلى اللائمين له لأنهم

« 184 »
 
يؤذونه بجهلهم أحواله الصادقة . ولهذا قال بعد ذلك على طريقة اللف والنشر المرتب « فأرتاح للواشين » الخ . اهـ .
 
48 - فأرتاح للواشين بيني وبينها *** لتعلم ما ألقى وما عندها جهل
 
[ المعنى ]
« الارتياح » كسب الراحة ، أي أستريح وينشرح صدري للقوم الذين يمشون بيني وبينها ، فيقولون لها عني إنني دائم السهر في حبها ، ملتذ بذكرها ، منسكب الدموع بادي الخشوع ، مضاعف الصبابة بادي الحزن والكآبة . ولما كانت العادة تقتضي عدم الميل إلى الواشي ، وكل محبّ عنه متباعد متحاشي ، علل ارتياحه إلى الوشاة ، وأظهره في قالب القبول وأبداه .
وقال : لتعلم على ألسن الواشين ما عنده من الهوى ، وما الذي ابتلي به من طوارق الجوى ، فإنهم يحكون أوصافه في النحول ، وما يقاسيه في ظلام الليل إذ يطول ، فتعلم أحواله وتتحقق انتحاله .
وما أحسن هذه الجملة التذييلية التي أفادت الاحتراس ، ورفعت عن كلامه لباس الالتباس ، حيث قال « وما عندها جهل » .
فإن قوله « لتعلم » أي ليتعلق علمها بما حدث لي بعدها ، حيث طال بعدها ، وإن كان أصل العلم لها حاصلا ، وتحقيق الدليل بذلك لم يزل متواصلا . وفي البيت الطباق في العلم والجهل وشبه الرجوع في قوله وما عندها جهل .
 
( ن ) : قوله أرتاح ، أي أنشط وأقبل متوجها بكمال الهمة . وقوله للواشين أراد بالواشين الساعين بالفساد إشارة إلى قوله في البيت قبله لمن بيننا سعى . وقوله لتعلم ، أي المحبوبة المذكورة العلم الوقوعيّ ما أقاسيه في محبتها من الألم بصنيع الواشين وسعايتهم بالإفساد ، فإنها إذا علمت بذلك أشفقت عليه ورحمته .
وقوله وما عندها جهل ، أي بما أقاسيه من ذلك لأن الجهل على حضرة تلك المحبوبة المذكورة مستحيل ، فهي عالمة بعلمها القديم ، وإنما ذلك من قبيل قوله تعالى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ( 31 ) [ محمد : الآية 31 ] ،
يعني حتى نعلم ما عندكم فتعلمون أنا نعلم ، وهو معنى العلم الوقوعي كما ذكرناه . اهـ .
 
49 - وأصبو إلى العذّال حبّا لذكرها *** كأنّهم ما بيننا في الهوى رسل
 
[ المعنى ]
قوله « وأصبو إلى العذال حبّا لذكرها » ربما يناقض قوله آنفا « ولا أغدو لمن دأبه العذل » . قلت يمكن الجواب بأن عدم سيره إلى من دأبه العذل من حيث أن عذله يتضمن الوم اللوم على حبها والنهي عنه ، وأما ميله إلى العذال فلأجل تضمن عذلهم ذكرها لما يقصدون إليه من الملامة ، واستهجان مقام المحبة قصد الحصول الندامة .
وهذا هو الجواب عند أولي الألباب فإنه قول لباب ، واللّه أعلم بالصواب . وقوله

« 185 »
 
« كأنهم ما بيننا في الهوى رسل » ، « ما » زائدة ، ووجه تشبيه العذال بالرسل أن كلا منهما يوجب ذكر الحبيب ليستريح إليه اللبيب .
 
( ن ) : أشار بقوله وأصبو إلى العذال ، إلى قوله في البيت قبله . ولا أغدو لمن دأبه العذل فكأنه بذلك يرى حكمة الحق تعالى في كل ما يقع من خير أو شر ، وأنه كله منافع للعباد ليترتب عليه مصالحهم في الدنيا والآخرة .
وقوله كأنهم الخ . يعني أن اللائمين له على المحبة أشبهت حالتهم في تعنيفهم له على المحبة حالة الرسل الذين ينقلون أخبار المحبوبة إلى محبها ، وأخبار المحب إلى محبوبته ، لأنهم يقولون له أترك حبها فإنه مضرّة لك .
وهي تريد ذلك القول منهم لفرط جمالها ودلالها وعزتها ، ويقولون لها أيضا فلان يحبك لتنفر منه وتعرض عنه ، والمحب يريد ذلك لتدوم محبته مع الهجر والجفاء من المحبوبة له .
ولهذا كان مقام المحبة حجابا عن المحبوب ، لأن فيه بقية مغايرة للمحبوب وبها كان محبا .
وكان بذلك الفرق بين المحب والمحبوب ، والطالب والمطلوب ، ولو كان هذا المصراع للبيت الذي قبله ومصراع البيت الذي قبله له لكان أنسب . اهـ .
 
50 - فإن حدّثوا عنها فكلّي مسامع *** وكلّي إن حدّثتهم ألسن تتلو
 
[ المعنى ]
هذا مفرع على ميله وصبوته إلى العذال ، لما في ضمن عذلهم من المقال عن ربة الخال ، ومالكة الجمال وصاحبة الدلال .
يقول « فإن حدثوا عنها » ولو بالعذل فجميع جوارحي مسامع ، وكل عضو فيّ سامع ، ويجوز أن يخلق اللّه في جميع الأعضاء قوة السمع كما صدر سماع صوت من جميع الجهات ،
قال « وكلي » بتحريك ياء المتكلم إن حدثتهم أي عنها ، فحذف من الثاني لدلالة الأول عليه .
 
« ألسن تتلو » أي تتلو محاسنها فجوارحي كلها ناطقة ، وجوانحي راوية للغرام وهي صادقة ترمي وكلي مقتل وكلها سهم مصيب ، وقلت فيما يقارب ما نحن فيه :
سألتك يا روحي بحقك لا تطل * مغيبك عن صب إليك مشوق
إذا غبت عنه ساعة صار أعينا * يلاحظ يا مولاي كل طريق
 
وفي البيت محاسن ظاهرة ، ولطافة باهرة تأخذ بالقلوب والألباب ، وتفضح ما في العقود من الجواهر اللباب .
 
51 - تخالفت الأقوال فينا تباينا *** برجم ظنون بيننا ما لها أصل
52 - فشنّع قوم بالوصال ولم تصل *** وأرجف بالسّلوان قوم ولم أسلو
53 - فما صدق التّشنيع عنها لشقوتي *** وقد كذبت عنّي الأراجيف والنّقل

« 186 »
 
[ الاعراب والمعنى ]
« تخالفت الأقوال » أي أقوال الوشاة . « فينا » أي في حالنا وما نحن عليه في أقوالنا وأفعالنا . قوله « تباينا » أي اختلاف تباين . وقوله « برجم ظنون » متعلق بقوله « بيننا » .
 
صفة ظنون متعلقة بمحذوف أو ما لها أصل بيننا . ثم بيّن تباين تلك الظنون بقوله « فشنع قوم بالوصال » والحال أنها لم تصل . « وأرجف بالسلوان قوم » والحال أنني ما سلوت .
فأما « التشنيع عنها » بالوصال فما صدق وعدم صدقه « لشقوتي » بكسر الشين ، إذ لو كنت سعيدا لصدق حديث الوصال وسعدت بالاتصال .
وأما الأراجيف والنقل عني بالسلوان فهي أحاديث كاذبة من النقال ، فاسدة في تحرير أسانيد الأقوال .
ومن نظر بعين الإنصاف وعلم ما تشتمل عليه هذه الأبيات من محاسن الأوصاف التي تحار فيها أفكار كل وصاف تعجب من محاسنها البديعة ، وعلم أن قائلها حاز الكمال جميعه .
 
وقد قالوا الحسن يدرك ولا يوصف في عبارة ، ويذاق ولا تضبطه الدلائل ولا الأمارة ، فسبحان من منح الشيخ الناظم هذه المحاسن ، وسعد من كرع في ماء لطفها الذي ليس بآسن .
 
ولقد صدق إذ قال في حق نفسه واصفا كماله حيث لم يكن لأحد في البلغاء كماله :
ومن فضل ما أسارت شرب معاصري * ومن كان قبلي فالفضائل فضلتي
ثم أنه استدل على تعذر الوصال ، ولو تقطعت الأوصال ببيت عامر لم يبن مثله فصحاء بني عامر فقال :
 
( ن ) : قوله برجم ظنون ، الرجم القذف يعني أن تلك الظنون كانت كاذبة باطلة من نفوس عاطلة . ثم بيّن ذلك بقوله فشنع من الشناعة وهي الفظاعة . وقوله قوم ، أي طائفة من الناس غافلون عن معرفة ربهم يظنون أن المخلوق يصل إلى إدراك الخالق كما يصل إلى إدراك أمثاله من المخلوقين . ولا يعلم أن الطريق كله سلوك من الأزل إلى الأبد .
وقوله ولم تصل ، أي المحبوبة الحقيقية لم تجعلني واصلا إليها ، ومدركا حقيقة ما لديها ، فإن ذلك محال وليس لمخلوق إليه مجال . اهـ .


54 - وكيف أرجّي وصل من لو تصوّرت *** حماها المنى وهما لضاقت بها السّبل
 
« كيف » استفهام تعجب . و « أرجى » مضارع من باب التفعيل ، أي العجب ممن يرى وصل هذه الحبيبة ، والحال أنها من العزة في مرتبة عالية ، ومن المنعة في منزلة ثمينة غالية .
بحيث إن « المنى » جمع منية بضم الميم ، وهي ما يتمناه الطالب لو تصوّرت حماها وهما ، أي لو تصوّرت المنى حمى هذه الحبيبة ، أي مكانها الذي تحتمي فيه ، وتنزله على سبيل الوهم لا على سبيل الحقيقة ، « لضاقت » الطرق

« 187 »
بالمنى لكونها تصوّرت حماها في الوهم . فانظر إلى هذه الطريقة التي لا تسلك ، والعقيلة التي لا تحاز ولا تملك أولا هو ما تمنى وصلها أستغفر اللّه وإنما مناه ، ومناه ما تصوّرت الوصل بل تصوّرت حماها لا ذاتها .
وأيضا « ما تصوّرت حماها » بطريق الحقيقة بل بطريق الوهم ، ومع ذلك ما تصور المنى متصورة لحماها في الوهم ، بل يقول لو تصورت وما تصورت ، لأن « لو » تدلّ على انتفاء الفعل المثبت الواقع بعدها .
فانظر إلى هذا البيت المعمور الذي هو باللطائف مغمور .
يقول : بلغت من العزة إلى أن المنى لو تصورت حمى الحبيبة بطريق الوهم ، لكان أثر ذلك التصور أن الطرق تضيق بهاتيك المنى لكونها قد تصورت ما لا يدخل تحت دائرة الإمكان حصوله ، ولا يتسنى لأحد قربه ولا وصوله . ولعمري أن هذا هو البديع الذي اعترف بحسنه الجميع ، فهو من عذوبة الألفاظ ، يكاد تشربه مسامع الحفاظ ، فسبحان من منحه ، وفتق لسانه بالسحر الحلال وفتحه ، هذا نشر الأزهار هب عليه نسيم الأسحار .
 
( ن ) : حماها ، كناية عن حضرات أسمائها وصفاتها . اهـ .


55 - وإن وعدت لم يلحق الفعل قولها *** وإن أوعدت فالقول يسبقه الفعل
 
[ الاعراب والمعنى ]
الجملة شرطية ، وهي « وإن وعدت » معطوفة على الشرطية في قوله « لو تصورت حماها المنى » ، فتكون منسحبة تحت ذيل الاستفهام التعجبي .
أي وكيف أرجى وصل من إن وعدت بقرب أو وصل لا يحصل سوى الوعد من غير نتيجة بحصول فعل من القرب والوصل ، وإذا أوعدت ببعد أو صد فالفعل الموعود به يسبق قولها بالإيعاد .
وذلك لأن وعد في المحبوب ، وأوعد بالهمزة في المكروه .
والمعنى كيف أرجى وصل حبيبة وعدها بالخير قول لا ينتج فعلا موعودا به ، وإيعادها بضده فعل يسبق قولها ، وذلك مبالغة في سبق القول الفعل ،
وفي المعنى
وأني إذا أوعدته أو وعدته * لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
ومعناه ضد ما في بيت الشيخ ، ولا يخفى ما في البيت من الطباق في أوعدت ووعدت ، وفي القول والفعل ، والمبالغة في سبق الفعل القول عند الإيعاد .
 
( ن ) : المعنى إن وعدت بالخير أخرت ذلك الوعد إلى يوم القيامة لأن الدنيا فانية ، وما وعدت به أمور باقية لا فناء لها ، فوعدها البشرى الحسنة بالنعيم الأبدي .
 
قال تعالى : لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [ يونس : الآية 64 ] وأما وعيدها فالفعل يسبق القول به لأنه قد يكون العذاب في الدنيا . قال تعالى : سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ

« 188 »
 
[ التّوبة : الآية 101 ] وقال تعالى : وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ [ طه : الآية 127 ]
وذلك لأن العذاب ينقطع في الآخرة عن عصاة المؤمنين ، فليس الوعيد به مؤبدا كالوعد بالنعيم .
ولهذا يكون في الدنيا فيسبق فعله على قوله في حق الكافرين الذين لم يؤمنوا بقوله ، فكأن قوله لم يسبق لإنكارهم له فيعدبون في الدنيا كما وقع للأمم الماضية كقوم نوح وغيرهم من الأمم . ويتحققون بقول الوعيد في الآخرة فيكون فعل الوعيد سبق قوله . اهـ .


56 - عديني بوصل وامطلي بنجازه *** فعندي إذا صحّ الهوى حسن المطل
 
[ المعنى ]
لما قرّر في البيت أن وعدها لا ينتج وفاء ، صرح بهذا البيت أنه يكتفي بالوعد ، ولو مطلت بنجازه فإنه يتعلل بكونه موعودا بالوصال ، وإن طال المطال ، فهو يرتضي بصحة المحبة وإن لم ينتج وعد الوصال وفاء لأن الصادقين في الهوى يرتضون بصحة الحب وإن لم يكن وفاء .
 
ولنا في المعنى :
أعلل قلبي منك بالوعد وحده * وإن لم يكن للوعد منك وفاء
وفي البيت الطباق بين النجاز والمطل .
 
57 - وحرمة عهد بيننا عنه لم أحل *** وعقد بأيد بيننا ما له حلّ
58 - لأنت على غيظ النّوى ورضا الهوى *** لديّ وقلبي ساعة منك ما يخلو
 
[ الاعراب والمعنى ]
انظر إلى هذا القسم وجوابه . داو قلبك بما يربو على رشف ريق الحبيب ورضابه ، وانظر إلى لطف موقع العهد والعقد ، وأنه عن الأول ما حال .
وأن الثاني ما وصف بصفة الإعلال . وانظر إلى لطف قوله « بأيد » فإنه يحتمل أن يكون جمع يد حذفت منه الياء كقاض .
والعقد يكون باليد ، ويحتمل أن يكون عبارة عن الأيد الذي هو القوة ، ويكون مفيدا لشدة العقد أي وحرمة ما عقدناه بيننا من وثاق الوفاق الذي ربطته أيدي الاتفاق ، أو هو عقد بقوة الرابطة التي هي صاعدة في مراقي الوثوق ، وليست بها بطة .
« لأنت » جواب ذلك القسم العظيم الذي هو من جناية الخيانة سليم .
والمراد من « غيظ النوى » ما يترتب على البعاد من غيظ العوّاد ، وأما رضا المحبة فهو قبول المحبة الصادقة لما ينشأ عن الحبيب سواء وصف بأنه بعيد أو قريب . و « أنت » مبتدأ . و « لديّ » خبر .
وإثبات الواو : في يخلو مع وجود الجازم لإشباع الضمة على اللام ، وإشباعها يتولد منه الواو .
وقد سبق مثله في غضون الأبيات . والصحيح أن الرواية « ما يخلو » بما النافية دون لم كما اطلعت عليه في نسخة صحيحة ، وحينئذ فإثبات الواو في موضعه لكون الفعل

« 189 »
 
مرفوعا ، والتكلف مدفوعا . وبين عهد وعقد جناس لا حق ، وقرب اللفظ في لم أحل وما له حل ، والتورية في بأيد ، وفي البيت الثاني الغيظ والرضا والسجع في الهوى والنوى .
 
( ن ) : قوله « وحرمة عهد بيننا » أيّ بيني وبين المحبوبة المذكورة ، وهو قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ( 172 ) [ الأعراف : الآية 172 ] ،
 
وقوله « وعقد بأيد » معنى ذلك وضع اليد الإنسانية والقوة والقدرة الروحانية والجسمانية في اليد الإلهية الربانية ، وهو تسليم الأمر كله إليه والانطراح بالكلية لديه ، وهو معنى لا حول ولا قوة إلا باللّه العليّ العظيم . اهـ .


59 - ترى مقلتي يوما ترى من أحبّهم *** ويعتبني دهري ويجتمع الشّمل
 
[ الاعراب والمعنى ]
« ترى » الأولى مضمومة التاء .
 
( ن ) : مبنيا للمفعول . اهـ . وقبلها همزة الاستفهام محذوفة والفعل بمعنى تظن .
وترى الثانية مفتوحة التاء ، أي تظن مقلتي يوما من الأيام ترى القوم الذين تحبهم ، والمحبوب لا يكون إلا واحدا لكن لك أن تحب أهل مدينة لكون من تحبه فيهم كما قال الأول :
فيا ساكني أكناف دجلة كلكم * إلى أجل لقلب من الحبيب حبيب
وقال الآخر :
أحب اسمه من أجله وسميه * ويتبعه في كل أخلاقه قلبي
ويجتاز بالقوم العدا فأحبهم * وكلهم طاوي الضمير على حربي
 
وقال الآخر :
أحب من أجله من كان يشبهه * حتى لقد صرت أهوى الشمس والقمرا
أمرّ بالحجر القاسي فألثمه * لأن قلبك قاس يشبه الحجرا
 
قوله « ويعتبني » بضم الياء من قولك أعتبت زيدا أزلت سبب عتابه .
ويعتبني :
معطوف على ترى ، فحكم الاستفهام عن الظن منسحب عليه أي ترى يعتبني دهري فيزيل ما أوجب عتبي عليه من تفريق الشمل فيرفع التفريق ويجمع الشمل بذلك الرفيق .

« 190 »
 
60 - وما برحوا معنى أراهم معي فإن *** نأوا صورة في الذّهن قام لهم شكل
 
[ الاعراب ]
اعلم أن خبر « برحوا معي » أي ما زالوا معي . وقوله « أراهم معنى » جملة معترضة تفيد أن كونهم معه دائما أنه يراهم معنى أي من جهة المعنى لا من جهة الحس ، فإن المعية تحتمل الوجود معك في الحس أو في المعنى ، فبيّن أنهم ما زالوا معي وأراهم في المعنى ، ويقرر ذلك قوله « فإن نأوا » والفاء للتفريع على كونه يراهم في المعنى دائما معه .
والمعنى :
فإن بعدوا في الصورة والحس قام لهم شكل في الذهن . فقوله نأوا :
فعل الشرط . وصورة منصوب على التمييز أو على الظرفية المقدرة ، أي في الصورة .
وقام : جوابه . وفي الذهن : متعلق بقام والذهن هنا مقابل الصورة .
وقلت فيما يقرب من ذلك :
كل البيوت التي فيها سكنت أرى * جمال وجهك يا مولاي يلقاني
وما توطنت بيتا لا أراك به * فأنت عامر أوطاري وأوطاني
 
( ن ) : قوله معي من قوله تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [ الحديد : الآية 4 ] .
وقوله فإن نأوا صورة ، النأي الصوري هو إلقاء الحق تعالى في قلب العبد معنى كون من الأكوان يوجب غفلة قلبه عن الشهود والعيان . اهـ .
 
61 - فهم نصب عيني ظاهرا حيثما سروا *** وهم في فؤادي باطنا أينما حلّوا
62 - لهم أبدا منّي حنوّ وإن جفوا *** ولي أبدا ميل إليهم وإن ملّوا
 
[ الاعراب والمعنى ]
أقسم بما أعطى اللّه هذا العارف من الفصاحة ، وما ألبس كلامه من ملابس الملاحة ، لقد نطق بما يأخذ العقول ، ويذهب بالمعقول ، انظر إلى هذه المقابلات المقبولة والمطابقات التي تطابق على قبولها الأدلة المعقولة . « النصب » بفتح النون بمعنى المنصوب في الظاهر ، أي في أيّ مكان سروا فيه ، وهم في فؤادي في الباطن في أي مكان حلوا فيه .
والظاهر أن مراده « بسروا » مطلق السير لا خصوص كونه في الليل بدليل قوله في مقابلته « أينما حلوا » فإن ذلك يقتضي مقابلة الإقامة بمطلق السير .
 
وأمّا قوله « لهم أبدا مني حنوّ وإن جفوا » الخ ، فهو عقد كل درّة منه ثمينة ، وروض سقته من سحائب الطباع السليمة كل ديمة . و « الحنوّ » العطف والميل والمحبة والهوى .
و « إن جفوا » إن وصلية أي إن لم يجفوا وإن جفوا ، وتنكير الحنوّ للتعظيم أي حنوّ عظيم ، من طبع كريم على العهد مقيم ، لا يحول ولا يريم ، ولي

« 191 »
 
أبدا ميل إليهم وإن ملوا . فانظر إلى قوله « نصب عيني ظاهرا » ومقابلته بقوله « وهم في فؤادي باطنا » . وإلى قوله « حيثما سروا » ومقابلته بقوله « أينما حلوا » .
 
وانظر إلى قوله « لهم » ومقابلته بقوله « لي » . وذكر الحنو مع مقابلته بالجفاء ، وذكر الميل ومقابلته بالملل مع تقارب اللفظ وتباعد المعنى . وما أحسن السبك وانسجام الألفاظ الرخيمة ، فهو ماء بلاغة تشربه العقول السليمة والطباع المستقيمة . ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء .
 
( ن ) : قوله سروا ، أي ساروا ليلا ، وإنما خص سيرهم بالليل لأن ظهورهم بالتجلي في ليل الأكوان . وقوله لهم أبدا مني حنوّ وإن جفوا ، المعنى بذلك أني أشتاق دائما إلى شهود التجليات الإلهية في كل شيء ، وإن استترت عني وحجبتني عن مشاهدتها ، فإنه تعالى له التجلي والاستتار على حسب ما يشاء ويختار .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح أبرق بدا من جانب الغور لامع الأبيات من 01 إلى 25 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:40 pm

شرح أبرق بدا من جانب الغور لامع الأبيات من 01 إلى 25 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة أبرق بدا من جانب الغور لامع الأبيات من 01 إلى 25
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة العاشرة أبرق بدا من جانب الغور لامع ]
[ قول الشيخ علي سبط الناظم قدّس اللّه سرهما في أمرالقصيدة العينية المفقودة ]
قال الشيخ علي سبط الناظم قدّس اللّه سرهما :
قد تقدّم الكلام في العنوان أي عنوان هذا الكتاب ، وهو مقدمته السابقة في أمر القصيدة العينية المفقودة من هذا الديوان ، وأن ولد الشيخ تطلبها مدّة ستين سنة بعد وفاة أبيه ، وتطلبها بعد وفاته أي وفاة ولده كمال الدين كما عهد إليّ أربعين سنة ، ولم أرها في يقظة ولا سنة ، فلها غائبة عن أهلها من بقية قصائد الشيخ ووطنها ، أي محلها من هذا الديوان ، مائة عام ، أي ستون في حياة الشيخ كمال الدين ، وأربعون في حياة علي سبط الناظم .
 
 وقد ردّها اللّه تعالى علينا على يد رجل صالح في يوم مبارك من هذه الأيام ، وهو يوم الخميس خامس عشر شهر رجب الفرد ، أي المفرد عن بقية الأشهر الحرم الثلاثة ذي القعدة وذي الحجة والمحرّم ، فإنها ثلاثة سرد ، ورابعها رجب الفرد سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة .
وسبب ذلك أن السيد الجليل والمولى الأصيل الذي هو لأولياء اللّه تعالى نعم الخليل ، الأمير الكبير نجم الدين قاسم بن أميردار ، لقب فارسيّ لوالده ، جعله سبحانه من أفضل العباد وأشرف العباد ، وبلغه في سلوك سبيل المحبة غاية المرام والمراد .
 
أشار إلى أن الشيخ الإمام العالم العامل العارف تاج الدين حسين بن أحمد التبريزي شرح اللّه صدره للإسلام ، وبلّغه إلى أقصى المرام ، والجماعة الذين معه من السادة المشايخ العلماء العارفين المحبين جعلهم اللّه تعالى ممن يحبهم ويحبونه ، كما قال سبحانه : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ المائدة : الآية 54 ]
 
ونوّر سرائرهم بأسراره المصونة قد اتصلت أنسابهم في المحبة بشيخنا ، وصاروا في هذه النسبة الشريفة من أهل بيتنا ، كما قال صلى اللّه عليه وسلم : « سلمان منا أهل البيت » مع أنه فارسي ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم عربي ، وما جعله منهم إلا نسب المحبة ، وأنهم رغبوا في سماع ديوان الشيخ مني ، وأن يرووه عني ، كما رويته عن ولد الناظم الشيخ كمال الدين محمد ، كما رواه لي عن والده الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض

« 193 »
 
قدس اللّه أسراره وضاعف أنواره ، الذي رصف الديوان تلقاء الناظم وهو في الحضرة الإلهية المحبوبية ، ونظمه عقدا يتشرف به في مقام العبودية . فامتثلت الإشارة النجمية ، وأجبتهم إلى ذلك بالعمل والنية .
وسألت عن رجل حسن الصوت تكوت فيه أهلية لقراءة الديوان في حضرتهم لتطرب بها الأسماع يعني أصحاب الأسماع في مجلس السماع ، وتحصل لنا وله من بركة هذا النفس الانتفاع ، فدلني الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير عز الدين أيبك البغدادي ، أدام اللّه تعالى شرفه ورحم سلفه ، على رجل صالح حسن الصيت والصوت قد قنع في هذا الطريق بالقوة والقوت . وهو الشيخ برهان الدين إبراهيم وذهب معي وتوجه حرسه اللّه تعالى إليه بنفسه ، وسأله أن يشرف ويشنف الأسماع بأنسه فحضر إلى مجلس الأمير المشار إليه ، وصحبته رجل صالح سيما الخير ظاهر عليه ، وهو الشيخ جمال الدين عبد اللّه ابن الشيخ محيي الدين إسماعيل الدمشقي نفعنا اللّه تعالى ببركاته ، ووفر لنا نصيبا من صالح دعواته ، ولم أرهما قبل ذلك في مكان ، ولا سمعت من يذكرهما في هذا الزمان .
فلما نظر أي الشيخ برهان الدين إبراهيم المذكور في عنوان الديوان ، وطالعه مطالعة شهدت له بالعرفان ، وقرأ ما ذكرته من أمر القصيدة المفقودة ، فقال هذه عندي في كتاب موجودة ، وما كنت أعرف من نظمها ولا من على حلة المحبة رقم علمها ، فأرسلت معه ولدي إبراهيم فنقلها وإليّ حملها ، فوجدت بذلك فرحا وحبورا ، وانقلبت بها إلى أهلي مسرورا ، ورأيتها كلمة أي جملة منظومة الكلمات فارضية ، ورجعت إلى أهلها راضية مرضية ، وعلمت أن عهد ولد الشيخ إليّ بطلبها بعد وفاته كان منه مكاشفة ، وبشارة برجوعها إليّ من سلفي الصالح سالفة . فالحمد للّه الذي جمع شملها بأخواتها في حياتي ، وجلا على قلبي صور معانيها قبل وفاتي ، وأسأل اللّه تعالى أن يمدنا بأسرار شيخنا وأنفاسه ، وأن يسقينا من حميا الحب بكاسه . وهي هذه القصيدة . اهـ .
قال رضي اللّه تعالى عنه :
01 - أبرق بدا من جانب الغور لامع أم *** ارتفعت عن وجه سلمى البراقع
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن مثل هذا يسمى تجاهل العارف ، لأن المتكلم يعلم حقيقة الحال ، ولكنه يتباله ويظهر من نفسه أنه جاهل بحقيقة الحال ، وليس كذلك ،
فكأنه يقول :
أدهشتني المحبة فلا أدري حقيقة الحال من جهة ظهور هذا النور هل هو برق لامع قد ظهر من جهة الغور ، وإلا فهو من لمعان نور وجه سلمى حيث ارتفعت عنه البراقع التي كانت ساترة لنوره . قال أبو يعقوب السكاكي : إن هذا النوع نسميه سوق المعلوم مساق غيره .
قال : ولا أحب تسميته بالتجاهل ، والهمزة ، في قوله « أبرق » للاستفهام ،

« 194 »
 
ومدخولها مبتدأ . وجملة بدا من جانب الغور : صفته . و « لامع » خبر . فإن قلت كل وجه له برقع ، فما معنى جمعه على براقع .
قلت : المراد « بالبرقع » هنا الساتر وإفراد الساتر كثيرة . أي أم زالت وجوه الستر عن وجه سلمى ، فحيث ظهر لك أن البرقع هنا عبارة عن الساتر الموجب للخفاء ، فلا ضير في جمعه ، وقد علمت أن الغور المكان المنخفض ، وما بين ذات عرق إلى البحر غور أيضا .
والغور أيضا موضع منخفض بين القدس وحوران مسيرة ثلاثة أيام في عرض فرسخين .
 
( ن ) : البرق ، كناية عن تجلي الوجود الحق بأمره الذي هو كلمح بالبصر .
والغور هنا كناية عن باطن الإنسان المشتمل على قلبه المنفوخ فيه الروح من أمر اللّه الذي كلمح بالبصر . وقوله أم ارتفعت عن وجه سلمى ، كناية عن توجه أمر المحبوبة الحقيقية ، والحضرة الإلهية على إشراق كل شيء بنور الوجود الحق تعالى .
وكنى بسلمى لسلامتها عن مشابهة كل شيء . وكنى بالبراقع عن الأشياء الهالكة في تجليات الوجه الإلهي . اهـ .
02 - أنار الغضى ضاءت وسلمى بذي *** الغضى أم ابتسمت عمّا حكته المدامع
 
[ المعنى ]
وهذا أيضا كالذي قبله فالهمزة فيه للاستفهام . و « الغضى » شجر معروف ، والنار تقيم فيه زمانا طويلا . والغضى موضع أيضا . و « ضاءت » النار ظهر ضوءها .
والواو : حالية . و « سلمى » مبتدأ . وخبره بذي الغضى .
وأصله مكان ذي غضى ، وإن لم يكن كذلك أيضا ، فلعلها ابتسمت عن درر بيضاء نقية ، وهي ثناياها ، وقد حكتها أي شابهتها مدامعي في كبر مقدارها وفي بياضها .
 
الإعراب :
نار الغضى : مبتدأ ومضاف إليه . وجملة ضاءت : خبره . والواو : للحال .
وسلمى : مبتدأ . وبذي الغضى : خبره متعلق بمحذوف ، أي وسلمى مستقرّة بذي الغضى ، ومدخول عن ما التي بمعنى الذي ، أي ابتسمت عن فم فيه در حكته وشابهته المدامع أي مدامعي ، وفي البيت إدماج ذكر البكاء وشكاية من سكب المدامع لأنه بصدد بيان إضاءة النواحي فتعرض في ضمن ذلك لذكر المدامع ،
فقد أدمج الثاني في الأول على حد قوله :
اقلب فيه أجفاني كأني * أعدّ بها على الدهر الذنوبا
 
وقلت في الإدماج أيضا :
ظمئت من الزمان فصار وردي * كورد الشاربين من الشراب
ولم تترك لي الأيام صبرا * سوى قدر المودّة في الصحاب

« 195 »
 
ويناسب المطلع قول ابن خطيب داريا :
يا برق لولا الثنايا اللؤلؤيات * ما شاقني في الدجى منك ابتسامات
 
( ن ) : قوله بذي الغضى وهي أرض نبت فيها شجر الغضى كناية عن عالم الإمكان . قال تعالى : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ( 17 ) [ نوح : الآية 17 ]
وقوله عما ، أي عن شفاه حمر تنكشف أطرافها عند الابتسام . وقوله حكته المدامع وهي المآقي ، أي أطراف العين فإنها تكون حمراء من كثرة البكاء والنحيب مخافة فوات الحظ من الحبيب .
وكنى بالابتسام عما ذكر عن ظهور حضرتي الأسماء والصفات إذا تجلت بهما الذات ، وانكشف أمرها لإظهار الكلمات . فإن لون الحمرة كناية عن قهر القدرة كما قلنا في مطلع قصيدة لنا :
تذكرني خديه والحسن أحمر * لظى مهجتي والشيء بالشيء يذكر
 
فإن قولي والحسن أحمر مثل من الأمثال معناه من طلب الأمور العظام احتمل المشقات الجسام قال في القاموس : وقولهم الحسن أحمر ، أي يلقى العاشق منه ما يلقى من الحرب . اهـ .
 
03 - أنشر خزامى فاح أم عرف حاجر *** بأمّ القرى أم عطر عزّة ضائع
 
[ المعنى ]
الهمزة للاستفهام . و « النشر » الرائحة الطيبة . و « الخزامى » بضم الخاء وآخره مقصور ، نبت طيب الرائحة ، وهو خيري البر . و « فاح » ظهرت رائحته . و « أم » عاطفة استفهامية . و « العرف » بفتح العين المهملة الرائحة الطيبة والمنتنة . غير أن أكثر استعماله في الطيبة . وإن أدلت القرينة على أحدهما تعين .
و « حاجر » بالحاء المهملة وبالجيم والراء ، اسم موضع بالحجاز . والحاجري حسام الدين جندي شاعر مجيد من إربل مدينة بالعراق ، ونسبته إلى حاجر ليس لكونه منها بل لكثرة ذكره لها في شعره .
كما نص على ذلك الشيخ العلامة قاضي القضاء ابن خلكان في تاريخه ، واستشهد على ذلك بقوله :
لو كنت كتبت من هواك البينا * ما كنت أسلت مع عيينى عينا
لولاك لما ذكرت نجدا بفمي * من أين أنا وحاجر من أينا
 
و « أمّ القرى » بضم القاف مكة المشرّفة ، وإنما سميت بذلك لأنها توسطت الأرض فيما زعموا ، أو لأنها قبلة الناس يؤمونها ، أو لأنها أعظم القرى بأسا .
قوله « أم عطر عزة ضائع » أم هي الاستفهامية العاطفة . و « العطر » بكسر العين الرائحة الطيبة .
 
و « عزة » بفتح العين وتشديد الزاي علم امرأة قد كان أحبها كثير ، فعرف بذلك ،

« 196 »
 
وأضيف إليها فقيل كثير عزة . و « ضائع » اسم فاعل من ضاع يضوع ، أي انتشرت رائحته ، وهمزته بدل عن واو على نحو صائن فإن أصله من الصون ؛ كما أن هذا من الضوع .
 
الإعراب :
نشر : مبتدأ دخلت عليه همزة الاستفهام المقصود بها تجاهل العارف ، وهو مضاف إلى الخزامى . وجملة فاح : من الفعل والفاعل جملة فعلية في محل رفع على أنها خبر المبتدأ . والعرف أيضا في حيز المبتدأ ، وهو مضاف إلى حاجر .
 
وقوله بأم القرى : متعلق بفاح على أنه ظرف لغو . والباء : بمعنى في أو متعلق بمحذوف على أنه ظرف مستقر لكونه خبرا عن عرف حاجر . وعطر : مبتدأ مضاف إلى عزة الممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث اللفظي . وضائع : خبره .
 
والمراد أنه رضي اللّه عنه ، عنه نشق رائحة طيبة الشميم تفوق على لذة كل نعيم ، وعلم حصولها وتحقق وصولها ، وما جهل مكانها المعروف ومهبها المألوف ، غير أنه تجاهل كما يتجاهل ذو المعرفة ، وأبدى بحسب الظاهر عدم معرفته لتلك الصفة .
 
فقال : أتظن ما شممته نشر خزامى فاح في أم القرى ، أم ذلك رائحة حاجر علت لناشقها في السرى ، أو أن ما شممته عطر عزة العزيزة ، ضاع وما ضاع في هاتيك المواطن الحريزة .
 
( ن ) : كنى بنشر الخزامى الفائح عن تجلي الوجود الحق على صفحات الكائنات الحسية والمعنوية .
وقوله حاجر ، كناية عن حضرة الغيب المطلق ، وعرفه رائحته وهي الأكوان الظاهرة عن حضرة أسمائه الحسنى . وقوله بأم القرى وهي مكة المشرفة ، كناية عن قلب العارف الكامل المستغرق في شهود دربه تعالى فإن روحانية ذلك القلب بيت الرب كما ورد : ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن .
وقوله عزة ، كناية عن المحبوبة الحقيقية لعزتها عن مدارك العقول . وقوله ضائع ، كناية عن ظهور الحق المبين لبصائر العارفين المحققين . اهـ .
 
04 - ألا ليت شعري هل سليمى مقيمة *** بوادي الحمى حيث المتيّم والع
 
[ الاعراب والمعنى ]
« ألا » أداة استفتاح ومعناها التنبيه . و « ليت » للتمني . و « شعري » بكسر الشين بمعنى الشعور ، والمراد منه العلم . وخبر ليت محذوف ، أي ليت علمي حاصل بإقامة سلمى في وادي الحمى . قوله « حيث » ظرف مكان وهو بدل من وادي الحمى .
 
و « المتيم » مبتدأ . و « والع » خبر . والوالع المتولع بالمحبة الذي لا يفارقها والمتيم من تيمه الحب ، أي أذله .

« 197 »
 
( ن ) : قوله سليمى ، كناية عن المحبوبة الحقيقية . وقوله مقيمة ، أي دائمة التجلي والظهور بتكرار مثال المظاهر الروحانية .
وقوله بوادي الحمى ، كناية عن الروح الأعظم الذي هو أوّل مخلوق وهو العقل . وقوله والع ، أي مغري .
والوالع أيضا الكذاب فمعناه على الأوّل حيث المتيم مغرى في محبة تلك المحبوبة المذكورة ، وعلى الثاني حيث هو كاذب في دعوى محبتها لعدم إيفائه حق محبتها من فناء نفسه في هواها ، واضمحلاله في تحقق وجودها ، بحيث تكون هي الموجودة وحدها ولا شيء سواها . اهـ .
05 - وهل لعلع الرّعد الهتون بلعلع *** وهل جادها صوب من المزن هامع
 
[ المعنى ]
يقال « لعلع الرعد » إذا صوّت ، واختلفوا في حقيقة الرعد فمنهم من قال الرعد صوت السحاب ، أو اسم ملك يسوقه كما يسوق الحادي الإبل بحدائه .
 وقد رعد كمنع ونصر وصلف تحت الراعدة لمكثار لا خير عنده « 1 » .
و « الهتون » صفة السماء والمراد انصباب المطر عند صوته ، وقيل الهتون فوق الهاطل .
و « لعلع » اسم جبل واسم موضع واسم ماء .
قوله « وهل جادها » أي مطرها والضمير المؤنث للعلع باعتبار الأرض والبقعة .
و « الصوب » المطر النازل . و « المزن » السحاب جمع مزنة . و « هامع » صفة صوب والهامع المطر .
 
الإعراب :
هل : استفهام . والرعد : فاعل لعلع . وجادها : فعل ومفعول .
وصوب : فاعل وهامع : صفته . ومن المزن : صفة صوب . أي هل مطر ذلك المكان مطر نازل أم هي يابسة لانحباس ماء السحاب . وفي البيت الجناس التام المستوفى بين لعلع ولعلع .
 
( ن ) : قوله وهل لعلع الرعد الهتون بلعلع . ذلك كناية عن تتابع التجليات الإلهية بتوجه الأمر الرباني ، والشأن الروحاني على تقليب الأكوان ، وتجديد الأعيان ، وسرعة ظهور القول الحق يكن فكان . وقوله وهل جادها صوب الخ . الضمير في جادها للعلع والصوب المطر . والمطر هنا كناية عن نزول الأمداد من سماء القيومية على أراضي التقادير الإمكانية في فلوات الحضرة العلية . اهـ .
06 - وهل أردن ماء العذيب وحاجر *** جهارا وسرّ اللّيل بالصّبح شائع
..........................................................................................
( 1 ) في القاموس أو للمكثر مدح نفسه ولا خير عنده . اهـ .
 
« 198 »
 
[ الاعراب والمعنى ]
« أردن » فعل مضارع اتصلت به نون التوكيد الخفيفة ، ولذلك بني على فتح الدال وفاعله ضمير المتكلم . و « ماء » مفعول مضاف إلى العذيب . و « العذيب » تصغير عذب ، والعذب من المشروب ما يساغ عند شربه . والعذيب مصغرة اسم موضع .
و « حاجر » اسم موضع . وهو مجرور بالعطف على المضاف إليه وجهارا أي ورودا جهارا أي مجاهرة من غير إخفاء . والواو : في قوله « وسر الليل » للحال . و « سر » مبتدأ ، و « الليل » مضاف إليه . و « شائع » خبر .
و « بالصبح » متعلق بشائع أي وهل أردن ما ذلك المكان المعروف بماء حاجر .
و « جهارا » حال بمعنى المجاهرة وذلك في حال شيوع سر الليل عند طلوع الصباح .
والمعنى أنه يستفهم عن ورده ماء العذيب وحاجر عند نفور سوام النوم عن المحاجر ، وفي العذيب إيهام التورية وفي البيت الطباق في السر والجهر والمناسبة بين السر والشيوع .
 
( ن ) : كنى بالعذيب عن الروح الآمري . وبالماء عن الإمداد الرباني والفيض الرحماني . وقوله وحاجر كناية عن حضرة الغيب المطلق المحجورة عنه جميع العقول فلا تعرفه بأفكارها وإنما غايتها أن تجنح إلى إنكارها وتعدل إلى الإيمان والتحقق بالإذعان .
وقوله وسر الليل وهو ما خفي عني من ظلمة الأكوان وتداخل عوالم الإمكان . وقوله بالصبح ، أي بضياء نور الوجود الحق من مطلع شمس الأمر الإلهي .
وقوله شائع ، أي ذائع ولهذا قالوا ليس للّه سرّ إلا وهو عند خلقه ، وإنما يعرفه من عرفه ويجهله من جهله . اهـ .
 
07 - وهل قاعة الوعساء مخضرّة الرّبى *** وهل ما مضى فيها من العيش راجع
 
[ المعنى ]
قاعة الدار ساحتها . و « الوعساء » رابية من رمل لينة تنبت أنواع البقول .
و « مخضرة » على وزن مغبرّة . و « الربى » جمع ربوة وهي بتثليث الراء المكان المرتفع .
قوله « وهل ما مضى فيها من العيش راجع » معناه هل يرجع عيش لنا قد مضى في قاعة الوعساء ، ونعمنا به حقبا في الروضة الغناء بعد أن استفهم عن إخضرار ربي قاعة الوعساء ، واخضلال أغصانها بما جادها من غمائم ماء السماء .
وما ألطف قول المؤيد الطغرائي :
أسائل عنه من لقيت وعنهم * متى جاده غيث وما فعلوا بعدي
هل اخضر واديهم فعاشوا بغبطة * أم استبدلوا الصمان بالأجرع الفرد
 
( ن ) : يكني بقاعة الوعساء عن الحقيقة المحمدية التي هي نور اللّه أول مخلوق ، وهو النور الثاني من قوله تعالى : نُورٌ عَلى نُورٍ [ النّور : الآية 35 ] وكل شيء مخلوق

« 199 »
 
من ذلك النور . وربى تلك القاعة ما ارتفع من أهلها الكاملين في العرفان من حقائق الإنسان ، والاخضرار حلل معارفهم في حضرات أسرارهم ولطائفهم . وقوله وهل ما مضى الخ .
وهي أيام تجريده وسياحته في قفار مكة وبين شعابها وجبالها . اهـ .
 
08 - وهل بربى نجد فتوضح مسند *** أهيل النّقا عمّا حوته الأضالع
 
[ المعنى ]
قوله « وهل بربى نجد » إلى آخر البيت ، اعلم أن هذا البيت مشكل ، ويستشكله كثير من الرواة لشعر الشيخ ، وما ذلك إلا أن لفظة « توضح » يتوهم كثير أنها فعل مضارع والحال أنها اسم موضع .
وضبطها بضم التاء وسكون الواو وكسر الضاد كصيغة المضارع للمخاطب من أوضح يوضح .
 
الإعراب :
هل : حرف استفهام . وبربى نجد : خبر مقدم . ومسند : مبتدأ مؤخر ، ومسند على صيغة اسم الفاعل . والفاء : في فتوضح عاطفة . وتوضح : مفتوح لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي ، وفيه أيضا وزن الفعل والسؤال عن المسند الذي يسند أخبار المحبين ، وأهيل النقا : منادى مضاف حذف منه حرف النداء . وعما حوته الأضالع : متعلق بمسند : أي وهل يوجد في ربى نجد وفي توضح ناقل يسند أخبارا صادقة عن الوجه الذي حوته الأضالع يا أهيل النقا .
 
واعلم أن هذا الوجه الذي أوضحته لك هو الوجه الوجيه ، ويجوز في البيت وجه آخر ، وذلك بأن يروى يوضح بالياء على أنه فعل مضارع للغائب ، وتكون الفاء فيه سببية ، ويقدر مؤخرا عن المبتدأ إذ يصير المعنى هكذا : وهل يوجد بربى نجد مسند فيوضح الأخبار الصادقة التي ينقلها عن الوجد الذي حوته أضالعي . فيكون يوضح : منصوبا بأن مضمرة بعد فاء السببية لوقوعه بعد الاستفهام ، وأهيل النقا : على التقديرين منادى .
وعما حوته : متعلق بمسند أيضا . فتأمّل ما أبديته واضحا ، وتدبر ما أمليته لائحا ، فإن ذلك إلهام من اللّه الكريم ، وإنعام من لطفه العميم ، وليس كل من طلب البيوت يلج الأبواب . واللّه أعلم بالصواب .
 
( ن ) : الخطاب للأولياء الورثة المحمديين الكاملين والكناية بربى نجد عن حضرة الأسماء الذاتية وتوضح كناية عن الأسماء الفعلية وهذا شكوى الشوق إلى اللقاء في مقام المحبة الإلهية . اهـ .
09 - وهل بلوى سلع يسل عن متيّم ***  بكاظمة ماذا به الشّوق صانع
 
[ الاعراب والمعنى ]
« لوى » على وزن إلى ما التوى من الرمل أو مسترقه ، جمعه ألواء وألوية .
و « سلع » جبل بالمدينة ، ونقله الجوهري السلع بأل وهو وهم لأنه علم . قوله « يسل »

« 200 »
 
أصله يسأل بضم الياء وسكون السين وفتح الهمزة على وزن يفعل مبنيا للمجهول ثم خفف بقلب الهمزة ألفا فتفتح السين لذلك ، ثم إن الشاعر قصد تسكين اللام للضرورة فالتقى ساكنان الألف واللام فحذفت الألف واستمرّت السين ساكنة ، وسهل ذلك كله قصد المجانسة بين « سلع ويسل عن » وليس لسكون لام يسل وجه سوى ما ذكرناه .
 
و « المتيم » على صيغة اسم المفعول من تيمه الحبّ أي عبده وذلله ، لأن تيم اللّه بمعنى عبد اللّه . و « بكاظمة » صفة متيم متعلق بمحذوف أي عن متيم كائن بكاظمة . و « ما » استفهامية مبتدأ . و « ذا » اسم موصول خبر وبه متعلق بصانع . و « الشوق » مبتدأ .
و « صانع » خبر ، والجملة الاسمية صلة ذا ، وجملة ما ذا به الشوق صانع تفسير للسؤال عن المتيم . وفي البيت الجناس الملفق بين سلع ويسل عن مع التحريف في الجملة .
 
( ن ) : قوله سلع جبل في مدينة الرسول كناية عن الحقيقة المحمدية . اه .
وهل عذبات الرّند يقطف نورها وهل سلمات بالحجاز أيانع
« العذبات » جمع عذبة بالتحريك وهي أطراف الأغصان . و « الرند » بفتح الراء وسكون النون شجر معروف ولا يوجد غالبا إلا بالحجاز . و « النور » بفتح النون زهر الأشجار . و « السلمات » بفتح السين واللام جمع سلمة ، والسلم شجر معروف .
و « بالحجاز » صفة سلمات متعلق بمحذوف . و « أيانع » جمع يانع وهو الشجر الباسق الغصن النابت نباتا حسنا .
 
الإعراب :
هل : حرف استفهام . وعذبات الرند : مبتدأ ومضاف إليه . ويقطف : مبني للمجهول .
ونورها : بالرفع نائب فاعله ، والجملة في موضع رفع على أنها خبر المبتدأ . وسلمات : مبتدأ سوغ الابتداء به تقدم حرف الاستفهام عليه ووصفه بالجار والمجرور . وأيانع : خبره .
 
والمعنى :
استفهم ممن يفهم عن الأغصان المائلة العذبات هل نوّرت فيقطف نورها ، وهو استفهام عن سقياها وارتوائها من نزول المطر ، فإن قطف نورها من لوازم الري ، واستفهم أيضا عن السلمات هل هن من حوادث الدهر سالمات وما قصده سوى الساكنين هناك من الأحباب .
 
وما أحسن ما قلت من قصيدة :
وما الجزع لولا أنتم فيه برهة * وما أهله لولا يكون لكم ذكر
وما ساكنون الحي إلا لأجلكم * لهم عندنا شوق وفي قلبنا قدر
 
( ن ) : يشير بعذبات الرند إلى أرواح الكاملين من أولياء اللّه تعالى المتفرّعة عن الروح الأعظم الصادرة عن أمر اللّه تعالى . وقوله يقطف نورها يشير بذلك إلى

« 201 »
 
ما يصدر عنهم من المعارف الإلهية والحقائق الربانية . وقوله وهل سلمات بالحجاز يكني بذلك عن جماعة من أهل التحقيق في العرفان بعهدهم ناشئين في ذلك المكان . وقوله أيانع ، أي بلغوا مبالغ الكمال وأدركوا من الحقيقة المحمدية مواريث الرجال . اهـ .
11 - وهل أثلات الجزع مثمرة وهل  *** عيون عوادي الدّهر عنها هواجع
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الأثلات » جمع أثلة . والأثل شجر يشبه الطرفاء بل هو أعظم منه . وفي الحديث أن منبر النبي صلى اللّه عليه وسلم كان من أثل الغابة ، والغابة غيضة ذات أشجار كثيرة ، وهي على تسعة أميال من المدينة . و « الجزع » بكسر الجيم وسكون الزاي منعطف الوادي .
 
و « المثمرة » التي طلع ثمرها . وعوادي الدهر جمع عادية ، والمراد مصاب الدهر وحوادثه التي توجب العدوان والظلم ، فقد شبه عوادي الدهر بقوم ظالمين وحذف المشبه به ، وكنى عنه بذكر شيء من لوازمه وهي العيون . و « الهواجع » النائمات وهو ترشيح للاستعارة وإثبات العيون تخييل .
 
الإعراب :
أثلات الجزع : مبتدأ ومضاف إليه . ومثمرة : خبره . وعيون عوادي الدهر : مبتدأ مضاف إلى عوادي . وعوادي : مضاف إلى الدهر . وهواجع : خبر العيون . وعنها : متعلق به .
يريد الاستفهام عن حوادث الأيام هل غفلت عن أثلات الجزع فأثمرت الثمار المعتادة ، واقتطف الرائد منها مراده . والاستعارة في البيت لطيفة في بابها إلى الغاية .
 
( ن ) : قوله أثلات الجزع كناية عن المريدين الصادقين والمولهين في اللّه من الأولياء المجذوبين فإنهم في منعطف الوادي المقدس وعلى جادة الطريق المؤسس .
وقوله مثمرة فإن ذلك نادر في حق الأثلات ، وهو ظهور العلوم الإلهية عنهم وتحققها منهم . وقوله وهل عيون الخ .
يعني هل تلك الأثلات النابتة في جانب من الوادي المقدس والمقام الأقدس ، حصلت على نتائج سلوكها في طرائق ملوكها ، وهل حفظت من آفات رجوعها وفتنة جموعها ، ومكابدة صمتها وعزلتها وسهرها وجوعها . اهـ .
 
12 - وهل قاصرات الطّرف عين بعالج *** على عهدي المعهود أم هو ضائع
 
[ الاعراب والمعنى ]
« قاصرات الطرف » عبارة عن الحسنات التي تحبس طرفها ، أي عينها عن النظر إلى ما لا يليق . وذلك عبارة عن العفة وطهارة الذيل . وفي القاموس امرأة قاصرة الطرف لا تمده إلى غير بعلها .
و « عين » بكسر العين وسكون الياء جمع عيناء ، وهي

« 202 »
 
التي عينها واسعة وفي نظم النهاية :
والعين في الحور لجمع عينا * واسعة العين فحصل زينا
و « عالج » بكسر اللام موضع به رمل . و « العهد » هنا الموثق والذمّة . و « المعهود » المعلوم . و « الضائع » خلاف المحفوظ .
 
الإعراب :
هل : حرف استفهام وهو في الأصل بمعنى قد . وقاصرات الطرف :
مبتدأ مضاف إلى الطرف . وعين : بالرفع بدل من قاصرات . وبعالج : خبر متعلق بمحذوف . وعلى عهدي : خبر بعد خبر .
والمعهود : صفة عهدي : والتقدير هل القاصرات على ما أعهد من عهدهن أم هو ضائع لا يضوع مفقود لا يوصف بالشيوع .
 
( ن ) : قوله قاصرات الطرف كناية عن نفوس العارفين المحققين من الأولياء الكاملين لا يمتد طرفهم إلى غير ربهم لأنهم لا غير ربهم عندهم فنفوسهم قاصرات الطرف على شهود ربهم في كل شيء معقول أو محسوس . وقوله عين ، كناية عن كمال تحققهم في المعرفة الإلهية وزيادة تبصرهم في الأعيان الكونية . وقوله بعالج ، كناية عن مقام المجاهدة في طريق اللّه تعالى المشتمل على مكابدة النفس والهوى .
 
وقوله على عهدي المعهود ، أي هل هم مقيمون على ما عهدتهم فيه أيام صحبتي معهم . اهـ .
13 - وهل ظبيات الرّقمتين بعيدنا *** أقمن بها أم دون ذلك مانع
 
« الظبيات » جمع قلة ، مفرده ظبية وهي الأنثى من الغزلان . و « الرقمتان » هنا روضتان بناحية الصمان . و « بعيد » بضم الباء وفتح العين تصغير بعد ، والمراد منه تقريب زمن البعدية ، أي بعدنا بمدة قليلة .
والضمير في « بها » للرقمتين باعتبار ملاحظة بقعتهما قطعة من الأرض مستقلة ، أو أن ذلك مبني على ما جوّزه الشيخ من أن المثنى إذا كان عبارة عن شيئين متلازمين لا يفترقان ولو ادعاء جاز رجوع الضمير إليهما منفردا .
 
واستشهد لذلك بقول القائل :
وعيناي في روض من الحسن يرتع
قوله « أم دون ذلك مانع » في مقابلة أقمن بها إذ مراده أن يستفهم عن الظبيات .
 
والمعنى :
استفهم عن غزلان الرقمتين بعد البعد منا والبين هل أقمن بالروضتين أم منع من ذلك بواعث الحين . وتنكير مانع للتعظيم أي أم منع من ذلك مانع عظيم .

« 203 »
 
واعلم أنه ورد في الحديث الصحيح على كل خير مانع فيمكن أن يدّعي أن الإقامة بالرقمتين خير عظيم ، فلذلك ورد عنه المانع وحالت دونه الموانع .
 
( ن ) : كنى بالظبيات عن حضرات التجلي الاسمائي من جناب الذات الغيبية النافرة عن الأكوان بالكلية ، فلا تشبه شيئا محسوسا ولا معقولا ولا يشبهها شيء محسوس ولا معقول مع ظهورها كمال الظهور في العوالم الإمكانية .
وكنى بالرقمتين عن حضرة العلم الإلهي ، وهما الرقمتان . والظبيات المضافة إليها كناية عن نفوس الأولياء العارفين المحققين . وقوله أقمن ، أي تلك الظبيات .
وقوله بها ، أي في منزلة الرقمتين المذكورتين بعد فنائهم عن وجودهم الموهوم في حضرة العلم والكلام المرقوم .
وقوله أم دون ذلك مانع فالمانع هو رجوعهم إلى مقام العبودية لتكليفهم بالعبادة من قوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث القدسي : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي شطرين ولعبدي ما سأل .
فلا بدّ من الرجوع إلى العقل بعد الخروج إلى المعرفة . اهـ .


14 - وهل فتيات بالغوير يرينني *** مرابع نعم نعم تلك المرابع
 
« الفتيات » جمع فتاة وهي الشابة من النساء . و « الغوير » تصغير غور ، وهو المكان المنخفص ، وهو خلاف النجد لأن النجد المكان المرتفع . والغوير على وزن زبير ماء معروف لبني كلاب ، ومنه قول الزباء لما تنكب قصير بالأحمال الطريق المنهج ، وأخذ على الغوير « عسى الغوير أبؤسا » . و « يرينني » الضمير للفتيات .
و « المرابع » جمع مربع وهو منزل القوم في زمن الربيع فقط . و « نعم » بضم النون وسكون العين علم لامرأة من العرب . و « نعم » فعل ماض يراد منه إنشاء المدح .
و « تلك » اسم إشارة مرفوع المحل على أنه فاعل . و « المرابع » صفة اسم الإشارة .
 
الإعراب :
فتيات : مبتدأ وإنما سوغ الابتداء به تقدم أداة الاستفهام عليه .
وبالغوير : صفة فتيات متعلق بمحذوف أي فتيات كائنات بالغوير ، وجملة يرينني مرابع نعم : خبر المبتدأ . وقوله تلك المرابع : جملة إنشائية مستأنفة لإنشاء المدح .
 
المعنى :
أنه يستفهم عن فتيات نازلات بالغوير هل ترينه مرابع هاتيك الحبائب ، فكأنه نسي الأماكن واشتبهت عليه المساكن ، والسؤال عنها لأجل الساكن . وفي البيت الجناس المحرف بين نعم ونعم .
 
( ن ) : قوله وهل فتيات يكني بذلك عن السالكين المبتدئين في طريق اللّه تعالى ، فإنّ بقايا نفوسهم المتعلقة بأبدانهم يديرونها على الطاعة والعبادة فهم في المجاهدة ، ولهذا قال بالغوير تصغير الغور ، والكناية بالغور هنا عن البنية الإنسانية لأن فيها سريان

« 204 »
النفوس البشرية . وقوله يرينني أي تلك الفتيات بحالهن أو بمقالهن فإن نفوس السالكين تحس بالأمور الإلهية فتظهر عليهم آثارها وتشرق على بواطنهم وظواهرهم أنوارها . وقوله مرابع كناية عن مظاهر التجلي الإلهي ومراتب الانكشاف الرحماني ، فإن ذلك يظهر للسالك دون المتجلي الحق فيرى المنازل ولا يرى النازل .
وقوله نعم كناية عن المحبوبة الحقيقية والحضرة العلية الغيبية الوجودية . اهـ .
 
15 - وهل ظلّ ذاك الضّال شرقيّ ضارج *** ظليل فقد روّته منّي المدامع
 
« الظل » الفيء أو الظل بالغداة والفيء بالعشيّ . و « الضال » من السدر ما كان عذيا . واحدته بهاء أي ضالة أو هو السدر البري . و « شرقي » منصوب على أنه ظرف إذ المراد المكان الشرقي . و « ضارج » بضاد معجمة بعدها ألف وراء وجيم اسم موضع .
و « ظليل » تأكيد للظل كما يقال روض أريض وظل ظليل وليل أليل ، ويجوز أن يراد بالظل الظليل الدائم الظل .
وجملة قوله « فقد روته مني المدامع » تعليل للسؤال عن كون الظل ظليلا ، لأن المدامع إذا روّت شجر الظل الذي هو هنا الضال فيجب أن يكون ظله ظليلا ، لأن زيادة الظل تابعة لزيادة الورق ، وزيادة الورق من كمال الارتواء بالمدامع . فلذلك قال : فقد روّته مني المدامع ، أي فقد روّت المدامع مني ذلك الضال الذي هو في مكان شرقي الضارج ، وحيث روّته المدامع بدمع هامع فلا بدع بكون ظله ظليلا ، وورده سلسبيلا ، وظل : مبتدأ مضاف إلى اسم الإشارة الموصوف بالضال .
والمعنى :
هل ظل ذاك الضال حال كونه في مكان في الجانب الشرقي بالنسبة إلى ضارج ظل تام الظلال ، فإن مدامعي قد روّته كما تروي السحاب الثقال . وكأنه يحن إلى معاهد أيام لقاء معاهده فلذلك يسأل عنها كثيرا ، ويكاد عقله عند ذكرها أن يكون مستطيرا .
 
( ن ) : يكني بالظل هنا عن جملة الكون ملكا وملكوتا فإنه ظل الأعيان المتوجه بها الأمر الإلهي من حضرة الكلام الرباني والعلم الرحماني بواسطة الجامع الكلي وهو اللوح والقلم . قال تعالى : وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ( 15 ) [ الرّعد : الآية 15 ]
وقوله ذاك الضال كناية عن الأعين الثابتة بلا وجود أزلا وأبدا في الحضرة العلمية والحضرة الكلامية .
وأشار إليها بكاف البعد لكونها غيبا عنا . ويشير بضارج إلى حضرة الأسماء الإلهية والصفات الربانية .
وشرقي ذلك كناية عن الظهور بالآثار ، ولوامع الأسرار.
وقوله ظليل كناية عن دوامه.

« 205 »
 
في الدنيا والآخرة إلى الأبد بغير نهاية ولا أمد . وقوله روّته مني ، أي من المتجلى عليّ بي وهو الوجود الحق . وقوله المدامع كناية هنا عن الأمداد من عيون الأسماء والصفات . اهـ .
 
16 - وهل عامر من بعدنا شعب عامر *** وهل هو يوما للمحبّين جامع
 
« عامر » الأول اسم فاعل من عمر المكان فهو عامر . و « من بعده » متعلق به .
و « شعب » بكسر الشين المعجمة وسكون العين الطريق في الجبل ومسيل الماء في بطن أرض ، أو ما انفرج بين الجبلين . والمراد به هنا مكان مخصوص مضاف إلى عامر وهو أبو قبيلة .
 
الإعراب :
هل : حرف استفهام . وعامر : مبتدأ . وشعب : سدّ مسدّ الخبر وهو مبتدأ . وجامع : خبر . وللمحبين : متعلق به ، وهو يعود إلى شعب عامر . أي هل هو عامر وجامع للمحبين . والمحبون جمع محب . وفي البيت الجناس التام بين عامر وعامر .
قوله « من بعدنا » أي من بعد مسيرنا عنه ورحيلنا منه هل استمرّ عامرا بالأحباب والأصحاب .
وقلت مواليا :
برق الحمى من أعالي شعب عامر شمت * وفي بوادي المحبة بعدكم قد همت
وبت سهران أرعى نجمكم ما دمت * حقيق نام السمك بالما وأنا ما نمت
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله من بعدنا ، أي من بعد مفارقتنا وذهابنا بالفناء والاضمحلال .
وقوله شعب عامر كناية عن حضرة الروح الأعظم الصادر عن أمر اللّه تعالى بلا واسطة .
المنفوخ منه في الأرواح الجزئية .
وقوله للمحبين جامع ، أي محتو عليهم كما عهدناه ، كذلك . وهو حظيرة القدس الجامعة لأهل اللّه تعالى العارفين به المحققين ، والورثة المحمديين . اهـ .
 
17 - وهل أمّ بيت اللّه يا أمّ مالك *** عريب لهم عندي جميعا صنائع
 
« هل » حرف استفهام . و « أمّ » فعل ماض بمعنى قصد . و « بيت اللّه » كعبته المعظمة المشرفة . و « أمّ مالك » وما أشبه ذلك أسماء ينطق بها البلغاء ، ومرادهم مخاطب خاص لأن كل أحد لا بدّ له من مخاطب خاص يخصه بالمخاطبة عند المكالمة .
و « عريب » تصغير عرب . و « الصنائع » هي المعروف . يقال فلان فعل مع فلان صنيعة معروف ، ومن كلام الصدّيق الأعظم : صنائع المعروف تقي مصارع السوء .

« 206 »
 
الإعراب :
أم : فعل ماض وفاعله عريب . وبيت اللّه : مفعول . ويا أم مالك :
منادى مضاف فالجملة الندائية معترضة بين الفعل وفاعله . وجملة لهم عندي جميعا صنائع : في موضع رفع على أنها صفة عريب .والمعنى :
هل قصد كعبة اللّه عرب معظمون لهم عندي صنائع معروف معروفة لا أنساها ، ومكارم موصوفة لا أتناساها . وفي البيت الجناس التام المحرف بين أمّ وأمّ .
 
( ن ) : قوله بيت اللّه وهو الكعبة المشرفة ، كناية عن قلب العارف الكامل العالم المحقق العامل ، كما ورد : ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن . وقوله يا أم مالك ، كناية عن المحبوبة الحقيقية فإن الأم بمعنى الأصل . قال في القاموس : أم الكتات أصله .
والمالك معلوم وهو الذي بيده كل محسوس وكل مفهوم . وقوله عريب تصغير عرب للتعظيم ، وهم أهل المعرفة الإلهية يطلبون ربهم من كعبة قلوبهم فيجتلون أنوار نفوسهم الراضية المرضية ، ويطوفون بها بكرة وعشية ، ويسعون بين صفاها ومروتها بإخلاص ونية .
وقوله عندي ، أي في نظري لأنهم مشايخ سلوكي وأئمة مقامي وملوكي .
وقوله جميعا أي كلهم ، فإن من آمن بجميع الأنبياء عليهم السلام وكفر بواحد منهم فقد كفر بالجميع ، لأنهم كلهم على حق واحد يشهدونه بقلوبهم في حضرات غيوبهم ، وأحوالهم مختلفة ومقاماتهم متنوّعة غير مؤتلفة . اهـ .
 
18 - وهل نزل الرّكب العراقي معرّفا *** وهل شرعت نحو الخيام شرائع
 
« الركب » ركبان الإبل . و « العراقي » المنسوب إلى العراق . والعراق بكسر العين بلاد معروفة من عبادان إلى الموصل طولا ، ومن القادسية إلى حلوان عرضا ، سميت بعراق المزادة لجلدة تجعل على ملتقى طرفي الجلد إذا خرز في أسفلها ، لأن العراق بين الريف والبر ، أو لأنه على عراق دجلة والفرات ، أي شاطئهما ، والعراقان الكوفة والبصرة .
و « العراقي » في البيت ساكن الياء تخفيفا . و « معرّفا » على صيغة اسم الفاعل ، بمعنى الواقف بعرفات .
و « شرعت » بضم الشين وكسر الرّاء وفتح العين مبني للمجهول ، ومعناه أظهرت وأوضحت .
و « شرائع » جمع شريعة ، وهي الطريق المستقيمة ، أي وهل أوضحت طرائق مستقيمة سالكة نحو الخيام .
 
الإعراب :
الركب : فاعل نزل . والعراقي : صفة الركب . ومعرّفا : حال من الركوب . وشرعت : مبني للمجهول . وشرائع : نائب الفاعل أي وهل أوضحت نحو الخيام طرائق .
 
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: أبرق بدا من جانب الغور لامع الأبيات من 01 إلى 25 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:41 pm

أبرق بدا من جانب الغور لامع الأبيات من 01 إلى 25 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة أبرق بدا من جانب الغور لامع الأبيات من 01 إلى 25
« 207 »
[ المعنى ]
( ن ) : الركب كناية عن الأولياء العارفين بربهم المحمولين به على نجائب أرواحهم الآمرية ، وتراكيب أجسامهم الطبيعية .
قال تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [ الإسراء : الآية 70 ] في بر الأجسام وبحر الأرواح .
وقوله العراقي ، أي المنسبون إلى بلاد العراق ، وهي محل القطب أمام الأوتاد المستعدين لظهور الحقائق بهم كمال الاستعداد ، ونزول هذا الركب المذكور من أوج مقاماتهم إلى مدارك الجمهور للدعوة إلى اللّه على بصيرة مع خلوص السريرة . وقوله معرفا ، يشير بتعريفهم هذا إلى أنهم نزلوا إلى الخلق بعد معرفة الخالق . وقوله نحو الخيام ، كناية عن الأجسام الإنسانية المشتملة على الأرواح الآمرية . قال تعالى : حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ( 72 ) [ الرّحمن : الآية 72 ] لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [ الرّحمن : الآية 56 ]
لأن تلك الأرواح أبكار الحضرة ومبدعات القدرة . اهـ .
 
19 - وهل رقصت بالمأزمين قلائص *** وهل للقباب البيض فيها تدافع
 
[ الاعراب والمعنى ]
« المأزمين » بفتح الميم وسكون الهمزة وكسر الزاي ، هو الموضع المضيق .
والمأزمان مضيق بين جمع وعرفة ، وآخر بين مكة ومنى . و « القلائص » جمع قلوص وهي الشابة من الإبل أو الباقية على السير أو أول ما يركب من إناثها إلى أن تثني ، والناقة الطويلة القوائم ، ورقص القلائص بالمأزمين إشارة إلى شدة حركتها شوقا إلى قرب المزار ، ودنوّ عهد الدار .
و « القباب » على وزن كتاب جمع قبة . و « البيض » صفة القباب . و « فيها » يرجع للمأزمين . وهو وإن كان مثنى إلا أنه لما كان عبارة عن مضيق معلوم عومل معاملة المفرد . وقلائص : فاعل . و « القباب البيض » عبارة عن الهوادج التي تكون على سنام البعير ، والمراد من تدافعها صدم بعضها البعض ، فكأنّ الواحد منها يدفع الآخر فبينها تدافع .
ورقص القلائص مستلزم لتدافع القباب البيض فوق الركاب . وكل ذلك ناشىء عن الشوق الذي يحرك الحيوان فكيف لا يحرّك الإنسان .
 
( وما أحسن قول أبي الفتح كشاجم ) حيث قال :
إن كنت تنكر أن في الأ * لحان فائدة ونفعا
انظر إلى الإبل التي * لا شك أغلظ منك طبعا
تصغي لأصوات الحدا * ة فتقطع الفلوات قطعا
 
( ن ) : يكني بالمأزمين هنا عن العقل والحس . فإنهما مضيقان تنحصر فيهما النفس الإنسانية ، وذلك بين مقام الجمع ومقام الفرق . وقوله قلائص ، كناية عن النفوس الإنسانية في حال سلوكها في طريق اللّه تعالى وهي حاملة أثقال التكاليف

« 208 »
الشرعية ، وعهود المشايخ من سفر الحج الروحاني إلى الحضرة الإلهية .
وكنى بالقباب عن العقول البشرية التي هي فوق مطايا النفوس الإنسانية ، وهي حاجبة لها عن استيفاء المدارك العرفانية .
وقوله البيض لأنها من عالم الأنوار العلوية . وقوله تدافع فإن العقول تتدافع وينكر بعضها على بعض في مداركها .
وما من مفهوم عقلي إلا وله مفهوم آخر يدافعه ويناقضه ، وكذلك الحس يدخله الوهم والشك والخطأ ، ويناقض بعضه بعضا ولا ثقة إلا بما ورد عن اللّه تعالى وعن رسله عليهم السلام . اهـ .
20 - وهل لي بجمع الشّمل في جمع *** مسعد وهل للّيالي الخيف بالعمر بائع
 
[ المعنى ]
اعلم أن هذا البيت يستصعب كثيرا . وحله أن تقول وهل لي مسعد بجمع الشمل في جمع ، أي في مزدلفة . ويجوز فيه الصرف وعدمه لأنه مؤنث معنوي ساكن الوسط فيجوز فيه الصرف ، وعدم الصرف أقوى . كما قالوا في هند ، والمراد أنه يستفهم عن مسعد ومعين يساعده على جمع الشمل في جمع ، أي في هذا المكان الشريف الذي هو واقع بين عرفة ومنى . ويستفهم بالمصراع الثاني عن شخص يبيعه ليالي الخيف بجميع عمره ، فتكون لذة ليالي الخيف مرجحة على لذة العمر كله .
فلذلك قال : وهل لليالي الخيف بائع بالعمر ، أي بمدة عمري وليالي الخيف هي ليالي منى الثلاث . وفي البيت الجناس التام في جمع وجمع .
 
( ن ) : قوله في جمع ، أي المزدلفة . ويوم جمع يوم عرفة ، وأيامه أيام منى إشارة إلى شهود الأمر الإلهي الذي هو كلمح بالبصر .
وقوله لليالي الخيف هي ليالي منى الثلاث إشارة إلى الجسد والنفس والروح فإنها ظلمات ثلاث بالنسبة إلى نور الوجود الحق الذي هو المنى والقصد وهي لياليه الثلاث في الحج الروحاني بالسفر الرحماني والإحرام الإيماني . اهـ .
21 - وهل سلّمت سلمى على الحجر *** الّذي به العهد والتفّت عليه الأصابع
 
[ الاعراب والمعنى ]
يريد رضي اللّه عنه حبيبة يريدها كليلى وسعدى وجمل وعزة وبثينة وعذراء .
و « الحجر » محرّكة عبارة عن الحجر الأسود يقبله الطائف ويستلمه . فإن قلت : ما معنى قوله على الحجر الذي به العهد .
قلت : ذلك تلميح إلى ما نقل عن علي رضي اللّه عنه من أن اللّه تبارك وتعالى لما أخذ العهد على آدم وأولاده في عالم الذر كتب عهدهم في كتاب ، ووضع في الحجر الأسود ، فلذلك قال « به العهد والتفت عليه الأصابع » أي أصابع الطائف .
وفي البيت جناس الاشتقاق بين سلمى وسلمت . و « به العهد » مبتدأ وخبر ، والجملة صلة الذي . قوله « والتفت » معطوف عليه متعلق به إذ
 

« 209 »
المعنى على الحجر الذي استقر العهد به والتفت عليه الأصابع ، وهو معطوف على سلمت .
أي سلمت على الحجر والتفت الأصابع منها عليه .


( ن ) : قوله سلمى ، كناية عن المحبوبة الحقيقية ، وقوله الحجر ، أي القلب المتحجر على المعرفة الإلهية ، أي المصمم عليها فإن القلوب إذا قست أشبهت الحجارة .

والإشارة هنا إلى الحجر الأسود الذي هو عند الكعبة ، وهي كعبة الشكل الصنوبري في الجانب الأيسر من تجويف باطن الجسم الإنساني من العارف المحقق الرباني .
وقوله العهد وهو عهد الربوبية الذي أخذه تعالى على بني آدم . اهـ .
22 - وهل رضعت من ثدي زمزم رضعة *** فلا حرّمت يوما عليها المراضع
 
الضمير في رضعت يعود إلى سلمى ، وفي الرضاع إشارة إلى أن ماء زمزم يربي شاربه كما يربي حليب المرأة ولدها .
و « زمزم » هنا مشبه ، والمشبه به امرأة مرضعة حليبها وافر ، فحذف المشبه به ، وكنى عنه بشيء من لوازمه وهو الثدي المضاف إلى زمزم ، وذلك تخييل كإثبات الأظفار للمنية المشبهة بالسبع . وفي الرضاع ترشيح قوله « فلا حرمت » « لا » هنا دعائية .
و « حرمت » مبني للمجهول . و « المراضع » نائب فاعله ، وعليها متعلق بحرمت .
و « يوما » كذلك أي إذا رضعت مرة واحدة من ثدي زمزم فلا منع بعد ذلك من حليب مرضعة . وفي ذلك تلميح إلى تحريم المراضع على موسى عليه السلام عندما غاب عن أمه للضرورة المعلومة من آيات كتاب اللّه العظيم . ولعل الفاء في قوله « فلا » فصيحة .

أي إذا رضعت سلمى رضعة واحدة من ثدي زمزم ، فلا تحرم بعد ذلك المراضع عليها لوصولها إلى المقصود ولورودها على ذلك الحوض المورود .
 
الإعراب :
هل : حرف استفهام وفاعل رضعت ضمير يعود إلى سلمى . وزمزم : مضاف إليه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي وفيه وزن الفعل أيضا .
ورضعة : مفعول مطلق للعدد وجملة فلا حرمت : استئنافية لا محل لها من الإعراب .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله رضعت يعني سلمى المحبوبة الحقيقية المتقدم ذكرها في البيت قبله .
والكناية بثدي زمزم عن القوّة العلمية الفائضة عن الحضرة الإلهية .
وقوله عليها ، أي على نفسه التي هي صورة التجلي الإلهي عليه .
وقوله فلا حرمت يوما عليه المراضع إشارة إلى المشرب المحمدي فإن صاحبه ما حرمت عليه المراضع بل هو يستمد من كل شيء فيجدد الإمداد الإلهي والفيض الرباني . اهـ .
 
23 - لعلّ أصيحابي بمكّة يبردوا *** بذكر سليمى ما تجنّ الأضالع
24 - وعلّ اللّويلات الّتي قد تصرّمت *** تعود لنا يوما فيظفر طامع
25 - ويفرح محزون ويحيا متيّم *** ويأنس مشتاق ويلتذّ سامع  


« 210 »
[ الاعراب والمعنى ]
 
« لعل » هنا للترجي . و « أصيحابي » تصغير أصحاب على حدّ ما قالوا أجيمال تصغير أجمال . وقد تقرر حيث تكرر أن التصغير في كلامهم قد يرد للتحبيب وللتقريب ، وقد يرد للتعظيم وإن كان الأصل فيه أن يرد للتحقير والتقليل ، والمقام كفيل بتمييز ذلك .
 
و « بمكة » ظرف لمعنى المصابحة المفهومة من أصيحابي ، أي لعل الفتية الذين أصاحبهم بمكة ، والمراد ترجيه أن أصحابه الذين صاحبهم في مكة يذكرون سليمى فيكون ذكرهم لها سببا لإبراد نار القلوب التي سترها في غضون الأضالع . وقوله « يبردوا » لأجل ضرورة الشعر ، وإلا فالواجب يبردون بإثبات نون الإعراب من أبرد الماء جعله باردا .
و « ما » في قوله « بما تجن الأضالع » موصولة ومحلها النصب على أنها مفعول لقوله يبردوا . و « بذكر سليمى » متعلق بيبردوا .
 
و « تجن » بضم التاء وكسر الجيم وتشديد النون ، وهو بمعنى تستر ومنه الجنين والجنة والجنون وجن الليل والمجن بكسر الميم وفتح الجيم لأن المعنى في الجميع يرجع إلى معنى الستر والإخفاء والأضالع العظام المنحنية فوق القلب والكبد .
وجملة « يبردوا » الخ في محل رفع على أنها خبر لعل .
والمعنى أترجى من أصحابي الذين أحبهم بمكة أن يذكروا سليمى ، فلعل ذكرهم لها يكون سببا لإبراد الضلوع ، وإخماد لهيب مانع في الليل الهجوع ، وأرتجي أيضا عود الليالي التي تصرمت بلقاء الأصحاب ووصال الأحباب وصغر الليالي وللتقريب والتحبيب .
قلت إن أراد عود نفس الليالي فالواجب أن تكون « لعل » هنا بمعنى التمني لأن ذلك ما لا طمع فيه ، وإن كان المراد عودة مثل العيش الذي مر في هاتيك الليالي التي قد تصرمت فهو ترج على بابه ، وعل بدون لام لغة في لعل . وجملة « تعود لنا يوما » خبر لعل .
وقوله « يوما » متعلق بتعود . وذلك دليل على أن المراد من طلب دعوة ما كان في تلك الليالي من الصفاء والانشراح ، وإلا فكيف يتمنى عودة الليالي في الأيام ويجعل الظرف الزماني ظرفا لمثله .
فتأمل فإنه دقيق وبالتدبر حقيق . قوله « فيظفر » الفاء للسببية والفعل منصوب بأن مضمرة بعد فاء السبب لتقدم معنى التمني عليه .
وقوله « ويفرح ويحيا ويأنس ويلتذ » أفعال منصوبة بأن مضمرة باعتبار ملاحظة عطفها على قوله « فيظفر طامع » وكل هذه الأفعال مترتبة على طلب عود الليالي السالفات ، وتمني رجوع الأيام الخاليات ، فإن الظفر والفرح والحياة والأنس واللذة للطامع ، والمحزون والمتيم والمشتاق والسامع إنما يكون عند لقاء الأحباب وقرب الأصحاب ، وأما البعاد والفراق واشتعال غليل

« 211 »
 
الأشواق فإنها موجبة لضد هذه الأوصاف . والمطلوب من اللّه تعالى جزيل الألطاف .
 
ولا يخفى على ذوي الذوق الكامل والشوق الشامل ما اشتملت عليه هذه الجمل من المحاسن التي راق موردها غير آسن ، وباللّه تعالى التوفيق ومنه الهداية إلى أقوم طريق .
 
( ن ) : قوله بذكر سليمى ، كناية عن المحبوبة الحقيقية فإن من أحب شيئا أحب ذكره ، ووجد بذكره تبريدا لحرارة الشوق إليه . وقوله ما تجن الأضالع الذي تجنه الأضالع ، أي تستره هو نيران الأشواق وتلهفات الاحتراق .
وقوله اللويلات وهي ليالي منى الثلاث الجسمانية والنفسانية والروحانية ذات الانبعاث التي من دونها المنى ، وعليها أمر الكائنات ابتنى . وقوله التي قد تصرمت ، أي انقضى شهودها في حالة السلوك قبل طلوع نهار الوجود وزوال الشكوك .
وقوله تعود لنا يوما ، أي من أيام الأمر الإلهي الذي هو كلمح البصر ويعقبها ليالي الأكوان كلمح بالبصر كن فكان ، وهو تعاقب لمحات الأزمان .
 
وهذا حنين المنتهى إلى أوقات بدايته واشتياقه إلى اجتهاده ، ومجاهدته لاستحلائه لذة الوصول وشهوة الحصول .
وهو قوله فيظفر طامع ولم يذكر ما يظفر به ولا ما هو طامع فيه لتعينه في الوجود عنده إذ لا موجود سواه ولا مطلوب إلا إياه .
وقوله طامع ومحزون ومتيم ومشتاق وسامع ، يعني بهم نفسه لعدم دعوى نفسه وتنكيره لتحقيره .

وقوله يحيا متيم كان هذا المتيم المكنى به عن نفسه مات من العشق والحب ، فإذا عادت له تلك الليالي الماضية ليالي الاجتماع واللقاء يحيا بعد موته ويظفر بعد فوته . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح أدر ذكر من أهوى ولو بملامي الأبيات من 01 إلى 35 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:42 pm

شرح أدر ذكر من أهوى ولو بملامي الأبيات من 01 إلى 35 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة أدر ذكر من أهوى ولو بملامي الأبيات من 01 إلى 35
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة الحادية عشرة أدر ذكر من أهوى ولو بملامي ]
قال رضي اللّه تعالى عنه :
01 - أدر ذكر من أهوى ولو بملامي *** فإنّ أحاديث الحبيب مدامي
[ الاعراب والمعنى ]
« أدر » فعل أمر من باب الإفعال ، من الإدارة ، وهي في الغالب تستعمل لإدارة المدام ، فلذلك قال « فإن أحاديث الحبيب مدامي » . 
قوله « ولو بملامي » أي ولو كانت إدارتك لذكر الحبيب بالملام أي بلومك لي على حبه فيقول أحب ذكره ولو على سبيل الملام . والحال أن الملام مكروه عند المحب ، ولكن لكونه مشتملا على ذكر من يهواه كان مقبولا . وقد مر لنا غير مرة بيان لو الوصلية « 1 » والواو الداخلة عليها وأن ذلك يقتضي محذوفا هو أولى بالحكم من المذكور ، وتقديره : أدر ذكر من أهوى إن لم يكن بملام ، ولو كان بملام ولو هنا دالة على كان واسمها ، وقوله بملام خبرها على حد قولك : كل ولو لقمة ، أي ولو كان المأكول لقمة . وجملة قوله « فإن أحاديث الحبيب مدامي » جملة تعليلية لتصديرها بالفاء ، وأن ومدامي مضاف إلى ياء المتكلم ، والأحاديث جمع أحدوثة شاذ ، وما صيّرت الجملة للتعليل إلا بسبب الإدارة لأنها تشير إلى المدام فصحّ قوله :
« فإن أحاديث الحب مدامي »
وفي قوله فأحاديث الحبيب مدامي حصر لوجود تعريف الطرفين فيه ، أي لا مدام لي إلا أحاديث الحبيب فأعد ذكرها فإن سامعها يطيب ، وهي لمريض المحبة أنفع طبيب ، والمحبة حالها غريب تجعل البعيد عين القريب ، والأجنبي نفس النسيب .
( ن ) : الخطاب للعذول وفي قوله أدر استعارة بالكناية ، فإنه شبه ذكر من يهواه بكأس الخمر الدائر على الندامى لاقتضائه السكر عند سماع الذكر ، وحذف المشبه به
..........................................................................................
( 1 ) قوله : الوصلية الصواب التي للمبالغة .


 
« 213 »
وذكر شيئا من لوازمه وهو الإدارة على طريقة التخييل للاستعارة . وقوله مدامي كناية عن معاني التجليات الإلهية فإنها تسكر العارفين فيغيبون عن ملاحظة كل شيء . اهـ .
02 - ليشهد سمعي من أحبّ وإن *** نأى بطيف ملام لا بطيف منام
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « ليشهد » تعليل متعلق بأدر . إذ المعنى : أدر ذكر من أهوى ليشهد سمعي ، فيقول أعد ذكر من أهواه لأجل أن يصل إلى سمعي ذكره ، فيكون بمنزلة مشاهدة السمع للحبيب ، وإن كان بعيدا غير قريب . قوله « بطيف ملام » فيه تشبيه الملام بالطيف وهو الخيال .
وإضافة المشبه إلى المشبه من موجبات المبالغة على حد قوله :
والريح تعبث بالغصون وقد جرى * ذهب الأصيل على لجين الماء
 
أي على ماء كاللجين . ووجه التشبيه بين الملام والطيف أن كلّا منها لتخييل المرئي .
وقوله « وإن نأى » مثل قوله ولو بملام ، إذ المراد ملامك أيها اللائم يوجب تصور الحبيب وإن كان بعيدا غير قريب . والباء في « بطيف » متعلقة بيشهد .
وقوله « ليشهد سمعي » فيه إشارة إلى أن السماع يصور المسموع . كما أن النظر يصور المنظور ، وفي البيت الجناس اللاحق بين ملام ومنام .
 
( ن ) : قوله « ليشهد سمعي » لما كان المشهود حديثا كان الشاهد سمعا ، وفيه إشارة إلى أن هذا الحبيب ليس ممن يدرك بالحواس ولا بالعقل والقياس ، وإنما شبهوه بشهود آثاره ، والحواس والعقل كلها مشتركة في استقبال أنواره .
وقوله وإن نأى ، أي بعد عني لأنه مطلق وأنا مقيد ، وهو قديم وأنا حادث ، والوجود له والعدم لي فالبعد بيني وبينه ظاهر .
وقوله بطيف ملام ، يعني ليكون شهودي للمحبوب الحقيقي بواسطة الخيال الذي يلم بي في وقت لوم العذول لي على محبته ، فإن ذلك الخيال يحصل في نفسي بمقتضى استماعي للأحاديث عن ذلك الحبيب لأنه يذكر فيها ويقع العتاب بها على خيال محبوبه ، فإذا استيقظ حدث عنه ، وهذا العاشق لا ينام لأنه ملازم للسهر فلا يكون طيفه ذلك طيف منام . اهـ .


03 - فلي ذكرها يحلو على كلّ صيغة *** وإن مزجوه عذّلي بخصام
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الصيغة » بكسر الصاد الهيئة الحسنة ، وقد تطلق على مطلق الهيئة بدليل قوله « على كل صيغة » أي ذكرها لي حال على كل هيئة تذكر سواء كانت حسنة أو قبيحة .
ومن جملة الهيئات القبيحة إدارة ذكر من يهوى بملام ، فلذلك قال على كل صيغة .
 
قوله « وإن مزجوه عذلي بخصام » هي إن الوصلية والواو الملازم لها يسمى واو الاعتراض أو واو العطف أو واو الحال . وفي « مزجوه » على لغة أكلوني البراغيث لأن

« 214 »
 
القانون أن يقال ولو مزجه عذلي ، ولك في مثل هذا ثلاثة أوجه :
الأول أن تكون الواو حرفا يدل على الجمعية ، وأن يكون الفاعل ما وراءهما من نحو البراغيث ، وعذلي ،
الثاني أن يكون الاسم المرفوع الواقع بعد الفعل مبتدأ والجملة قبله خبره .
الثالث أن يكون الاسم الظاهر بدلا من الاسم الضمير الذي اتصل بالفعل ، والشذوذ إنما هو على التقدير الأول .
فقولهم : أكلوني البراغيث ، شاذ إنما يستقيم على ملاحظة كون الواو حرفا يدل على الجمع المذكر العاقل ، وأما على الوجه البدل أو وجه الابتداء والخبر فلا شذوذ ، فتأمل .
 
04 - كأنّ عذولي بالوصال مبشّري *** وإن كنت لم أطمع بردّ سلام
 
[ المعنى ]
« كأن » ترد في كلامهم لبيان الشك إذا كان الخبر مشتقا . نحو كأنك قائم لأن الخبر في المعنى هو المشبه والشيء لا يشبه بنفسه ، وقيل إنه للتشبيه مطلقا ، والحق أنه قد يستعمل عند النطق بثبوت الخبر من غير قصد إلى التشبيه سواء كان الخبر جامدا أو مشتقا ، نحو كأن زيدا أخوك ، وكأنه فعل كذا ، وهذا كثير في كلامهم وإنما جعل عذوله في مقام المبشر له بالوصال لكونه يذكر له الحبيب فذكره له في مقام إحضاره ومواصلته له .
قوله « وإن كنت لم أطمع برد سلام » إن هنا وصلية والواو على ما سبق في مثلها من الأوجه الثلاثة ، وهي مفيدة لتأكيد الحكم الذي قبلها لما أفدناه سابقا من أن المحذوف أولى بالحكم من المذكور ، فيفيد الحكم السابق معلقا على المحذوف بالأولوية .
وفي البيت حذف إذ التقدير كأنّ عذولي على من أهوى مبشري بالوصال منه وإن كنت لم أطمع منه بردّ سلام عليّ ، فتأمّل . اهـ .


05 - بروحي من أتلفت روحي بحبّها *** فحان حمامي قبل يوم حمامي
 
[ الاعراب والمعنى ]
هذه « الباء » في بروحي تسمى عندهم روح التفدية . إذ المراد أفدي بروحي الحبيبة التي أتلفت روحي بسبب حبها . « فحان » أي قرب . « حمامي » بكسر الحاء ، بمعنى الموت .
« قيل يوم حمامي » أي أحببتها فتلفت روحي بسبب محبتي إياها ، فلذلك قرب حمامي قبل يومه .
وأعاد لفظة الحمام مظهرا في قوله « قبل يوم حمامي » مع أنّ القياس قبل يومه لزيادة تهويل المقام بذكر الحمام .
والشيخ لا يقول بأن الإنسان يموت قبل يومه لأن اعتقاده مطابق لاعتقاد أهل السنة ، فيكون قوله قبل يوم حمامي من باب المبالغة في حكاية تأثير المحبة وفي إعادة لفظ الروح إقامة الظاهر مقام المضمر لتأكيد وقوع الإتلاف على الروح حقيقة

« 215 »
 
( ن ) : قوله أتلفت روحي بحبها هو تحققه بمعرفة نفسه فإن ذلك يوجب فناء وجوده الموهوم ، وظهور الوجود الحق المعلوم ، وقوله فحان حمامي قبل يوم حمامي ، يعني دخل وقت موتي الاختياري قبل دخول وقت موتي الاضطراري . وقد جاء في الحديث: «موتوا قبل أن تموتوا».
 
قال الشيخ الأكبر قدّس اللّه سرّه : لأهل اللّه تعالى في طريقهم أربع موتات : الموت الأبيض وهو الجوع وأعني بذلك جوع العادة ، والثاني الموت الأخضر وهو لباس المرقعات زهدا لا المشهرات .
كان لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ثوب فيه ثلاث عشرة رقعة إحداهنّ قطعة جلد ، وهو أمير المؤمنين ، والثالث موت أسود وهو تحمل أذى الخلق ، والرابع موت أحمر وهو مخالفة النفس في مشيئة أغراضها . اهـ .
 
06 - ومن أجلها طاب افتضاحي ولذّ *** لي اطّراحي وذلّي بعد عزّ مقامي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« من أجلها » متعلق بطاب . و « من » تعليلية ، أي طاب افتضاحي وهو لا يطيب .
و « لذ لي الاطراح » وأصله اطتراح بالطاء والتاء فأدغمت الطاء في التاء . والاطراح السقوط من الطرح . و « ذلي » معطوف على اطراحي . و « مقامي » بالإضافة إلى ياء المتكلم .
وفي البيت السجع في افتضاحي واطراحي ، والجناس المقلوب بين لذ وذل ، والمقابلة بين العز والذل ، وآخر المصراع الأوّل الطاء « 1 » في اطراحي وأوّل الثاني الراء .
 
( ن ) : قوله افتضاحي ، أي ظهور عيبي أمام الغافلين بما لا يعلمونه من محاسن أحوالي . والمعنيّ باطراحي كمال التواضع وعدم المبالاة بالعيب والنقص . اهـ .
 
07 - وفيها حلا لي بعد نسكي تهتّكي  *** وخلع عذاري وارتكاب أثامي
 
[ المعنى ]
قوله « وفيها » أي في المحبوبة . و « في » تعليلية أي بسببها حلالي . « تهتكي وحلالي » خلع عذاري وارتكاب أثامي . 
وقوله « بعد نسكي » متعلق بالثلاثة أي حلالي تهتكي ، وحلالي خلع عذاري ، وحلالي ارتكاب أثامي بعد نسكي .
 
و « الأثام » مصدر على وزن كلام ما يأثم به الشخص أي يرتكب به الحرام .
و « النسك » الطاعة . وفي البيت الطباق بين النسك والتهتك ، أو بين النسك وارتكاب الأثام .
..........................................................................................
( 1 ) قوله : وآخر المصراع الأوّل الطاء الخ . هو سهو بل آخر المصراع الأوّل الطاء الساكنة من اطراحي وأوّل المصراع الثاني الطاء المتحركة لأنّ الحرف المشدّد بحرفين .


 
« 216 »
 
08 - أصلّي فأشدو حين أتلو بذكرها *** وأطرب في المحراب وهي إمامي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الشدو » بالشين المعجمة والدال المهملة ، و « أشدو » مضارع منه . وهو صوت الغناء . والمراد حين أتلو القرآن في الصلاة .
و « أطرب » من الطرب وهي الخفة والنشاط من الفرح بملابسة ما يلائم القلب .
و « المحراب » موضع الإمام وفي البيت إشارة إلى الاتحاد لأنه قال : وأطرب في المحراب .
و « المحراب » موقف الإمام فيكون إماما .
وقوله « وهي إمامي » بكسر الهمزة إشارة إلى مقام الجمع . هذا ما تقتضيه الرواية في بعض النسخ ، والصواب أنّ أمامي في هذا البيت ظرف بمعنى قدام فيكون ضبطه هكذا أمامي بفتح الهمزة .
أي أطرب في المحراب حال كونها قدامي ألاحظها مقابلة لعيني فهي قبلة قبلتي . وأما الإمام بكسر الهمزة فسيأتي في قوله :
وبي يقتدي في الحب كل إمام
 
إذ هي هنا مكسورة قطعا . ولك أن تقول الإمام في الموضعين مكسور الهمزة ، ويكون الأوّل عبارة عن الإمام الذي يقتدى به في الصلاة بقرينة ذكر الصلاة والتلاوة والمحراب .
ويكون الثاني عبارة عن الإمام الذي يقتدى به في أفعال الخير كما يقع كثيرا في عبارات الفصحاء ، فافهم ذلك واعتمد عليه .
وفي البيت السجع في أشدو وأتلو ، والمناسبة بذكر الصلاة والتلاوة والذكر والمحراب والإمام على وجه كسر الهمزة .
 
( ن ) : الضمير في قوله بذكرها للمحبوبة الحقيقية والحضرة الإلهية وقوله إمامي بكسر الهمزة .
 
09 - وبالحجّ إن أحرمت لبّيت باسمها *** وعنها أرى الإمساك فطر صيامي
 
[ الاعراب والمعنى ]
و « بالحج » متعلق ب « أحرمت » يعني إن أحرمت بالحج لبيت باسمها ، أي جعلت التلبية المستحبة في الحج راجعة إلى اسمها ولبيك على صيغة التثنية ، والمراد منها مطلق التكثير على حد قوله : ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ( 4 ) [ الملك : الآية 4 ]
فإن المحققين نصوا على أنّ المراد من كرتين مطلق التكرار لا خصوص الكرّتين ، وأصله ألب بالمكان إلبابا أي أقام به إقامة بعد إقامة فعلى هذا يكون لبيك من قبيل المصدر المحذوف الزوائد ، أو من لب المجرّد لغة في ألب ، ومثله رويد أصله أرواد فحذفت زوائده ثم صغر وليس استعمال العدد لمطلق التكثير عزيزا لأنه مذكور في كلامهم كثيرا فانظره في مكانه وعنها متعلق بالإمساك ، أي وأرى الإمساك عنها فطر صيامي وفي هذه الجملة إغراب لأنه جعل الإمساك فطر الصيام ،

« 217 »
 
والحال أنّ الصيام هو الإمساك فهو على حد قوله تبارك وتعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [ البقرة : الآية 179 ] فافهم ،
ولنا فيما يقرب من المعنى مواليا :
يا من يصول بأسياف اللواحظ دوم * ويمنع العين في الظلما لذيذ النوم
فطرت قلبي وعن غيرك نويت الصوم * لا بد للصب أن يسعد بوصلك يوم
 
وفي البيت المناسبة في الحج والإحرام والتلبية وفي الإمساك والفطر والصيام ، وأرى في البيت بمعنى أعتقد يتعدى إلى مفعولين أحدهما الإمساك والثاني فطر صيامي .
 
10 - وشأني بشأني مغرب وبما جرى *** جرى وانتحابي معرب بهيامي
 
« الشأن » الأوّل عبارة عن الدمع وإن كان في الأصل عبارة عن عرق يجري منه الدمع . و « الشأن » الثاني عبارة عن الأمر والحال ، والمراد فدمعي مبين « 1 » لحالي لأنه يبين ما عند الباكي من الغرام قوله « وبما جرى جرى » أي وقد جرى دمعي بالذي جرى أي صار ، فجرى الثاني من جرى الدمع ، والأوّل بمعنى صار والانتحاب معرب بالهيام فهو على أسلوب ما قبله . ففي البيت ثلاث جمل ومعانيها متقاربة .
 
الإعراب :
شأني : الأوّل مبتدأ . ومغرب : خبره . وبشأني : متعلق به . وبما جرى متعلق بجرى ، وفاعل جرى الثاني يعود إلى شأني الأوّل ، وفاعل جرى الأوّل ضمير يعود إلى ما . وانتحابي : مبتدأ ، ومعرب : خبره . وبهيامي : متعلق به . والهيام بضم الهاء كالجنون من العشق ،
وبكسرها بمعنى العطش وقلت في معنى ذلك :
أترى ترق لحالتي * يا من تغافل عن شؤوني
هلا رحمت مدامعا * سالت عيونا من عيوني
وفي البيت الجناس التامّ في شأني وشأني ، وفي جرى وجرى .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله وشأني ، أي أمري وحالي ، وقوله بشأني ، أي بمجرى دمعي . وقوله مغرب بصيغة اسم الفاعل من أغرب إذا جاء بشيء غريب ،
والمعنى : أن أمري جاء بجريان دمع غريب فأغرب وخرج عن العادة إما لكثرة الدمع أو لحمرته بحيث إنه نفد
..........................................................................................
( 1 ) قوله : والمراد فدمعي مبين الخ . مقتضاه أنه يقرأ معرب في الموضعين بالعين المهملة وهو خلاف ما مشى عليه النابلسي فتأمل .


 
« 218 »
 
فجرى موضعه دم المهجة . وقوله وبما جرى ، أي وبالخبر الذي جرى أي وقع بيني وبين أحبتي من أسرار المحبة وأحوال الأشواق . جرى ، أي سال يعني شأني .
الثاني بمعنى دمعي وقوله انتحابي يعني بكائي من ألم الأشواق .
 
11 - أروح بقلب بالصّبابة هائم *** وأغدو بطرف بالكآبة هامي
 
[ المعنى ]
« أروح » هنا من الرواح وهو السير بعد الظهر ، ويقابله « أغدو » لأنه السير قبل الظهر . وهذا البيت عجيب في لفظه ومعناه . انظر إلى قوله « أروح » وقابلها بقوله « أغدو » ، وإلى قوله « بقلب » وقابلها بقوله « بطرف » ، وإلى قوله « بالصبابة » وقابلها بقوله « بالكآبة » ، وإلى « هائم » وقابلها « بهامي » فإنها توجد فيهما المقابلة الاصطلاحية في البديع التي هي الطباق بذكر الضدّ وذلك في أروح وأغدو ، وفي القلب والطرف لأنهما ظاهر وباطن ، وأما الصبابة والكآبة ففيهما الموازنة لفظا ويمكن الحكم بأن فيهما الطباق أيضا كما في أغدو وأروح ، وذلك لأنّ الصبابة عبارة عن الشوق أو رقته أو رقة الهوى ، وأمّا الكآبة فهي الحزن ولا شك أن الشوق أو رقة الهوى يستلزمان النشاط والحزن بخلافه .
وفيهما السجع أيضا وهائم قلب هامي من غير ملاحظة الهمزة في هائم باعتبار أن أصلها غير مهموزة .
وجميع الحروف متساوية في العدد أي كل كلمة حروفها مساوية في العدد لحروف الكلمة التي تقابلها ، فافهم ، فإن البيت عجيب غريب .
فإن قلت : لم قدم الرواح وما يتبعه وأخر الغدو وما يتبعه ، والحال أنّ الغدوّ مقدم على الرواح .
قلت : لوجهين : الأوّل أنّ الرواح من توابع الليل والليل مقدّم على النهار .
والثاني وهو المطلوب هنا أنّ الشيخ لما جعل العشق في الرواح لزم أن يتقدّم على الغدوّ الذي جعله زمانا للبكاء لأنّ العاشق يعشق أوّلا ثم يبكي فالبكاء ينشأ عن العشق والمحبة .
و « هامي » في آخر البيت من همي الدمع إذا نزل .
و « الهائم » الحيران فهو يقول مساني قلب حيران بالصبابة ، وصيحني طرف ساكب بالكآبة ، وهو على حدّ قول القائل :
صبحها الدمع ومساها الأرق * هل بعد هذين بقاء للحدق
 
12 - فقلبي وطرفي ذا بمعنى جمالها *** معنّى وذا مغرى بلين قوام
 
البيت فيه لف ونشر على الترتيب ، وذلك لأنّ المعنى « بمعنى الجمال » هو القلب .
و « المغرى بلين القوام » هو الطرف .
و « المعنى » بضم الميم وفتح العين وتشديد النون اسم مفعول من عنيته على وزن قبلته تقبيلا فأنا مقبل وهو مقبل . وأصله معنى فتحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت الياء ألفا فالتقى ساكنان وهما الألف والتنوين

« 219 »
 
فحذفت الألف لذلك فصار معني وأصله من العناء بمعنى التعب . و « المغرى » المولع بالشيء يقال فلان أولع بالشيء أغرى به .
 
الإعراب :
قلبي : مبتدأ . وذا : مبتدأ ثان . ومعنى : خبر ذا . وذا وخبره : خبر القلب . ومعناه : قلبي هو معنى بمعنى جمالها فيكون بمعنى متعلقا بمعنى . وطرفي : مبتدأ .
وذا : مبتدأ ثان . ومغرى : خبر المبتدأ الثاني ، والمبتدأ الثاني مع خبره خبر المبتدأ الأوّل . ومعناه طرفي مغرى بلين القوام .
وحاصل البيت يقول : لي قلب وهو دائما تعب بتصوّر معنى جمال الحبيب ، ولي طرف وهو دائما ولع بالنظر إلى قوامه الرطيب .
وفي البيت الطباق بين القلب والطرف ، وفيه تجنيس التحريف في معنى ومعنى ، فالباطن وهو القلب الباطن وهو المعنى لأنّ المعنى ليس محسوسا فكان باطنا من أجل عدم إحساسه بالحس الظاهر ، والظاهر وهو الطرف للظاهر وهو لين القوام .
 
13 - ونومي مفقود وصبحي لك البقا *** وسهدي موجود وشوقي نامي
 
[ المعنى ]
قوله « ونومي مفقود وصبحي » أي وصبحي مفقود أيضا فلا نوم ولا يوم . وقوله « لك البقا » يقال مثل هذا في مقام التعزية بالمفقود . كما يقال يسلم رأسك في فلان فإنه فقد . وهنا نكتة لطيفة وهي أنّ الشيخ لما قال « وصبحي » وحكمنا بأن المراد وصبحي مفقود ربما خطر في البال أنّ المراد بالصبح طلعة المحبوب لأنها كثيرا ما تشبه به فقال للاحتراز عن ذلك لك البقا .
 
كقول المتنبي :
ويحتقر الدنيا احتقار مجرّب * يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا
فإنه احترز بقوله : وحاشاك ، عن أن يدخل المخاطب في عموم قوله يرى كل ما فيها فانيا . والشيخ قد استعمل هذا المعنى في كثير من الأبيات قال في الذالية :
إن كان في تلفي رضاك صبابة * ولك البقاء وجدت فيه لذاذا
 
 
قوله « وسهدي موجود » مقابل لقوله « ونومي مفقود » إذ النوم في مقابلة السهد والمفقود في مقابلة الموجود . قوله « وشوقي نامي » أي زائد من نما ينمو بمعنى زاد يزيد . وحاصل البيت ، الشكاية من فقد نومه كفقد يومه ، ووجود سهده وزيادة شوقه ووجده . وكل ذلك من محبته الزائدة وأشواقه المتزايدة .
 
( ن ) : قوله ونومي مفقود ، أي لا وجود له لحصول اليقظة الحقيقية له . وقوله وصبحي وهو رؤية نور الصباح الكوني لاندراج ذلك كله عنده في حقيقة النور الأصلي والوجود الحقيقي ، فلا صبح عنده وكل العالم عنده ظلمة ، وقوله لك البقا ،

« 220 »
 
جملة دعائية يخاطب بها الحق تعالى من حيث هو في الغيب ولهذا ذكر الخطاب ولم يؤنثه .
وأما خطاب التأنيث بهذه القصيدة وغيرها فهو باعتبار الحضرة العلية الظاهرة بصور الأعيان الكونية . اهـ .
 
14 - وعقدي وعهدي لم يحلّ ولم يحل *** ووجدي وجدي والغرام غرامي
 
المراد من عقده ما عقده من وثاق محبتهم ، ومن عهده معاهدته لهم على البقاء على ودادهم . قوله « لم يحل » بضم الياء المثناة من أسفل وفتح الحاء مضارع حللت العقد وهو للمجهول .
أي ما حله أحد بعد عقدي إياه على ودادكم ، فهو راجع لقوله وعقدي .
 
قوله لم يحل بفتح الياء المثناة من أسفل وضم الحاء . أي ما حال ولا تغير فهو مضارع حال يحول ، وحذفت فيه الواو لالتقاء الساكنين ، فهو راجع لقوله وعهدي . قوله « ووجدي وجدي » هذا المثال يورد عليه علماء العربية نظرا وهو أن القانون أن يكون المبتدأ والخبر مختلفين في المفهوم ، وهنا هما متحدان في المفهوم ، والجواب عنه أن المراد : ووجدي القديم الذي كان معهودا أوّلا وجدي الذي هو الآن موجود ما تغير ولا تبدّل ولا نقص ولا تحوّل ،
فهو على حد قول أبي النجم :
أنا أبو النجم وشعري شعري
وحكم الجملة الثانية حكم الأولى ، ويقرب من معناه قول الطغرائي :
مجدي أخيرا ومجدي أوّلا شرع * والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
 
الإعراب :
عقدي : مبتدأ وخبره لم يحلّ ، وكذا الكلام في عهدي ولم يحل ، والمصراع الثاني معلوم بما ذكرناه ، فافهم . وفي البيت الجناس المضارع في عقدي وعهدي ، والمحرّف في لم يحلّ ولم يحل واللف والنشر على الترتيب .
 
( ن ) : قوله وعهدي ، أي ميثاقي المأخوذ عليّ في عالم الذر . قال تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [ الأعراف : الآية 172 ] الآية ، وهو عهد الربوبية للّه تعالى . اهـ .
 
15 - يشفّ عن الأسرار جسمي من *** الضّنا فيغدو بها معنى نحول عظامي
 
[ المعنى ]
هذا البيت من البيوت العامرة بالأسرار الظاهرة بخفي الأنوار . فأقول طالبا للتوفيق راجيا أن يكون لي خير رفيق قد بالغ في بيان النحول ، وأن الأسرار في جسده الضعيف كالمحسوسات تجول . « يشف عن الأسرار » أي يحكي ما تحته ،
وفي القاموس : شف الثوب شفوفا وشفيفا رق فحكى ما تحته . فإن المراد أن الأسرار تظهر

« 221 »
 
للناظرين من شدّة تحول جسمه ورقة رسمه . قوله « فيغدو بها معنى نحول عظامي » الذي يظهر أن لفظة معنى يقرأ منوّنا أي يظهر الأسرار من تحت أعضائي لشدّة الضنا فيصير نحول عظامي بها أي فيها معنى من المعاني .
( وحاصل الأمر ) أنه رضي اللّه عنه يقول : أسراري التي سترتها في باطني أظهرتها الأعضاء من ضناها . و « يغدو » بمعنى يصير . و « معنى » منوّن . ويغدو : ترفع الاسم وتنصب الخبر . و « نحول » اسمها .
 
ومعنى :
خبرها أي يصير نحول عظامي في هاتيك الأسرار معنى من معانيها ، أو أنّ مراده أن يقول : إن نحول عظامي صار أخفى وأدق من الأسرار ، فصارت الأسرار بمنزلة اللفظ ، ونحول العظام بمنزلة المعنى . وهذا من المبالغة بمكان ليس وراءه إمكان .
ولك أن تقرأ معنى بالإضافة إلى نحول ، ويكون حينئذ يغدو بمعنى يذهب ، ويكون معنى المضاف فاعل يغدو ، وتكون الباء في بها للتعدية . أي يذهب بهاتيك الأسرار معنى نحول عظامي .
ومعنى ذلك أنّ نحول العظام قد صير العظام كالأسرار فلما شفت عن الذي تحتها من الأسرار أذهب هاتيك الأسرار نحول العظام فصار كل من يرى الأسرار قد شفت عنها الأستار .
يقول : هذه عظامه الناحلة ، وأشجار جسده البالية الماحلة ، فيغدو على المعنى الأوّل ترفع الاسم وتنصب الخبر ، وعلى الثاني بمعنى ذهب ، كما يقال : غدا الناس بالمال والمنال ، أي ذهبوا بهما ، فتأمّل . فإن ذلك من لطائف الأسرار ومحاسن الأخبار .
 
( ن ) : قوله يغدو بها ، أي معها يعني الأسرار ، وقوله معنى بالتنوين والنصب خبر يغدو . وقوله نحول بالرفع اسم يغدو . وقوله عظامي مضاف إليه . والمعنى : أنّ جسمي من شدّة سقمه في المحبة صار لطيفا شفافا بحيث إن الأسرار الإلهية تظهر منه ولا تخفى فيه وإن قصد كتمها . ونحول عظامه أي عظامه الناحلة صار معنى من المعاني بحيث يشف عنه أيضا جسمه كأسراره ، فكما أنّ أسراره معان كذلك عظامه الناحلة معان أيضا .
وجسمه من شدّة السقام يشف عنهما ولا يسترهما لشدّة رقته . اهـ .
 
16 - طريح جوى حبّ جريح جوانح *** قريح جفون بالدّوام دوامي
 
[ الاعراب والمعنى ]
أي هو طريح مرض الحب . وفي القاموس : الجوى هوى باطن والحزن وشدّة الوجد والسل وتطاول المرض وداء في الصدر . و « الطريح » مضاف إلى جوى .
 
و « جوى » مضاف إلى حب . و « جريح » مضاف إلى جوانح . و « قريح » مضاف إلى جفون . و « دوام » صفة جفون . وبالدوام متعلق بدوام ، أي داميات على الدوام . فيقول أنا طريح من الجوى ، جريح الجوانح ، قريح الجفون الدامية على الدوام . فجفونه

« 222 »
 
قريحة ، وجوانحه جريحة ، وأعضاؤه طريحة دامية على الدوام ، موصوفة بالسقام .
و « الجريح » المجروح . و « الجوانح » ما حول القلب من الأعضاء المائلة . و « القريح » الجريح وزنا ومعنى .
و « الدوامي » الجفون التي تبكي بالدم على الدوام . وفي البيت السجع في طريح وجريح وقريح ، والجناس في بالدوام ودوامي ، وبين جوى وجوانح جناس ناقص .
قال القاضي أبو بكر ناصح الدين الأرّجاني :
ألا من عذيري من جوى في الجوانح
 
17 - صريح هوى جاريت من لطفي *** الهوى سحيرا فأنفاس النّسيم لمامي
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله صريح من صرح الشيء بالضم ، خلص من تعلقات غيره فهو صريح . وقوله هوى هو هنا المحبة الإلهية . وقوله جاريت من جاراه مجاراة جرى معه .
وقوله من لطفي أي من رجوعي من دعوى الوجود إلى الاعتراف بأني تقدير عدمي بالمقدّر الحق .
وقوله الهوى مفعول جاريت بلام العهد الذكري ، وهو الهوى المذكور قبله أي تابعته وسلكت على حكمه ولم أخالفه حتى وجدت الأمر على ما هو عليه الحق يحب الحق .
وقوله سحيرا كناية عن حالته في حالة سلوكه عند ابتداء فتحه فإن الكون كله ظلمة وإنما أناره ظهور الحق فيه .
وقوله فأنفاس النسيم ، يكني بذلك عن تنفسات الروح الأعظم روح اللّه الذي هو أوّل مخلوق . وقوله لمامي بكسر اللام أي مقاربتي في بعض الأحايين . اهـ .
 
18 - صحيح عليل فاطلبوني من الصّبا *** ففيها كما شاء النّحول مقامي
 
[ المعنى ]
« صحيح » باعتبار أن ما ظهر من سقمه إنما هو رقة لا علة ، فهو في حد ذاته صحيح ، لكنه « عليل » لكونه جاري الهوى من لطفه لا علة لخفته .
وقوله « فاطلبوني من الصبا » أي من ريح الصبا ، وإنما خصها بالذكر لما ذكرناه في هذا الشرح غير مرّة من أنها ريح البشائر ، وهي أدّت ريح يوسف إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام
وإلى ذلك أشار رضي اللّه عنه حيث قال :
ما حديثي بحديث كم سرت * فأسرّت لنبيّ من نبي
 
قوله « ففيها » أي في الصبا . « مقامي » كما شاء النحول وأراد ، إذ لولا إرادة النحول لما ساويت الصبا رقة وصرت ممتزجا بها بحيث لا أتميز عنها .
وما أحسن التعبير عن اتصافه بالنحول بكونه شاء وأراد إقامته بالصبا ، ويجوز في ميم مقامي الفتح بملاحظة كونه مكانا ، والضم باعتبار كونه عبارة عن الإقامة .
وما أحسن قول أديب

« 223 »
 
دمشق شرف الدين بن عنين حيث يقول ويصف دمشق :
بلاد بها الحصباء در وتربها * عبير وأنفاس الشمال شمول
تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق * وصح نسيم الروض وهو عليل
 
وأنشد في شيخنا العلامة إسماعيل النابلسي رحمه اللّه في جمعية عرس بدمشق في سنة تسعين وتسعمائة :
سددن منافذ النسمات عني * مخافة أن أطير مع النسيم
وفي البيت الطباق بين الصحة والعلة ، ويتضمن الإغراب بالجمع بين الضدين .
 
( ن ) : قوله صحيح ، أي أنا في صحة من بدني وروحي وعقلي ، وكونه عليلا ، أي قابلا لفساد البنية متغيرا دائما مائلا بحكم الطبيعة إلى الغفلة عن خالقه .
وقوله فاطلبوني ، يعني يا أيها المريدون لي الراغبون في شأني .
وقوله من الصبا كناية عن الروح الأعظم الذي هو أوّل مخلوق ظهر من مطلع الشمس الأحدية .
يعني إذا أردتموني فاطلبوني من عالم الروح الآمري . وقوله ففيها ، أي في الصبا المكنى بها عن الروح الآمري .
وقوله كما شاء النحول ، أي السقام ، وهو كمال الرقة والضعف والمنى على حسب مقتضى الفناء في الوجود الحق تعالى وتقدّس . وقوله مقامي ، أي منزلي ومرتبتي . اهـ .
 
19 - خفيت ضنا حتّى خفيت عن الضّنا *** وعن برء أسقامي وبرد أوامي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« خفيت » بفتح الخاء وكسر الفاء على وزن رضيت . و « ضنا » منوّن على أنه مفعول لأجله أو حال على التأويل . و « حتى » هنا ابتدائية ، وما بعدها جملة مستأنفة .
و « الضنا » المعروف جنس أي حتى خفيت عن ماهية الضنا ، أي صرت أشد خفاء منه فإذا طلبني لا يراني ، وخفيت عن برء أسقامي ، فلو أراد البرء أن يتصل بأعضائي السقيمة لما رآها من شدّة سقمها ، وخفيت أيضا عن برد أوامي .
و « البرد » بفتح الباء بمعنى التبريد . يقال بردت الغليل بردا أي بردته . و « الأوام » بضم الهمزة العطش أو حره ، فكأنه يقول لو أراد التبريد أن يتصل بعطشي أو بحره ليطفئه لما اهتدى إليّ ولا رآني لما عندي من السقام ، وذلك يتضمن الشكاية من كمال نحول بدنه ، ونهاية سقم أعضائه ، ومن بقاء أسقامه بغير برء ، ومن بقاء الغليل والعطش بحرارته من غير ريّ ولا تبريد .
وهذا عندهم نوع من الإدماج لأنه أدمج في بيان خفائه الشكاية من بقاء سقمه وعطشه . وفي البيت أيضا الجناس اللاحق في برء وبرد ، والسجع في أسقامي

« 224 »
 
وأوامي ، وفيه الطباق بين البرء والسقم ، وبين البرد والحرارة إن كان الأوام عبارة عن حر العطش .
 
( ن ) : قوله خفيت ، أي لم أظهر لأن الظهور بالوجود للحق تعالى لا لي .
وضنا تمييز ، يعني أوصلني كثرة الأشواق في مقام المحبة الإلهية إلى أن خفيت من كثرة السقم .
وقوله عن الضنا ، أي عن زيادة السقم بحيث لو أريد زيادة سقمي لما أمكن ، يعني تناهى بي السقم فلم يقبل الزيادة ، وهو وصوله إلى مقام الفناء في وجود الحق تعالى .
وقوله برء أسقامي بكسر الهمزة مصدر أسقمه أي أمرضه ، يعني خفيت عن شفاء مرضي أيضا بحيث لو أريد شفائي من المرض لما أمكن ، وذلك لأنّ حالة الفناء في الوجود الحق رجوع إلى الحالة الأصلية بسلب توهم الوجود الحق أنه وجوده فحيث هو مريض في حالة فنائه فلا يقبل التغيير عن حالته لأنه في حضرة القضاء والقدر الأزلي الذي لا يقبل التغيير ولا التبديل ، وإنما ذلك في عالم الوجود الوهمي ، وقد زال عنه بالكشف والتحقيق .
وقوله وبرد أوامي ، أي وخفيت أيضا عن برد أوامي ، أي عطشي ، وهو عطش المحبة الإلهية والأشواق الربانية ، فلا يقبل أوامه وعطشه الزوال لأنها حالته التي هو عليها في أزل الأزل . اهـ .
 
20 - ولم أدر من يدري مكاني سوى الهوى *** وكتمان أسراري ورعي ذمامي
 
[ المعنى ]
يريد بذلك أنه قد اختفى من شدّة السقم ، وأن غير الهوى لا يعرف مكانه لو طلب لما بينهما من الملازمة والمجانسة ، وأراد « بالهوى » هنا المحبة ولا شك أنها من قبيل الأمور المعنوية التي لا جسم لها . فكأنه يقول قد تحكم فيّ النحول فلم يبق فيّ سوى المحبة يجول .
وكذا الكلام فيما عطف على الهوى من كتمان الأسرار ورعي الذمام .
و « الذمام » بكسر الذال المعجمة العهد . ويتحصل من البيت معنى لطيف ، وهو أنه قد بقي بجسده النحيف ومعه صفات ثلاث : 
وهي الهوى وكتمان الأسرار في المحبة ورعي عهد الحبيب .
لأنّ ما عدا هذه الصفات لا تهتدي عليه فكيف يجوز أن يتصف بها فاعلم ذلك .
 
( ن ) : قوله سوى الهوى ، أي غير الهوى لا يدري مكاني . وأما الهوى وهو المحبة الإلهية فإن ذلك يدري مكاني فيأتيني إليه ولو كنت في عالم الفناء الكلي ، والمعنى في ذلك أن وصف الهوى والمحبة الإلهية أمر ذاتي له لا يفارقه . وقوله وكتمان بالنصب عطفا على مكاني .
وقوله أسراري ، جمع سر وهي العلوم الإلهية الخفية عن مدارك العقول ، وهذا الكتمان أمر خلقي لا صنع فيه للمحب العارف



يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح أدر ذكر من أهوى ولو بملامي الأبيات من 01 إلى 35 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:43 pm

شرح أدر ذكر من أهوى ولو بملامي الأبيات من 01 إلى 35 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة أدر ذكر من أهوى ولو بملامي الأبيات من 01 إلى 35
« 225 »
الكامل لأن الأسرار المذكورة خارجة عن معاني الأكوان وإشارات الأعيان لا تؤدّيها عبارة ولا تومي إليها إشارة ، ولهذا كان غير الهوى المذكور لا يدريها ولا يفهم معنى من معانيها .
وقوله ورعي مصدر رعى عهده حفظه ، وهو منصوب أيضا بالعطف على مكاني . اهـ .
 
21 - ولم يبق منّي الحبّ غير كآبة *** وحزن وتبريح وفرط سقام
 
يقول إن الحب قد دخل إلى دار جسده فأعدم ما فيها من الأوصاف ما عدا الكآبة ، وهي بفتح الكاف ومد الهمزة المفتوحة بمعنى الحزن .
و « الحزن » بعدها بمعنى عطف البيان على حد قوله تعالى : إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [ يوسف : الآية 86 ]
و « التبريح » هنا شدّة المحبة . و « فرط » بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والطاء اسم مصدر من الإفراط ، وهو المبالغة في تحصيل الشيء . و « سقام » بفتح السين على وزن سحاب المرض .
 
الإعراب :
لم : حرف نفي وجزم . ويبق : بضم الياء ، وعلامة الجزم حذف الياء ، وكسر القاف عليها دليل . ومني : متعلق به . والحب : فاعل . وغير : بالنصب مفعول ، والاستثناء مفرّع أي لم يبق مني شيئا غير كآبة . وحزن وما بعده مجرور بالعطف على كآبة .
 
وما أحسن قول الجوري :
ولم يبق مني الحب غير تفكري * فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا
وقلت في المعنى :
وقد أفنى النحول دمي ولحمي * فما بي غير أفكار تجول
 
( ن ) : قوله مني ، أي من خلقتي الكونية ونشأتي الإمكانية . وقوله الحب بالضم أي المحبة الإلهية أو بالكسر ، بمعنى المحبوب وهو الحضرة العلية . اهـ .
 
22 - فأمّا غرامي واصطباري وسلوتي *** فلم يبق لي منهنّ غير أسامي
 
البيت هكذا يروى ، وفيه أن الغرام قد يطلق على أسرار الحب ، فكيف يقول عنه إن الغرام قد زال عنه ولم يبق منه إلا الاسم .
والجواب أن الغرام له معان ، فمن ذلك أنه بمعنى الولوع بالشيء والاستخفاف به ، ويكون بمعنى العذاب والهلاك ، ويقال فلان مغرم إذا كان أسير الحب ، فإن كان المراد منه الولوع بالهوى والاستخفاف بأحواله والتحرّش به وبأرباب الجمال وذكرهم ومداومة إنشاء الشعر فيهم فيصح نفيه كنفي الاصطبار والسلوة ، وإن كان المراد منه الأسر في المحبة والعذاب فيه ، فلا

« 226 »
يجوز نفيه فيكون البيت محرّفا ، ويظهر أن أصله :
فأما منامي واصطباري وسلوتي * فلم يبق لي منهنّ غير أسامي
 
لأن عادة العشاق أنهم ينفون المنام والصبر والسلوة ، والحق أن الكلمة فيها تصحيف وأن أصلها عرام بضم العين المهملة على وزن غراب . والعرام الشدّة والشراسة والأذى والبطر والفساد والمرح ، ومثل هذه الأشياء تكون في مبادي الهوى ، وعند قيام عنصر النفس في مقام شهواتها ، وعند تمام العارف تكون عنه بعيدة .
 
الإعراب :
أمّا : حرف شرط وقد سبق بيانها غير مرّة . وغرامي : مبتدأ .
واصطباري وسلوتي : معطوفان عليه . والفاء : في قوله فلم يبق لي منهنّ غير أسامي رابطة للجواب .
ويبق : مجوزم بلم ، والفتحة على القاف دليل على الألف المحذوفة للجازم . وغير : بالرفع فاعل يبق على أن الاستثناء مفرّغ ، أي لم يبق لي منهنّ شيء من الأشياء إلا الاسم ، وأما حقائقها فقد اضمحلت ، ورحلت عن منازل القلب ، فلا اصطبار ولا قرار ، ولا سلوة ولا منام ، ولا شدّة ولا غرام . وما أحسن ما يروى عن عبد اللّه بن المعتز حيث قال :
أخذت من شبابي الأيام * وتقضى الصبا عليه السلام
 
( ن ) : قوله وأما غرامي من أغرم بالشي بالبناء للمجهول أولع به . اهـ .
 
23 - لينج خليّ من هواي بنفسه *** سليما ويا نفس اذهبي بسلام
 
[ الاعراب والمعنى ]
« اللام » للأمر وهي جازمة . حذفت الواو والضمة على الجيم دليل عليها .
و « خليّ » فاعل . و « من هواي » متعلق بالفعل أو بخليّ .
وأما « بنفسه » فهو متعلق بينج ، وسليما حال من خليّ . « ويا نفس » بكسر السين أو بالضم على أن تكون من قبيل المنادى النكرة المقصودة ، و « اذهبي » فعل أمر للنفس .
وقوله « بسلام » أي اذهبي مستسلمة لحكم المحبة وقضاء المودّة لأن السلام يأتي في اللغة الصحيحة بمعنى الاستسلام .
وفي البيت جناس شبه الاشتقاق في سليم وسلام ، والتنكير في قوله خليّ للعموم لوقوعه في حيز الأمر أي لينج كل خليّ . اهـ .
 
24 - وقال اسل عنها لائمي وهو *** مغرم بلومي فيها فاسل ملامي
 
أي قال لي « لائمي » اسل عن الحبيبة ، وصار مغرما في اللوم كغرامي بها ومحبتي لها .
فقلت له : أنا مغرم فيها وأنت مغرم في لومي ، فحيثما طلبت مني السلو عن الحبيبة التي أنا مغرم بها ، فأنا أطلب منك السلو عن الذي أنت مغرم به وذلك

« 227 »
 
ملامي . وهذا نوع من المعارضة لأنه دليل على خلاف ما أقامه الخصم من غير تعرض لدليله . ولكن أين المقامان وقد بعد الغرام بالغزال عن الغرام بالملام الذي يوجب الملال .
 
الإعراب :
وقال لائمي اسل عنها ، فلائمي : فاعل وجملة اسل عنها : في محل نصب على أنها مقول القول . والواو : للحال . والجملة حالية من فاعل قال .
 
وبلومي : متعلق بمغرم . وفيها : به أيضا . وقوله قلت فاسل : الجملة تذييلية لعدم المناسبة بين القول في طلب السلو عن الحبيب والقول في طلب السلو عن الملام الغريب . اهـ .
 
25 - بمن أهتدي في الحبّ لو رمت سلوة *** وبي يقتدي في الحبّ كلّ إمام
 
[ المعنى ]
وهذا من تتمة قوله للائم ، فهو بمنزلة استبعاد سلوه بالدليل لأن العاقل في الغالب لا يفعل إلا ما هو طريق لأرباب العقول العارفين بالمنقول والمعقول . وما أحسن البيت وما في ضمنه من طريق استبعاد السلو . أما أوّلا فإنه قد استفهم عن الذي يهتدي به في طريقة السلوان ، واستفهامه عن ذلك إنكاري . أي ليس في مشايخ الحب من سبقني إلى هذا الطريق على أنني أنا القدوة لكل إمام يقتدى به على التحقيق . وأما ثانيا فقوله « لو رمت سلوة » فإنه يدل على أنه لا يروم السلوان ولا هو من أهل ذلك الشأن .
وجواب لو محذوف ، أي لو رمت سلوة ما وجدت من يصلح أن يكون لي قدوة في باب السلوة . والواو : للحال .
أي والحال أنه يقتدي بي في الحب كل إمام في المحبة والغرام لا في السلو والملام ، وما أحسن الموازنة في قوله « بمن أهتدي وبي يقتدي » ، فيقول : أنا مقتدى الأئمة فيمن اهتدى في الأمّة :
 
26 - وفي كلّ عضو فيّ كلّ صبابة *** إليها وشوق جاذب بزمامي
 
[ الاعراب والمعنى ]
وهذا البيت من جملة استدلاله رضي اللّه عنه على أنه لا يسلو المحبة ، وحاصله كيف أسلو المحبة والحال أن كل عضو من أعضائي مشتمل على كل صبابة ، فكل فرد من أفراد الأعضاء مشتمل على كل فرد من أفراد الصبابة وقوله « إليها » متعلق بصبابة لأنها متضمنة معنى الميل ، يقال صبا إليه أي مال .
و « شوق » بالجر معطوف على صبابة ، أي كل صبابة وكل شوق ، و « جاذب » بالجر صفة له .
و « الزمام » بكسر الزاي ما يقاد به الحيوان ونحوه . والزمام مضاف إلى ياء المتكلم .
والمعنى ما من عضو فيّ إلا وهو متضمن لكل صبابة ولكل شوق ويجذبني بزمام الإجابة . اهـ .

« 228 »
27 - تثنّت فخلنا كلّ عطف تهزّه *** قضيب نقا يعلوه بدر تمام
 
[ المعنى ]
وهذا البيت من محاسن الأبيات التي لا تصل إليها الهمم العاليات ولا تصدر إلا لمن أيد بالنفس القدسية والصفات الملكية . « تثنت » أي تمايلات كما تمايل الغصن الرطيب .
وإنما كان ذلك تثنيا لأن الميل مع الملايمة يجعل المائل اثنين لأن أحد الطرفين إذا انثنى على الآخر صار كل واحد منهما بمنزلة غصن خاص .
و « خلنا » بكسر الخاء بمعنى ظننا وتخيلنا أن كل عطف . و « العطف » بكسر العين ما لان من الجسد .
 
و « قضيب » بالنصب مفعول ثان لخلنا ، والأوّل كل . و « النقا » كثيب الرمل وهو تشبيه الردف . و « القضيب » تشبيه القد . و « البدر التمام » الذي يعلوه هو الوجه المنير والبدر المستنير .
 
( ن ) : قوله تثنت أي المحبوبة المذكورة . ومعنى التثني هنا أن تكون تلك المحبوبة الحقيقية المذكورة مع كل شيء اثنين هي وما تقدّره في نفسها من معلوماتها التي هي كاشفة عنها في الأزل وبالإرادة تتجلى فيظهر وجودها على ذلك المعلوم الذي قدرته في نفسها ، وهذا معنى تثنى الأغصان بالنسيم فإن الإرادة كالنسيم ووجود الغصن واحد ، فإذا كان في حيز فمال إلى حيز آخر فكأنه صار اثنين ، ولهذا يقال تثنى الغصن مع أنه واحد .
وقوله كل عطف يكني بذلك عن الأسماء الحسنى والصفات العليا . فإنّ كل اسم منها كأنه جانب من الجوانب ، وهو عطف من الأعطاف .
وقوله تهزه الضمير للمحبوبة المذكورة . والهز هنا كناية عن توجه الحق تعالى باسم من أسمائه على الأثر فيوجده .
وقوله قضيب وهو الغصن المقطوع كنى به عن النشأة الإنسانية كما قال تعالى : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ( 17 ) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً ( 18 ) [ نوح : الآيتان 17 ، 18 ]
وقوله نقا كناية عن المقام الذي يقام فيه العبد السالك في طريق اللّه تعالى . وقوله بدر تمام ، كناية عن وجه العارف الكامل الذي يواجه به شمس الحضرة الإلهية في غيب الأسماء والصفات الربانية ، فإن وجوده مستفاد من وجوده كما أن نور القمر مستفاد من نور الشمس في ظلمة الأكوان . وهو سر التجلي الإلهي المكنى عنه هنا بالتثني . اهـ .
 
28 - ولي كلّ عضو فيه كلّ حشا *** بها إذا ما رنت وقع لكلّ سهام
 
[ الاعراب والمعنى ]
« ولي » خبر مقدّم قدّم لإفادة الحصر . وقوله « كل عضو » مبتدأ مؤخر ، والمراد من أعضائي . وقوله « فيه » أي في كل عضو .
وقوله « كل حشا » وهو ما في الباطن كناية هنا عن القلب يعني كل عضو من أعضائي فيه كل قلب من القلوب ، وتنكير

« 229 »
 
العضو والحشا لإفادة التكثير والتعظيم . وقوله « بها » . أي بالحشا يعني فيها ، خبر مقدّم .
وقوله « إذا ما رنت » أي المحبوبة المذكورة بمعنى أدامت النظر إليّ .
وفي نسخة رمت بالميم . وقوله « كل سهام » جمع سهم يعني أن هذه المحبوبة ترمي سهام المحن والابتلاء في قلوب العاشقين كلما نظرت إليهم بأن رفعت جفونها ، وهي صور الكائنات فإن طبقت جفونها على عيونها أعرضت عنهم . اهـ .
 
29 - ولو بسطت جسمي رأت كلّ *** جوهر به كلّ قلب فيه كلّ غرام
 
[ المعنى ]
المراد من بسط الجسم هنا الاطلاع على حقيقته بالكشف على ما في الضمائر من السرائر . « رأت كل جوهر » من جواهر المعرفة ، وفي ضمن كل جوهر كل قلب ، وفي ضمنه كل غرام ، فهو يقول في ضمن جسمي كل جوهر وفي كل جوهر كل قلب ، وفي ضمن كل قلب كل غرام ، أو كل غرام في كل قلب ، وكل قلب في كل جوهر أي في كل جزء من أجزاء الجسم ، فالأجسام مواطن الجواهر والجواهر مواطن القلوب والقلوب مواطن الغرام .
وقد أشرنا إلى أن المراد من الجواهر جواهر المعرفة ، والمراد من القلوب المتعدّدة المتكثرة . والحال أن لكل جزء قلبا واحدا العقول أي مداركها لأن العقل أيضا يدرك ما عنده من المودّات الخالصة المحضة التي ليست بها شائية من الميل إلى الغير لأن من جملة مدلولات القلب محض كل شيء .
وما أحسن ما في البيت من المبالغة وحسن السبك ، واختراع هذه الكليات لهذه المعاني الجوهريات . وكذلك ذكر البسط والجسم والجوهر والقلب والغرام ، فإن ذلك من المناسبات العظيمة التي لا تصدر إلا عن الأفكار السليمة وما كل من قال جال في ميادين الكلام .
 
( ن ) : الضمير في بسطت للمحبوبة الحقيقية والحضرة العلية . والمعنيّ ببسط جسمه تفصيل أجزائه وأبعاضه ونشرها وتفريقها . وقوله رأت كل جوهر ، فكل مفعول رأت ، وجوهر كل شيء ما خلقت عليه جبلته . والمراد هنا أجزاء بدنه ، وهي التي تركب منها بدنه ، وهو الجزء الذي لا يتجزأ فلا يقبل القسمة لا بالقول ولا بالفعل ولا بالقوة .
وقوله به ، أي في ذلك الجوهر ، وقوله كل قلب ، فالقلب الفؤاد والعقل ومحض كل شيء . وقوله فيه كل غرام ، أي في ذلك القلب كل شوق ملازم وولوع جازم .
وهذا البيت بيان للبيت الذي قبله وتأكيد لمعناه على وجه المبالغة في انتشار المحبة الإلهية في كل جزء من أجزائه وفي ضمن كل عضو من أعضائه . اهـ .
 
30 - وفي وصلها عام لديّ كلحظة *** وساعة هجران عليّ كعام
 


« 230 »
 
[ الاعراب والمعنى ]
هذا المعنى شائع ومستعمل كثيرا في عبارات البلغاء نظما ونثرا ، إذ المعنى أن وصف الوصال يقتضي تقصير الأيام والليال .
ألا ترى إلى قوله تبارك وتعالى : فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ( 17 ) [ المزمّل : الآية 17 ]
فإن كثيرا من المفسرين أشار إلى أنّ ذلك الشيب إنما يعرض لاستطالتهم ذلك اليوم بما فيه من المتاعب التي لا يقدر العقل على تصوّرها بكنهها . و « عام » مبتدأ . و « كلحظة » خبره .
 
و « لديّ » متعلق بما تعلق به الخبر إذ التقدير عام يمرّ في وصلها مستقر مثل لحظة عندي وفي اعتقادي فيكون قوله « وفي وصلها » صفة للمبتدأ فقدمت عليه فصارت حالا على حد قوله :
لمية موحشا طلل
قوله « وساعة هجران » مبتدأ ومضاف إليه . و « كعام » خبره و « علي » متعلق بمتعلق الخبر ، إذ المراد وساعة هجران محسوبة عليّ كعام ، ولولا خوف التكرار لكان ولحظة هجران عليّ كعام أبلغ من وساعة هجران . اهـ .
 
31 - ولمّا تلاقينا عشاء وضمّنا *** سواء سبيلي دارها وخيامي
32 - وملنا كذا شيئا عن الحيّ حيث لا *** رقيب ولا واش بزور كلام
33 - فرشت لها خدّي وطاء على الثّرى *** فقالت لك البشرى بلثم لثامي
34 - فما سمحت نفسي بذلك غيرة *** على صونها منّي لعزّ مرامي
35 - وبتنا كما شاء إقتراحي على المنى *** أرى الملك ملكي والزّمان غلامي
 
إنما كتبنا هذه الأبيات جملة لتعلق بعضها ببعض ، لأنّ قوله « فرشت » جواب « لمّا » .
وقوله « فما سمحت نفسي » معطوف على قوله « فقالت لك البشرى » . قوله « وبتنا كما شاء اقتراحي » معطوف على ما قبله أيضا . قوله « ولما تلاقينا » يروى توافينا .
 
والمعنى قريب . و « عشاء » وقت العشاء بكسر العين منصوب على أنه ظرف زمان لتلاقينا . و « ضمنا » معطوف على تلاقينا وهو داخل في حيز الشرط أي وجمعنا .
 
و « سواء » بالفتح والمد بمعنى الاستواء . و « سبيلي » على صيغة التثنية وحذفت النون منه لإضافته إلى دارها وما عطف عليها وهو خيامي . أي وجمعنا طريقان مستقيمان إلى دارها وإلى خيامي وأصله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي سبيلان سواء .
 
وهو في الأصل مصدر فلا بدع في أن يقع على صفة انفراده صفة للمثنى . « وملنا » أي ولما ملنا . وقوله « كذا » كناية عن جهة تخالف جهة الحي . وميز بقوله « شيئا » أي وملنا عن الحي جهة قليلة كما يفهم من تنكير شيء عن الحي . أي ملنا عن الحيّ إلى مكان

« 231 »
 
لا رقيب فيه ولا واش . و « بزور كلام » متعلق بواش أي كنا في حال اجتماعنا آمنين من رقيب يرانا وواش يزور علينا كلاما يفسد هوانا .
قوله « فرشت » جواب لما . أي لما تلاقينا في وقت غفلة ، واجتمعنا في الطريق الذي يوصل إلى دارها وخيامي ، وهذا إشارة إلى أن ملاقاتهما كانت على اتفاق من غير اتفاق ، ومع ذلك عرجنا عن الحي خوفا من أن نرى إلى مكان ليس فيه رقيب ولا واش يشي بنا ويحكي اجتماعنا .
 
« فرشت لها خدي وطاء على الثرى » أي فرشت لها الخد على الثرى لتطأه ، فلما رأت مني ذلك الخضوع ، وتحققت ذلك الذل والخشوع .
« قالت لك البشرى مني بلثم اللثام » وتقبيل ما فوق ذلك الثغر البسام ، فعند ذلك ظهرت غيرة النفس الأبية ، وعزت السجية التي هي بالوجد سخية على ذلك الصون أن يبتذل بالتبدل ، لأنّ قصدي منها ما هو أعلى من ذلك وأغلى ، وأسمى من تلاصق الأجسام وأسنى ، وأين تعاشق الأرواح من تسفل الأشباح .
 
قوله « وبتنا » أي بات الحبيب والمحبوب ، واستمرّ الطالب والمطلوب ، كما شاء الطالب من الاقتراح متمكنا من السرور والأفراح على مقتضى مراده وإقبال أيام أعياده :
فالملك للّه وحده * وللخليفة بعده
وللمحب إذا ما * حبيبه بات عنده
 
وفي هذه الأبيات أمور مؤكدة لوجود أسباب الوصال ، واتصال الأرواح من غير انفصال مع العزة عن ميل النفس إلى مرام الأجسام لعزة الروح في ارتفاعها إلى ما لا يرام .
 
الإعراب :
تلاقينا : أي لقي كل منهما صاحبه ، وعشاء : متعلق به وروي توافينا من الوفاء ، أي وفى كل منا لصاحبه عشاء أي وقت العشاء ، وإنما ذكر العشاء لأنه وقت التوافي ، ومنهل التلاقي فيه صافي . ألا ترى إلى قول عبد اللّه بن المعتز :
لا تلق إلا بليل من تواصله * فالشمس نمامة والليل قوّاد
كم عاشق وظلام الليل يستره * وافى الأحبة والواشون رقاد
 
وقال المتنبي :
وكم لظلام الليل عندي من يد * تخبر أن المانوية تكذب
 
وسواء : بالرفع فاعل ضمنا . وسبيلي : مضاف إليه . ودارها : مضاف إليه .
وخيامي : معطوف عليه . وكذا : كناية عن الجانب . وشيئا تمييز والعامل فيه كذا .
وعن الحي : متعلق بملنا . وحيث : ظرف لملنا وهو مضاف إلى الجملة بعده . ورقيب

« 232 »
 
وواش : مبتدأ ومعطوف عليه والخبر محذوف . وبزور كلام : متعلق بواش . وفرشت :
جواب لما . ووطاء : بكسر الواو منصوب على أنه مفعول ثان لفرشت . وعلى الثرى :
متعلق بفرشت . وقوله فقالت : معطوف على فرشت . وبلثم لثامي : متعلق بالبشرى .
قوله فما سمحت نفسي : معطوف على قوله فقالت .
والفاء : فيها معنى التفريع ، لأنّ عدم سماحة نفسه بلثم لثامها مفرّع على قولها لك البشرى بلثم لثامي . وغيرة : مفعول له فما سمحت على تأويل النفي بمعنى الإثبات أي تركت لثم اللثام لأجل الغيرة وهي بفتح الغين المعجمة عبارة عن إباء النفس عن قبول ما يصدر من امتهان الحبيب أو الصديق القريب . وعلى صونها مني : متعلق بقوله غيرة .
وقوله لعز مرامي : متعلق بصونها . والاقتراح هو طلبك للشيء على غير مثال . و « المنى » بضم الميم جمع منية وهو المطلوب .
وجملة أرى الملك ملكي والزمان غلامي : مفسرة لقوله : كما شاء اقتراحي على المنى . ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان كونه بات مع الحبيب على مقتضى المرام من غير احتشام ، لأن سلطنة الوصال فوق من ملك الوصال ، وفي ميدان الوفاء جال .
وفي قوله وضمنا : تلويح إلى أن طريقي دارها وخيامه بمنزلة البيت الجامع ، والدار الشامل لجميع الجوامع . وقوله وخيامي بعد ذكر دارها إشارة إلى كونه زائرا راحلا وأن الدار لها وهو لها قاصد بجميع المقاصد .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله عشاء أي أوّل ظلام الليل ، كناية عن الملاقاة الكونية بينه وبين تجلي الحضرة الإلهية .
وقوله دارها ، كناية عن الروح الأعظم الذي هو أوّل مخلوق صدر عن الأمر الإلهيّ ، وهو العقل والقلم الأعلى والنور المحمدي ، فهو دارها لدورانه حول معرفتها .
وقوله وخيامي ، كناية عن جسده المركب من الطبائع الأربع والعناصر الأربعة .
وقوله وملنا ، أي ملت بها ومالت متجلية بي .
وقوله كذا شيئا ، كناية عن جهة غير جهة الحي أي ملنا عن الحي قليلا يشير بهذا الميل القليل عن جهة الحي إلى العالم الكوني بالوجود المستعار لاستيفاء معاني الحكم والأسرار .
وقوله حيث لا رقيب ولا واش فحيث ظرف مكان وهو العالم الروحاني الذي لا يداخله الوسواس النفساني والتسويل الشيطاني .
فالرقيب إشارة إلى النفس الأمّارة بالسوء لأنها تلازم الإنسان فلا تنفك عنه إلا بالموت الاختياري أو الاضطراري فتراقبه في الخير والشرّ والنفع والضرّ .
والواشي هو القرين الشيطاني الذي يوقع العداوة بينه وبين ربه بحمله على السوء وخطواته من الذنوب الكبار والصغار .
وقوله فرشت لها خدّي ، المعنى أنه بعد فنائه عن نفسه وتنحي شيطانه عنه بالتحقق بالوجود الحق رجع من نهايته إلى بدايته فوجد صورته لربه لا له فأسلم كله له تعالى . وقوله وطاء على الثرى ، كناية عن

« 233 »
 
جسده المركب من التراب والماء لأنهما أدنى من الهواء والنار لغلبتهما في خلقة الجان والشيطان ، وهو المارج كما أنّ التراب والماء هو الطين الغالب في خلقة الإنسان وإلا فإن تركيب الأجسام كلها من العناصر الأربعة .
وقوله بلثم لثامي ، كنى باللثام عن صورته وصورة كل شيء لأنّ ذلك حجاب على الوجه الإلهي .
والمعنى أنها أطلقت له القول بالأنانية الحقيقية بعد فناء أنانيته الباطلة الفانية المختصة به وبكل من يشبهه من الأكوان .
وقوله فما سمحت نفسي بذلك ، أي امتنعت نفسي عن لثم ذلك اللثام ، وعن القول بالأنانية الحقيقية بعد فناء أنانيته المذكورة .
 
وقوله غيرة على صونها ، يعني منعني من القرب إليها والصدق في الانتساب لديها بدعوى الأنانية الحقيقية بعد كمال فنائي بالكلية غيرتي على صيانتها المشهورة وتنزهاتها المنشورة بين العقلاء والكاملين الفضلاء وقوله منى متعلق بصونها .
ومعنى صونها منه أنه إذا كان في مقام دعوى الوجود معها كحال الجاهلين بها فهي منزهة عن مشابهته بالكلية .
وإن كان في مقام الفناء في وجودها الحق كحال العارفين بها المتحققين بأمرها فهي منزهة عن مشابهته أيضا بالكلية فكيف يمكنه لثم لثامها فضلا عن لثم فمها .
 
وقوله لعز مرامي ، أي عزة مقصودي وهو الحظوة بالحقيقة الذاتية من غير كون ولا إمكان ولامكان ولا زمان ، ورجوع الأمر إلى ما عليه كان ، وقوله وبتنا أي أنا والمحبوبة المذكورة ، وهو الدخول في عالم الكون لأنه ظلمة لازمة .
 
وقوله كما شاء اقتراحي على المنى فالذي شاءه اقتراحه أمر ذوقي معرفته من وراء دائرة العقل ، ومضمون ذلك ما أشار إليه بقوله أرى الملك بضم الميم اسم من ملك على الناس أمرهم إذا تولى السلطنة ، وقوله ملكي ، أي منسوب إليّ لأني ظهرت بالمظهر الرباني في التجلي الرحماني بعد فناء شأني الجسماني ، وأمري الإنساني حيث ظهر الواحد الأحد الذي ليس معه ثاني .
 
وقوله والزمان غلامي ، أي خادمي يخدم ما أريد من الأمور والأحوال في الخصوص والعموم . اهـ .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح قف بالدّيار وحيّ الأربع الدّرسا الأبيات من 01 إلى 14 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:46 pm

شرح قف بالدّيار وحيّ الأربع الدّرسا الأبيات من 01 إلى 14 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة قف بالدّيار وحيّ الأربع الدّرسا الأبيات من 01 إلى 14
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة الثانية عشرة قف بالدّيار وحيّ الأربع الدّرسا ]
قال رضي اللّه تعالى عنه :
01 - قف بالدّيار وحيّ الأربع الدّرسا *** ونادها فعساها أن تجيب عسا
 
اعلم أنه جرت عادة العرب بأنهم يخاطبون من ليس معلوما . كقول الشيخ هنا « قف بالديار » ، والمراد قف يا صاحبي ، وكذلك يرجعون الضمير إلى جمع غائب ، ويريدون الحيّ وأهله لأجل أنهم أحباؤه ، أو فيهم حبيبه كما قلت في مطلع قصيدة :
سقى دارهم بالجزع من أيمن الشعب * وإن بعدت عن ناظري أدمع السحب
 
وقد يخاطبون مثنى لأنّ الغالب في الرجل أنه يرافق اثنين .
كقول امرئ القيس :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
 
وقس على ذلك أمثاله ، والمراد هنا يا صاحبي قف معي بالديار أي بديار الأحبة بقرينة المقام . و « حي » فعل أمر من التحية .
أي حيّ وسلم على الأربع جمع ربع وهي بفتح الهمزة وضم الباء .
و « الدرس » بضم الدال والراء جمع دارس ، وهو الذي محاه تطاول الدهر فخفيت علاماته وجدرانه ، والأربع المنازل ، وهي وإن كانت في أصل اللغة خاصة بالمنازل التي تسكن في زمن الربيع ؛ فالمراد بها هنا مطلق المنازل .
 
الإعراب :
قف وحي وناد : أفعال أمر والمخاطب بها صاحبه . قوله فعساها :
اعلم أن عسى قد ترد في كلامهم بمعنى لعل ، فتستعمل للترجي فتنصب الاسم وترفع الخبر ، وشرط اسمها حينئذ أن يكون ضميرا كما استعمله الشيخ حيث قال : فعساها .
 
وشواهد هذا الاستعمال كثيرة فمنها قول ابن العود الحضرمي ، وكان يرجى أن محبوبته يصيبها مرض ليكون ذلك وسيلة إلى عيادته إياها :
فقلت عساها نار كأس وعلها * تشكي فآتي نحوها فأعودها

« 235 »
 
وعسى : حينئذ كلعل وفاقا للسيرافي ، ونقله عن سيبويه خلافا للجمهور في إطلاق القول بفعليته . والهاء : اسمها . وأن تجيب : مؤوّل بالمصدر خبرها .
وعسى : في آخر البيت توكيد لفظيّ لعساها والمصدر مؤوّل أي فعساها مجيبة .
أما ترى المحبين يأمرون صاحبهم ، أو يخاطبون أنفسهم بالوقوف في منازل الأحباب بعد الاضمحلال والذهاب .
قال :
قف بالديار التي لم يعفها القدم * بلى وغيرها الأرواح والديم
وإنما أكثر الفعل بالتكرار لاستبعاد إجابة الزائر من الديار ، فاحتاج إلى زيادة الرجا في حكم الاستبعاد وذلك الحجا قال القيسري :
استعجم الربع بعدي أم به صمم * أم ما به اليوم من آرامه أرم
وقال الشريف الرضي :
هذي المنازل بالنعيم فنادها * واحبس سخي العين غير جمادها
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله قف فعل أمر يخاطب به كل سالك في طريق اللّه تعالى . وقوله بالديار ، يكني بها هنا عن مجموع الصور الإنسانية وغيرها من أشخاص العالمين في الملك والملكوت ، والوقوف بها كناية عن عدم تخطيها لأن الظهور الإلهيّ والتجلي الرباني ليس إلا بها وعليها ، فإنها آثار التجليات ونتائج الأسماء والصفات ، والعدول عنها إلى خيالات الأفكار جحود للحق وإنكار . وقوله وحي الأربع الدرسا ، يكني بالأربع عن نفوس تلك الأشخاص المذكورة .
والدرسا صفة لأربع أي المندرسة ، والصفة قيد في المعنى إشارة إلى أنه أمر بإيصال التحية منه إلى العارفين بربهم المتحققين بتجليه بهم وعليهم على الكشف والشهود .
وقوله فعساها أن تجيب الإشارة بإجابة هذه المحبوبة المذكورة إلى معنى انكشافها له بكل شيء . اهـ .
 
02 - فإن أجنّك ليل من توحّشها *** فاشعل من الشّوق في ظلمائها قبسا
 
[ المعنى ]
جنه الليل وأجنه ستره ، والمادّة كلها لمعنى الستر والتوحش كون الشيء موحشا تمس الوحشة من ألمّ به . و « الهاء » في توحشها للديار أو للأربع ، والمراد هنا إذا توحشت تلك الديار ، وستر قلبك ظلمة هاتيك الوحشة .
قوله « فاشعل » على وزن فامنع لأنه من شعل يشعل مثل منع يمنع . وقوله « قبسا » أي شعلة نار تقتبس من معظم النار .
وحاصل البيت أنك إذا صادفت ظلمة في باطنك من توحش هاتيك الديار ، فأشعل شعلة من شوقك أي من نار شوقك في ظلماء هاتيك الديار . و « الظلماء » على وزن حمراء .

« 236 »
( ن ) : الخطاب للسالك في الطريق الإلهي . وقوله ليل ، كناية هنا عن ظلمة الكون . وقوله من توحشها أي الديار المذكورة . وقوله فاشعل الخ .
يكني بذلك عن اشتعال نار المحبة الإلهية في قلوب السالكين فإنه لا سبب للوصول إلى المعرفة الربانية إلا بوسيلة المحبة الخالصة القلبية . اهـ .
 
03 - يا هل درى النّفر الغادون عن كلف *** يبيت جنح اللّيالي يرقب الغلسا
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن البيت ليس فيه مفعول لدرى ، فيقدر مفعوله . والتقدير هل درى النفر الغادون عن كلف موصوف بأنه يبيت جنح الليالي مرتقبا الغلس حاله ، وما يكابد في جنح ليله منتظرا للغلس ليذهب فيطلع النهار . و « يا » إن كانت للنداء فالمنادى محذوف ، أي يا قوم .
وإن كانت للتنبيه فلا احتياج إلى حذف المنادى . ودرى الشيء علمه .
وفي القاموس : دريته وبه ، أي يقال دريت الشيء ، ودريت به . و « النفر » الناس كلهم ، وما دون العشرة من الرجال . و « الغادون » جمع غاد وهو الذاهب في الصباح .
و « الكلف » على وزن فرح الرجل العاشق . و « يبيت » مضارع بات واسمها ضمير الكلف .
و « جنح » بضم الجيم وكسرها بمعنى الجانب ، منصوب على الظرفية . وجملة « يرقب الغلسا » في محل نصب على أنها خبرها .
 
( ن ) : قوله النفر الغادون ، كنى بهم عن العارفين المحققين من أولياء اللّه تعالى المعاصرين له المسافرين عن منزل نفوسهم إلى منزل تجليات ربهم عليهم وبهم .
وقوله عن كلف عن مرادفة الباء . نحو قوله تعالى : وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ( 3 ) [ النّجم :
الآية 3 ] أي بالهوى .
وقوله يبيت جنح الليالي يرقب الغلسا ، يعني أنه يبيت في ظلمات الليالي التي هي أعيان الأكوان يرقب قبس الأنوار من طور تجلي الأسرار عساه يحظى بقبس أو يجد الهدى بظهور حقيقة تلك النار . اهـ .
 
04 - فإن بكى في قفار خلتها لججا *** وإن تنفّس عادت كلّها يبسا
 
[ الاعراب والمعنى ]
هذا البيت من محاسن البيوت المنعوتة بين الأدباء بأحسن النعوت . الضمير في « بكى » للكلف و « القفار » الصحاري الخالية من الأنيس . وهو جمع قفر وقفرة . و « التاء » في خلتها مفتوحة لكل من يصلح للخطاب ، وهو بمعنى ظن . و « الهاء » مفعول أول .
و « لججا » مفعول ثان ، وهي جمع لجة بضم اللام ، وهي معظم الماء . « وإن تنفس » أي ذلك الكلف .
« عادت » بمعنى صارت . واسمها ضمير القفار . و « كلها » توكيد له .
و « يبسا » على وزن جبل بمعنى اليابس . ولا تخفى المقابلة بين بكى وتنفس ، ولا بين اللجج واليبس باعتبار ما يلزم اللجج من الرطوبة .

« 237 »
( ن ) : يكني بالقفار عن الأشخاص الخالية من معالي التجليات الإلهية وبكاؤه فيها لأنه من جملتها على مفارقة أحبتها .
وقوله خلتها الخطاب للسالك في طريق اللّه تعالى . وقوله وإن تنفس التنفس كناية عن إظهار ما عنده من الذوق والوجدان في حقائق الأعيان . وقوله يبسا ، يعني لا أرواح فيها فهي أشباح منحوتة . اهـ .
 
05 - فذو المحاسن لا تحصى محاسنه *** وبارع الأنس لا أعدم به أنسا
 
[ الاعراب والمعنى ]
لما ذكر في الأبيات السالفات أوصاف نفسه من المحبة ، وما يتبعها من أسباب الاحتراق ، شرع يذكر أوصاف الحبيب ، وما ينسب إليه من الوسامة والإشراق .
و « المحاسن » جمع الحسن على غير قياس ولا تحصى لا تضبط :
يزيدك وجهه حسنا * إذا ما زدته نظرا
 
وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها . و « البارع » الفائق من برع فلان على أقرانه إذا فاق عليهم . و « الأنس » بضم الهمزة خلاف الوحشة . و « لا » هنا ناهية ، ولذا جزم الفعل بعدها وهو مضارع للمتكلم وفعله كعلم يعلم . وأنسا الواقع في آخر البيت بضم الهمزة والنون بمعنى الأنس الذي قبله ، ويجوز أن يقرأ بفتح الهمزة وكسر النون بمعنى الأنيس أي لا أعدمني اللّه به الأنس ودفع عني به الوحشة . أو لا أعدمني اللّه به الأنيس .
وعلى الوجه الثاني يجوز أن تكون الباء في به تجريدية . و « ذو » مبتدأ مضاف إلى المحاسن .
و « لا تحصى محاسنه » من الفعل ونائب فاعله في محل رفع على أنها خبر المبتدأ . والمصراع الثاني على أسلوب الأول .
والأنس في آخر البيت مفعول أعدم . ووقوع جملة النهي خبرا على تأويلها بالمفعول ويجوز في لا أن تكون نافية ، والتسكين في ميم أعدم للضرورة وحينئذ فلا تأويل فتدبر . والجملة على كلا الوجهين دعائية .
 
( ن ) : قوله فذو المحاسن ، كناية عن الحق المتجلي بكل صورة . وقوله وبارع الأنس ، كناية عن المتجلي الحق الذي يأنس بذكره العارف ، ويكرع من بحر كرمه الغارف . وقوله لا أعدم به أنسا ، أي لا أعدم أنسا به . ولا ناهية للمتكلم .
والمعنى أنه نهى نفسه أنها لا تفقد التأنس بالمحبوب الحقيقي وأنها تلازم ذلك معرضة عن التأنس بغيره إذ لا غيره في الحقيقة عند أهل الوفاء بالعهود الوثيقة . اهـ .
 
06 - كم زارني والدّجى يربدّ من حنق *** والزّهر تبسم عن وجه الّذي عبسا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« كم » هنا تكثيرية ، والمراد كم مرّة فيكون المميز محذوفا . و « يربد » على وزن يحمرّ من الربدة بضم الراء وسكون الباء والدال المهملة ، وهي معدودة من السواد

« 238 »
لكنها غبرة ليس سوادها قويا . ويروى يزبدّ بالزاي من قولهم فلان أزبد وأرغى ، أي خرج منه زبد أي رغوة من فمه . ويدل للرواية الثانية قوله من حنق لأن الحنق الغيظ .
وإنما يقال فلان أزبد وأرغى من الغيظ . قوله و « الزهر » يروى بضم الزاي على أن المراد بها النجوم . و « تبسم » بكسر السين أي تضحك .
« عن وجه الذي عبسا » وضحكها عبارة عن إشراقها وظهور لمعان نورها ، ولذلك قال عن وجه الذي عبسا ، أي تظهر نورا كنور الحبيب الذي قد عبس لعشاقه فهو عابس لكن نوره ساطع لامع .
 
و « الدجى » جمع دجية بضم الدال . وإذا كان جمعا لدجية فكان الواجب أن يقول تربد بالتاء لكون مرجع الضمير جمعا . ويجوز أن يكون الشيخ قد نطق بها كذلك لكن الرواة حرّفوها على أن الدجى يحتمل أن يكون مفردا على أنه عبارة عن الليل . وفي البيت الطباق بين الغضب والرضا المفهومين من الحنق والتبسم .
 
( ن ) : قوله زارني أي المحبوب الحقيقي بمعنى انكشف لي أنه متجل بي عليّ .
وقوله والدجى ، كناية عن ظلمة الأكوان . وقوله يربدّ هي هنا بمعنى يشتدّ . وقوله حنق يشير إلى أن عالم الكون يقتضي الإعراض عن الحق تعالى بما فيه من الزخارف الملهية والأسباب المطغية .
وأنّ الاشتغال بتجليات الحق تعالى على خلاف مقتضاه ، أو أن أهله منافرون كل التنافر لأهل اللّه . وقوله و « الدهر يبسم » فالدهر هنا إشارة إلى المتجلي الحق بكل شيء ، وفي الحديث : « لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو اللّه » .
 
وابتسامه كناية عن الإقبال وإظهار الفرح ، كما ورد عنه تعالى أنه يفرح لتوبة عبده .
وقوله عن وجه عن للمجاوزة . والمعنى هنا بأن الابتسام أي الفرح من الحق تعالى بملاقاة عبده . أي انكشاف الأمر عند عبده ، وإلا فالعبد لا يغيب عنه تعالى أصلا ، ووجه بمعنى ذات .
وقوله الذي عبسا ، أي عن ذات الدجى الذي عبس بوجه المتوجه به على قطعنا عن مواصلة المحبوب الحقيقي وظهور تجلياته لنا . اهـ .
 
07 - وابتزّ قلبي قسرا قلت مظلمة *** يا حاكم الحبّ هذا القلب لم حبسا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« ابتز » بمعنى سلب يقال من عز بز ومن غلب سلب . و « قلبي » بتحريك الياء للوزن .
و « القسر » بفتح القاف والسين المهملة القهر والغلبة .
وقلت كان القياس فيه أن يكون بالفاء أي فقلت . و « مظلمة » بفتح اللام منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف .
أي ظلمت مظلمة . ثم أنه بيّن مظلمته بقوله « يا حاكم الحب » أي يا حاكما في وقائع الحب ، ويا قاضيا في شريعته هذا القلب يشير إلى قلبه . وقوله « لم » أصله لم بفتح الميم لكن سكن للضرورة ، وأصله ما الاستفهامية لكن حذف ألفها عند دخول حرف الجر عليها على حد قوله تبارك وتعالى : عَمَّ يَتَساءَلُونَ ( 1 )

« 239 »
 
[ النّبأ : الآية 1 ] . وقوله تبارك وتعالى :فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ[ النمل : الآية 35 ] و « حسبا » مبني للمجهول والألف للإطلاق . ولم متعلق بحبس ، وقدم المتعلق وجوبا لوجود الاستفهام في ضمنه والجملة خبر المبتدأ .
فإن قلت : ابتزاز القلب عبارة عن سلبه . والسلب الأخذ اختلاسا فما معنى قوله لم حبسا ، وليس في السلب ما يدل على الحبس .
قلت : معناه أنه لما سلبه واختلسه من مكانه منعه عن الدخول إلى وطنه وهو ما بين الضلوع فيكون قد حبسه عن وطنه الأصلي .
وفي القاموس الحبس المنع ، ويجوز أن يكون المعنى : أشكو مظلمة ، وهي بكسر اللام ، ما تظلمه الرجل . وفي البيت ألفاظ متناسبة وهي ابتز والقسر والمظلمة والحبس والحاكم .
وإنما قلنا إن القياس فقلت بالفاء لأن القول المذكور مفرّع على ابتزاز القلب .
 
( ن ) : فاعل ابتز ضمير المحبوب الحقيقي . وقوله قلبي ، مفعوله أي قبض واستولى بطريق الغلبة على قلبي بحيث لم يبق مني انفلات من يده . وقوله قلت ، أي تكلمت في نفسي وحدثتها بذلك . وقوله مظلمة بكسر اللام ما تظلمه الرجل من الظلم بالضم . وهو وضع الشيء في غير موضعه . والمظلمة ، بفتح الميم وكسر اللام أيضا اسم لما يطلبه عند الظالم كالظلامة . وتقدير الكلام هنا لي مظلمة بالرفع أو أنا مظلوم مظلمة بالنصب على أنه مفعول مطلق . ولم يقل أنت ظلمتني لأن الظلم مستحيل على الحق تعالى . والأدب اقتضى ذلك من قبيل قوله تعالى :رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ[ الأعراف : الآية 23 ]
وقوله يا حاكم الحب هو المحبوب الحقيقي . وقوله هذا القلب ، أي الذي أخذته قهرا وسلبته جهرا .
وقوله لم حبسا ، المعنى أن القلب سلب وحبس فمنع من ذهابه إلى جهات الأغيار بسبب المحبة الداعية إلى كشف الأنوار وظهور الأسرار والتباعد عن هذه الدار . وسمي ذلك ظلما لأنه حصل على سبيل القهر والغلبة وهو فضل عظيم . اهـ .
 
08 - زرعت باللّحظ وردا فوق وجنته *** حقّا لطرفي أن يجني الذي غرسا
 
[ الاعراب والمعنى ]
أراد « بزرعه باللحظ وردا فوق وجنته » نظره إليه الموجب احمرار وجنته ، فهو بمنزلة زرع الورد فوق وجنته . والوجنة كرسي الخد . قوله « حقا » اعلم أنه يروى حق بالرفع ، وهو المتبادر على أن يكون خبرا مقدما ، وأن يكون المصدر المسبوك من أن المصدرية وما بعدها مبتدأ مؤخرا .
ويصير المعنى جناية طرفي الذي غرسه من الورد حق . ويروى بالنصب على أن يكون ظرفا في التقدير أي في الحق على حدّ قوله :أحقّا أنّ أخطلكم هجاني


 
« 240 »
 
أي أفي الحق أن أخطلكم هجاني . ويكون الظرف المقدر أيضا خبرا مقدما .
ومثله قول الشاعر :
فلم منعتم ناظري قطفه * والشرع أن الزرع للزارع
 
( ن ) : قوله زرعت باللحظ الإشارة بذلك إلى المراقبة الإلهية ، وانفساح البصيرة القلبية في صفحات ظواهر الكائنات . وقوله وردا ، يكني به عن حمرة الروحانية السارية في مجموع الكائنات ، وهو ملكوت كل شيء . وقوله فوق وجنته ، أي المحبوب الحقيقي يكني بالوجنة عن العارفين الكاملين من جملة روحانية مجموع العالمين لارتفاعهم على صفحات ظواهر الكائنات واختصاصهم برطوبة الاعتدال وطيب النفحات .
 
وقوله لطرفي هو هنا كناية عن عين البصيرة . وقوله أن يجني الذي غرسا المعنى في ذلك أن من نظر إلى وجنة محبوب ، فاحمرّت تلك الوجنة من الاستحياء ، فقد ظهر ما يشبه الورد الأحمر على تلك الوجنة ، وانتشرت رائحة ذلك الورد ، فكان نظير التفات البصيرة والبصر إلى الوجود الحق الظاهر بالصور الكونية الساري فيها سر الحياة الروحانية ، الذي لولا ذلك الالتفات والنظر ما ظهر ، ولا فاحت منه روائح العرفان على حسب استعداد الأكوان ، وفاحت عواطر العلوم الإلهية من حضرة الإمكان وحقيقة كن فكان . اهـ .
 
09 - فإن أبى فالا قاحي منه لي عوض *** من عوّض الدّرّ عن زهر فما بخسا
 
[ الاعراب والمعنى ]
أراد « بالأقاحي » ثغر الحبيب فإنه دائما يشبه به . وقوله « من عوض الدر » الذي هو ثغره . « عن الزهر » وهو الورد المغروس .
« فما بخسا » أي ما نقص حظه ، فإن البخس النقص . ومن في قوله « من عوض » موصولة مبتدأ أو شرطية كذلك . وجملة فما بخسا : خبر المبتدأ أو جواب الشرط . وما أحسن قول القائل :
وبين الخدّ والشفتين خال * كزنجيّ أتى روضا صباحا
تحير في الرياض فليس يدري * أيجني الورد أم يجني الأقاحا
ونائب الفاعل في عوض ضمير يعود إلى من . و « الدر » مفعوله الثاني .
 
( ن ) : قوله فإن أبى الفاء للتعقيب ، وأبى أي امتنع ، يعني ذلك المحبوب أن يمكنني من اجتناء ما غرسته ، والتفريع على ما أسسته من الاشتغال بالعلوم المذكورة والمعارف المنشورة .
 
وقوله فالأقاحي الفاء في جواب الشرط . والأقاحي جمع أقحوان بالضم وهو البابونج ، كالقحوان بالضم . يكني بالأقاحي هنا عن الفم . يشير بذلك إلى الأمر الإلهي لأنه مظهر الكلام القديم .
وقوله منه ، أي من الورد المذكور . وقوله لي أحقّا أنّ أخطلكم هجاني

« 241 »
عوض ، أي عوض عن ورد الوجنة الحمراء وهو شهود الأمر الإلهي في جملة العالم وذلك بغلبة الروح على طبيعة الجسد فإن الروح من أمر اللّه تعالى . وقوله الثغر وهو المبسم ، كناية عن أمر الحق تعالى الذي هو مظهر أسمائه وصفاته .
وقوله عن درّ ، كناية عن العلوم الإلهية فإنها وإن جلت وعظمت باعتبار موضوعها بالنسبة إلى تجليات الأمر الإلهي كشفا وشهودا بحضرات الأسماء والصفات أدنى مقاما لكونها علوما كونية بحسب الاستعداد في شهود الحضرة الوجودية . وقوله فما بخسا بالبناء للمفعول من بخسه نقصه . اهـ .
حاشية :
أن الشيخ عبد الغني النابلسي قد أورد المصراع الثاني من هذا البيت هكذا :
من عوض الثغر عن در فما بخسا
 
10 - إن صال صلّ عذاريه فلا حرج *** أن يجن لسعا وأنّي أجتني لعسا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الصل » بكسر الصاد ، الحية الصفراء أو مطلق الحية . و « العذار » كثيرا ما يشبه بالحية . و « أن » في قوله : أن يجن ، مصدرية ، وإنما حذفت الياء لضرورة الشعر ، وأصله أن يجني . أي لا عجب أن يجني عليّ لسعا من حية عذارية ، وأنني أجتني منه لعسا ، واللعس سواد مستحسن في الشفة .
ولا يخفى ما في البيت من التجنيس بين صال وصل وهو شبه الاشتقاق ، وجناس القلب في لسع ولعس ، وشبه الاشتقاق في أجتني ويجن .
 
( ن ) : العذار ، هنا كناية عن ظهور آثار الجمال بالمحاسن الكونية من شرائف الخصال ، وثنى ذلك لظهوره في أهل اليمين وفي الشمال ، والضمير للمحبوب الحقيقي . وقوله أجتني لعسا ، يكني بذلك عن حلاوة التوحيد التي تظهر له من شهود الأمر الإلهي والقيام بذلك على الكشف والتحقيق . اهـ .
 
11 - كم بات طوع يدي والوصل يجمعنا *** في بردتيه التّقى لا نعرف الدّنسا
 
[ الاعراب والمعنى ]
هذا البيت اختلفت الرواة في نقله والصواب فيه ما نذكره ، وذلك أن « الوصل » مجرور بالعطف على يدي والتقدير كم بات طوع يدي ، وطوع الوصل ، ويكون قوله « يجمعنا » جملة مستأنفة لبيان مبيته طوع يده والوصل .
 
ويكون « التقى » فاعل يجمعنا ، والضمير في بردتيه للحبيب ذي المحاسن . وقوله « لا نعرف الدنسا » حالية من مفعول يجمعنا ، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان جمع التقى في بردتي الحبيب ، فإن قلت لم

« 242 »
 
ثنى البردة ، قلت هذه عادة مستمرة في كلام البلغاء ، ألا ترى إلى قول الشريف الرضي :
بتنا ضجيعين في ثوبي تقى وهوى * يلفنا الشوق من فرق إلى قدم
وأراد بالدنس في قوله : لا نعرف الدنسا ما يتهم به المحب والحبيب عند اجتماعهما في وقت المواصلة .
وما أحسن قول الشريف الرضي :
سلو مضجعي عني وعنها فإننا * رضينا بما يخبرن عنا المضاجع
 
وقد روى البيت صاحبنا الأديب الأريب الشيخ العناياتي النابلسي على هذه الصفة :
كم بات طوع يدي والوصل يجمعنا * في بردتي والتقى لا نعرف الدنسا
 
على أن فاعل يجمعنا ضمير يعود إلى الوصل . و « في بردتي » متعلق به على أن البردة مفردة ، ويكون الواو في قوله والتقى للقسم ، ويكون الوصل مرفوعا على الابتداء على أن الواو قبله واو الحال ، وروايته صحيحة غير ثابتة السند .
 
( ن ) : بات ، أي المحبوب الحقيقي وإنما قال بات لدخول ذلك الأمر الإلهي في ظلمة الكون أي تجليه عليه . وقوله طوع يدي ، أي بحيث متى شئت شهدته وهو مقام التمكن في العرفان بخلاف أحوال السالكين التي تدهمهم في بعض الأحيان .
 
وقوله والوصل مبتدأ والواو للحال والجملة حال من فاعل بات والمعنى بالوصل شهود خالقه قيوما عليه .
وقوله يجمعنا ، أي أنا وإياه والجملة خبر المبتدأ ، وقوله في بردتيه ، أي بردتي الوصل فإنه لا يكون إلا بين اثنين بردة الأسماء والصفات المنسوبة إليه تعالى ، وبردة الآثار الكونية وهي منسوبة إليه تعالى أيضا . وقوله التقى ، فاعل يجمعنا .
وقوله لا نعرف الدنسا ، الدنس هنا كناية عن مخالطة الأغيار وملاحظتها في طور من الأطوار . اهـ .


12 - تلك اللّيالي الّتي أعددت من *** عمري مع الأحبّة كانت كلّها عرسا
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « أعددت من عمري » ظاهر أعددت أنه بمعنى عددت من العدد ، ولم يرد أعددت الشيء بمعنى عددته ، وإنما أعددت بمعنى هيأت ، واعتبار معنى التهيئة هنا بعيد .
وكلها توكيد للضمير في كانت .
و « عرسا » خبر كانت وجملة كان من اسمها وخبرها خبر المبتدأ لأن التي صفة لليال ومن عمري متعلق بأعددت ومع الأحبة كذلك . وجملة كانت كلها عرسا خبر تلك الليالي .

« 243 »
 
( ن ) : إنما كان الاجتماع في الليالي لأنه في عالم الأكوان ، والأكوان ليالي لأنها ظلمات . وقوله أعتدّ من العدد أي الحساب .
وفي بعض النسخ أعددت ، ومعناها هيأت وهو غير مناسب هنا . وقوله من عمري ، أي أحسبها وأعدها من عمري . يعني وما عدا تلك الليالي فلا أحسبها ولا أعدها من عمري لأنها ذهبت غفلة وإعراضا عن الحق تعالى .
 وقوله مع الأحبة ، إنما عدده باعتبار كثرة أسمائه وصفاته واختلاف آثاره وأنواع مخلوقاته ،
وقوله : عرسا بضمتين جمع عروس ، والعروس وصف يستوي فيه المذكر والمؤنث ما داما في أعراسهما ، وجمع الرجل عرس بضمتين ، وجمع المرأة عرائس .
والمعنى في ذلك أن الأعيان الكونية المكني عنها بالليالي الماضية له لصحبته لها فيما مضى من أيام سلوكه في طريق اللّه تعالى وأشار إليها بالأحبة أيضا ، وذكر أن أوقات صحبته لها التي كان يعدها من عمره كانت كلها عرسا بضمتين جمع عروس ، ومن لازم العروس أن يكون له عروس فعرائس هؤلاء العرس حقائق نفوسهم الربانية وذواتهم الإنسانية الروحانية . اهـ .
 
13 - لم يحل للعين شيء بعد بعدهم *** والقلب مذ آنس التّذكار ما أنسا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« لم يحل » من الحلاوة يقال حلا الشيء يحلو . ولم دخلت على يحلو مضارع حلا فحذفت الواو ، والضمة على اللام دليل عليها . و « شيء » فاعل . و « بعد » ظرف .
و « بعدهم » بضم الباء خلاف القرب . أي ما حلا لعيني شيء من الأشياء بعد صدور بعد الأحبة . قوله : « والقلب » الخ . . . تقرير للمصراع الأول أي والقلب مذ أنس بهمزة بعدها مدة بعدها نون وهو على وزن أفعل . و « التذكار » بفتح التاء بمعنى التذكر .
و « أنس » في آخر البيت ثلاثي على وزن فرح . فيصير المعنى : والقلب مذ أحس تذكر الأحباب ما أنس أي ما ذهبت وحشته ، فيكون المصراع الثاني تقرير للمصراع الأول .
فيكون المعنى جميع ما تراه العين بعد بعدهم مر ليست له حلاوة ، ولا ترى عليه أنسا ولا طلاوة .
والقلب مذ أحس بذكرهم بعد فراقهم ما ذهبت عنه الوحشة ، ولا زالت عنه الدهشة فآنس الأول له مدّة بعد الهمزة ، وهو بمعنى أحس ، والثاني بغير المد بمعنى وجد الأنس الذي هو خلاف الوحشة .
وفي البيت الجناس المحرف في بعد وبعد ، والجناس الناقص بين آنس وأنس مع نوع تحريف .
 
14 - يا جنّة فارقتها النّفس مكرهة *** لولا التّأسّي بدار الخلد متّ أسا
 
[ الاعراب والمعنى ]
أراد بالجنة في قوله « يا جنة » الحبيب المفارق ، والخليل الغائب الذي ليس بمرافق ، وإنما أطلق الجنة على الحبيب المباعد ، والصديق الذي ليس بمساعد لما

« 244 »
 
بينهما من المشابهة من حصول النعيم واقتراب الأنس بمصاحبة النديم .
و « النفس » فاعل فارقتها . و « مكرهة » على صيغة اسم المفعول منصوب على الحالية .
والمنادى من قبيل المنادى الشبيه بالمضاف لأن بعده ما يتم المعنى به .
و « لولا » حرف امتناع لوجود .
و « التأسي » مبتدأ وخبره محذوف ، أي موجود . و « بدار الخلد » متعلق بالتأسي .
و « مت » جواب الشرط . و « أسى » مفعول لأجله لمت .
 
ومراده بالمصراع الثاني لولا التشبه بما صدر لآدم في دار الخلد كنت أموت بسبب الحزن الذي أصابني بسبب مفارقة المحبوب ومباعدة المطلوب .
وفي البيت التلميح بتقديم اللام على الميم ، وهو الإشارة إلى قصة أو شعر أو ما أشبه ذلك ، وأصل شاهده قول أبي تمام حبيب بن أوس :
لحقنا بأخراهم وقد حوم الهوى * قلوبا عهدنا طيرها وهي وقع
فردت علينا الشمس والليل راغم * بشمس بدت من جانب الخدر تطلع
فو اللّه ما أدري أأحلام نائم * ألمت بنا أم كان في الركب يوشع
 
( ن ) : قوله يا جنة ، منادى منصوب يكني بذلك عن حضرة التجلي الحق .
وقوله فارقتها النفس ، أي نفسي لأنها فنيت في شهودها واضمحلت في التحقق بوجودها .
 
وقوله مكرهة ، حال من النفس لأن ذلك الفناء والاضمحلال بطريق الغلبة والقهر لسلطان الحقيقة ، إذ لا بقاء للباطل إذا ظهر الحق . وقوله لولا التأسي ، أي التسلي .
 
ودار الخلد ، جنة النعيم والتأسي بها لأن أهلها موعودون بربهم وهم فيها . انتهى .

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح شربنا على ذكر الحبيب مدامة الأبيات من 01 إلى 41 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:46 pm

شرح شربنا على ذكر الحبيب مدامة الأبيات من 01 إلى 41 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة شربنا على ذكر الحبيب مدامة الأبيات من 01 إلى 41
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة الثالثة عشرة شربنا على ذكر الحبيب مدامة ]
وقال رضي اللّه تعالى عنه :
01 - شربنا على ذكر الحبيب مدامة *** سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
 
[ المعنى ]
اعلم أن هذه القصيدة مبنية على اصطلاح الصوفية فإنهم يذكرون في عباراتهم الخمرة بأسمائها وأوصافها ، ويريدون بها ما أدار اللّه تعالى على ألبابهم من المعرفة أو من الشوق والمحبة . والحبيب في عبارته عبارة عن حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقد يريدون به ذات الخالق القديم جل وعلا لأنه تعالى أحب أن يعرف فخلق .
 
فالخلق منه ناشىء عن المحبة وحيث أحب فخلق فهو الحبيب والمحبوب والطالب والمطلوب والمدامة المعرفة الإلهية والشوق إلى اللّه تعالى . وقوله « سكرنا بها » أي طربنا وانتشينا على سماع أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ [ الأعراف : الآية 172 ]
قبل أن يخلق الكرم أي الوجود ، فإن الكرم عبارة عن هذا الوجود الممكن الحادث الذي أوجدته القدرة الإلهية ، ولا شك أن طرب الأرواح على السماع عند شرب الراح قبل إيجاد الأشباح .
 
وقوله « من قبل أن يخلق الكرم » وقع فيه تنازغ بين سكرنا وشربنا ، والخلاف فيه معلوم في كتب النحو ومما يورد هنا قول الإمام فخر الدين الرازي .
شربنا على الصوت القديم قديمة * لكل قديم أوّل هي أوّل
فلو لم تكن في حيز قلت إنها * هي العلة الأولى التي لا تعلل
 
( ن ) : قوله شربنا ، أي معاشر السالكين في طريق اللّه تعالى . وقوله على ذكر الحبيب ، أي المحبوب وهو الحق تعالى . وذكره تذكره بعد نسيان الغفلة عنه وحجاب التباعد منه .
وقد يراد بالذكر الذكر باللسان ، أو بالقلب والجنان . ومن عادة الشربة الفاسقين أنهم يشربون على السماع والطرب بأنواع التلاحين فجرى على سنتهم من قلب أعيان الوجود والكشف عن حقائق الكرم الإلهي والجود .
وأشار إلى أن ذكر الحبيب عنده من أقوى أسباب الطرب .
وقوله مدامة ، أي خمرة . والمعني بها هنا

« 246 »
شراب المحبة الإلهية الناشئة عن شهود آثار الأسماء الجمالية للحضرة العلية فإنها توجب السكر والغيبة بالكلية عن جميع الأعيان الكونية .
وقوله سكرنا ، أي غبنا لذة وطربا عن كل ما سوى الحقيقة ، واتصلنا بغيب غيبتنا من ممتد هاتيك الرقيقة .
وقوله بها ، أي بتلك الخمرة المذكورة والنشأة المطلقة المحصورة ، وقوله من قبل أن يخلق الكرم ، يعني أن سكره المذكور سابق في الحضرة العلمية قبل ظهور كل مقدور . اهـ .
 
02 - لها البدر كأس وهي شمس يديرها *** هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
 
[ المعنى ]
هذا البيت عجيب في بابه فإنه مشتمل على ذكر ألفاظ يناسب بعضها بعضا ، وهي البدر والشمس والهلال والنجم وكذلك الكأس والإدارة والمزج . و « البدر » مبتدأ .
 
و « كأس » خبره ، والتقدير البدر كأس لها . وقيل سمي البدر بدرا لمبادرته الشمس بالطلوع كأنه يعجلها المغيب . والكأس الإناء يشرب فيه ، أو ما دام الشراب فيه مؤنثة مهموزة جمعه أكؤس وكؤس وكاسات . و « الشمس » الكوكب النهاري العظيم المضيء .
 
وهو الأوسط في السبعة السيارة ، فوقه ثلاثة وهي زحل والمشتري والمريخ ، وتحته ثلاثة وهي عطارد والزهرة والقمر ، والشمس في الوسط مأخوذ من شمسة القلادة .
 
ومنهم من يقول البدر عبارة عن العارف الكامل وأكبر العارفين الأنبياء بعد نبينا يراد العارفون من أمته ، والمدامة هي المعرفة الإلهية التي تفيض أنوارها في جميع الكائنات . وأما « الهلال » الذي يديرها فهو المبلغ عن العارف كأصحاب الأنبياء وتلاميذ العارفين .
وإذا مزجت المعرفة اللدنية بالمدارك الشرعية الدينية فكم يظهر هناك نور يهتدي به أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم .
وما أحسن قول الشيخ عبد الرحيم اليمني البرعي حيث يقول :
هم نجوم أشرق الكون بهم * بعد ما كانت نواحيه ظلاما
كل من لم ير فرضا حبهم * فهو في النار وإن صلى وصاما
 
( ن ) : قوله لها ، أي لتلك المدامة المذكورة من حيث أنها محبة إلهية كما ذكر ، وهي عين المحبة الأزلية ظاهرة في مظاهر الآثار الكونية فشمس بحبهم ظهور نورها في بدر يحبونه من قوله تعالى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ المائدة : الآية 54 ] وذلك الظاهر عين الباطن . وهو المشرق على جميع المواطن .
وهو خمر الوجود الحق والخطاب الصدق شربه كل شيء من الأشياء فظهرت به الظلالات والأفياء ، فهو محبة ينبت كل حبة ، وهو خمر يسكر عقل زيد وعمرو ، وهو وجود يفيض أنواع الكرم والجود ، وهو خطاب كن فيكون تنفصل به كل حركة وسكون ، وهو ذات لقيام الأدوات ، وهو

« 247 »
 
صفات وأسماء لملابس سليمى وأسماء . ومن فهم الإشارة أغنته عن كل عبارة وأهل الأذواق يفهمون معاني ما كتب في الأوراق والأسرار في قلوب الأحرار .
وقوله البدر وهو الإنسان الكامل العالم المحقق العامل قال في القاموس البدر القمر الممتلىء .
وقال في الصحاح يسمى بدرا لمبادرته الشمس بالطلوع كأنه يعجلها المغيب .
ويقال سمي بدرا لتمامه والإنسان الكامل ممتلئ من الحق تعالى تحليا وظهورا وإشراقا ونورا .
وهو يبادر شمس الأحدية بطلوعه في الظلمة الكونية كأنه يعجلها المغيب فيحجبها عن عيون المريب . وهو مجلي الحق على التمام ، وهو باب العطايا والأنعام .
وقوله كأس ، أي مظهر ومجلي للمقام الأعلى . وإنما كان الإنسان الكامل كأسا لها من حيث هي خمرة تسكر كل من شربها فيغيب عقله عن ملاحظة الأكوان ، فإن الإنسان الكامل يتكلم بما فيه من علوم تحقيقها عند المريد الصادق فيشربها منه المريد الصادق فتفنى كميته وكيفيته فلا يبقى منه غيرها . وقوله وهي ، أي تلك المدامة من حيث أنها ذات وجودية وحقيقة نورانية أزلية أبدية .
وقوله شمس ، أي طالعة مشرقة على كل تقدير وتصوير ، وهو مقتضى علمها وإرادتها على حسب ما توجه به أمرها القديم وحكمها المستقيم .
وقوله يديرها ، أي تلك المدامة وإدارتها نشر أسمائها وصفاتها الحسنى .
وقوله هلال هو ذلك البدر المذكور ، إلا أنه محتجب بظهور نفسه عن إظهار بقية النور كما أن الأرض إذا حالت بين القمر والشمس بعض حيلولة سترت بقية ذلك النور .
وقوله مزجت بالبناء للمفعول خلطت بغيرها . وقوله نجم هو ذلك الهلال إذا نظر إلى غيره وسار على خلاف سيره فيرجع نجما للهدى ويحصل به لمن تابعه الاقتداء .
قال تعالى : وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [ النّحل : الآية 16 ] . وقال صلى اللّه عليه وسلم :
« أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » . اهـ .
 
03 - ولولا شذاها ما اهتديت لحانها *** ولولا سناها ما تصوّرها الوهم
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الشذا » بالذال المعجمة عبارة عن الرائحة الطيبة . و « الحان » بيت الخمر .
و « السنا » بالقصر النور ، وبالمدّ الارتفاع . والذي في البيت المقصور .
فرائحتها سبب للدلالة على موضعها ، ونورها سبب لتصوّرها في الوهم .
وما أحسن الموازنة في قوله « ولولا شذاها » « ولولا سناها » وقد تبين من كلامه أن لها شذا وأن لها سنا ، فهي شمس فهي مسك فهي طيب فطيبها يورث الهداية ، وسناها يوجب التصوّر لها من طريق الوهم . وفي البيت الموازنة في قوله شذاها وسناها .
 
( ن ) : يعني بشذاها عالم الروح الأعظم الذي هو من أمر اللّه تعالى . وقوله حانها ، يكني بألحان عن حضرات الذات العلية ، وهي أنواع أسمائها وصفاتها السنية .

« 248 »
يقول لولا روائح تلك الحضرات لما اهتديت إلى الأسماء الحسنى والصفات العليا ، فإن تلك الآثار الحاملة لذلك السر المصون فاحت روائحها فعطرت الأكوان ، وما حرم من شمها إلا المزكوم عن الإدراك والتحقق ببدائع العلوم وفنون الفهوم ، وقوله سناها ، كنى به عن نور العقل الإنساني فإنه ضوء البرق الروحاني .
والبرق الروحاني كناية عن الروح الآمري الذي هو كلمح بالبصر ، وقوله ما تصوّرها الوهم ، يعني لولا عقلها النوراني الذي هو ضوء برق الروح الإنساني لما أثبت الوهم لهذه المدامة المكنى بها عن الحقيقة الجامعة الوجودية الإلهية صورة ذهنية فإنها لا صورة لها في نفسها . اهـ .
 
04 - ولم يبق منها الدّهر غير حشاشة *** كأنّ خفاها في صدور النّهى كتم
 
[ المعنى ]
« الدهر » قد يعدّ في الأسماء الحسنى والزمان الطويل والأبد الممدود وألف سنة . وقوله « لم يبق » بضم الياء وسكون الباء من أبقى .
و « الحشاشة » بضم الحاء بقية الروح في المريض والجريح . و « الخفاء » الكتم والإظهار فهو من الأضداد .
و « النهى » بضم النون جمع نهية بمعنى العقل . و « الكتم » بفتح الكاف بمعنى الستر والإخفاء .
والظاهر أن الخفاء هنا بمعنى الإظهار وإلا فيلزم تشبيه الشيء بنفسه .
وهذا مأخوذ من قولهم الشيء إذا جاوز حدّه انعكس إلى ضده ، كما نص عليه المحققون ، ومنه قول الشهاب السهروردي : يا نور النور ويا خفيا من فرط الظهور .
 
( ن ) : قوله منها ، أي هذه المدامة المذكورة يعني في بصائر المكلفين بأحكامها وذلك لاستيلاء الغفلات على قلوب أكثرهم .
وقوله الدهر ، المعني به هنا زخارف الدنيا وزينتها الشاغلة للقلوب الغافلة والعائقة عن النهوض إلى شهود تجليات الحق تعالى فيها .
وقوله غير حشاشة ، المعنى في ذلك أن الدهر المكنى به عن الزخارف الباطلة والزينة العاطلة لم يترك في قلوب أكثر العباد حشاشة روحانية وبقية روح أمرية .
وقوله خفاها بالقصر لضرورة الوزن والأصل خفاءها والضمير للمدامة المذكورة . وقوله كتم الكتم هنا ترشيح للاستعارة ، يعني أن خفاء تلك الحقيقة عند العقول البشرية يشبه خفاء الأسرار وكتمها في صدور الذين أوتوا العلم الإلهيّ . اهـ .
 
05 - فإن ذكرت في الحيّ أصبح أهله *** نشاوى ولا عار عليهم ولا إثم
 
[ المعنى ]
« ذكرت » على البناء للمجهول والضمير للمدامة . و « النشاوى » جمع نشوان ، وهو السكران . يقال نشوان بين النشوة بفتح النون ، وحكى يونس كسرها .
قوله « ولا عار عليهم » أي بسكرهم من ذكرها لأنهم لم يقترفوا ذنبا ولم يتعاطوا إنما فيما يظهر والعار

« 249 »
والإثم بتعاطي الأشباح . قوله « أصبح أهله » فيه إشارة إلى أن ذكر الخمرة ليلا يوجب النشوة لأهل حي الذكر صباحا فتستمر النشوة في الحي إلى الصباح .
 
( ن ) : الضمير في ذكرت للمدامة المذكورة ، والحضرة المنشورة .
وقوله أصبح ، المعنى في ذلك هنا ذهاب ظلمة ليل الغفلة ، وإشراق أنوار التجليات الإلهية على القلب الذاكر .
وقوله أهله ، أي أهل ذلك الحي يعني المتأهلين بالاستعداد لقبول أنوار الفيض الرباني والمدد الرحماني .
وقوله نشاوى ، المعنى حصول السكر لهم بما ينجلي عليهم وينكشف لديهم فيغيبون به عن أوهام الأغيار في التحقق بمعاني الأسرار . اهـ .
 
06 - ومن بين أحشاء الدّنان تصاعدت *** ولم يبق منها في الحقيقة إلّا اسم
 
[ المعنى ]
هذا فيه ترق بالنسبة إلى قوله « ولم يبق منها الدهر غير حشاشة » .
وما ألطف الاستعارة في قوله « ومن بين أحشاء الدنان تصاعدت » والتصاعد تفاعل يقتضي صعودها شيئا فشيئا .
وفي العبارة استعارة بالكناية حذف فيها المشبه به وهو الإنسان .
وإضافة الأحشاء إلى الدنان استعارة تخييلية والتصاعد يمكن أن يعتبر ترشيحا وتجريدا فتأمل . قوله « ولم يبق منها في الحقيقة إلا اسم » تحقيق لتمامها .
وهذا إشارة إلى اضمحلال الكمالات الوجودية وفناء المعارف الإنسانية إلى أن لا يبقى سوى ما أشار إليه صاحب المرتبة الخاتمة من بقاء ما هو خلاف الخير واللّه تعالى دافع كل ضير .
 
( ن ) : قوله تصاعدت ، أي المدامة المذكورة يعني ارتفعت شيئا فشيئا ، وهو كناية عن خفاء العلوم الإلهية من صدور الرجال وتقاصر الهمم الروحانية عن نيلها وطلبها لانحراف القلوب عن هذا المجال ، وموجب ذلك كمال الرغبة في محبة الدنيا وشهواتها وزيادة الانهماك فيها والإقبال . وقوله ولم يبق الخ .
فيقال ارتفعت الحقيقة المدامية بعد تجليها بنزولها في الصور الحسية والمعنوية ولم يبق منها عند المريد الصادق إلا الاسم الذي يتولاه لأنه مجلاه .
قال تعالى : وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [ الأعراف : الآية 180 ]
فإنه لا يدعى ويطلب إلا بأسمائه لأنها المتصرفة في العوالم دون الذات المقدسة لغناها عن العالمين بحكم قول اللّه تعالى : اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [ آل عمران : الآية 97 ] . اهـ .
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ أقامت به الأفراح وارتحل الهمّ
 
[ المعنى ]
قوله « وإن خطرت » عطف على فإن ذكرت وتنكير اليوم للدلالة على أن إقامة الأفراح بها وارتحال الهم بسببها لا يتوقف على أن يكون ذلك في يوم مخصوص بل هو حاصل في أي مكان وفي أي زمان من كل إنسان . وتعميم ذي الخاطر من تنكير

« 250 »
 
امرئ في حيز الشرط ، وقد نص القوم على إفادة مثله العموم . و « أقامت » جواب الشرط .
و « ارتحل » عطف عليه ، أي ينشأ عن مجرد الخطور كمال السرور ونهاية الحبور .
والهاء : في به للخاطر ، ومتعلق ارتحل محذوف ، أي وارتحل الهم عنه .
المعنى وإن خطرت هذه المدامة على خاطر سقيم أذهبت سقامه ، وجلبت له الفرح إلى يوم القيامة .
وفي البيت الاشتقاق في خطرت وخاطر ، والطباق بين الإقامة والارتحال ، وبين الأفراح والأتراح « 1 » . وأما الانسجام فهو قدر مشترك في جميع النظام المنسوب إلى الحضرة الفارضية .
 
( ن ) : قوله خطرت على خاطر امرئ ، أي انكشفت له متجلية بصورة من الصور مطلقا ، فإن تجليها واستتارها على حسب إرادتها ومشيئتها .
وقوله أقامت به الأفراح ، أي بذلك المرء أي الإنسان . وقوله وارتحل الهم جعل الأفراح مقيمة والهم مرتحلا للإشارة إلى أن ذلك دائم دنيا وآخرة بمجرد الخطور في البال فكيف إذا كثر الحضور والإقبال . اهـ .
 
07 - ولو نظر النّدمان ختم إنائها *** لأسكرهم من دونها ذلك الختم
 
[ المعنى ]
لما كان الختم يدل على عزة المختوم ، ورفعة شأن السر المكتوم لزم أن يؤثر النظر إليه كما يؤثر لطف المنظور ، وقد يوجد في الخبر ما يوجد في المخبور ، وإن كان ذلك عزيزا وجوده نادرا موجوده . و « الندمان » جمع نديم كالمنادم .
وضمير أسكرهم يعود على الجمع المذكور . وقد بلغني من بعض الثقات أن بعض الشراح ضبط الندمان مفردا ، ويرد عليه رجوع ضمير الجمع إليه وهو مفرد .
ويمكن الجواب بأن الندمان على تقدير كونه مفردا يراد به الجنس الشامل ، فيكون معنى الجمع موجودا في ضمنه . قوله « من دونها » أي من دون شربها .
و « ذلك » فاعل أسكرهم و « الختم » صفة اسم الإشارة . وفي البيت إرصاد بذكر مفعول نظر ، وهو ختم المضاف إلى إنائها .
 
( ن ) : يكني بالندمان عن السالكين في طريق اللّه تعالى . وختم إنائها ، كناية عن أثر التجلي الرباني في قلب العبد . والنظر إليه ، كناية عن التحقق به .
وكنى بإنائها عن النفس الإنسانية فإن الختم واقع عليها بالتجلي الخاص بها في جميع أحوالها في كل وقت من الأوقات .
وقوله من دنها « 2 » وهو الخابية الكبيرة كناية عن الجسم الإنساني . اهـ
..........................................................................................
( 1 ) قوله : وبين الأفراح والأتراح ليس في البيت أتراح ولعله وهم . اهـ .
( 2 ) قوله : وقوله من دنها الخ . هي نسخة كتب عليها . اهـ .
 
« 251 »
 
09 - ولو نضحوا منها ثرى قبر ميّت *** لعادت إليه الرّوح وانتعش الجسم
 
[ المعنى ]
نضح البيت رشه ، ونضح العطشان سكن عطشه ، ويجوز الوجهان هنا .
و « الميت » أصله ميوت فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء ويخفف بعد الإدغام فيقال « ميت » . قال الفراء : ويستوي فيه بعد التخفيف الذكر والأنثى ، قال اللّه تعالى :
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [ الفرقان : الآية 49 ]
وقوله « منها » أي من المدامة واللام في « لعادت » جواب لو . والضمير في « إليه » للميت . و « الروح » فاعل عادت ، وذلك يقتضي أن الروح كانت موجودة قبل .
والروح إذا سئل عنها أحد جوابه أن يقول هي من عالم الأمر ، ليوافق قوله تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [ الإسراء : الآية 85 ]
 
وبعض المتكلمين يجعل الروح والنفس بمعنى واحد . و « انتعاش الجسم » عبارة عن ثبوت حركات الحياة وظهور الطراوة وانبعاث الوجود بما ينافي وصف العدم ، ولا شبهة في أن انتعاش الجسم من لوازم عود الروح إليه ، وما ألطف الانتعاش بعد الرشاش .
 
( ن ) : ضمير الجمع في نضحوا للندمان في البيت قبله . وقوله منها أي من المدامة المذكورة . ونضحهم كناية عن توجههم بالجمعية الكبرى من حضرة المتجلي الحق بأذنه سبحانه كما قال تعالى عن عيسى عليه السلام : وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي [ المائدة : الآية 110 ] ،
وقوله وانتعش الجسم ، أي عاد حيّا كما كان لو أراد اللّه تعالى وأذن في ذلك لمن شاء من عباده السالكين في طريق التحقيق كما وقع إحياء الموتى بطريق الكرامة لجماعة من أولياء اللّه تعالى ميراثا عيسويا روحانيا . اهـ .
 
10 - ولو طرحوا في فيء حائط كرمها *** عليلا وقد أشفى لفارقه السّقم
 
[ المعنى ]
قوله « طرحوا » إشارة إلى أن العليل المطروح كجسد قد فارق الروح ، وأنه صار كالحجر الملقى لشدّة ما يلقى ، و « في » الأولى حرف جر للظرفية والثانية مهموزة اللام ، و « الفيء » بمعنى الظل ، أو أن الظل بالغداة ، والفيء بالعشيّ .
قلت وذلك لملاحظة أن الفيء من فاء بمعنى رجع ، ولا شك أن ظل الشمس يكون صباحا ويرجع عشيا .
و « الحائط » الجدار ، وكأنه في الأصل اسم فاعل من الحوطة أو الحيطة فقلبت الواو أو الياء همزة . و « الكرم » للعنب خاصة .
و « العليل » السقيم ، والواو للحال للتقريب . و « أشفى » أي زال شفاؤه أو أشفى على الموت أي أشرف عليه . واللام في « لفارقه » جواب لو .
و « السقم » على وزن قرب العلة الموجودة في العليل . وإنما قيد الطرح بأن يكون في فيء حائط كرمها ليكون منسوبا إليها لأن الفيء للحائط . والحائط

« 252 »
 
محيط بها أما لو ألقي خارجها من غير أن يكون ثمة فيء لم يكن منسوبا إليها .
وما ألطف هذه المبالغة التي حسنها الإتيان بلو المقتضية لنفي ما بعدها إذا كان مثبتا فاعلم ذلك .
وفي البيت التجانس بين في وفيء .
وفي الإتيان بأشفى إيهام الإغراب حيث كان في البيت بحسب الظاهر الجمع بين الشفاء والعلة فتأمل .
 
( ن ) : قوله ولو طرحوا ، أي الندمان المذكورون . وكنى بالفيء عن عالم الخيال خيال الإنسان الكامل فإنه راجع عن جانب مغرب الأكوان إلى جانب مشرق شمس الأحدية من مطلع الروح الآمري الرباني . وكنى بحائط كرمها عن عوالم الإمكان الظاهرة للحس والعقل .
فإنها جدار بين الدنيا والآخرة ، فإن الجسد الإنساني وما تضمن من الجوارح والأعضاء والقوى الروحانية بمنزلة الجدار ، فإذا انهدم بالموت صار الإنسان في عالم الآخرة ، والمعنيّ بالطرح في فيء الحائط المذكور توجه خاطر الإنسان الكامل واشتمال خياله على صورة ذلك العليل . وقوله عليلا من العلة بالكسر المرض ، قال تعالى : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [ البقرة : الآية 10 ]
فإن القلوب تمرض روحانياتها كما تمرض الأجمسام ، ودواء الأجسام حسي ، ودواء القلوب معنوي .
ومن جملة الدواء أن يكون المريض مطروحا بالاعتقاد والتذلل في خاطر الإنسان الكامل العالم بربه العامل . اهـ .
 
11 - ولو قرّبوا من حانها مقعدا مشى *** وينطق من ذكرى مذاقتها البكم
 
[ المعنى ]
« الحانة » موضع بيع الخمر . والحان جمعها مثل حاجة وحاج وساعة وساع ، يعني لو قرب القوم من موضع وجود الخمرة مقعدا قد ناله الزمان بعلة الزمانة واقعده بذلك مكانه .
« لمشى » بمجرد التقريب واستغنى عن معالجة الطبيب . قوله « وينطق من ذكرى مذاقتها » يعني لو ذكر أحد عند أبكم مذاقة هاتيك المدامة لنطق وأظهر كلامه .
 
و « البكم » في آخر البيت جمع أبكم ، وهو الأخرس ، أو من يولد لا ينطق ولا يسمع ولا يبصر . وهذا البيت مشتمل على كرامتين للمدامة ،
الأولى : مشي المقعد عند تقريبه من حانها ،
والثانية : نطق الأبكم عند ذكر مذاقتها . وفي البيت الطباق في الإقعاد والمشي والنطق والبكامة .
 
( ن ) : قوله قربوا ، أي الندمان والمعنيّ بألحان هنا مجالس أهل العلوم الإلهية أصحاب التحقيق والعرفان . وقوله مقعدا كنى به هنا عمن لا نهوض له إلى معرفة ربه المعرفة الحقيقية .
وقوله مشى ، أي انطلق من قيود أوهامه وشهواته وسلك حيث أراد من مسالك التحقيق بعناية التوفيق . وقوله

« 253 »
 
وتنطق « 1 » ، أي تتكلم بالعلوم الإلهية والحقائق العرفانية . وقوله من ذكرى بالكسر ، المعنيّ به هنا التذكر والحفظ بدوام استحضار التجليات الإلهية في عوالم الإمكان بحيث تزول غيريتها عن بصيرته بالكلية .
وقوله مذاقتها ، المعنى في ذلك تذكر معاني التجليات الإلهية الجارية على السنة العارفين المحققين فإن الكلام إذا خرج من القلوب دخل إلى القلوب ، والذي في الألسنة لا يجاوز الألسنة ، وقوله البكم جمع أبكم كنى بذلك عن الغافل المحجوب عن تجليات علام الغيوب فإنه أبكم اللسان والقلب فلا ينطق إلا عن الأغيار بالأغيار . اهـ .
 
12 - ولو عبقت في الشّرق أنفاس طيبها *** وفي الغرب مزكوم لعاد له الشّمّ
 
[ المعنى ]
عبق به الطيب إذ الرق به . والظاهر أن المراد هنا ولو فاحت وشاعت وانتشرت في الشرق أنفاس طيب هذه المدامة ، وكان في الغرب مزكوم ليس له من حاسة الشم نصيب لعاد إليه شمه وذهب عنه سقمه .
وإنما اختار أن يكون الطيب في الشرق والمزكوم في الغرب لأن الشرق محل الطلوع ، والغرب محل الغروب ، والشرق محل الابتداء ، والغرب محل الانتهاء ، فالمناسب للشرق أن يكون محل الطيب كما ذكرناه فاعلم ذلك ، واللّه تعالى أعلم بما هناك .
 
( ن ) : قوله في الشرق ، أي في جهة بلاد المشرق ، وهي التي خرجت منها أولياء العراق ومنها القطب وتوجهت إليها أهل الدنيا من جميع الآفاق .
وقد يراد بالشرق قلب الإنسان الكامل لأنه مشرق شمس الوجود الحق .
وقوله أنفاس طيبها ، المعنى في ذلك لو تقررت معاني التجليات الإلهية عن ذوق ووجدان من الإنسان الكامل العرفان ، وانتشرت روائحها منه في جوانب الأكوان ، وظهرت عليه إمارات الصدق في الوجدان .
وقوله في الغرب ، أي في جهة بلاد المغرب وهي التي خرجت منها الأولياء الكبار وهاجر أكثرها إلى بلاد المشرق كالشيخ الأكبر وغيره .
وقوله مزكوم ، يعني لا يشم رائحة التجليات الإلهية لاشتغال نفسه بتوهمات الأغيار الكونية .
وقوله لعاد له الشم ، أي حاسة إدراك الروائح بحيث يصير يشم روائح التحقيق والعرفان من كلام أهل الكشف والعيان . اهـ .
 
13 - ولو خضبت من كاسها كفّ لامس *** لما ضلّ في ليل وفي يده النّجم
 
..........................................................................................
( 1 ) قوله : وتنطق الخ . بالتاء هي نسخته التي كتب عليها . اه .


 
« 254 »
[ المعنى ]
اعلم أن قول الشيخ « لما ضل في ليل » يروى تارة لما ضل بالضاد من الضلال الذي هو خلاف الهدى ، وتارة لما ظل بالظاء المشالة .
والمعنى على الرواية الأولى أثبت وأمكن وأجزل ، وأما الرواية الثانية فالمعنى عليها لا يخلو من تكلف .
فالمعنى على الرواية الأولى إذا خضبت على البناء للمجهول من كأس تلك المدامة كف لامس .
و « الخضاب » هنا عبارة عن الشعاع الذي ينشأ عن إشراق نور المدامة ويقع على كف اللامس فإنه لا يضل ، والحال أن في يده نجما بل هو يهتدي بالنجم وبالنجم هم يهتدون .
 
والمعنى على الرواية الثانية لما استمر في ليل بل يصير ليله نهارا فتكون ظل من أخوات كان ، وتكون حينئذ مستعملة في ضد معناها الأصلي إذ هو في الأصل لاستمرار بياض النهار فتكون مستعملة بمعنى البقاء في الليل ، أي لا يبقى لامس كاسها في ليل بل يعود إلى نهار ، فإن قلت كيف تقول لا يبقى في ليل بل يعود إلى النهار وفي يده نجم ، والنجم يكون بالليل لا بالنهار ، قلت المراد من عوده إلى النهار الإضاءة التي هي من أوصاف النهار لا النهار الذي يقابل الليل . والرواية الأولى هي الصحيحة وألفاظها فصيحة .
 
( ن ) : قوله كف لامس الإشارة بكف اللامس عن يد المريد الصادق في إرادة اللّه تعالى إذا وضعها في يد الإنسان الكامل المرشد المحمدي الجامع وقت المبايعة والمعاهدة كما ورد في الحديث قال صلى اللّه عليه وسلم في بيع الملامسة أن يقول : إذا لمست ثوبك أو لمست ثوبي فقد وجب البيع بيننا بكذا ، وهو بيع النفس للّه تعالى اللابس بالتجلي والتأثير ثوب الصورة الإنسانية الكاملة ، وهي صورة الشيخ المرشد .
فإذا وضع المريد الصادق يده في يد الشيخ الكامل المرشد إلى اللّه تعالى عن الذوق والوجدان فقد لمس المريد ثوب المراد ، وقد وجب البيع ولزم وتم وقد اشترى الحق تعالى نفس المريد فلا رجوع له عن بيعه شرعا قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [ التّوبة : الآية 111 ]
 
أي من المصدقين بالشيخ المرشد . والتخضيب ، كناية عن اتصال المدد الرباني بالمريد الصادق الفاني . وقوله لما ضل في ليل ، أي في كون من الأكوان .
وقوله وفي يده النجم ، أي الكوكب المضيء كناية عن المدد الذي حصل له من لمس يد الشيخ الكامل ، واتصاله به بالربط المعنوي القلبي الحاصل له بالمبايعة والمعاهدة .
قال تعالى : وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [ النّحل : الآية 16 ]
 
وفي الحديث : « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » . والصحبة المعنوية القلبية باقية في الورثة المحمديين إلى يوم القيامة . اهـ .
 
14 - ولو جليت سرّا على أكمه غدا *** بصيرا ومن رأووقها تسمع الصّمّ
 


« 255 »
[ المعنى ]
« الأكمه » الأعمى يولد بالعمى من بطن أمه . وقيل عام كمه على وزن فرح عمي . قوله « سرا » أي لو جليت هذه المدامة في السر لا في الجهر على أعمى قد ولد كذلك صار بصيرا وزال عنه ذلك الوصف ، ثم أعقب ذلك بقوله « ومن راووقها » اعلم أن الراووق المصفاة ، والباطية .
« تسمع الصم » يعني أن الأصم الذي لا يسمع لو أصغى إلى صوتها وهي تسكب في الراووق لتصفى لعاد إليه سمعه وثاب إليه نفعه وفي هذا البيت زيادة على الأبيات الأخر لأن فيه إرجاع حاستين إلى الأذن والعين ، وهما السمع ونور العين .
 
وفي التعبير بالصم مبالغة لاقتضائه أن الجماعة الذين فقدوا أسماعهم يعودون إليها بمجرد الإصغاء إلى صوت المدامة عند نزولها إلى الراووق وإن أردت إجراء الثاني على نمط الأول يكون المراد من الصم الإفراد .
 
( ن ) : قوله ولو جليت سرا الضمير راجع إلى المدامة المذكورة والمعنى في ذلك انكشاف الحقيقة الوجودية الجامعة . وقوله أكمه هو العبد الغافل المحجوب بنفسه عن معرفة تجليات ربه . وقوله غدا ، أشار به إلى انشقاق فجر السالك بعد ظلمة ليلته بالفتح الرباني والمدد الرحماني . وقوله بصيرا أي ذا بصر يرى به ما لم يكن يرى ، ويكشف ببصيرته عن أسرار الورى .
 
وقوله ومن راووقها يشير بالراووق إلى العقل الذي للإنسان الكامل فإنه لا يهجم على الإدراك وصاحبه لا يدرك به ، وإنما يدرك بنور ربه ثم يعرض ما أدركه بنور ربه على عقله .
وعقله يصفي ذلك من كدر الأغيار ودنس الآثار فهو الراووق وهو الفاروق .
 
وقوله تسمع الصم ، يكني بالصم عن الغافلين الذين لا يسمعون الحق لاشتغالهم بالباطل ، وبالسمع عن كونهم يسمعون من راووقها الذي هو العقل النوراني ولا يقدر أحد أن يسمع كلام أهل اللّه تعالى العارفين بربهم إلا إذا سمعه من عارف بربه ، فإذا سمعه من غير العارف أو تلقاه من الكتاب وفهمه بعقله الظلماني فما ذلك بكلام أهل اللّه العارفين به وإنما هو كلام نفسه . اهـ .
 
15 - ولو أنّ ركبا يمّموا ترب أرضها *** وفي الرّكب ملسوع لما ضرّه السّمّ
 
« الركب » ركبان الإبل اسم جمع أو جمع وهم العشرة فصاعدا ، وقد يكون للخيل . و « يمموا » أي قصدوا .
و « ترب » بضم التاء وسكون الراء بمعنى التراب ، والأرض أشمل من التراب لكونها عبارة عن مواطىء الأقدام وما تحتها فإضافة الترب إليها بمنزلة إضافة الجزء إلى الكل ، ويجوز أن تكون الإضافة بيانية .
والواو في قوله « وفي الركب ملسوع » واو الحال بتقديم الميم على اللام من اللسع ، وهو لدغ الحية وقرصها .
و « اللام » في لما لام جواب لو ، و « ما » نافية والسم فاعل .


يتبع 

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح شربنا على ذكر الحبيب مدامة الأبيات من 01 إلى 41 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:47 pm

شرح شربنا على ذكر الحبيب مدامة الأبيات من 01 إلى 41 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة شربنا على ذكر الحبيب مدامة الأبيات من 01 إلى 41
« 256 »
الإعراب :
لو : حرف يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه . وأن : حرف توكيد ينصب الاسم ويرفع الخبر . وركبا : اسمها . ويمموا ترب أرضها : جملة فعلية في محل رفع على أنها خبرها . وجملة وفي الركب ملسوع : اسمية في محل نصب على أنها حال من الواو في يمموا ، وأن مع اسمها وخبرها في تأويل مصدر ، وذلك المصدر فاعل لفعل مقدّر والتقدير ، ولو ثبت تيميم الركب لترب أرضها ، وفي الركب ملسوع لما ضره ذلك الحاصل من لدغ الحية له هذا .
وفي الركب الثاني وضع الظاهر موضع المضمر إذ القياس وفيه ملسوع وأل في السم للعهد الخارجي لفهم معنى السم المنكر من لفظ الملسوع .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يشير بالركب إلى المحمولين من أهل السلوك والعرفان .
قال تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [ الإسراء : الآية 70 ]
فالحامل لهم هو الحق تعالى وهم المحمولون في البر على الدواب ، وفي البحر على السفن والطيبات الأرض والأبنية والأشجار والعارفون بذلك ركب لأنهم جماعة الراكبين ، ومن لم يعرف فهو حيوان في صورة إنسان لغفلته عن الأمر واشتغاله في زيد وعمرو .
 
وقوله ترب أرضها ، أي المدامة المذكورة كنى بذلك عن الصورة الجسمانية التي نبتت فيها الصورة الروحانية الآمرية من بزر أمر اللّه تعالى فأثمرت عناقيد المعاني في قشور المباني .
ثم استخرجت منها هذه المدامة بعصر الفتح الرباني والفيض الرحماني وهو إشارة إلى الإنسان الكامل المرشد .
وقوله ملسوع ، هو كناية عن المحب العاشق الذي لسعته حية الهوى . وقوله لما ضره السم ، كنى بالسم عن الغيرية الظاهرة من الأكوان الفانية فإنه إذا قصد المرشد الكامل يعرفه بحقائق الكائنات ، ويوقفه على معاني التجليات فلا يضره شيء من الأشياء ، ولا تحجبه الظلالات والا الأفياء . اهـ .
 
16 - ولو رسم الرّاقي حروف اسمها على *** جبين مصاب جنّ أبرأه الرّسم
 
[ الاعراب والمعنى ]
« لو رسم الراقي » أي لو فرض أن من يرقى الأدواء المعنوية كالجنون والصرع رسم حروف اسم المدامة على « جبين مصاب » والمصاب ، اسم مفعول من أصاب الشيء فهو مصيب ، وذاك مصاب جن أي مجنون . و « جن » بضم الجيم على صيغة البناء للمجهول .
وأما جن الليل بفتح الجيم فهو على صيغة المعلوم . قوله « أبرأه الرسم » أي شفاه ذلك الرسم . و « أل » في الرسم للعهد الخارجي ، أي الرسم المعلوم ، وهو رسم حروف اسمها .
واعلم أن قوله « جن » تخصيص لمعنى المصاب لأنه أعم من الجنون ولا يخفى الجناس في الاسم والرسم . وإنما قال حروف اسمها لأن قانون

« 257 »
 
الراقي أن يكتب الحروف المقطعة كما تكتب حروف معروف الكرخي كذلك . إذ المراد الحروف لأجل أسرارها لا معنى الكلمة بعد تركيبها فاعلم .
 
( ن ) : الإشارة بالراقي إلى الإنسان الكامل وهو الشيخ المرشد . وقوله حروف اسمها ، كناية عن انحرافات ما تخيله السالك من معاني تجليات الحضرة الإلهية وقت حضوره معها بها لا بنفسه ، ورسم ذلك إنما يكون من المرشد الكامل بطريق التوجه الرباني والإمداد الرحماني .
 
وقوله مصاب جن ، الإشارة بذلك إلى الغافل المحجوب الذي هو منقاد لتخيلات عقله وهواه ووسواسه في جميع مدركاته ، ينتقل بفكره وذهنه من كون إلى كون ، ولا يرى إلا الأكوان ، وهو معرض عن تجليات الحق تعالى لها ، فينظرها قائمة بنفسها تعطي وتمنع ، وتخفض وترفع ، وليس للّه تعالى ذكر معها ولا بها ولا فيها ، وما ذلك إلا من فساد خياله وغلبة الأوهام على عقله ، ولولا أنه صاح لهذه الحالة التي هو فيها لحكمنا عليه بالجنون المطبق شرعا ، وأسقطنا عنه جميع التكاليف الشرعية ، ولكنه لما صحا لهذه الحالة الفاسدة ورسخ فيها فرض اللّه عليه فيها جميع التكاليف الشرعية وألزمه بها مقتا منه تعالى له وإبعادا عن جنابه .
 
فهذا هو المراد بالمصاب الذي جن وإنما كان الرسم على الجبين ليدوم استحضار ذلك عنده في أعلى مكان . اهـ .
 
17 - وفوق لواء الجيش لو رقم اسمها *** لأسكر من تحت اللّوا ذلك الرّقم
 
أي « لو رقم اسمها » ولم يقل هنا حروف اسمها ، لأن المعنى الذي ذكرناه في الراقي ليس موجودا في كتابة اسمها على لواء الجيش لأسكر ذلك الرقم من كان تحت اللواء . وهذه مبالغة عظيمة لأن إسكار كتابة اسم المدامة فوق لواء الجيش من تحت اللواء عجب عجاب تتحير فيه القلوب والألباب .
 
الإعراب :
فوق : متعلق برقم ، واسمها نائب فاعل رقم . وذلك الرقم : فاعل أسكر .
ومن : مفعوله مقدم . وتحت اللواء : صلة من أي لأسكر الذين استقروا تحت اللواء ذلك الرقم .
وفي البيت الطباق بين فوق وتحت وأل هنا أيضا للعهد الخارجي كما سبق .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله لواء الجيش اللواء العلم ، وهو دون الراية . والجيش الجند أو السائرون لحرب أو غيرها .
أشار بلواء الجيش إلى الطريقة المنشورة لكل شيخ من مشايخ الصوفية الكاملين المحققين التي يمشي تحتها المريدون السالكون في حرب نفوسهم لقطع مسافاتهم إلى معرفة ربهم .
كما أنّ لواء جيش القادرية الذي رفعه الشيخ

« 258 »
 
عبد القادر الكيلاني للسالكين على طريقته هو الذل والانكسار .
ولواء جيش المحيوية الذي رفعه شيخنا الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي قدس اللّه سرّه للسالكين على طريقته هو العلم النافع ، والعلم الرافع ، ولواء جيش الشاذلية الذي رفعه العارف الكامل أبو الحسن الشاذلي للسالكين على طريقته هو ترك التدبير .
وهكذا كل شيخ له طريقة خاصة هي لواؤه المنشور وعلمه المشهور . وفوقية اللواء كناية عن ابتداء أمر المريد في أول سلوكه في ذلك الطريق المخصوص . وقوله رقم بالبناء للمفعول فالراقم هو اللّه تعالى حذف للعلم به .
وقوله اسمها ، أي المدامة المذكورة ، واسمها ذاتها المسماة باسم من أسمائها . وقوله لأسكر أي لغيب إدراك العقل عن الأكوان جميعها .
وقوله من مفعول أسكر . وقوله تحت اللوا ، أي اللواء المذكور ، والذين تحت اللواء هم المريدون الصادقون في تسليم نفوسهم لحكم طريقة شيخهم الذي التزموا طريقته . اهـ .
18 - تهذّب أخلاق النّدامى فيهتدي *** بها لطريق العزم من لا له عزم
 
[ الاعراب والمعنى ]
وقد شرع رحمه اللّه تعالى في بيان أوصاف المدامة على أسلوب الإعزاز لها والكرامة فقال « تهذب » أي هذه المدامة . « أخلاق الندامى » أي المنادمين المتصاحبين على الشراب مع الأحباب .
وتهذيب الأخلاق عبارة عن تنقية ما فيها من الأمور التي تنكر عند أرباب العقل السليم . قوله « فيهتدي » أي يستدل إذ الهداية هي الدلالة بلطف على طريق يوصل إلى المطلوب . وفاعل يهتدي من في قوله « من لا له عزم » .
ولا : هنا نافية . و « عزم » مبتدأ وله خبر مقدم أي لا عزم كائن له . والعزم » في مقام الحزم معدود من محاسن الأخلاق لا على الإطلاق .
 
( ن ) : أشار بالندامى إلى المريدين السالكين بالتقوى في دين اللّه تعالى . وقوله لطريق العزم هو العزم على الخير دون الشر . والعزم على الأمور خلق من أخلاق الإنسان ، وطريقة مصرفه المعين له شرعا هو الخير وترك الشر .
وقوله من لا له عزم ، المعنى في ذلك أنه يصل إلى طريق العلوم بشرب هذه المدامة المذكورة الإنسان الذي لا عزم له معتبر شرعا في الخير .
ولهذا نكره لتعظيمه ، وإلا فلا يخلو الإنسان عن عزم على شيء ، وكان عزمه على الباطل عدما لا اعتبار له . اهـ .
19 - ويكرم من لم يعرف الجود كفّه *** ويحلم عند الغيظ من لا له حلم
 
[ الاعراب والمعنى ]
وقوله « ويكرم » بالرفع عطف على يهتدي ، أي تهذب أخلاق الندامى فيهتدي بها من ليس له عزم ويكرم من الخ . فالاهتداء والكرم من توابع تهذيبها للأخلاق والعلوم في

« 259 »
 
طريقه . والكرم من أجمل أخلاق الإنسان . و « من » فاعله . وجملة « لم يعرف الجود كفه » صلة . والهاء : في كفه عائدة . و « الجود » بالنصب مفعول مقدم . و « كفه » فاعل مؤخر .
قوله و « يحلم » كذلك عطف على يهتدي . و « من » فاعله ، وما بعده صلة . وحاصله أن هذه المدامة تهذب أخلاق الندامى ، وينشأ عن تهذيب هاتيك الأخلاق عزم لذي كسل وكرم لذي بخل وحلم لسيىء الأخلاق وشمائل لطيفة لمن ليست له أخلاق . اهـ .
 
20 - ولو نال فدم القوم لثم فدامها *** لأكسبه معنى شمائلها اللّثم
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الفدم » على وزن كرم بالفاء ، وهو الثقيل البليد . و « اللثم » التقبيل . والفدام بكسر الفاء ، غطاء إبريق الشراب . قوله « لأكسبه » اللام : في جواب لو .
واكسب : يتعدى إلى مفعولين أحدهما الهاء في أكسبه ، والثاني معنى المضاف إلى شمائلها .
واللثم بالرفع فاعل ، أي لإفادة اللثم للفدام .
و « معنى شمائلها » الكريمة هي الرقة واللطافة والمكارم وحسن الخلق ولطف التواضع .
وفي البيت تجنيس شبه الاشتقاق بين الفدم والفدام . واللثم عبارة عن لثم الفدام ، لأن الألف واللام للعهد الخارجي ، قال رحمه اللّه تعالى .
 
( ن ) : المعنى في فدم القوم الجاهل الغافل المحب للقوم الصالحين المتولع باعتقاد أهل المعرفة الكاملين كيفما كان . وقوله فدامها ، يكني بالفدام عن غطاء المدامة المذكورة ، وهو حجابها الذي تحتجب به عن العقول البشرية ، وهو العقل الإنساني .
فهو فدامها في حالة الجهل بها ، وهو مصفاتها في حالة العلم بها ، ويكني بلثم ذلك الفدام عن العلم بالتجلي والاستتار ومعرفة ذلك في كل شيء .
وكنى بمعنى شمائلها عما يظهر في العبد من معاني الأخلاق الإلهية والصفات والأسماء الربانية الذاتية والفعلية . اهـ .
 
21 - يقولون لي صفها فأنت بوصفها *** خبير أجل عندي بأوصافها علم
 
[ المعنى ]
« يقولون » أي يقول طالبو طريق هذه المدامة المؤدّية إلى طريق المعزة والكرامة .
« صفها » للطالبين وأوضح سبيلها للراغبين ، إذ أنت بها خبير ، وبأوصافها بصير .
فقلت لهم : أجل عندي علم بذلك وخبرة بما هنا لك وطريق المدامة في الإخبار بها سلامة .
وأما الحبيب فعليه رقيب والإخبار به ليس بقريب .
فإن قلت : كيف الفرق بين قوله « أجل عندي بأوصافها علم » .
 
وقول الشيخ الأمجد وحضرة القطب العارف أحمد :
يسائلني عن سر ليلى رددته * بعمياء من ليلى بغير يقين
يقولون خبرنا فأنت أمينها * وما أنا إن خبرتهم بأمين

« 260 »
 
قلت : أما طريق الشيخ الأستاذ فهي الإشارة إلى المدامة التي هي طريق المحبة ، وسبيل المودّة وذلك في المبادي قبل الوصول إلى المنادي .
وأما طريق الشيخ الأستاذ الرفاعي الذي خضعت له جموع الأفاعي ، فهي إشارة إلى نفس الحبيب مع القريب ، وليس علمه بسهل ولا قريب ،
 
وهو الذي يشير إليه الشيخ رضي اللّه عنه حيث يقول في التائية :
فلو قيل من تهوى وصرحت باسمها * لقيل كنى أو مسه طيف جنة
 
و « علم » في آخر البيت مبتدأ مؤخر ، والتنكير للتعظيم ، أي عندي بأوصافها علم عظيم يساوي رفعة مقامها ويوازي قدر إكرامها .
 
وقد خمست بيتي الشيخ ابن الرفاعي وأنا في زاويته بدمشق في ميدان الحصباء حيث قلت :
كتمت غرام القلب حين فقدته * وإن كنت في طيّ الفؤاد نشرته
ومستخبر سرّا وعنه كتمته * يسائلني عن سر ليلى رددته
بعمياء من ليلى بغير يقين * لقد جف من تلك العيون معينها
فيا ليت شعري في البكا من يعينها * ومن عجب أني بسري أصونها
يقولون خبرنا فأنت أمينها * وما أنا إن خبرتهم بأمين
 
( ن ) : يقولون ، أي المحجوبون عنها الطالبون لها الراغبون في معرفتها ظنّا منهم بأنها تحصل لهم بمجرد وصفها ، وانطباع ذلك الوصف في خيالهم كما تحصل لهم معرفة ما يريدون من الأكوان بانطباع صورته في الخيال ، والأمر الإلهي أعلى من ذلك وأنزه .
 
وقوله صفها ، أي اذكر لنا صفاتها التي تعلق كشفك ووجدانك بها لنعلمها فنعرفها كما عرفتها أنت .
 
وقوله عندي بأوصافها علم ، أي بأوصاف المدامة المذكورة من حيث ظهورها لي ومعرفتي بها ، ووجداني إياها ذوقا وكشفا بحسب استعدادي لقبول فيضها وتلقي مددها ، لا من حيث هي في ذاتها على ما هي عليه ، فإنها من هذه الحيثية لا يعلم بها غيرها ثم قال في أوصافها . اهـ .
 
22 - صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا *** ونور ولا نار وروح ولا جسم

« 261 »
[ المعنى ]
هذا شروع في بيان أوصافها التي ذكر أن عنده علما بها . فقال « صفاء » أي من أوصافها الصفاء ، وليس بها الماء ومن أوصافها اللطف وليس بها الهواء . وكان المتبادر أن يكون الهواء هنا ممدودا لأن اللطف راجع إليه ، وأما المقصور فهو بمعنى المحبة ، ومن أوصافها النور وليس بها النار ، ومن أوصافها الروح وليس بها جسم .
 
وهذا البيت صريح في أنها ذات صفاء لكن ليس صفاء كصفاء الماء بل هو صفاء معنوي ليس مما يؤخذ من الماء . وأنها ذات لطف ليس لطفا من الهواء مأخوذا كلطف المحسوسات المأخوذة من العناصر فإن الهواء من شأنه اللطف . وأنها ذات نور لا يؤخذ من النار . وأنها روح لا جسم لها كبقية الأرواح التي توجد في الأشباح . فقد دل البيت على أنها خمرة معنوية وأوصافها ربانية . ولعمري أن هذا البيت من محاسن النظام ، ومعناه يحير الأفهام والأوهام والسلام .
 
( ن ) : قوله ولا ماء ، أي وليس بها كثافة الماء . وقوله ولا هواء ، أي هواء بالمد وقصر لضرورة الوزن ، أي ليس لها كثافة الهواء أيضا ولا كدورته .
 
وقوله ولا نار نفى عن ذلك النور كثافة النار وكدورتها .
وقوله وروح ولا جسم ، أي هي روح مجرد عن علاقة الجسمية .
والحاصل أن أوصاف هذه المدامة باعتبار تجلي حقيقتها الغيبية عليه ظاهرة له بأربعة أوصاف : الصفاء واللطف والضياء والروح .
فهي روح مجرد عن الماء والهواء والنار والتراب بعيدة عن كثافة العناصر الأربعة ، وإن ظهرت متلبسة بها حاملة للجسم العنصري المركب منها ، وهي أمر اللّه تعالى الظاهر بصورة الروح . قال تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [ الإسراء : الآية 85 ]
وأمر اللّه قيوميته على جميع العوالم . اهـ .
 
23 - تقدّم كلّ الكائنات حديثها *** قديما ولا شكل هناك ولا رسم
 
[ الاعراب والمعنى ]
« تقدّم » أي سبق سبقا ذاتيا لا زمانيا إذ الزمان من جملة الكائنات .
وقوله « كل الكائنات » مفعول تقدم . والكائنات جمع كائنة وهي المخلوقات .
وقوله « حديثها » أي حديث هذه المدامة المذكورة ، فاعل تقدم .
والحديث ما يتحدث به وينفل . والمعنى هنا بالحديث الكلام النفسي الإلهي الذي ليس من جنس الحروف والأصوات المخلوقة ، ولا شك أنه صفة من صفات اللّه تعالى ليس غير ذاته .
وقوله « قديما » حال من حديثها فإن رتبة العلم متقدّمة على رتبة المعلومات تقدّما ذاتيا لا زمانيا أيضا وإن كان الكل قديما .
وقوله « ولا شكل هناك » أي في تلك الحضرة الإلهية حضرة العلم الإلهي والكلام الإلهي ، وإنما الشكل في عالم الكون .
وكذلك قوله « ولا رسم » . قال في المصباح الشكل بالفتح المثال يقال هذا شكل هذا ، والجمع

« 262 »
 
شكول مثل فلس وفلوس ، وقد يجمع على أشكال . و « الرسم » الأثر والجمع رسوم وأرسم .
والمعنى : في ذلك أن الأشكال جميعها والرسوم هي أعيان الممكنات .
وهي المخلوقات كلها حادثة ليس شيء منها له وجود في حضرة العلم الإلهي والكلام الإلهي ، بل هي كلها معدومة في هاتين الحضرتين وإنما هي موجودة بالإيجاد الإلهي الكلامي بطريق إشراق الوجود الحق عليها وهي الآثار الكونية بمنزلة الظل من الشاخص .
قال تعالى : أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [ الفرقان : الآية 45 ] أي الظل الذي هو الكائنات . اهـ .


24 - وقامت بها الأشياء ثمّ لحكمة بها *** احتجبت عن كلّ من لا له فهم
 
[ المعنى ]
« وقامت » أي ثبتت وتعينت من غير وجود لها في نفسها ، وإنما ثبوتها وتعينها بالوجود العلمي الإلهي والوجود الكلامي الإلهي ، كوجود النخلة في النواة ، ومنه سمي تعالى الحي القيوم أزلا وأبدا . وقوله « بها » أي بالمدامة المذكورة .
وقوله « الأشياء » فاعل قامت جمع شيء وهو كل معقول ومحسوس وموهوم . وقوله « ثم » يفتح الثاء المثلثة وتشديد الميم .
أي هناك إشارة إلى حضرة قيوميتها على الممكنات كما ذكرنا . وقوله « لحكمة » أي لأجل حكمة يقتضيها العلم الإلهي والكلام الإلهي .
 
والحكمة : هنا بمعنى العدل . وقوله « بها » أي بتلك الحكمة المذكورة ، أو بالمدامة المذكورة نفسها ، أو بالأشياء نفسها . وقوله « احتجبت » أي استترت والضمير للمدامة المذكورة ، أو للحكمة لخفائها أو للأشياء نفسها .
وقوله « عن كل من » أي إنسان موصوف بأنه كما قال « لا له فهم » أي لا فهم له . والإشارة بمن لا فهم له إلى المحجوبين بأنفسهم عن شهود ربهم ، فإذا احتجبوا أنكروا ما لم يفهموه من كلام العارفين بربهم فأنكروا على العارفين بسبب ذلك ، ورموهم بالعظائم والقبائح ، وكفروهم واللّه بكل شيء بصير .
 
( وللشيح الأكبر من أبيات قوله ) :
إذا علم اللّه الكريم سريرتي * فلست أبالي من سواه إذا سخط
 
25 - وهامت بها روحي بحيث تمازجا *** إتّحادّا ولا جرم تخلّله جرم
26 - فخمر ولا كرم وآدم لي أب *** وكرم ولا خمر ولي أمّها أمّ
 
[ الاعراب والمعنى ]
« وهامت » يقال هام يهيم هيما وهيمانا ، أحب امرأة . وقوله « بها » أي بالمدامة المذكورة . وقوله « روحي » هي غاية ما يدرك السالك من أمر اللّه تعالى في تجليه عز وجل . وقوله « بحيث تمازجا » أي اختلط أحدهما بالآخر ، وضمير التثنية للمدامة

« 263 »
 
وروحه ، وذلك لأن المعدوم إذا اختلط بالموجود كاختلاط النخلة بالنواة قبل أن تظهر منها ، وهي معدومة فيها ليس هو باختلاط في نفس الأمر لأن شرط الاختلاط أن يكون كل من الشيئين موجودا .
وهذا ممتنع ، إذ لا وجود لشيء مع الحق تعالى ، وإنما وجود الموجودات بوجود الحق تعالى على معنى أنه ظهور وجود الحق تعالى .
 
وقوله « اتحادا » أي بحيث صار شيئا واحدا ، كاتحاد النخلة بالنواة قبل أن تظهر منها وهي معدومة فيها ، وهو اتحاد العالم بالمعلوم من حيث هو معلوم لا من حيث ظهوره عنه في الخارج عن علمه . وقوله « ولا جرم » هو بكسر الجيم الجسد والجمع أجرام .
وقوله « تخلله جرم » من خلل الرجل لحيته أوصل الماء إلى خلالها ، وهو البشرة التي بين الشعر .
وكأنه مأخوذ من تخللت القوم إذا دخلت بين خللهم وخلالهم .
يعني ليس هذا الاتحاد مثل تخلل الجسم في الجسم تخلل الماء في الصوفة ، أو ماء الورد في الورد بحيث لو عصر لخرج منه .
وإنما هو كتخلل الشجر المعدوم العين في بزره الموجود ، فإن كل بزرة تنبت شجرة خاصة لا تكون في بزرة أخرى ، وليس هذا اتحادا ولا حلولا كما شنع به المحجوبون على أهل طريق اللّه تعالى العارفين به .
فإن ذلك من عدم فهمهم لمعاني كلامهم ، وعدم معرفتهم باصطلاحاتهم في إيراد علومهم الإلهية بينهم ، فإن شرط معنى الاتحاد والحلول أن يكون موجود يتحد أو يحل في موجود آخر ، وقوله بعده « فخمر » بفاء التفريع أي فخمر موجود ، وهو المدامة المذكورة .
وقوله « ولا كرم » وهو العنب ، أي لا كرم موجود .
وكنى بالكرم عن عوالم الإمكان وهي المخلوقات كلها فإنها فانية معدومة بعدمها الأصلي ، والوجود الظاهر عليها هو وجود الحق تعالى لا غير .
وقوله « وآدم » الواو للحال وآدم مبتدأ ، وهو أبو البشر أوّل مخلوق من هذا النوع الإنساني .
وقوله « لي » جار ومجرور متعلق بواجب الحذف خبر مقدّم .
وقوله « أب » مبتدأ مؤخر والجملة خبر المبتدأ أي الذي هو آدم .
وجملة « آدم لي أب » في محل نصب حال من الضمير في موجود المقدر أولا أو ثانيا وتقديره خمر موجود هو في حال كون آدم أبا لي ، أو لا كرم موجود هو في حال كون آدم أبا لي ، يعني أبوة آدم عليه السلام لي وبنوتي له كائنة في حضرة العلم الإلهي ، والكلام الإلهي لم يتغير شيء من ذلك ولم يتبدل عن النظام الظاهر والترتيب الباهر .
 
وقوله « وكرم » أيضا مبتدأ ، وهو عالم الإمكان كما ذكرنا أي وهو موجود ، وقوله « ولا خمر » أي موجود حينئذ لأن الوجود واحد ، فإذا نسب إلى الخمر الإلهي وهو التجلي الآمري الوجودي لا يبقى للكرم الذي هو كناية عن عالم الإمكان وجود أصلا ، وإذا نسب إلى الكرم المذكور لا يبقى


 
« 264 »
للخمر المذكور وجود أصلا . وقوله « ولي » الواو للحال ولي جار ومجرور صفة لأم في آخر البيت .
وقوله « أمها » مبتدأ والضمير للخمر أي أم المدامة المذكورة . وقوله « أم » خبر أمها .
وتقدير الكلام وكرم موجود ولا خمر موجود في حال كون أم الخمر بمعنى المدامة المذكورة أمّا موصوفة بأنها كائنة لي . اهـ .
 
27 - ولطف الأواني في الحقيقة تابع *** للطف المعاني والمعاني بها تنمو
[ المعنى ]
« الأواني » جمع إناء وكنى بالأواني عن عالم الإمكان وهو جميع المخلوقات .
وقوله « في الحقيقة » أي حقيقة الأمر الإلهي . وذلك في نظر العارف المتحقق بربه دون الغافل المحجوب .
وقوله « تابع للطف المعاني » جمع معنى ، والإشارة بلطف المعاني هنا إلى لطف ما تدل عليه صور الممكنات من الحضرات الإلهية والتجليات الربانية وهو ما لا يدرك للعقول والحواس .
والمعنى هنا في البيت أن المعاني الإلهية إذا غلبت على الكائنات كشفا وشهودا كان الكل لطيفا ، والكل لطيف في نفس الأمر ، ولكن اقتران أحدهما بالآخر يوجب الكثافة في العقول والأبصار .
وقوله و « المعاني » أي العلوم والمعارف الإلهية في قلب العارف صاحب الذوق والوجدان والكشف والعيان .
وقوله « بها » أي بتلك اللطافة قدم المجرور للحصر . وقوله « تنمو » أي تكثر يعني أن المعاني الإلهية تزداد باللطافة الروحانية فتنزل على القلوب الطاهرة من العيوب نزول الأمطار الغزيرة من سماوات الغيوب .
 
28 - وقد وقع التّفريق والكلّ واحد *** فأرواحنا خمر وأشباحنا كرم
 
[ الاعراب والمعنى ]
« وقد وقع التفريق » الواو للحال . والجملة حال من المعاني التي تنمو . يعني أن التفريق بينها واقع في حال نموها وزيادتها .
وقوله « والكل واحد » أي هو وجود واحد حي لذاته كشف أزلا بعلمه عن معلومات ممكنة معدومة الأعيان ، وتكلمه بها بكلامه النفساني القديم الأزلي فظهر ذلك الوجود الواحد وتجلى وانكشف ، فشهد ذاته بذاته ، وتلك المعلومات الممكنة معدومة الأعيان على ما هي عليه لم توجد . وقوله « فأرواحنا » الفاء للتفريع .
والتفصيل يعني أرواحنا الآمرية المنفوخة فينا من أمر اللّه تعالى بواسطة الروح الأعظم المحمدي الجامع .
وقوله « خمر » أي هي المدامة المذكورة لأن الأرواح تفصيل لإجمال الروح المحمدي .
وقوله « وأشباحنا » جمع شبح ، والشبح الشخص وهي الصور التي عليها الكائنات في عالم إمكانها وعالم إيجادها .
 
وقوله « كرم » أي بمنزلة الكرم وهو العنب المتضمن للعصير الروحاني الذي يكون خمرا فيسكر العقول بما يلقي إليها من العلوم والحقائق العرفانية . اهـ .

« 265 »
29 - ولا قبلها قبل ولا بعد بعدها *** وقبليّة الأبعاد فهي لها حتم
 
[ المعنى ]
« فلا قبلها » أي المدامة المذكورة . وقوله « قبل » أي زمن يقال فيه قبل .
وقوله « ولا بعد بعدها » التقدير بعد . والثلاثة بفتح الباء الموحدة .
أي ليس بعد البعد التي لتلك المدامة المذكورة بعد ، أي زمان يقال فيه هذا بعد هذا .
وقوله « وقبلية الأبعاد » جمع بعد بالفتح يعني الزمن الذي يقال فيه قبل بالنسبة إلى كل زمن يقال فيه بعد بالإضافة إلى كل شيء .
وقوله « فهي » أي تلك القبلية المنسوبة إلى كل بعدية من الأبعاد .
وقوله « لها » أي للمدامة المذكورة . وقوله « حتم » بالحاء المهملة ، مصدر حتم الأمر عليه حتما أوجبه جزما .
والمعنى أن قبلية كل بعد لهذه المدامة المذكورة على وجه القطع والجزم من غير شك ولا تردد أصلا .
والمشار إليه في مجموع هذا البيت أن الحضرة الإلهية منزهة عن الدخول في قيود الزمان كما هي منزهة عن قيود المكان ، فلها القبلية المطلقة عن كل شيء والبعدية المطلقة عن كل شيء وهي في الأزل الذي هو الحضرة الدائمة المحيطة بالأزمنة كلها إحاطة واحدة فلا ماضي للأزلية ولا حال ولا استقبال . اهـ .
 
30 - وعصر المدى من قبله كان عصرها *** وعهد أبينا بعدها ولها اليتم
[ المعنى ]
« وعصر المدى » العصر الدهر ، والمدى الغاية . وأشار بعصر المدى إلى الدهر وهو الزمان الطويل الذي هو من مبدأ خلق العالم إلى حيث لا منتهى .
وقوله « من قبله » أي من قبل عصر المدى الذي هو الدهر بمعنى الزمان الممتد عندهم لا بمعنى الدهر الذي هو من أسماء اللّه تعالى الحسنى .
ولهذا كنى عنه بعصر المدى ولم يقل والدهر لأن الدهر بالمعنى الإلهي لا قبل له . وقوله « كان عصرها » أي وجد زمانها ، أي زمان تلك المدامة المذكورة .
 
والعصر الثاني مصدر عصرت العنب ونحوه عصرا ، استخرجت ماءه واعتصرته ، كذلك واسم ذلك الماء العصير فعيل بمعنى مفعول ، وعصرها كناية عن تمييز عصيرها عن عنبها ، وهو تمييز الوجود الحق عن السور المتلبس بها هنا .
وقوله « وعهد أبينا » أي آدم أبي البشر عليه السلام ، والعهد : الالتقاء والمعرفة ومنه عهدي به والزمان والموثق ووصية آدم عليه السلام عهد نبوّته أو أخذ الميثاق عليه ، كما قال تعالى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ [ آل عمران : الآية 81 ]
وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [ آل عمران : الآية 81 ] الآية .
أو عهد بنيه وهو يوم الميثاق ، كما قال تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [ الأعراف : الآية 172 ] الآية .
وقوله « بعدها » أي

« 266 »
 
بعد ظهور هذه المدامة في ملابس أعنابها وعناقيدها وهو تلبسها بالأشياء .
وقوله « ولها اليتم » هو مصدر يتم ، ييتم يتما ، بضم الياء وفتحها .
لكن اليتم في الناس من قبل الأب ، فيقال : صغير يتيم . والجمع أيتام ويتامى .
وصغيرة يتيمة ، وجمعها يتامى . وفي غير الناس من قبل الأم ، وضمير لها للمدامة المذكورة .
ونسبة اليتم لها كناية عن فناء الروح الذي هي متلبسة به أول ظهورها قبل تلبسها بالطبيعة التي هي متلبسة بها ، فكأن الروح أبوها والطبيعة أمها ، فإذا ظهرت في عالم التركيب من الروح والطبيعة ، وهو عالم الحيوان والإنسان ودخل الإنسان في مجاهدة السلوك إليها ، ومات أبوها الذي هو الروح الآمري بالتحقق بالفناء الاضمحلال كانت يتيمة في عالم طبيعتها ، وهو حجر أمها ، وذلك لضرورة قيامها بالتكاليف الشرعية أمرا ونهيا ، وهو معنى كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به في حديث المتقرب بالنوافل ، وهذه حال السالك الصادق في سلوكه إلى معرفة ربه ، وتحققه بمعاني قربه ،
قال تعالى : وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ الأنعام : الآية 152 ]
ومال اليتيم القوى الطبيعية والأعضاء الحسية أي لا تفنوها بالكلية بعد فناء عالم النفوس والأرواح .
والنهي عن قربان مال اليتيم لأجل بقاء التكاليف الشرعية على العبد . اهـ .


31 - محاسن تهدي المادحين لوصفها *** فيحسن فيها منهم النّثر والنّظم
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « محاسن » بالرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي هي محاسن ، والضمير يعود لجميع ما ذكر في القصيدة من أوصاف المدامة .
و « تهدي » بفتح التاء من هدى يهدي ، بمعنى دل بلطف ، وفاعل تهدي ضمير مستكن تقديره هي يعود للمحاسن .
 
والواصفين مفعوله ، والتقدير هي محاسن عظيمة تدل الواصفين على وصفها ، أي تدل الناس الواصفين لها على وصفها ، فهي تدل على ذاتها ، سبحان من دل بذاته على ذاته ما عرف اللّه إلا اللّه .
قوله « فيحسن فيها » أي في تلك المحاسن ، منهم أي من الواصفين ، النثر وهو الكلام المقفى من غير ملاحظة وزن ، والنظم المقفى مع ملاحظة الوزن على واحد من البحور المذكورة في كتب العروض :
وتسعدني في غمرة بعد غمرة * سبوح لها منها عليها شواهد
 
وقوله « لوصفها » متعلق بتهدي ، أي تدل تلك المحاسن الواصفين إلى وصفها فاللام بمعنى إلى . وفي البيت الطباق بين النثر والنظم ، وفي ذكر النثر والنظم إشارة إلى أن ألفاظهم في وصفها در مكنون .

« 267 »
 
( ن ) : قوله محاسن ، أي هذه محاسن يعني صفات المدامة التي تقدم ذكرها .
وفي قوله تهدي المادحين . إشارة إلى أنهم ما مدحوها إلا بما هدتهم محاسنها إليه من كشفهم عن معاني تجلياتها بأسمائها الحسنى .
وقوله فيحسن فيها ، أي في المدامة المذكورة أو في تلك المحاسن . اهـ .
 
32 - ويطرب من لم يدرها عند ذكرها *** كمشتاق نعم كلّما ذكرت نعم
 
[ المعنى ]
قوله « ويطرب من لم يدرها » يجوز أن يكون عطفا على ما عطف عليه . قوله في الأبيات السالفة « ويكرم من لم يعرف الجود كفه » ، ويجوز أن يكون عطفا على قوله « فيحسن فيها منهم النثر » ، أي تهدي تلك المحاسن الواصفين لوصفها فينشأ عن تلك الهداية شيئان حسن النثر والنظم في وصفها وطربهم عند ذكرها ، وإن لم يعلموها بطريق الذوق وإنما عرفوها بتعريف الشوق .
والطرب هنا خفة ونشاط من ذكر هاتيك المدامة ولا ملامة . و « من » فاعله .
وجملة « لم يدرها » صلة الموصول .
قوله عند ذكرها متعلق بيطرب أي يطرب عند وجود ذكرها من أي ذاكر لم يدرها الخ .
وقوله « كمشتاق نعم » نعم بضم النون وسكون العين ، اسم مليحة من ملاح العرب . وأشار إليها في قصيدته اللامية بقوله رضي اللّه عنه :
إذا أنعمت نعم عليّ بنظرة * فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل
 
واعلم أن هذا النوع من العشق ، وهو أن يهيم العاشق من غير أن يرى ذات المحبوب يسمى عشقا موسويا لأنه عليه الصلاة والسلام قد صعق عند التجلي للجبل وما حصل له التحلي .
وإلى ذلك أشار من قال :
قالوا عشقت وأنت أعمى * ظبيا كحيل الطرف ألمى
وحلاه ما عاينتها * فنقول قد شغفتك وهما
فأجبت أني موسويّ * العشق إدراكا وفهما
أهوى بجارحة السما * ع ولا أرى ذات المسمى
 
( ن ) : قوله من لم يدرها ، أي هذه المدامة المذكورة ، أي الذي لا يعرفها ذوقا وكشفا ووجدانا . وقوله عند ذكرها ، يعني الغافل المحجوب يحصل له الطرب والخفة الروحانية والنشاط الجسماني في وقت ذكره لها بأن يذكرها بلسانه أو يسمع ذكرها من غيره .
أو عند تذكره لها بقلبه فإن لم يدرها إذا فتح عليه بمعرفتها يطرب طربا زائدا والذكر في حقه هو التذكر . اهـ .

« 268 »
33 - وقالوا شربت الإثم كلّا وإنّما *** شربت الّتي في تركها عندي الإثم
 
[ المعنى ]
أي قال من لم يعرف حقيقة المدام ، وظن الفدم أنها مما يستر بالفدام ، وبالغ في مقاله ولم يدر من شرابي حقيقة حاله « شربت الإثم » قاصدا للمبالغة في الحكم عليها بحقيقة الإثم ، فقلت له ارتدع عن مقالك ، وارجع عن قيلك وقالك فإني ما شربت الإثم ولا تعاطيت محرما لأنها خمرة القوم التي قيل إن في تركها اللوم ، والإفطار عليها هو الصوم ، و « كلّا » هنا حرف ردع وزجر ، أي ارتدع أيها القائل عن دعواك فإني شربت مدامة في تركها الملامة ، وفي شربها الكرامة في الدنيا وفي يوم القيامة .
و « التي » عبارة عن الخمرة التي تقصدها الشيخ وأمثاله .
 
( ن ) : قالوا شربت الإثم ، أي الخمرة المعتصرة من العنب المحرمة شرعا ، وذلك لأنهم يرونه غائبا لا يدرك ما يدركونه من أمور الدنيا وأحوالها لاستغراق بصيرته في مشاهدة حضرة ربه وتمتعه بلذائذ تجليات الوجود الحق وزيادة قربه ، وليس عندهم ما يقتضي ذلك الاستغراق غير الأمور المحرمة كالخمر والحشيشة ونحو ذلك . اهـ .
 
34 - هنيئا لأهل الدّير كم سكروا بها *** وما شربوا منها ولكنّهم همّوا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الهنىء » العيش الذي يهنىء الرجل ، أي يربو وينفع في البدن .
و « اللام » في لأهل الدير للتبيين . و « الدير » مكان النصارى . وقد رأيت كتابا صنف في بيان الديور .
و « كم » هنا للتكتير ، والتمييز محذوف أي كم مرة وكم . منصوبة المحل على المصدرية بدليل التمييز . و « بها » متعلق بسكروا . و « الهاء » للمدامة . « وما شربوا » أي أهل الدير .
 
« منها » أي من المدامة . « ولكنهم هموا » أي عزموا على الشرب وما شربوا . واعلم أن أهل الدير عبارة عن أرباب المعارف الإلهية ، وأصحاب المحبة الربانية ، والسكر بالمدامة عبارة عن التكيف بكيفية لذتها التي هي وجدان المعرفة الحقيقية ، وقد علمت أن أرباب الأشواق والصادقين من العشاق ماتوا وهم مشتاقون إلى مشاهدة الجمال .
 
والشيخ رضي اللّه عنه من هذا القبيل إلا أن يكون تبسمه عند مفارقة الدنيا ناشئا عن الوصول إلى إدراك المشاهدة التي هي مطلوبه وذلك عندما أنشد :
أروم وقد طال المدى منك نظرة * وكم من دماء دون مرماي طلت
 
وتبسم فعند ذلك استدل أهل العرفان أنه أدرك مرامه من الرحمن . واعلم أن « هنيئا » منصوب على أنه حال من محذوف ، أي دام شرابهم هنيئا .
واعلم أن كثيرا من أرباب المحبة قد تلاعبوا بذكر الديور في أشعارهم الغرامية . ومن ذلك قول

« 269 »
 
عبد اللّه بن المعتز :
سقى الجزيرة ذات الطل والشجر * ودير عبدون هطال من المطر
يا طالما نبهتنا للصبوح بها * في غرة الفجر والعصفور لم يطر
أصوات رهبان دير في صلاتهم * سود المدارع نعارين في السحر
مزنرين على الأوساط قد جعلوا * على الرؤوس أكاليلا من الشعر
 
( ن ) : أهل الدير هنا كناية عن الأولياء الوارثين للمقام العيسوي الروحاني من ولاية عيسى عليه السلام في الدين المحمدي الجامع لجميع مقامات الأنبياء والمرسلين قبله ، فإن الأولياء ورثة الأنبياء وهم العلماء باللّه .
وقوله كم سكروا بها ، أي بهذه المدامة المذكورة من حيث أنهم تذكروها بنفوسهم وأشرفوا بها على عالم الأرواح المجردة عن الظلمات ، فزج بهم في النور المحمدي ولم يصلوا إلى المنتهى .
 
وقوله وما شربوا منها ، أي لعدم وصولهم إليها فهم مترامون في الطريق عليها . والشرب كناية عن وصولها في سريانها في نفوسهم ، وهذا السريان بلا سريان لأن الوجود الحق يكشف عن المعدومات الكونية فلا يبقى وجود إلا وهو عين وجوده منسوب عند المعدومات إليها من فيض كرمه وجوده ، وقوله ولكنهم ، أي أهل الدير المذكورين .
 
وقوله هموا ، أي صرفوا هممهم إلى حقيقة عينها بمحو نقطة غينها ، فكانت نقطة نفوسهم تنمحي عنهم تارة وتثبت أخرى . اهـ .
 
35 - وعندي منها نشوة قبل نشأتي *** معي أبدا تبقى وإن بلي العظم
 
[ الاعراب والمعنى ]
نشوة السكر ، نشاطه الحاصل في مبادي الشرب إلى أن يدخل الشارب في أوائل الغيبة .
و « النشأة » بالهمز من نشأ الطفل إذا شرع في أوائل الشبوبية بالارتقاء عن مرتبة الطفولية ، والدخول في مبادى الشبوبية .
فهو يقول رضي اللّه عنه إن نشوة سكري وخفة طربي قد كانت معي قبل نشأتي في مبادي عمري . والضمير في منها للمدامة .
و « معي » متعلق بتبقى و « أبدا » كذلك . وقوله « وإن بلي العظم » الواو للعطف على مقدر أي إن لم يبل العظم ، وإن بلي أو هي للحال أو للاعتراض بناء على ما يقوله أهل المعاني كما قررناه في شرحنا هذا غير مرة . « وإن » هنا وصلية لا تحتاج إلى جواب لكونها وردت لمحض التوكيد ، وتقوية للكلام والتجديد .
و « بلي » على وزن فرح من البلى بكسر الباء والقصر وهو خلاف الجدة .
وهذا البيت مشهور وبالمحاسن مذكور مشتمل على معنى بديع ، وهو أن نشوة هذه المدامة حصلت عنده من مبادي عمره ، وهي لا تزال باقية في داخل سره وإن حصل الحمام وبليت العظام فهي من المهد إلى
يتبع 

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح شربنا على ذكر الحبيب مدامة الأبيات من 01 إلى 41 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:48 pm

شرح شربنا على ذكر الحبيب مدامة الأبيات من 01 إلى 41 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة شربنا على ذكر الحبيب مدامة الأبيات من 01 إلى 41
« 270 »
اللحد . وفي البيت الجناس اللاحق في نشوة ونشأة ، والطباق بين البقاء والبلى .
وقوله وإن بلي العظم إشارة إلى أن عمار هذا البدن الذي هو العظم لو بلي ولم يبق له أثر فلا تزول هاتيك النشوة بل تدوم بعد الجسد المعدوم . اهـ .
 
36 - عليك بها صرفا وإن شئت مزجها *** فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظّلم
 
[ الاعراب والمعنى ]
« عليك » اسم فعل بمعنى تمسك ، واعلم أن عليك يرد اسم فعل في الكلام ، لكنه تارة يرد مع الباء ، وتارة بدونها ، فالذي يرد مع الباء يفسر بتمسك والذي يرد بدون الباء يفسر بالزم . نص على ذلك الشيخ ومما ورد بدون الباء قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [ المائدة : الآية 105 ]
و « صرفا » حال من الهاء في بها ، والصرف الخالص . و « إن شئت مزجها » أي خلطها بشيء . « فعدلك » أي فإعراضك .
 
« عن ظلم الحبيب » بفتح الظاء أي عن ريقه هو « الظلم » لا غيره . وحاصل البيت الأمر بتناول المدامة صرفا خالصة من غير أن يكون لها مزج بشيء من الأشياء ، وحيثما أردت مزجها فلا تمزجها بغير ظلم الحبيب ، فإن ذلك المزج هو الظلم منك لها .
 
واعلم أن كثيرا من المتكلمين على هذا البيت قد راموا تأويله وطلبوا تفصيله ، فمنهم من قال المراد من المدامة هنا ( لا إله إلا اللّه ) ، وظلم الحبيب الذي ينبغي أن تمزج به عند إرادة المزج هو قولك ( محمد رسول اللّه ) .
ومنهم من قال عليك بمعرفة مولاك ، وتمسك بمن أولاك ، وإن بحثت عن غير الذات ، فلا تتعدّ الصفات ، فإنها لذات عظيمة ، وبها ترتاح العقول السليمة .
وقيل في البيت غير ذلك من المعاني وإنما يدركها من للعرفان يعاني .
 
فتأمل ما يناسب الشوق بحقيقة الذوق :
وعني بالتلويح يفهم ذائق * غنيّ عن التصريح للمتعنت
وفي البيت الطباق في الصرف والمزج ، وإيهام الطباق في العدل والظلم ، فإنك قد علمت أن
 
قوله « عدلك » عبارة عن مصدر عدل عن الشيء إذا أعرض عنه فيكون على حد قول الشاعر :
لا تعجبي يا سلم من رجل * ضحك المشيب برأسه فبكى
وفيه الجناس المحرف بين الظلم والظلم .
 
( ن ) : عليك خطاب للمريد الصادق ، وهي اسم فعل بمعنى خذ يقال : عليك زيدا ، أي خذه كأن الأصل عليك أخذه . وقال في الصحاح عليّ زيدا وعليّ بزيد معناه أعطني زيدا .
وقوله بها ، أي بالمدامة المذكورة . وقوله صرفا ، أي بلا مزج والصرافة في هذا الشراب كناية عن فناء كل ما عدا الوجود الحق ، ومشاهدة الوجود

« 271 »
الحق الصرف به لا بالنفس المغايرة له .
ونظير ذلك قول الشيخ أبي مدين قدس اللّه سرّه :
أدرها لنا صرفا ودع مزجها عنا * فنحن أناس لا نرى المزج مذ كنا
حضرنا فغبنا عند دور كؤسها * وعدنا كأنا لا حضرنا ولا غبنا
وقوله وإن شئت مزجها ، أي إن أردت يا أيها السالك خلط هذه المدامة المذكورة بغيرها ، يعني إن أردت النزول من حضرة الجمع ، وهو توحيدك الصرف ، وهو شهود الحق بالحق إذا وصلت إليه وتحققت به وأن كل ما عداه فان ، فمزجت ذلك الوجود الحق بصور الكائنات العدمية . وقوله فعدلك عن ظلم الحبيب عدلك أي انصرافك ، والظلم ماء الأسنان وبريقها ، والحبيب أي المحبوب وهو النور المحمدي الذي هو أوّل مخلوق من نوره تعالى على معنى أنه أول تقدير عدميّ وتصوير اقتداريّ ، فكأنه ماء ثغر الحبيب القديم ، ورشحات ثنايا مراشف النديم لأنها آثار أسمائه الحسنى ، وتجليات حضرات وصفه الأسنى . وقوله هو الظلم ، بالضم يعني أنه إن كان ولا بدّ من مزج الوجود الحق بالصور التقديرية المعدومة في نفسها بحيث تظهر موجودة بذلك الوجود الحق الواحد الأحد فليكن مزجها بما هو منها والكل منها . اهـ .
 
37 - فدونكها في الحان واستجلها *** به على نغم الألحان فهي بها غنم
 
[ الاعراب والمعنى ]
« فدونكها » أي خذها وتناولها . فدونك : حينئذ اسم فعل بمعنى خذ والكاف :
حرف خطاب ، والهاء : مفعول ، والهاء : في دونكها للمدامة . و « الحان » موضع المدامة . قوله « واستجلها به » أي اطلب جلوة المدامة به أي بألحان . و « النغم » بفتح النون والغين جمع نغمة وهو صوت مشتمل على كيفية خاصة توجب طرب الطبع السليم ، وفرح القلب الكليم . قوله « فهي » أي المدامة . « بها » أي بالنغم . « غنم » بضم الغين أي غنيمة .
وما أحسن قول من قال : المدامة بغير نغم غم ، وبغير دسم سمّ ، وبغير نديم ندم .
وقول الآخر :
ولا تشرب بلا نغم فإني * رأيت الخيل تشرب بالصفير
وقد علمت أن الشعر المليح من جملة أسباب اهتزاز الأريحية عند بذل المكارم ، وقد قيل الكريم طروب . وما ألطف ما يروى للرقاشي حيث يقول :
نبهت ندماني الموفي بذمته * من بعد إتعاب كاسات وأقداح

« 272 »
 
فقلت قم واسقني واشرب وغنّ لنا * يا دار مثواي بالقاعين فالساح
فما حسا ثانيا أو بعض ثالثة * حتى استدار وردّ الراح بالراح
وما ألطف قول الإمام فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير ونقلتهما من خطه :
شربنا على الصوت القديم قديمة * لكل قديم أوّل هي أوّل
فلو لم تكن في حيز قلت إنها * هي العلة الأولى التي لا تعلل
وفي البيت الجناس التام بين الحان وألحان ، والجناس المقلوب بين غنم ونغم ، ويفهم من قوله واستجلها به أنها عروس لأن الجلوة تكون للعروس فقد أشار بها إليها .
 
( ن ) : معنى دونكها هنا إغراء بالمدامة المذكورة ، أي تناولها وخذها بتقدير تحقق في فنائك ، واضمحلالك في الوجود الحق الذي أنت به موجود عندك على الوهم ، وهو معنى شربها فإن الشرب إبطان ما هو ظاهر من المائعات . وقوله في الحان وهو حانوت الخمار .
 
الإشارة بذلك هنا إلى كل شيء لأن هذه المدامة المكنى بها عن الوجود الحق الواحد الأحد له ظهور وتجل وانكشاف بتقدير كل شيء وتصويره ، فكان كل شيء حانة على الاستقلال ، وكل شيء هالك إلا وجهه كما أنه كل من عليها فان . اهـ .
 
38 - فما سكنت والهمّ يوما بموضع *** كذلك لم يسكن مع النغم الغمّ
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « فما سكنت » إلى آخره ، جملة تعليلية . كأن قائلا يقول : لم أمرت بتناولها في حانها على نغم ألحانها . فقال : فما سكنت إلى آخره .
واعلم أن بعض الرواة لهذا الديوان يروون قوله « كذلك لم يسكن مع النعم » بالنون المكسورة والعين المهملة المفتوحة على أنها جمع نعمة التي تكون بمعنى الأنعام وبمعنى المنعم به .
ويكون المعنى على الرواية كذلك أي كما أن المدامة ما سكنت مع الهم بمنزل في يوم من الأيام كذلك النعم لا تسكن مع الغم في موضع واحد . وعندي أن هذه الرواية تحريف .
 
بل الصواب كذلك « لم يسكن مع النغم الغم » بفتح النون المشددة وبعدها غين معجمة على أنها جمع نغمة ، كما سبق في البيت قبله ، وذلك لأن البيت الذي قبله مشتمل على الأمر بتناولها في حانها بنغم ألحانها .
 
وهذا البيت تعليل له فإذا كانت الرواية مع النغم بالنون المفتوحة والغين المعجمة ، كان التعليل لشيئين بشيئين على سبيل اللف والنشر المرتب ، وذلك أن قوله « فما سكنت والهم يوما بموضع » يكون

« 273 »
تعليلا لقوله فدونكها في الحان .
وقوله « كذلك لم يسكن مع النغم الغم » يكون تعليلا لقوله و « استجلها به على نغم الألحان » ، وهذا ظاهر مع ما فيه من زيادة الجناس المطرف في قوله نغم وغم ، ومع ما فيه من مناسبة المقام في الأنغام والمدام ، بخلاف النعم بكسر النون والعين المهملة المفتوحة على أنها جمع نعمة لا يناسب السياق ولا السباق إلا بارتجاع عظيم وتكلف جسيم فافهم .
قوله « والهم » منصوب على أنه مفعول معه ، والواو للمعية ويجوز على ضعف .
والهم بالرفع على أنه معطوف على الضمير المستكن أي سكنت من غير فاصل .
 
وقد استعمل مثله المتنبي حيث قال :
يباعدن خلّا يجتمعن ووصله * فكيف بخل يجتمعن وصدّه
الشاهد في وصدّه بالرفع على أنه معطوف على النون في يجتمعن .
 
وحرف الروي مرفوع وأوّل القصيدة :
أودّ من الأيام ما لا تودّه * وأشكو إليها بيننا وهي جنده
يباعدن خلا يجتمعن ووصله * فكيف بخل يجتمعن وصدّه
 
39 - وفي سكرة منها ولو عمر ساعة *** ترى الدّهر عبدا طائعا ولك الحكم
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن « في » هنا تعليلية ، إذ قد وردت للتعليل في الكلام الفصيح . قال صلى اللّه عليه وسلم :
« إن امرأة دخلت النار في هرّة » أي لأجل هرّة إلى آخر الحديث .
أي : ترى الدهر عبدا طائعا ولك الحكم فيه لأجل سكرة منها ، أي من تلك المدامة .
ولو كانت هاتيك السكرة واقعة في قدر ساعة لأن عمر ساعة هنا بمعنى قدر ساعة . والحديث يقل ويقصر ندمانه .
ويروى « على سكرة منها » على أن على هنا تعليلية أيضا قال اللّه تعالى : وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ [ البقرة : الآية 185 ] أي لأجل هدايته لكم .
 
ويجوز على رواية في أن تكون ظرفية ويكون التعليل مفهوما من قوّة الكلام . كقولك ضربت العبد وقت إساءته فإنه يفهم أن المراد ضربته في وقت الإساءة لأجلها أي لكونه أساء فافهم . قوله « ولو عمر ساعة » لو هنا وصلية ، والواو عاطفة على مقدر هو أولى بالحكم . أي إن لم يكن عمر ساعة ولو كان عمر ساعة أو حالية أو اعتراضية على اصطلاح أهل المعاني
 
ومثله قول النابغة :
وإنّك كالليل الذي هو مدركي * وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ولا تحتاج « لو » إلى الجواب لما سبق من أنها للتوكيد والتشديد لا للشرط .
 
و « عمر » بالنصب على أنه ظرف زمان أي قدر ساعة . والعامل فيه سكرة أي سكرة واقعة في عمر ساعة . « ترى الدهر عبدا طائعا » أي تعلم وتتحقق أن الدهر عبد طائع

« 274 »
لك لأجل هاتيك السكرة الواقعة في قدر نظرة .
واعلم أن بعض من قلّت بضاعته ، وغرّته جماعته لما سمع ما يروى عنه صلى اللّه عليه وسلم : « لا تسبوا الدهر فإنه اللّه » اعترض بأن ذلك يرد قول الشيخ « ترى الدهر عبدا طائعا ولك الحكم » وشرع بعد اعتقاده صحة انتقاده يجيب من مكان قريب عن إشكال صعيب .
وأنت على ما أنت عني نازح * وليس الثريا للثرى بقريبة
 
فمن جملة ما به أجاب ورام به أن يفتح الباب أن ترى الدهر كلام مستقل .
وقوله « عبدا » يكون حالا من فاعل ترى أي وفي سكرة منها ترى أنت الدهر إذ تكون السكرة سببا لرؤيتك الدهر حال كونك أيها المخاطب عبدا موصوفا بأنه طائع .
 
وقوله « ولك الحكم » يكون قيدا لقوله ترى الدهر . أي ترى الدهر وتشاهده ولك الحكم في الكائنات ، عند صدور تلك المشاهدات .
والصواب في الجواب أن الدهر لفظ مشترك ، فيطلق تارة بمعنى اللّه جل وعلا كما في الحديث ، ويطلق تارة بمعنى الزمان ومنه قوله تعالى حكاية عن الكفار وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [ الجاثية : الآية 24 ]
فلو كان بمعنى الزمان لما صدر الحكم على القائلين بالكفر فتأمل . والمراد منه في البيت المعنى الثاني .
قوله « طائعا » صفة عبدا وهذه الصفة أفهمت أن المراد بالعبد معناه اللغوي من عبدت الدابة ، أي ذللتها حتى أطاعتني فلما وصفه بالطاعة علم أن المراد منه ذلك المعنى لا معنى الرقيق المقابل للحر فإنه غير مراد .
قوله « ولك الحكم » أي ترى الدهر عبدا طائعا ، والحال أن لك الحكم عليه لا أن له الحكم عليك وإن أطاع إذ ربما يتوهم أن إطاعته تصيره حاكما ،
كما في قوله صلى اللّه عليه وسلم : « من أطاع اللّه أطاعه كل شيء » وما أحسن قول صاحبنا المرحوم السيد محمد القدسيّ الشافعيّ الشهير بابن حضب المدرس بالمدرسة العذراوية بدمشق المحمية من قصيدة فريدة :
لأحكامه انقاد الأنام لأنه * تقيّ أطاع اللّه في السرّ والجهر
 
وما أحسن المقابلة بين الساعة والدهر ، فإنه جعل السكرة فيها في مقدار ساعة موجبا للحكم على الدهر بانقياده . وما ألطف قول من قال :
إذا ما نديمي علمني ثم علني * ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت أجرّ الذيل تيها كأنني * عليك أمير المؤمنين أمير
 
( ن ) : قوله منها ، أي من المدامة المذكورة . وقوله ترى خطاب للمريد السالك في طريق اللّه تعالى على الصدق في أحواله .
وقوله الدهر المعني فيه زمانه ، أي مدّة عمره في الدنيا . وقد يراد بالدهر هنا مدّة الدنيا كلها . وقوله عبدا طائعا ، أي خادما

« 275 »
 
يخدمك في كل ما تريد ، ولا يعصاك في شيء بسبب فنائك عنك وخروجك عن أنانيتك وشهودك ربك بربك بعد ما كنت تشهد نفسك بنفسك أو ربك بنفسك . وقوله ولك الحكم أي التحكم على كل شيء . اهـ .
 
40 - فلا عيش في الدّنيا لمن عاش صاحيا *** ومن لم يمت سكرا بها فاته الحزم
41 - على نفسه فليبك من ضاع عمره *** وليس له فيها نصيب ولا سهم
 
[ المعنى ]
قوله « فلا عيش » الظاهر أن المراد من العيش هنا اللذة في الحياة والنعيم فيها ، كما يقال فلان في لذة وعيش ونعيم ويجوز أن يراد بالعيش الحياة أي لا حياة في الدنيا لشخص عاش أي بقي حيّا مع الصحو .
قوله « ومن لم يمت سكرا بها فاته الحزم » « الحزم » بالحاء المهملة والزاي الرأي السديد ، يقال فلان له حزم أي رأي سديد . « ومن » شرطية أو موصولة فعلى الأوّل يكون « فاته الحزم » جواب الشرط .
وعلى الثاني يكون خبر المبتدأ . قوله « سكرا » مفعول لأجله لقوله يمت أي ومن لم يمت لأجل السكر بها .
ويجوز أن يكون حالا أي سكران . وحاصل البيت أن هذه المدامة عيش الحياة ، وربح الممات وذلك أن من عاش في الدنيا خاليا من محبتهم فهو جسد بلا روح ، وتاجر بلا فتوح ، يغدو ويروح ، كالجسد المطروح ، ليس له خلاق ، ولا يتحلى بجميل أخلاق ، ومن مات صاحيا عن شرابهم ، ولم يكن معدودا من أحبابهم ، فقد مات الميتة الجاهلية ،
ولم يسم إلى المراتب العلية :
ألا يا أيها الساقي * أدر كاسات أحداق
ولا تقطع مودّتنا * وواصل كل مشتاق
ولا تبخل على الفاني * ببذل جمالك الباقي
وما ألطف قول من قال :
سكران وجد لا أزال مولها * يا ليت شعري ما سقاني الساقي
 
ومن علم حال الشيخ عند وفاته ، ومفارقته لحياته ، تيقن أنه مات بها سكران ، وزال عن الدنيا ولهان ، لا يعرف سوى الحبيب الذي منه قريب ، ولدعائه مجيب ، فقال « على نفسه فليبك » إلى آخره .
وتقدير الكلام من ضاع عمره وليس له فيها نصيب ولا سهم مصيب ، ويروى وليس له منها .
وما أحسن جعله فعل الشرط ضياع العمر كأنه محقق ليس فيه ارتياب ، وإلا فالقانون في مثل هذا التركيب أن يقال : من نفد عمره مع عدم النصيب من هذه المدامة ، فقد ضاع عمره ولقي الخسارة والندامة .
وأما الشيخ فإنه قال : من ضاع عمره في صحو الدنيا ، والاجتهاد فيها على النصيب الأدنى

« 276 »
 
فقد باء بالخسران المبين ، فليبك على نفسه فإنه من النادمين ، و « اللام » في فليبك لام الأمر ، والفاء في جواب الشرط أي من ضاع عمره فليبك على نفسه .
 
قال بعضهم :
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة * على غير ليلى فهو دمع مضيع
وقال آخر :
فوا أسفي أن لا حياة هنيئة * ولا عمل يرضي به اللّه صالح
 
واعلم أن الشيخ قد كان مشربه مشرب العشق ، وكان يظهر عليه الحال في جميع الأحوال .
فكان كما قيل يطرب لصرير الباب وطنين الذباب ،
وقد سمع قصارا يقول : قطع قلبي هذا المقطع لا كان يصفو أو يتقطع . فأخذ له من القصة حصة ، وصار يقول بغرام وهيام ، قطع قلبي هذا المقطع ، وأخذ من قوله لا كان يصفو أو يتقطع معنى لنفسه ، يعني لا صفا قلبه من الكدورات البشرية والعلائق الحسية ، ولا تقطع بالفناء عن الوجود ، والالتفات إلى بارىء كل موجود .
 
فهو بين المرادين ، واقف بين العدمين ، ومن لطيف مواقعه ، التي أوجبت سكب مدامعه ، أنه كان آتيا من بعض الجمعيات ليلا فسمع الحرس في السوق ، وحادي طربهم لركبهم يسوق ، ينشدون على بعض آلات الطرب ، والشوق من واديهم قد اقترب :
مولاي سهرنا نبتغي منك وصال * مولاي فلم تسمح فنمنا لخيال
مولاي فلم يطرق ولا شك بأن * ما نحن إذا عندك مولاي ببال
 
فأخذ الشوق بالطوق وبادر الغرام في السوق ، وجذب بزمامه عند سجع حمامه ، ونادى لسان حاله عند انسداد المعتاد من مقاله :
أسكان طيبة هل من قرى * فقد دفع الليل ضيفا غريبا
 
وهاج وماج وعج وما عاج ، ومزق أطواقه وعالج أشواقه ، وخرج عن حسه عند وجدان أنسه ، وألقى ما عليه عندما لقي ما صار إليه ، وعن العلائق تعرّى ومن غيرهم تجرد وتبرّى ، وصاح وباح وبكى وناح ، وأخذ المعنى من ذلك المغنى ، وحركه الطرب عندما تواجد واقترب ، وكانت ليلة ركض فيها خيله ، وساق في ميدان الحنين وسبق في مضمار الأنين ، فجاءه القوم نهارا تراهم سكارى وما هم بسكارى ،
فألقوا إليه ما ألقى إليهم ، وخلعوا عليه ما خلعه عليهم ، وقالوا هذه الأثواب ،
 
فقال والذي فتح الباب ، لا يرجع إليّ شيء سلبه الشوق السالب ، وغلبني عليه الوجد الغالب ، مضى ما مضى وقضى الرب ما قضى ، فخذوا ما أصابكم والبسوا أثوابكم واغتنموا

« 277 »
 
ثوابكم ، وأمّا أنا فقد فزت بتلك الحال والحال ما حال ، فلذلك ترى كلامه يظهر مرامه ، في دوام السكرات في الحياة وعند الممات ، ومما اتفق لهذا المسكين الذي ليس له سوى ربه معين ،
من الشعر المسمى مواليا :
جاني الحبيب يعاتبني على الغفلات * وقال من بعدنا طابت لك النومات
فقلت واللّه ما ذا نوم ذي سكرات * تبقى إلى أن يقولوا بالمحبة مات
 
( ن ) : قوله لا عيش ، يعني أن حياته لما كانت حيوانية لا إنسانية كان لا حياة له . وقوله في الدنيا ، أي في هذه الحياة الدنيا . قال تعالى : اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [ الحديد : الآية 20 ] .
 
وقوله صاحيا ، أي من تفرّغ فيها للعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر ، ولم يسكر بالمدامة المذكورة فيغيب عن هذه الأشياء الخمسة ، فهو ميت عن الحياة الإنسانية .
 
وقوله ومن لم يمت سكرا ، أي بأن استوعب أوقاته كلها في مشاهدة الوجود الحق ، وصار لم يشعر بشيء سواه فقد فاته الحزم ، وأضاع الصواب وخسر أوقاته وأفسد أحواله .
والبيت الثاني واضح . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح ألغاز الشيخ رضي الله عنه الألغاز من 01 إلى 12 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:49 pm

شرح ألغاز الشيخ رضي الله عنه الألغاز من 01 إلى 12 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح ألغاز الشيخ رضي الله عنه الألغاز من 01 إلى 12
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
شرح ألغاز الشيخ رضي الله عنه الألغاز من 01 إلى 12
[ اللغز الأول ]
قال قدّس اللّه سرّه ملغزا في صقر :
ما اسم طير إذا نطقت بحرف *** منه مبدأه كان ماضي فعله
وإذا ما قلبته فهو فعلي طربا *** إن أخذت لغزي بحلّه
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن هذا في صقر والحرف الذي هو مبدؤه صاد ، وهو فعل ماض من الصيد وهو فعل الصقر .
وأما قلبه فهو رقص ، وأشار إليه بقوله « وإذا ما قلبته فهو فعلي طربا » وفعله لأجل الطرب هو الرقص .
وقوله « إن أخذت لغزي بحله » تتمة للبيت ، يعني إن كنت أخذت لغزي هذا بسبب حله ، أي لتحله وتبين إشكاله فافعل ما ذكرته لك فإنك تحله .
وقوله « مبدأه » خبر مبتدأ محذوف ، أي هو مبدأه أي مبدأ الاسم ، وإن شئت جعلته بدلا من حرف .
واسم كان ضمير يعود إلى الحرف وإطلاق الحرف على ما ذكر مجاز لأن المراد اسم الحرف لا الحرف .
وفي البيت الأوّل الطباق بين الحرف والفعل والفعل في قوله فعلي لغويّ فيكون بينه وبين الفعل الأوّل نوع مجانسة فتأمل .
 
( ن ) : الصقر المذكور كناية عن الروح الآمري المنفوخ منه في جسمه فكأنه طير يبعد عن عالم الطبيعة ويغيب في فضاء الملكوت وهو قائم بأمر اللّه وتاء نطقت مفتوحة .
والخطاب للسالك في طريق معرفة اللّه تعالى .
وقوله مبدأه ، بإبدال الهمزة ألفا فإن أصله مبدؤه .
وقوله فعله ، أي فعل ذلك الطير بأن تقول صاد ، فكأن الروح الآمري لما توجه من أمر اللّه تعالى على تدبير الجسم صاده بالاستيلاء عليه حين نفخ فيه الروح .
وقوله وإذا ما قلبته فقلبه كناية عن ظهور ذلك الروح في الجسم المنفوخ فيه بالانتكاس فيصير نفسا مدبرا لطبيعة الجسم .
وقوله بحله حله ، كناية عن قطع العلائق النفسانية والشهوات الطبيعية حتى ترجع النفس روحا أمرية وتنحل من عقال العقل وقيود الطبيعة الحيوانية . اهـ .

« 279 »
 
[ اللغز الثاني ]
وقال رحمه اللّه تعالى ملغزا في حنطة :
ما اسم قوت يعزى لأوّل *** حرف منه بئر بطيبة مشهوره
ثمّ تصحيفها لثانيه مأوى *** ولنا مركب وباقيه سوره
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن هذا اللغز « في حنطة » وذلك أن الحرف الأول حاء ، وفي المدينة المنوّرة بئر يقال له بير حاء ، فلذلك قال « يعزى » أي ينسب من العزو ، وهو النسبة هذا ما ذكره المحدثون ، ولكن قال في القاموس وبيرحى كفيعلى أرض بالمدينة المنوّرة ، ويصحفها المحدثون بئر حاء ، انتهى .
 
فما ذكره الأستاذ رحمه اللّه مبني على ما قاله المحدثون .
وقال في القاموس عند ذكر حرف الهجاء الحاء حرف هجاء ويمدّ ، واسم رجل نسب إليه بئر حاء بالمدينة المنوّرة ، وقد يقصر والصواب بيرحى كفيعلى وقد تقدم انتهى .
وقوله « ثم » التي هي أحد حروف العطف للترتيب والتراخي ، وهي مبتدأ أول لإرادة لفظها وتصحيفها مبتدأ ثان . و « مأوى » خبر المبتدأ الثاني والصغرى خبر المبتدأ الأول .
و « لثانيه » متعلق بقوله مأوى تعلق الصفة المتقدّمة على موصوفها ، والمراد من تصحيف ثم يم وهو البحر ، وثانيه أي ثاني ذلك القوت نون ، ولا شك أن البحر مأوى للنون إذ هو بمعنى الحوت ، واليم مركب لنا لأن الناس يركبونه حيث يسيرون في السفينة .
وقوله « باقيه سورة » يريد ما بقي من لفظة حنطة بعد ذهاب الحاء والنون والباقي الطاء والهاء ، وإذا مددت كلّا من الحرفين المذكورين كان اسما للسورة المعروفة تحت مريم ، ولو أبقيت الحرفين على صورتهما بعد حذف الحرفين الأولين من غير مدّ كان اسم السورة حاصلا على أحد القراءات ، وقد علمت أن الألغاز يتسامح في بعض تصرفاتها .
 
( ن ) : قوله اسم قوت هو حنطة كناية عن الطبيعة الكلية المنقسمة إلى حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة ،
فإنه نشأ عنها في جوف فلك القمر العناصر الأربعة النار والهواء والماء والتراب ،
وتركب من هذه العناصر المواليد الأربعة الجماد والنبات والحيوان والإنسان ،
فإذا انحلت هذه التراكيب رجعت إلى العناصر ، والعناصر إلى الطبائع ، والطبائع إلى الطبيعة الكلية ، وهي السارية في جميع هذه المواد والمركبات وبها يقتات الكل ،
فهي المكنى عنها هنا بالحنطة ، وظهورها في أربع مثل حروف حنطة ، فإنها أربع وبعد الموت ترجع المولدات المذكورة إلى مثل صورها من الطبيعة بعد تفرق عناصرها ، والحرف الأول الذي يعزى إليه البئر بطيبة هو الحاء أول عالم الطبيعة لاقتضائه الهبوط من العالم الروحاني كالبئر
قال تعالى : وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ  
 
« 280 »
مَشِيدٍ [ الحجّ : الآية 45 ]
إشارة إلى قلب الغافل المحجوب وقلب العارف المحقق وكونه بئرا بطيبة لأن ذلك مخلوق من نوره صلى اللّه عليه وسلم ، ولكنه غلب عليه الإخلاد إلى الأرض فصار قلبه بئرا .
وقوله ثم تصحيفها لثانيه مأوى ، يعني تصحيف ثم فتصير يم ، يعني أن اليم مسكن الحوت ، وذلك إشارة إلى أن حوت الحيوانية الغالبة على النشأة الإنسانية ساكن في بحر الطبيعة لا يخرج منه إلى بر الروحانية إلا بعناية إلهية .
وقوله ولنا مركب ، أي أننا نركب اليم المذكور كما نركب بحر الطبيعة بواسطة مركب العنصر .
وقوله وباقيه سورة ، وهي سوطة طه وهو من أسمائه صلى اللّه عليه وسلم ، فإن آخر عالم الطبيعة نور محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإذا قطعه إلى آخره وصل إلى الحقيقة المحمدية والسورة القرآنية قال تعالى : ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ( 2 ) [ طه : الآية 2 ] الآية . اهـ .
 
[ اللغز الثالث ]
وقال رحمه اللّه تعالى ملغزا في نصير :
اسم الّذي أهواه تصحيفه *** وكلّ شطر منه مقلوب
يوجد فيه تلك إذا قسمة *** ضيزى عيانا وهو مكتوب
اعلم أن هذا « في نصير » سواء كان على صيغة فعيل بفتح الفاء ، أو بضمها على صيغة التصغير وتقريره أنك إذا قلبت النصف الأول فهو صن صاد ونون ، وإذا قلبت الثاني فهو راء وياء . وتصحيف الجزأين ضيزى ، وقوله « عيانا » بكسر العين بمعنى المعاينة ، أي يوجد وجدان معاينة . وقوله « وهو مكتوب » قيد لا بدّ منه لأن ضيزى تكتب بالياء وفي نصير ياء ، ولو نظرت إلى التلفظ لكان آخرها ألفا وليس في نصير ما يتصحف بالألف فتأمل .
 
الإعراب :
اسم : مبتدأ . وتصحيفه : مبتدأ ثان ، وخبر الثاني : يوجد فيه تلك إذا قسمة ضيزى عيانا ، وذلك من إقامة الظاهر مقام المضمر « 1 » ، وهو العائد .
وكل شطر منه مقلوب جملة حالية مفيدة للحكم بأن تصحيفه يوجد فيه قسمة ضيزى ، أي يوجد في تصحيف اسم من يهواه ، وهو نصير قسمة ضيزى بشرط أن يكون كل شطر من نصير مقلوبا ، وقوله وهو مكتوب : جملة حالية أيضا مقيدة لقوله يوجد فيه تلك إذا قسمة ضيزى ، فإن ذاك لا يوجد إلا بشرط أن تنظر إلى الكتابة إذ لو نظرت إلى اللفظ لم يكن ذلك صحيحا كما بيناه آنفا ، فتأمل . هذا ما هو منقول في النسخ قاطبة وعليه تحرير ما كتبناه ، وعندي أن فيه تحريفا ولو اجتمعت النسخ عليه ، وأن الصواب هكذا
..........................................................................................
( 1 ) قوله : وذلك من إقامة الظاهر مقام المضمر وهو العائد الصواب إسقاطه . اه .


 
« 281 »
 
يوجد في تلك إذا قسمة ضيزى أي يوجد تصحيف اسم من أهواه حال كون كل شطر منه مقلوبا في هذه الكلمات الواردة في القرآن أي يوجد في ضمنها ، والمراد لفظة ضيزى كما شرحناه والذي أعتقده أن ما في النسخ غلط ،
وأن الصواب ما ذكرناه ، إذ لو مشينا على ما في النسخ لوجب أن يكون الذي يوجد في التصحيف المذكور تلك إذا قسمة ضيزى بمجموعها ، وليس مرادا ذلك بل المراد لفظة ضيزى فقط على ما أفدناه ، وإنما توجد غالب نسخ ديوان الأستاذ محرّفة مصحّفة لأنه أملاها وما كتبها بخطه ، وشعره محتاج مع الفهم الحاذق ، والفكر الرائق إلى مواد من العلوم كثيرة ،
وفضائل من الفنون غزيرة ، وفّقنا اللّه تعالى لفهمه ، ورزقنا الوصول إلى إدراكه وعلمه ، إنه سبحانه إذا دعي أجاب ، وإذا نودي سمع الخطاب .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله اسم الذي أهواه ، أي أحبه . وهو نصير بفتح النون وكسر الصاد قال تعالى : نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [ الأنفال : الآية 40 ]
وقوله يوجد ، أي تصحيف ذلك . وقوله في تلك إذا قسمة ضيزى ، أي في قوله تعالى : تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ( 22 ) [ النّجم : الآية 22 ] .
وقوله وهو مكتوب جملة حالية من قوله ضيزى فإنه يكتب بالياء ويقرأ بالألف . والمعنى في ذلك أن الذي يحبه هو اسم نصير ، وهو نصفان نصف في الغيب وهو الذات الغيبية ، ونصف في الشهادة بظهور الآثار الكونية ، وهو أسماء الذات وصفاتها ، وقلب النصف الأول هو ظهور الذات في حضرات الأسماء والصفات ، وقلب النصف الثاني هو ظهور الأسماء والصفات في حوادث الكائنات ، والتصحيف في ذلك هو الدخول في عالم الالتباس ،
قال تعالى : وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [ الأنعام : الآية 9 ] فيصير الاسم نصير بقلب النصفين .
والتصحيف ضيزى وذلك موجود في قوله تعالى : تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ( 22 ) [ النّجم :
الآية 22 ] ومعنى ضيزى ناقصة . اهـ .
 
[ اللغز الرابع ]
وقال رحمه اللّه ملغزا في ليف :
ما اسم شيء من النّبات *** إذا ما قلبوه وجدته حيوانا
وإذا ما صحّفت ثلثيه حاشا *** بدأه كنت واصفا إنسانا
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن هذا « في ليف » وتقريره أنه من النبات قطعا ، وإذا قلبته كان فيلا . وهو المراد من قوله إذا ما قلبوه وجدته حيوانا لأن الفيل حيوان قطعا .
وقوله « إذا ما صحفت ثلثيه حاشا بدأه كنت واصفا إنسانا » يريد أن لفظه ليف إذا صحفت ثلثيه وهما الياء بالباء الموحدة والفاء بالقاف وأبقى اللام وهي بدؤه على حاله كان الحاصل من

« 282 »
 
ذلك لفظة لبق على وزن كتف . واللبق الحاذق في عمله والحذق من أوصاف الإنسان .
 
( ن ) : قوله ما اسم شيء من النبات هو اسم ليف النخل ، وهو كناية هنا عن الجسم الذي هو وعاء الروح الآمري ، ومحل ظهوره من شجرة طوبى الروح الأعظم الكلي في السعداء ، ومن شجرة الزقوم التي أصلها في الجحيم وطلعها كأنه رؤوس الشياطين التي هي طعام الأثيم كما ورد ذلك في الآيات القرآنية ، أي استمداده منها في جميع أحواله الظاهرة والباطنة في الأشقياء ، وكون ذلك من النبات بإشارة قوله تعالى : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ( 17 ) [ نوح : الآية 17 ]
وقوله إذا ما قلبوه ، أي جعلوا خاصية ذلك الجسم باعتبار طبعه منقلبا إلى الباطن ، والجاعلون ذلك القوى الملكية السارية في الأجسام العنصرية ، وهم الحفظة الموكلون ببني آدم
كما ورد في الحديث : « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار وهم متحيزون إلى عالم الملكوت ولا يظهر منهم في عالم الملك إلا قواهم المنبثة في تلك الأجسام » وقوله وجدته ،
أي وجدت يا أيها السالك في طريق اللّه تعالى ذلك الجسم المكنى عنه بالليف . وقوله حيوانا ، يعني أنه يجده فيلا حيّا متحركا بالإرادة .
وقوله وإذا ما صحفت ، أي غيرت حالته الطبيعية بزيادة النقط الإرادية يا أيها السالك . اهـ .
 
[ اللغز الخامس ]
وقال ملغزا في قمري :
ما اسم لطير شطره بلدة في *** الشرق من تصحيفها مشربي
وما بقي تصحيف مقلوبه *** مضعّفا قوم من المغرب
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « ما اسم لطير » يريد لفظه قمري . والمراد من قوله « شطره » لفظه قم ، وهي بلدة في الشرق من عراق العجم ، وأهلها كلهم شيعة وتشيعهم شنيع على ما يقال ، واللّه أعلم بحقيقة الحال وتصحيفها فم ومنه يشرب الإنسان .
قوله « وما بقي » المراد منه ري وهو راء وياء ، وإذا قلبته فهو ير وتصحيفه بر إذا ضعف بر فهو بربر قوم من المغرب .
قال في القاموس وبربر جيل جمعه البرابرة وهم بالمغرب ، وأمة أخرى بين الحبوش والزنج يقطعون مذاكير الرجال ويجعلونها مهور نسائهم ، وكلهم من ولد قيس عيلان أو هم بطنان من حمير صنهاجة وكتامة صاروا إلى البربر أيام فتح إفريقش الملك إفريقية انتهى .
 
( ن ) : القمري نوع من الحمام كناية عن الروح الإنساني .
وقوله بلدة في الشرق إشارة إلى حكم استيلاء الروح على ظاهر الجسم الإنساني .
وقوله من تصحيفها ، أي

« 283 »
 
تصحيف هذا الاستيلاء الروحاني على الظاهر بعد زوال نقطة النفس منه .
وقوله مشربي ، أي موضع شربي الماء وغيره ، والمشرب أيضا موضع شرب شراب المعرفة الإلهية والحقائق الربانية .
وقوله وما بقي وهو ري وهو الارتواء من الشراب الإلهي .
وقوله تصحيف مقلوبه ، أي مقلوب ري وهو بر فإن ذلك الارتواء إذا تغير وانقلب على ظاهر الإنسان صار برا بالفتح أي بارا . اهـ .
 
اللغز السادس
وقال ملغزا في نوم :
ما اسم بلا جسم يرى صورة *** وهو إلى الإنسان محبوبه
وقلبه تصحيفه ضدّه *** فاعن به يعجبك ترتيبه
حاشيتا الاسم إذا أفردا *** أمر به والأمن مصحوبه
حروفه أنّى تهجّيتها *** فكلّ حرف منه مقلوبه
 
[ الاعراب والمعنى ]
اعلم أن هذا لغز « في نوم » وشرحه أنه في الحقيقة اسم لا جسم لمسماه لأن الجسم يقتضي الصورة المحسوسة . والنوم عبارة عن الرقاد والنعاس ، وهو أمر يعرض للبدن فيغمر الحواس الظاهرة ، فهو من الأمور المعنوية ، والتقدير النوم اسم ليس جسما ترى صورته فيكون صورة منصوبا على التمييز المحول عن نائب الفاعل .
وقوله « إلى الإنسان محبوبه » ظاهر لأن النوم راحة للبدن فيكون محبوبا ومطلوبا للإنسان .
واعلم أن في قوله « وقلبه تصحيفه ضدّه » « 1 » إشكالا لأن قلبه مون وتصحيف مون موت ، ولا شك أن الموت ليس ضدّ النوم بل يقال النوم أخو الموت .
وقال تعالى اللّه : يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [ الزّمر : الآية 42 ]
والتي لم تمت في منامها فكيف يقال إن تصحيف قلب النوم ضدّ النوم .
والجواب من وجهين :
الأول وهو الأولى أن الضدّ يستعمل بمعنى المثل وبمعنى المخالف . فالمراد بالضدّ من قوله ضده المثل لما ذكرناه ، ويجوز أن يكون بمعنى المخالف بناء على أن النوم يستلزم الحياة فهو ضد باعتبار ما يلزم النوم من وجوب كونه ملازما للحياة .
وقوله « فاعن به » أي اهتم به . « يعجبك ترتيبه » أي في القلب .
والتصحيف وما أشبه ذلك . والمراد من « حاشيتي الاسم » النون والميم وهو أمر بالنوم ، فتقول نم .
وقوله « والأمن » بالهمزة والميم والنون يريد به خلاف الخوف ، بمعنى إذا أمرت بالنوم فهو مشروط بالأمن ، لأن الحكماء قالوا ثلاثة لا ينامون بردان وجائع وخائف .
وقوله « حروفه أنى تهجيتها » أي
..........................................................................................
( 1 ) قوله : ضده في نسخة صنوه وهي التي شرح عليها النابلسي . اهـ .

« 284 »
 
متى تهجيت حروف لفظة نوم فكل حرف منه مقلوب نفسه لأن النون لا يستحيل بالانعكاس . وكذا القول في الواو والميم .
الإعراب : ما : استفهامية مبتدأ . واسم : خبر . وقوله بلا جسم : متعلق بمحذوف على أنه صفة لقوله اسم ، أي اسم مستقر بغير جسم . وجملة قوله يرى صورة : في محل جر على أنها صفة لجسم ، أي بلا جسم مرئي في الصورة .
وصورة : منصوب على التمييز المحوّل عن نائب الفاعل إذ الأصل ترى صورته ، ولك أءن تقول الأصل يرى رؤية صورة فتكون صورة منصوبة على أنها مفعول مطلق على حذف المضاف .
إذ المراد ما اسم ليس له جسم يرى رؤية صورة مجسمة مشخصة بل يرى رؤية تصور وتعقل بصورة ذهنية عند تعقله .
وقوله « وهو إلى الإنسان محبوبه » أي للإنسان كما تقول فلان محبوب إليّ فعلى هذا الهاء في قوله محبوبه زائدة . وقلبه : مبتدأ أوّل .
وتصحيفه : مبتدأ ثان . وضدّه : خبر . والصغرى : خبر قلبه . وقوله فاعن به : فعل أمر . ويعجبك : مجزوم في جوابه . أي إن اعتنيت به يعجبك ترتيبه . وحاشيتا الاسم :
مبتدأ أضيف إلى الاسم ، ولذا حذفت نون التثنية منه . وقوله أمر به : خبر المبتدأ .
وبه : متعلق بأمر . وقوله إذا أفردا : شرط في صحة الحمل . إذ المراد حاشيتا الاسم ، أعني النون والميم يكونان أمرا بالنوم إذا كانتا مفردتين عن بقية الحروف . وقوله والأمن مصحوبه : جملة اسمية حالية أي الأمن مصحوب النوم إذ لا نوم مع خوف .
وحروفه : مبتدأ والشرط والجزاء في موضع الخبر .
 
( ن ) : أشار بالنوم إلى غفلة القلب عن شهود تجليات الرب ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » .
وقوله وهو إلى الإنسان محبوبه لأن فيه راحته وفي نوم الغفلة شهوته .
وقوله وقلبه تصحيفه صنوه ، أي قلب النوم مون وتصحيفه موت ، ولا شك أن الموت صنو النوم أي أخوه ، فإذا قلب النوم باليقظة الحقيقية صار موتا اختياريا .
وقوله فاعن الخطاب للسالك .
وقوله حاشيتا الاسم إذا أفردا ، أشار بهما إلى ابتداء حالته وانتهائها فيما قبل الموت الاختياري . وقوله أمر به ، أي نم فعل أمر من النوم وهو شهود أمر التكوين في تلك الحالة . انتهى .
 
اللغز السابع
قال ملغزا في: بزغش
وههنا لغز عجيب وأسلوبه غريب وهو في بزغش بالباء الموحدة والزاي والغين المعجمة والشين المنقوطة
وذلك قوله :
ما اسم إذا فتّشت شعري تجد *** تصحيفه في الخطّ مقلوبه
وهو إذا صحّفت ثانيه من *** أنواع طير غير محبوبه

 
« 285 »
ونقط حرف فيه إن زال مع *** ألف به بيع بخرّوبه
ونصفه الثلثان من آلة *** لجنسه في الضرب منسوبه
ونصفه الآخر نصف اسم *** من جانسه يتبع أسلوبه
وقلبه قلب لمن فهمه *** من بعد لام كلّ أعجوبه
حاشيتاه عوذة بعد ما *** صحّفتا في الذكر مطلوبه
والجيم فيه إن تعد داله *** والدال جيما فيه محسوبه
من بعد حرفين به صحّفا *** والزاي واو فيه مكتوبه
صار اسم من شرّفه اللّه بال *** وحي كما شرّف مصحوبه
 
[ الاعراب والمعنى ]
يريد « إذا فتشت » لفظ « شعري تجد تصحيفه » بعد القلب ذلك الاسم ، لأن الياء تصحف باء والراء تصحف بالزاي والعين تصحف بالغين والشين على حاله .
قوله وهو أي ذلك الاسم من أنواع طير غير محبوبة ، « إذا صحفت ثانيه » والمراد برغش .
 
قوله « ونقط حرف فيه إن زال مع ألف به بيع بخروبه » مراده نقطة الزاي إذا زالت وزال الألف ، والألف عبارة عن الغين لأن الغين في حساب الجمل بألف يصير برشا والبرش يباع بيع الهوان بخروبة لما فيه من الضرر ، أو أن المراد يباع بالقراريط لأنه لا يؤكل منه إلا القليل إذ الكثير منه مضر .
قوله « ونصفه الثلثان من آلة » يريد بالنصف بز الزاي والباء ولا شك أنهما ثلثا قبز وقبز آلة لهو معروفة .
وقوله « لجنسه » الضمير لما فيه اللغز من الأصل ، وهو بزغش لأنه من أسماء الأتراك وكان بعض أمرائهم في مصر مسمى بهذا الاسم .
ولا شك أن القبز من آلات الأتراك ، فاعلم ذلك . قوله « ونصفه الآخر » إلى آخر البيت يريد بنصفه الآخر غش لأن النصف الأول بز والثاني غش ، والمراد أنه نصف بزغش ، وكونه مجانسا له يتبع أسلوبه باعتبار أنه يقال بزغش أزغش من قبيل الاتباع في مثل حسن بسن وصندوق بندوق .
 
قوله « وقلبه قلب » الخ . لعله يريد قلب بزغش ، وهو ما عدا الحاشيتين ، فيكون عبارة عن الزاي والغين فإذا قلب هذا القلب وضم مع اللام بجعلها قبله صار لغزا وفي الألغاز كل أعجوبة . وبعد فبيت القلب مشكل فتأمله وتدبره .
 
وأما قوله « والجيم فيه أن تعد داله » إلى آخر الأبيات الثلاثة حاصلها أن يصير بزغش يوشع ولكن حصل لنا فهم في هذا الصنع يقرب أن يكون من قبيل الإلهام لا من نتائج الإفهام .
 
وذلك أن نقول المراد من الجيم ثالث حرف بزغش ومن الدال رابعها ، لأن ذلك رتبتها في حروف أبجد فيصير المعنى اجعل الحرف الثالث في بزغش رابعا والرابع ثالثا ، وإذا فعلت ذلك فو بزشغ وصحف حرفين بعد ذلك وهما الياء والغين فالباء يصحف بالياء والغين يصحف بالعين ، واجعل

« 286 »
 
الزاي واوا فبذلك كله تتم لفظة يوشع ، فتأمل ذلك تجده عجبا وباللّه ثم باللّه إنني لم أستفد ذلك من شيخ ولا من رفيق ، وإنما كان ذلك فتحا من اللّه تعالى ببركة الأستاذ صاحب الأبيات الأبيات .
 
( ن ) : بزغش من أسماء الأتراك ليس بعربي إشارة إلى عالم الوهم المتولي على كل حيوان . وقوله فتشت خطاب للسالك اللذي يفتش على أحوال نفسه ليعرف ما كنى عنه الناظم باسم بزغش كما ذكرنا بأنه الوهم الحيواني .
 
وقوله تجد تصحيفه ، أي تصحيف شعري . وقوله مقلوبه مفعول تجد ، أي مقلوب شعري ومقلوبه يرعش وتصحيف يرعش بزغش ، وهو الاسم المذكور فإن تصحيف هذا الاسم الوهمي بعد قلبه راجع إلى قوى الملك القابض من ملائكة اللوح المحفوظ ، وهو الحقيقة العزرائيلية ، والحقائق الثلاثة الملكية هي الحقيقة الإسرافيلية النافخة في الصور الجسمانية ، والحقيقة الميكائيلية المقيتة للأجسام العنصرية ، والحقيقة الجبرائيلية المقيتة للنفوس البشرية بالعلم والإدراك ولغيرها من جميع النفوس .
 
وقوله وهو ، أي اسم بزغش وقوله إذا صحفت ثانيه ، أي الحرف الثاني منه وهو الزاي بأن حذفت منها النقطة فإنها تصير راء .
وقوله من أنواع طير غير محبوبة لا يحبها الناس لأذيتها وهو بزغش ، والكناية بذلك عن النفوس النباتية الزائلة منها نقطة الأنانية ،
قال تعالى : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ( 17 ) [ نوح : الآية 17 ]
وقوله ونقط حرف فيه إن زال مع ألف به الخ ، فإنه يبقى برش والبرش بالسكون نوع معروف من المعاجين المركبة يستعمله أهل الجهالة والبطالة ، والكناية بالبرش عن زخارف الدنيا وزينتها التي توجب الغيبة والسكر فإن بزغش الوهم إذا زال ما في وسطه من القوى الملكية صار برشا مسكرا ، فيخرج به العقل الإنساني عن مقتضى إدراكه فلا يساوي صاحبه خروبة عند أهل الكمال والعرفان .
وقوله لجنسه في الضرب ، أي إيقاع النغمات ، وقوله منسوبة صفة لآلة ، أي منسوبة تلك الآلة لجنس القبز في الضرب المذكور ، كنى بذلك عن حركات العروق والشريانات في البنية الإنسانية ، فإن حركاتها منتظمة للاعتدال في الأمزجة فإذا اختلت فسد المزاج . وقوله نصف اسم من جانسه ، أي جانس بزغش بأن وازنه .
 
وقوله يتبع أسلوبه وهو الاتباع في الوزن ، وهو قولك برغش بالراء المهملة اسم للبعوض الذي تقدم ذكره ، فإن غش نصف برغش ، والنفوس النباتية تجانس الوهم في عدم التحقق به .
وقوله وقلبه ، أي قلب بزغش وهو الزاي والغين .
 
وقوله قلب أي انقلاب بتقديم الغين على الزاي فيصير غز . وقوله لمن فهمه ، أي لإنسان فهمه مدرك . وقوله من بعد لام ، أي يجعل غز بعد لام فيصير لغز . وقوله كل أعجوبة

« 287 »
 
مفعول فهمه فإن اللغز إنما يقصد به صاحب الفهم الجيد الذي يفهم العجائب .
وهذا اللغز يقصد به العارف الكامل الذي يفهم عجائب الملك والملكوت . وقوله حاشيتاه ، أي الباء والشين من بزغش .
وقوله عوذة ، أي رقية . وقوله بعد ما صحفتا بأن تجعل الباء ياء والشين سينا فيصير ذلك يس ، وهي سورة من القرآن ، رقية لمن يرقى .
وكذلك الوهم أوله وآخره إذا صحف بإزالة الخطأ منه كان أمرا إلهيّا يلتجىء به الملتجؤون ويتحقق به المتحققون . وقوله في الذكر ، أي في القرآن لأنها سورة منه .
وقوله مطلوبة ، أي يطلبها العارفون باللّه تعالى يستعيذون بها في شدائدهم ، وقوله والجيم فيه إلى آخر الأبيات فإنه يصير يوشع ، وهو اسم نبي من أنبياء اللّه تعالى .
وقوله كما شرف مصحوبه وهو موسى عليه السلام فإنه كان مصحوبا له لأنه فتى موسى عليهما السلام الذي قال تعالى في حقه : وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ [ الكهف : الآية 60 ] الآية .
وفتاه هو يوشع بن نون . والإشارة بذلك أن الوهم يخرج منه بتقديم ما تأخر منه وتأخير ما تقدم ، وتغيير قوّة نقطه بالتصحيف اسم الروحانية الكاملة من ميراث يوشع النبي عليه السلام . اه .
 
اللغز الثامن
وقال ملغزا في قطرة :
ما اسم شيء من الحيا *** نصفه قلب نصفه
وإذا رخّم اقتضى *** طيبه حسن وصفه
 
[ المعنى ]
هذا لغز « في قطرة » ولا شك أن القطرة واحدة القطرات ، وهي من الحيا الذي هو المطر ، نصفه الواحد قط ، ونصفه الآخر إذا قلبته فهو هر ، والهر القط وترخيمه أن تحذف الهاء منه فيصير قطرا ، ولا شك أن القطر شيء حلو ، وهو طيب يقتضي ما فيه من الطيب أن يكون وصفه حسنا .
 
( ن ) : الحيا المطر والروح من شأنها الاستحياء من الحق تعالى لقربها منه بكونها من أمره ، ونصف ذلك الاسم قط . والقط بالكسر هو الهرّ كناية عن النفس المتولدة من الروح وطبيعة الجسد . وقوله قلب نصفه فنصفه ره وقلب ره هر، والهر هو القط يعني أن النفس كيفما تقلبت فهي نفس. اهـ.
 
اللغز التاسع
وقال ملغزا في حلب وهو عجيب :
ما بلدة بالشام قلب اسمها *** تصحيفه أخرى بأرض العجم
وثلثه إن زال من قلبه *** وجدته طيرا شجيّ النغم
وثلثه نصف وربع له ***  وربعه ثلثاه حين انقسم

« 288 »
[ المعنى ]
هذا اللغز « في حلب » وهي في الشام لأن الشام من الفرات إلى العريش ، فحلب تكون داخلة في الشام . وقلب حلب بلح ، وتصحيف بلح بلخ ، وهي من أرض العجم .
قوله « وثلثه إن زال من قلبه وجدته طيرا شجيّ النغم » وذلك أن قلبه بلح ، وإذا أزلت من قلبه اللام فهو بح بالباء الموحدة والحاء المهملة ، وهو طير من الطيور .
 
وما أحسن قوله « من قلبه » فإنها محتملة لوجهين ، كلاهما صحيح ،
الأوّل أن يكون المراد من قلبه الحرف الأوسط ، لأن قلب الكلمة عبارة عن وسطها ، فإن قلب حلب بلح واللام قلبها أي وسطها .
الثاني القلب الذي هو بمعنى عكس الكلمة ، والطير الذي أراده بح بالباء والحاء وصوته محنن ، فلذلك قال شجي النغم .
قوله « نصف وربع له » أقول ثلث حلب اللام وهي في حساب الجمل بثلاثين ، والحروف الثلاثة كلها بأربعين ، واللام ثلثها باعتبار أنها حروف ثلاثة والثلاثون نصف الأربعين وربعها لأن نصف الأربعين عشرون وربعها عشرة ، فقد ثبت أن الثلث الذي هو اللام نصف العدد وربعه . قوله « وربعه ثلثاه » المراد هنا ثلثا الثلاثة وثلثاها حرفان .
 
والمراد من قوله « وربعه » عشرة في العدد والعشرة مأخوذة من الحاء والباء ، فهما ثلثان من حيث الحروف ، وهما ربع من حيث العدد ، لأن مجموع العدد أربعون والعشرة ربعها .
وهي حاصلة من الباء والحاء وهما ثلثان من حيث الحروف فثبت قوله وربعه ثلثاه حين انقسم فتأمل .
 
( ن ) : قوله ما بلدة بالشام ، أي في قطر الشام ، وكونها بالشام أي عن شمال بيت اللّه ، وهو القلب بيت الروح التي هي من أمر اللّه تعالى ، وهو في الجانب الشمالي من الجسم الإنساني منبع العلوم الإلهية .
وقوله « قلب اسمها » الخ . فإن الاسم الملغز به وهو حلب إذا قلب وصحف بأن قلب من جانب الشمال إلى جانب اليمين صار القلب نفسا وصارت العلوم الإلهية بالتصحيف علوما كونية ومدارك نفسانية معجمة المعاني بعدما كانت معربة المباني .
 
وقوله « وربعه ثلثاه حين انقسم » أي باعتبار الحساب والعدد وكذلك العلم الإلهي منه ما هو متعلق بروحانية القلب فيطير في عالم الملكوت الأعلى ويترنم بالمعاني الربانية ، ومنه ما يحوم في ملك الأرض وملكوتها ، وله انقسامات وتداخل في عوالم الغيب من نصف وربع وثلث وثلثين على حسب اتصال العوالم بعضها ببعض وانفصال بعضها عن بعض . اهـ .
 
اللغز العاشر
وقال ملغزا في بطيخ :
خبّروني عن اسم شيء شهيّ *** اسمه ظلّ في الفواكه سائر
نصفه طائر وإن صحّفوا ما *** غادروا من حروفه فهو طائر

« 289 »
[ المعنى ]
قوله « نصفه طائر » يريد به نصفه الأوّل وهو بط إذ لا شبهة في أنه طائر .
ويبقى النصف الثاني وهو الياء والخاء ، وتصحيفهما بح بالباء والحاء ، وهو طائر وصوته محنن ، فقد علم أن هذا اللغز في بطيخ بفتح الباء ولا يصح الإلغاز إلا على اللغة المشهورة في بطيخ وهي فتح الباء ولا يصح على كسرها .
و « غادروا » في قوله وإن صحفوا ما غادروا بمعنى تركوا ، أي تركوه بعد النصف الأوّل فهو طائر بعد التصحيف فافهم .
 
( ن ) : البطيخ هو الفاكهة المعروفة إشارة إلى شهوة الجماع الحلال ، فإنه يقرب إلى العبادة بالنية الخالصة ، وله نتائج جميلة . وقوله خبروني يخاطب السالكين في طريق اللّه تعالى .
وقوله شهي ، أي تشتهيه النفوس لحرارتها وبرودة طبعه .
وقوله سائر ، بالسكون على لغة ربيعة بإسكان المنصوب لأنه خبر ظل ، وكون كلا النصفين طائرين من هذا الاسم الملغز به ، لأن شهوة الجماع الحلال طائر روحاني متوجه بصورة جسمانية ينتج طائرا آخر روحانيا لكن بتغيير النقط النفسانية . اهـ .
 
اللغز الحادي عشر
وقال ملغزا في صقر :
يا خبيرا باللّغز بيّن لنا ما *** حيوان تصحيفه بعض عام
ربعه إن أضفته لك منه *** نصفه إن حسبته عن تمام
 
[ المعنى ]
يريد أن لفظة « صقر » تصحيفه صفر بالفاء وهو بعض عام لأنه شهر من السنة .
قوله « ربعه » مبتدأ .
و « نصفه » خبره . ومعنى ذلك أن الربع منه في العدد يصير نصفا إذا أضفته لياء المتكلم .
وذلك أنك تقول في صقر صقري فيصير حسابه في الجمل أربعمائة وربع حروفه بعد الإضافة الراء ، وهو نصف العدد حينئذ لأنها بحساب الجمل مائتان فقد ثبت قوله ربعه نصفه .
وقوله « إن حسبته عن تمام » تتمه للبيت وما في قوله بين لنا ما استفهامية ، وهو آخر المصراع الأول .
 
( ن ) : صقر إذا نقص منه نقطة واحدة من القاف صار صفرا أحد شهور السنة فهو بعض عام ، وكذلك الروح المنفوخ في الجسم إذا نقص ظهورا في بعض مظاهره كالبصر مثلا أو السمع كان بعضا من العام ، وهو الظهور التام الإلهي الوارد في حديث المتقرب بالنوافل كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، وشهر صفر كان فيه نقصان عالم الروح الآمري من ظهوره في عالم الدنيا بموت النبي صلى اللّه عليه وسلم فيه كما ورد في الخبر . وقوله ربعه الخ .
إشارة إلى أن ربع مظهر الروح المكنى عنه بالصقر هو الماء العنصري لأنه شرط إضافة الروح إليك ، فإنها باعتبار عالمها متجردة

« 290 »
 
عن العناصر الأربعة ، وهو النصف من بقية العناصر الثلاثة النار والهواء والتراب ، لأن الماء سر الحياة كما قال تعالى : وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [ الأنبياء : الآية 30 ]
والحياة نصف كما أن باقي النشأة الإنسانية النصف الآخر .
وقال تعالى : وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [ هود : الآية 7 ] وهو نصف ما صار بعده واللّه الأعلم والأحكم . اهـ .
 
اللغز الثاني عشر
وقال ملغزا في قند :
أيّ شيء حلو إذا قلبوه *** بعد تصحيف بعضه كان خلوا
كاد إن زيد فيه من ليل صبّ *** ثلثاه يرى من الصّبح أضوا
وله اسم حروفه مبتداها *** مبتدأ أصله الذي كان مأوى
 
[ المعنى ]
( ن ) : اهـ .
قوله « أي شيء حلو » يريد القند وقلبه دنق . والمراد من تصحيف بعضه القاف تصحف بالفاء ، والحاصل دنف بدال مهملة ونون وفاء والنون مكسورة وهو المريض .
وهو خلو أي خال من الصحة . فلذلك قال بعد تصحيف بعضه كان خلوا ، وكثير من الرواة يروي اللفظين بالحاء المهملة بمعنى الشيء الحلو ولا معنى له ، وإنما المراد كان خلوا أي خاليا من الصحة .
والبيت الثاني معناه إن زدت في اللفظ الملغز فيه ثلثي الليل وذلك الياء واللام فيحصل قنديل ، ولا يضر في الألغاز اختلاف حركات بعض الحروف فإن قاف قند مفتوح وقاف قنديل مكسور . وقوله « من ليل صب » يريد به الليل المظلم إلى الغاية .
 
( ن ) : ضمير الجمع في قلبوه للسالكين في طريق اللّه تعالى وقلبه دنق ، وتصحيفه دبق بالكسر والباء الموحدة ، وهو غراء حلو تصاد به الطيور .
وقوله كان حلوى أي شيئا حلوا والإشارة بذلك إلى أن شهوة النفس دبق إذا قلبت وصحفت بأن قويت وغفل صاحبها صارت شبكة تصيد طيور الزخارف الدنيوية والأغراض النفسانية .
 
وقوله من الصبح أضوا فإذا كان صاحب تلك الشهوة عارفا بربه فزيد على ذلك العرفان والكشف صارت شهوته لذة اللذائذ كلها روحانية والشهوات كلها جسمانية .
 
وقوله وله ، أي للاسم الملغز به . وقوله اسم هو لفظ قند . وقوله حروفه الخ .
يعني أن القاف أوّل حروف القند ، وأول حروف قصب السكر الذي هو أصل القند أي ما يعتصر منه وكان مأوى له ومسكنا لأنه تربى فيه .
 
وكذلك مأوى الشهوة النفسانية وأصلها الناشئة منه قصبة الجسم الطبيعي المجوّف النابتة في أرض الطبيعة . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح ألغاز الشيخ رضي الله عنه الألغاز من 13 إلى 23 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:50 pm

شرح ألغاز الشيخ رضي الله عنه الألغاز من 13 إلى 23 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح ألغاز الشيخ رضي الله عنه الألغاز من 13 إلى 23
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
شرح ألغاز الشيخ رضي الله عنه الألغاز من 13 إلى 23
اللغز الثالث عشر
وقال ملغزا في طيّ :
اسم الذيّ تيّمني حبّه *** تصحيف طير وهو مقلوب
ليس من العجم ولكنّه *** إلى اسمه في العرب منسوب
حروفه إن حسبت مثلها *** لحاسب الجمّل أيّوب

[ المعنى ]
« طي » قلبه يط وتصحيفه بط ، وحروفه تسعة عشر لأن الطاء بتسعة والياء بعشرة .
وكذلك أيوب فإن الياء بعشرة والألف والواو والباء بتسعة ، فصح قوله مثلها لحاسب الجمل أيوب .
 
( ن ) : طي اسم قبيلة من قبائل العرب ، وهي كناية عن الكون الذي ينطوي وينتشر بأمر اللّه الذي هو كلمح بالبصر .
وقوله اسم الذي تيمني حبه ، أشار بذلك إلى شيخه وأستاذه الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي الحاتمي الطائي فإنه من قبيلة طي .
وقوله تصحيف طير وهو مقلوب فلا شك أن الكون الذي ينطوي وينتشر بأمر اللّه تعالى لقيامه به إذا قلب وصحف بالرجوع إلى الأمر الإلهي كان مثل الطير في طيرانه من الأزل إلى الأبد ،
قال تعالى : وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [ الإسراء : الآية 13 ]
وهو ما قدّره الحق تعالى عليه من تقلبات الأمور بمنزلة الطير الذي يطير من حضرة التقدير الإلهي ويلزم صاحبه ولا يحيد عنه . وقوله حروفه إن حسبت الخ .
 
يعني أن عدد حروف أيوب تسعة عشر مقدار حروف طي ، فإن الكون كله مبتلى كابتلاء أيوب النبي عليه السلام لأنه يماثله بعدد حضراته ، فإنه الإنسان الكبير المجموع وأيوب عليه السلام هو الإنسان الجامع المجموع وهو الإنسان الكامل وابتلاؤه لاشتماله على ما يلائمه وما لا يلائمه . اهـ .
 
اللغز الرابع عشر
وقال ملغزا في قبيلة من قبائل العرب وهي هذيل :
سيّدي ما قبيلة في زمان *** مرّ منها في العرب كم حيّ شاعر
ألق منها حرفا ودع مبتداها *** ثانيا تلق مثلها في العشائر
وإذا ما صحّفت حرفين منها *** كلّ شطر مضعفّا اسم طائر
 
[ المعنى ]
قوله « سيدي ما قبيلة في زمان » إلى آخر المصراع ، يشير إلى هذيل وهي شهيرة بين القبائل ، وقد طلع منها شعراء مجيدون وفصحاء محسنون ، حتى أن بعضهم جمع كتابا في شعر الشعراء الهذيليين ومنهم أبو صخر الهذليّ . قوله « ألق منها حرفا ودع مبتداها » .
« ثانيا تلق مثلها في العشائر » .
يريد بالحرف الذي يلقى الياء من هذيل فيبقى هذل ، فإذا صيرت أوّل حرف ثانيا يبقى ذهل بضم الذال المعجمة وسكون الهاء ،

« 292 »
 
وذهل بن شيبان قبيلة ، والشيخ جعلها من العشائر ، وجعلها في القاموس قبيلة . وقوله « وإذا ما صحفت حرفين » الخ . وفي بعض النسخ ، وإذا ما صحفت ثلثين ، وهو تحريف فاسد لأن لفظة هذيل أربعة أحرف ، والأربعة ليس لها ثلث ولا ثلثان ، فالصواب وإذا ما صحفت حرفين ، والمراد تصحيف الذال من هذيل والياء كذلك فتصير الذال دالا والياء باء ، فتقول هدهد وذلك تضعيف هد ، وهو الشطر الأوّل وبلبل تضيف بل وهو الشطر الثاني ، وكل منهما اسم طائر . والهاء في منها للقبيلة المذكورة في أوّل الأبيات ، والفاء الرابطة محذوفة في كل شطر .
و « كل » مبتدأ مضاف إلى شطر .
و « اسم » خبر مضاف إلى الطائر . و « مضعفّا » حال من شطر .
 
( ن ) : هذيل إشارة إلى النور المحمدي الذي خلق اللّه منه كل شيء . وقوله سيدي أي يا سيدي ، خطاب لحقيقة النور المحمدي الظاهر له في كل شيء .
وقوله في زمان مرّ ، أي هي من العرب العرباء في الزمان الماضي قبل عصر النبوة المحمدية .
وقوله كم حي شاعر ، يعني أن قبيلة هذيل طلع منها شعراء مجيدون وفصحاء محسنون ، والنور المحمدي المخلوق من نور اللّه تعالى كم ظهرت منه نشأة إنسان كامل ، وصورة رجل عالم عامل ، وماهية زاهد عابد ، وحقيقة حيوان راكع ساجد ، وشخصية شيء نافع ، وصورة أمر معنوي رافع .
وقوله وإذا ما صحفت حرفين الخ ، يصير هدهد وبلبل وهذان طائران ، فالأول يدل على ملك سليمان عليه السلام ، وهو ملك الدنيا .
والثاني يدل على ملك الآخرة لأنه طير الطرب وهو العقل المستقيم من النور المحمدي . اهـ .
 
اللغز الخامس عشر
وقال رضي اللّه عنه ملغزا في سلامة :
ما اسم، إذا ما سأل المرء، عن *** تصحيفه خلا له أفحمه
فنصف يس له أول، *** من غير ما شك ولا جمجمه
و إن ترد ثانيه، فهو لا *** يذكر للسائل، كي يفهمه
و إن تقل: بين لنا ما الذي *** منه تبقى بعد ذا، قلت مه
بينه لي، إن كنت ذا فطنة *** فإنني قد جئت بالترجمه
 
[ المعنى ]
أقول « سلامة » هو الاسم الملغز فيه ، ولا تصحيف له لأن الميم لا تصحيف لها ، وكذلك الهاء وكذلك الألف ، وأمّا السين فإنها تصحف بالشين ، وكذلك اللام تصحف بالكاف ، ولكن لا معنى لذلك .
فقد صدق قوله « أفحمه » لأنه لا يقدر على تصحيفه على ما ذكرناه . و « نصف يس » السين وهو أوّل حروف سلامة . و « الجمجمة »


 
« 293 »
 
على وزن مرحمة بجيمين وميمين ، وهي أن لا يبين كلامه كالتجمجم وإخفاء الشيء في الصدر ، و « ما » في قوله من غير ما شك زائدة . قوله « وإن ترد ثانيه فهو لا » أراد لفظة لا النافية وهو اسم للام والألف اللينة ، وكذلك قال المحققون من قال لام ألف فقد غلط بل يقال لا ،
وكان بعضهم قد قال فلان لا يحسن النطق بحروف الهجاء ، فلما نطق بها قال لام ألف ، فقال له الذي امتحنه لا ، فكان كلما نطق بقوله لام ألف يقول له لا ، ولا يخفى حسن الجواب لأنه تعليم للنطق بالصواب ، ونفي لما نطق به .
وأما قول القائل :
رجعت من عند سعيد كالخرف * تخط رجلاي بخط مختلف
 
وتكتبان في الطريق لام ألففهو من شعر المولدين وليس من كلام العرب العرباء .
قوله « يذكر للسائل كي يفهمه » ابتداء كلام ولا تتمة للجواب ، وليس يذكر منفيا بها لكن اللفظ يوهم ذلك تأكيدا للألغاز .
قوله « وإن تقل بين لنا » إلى آخر البيت يريد أن الذي تبقى من اسم سلامة بعد السين وبعد لا هو لفظ مه ، وفي الكلام تورية من جهة مه ، لأنه يحتمل أن يكون المراد مه ، أي اكفف عن طلب ما تبقى من اسم سلامه بعد السين ولا وليس مرادا بل المراد إن سألتني عما تبقى منه بعد ذلك قلت لك الباقي منه مه والأمر كذلك .
قوله « بينه ليس إن كنت ذا فطنة » « فإنني قد جئت بالترجمة » ، أي أوضحت لك الأمر كالترجمان الذي يوضح اللفظ المترجم والأمر كذلك .
وقوله « إن كنت ذا فطنة » لا يلائم قوله « فإنني قد جئت بالترجمة » لأن اللفظ المترجم لا يحتاج إلى كمال الفطنة فتأمل ، فالشرط متعلق بقوله بينه لي بقطع النظر عن قوله إن كنت ذا فطنة فافهم ذلك فإنه دقيق .
 
( ن ) : السلام من أسماء اللّه تعالى . والسلامة البراءة من العيوب كناية هنا عن الحضرة الاسمائية الإلهية . وقوله إذا ما سأل المرء الخ .
يعني أن هذا الاسم لا يتصحف فلا يقبل التغيير والتبديل لأنها حضرة قديمة والقديم لا يتغير .
وقوله فنصف يس الخ .
فإن ابتداء الحضرة المذكورة سورة يس التي هي قلب القرآن كما ورد في الخبر .
وذلك هنا بطريق النداء من جهة الغيب ، وهذا الأمر يقين لا شك فيه ، وهو متبين لا خفاء فيه على صاحبه .
وقوله فهو لا ، أي حرف لام ألف ، وذلك هو قول لا إله إلا اللّه لأنه إظهار ما في القلب من التوحيد . وقوله وإن تقل ، يعني يا أيها السالك .
وقوله بينه لي الخطاب أيضا للسالك في طريق اللّه تعالى . اهـ .
 
« 294 »
اللغز السادس عشر
وقال ملغزا في شعبان :
ما اسم فتى حروفه *** تصحيفها إن غيّرت
في الخطّ عن ترتيبها *** مقلته إن نظرت
أدعو له من قلبه *** بعودة منه سرت


[ المعنى ]
هذا اللغز اشتهر أنه في شعبان . وتقريره أنك إذا غيرت حروفه في الخط عن ترتيبها وصحفتها يصير نعسان ، ولم يقل اقلبه يصر هكذا ، لأنه لا قلب يؤدي ذلك ، وإنما يحصل ذلك بنوع تغيير ، وذلك بتقديم الباء وجعل العين بعدها وجعل الشين بعدهما فيصير بعشان وتصحيفه نعسان .
قوله « أدعو له من قلبه » إلى آخر البيت اعلم أن تقرير البيت الثالث على أن يريد بقلبه قلب الكلمة وسطها ، ووسط شعبان الباء ، وأنت إذا قلت باء فهو فعل بمعنى رجع ، فإذا جعلتها جملة دعائية ، فتقول باء أي رجع .
فالعودة بالدال المهملة واحدة العودات ، فقلب الكلمة يصلح أن يكون جملة دعائية ، مثلا إذا قيل لك فلان سافر تقول باء إن شاء اللّه ، أي رجع من سفره ، هذا أحسن ما قيل « 1 » في هذا اللغز .
 
( ن ) : شعبان هو شهر النبي صلى اللّه عليه وسلم كما ورد في الحديث رجب شهر اللّه وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي .
وقال قدّس اللّه سره لغزا في بقلة ويقال لها البقلة الحمقاء ، وهي كناية عن النفس البشرية النابتة في تراب الجسم بماء الروح الآمري وهواء العقل المدبر ونار الطبيعة :
 
اللغز السابع عشر
قال ملغزا في: بقله
ما اسم قوت لأهله *** مثل طيب تحبّه
قلبه إن جعلته  *** آخرا فهو قلبه
 
[ الاعراب والمعنى ]
« ما » استفهامية مبتدأ . وقوله « اسم » خبره . وقوله « قوت لأهله » .
وهم الغافلون عن تجليات ربهم لقيامهم في الحياة الدنيا بنفوسهم الحمقاء .
وقوله « مثل طيب » وهو ما يتطيب به من الرياحين لحبسهم لنفوسهم .
وقوله « تحبه » أي تحب ذلك الطيب لذكاء رائحته عندهم .
وقوله « قلبه » أي قلب ذلك الاسم الملغز به ، وهو وسط بقلة فإن وسط ذلك قل بين الباء الموحدة والهاء .
وقوله « إن جعلته » أي جعلت ذلك الاسم الملغز به بعد إخراج القاف واللام منه .
وقوله « آخرا » بأن أخرته عن قلبه الذي
..........................................................................................
( 1 ) هذا أحسن الخ . ينافيه قوله مقلته إن نظرت . اهـ .


 
« 295 »
هو لفظ قل ، ولا يفضل منه إذا نزع قلبه إلا الباء الموحدة والهاء فتجعلهما آخرا ، وتقدم عليهما قلبه الذي هو قل ، وفيه عود الضمير إلى المضاف إليه ، وهو مرجع ضمير قلبه وذلك جائز ، كما قال تعالى : وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [ الجن : الآية 19 ]
أي يدعو اللّه . وقوله « فهو قلبه » أي ذلك المجعول يصير حينئذ لفظ قلبه .
والمعنى :
المكنى عنه أن النفس إذا زال قلبها ، أي ما فيها من الأمر بالسوء ، وتبدلت وساوسها بالإلهام بأن جعلت متأخرة عن دعاويها الباطلة ، وتبعت أمر ربها ظاهرا وباطنا فنفسه حينئذ قلبه ، والقلب من أمر اللّه قال تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ ق : الآية 37 ] .
وقال قدّس اللّه سره ملغزا في لوزينج ، وهو طعام معروف وأصله معرب يكنى به عن زخرف الدنيا وهو متاعها العاجل :
 
اللغز الثامن عشر
قال ملغزا في: لوزينج
يا سيّدا لم يزل في *** كلّ العلوم يجول
ما اسم لشيء لذيذ *** له النّفوس تميل
 تصحيف مقلوبه في *** بيوت حيّ نزول
 
[ المعنى ]
قوله « يا سيّدا » خطاب للعالم الغافل عن معرفة ربه ، السيد في قومه لمناسبته لهم بغفلة نومه . وقوله « لم يزل في كل العلوم » أي الرسمية دون العلوم الحقيقية فإنها أذواق لا تسطر في الأوراق . وقوله « يجول » أي يطوف بعقله وفكره .
وقوله « ما » استفهامية مبتدأ وقوله « اسم » خبره .
وقوله « لشيء » الجار والمجرور صفة لاسم . وقوله « لذيذ » صفة لشيء .
وقوله « له النفوس » أي نفوس الخلق .
وقوله « تميل » أي تقبل عليه وتطلبه بحيث تؤثره على غيره .
وقوله « تصحيف مقلوبه » يعني إذا قلبت حروفه ثم صحفت بتغيير نقطها .
وقوله « في بيوت » أي تحت خيام الاستتار .
وقوله « حي نزول » فإنه مقلوب لوزينج بعد تصحيفه . فإن هذا الزخرف الدنيوي والمتاع العاجل إذا قلب وصحف يرجع إلى زينة اللّه التي أخرج لعباده قال تعالى : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [ الأعراف : الآية 32 ] الآية .
فإن المتحققين بذلك في بيوت حي نزول ولهم كمال القرب والوصول . اهـ .
 
اللغز التاسع عشر
وقال قدّس اللّه سره ملغزا في حسن :
ما اسم لما ترتضيه *** من كلّ معنى وصوره
تصحيف مقلوبه اسما *** حرف وأوّل سوره

« 296 »
[ الاعراب والمعنى ]
« ما » استفهامية مبتدأ . وقوله « اسم » خبره . وقوله « لما ترتضيه » أي تقبله يا أيها السالك وتحبه . وقوله « من كل معنى » أي أمر معنوي .
وقوله « وصوره » بسكون الهاء أي محسوس وهو كل حسن من معقول ومحسوس .
وقوله « تصحيف » أي تغيير النقط منه .
وقوله « مقلوبه » أي مقلوب ذلك الاسم وهو نسح وتصحيفه يسح بجعل النون ياء مثناة تحتية .
وقوله « اسما حرف » أي اسمان ، وحذفت النون لإضافته إلى حرف ، وهو حرف الحاء المهملة .
وقوله « وأوّل سوره » أي يس فإنها أول سورة من سور القرآن . اهـ .
 
اللغز العشرون
وقال رحمه اللّه من الوزن الذي يقال له دو بيت :
إن جزت بحيّ لي على الأبرق حي *** وأبلغ خبري فإنّني أحسب حي
قل مات معنّاكم غراما وجوى *** في الحبّ وما اعتاض عن الرّوح بشي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« إن » شرطية . و « جزت » بضم الجيم من جاز يجوز بمعنى مر . والتاء : للخطاب .
و « الحي » عبارة عن بطن من بطون العرب . و « الأبرق » على وزن أحمر موضع معروف .
و « حي » بعده فعل أمر من التحية ، وكان الواجب أن يقول فحيّ بالفاء لكن حذفت الفاء لضرورة الشعر . و « أبلغ » من باب الإبلاغ ، فقياسه أن تكون الهمزة للقطع لكن وصلها لضرورة الوزن .
ولو قال واذكر خبري لزال الإشكال لأن همزة اذكر للوصل في الأصل . وقوله « فإنني أحسب حي » « أحسب » مجهول يتعدّى إلى مفعولين الأول نائب الفاعل وهو الضمير المستتر وجوبا ، أي أحسب أنا . و « حي » مفعوله الثاني والوقوف عليه لغة ربيعة ، وإلا فالقياس حيّا ، أي أخبرهم بقصة موتي لئلا يستمروا على اعتقاد أنني حي فإنهم هكذا يظنونني ، أي قل أيها المخاطب « مات معناكم » .
والمعنّى : اسم مفعول والضمير في معناكم للمخاطبين الذين هم الحيّ . والمعنى عبارة عن المتكلم . و « غراما وجوى » مفعولان لما . جله من أمات أي مات لأجل الغرام والجوى .
وقوله « في الحب » قيد للغرام والجوى ، أي غرامه وجواه في الحب لا في غيره ، و « ما اعتاض عن الروح بشيء » أي ذهب هدرا وما اعتاض عن روحه لا بقرب ولا بوعد ولا بسعد .
وقوله « لي » متعلق بقوله حي الثاني أي حي لأجلي . و « على الأبرق » صفة حي أي بحي نازل على الأبرق .
والمخاطب في قوله جزت وحي وما بعدهما كل من يصلح للخطاب إذ ليس الخطاب لواحد بخصوصه . وفي البيت الجناس التام في حي وحي .

« 297 »
( ن ) : قوله إن جزت الخطاب للروح المنفوخ فيه من أمر اللّه . وقوله بحي ، كناية عن حضرة الأسماء الإلهية وتوجهات الصفات الربانية الرحمانية ، فإنها قبيلته التي نشأ منها وتربى في حجرها . وقوله لي من حيث أنه مظهر آثارها وموضع تجلي ليلها ونهارها .
وقوله على الأبرق ، صفة لحي . والأبرق الجبل الذي فيه لونان وكل شيء اجتمع فيه سواد وبياض فهو أبرق ، يكنى بالأبرق عن الوجود الحق الظاهر نوره على كل شيء ، ومروره به ظفره بتجليه وكشفه عنه .
وكون الأبرق له لونان لأنه جامع للأسماء والصفات الجمالية والجلالية ، وكونه جبلا لارتفاعه وعلوه عن مشابهة كل شيء . وقوله وأبلغ الخطاب للمخاطب الأول .
وخبري مفعول أبلغ ، أي إلى ذلك الحي المذكور بأن تظهر مني باستيلائك على ما هو مقتضى طبيعتي وتركبي ، فإن الروح تحكم على الجسد بحسب ما تقتضيه طبيعته .
وقوله أحسب ، أي يظنني من يراني من الناس . وقوله قل خطاب للمخاطب الأوّل وهو بيان لإبلاغ الخبر المذكور .
وقوله مات هو الموت الاختياري باليقظة من الحياة الوهمية وزوال الدعوى النفسانية .
وقوله وجوى بالتصغير ليناسب التصريع في قوله حي وشي . والجوى مقصورا الحرقة وشدّة الوجد من عشق أو حزن .
وقوله عن الروح ، أي عن آثار ظهوره في الجسد لبطلان الدعوى النفسانية وانكشاف التدبير الإلهي بالروح الآمري .
وقوله بشيء أي بأمر من الأمور الموجبة للاستقلال والتمتع بذي الجلال . اهـ .
 
وقال رضي اللّه عنه : عرج بطويلع
عرّج بطويلع فلي ثمّ هوى *** واذكر خبر الغرام وأسنده إلي
وأقصص قصصي عليهم وابك علي *** قل مات ولم يحظ من الوصل بشي
« عرج » فعل أمر من التعريج ، وهو أن تكون سائرا على طريق فتنزل من السير عليها مائلا إلى يمينك أو شمالك ، فيقال فلان عرج إلى يمينه أو شماله .
و « طويلع » بضم الطاء وفتح الواو وسكون الياء وكسر اللام ، اسم مكان فيه ماء ، فكأنه قال مل عن طريقك إلى جانب طويلع ، وعلل ذلك الأمر بقوله « فلي ثم هوى » أي ما طلبت منك التعريج إلى المكان المسمى بطويلع إلا لما فيه من الحبيب .
و « ثم » بفتح الثاء بمعنى هناك ، أي فلي في طويلع . و « هوى » بضم الهاء وفتح الواو وتشديد الياء تصغير هوى .
والمراد منه هنا المهوي أي المحبوب كما نص عليه المحققون في قول الشاعر هواي مع الركب اليمانين البيت فإنهم أجمعوا على أن المراد بهواي من يهوى أي مطلوبي ومن أحبه .
قوله « واذكر » فعل أمر مضموم الكاف معطوف على حيّ . « وخبر

« 298 »
 
الغرام » مفعوله ومضاف إليه . وقوله « وأسنده إليّ » فيه وصل الهمزة وهي همزة قطع لأنه من باب أسند يسند إسنادا لكن يغتفر ذلك للضرورة ، ولو قال واذكر خبر الهوى وأسنده إليّ لما احتاج إلى وصلها . والضمير في أسنده يعود إلى الخبر . قوله « وأقصص » هو بضم الصاد الأولى وسكون الثانية .
و « قصصي » يروى بكسر القاف جمع قصة وهو الخبر المقصوص ، ويروى بفتح القاف على أنه مفرد أي قصصا بمعنى خبرا مقصوصا ، و « عليهم » متعلق بالفعل . « وابك » أمر بكسر الكاف والكسرة علامة على الياء المحذوفة . و « علي » متعلق به .
ثم بين ما يريد من المخاطب أن يقصه ، وأن ليس له منه سوى هذه الحصة . « قل مات » محبكم . « ولم يحظ » بضم الياء على أنه مجهول من الحظوة وهو السعد ، أي مات حال كونه غير متصف من آثار الوصال بشيء لا بكثير ولا بقليل ولا بوعد ولا بتعليل .
 
( ن ) : الخطاب في قوله عرّج للمخاطب أوّلا في البيتين قبله . وقوله بطويلع ماء لبني تميم بناحية الصمان ، وركية عاديه بناحية الشواجن عذبة الماء قريبة الرشاء ، كذا في القاموس كنى عن الوجود الحق أوّلا بالأبرق وهو الجبل العالي المرتفع لتنزهه وتقدّسه ، وكنى عنه هنا بطويلع بصيغة التصغير ، وهو البئر العذبة الماء القريبة الرشاء لقرب المدد منه بأدنى عمل صالح . وقوله فلي ثم هوى ، يعني لي هناك محبة وشوق شديد لذلك الجناب الفريد . وقوله واذكر خبر الغرام ، أي حديث المحبة الإلهية .
 
وقوله قصصي ، أي وقائعي وأحوالي في طريق المحبة ، وما أقاسيه من المشقات والأتعاب . وقوله عليهم بكسر الميم لاستقامة الوزن والضمير لحضرات الأسماء الإلهية المؤثرة في العوالم الكونية . وذكر هذه القصص لهم على طريق الدعاء وعرض الحال طمعا في القرب والوصال . وقوله وابك علي ، أي أظهر الحزن والتأسف .
 
وقوله قل مات ، أي الموت الاختياري كما قدمناه . وقوله ولم يحظ ، أي لم يفز الواو للحال ، والجملة حال من فاعل مات ، وهو ضمير معناكم في البيت قبله . وحظي كرضي من الحظوة بالضم والكسر والحظة كعدة المكانة والحظ من الرزق . وقوله من الوصل ، أي وصل محبوبه الحقيقي لبعد المناسبة بينهما . وقوله بشيّ ، أي بشيء من ذلك . اه .
 
اللغز الحادي والعشرون
وقال رضي اللّه عنه : إن جزت بحي
إن جزت بحيّ ساكنين العلما *** من أجلهم حالي كما قد علما
قل عبدكم ذاب اشتياقا لكم *** حتّى لو مات من ضنا ما علما

« 299 »
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « إن جزت » المصراع بحيّ منوّن . و « ساكنين » صفته ، ويجوز إضافة حي إلى ساكنين . و « العلما » بفتح العين موضع والألف للإطلاق . و « من أجلهم » بكسر الميم مع الإشباع . والعلم مفعول ساكنين ولذلك لم تحذف نون الجمع .
وقوله من أجلهم : متعلق يعلم في آخر البيت ، وهو ماض مبني للمجهول . و « حالي » مبتدأ ، و « الكاف » للتشبيه . و « ما » عبارة عن الحال أي حالي الآن مثل حالي الذي قد علم فيما مضى . والجار والمجرور خبر المبتدأ . وجملة علم صلة الموصول والألف في الفعل أيضا للإطلاق .
وجملة من أجلهم حالي كما قد علما : معترضة بين الشرط وجزائه ، فإن الجزاء قل على حذف الفاء الرابطة . و « عبدكم » مبتدأ . و « ذاب » فاعله مستتر فيه يعود إلى عبدكم . و « اشتياقا » مفعول لأجله . و « لكم » متعلق به لكونه مصدرا . والجملة الفعلية خبر والكبرى في محل نصب مفعول القول .
وقوله « حتى » ابتدائية . والجملة الشرطية بعدها مستأنفة لا محل لها من الإعراب . واعلم أن « علما » الواقع في آخر البيت الثاني مبني للمعلوم ولا يصح أن يكون مبنيا للمجهول للزوم التكرار .
فإن قوله كما قد علما مبني للمجهول ، فلو قرأت الأخير كذلك للزم التكرار في لفظ واحد وهو غير صحيح ، فالواجب أن يكون الفعل الأخير علم على البناء للمعلوم ، ويكون الفاعل ضمير عبدكم ، ويكون معناه حينئذ في غاية الاستقامة إذ يصير المعنى حتى أنه وصل في اضمحلال جسده إلى مرتبة هي أنه لو مات من الضنى والسقم ما علم هو بموت نفسه لأنه قد اضمحل جسده وذاب كبده ، فصار بمنزلة الخيال الذي لا حقيقة له ، ومن كان كذلك فلا يحس بحصول الموت عند وجود الفوت .
ولا يخفى الجناس في العلم بفتح العين واللام وعلم بضم العين وكسر اللام فتأمل .
 
( ن ) : قوله إن جزت بفتح التاء والمخاطب هو من تقدم ذكره ، وتنكير حي لتعظيمه أي قبيلة من العرب .
كناية عن حضرات الأسماء والصفات وكانوا عربا من العروبة الكشف والبيان .
وقوله العلما بالتحريك الجبل الطويل أو كل جبل كناية عن حضرة الوجود الحق لقيام الأسماء والصفات به فهي تسكنه .
وقوله كما قد علما بالبناء للمفعول ، أي علمه الناس واشتهر . وقوله قل عبدكم بضم الميم للوزن .
وقوله ذاب ، كناية هنا عن ظهور تجدده له مع الأنفاس فإنه خلق اللّه قائم بأمر اللّه فذوبانه انكشاف أمره له .
وقوله لكم بضم الميم للوزن الخطاب للحضرات المذكورة .
وقوله حتى لو مات ، أي هلك بحكم قوله تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : الآية 88 ]
وقوله من ضنا ، أي سقام زائد في مقاساة المحبة الإلهية . وقوله ما علما ، أي ما

« 300 »
 
درى هو بنفسه أنه مات ، فإن الميت بالموت الاختياري لا يشعر بنفسه أنه ميت لعدم بقاء الشاعر منه وهو نفسه . اهـ .
 
اللغز الثاني والعشرون :
أهوى قمرا له المعاني رقّ *** من صبح جبينه أضاء الشّرق
تدري باللّه ما يقول البرق *** ما بين ثناياه وبيني فرق
 
[ المعنى ]
« أهوى » بمعنى أحب من الهوى بمعنى المحبة . وقوله « له المعاني رق » أي معاني الحسن رق له أي مملوكة له . فالرق بمعنى المرقوق . قوله « من صبح جبينه » الإضافة بيانية أي الصبح الذي هو جبينه . و « الشرق » بفتح الشين أي جانب الشرق ، أي أضاء جانب الشرق من صبح جبين ذلك القمر الذي جميع معاني الحسن مملوكة لحسنه . « تدري » مضارع على حذف أداة الاستفهام ، أي أتدري باللّه ما يقول البرق .
وفسر « ما يقول البرق » بقوله « ما بين ثناياه » . و « بيني فرق » وما نافية أي لا فرق بيني وبين ثناياه لما بيني وبينها من النسبة في الإضاءة وفي الإبراق والإشراق . وما ألطف ذكر الفرق مع ذكر الثنايا فإنه يقال فلان أفرق أي بين ثناياه تفارق ليست متصلة متصافة .
والفرق أيضا بمعنى المفارقة وهو المراد هنا . ويصح على بعد أن تكون ما موصولة فتأمل .
 
( ن ) : قوله قمرا تنكيره للتعظيم وفي الحديث « إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر » وهو ظهوره تعالى متجليا عليهم بنفوسهم منزها عنها وعن مشابهة كل شيء .
وقوله له المعاني رق ، أي في ملكه يتصرّف فيها كيف شاء .
والمعاني جمع معنى ، وهو ما تتخيله النفوس بقوة خيالها ، والعلوم الحادثة كلها معان ، وربما يراد بالمعاني ما ليس له قيام بنفسه سواء كان عرضا أو جسما .
وقوله من صبح جبينه الكناية هنا بالجبين إلى طرف من الوجه وهو انحرافه إلى المعلومات الكونية ، فإنه نور حق يظهر به كل مستور في ظلمة العدم من الممكنات ، وجعله صبحا لانكشافه في ظلمة الكون العدمية .
وقوله أضاء الشرق أي عالم الكون فإنه كله مشرق بالوجود الحق ولا وجود إلا وإشراق وجوده من فائض كرمه وجوده . تدري بحذف همزة الاستفهام ، والخطاب لكل سالك في طريق اللّه تعالى . وقوله باللّه ، أي أقسم عليك باللّه . وقوله ما يقول البرق ، أي الشيء الذي يقوله البرق ، وهذا القول نطق يسمعه العارف باللّه تعالى كما قال سبحانه : أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [ فصّلت : الآية 21 ]
ولهذا أقسم عليه باللّه أن يصدقه فيما يخبر عن نفسه ، فإن النطق عندنا ليس من شرط اللسان ، والبرق كناية عن الأمر الإلهي الظاهر بصور الخلق .
وقوله ما بين

« 301 »
ثناياه ، أي ثنايا ذلك القمر المذكور ، والثنايا جمع ثنية ، وهي من الأضراس الأربعة التي في مقدم الفم ثنتان من فوق وثنتان من أسفل . يكني بذلك عن الصفات الأربع الإلهية الحياة والعلم والقدرة والإرادة أركان الإيجاد الكوني ، فالحياة فوقية تطبق على القدرة سفلية ، والعلم فوقي يطبق على الإرادة سفلية ، والأسماء الأربعة الحي العالم القادر المريد ، والكلام الإلهي هو الذي يكشف عن ذلك بظهور الكلمات الطيبة وغيرها كما ورد في الحديث القدسي : « عطائي كلام ومنعي كلام فإذا أردّت شيئا أقول له كن فيكون » .
وقوله وبيني ، أي بين البرق المكنى به عن الأمر الإلهي . وقوله فرق ، أي مغايرة ومباينة .
يعني أن هذا قول البرق لأنه من آيات اللّه تعالى المشيرة إلى ظهور نور وجوده بأسمائه الحسنى على صفحات الآثار الكونية بمقتضى الأمر الإلهي الذي هو كلمح بالبصر . اهـ .
""قال الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي عن حضرة خلق آدم ونفخ الروح فيه :
فلله قوم في الفراديس مذ أبت ... قلوبهم أن تسكن الجو والسما
ففي العجل السر الذي صدعت له ... رعود اللظى في السفل من ظاهر العجى
وأبرق برق في نواحيه ساطع ... يجلله من باطن الرجل في الشوى
فأول صوت كان منه بأنفه .... فشمته فاستوجب الحمد والثنا
وفاجأه وحي من الله آمر ... وكان له ما كان في نفسه اكتمى
فيا طاعتي لو كنت كنت مقربا ... ومعصيتي لولاك ماكنت مجتبى
فما العلم إلا في الخلاف وسره ... وما النور إلا في مخالفة النهى . آهـ. ""
 
اللغز الثالث والعشرون
وقال رضي اللّه عنه : ما أحسن الصدغ
ما أحسن ما بلبل منه الصدغ *** قد بلبل عقلي وعذولي يلغو
ما بتّ لديغا من هواه وحدي *** من عقربه في كلّ قلب لدغ
[ الاعراب والمعنى ]
« الصدغ » ما بين العين والأذن . و « بلبل » بالبناء للمجهول . و « بلبل عقلي » الفعل فيه للبناء للفاعل ، ومعناه قد أحزن قلبي مأخوذ من البلبال ، وهو بمعنى الحزن ، وكان الأليق أن يقال قد بلبل قلبي لأن الحزن للقلب لا للعقل اللهم إلا أن يكون المراد قد بلبل عقلي أي صيّره في الحب والعشق كالبلبل ، وهو طائر مشهور بحسن الصوت ولطف النغم وزيادة العشق للورد . و « الواو » في وعذولي للحال . و « يلغو » مضارع لغا أي نطق باللغو ، واللغو كلام لا معنى له أو لا طائل تحته . « قال ما بت لديغا » هو بالدال المهملة والغين المعجمة من لدغ ذوات السموم . قوله « من عقربه » أي من عقرب الصدغ ، فإن الصدغ دائما يشبه بالعقرب . وقوله « في كل قلب لدغ » أي لسع .
وأما اللذع من نحو النار فهو بالذال المعجمة والعين المهملة يقال لذعته النار أي أصابته .
( ن ) : قوله منه ، أي من المحبوب المكنى عنه بالقمر قبله . وقوله الصدغ بالضم ما بين العين والأذن والشعر المتدلى على هذا الموضع ، والمعنى هنا على الثاني بدليل البيت الثاني ، ويسمى باسم العقرب لسواده في بياض موضعه ، والإشارة به هنا إلى عالم الكون لتدليه من الوجود الحقيقي وهو مشعر به من حيث هو شعر . وقوله من هواه ، أي الصدغ المذكور .
وقوله من عقربه ، أي الصدغ المذكور أيضا المكنى به عن


 
« 302 »
عالم الكون قال تعالى : وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [ آل عمران : الآية 185 ]
وقال تعالى : إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 15 ) [ التّغابن : الآية 15 ] .
وقوله في كل قلب لدغ وهي فتنة الدنيا عند الغافلين المحجوبين عن الحق تعالى ، وفتنة المحبة الإلهية والعشق الرباني عند العارفين باللّه تعالى أهل الكشف والشهود . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح تتمّة قصائد ومقاطع للشيخ رضي الله عنه .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:51 pm

شرح تتمّة قصائد ومقاطع للشيخ رضي الله عنه .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح تتمّة قصائد ومقاطع للشيخ رضي الله عنه
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
شرح تتمّة قصائد ومقاطع للشيخ رضي الله عنه
وقال رضي اللّه عنه : ما جئت مني
ما جئت منى أبغي قرى كالضّيف *** عندي بك شغل عن نزول الخيف
والوصل يقينا منك ما يقنعني *** هيهات فدعني من محال الطّيف
 
[ المعنى ]
هذا البيت من معنى ما يقوله أرباب التحقيق من المتأهلين ، وذلك أنهم دائما يقولون نحن نريد صاحب البيت ، والحاج يريد البيت .
فلذلك قال « ما جئت منى » يريد وادي منى بكسر الميم « أبغي » أي أريد . « قرى » بكسر القاف أي ضيافة كما يريد الضيف ، وبين أنه مشغول بصاحب البيت عن نزول الخيف . و « الخيف » في أصل اللغة ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل . وما قالوا مسجد الخيف إلا لأنه في سفح الجبل وهو في منى أيضا .
فلذلك قال عندي بك يا حبيبي شغل عظيم شاغل عن نزول الخيف . فالمقصود ذاتك لا خيال الطيف .
قال « والوصل يقينا » أي بطريق اليقين والتحقيق . « ما يقنعني » منك . فالوصل : مبتدأ ، وجملة ما يقنعني :
خبره . و « منك » متعلق بيقنعني . و « يقينا » حال من فاعل يقنعني ، أي والوصل ما يقنعني منك حال كونه يقينا . وفاعل هيهات مدلول عليه بالقرينة ، أي هيهات إقناع غير الوصال حيث كان الوصال غير مقنع . والفاء في قوله فدعني فصيحة أي إذا كنت تعلم أن الوصال بطريق اليقين غير مقنع لي منك فدعني واتركني حينئذ .
« من محال الطيف » أي من الطيف المحال الذي لا حقيقة له وإنما هو خيال محض .
ولذلك يروى في بعض النسخ هيهات فدعني من خيال الطيف . والطيف هو الخيال الطائف . قال :
وإن اكتفى غيري بطيف خياله * فأنا الذي بوصاله لا أكتفي
 
( ن ) : قوله منى هنا كناية عن مقام الأفعال الإلهية ، وهي آثار الأسماء الربانية يظهر فيها الحق الوجود تعالى في صورة كل شيء ، وذلك باب الحضرة يطرد منه من يطرد بسوء الأدب ، ويؤذن بالدخول فيه لمن يؤذن له بالأدب الشرعي ، ويسن البيات فيها ليلة عرفة لأن صبحها الوقوف بالعرفان على الحقيقة الإلهية في الحج الرحماني .
وقوله عندي بك ، أي بالقيام بأمرك . وقوله شغل ، أي اشتغال . وقوله عن نزول

« 303 »
 
الخيف ، أي الهبوط من شهود وحدتك إلى كثرة آثار أسمائك وصفاتك .
يكني بالخيف عن الصور الكونية في الحس والعقل . وقوله منك الخطاب للمحبوب المذكور .
وقوله ما يقنعني ما نافية ، يعني لا أقنع بالوصال لأنه يقتضي انفصالي عن حضرة المحبوب الحقيقي لضرورة حظ النفس من التمتع باللقاء والفرح بالاجتماع .
 
وقوله من محال الطيف ، أي الطيف المحال . والطيف هنا كناية عن صورة المحبوب التي يراها النائم ( والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ) كما في الأثر فيرون الصور . اهـ .
وقال رضي اللّه عنه : لم أخش وأنت ساكن أحشائي أن أصبح عنّي كلّ خلّ نائي فالنّاس اثنان واحد أعشقه والآخر لم أحسبه في الأحياء
 
[ الاعراب والمعنى ]
« لم أخش » لم أخف ، مجزوم بحذف الألف مسند إلى ضمير المتكلم . وجملة « وأنت ساكن أحشائي » من واو الحال والمبتدأ والخبر ومفعوله جملة حالية . أي لم أخف في هذه الحالة .
« أن أصبح » « أن » مفتوحة الهمزة على أنها مصدرية .
و « أصبح » يرفع وينصب « 1 » . و « كل » اسمها مضاف إلى خل . و « نائي » خبرها ، وقياسه نائيا فسكن للضرورة .
و « عني » متعلق بنائي . وأن مع أصبح في تأويل مصدر والمصدر مفعول لم أخش .
أي لم أخف بعد كل خليل وأنت في داخل أحشائي ، وعلل ذلك بقوله « الناس اثنان » أي قسمان : قسم أعشقه وأحبه ، وما عداه وهو القسم الثاني منزل عندي منزلة العدم فلا أحسبه قد خلق ولا أظنه داخلا في سلك الأحياء .
 
( ن ) : قوله وأنت ساكن أحشائي الخطاب للمحبوب الحقيقي ، وكونه ساكن أحشائه لأنه محيط به من جميع جهاته . وقوله عني كل خل نائي ، أي بعيد وإنما تبعد عنه الأخلاء إنكارا منهم لحالته التي هو متحقق بها ، وهي إحاطة الحق تعالى به ظاهرا وباطنا عن كشف منه وشهود ، وهم غافلون عن حالته محجوبون عنها بنفوسهم القائمين بها يظنون أنهم مستقلون دون الحق تعالى ، وأنهم على الحق وهو على الباطل فيفرون من كلامه في ذلك ، ويتباعدون عنه حتى يرجع إلى حالهم الذي هم فيه .
وقوله واحد أعشقه ، أي أحبه حبّا مفرطا وهو صاحب الجمال الإلهي المشرق على باطنه بالعلوم الإلهية والمعارف الربانية ، وعلى ظاهره بالعبارات الشرعية والأخلاق المحمدية ، وهم أصحاب المقامات العالية والمراتب السامية يعشقهم لتشرق
..........................................................................................
( 1 ) قوله : يرفع وينصب أي يرفع الاسم وينصب الخبر كما هو ظاهر .


 
« 304 »
 
عليه أنوارهم وتضيء له بمتابعته أسرارهم . وقوله والآخر ، أي القسم الآخر أو الشخص الآخر . وقوله لم أحسبه في الأحياء لموت قلبه عن معرفة ربه ، وهو المحجوب بالقيام بنفسه المحروم عن مناجاة ربه وعن لطائف أنسه المشغول بمشاهدة أحوال الخلائق المطموس البصيرة بتراكم الموانع على قلبه والعلائق ، فهو ميت في صورة حي ، ورشاده لمن تحقق به غي ، وكلا عالميه تعب وعي . اهـ .
 
وقال رضي اللّه تعالى عنه : روحي للقاك يا مناها اشتاقت والأرض عليّ كاحتيالي ضاقت والنّفس فقد ذابت غراما وأسى في جنب رضاك في الهوى ما لاقت
 
[ المعنى ]
روحي اشتاقت إلى لقاك يا منى النفس ، بضم الميم ويا مطلوبها . ومن طبع الإنسان الاشتياق إلى مطلوبه والأرض ضاقت عليّ كما ضاقت حيلتي .
وإنما كانت الأرض ضيقة عليه لوجود الحيرة والدهشة في المحبة فهو لا يدري أين يذهب ، وحيث انسدت عليه المذاهب فهو لا يدري أين يذهب وقد قلت من جملة قصيدة :
من أين لي سبب أسلو هواك به * واحسرتي لم تدع حولي ولا حيلي
 
قوله « والنفس فقد » أي أقول تقرير الكلام الروح والنفس لهما في هواك حال أريد أشرحها . فأما الروح فإنها اشتاقت إلى لقائك يا مطلوبها ، وأما النفس فقد ذابت لأجل الغرام والعشق ولأجل الأسى والحزن .
وما ألطف جعل الروح مشتاقة والنفس ذائبة لأن الروح عند المتألهين من قبيل الجوهر ، فالمناسب لها الشوق والذوق والتوق .
وأما النفس فهي عندهم قريبة من الأجسام فهي صالحة لأن تذوب كما يذوب الشمع .
قوله « في جنب رضاك في الهوى ما لاقت » أي لم تكن تليق مع ذوبانها في محبتك لأن تدخل في جنب رضاك لكونه عزيز الوجود ، ويصح أن تكون ما موصولة ، ولاقت بمعنى لقيت ، أي وجدت ، فيصير المعنى الذي لاقته من العذاب بحيث ذابت في نار المحبة لأجل رضاك بل لأجل جانب رضاك . والأول أقرب إلى الفهم .
 
( ن ) : قوله روحي ، أي المنفوحة فيه من أمر اللّه تعالى . وقوله للقاك أصله للقائك بالهمزة الممدودة فقصر للوزن . والخطاب للمحبوب الحقيقي .
وقوله اشتقات ، أي روحي المذكورة . وقوله ضاقت ، أي الأرض من حيث الحس كما ضاق احتيالي من حيث العقل ، فالضيق شامل لظاهري وباطني ، وذلك بسبب الاشتياق الملازم لروحه الآمرية إلى الحضرة المحبوبية .
وقوله والنفس ، أي ظهور الروح في عالم

« 305 »
 
الطبيعة بقواها النافذة في الجسد السوي المدبرة له ظاهرا وباطنا ، وهذا هو الفرق بين الروح والنفس . وقوله فقد الفاء في جواب أما المقدرة ، وتقديره وأما النفس فقد .
وقوله ذابت ، أي اضمحلت شيئا فشيئا بأن تجردت عن علائقها البشرية وموانعها الطبيعية فصارت روحا كما كانت في أول أمرها .
وقوله في جنب رضاك ، أي في طرف وجانب من رضاك . والخطاب للمحبوب الحقيقي .
وقوله في الهوى ما لاقت ، أي الذي لاقته أي وجدته ، وهو ما يجده المحب من مقاساة الشدائد . وفاعل لاقت ضمير عائد إلى النفس يعني حيث أنت راض فكل صعب سهل ولكل مقام أهل . اهـ .
 
وقال رضي اللّه عنه :  
أهوى رشا كلّ الأسى لي بعثا *** مذ عاينه تصبّرى ما لبثا
ناديت وقد فكرت في خلقته *** سبحانك ما خلقت هذا عبثا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« أهوى » على وزن أرضى بمعنى أحبّ ، من الهوى المقصور الذي هو بمعنى المحبة . و « الرشا » محرك مهموز الآخر ، ولد الظبية . و « كل » بالنصب مفعول مقدم لبعث . و « بعث » أرسل ، والألف للإطلاق . و « لي » متعلق به . و « مذ عاينه » أي شاهده من المعاينة . و « تصبرى » فاعل عاينه . و « ما لبث » أي ما توقف صبري وقت معاينته له .
وفي الإتيان بالتصبر هنا دون الصبر إشارة إلى أن ما بقي عنده تصبر متكلف ، وإلا فالصبر الحقيقي لم يبق لديه ، ومع ذلك بادر بالذهاب عند معاينة عين الأحباب .
 
« ناديت وقد فكرت في خلقته » الواو في وقد واو الحال ، وفسر نداءه بقوله « سبحانك ما خلقت هذا عبثا » .
و « سبحانك » تنزيه له تعالى عن أن يخلق هذه الصورة الجميلة عبثا بغير حكم وبغير فائدة ، وليس في الجملة حرف نداء فمعنى « ناديت » حينئذ أعليت صوتي بقولي سبحانك إلى آخره ، لأن من شأن المنادي أن يعلي صوته .
والعبث على اللّه تعالى محال فهو منزه عنه ، وفي القرآن : رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ [ آل عمران : الآية 191 ] .
وفي كلامه جناس القلب بين بعث وعبث .
( ن ) : يكني بالرشا هنا عن الصورة الكاملة التي يتجلى بها الحق تعالى فإنها عرض لا يبقى يظهر بها الوجود الحق لمحة ، ويختفي بها لمحة عن كشف منها لها وشهود ، وهو الإنسان الكامل المتصف بالجمال الذاتي من حيث أنه العالم العامل ، وهذا الجمال لا يدركه إلا العارف بربه المتحقق بمراتب قربه .
وقوله عاينه أي رآه ، والضمير للرشا المذكور . وقوله تصبري هو تكلف الصبر .
وقوله في خلقته ، أي خلقة ذلك الرشا المكنى به عمن ذكرنا ، وإنما جعله رشأ لأن النفار من شأن الرشا ،

« 306 »
 
والمكنى به عنه ينفر من الناس بباطنه ، وقد ينفر بظاهره أيضا لشهود العارف نفسه ظاهرها وباطنها قائمة بأمر اللّه الذي هو كلمح بالبصر . وقوله سبحانك ما خلقت هذا عبثا .
يشير إلى معنى قوله تعالى : رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [ آل عمران : الآية 191 ] . اهـ .
 
وقال رضي اللّه عنه :
يا ليلة وصل صبحها لم يلح *** من أوّلها شربته في قدحي
لمّا قصرت طالت وطابت بلقا *** بدر محني في حبّه من منحي
 
[ المعنى ]
اعلم أن من عادة العشاق أنهم يصفون ليلة وصلهم بالقصر وليلة هجرهم بالطول ، وهذه عادة لهم مستمرة على الدوام . والشيخ خالف العادة المذكورة في هذا البيت ، وذلك بتخييل أن الشراب يشبه بالشمس وبالصبح ، وأنه لما ملأ قدحه وشربه كان كمن شرب الصبح في قدحه ، فلذلك قال « صبحها لم يلح » وعلل ذلك بقوله « من أولها شربته في قدحي » .
ثم إنه عدل إلى تحقيق ما عليه القوم فقال « لما قصرت طالت » أي لما قصرت في النظر طالت في النفع ، وفي المعنى بكثرة المحاسن فهي قصيرة في الخيال وطويلة في النوال .
فلذلك قال « لما قصرت طالت وطابت بلقا بدر » ، اللقا مضاف إلى بدر . ووصف البدر بقوله « محني في حبه من منحي » .
المحن جمع محنة بكسر الميم ، وهي البلية والعياذ باللّه تعالى . والمنح جمع منحة وهي العطية .
والمحن مبتدأ ، وخبره من منحي . والجملة صفة بدر .
وفي البيت الثاني الطباق بين قصرت وطالت ، والجناس اللاحق بين طالت وطابت ، وفيه الجناس المقلوب بين محني ومنحي .
 
( ن ) : قوله يا ليلة وصل كناية عن ليلة نشأة الأكوان جميعها عوالم السماوات وعوالم الأرض فإن الجميع نشأة واحدة ، وهي كلها ظلمة لفنائها في نور وجود الحق تعالى ، وكونها ليلة وصل لأن المحبوب الحقيقي معانق وممتزج بكل شيء منها معانقة وجود حق لعدم صرف ،
وامتزاج موجود حقيقي لمعدوم حقيقي فلا معانقة ولا امتزاج لأن ذلك كله محال ،
وهو أمر محقق عند العارف به حاصل من الأزل إلى الأبد غير أنه تعالى يقلب القلوب والأبصار لأنه مالكها ، فإذا شاء تجلى وانكشف لمن يشاء ، وإذا شاء استتر واحتجب عمن شاء .
 
وكان الناظم قدس اللّه سره ممن شاء تعالى التجلي والانكشاف له كأمثاله من العارفين ، فلهذا قال يا ليلة وصل وهي ليلة القدر التي نزل فيها القرآن على نبينا صلى اللّه عليه وسلم بالوحي الجبرائيلي الذي كان ينزل على الأنبياء قبله

« 307 »
عليهم السلام .
وقوله صبحها ، أي صبح تلك الليلة وهو نورها الذي يظهر فيها فيمحوها ويفني ظلمتها وهو نور وجود الحق تعالى من قوله سبحانه : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ النّور : الآية 35 ]
وقوله لم يلح ، أي لم يظهر ولم ينكشف للكل فيشهدونه لأنه لا يظهر إلا يوم القيامة لجميع الخلق .
وقوله من أولها ، أي من ابتداء خلق هذه الليلة المذكورة وأول تقديرها الأزلي في حضرة علم اللّه تعالى ، وتوجه إرادته الأزلية وحضرة كلامه القديم . وقوله شربته ، أي ذلك الصبح الذي هو نور الوجود الحق الذي من أسمائه هو ،
كما قال تعالى : هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [ الحشر : الآية 22 ] الآية .
وقال تعالى : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( 1 ) [ الإخلاص : الآية 1 ]
إلى غير ذلك والكناية بشربه أنه تعالى غيب محيط به ،
كما قال تعالى : وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ ( 20 ) [ البروج : الآية 20 ] وأيضا الصبح من أسماء الخمرة .
وفي الكلام الاستخدام ، وهو من أنواع البديع باستعمال الصبح في أحد معنييه ثم إرجاع الضمير إليه بالمعنى الآخر .
وقوله في قدحي أي في صورتي المحيط بها تعالى من حيث ظاهرها وباطنها .
قال تعالى : إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ [ فصلت : الآية 54 ]
لا على معنى الحلول والاتحاد ، فإن ذلك محال عليه تعالى لفناء كل شيء بالنسبة إلى وجوده الحق وانعدام كل شيء بالنظر إليه تعالى ،
كما قال سبحانه : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : الآية 88 ]
وفي ذكر القدح مناسبة لقوله شربته يعني الخمر المسمى بالصبح ففي الكلام مناسبة الظاهر والباطن .
وقوله لما قصرت ، أي ليلة الوصل وقصرها بالنسبة إلى وجدان المحب العاشق ، فإنه يجد الليلة الطويلة قصيرة لكثرة لذته بلقاء محبوبه ، فهي قصيرة جدا لأن نهايتها أن ترجع النفس واحدة والروح واحدة .
قال تعالى : وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [ آل عمران : الآية 30 ]
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [ آل عمران : الآية 28 ]
فنفسه نفسهم وهو رؤوف بهم وإليه مصيرهم . وما قلناه إنما يكون بعد فناء نفوسهم في نفسه وموتها في حياته على الكشف والشهود .
وقال تعالى عن أبينا آدم فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ الحجر : الآية 29 ] الآية .
فالروح واحدة كما أن النفس واحدة فإذا وصل المحب العاشق إلى التحقق بذلك لم يبق له نفس ولا روح ولا محبة ولا عشق ، وهذا معنى قصر ليلة الوصل .
وقوله طالت ، أي تلك الليلة يعني بعد قصرها بوجود نفس المحب العاشق ، ووجود روحه انكشف له أنها طويلة طولها من الأزل إلى الأبد فلا انقضاء لها ولا انصرام ، كما أنه لا بداية لها ولا افتتاح لرجوع الأمر كله إليه تعالى .
ثم بيّن معنى قصرها ومعنى طولها بقوله وطابت بلقا بحذف الهمزة لضرورة الوزن ،

« 308 »
 
وطيبها باللقاء في حال طولها أكثر من طيبها في حال قصرها ، لأن في حال قصرها في نفس المحبّ العاشق بقية لها هو محب وعاشق ولذته مع المغايرة لذة كونية قليلة ، وفي حال طولها البقية للّه لا لسواه ، كما قال تعالى : بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ [ هود : الآية 86 ]
فاللذة أعظم ، والمقام أفخم ، وهو الطيب الدائم والنعيم اللازم ، والحاصل أن قصرها باعتبار وجود المحب العاشق سبب لطولها باعتبار فنائه وانمحاقه ، فهو تارة فان وتارة باق .
 
وليلة الوصل تارة قصيرة منتجة للطول لكثرة أعماله الصالحة فيها ، وتارة طويلة وهكذا حال الكاملين .
وقوله بدر من قوله صلى اللّه عليه وسلم : « إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر » .
وقوله محني في حبه من منحي ، الضمير في حبه للبدر المذكور ، والمعنى أن بلايا المحبة وشدائدها باعتبار هذا المحبوب الحقيقي منتجة للنتائج الفاخرة والعطايا الوافرة . اهـ .
 
وقال رضي اللّه عنه :
ما أطيب ما بتنا معا في برد  *** إذ لاصق خدّه اعتناقا خدّي
حتّى رشحت من عرق وجنته *** لا زال نصيبي منه ماء الورد
 
[ الاعراب والمعنى ]
« ما » هنا تعجبية . و « أطيب » فعل التعجب . و « ما » مصدرية . أي ما أطيب بياتنا معا أي مجتمعين . وقوله « في برد » متعلق بقوله بتنا . و « إذ » ظرف لما مضى . و « خده » بالرفع فاعل لاصق .
و « اعتناقا » مفعول مطلق على حذف مضاف ، أي ملاصقة اعتناق ، أو هو تمييز أي لاصق خده خدي من جهة الاعتناق . و « حتى » في قوله « حتى رشحت » ابتدائية وفيها معنى الغاية ، فإن ترشح العرق من وجنته غاية الملاصقة خدي لخده . و « وجنته » فاعل رشحت . و « من » زائدة . و « عرق » تمييز .
وما ألطف قوله « لا زال نصيبي منه ماء الورد » يذكر الورد . و « نصيبي » بياء النسبة منسوب إلى نصيبين ، وهي مدينة معروفة في ديار مصر « 1 » . و « زال » هذه ترفع الاسم وتنصب الخبر .
و « نصيبي » اسمها . و « ماء الورد » خبرها . وفيه إشارة إلى أن خده ورد وعرقه ماء ورد .
وما ألطف قول من قال :
قبّلت وجنته فألوى خدّه * خجلا ومال بعطفه الميّاس
..........................................................................................
( 1 ) قوله : في ديار مصر في القاموس وتقويم البلدان لأبي الفداء واللفظ الثاني نصيبين قاعدة ديار ربيعة وهي مخصوصة بالورد الأبيض ولا يوجد بها وردة حمراء الخ . وبهذا تعلم ما في كلام الشارح . اه . مصححه .


 
« 309 »
 
فانهل من خديه فوق عذاره * عرق يحاكي الطل فوق الآس
فكأنني استقطرت ورد خدوده * بتصاعد الزفرات من أنفاسي
 
( ن ) : قوله ما أطيب ما بتنا ، أي ما أطيب بياتنا ، أي دخولنا في بيت الظلمة الكونية من حيث تجليه بها . وقوله معا ، أي أنا وإياه يعني المحبوب الحقيقي .
وقوله في برد هو كناية هنا عن النشأة الإنسانية والصورة الآدمية ظاهرا وباطنا ، ويعني بذلك نفسه وكونهما معا لأنه مخلوق مقدر قائم بخالق قدره من العدم وظهر به من ورائه محيط ، وكل منهما عالم بالآخر بعلم واحد ولا حلول ولا اتحاد وقوله إذ لاصق ، معنى الملاصقة هنا كمال الاتصال بقيام الأثر بالمؤثر من غير توسط أثر لعدم تأثير الآثار في الاضطرار والاختيار .
وقوله خده ، أي المحبوب الحقيقي ، والإشارة هنا بالخد إلى الحضرة الاسمائية .
 
وقوله من عرق وجنته ، الوجنة كناية هنا عما توجه عليه من حضرات الأسماء الربانية فظهر أثرها فيه فإن كل اسم جامع لكل اسم من تحت حيطة ذلك الاسم المكنى عنه بذلك .
والعرق كناية عن لعلم الخاص الذي يفيده ذلك الاسم الجامع . وقوله منه ، أي من ذلك العرق . اهـ .
 
وقال رضي اللّه عنه :
أهوى رشا هواه للقلب غذا *** ما أحسن فعله ولو كان أذى
لم أنس وقد قلت له الوصل متى *** مولاي إذا متّ أسى قال إذا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« أهوى » على وزن أرضى بمعنى أحب . و « الرشا » محركة ولد الظبي ، وهو مبتدأ .
و « غذا » خبره . وغذا بكسر الغين المعجمة والذال المعجمة ما يتغذى به ويتقوت به .
 
و « للقلب » متعلق بقوله غذا . والجملة في موضع نصب على أنها صفة رشا ، والمراد بكون هواه غذاء للقلب يتقوت بالهوى والمحبة كما أن الجسم يتقوت بالأكل المحسوس ، ثم أتى « بما » التعجبية الدالة على كمال استحسان فعل ذلك الرشا ، ولو كان ذلك الفعل أذى لا نفعا .
قوله « لم أنس » أي ما نسيت هذه الحالة التي هي قوله « وقد » الواو للحال ، والجملة في محل نصب على أنها حال من فاعل أنس . وقوله « قلت » بضم التاء ضمير المتكلم . و « له » متعلق بقلت .
 
و « الوصل » خبر مقدم . و « متى » اسم استفهام مبتدأ مؤخر . و « مولاي » منادى .
و « إذا » ظرفية شرطية . و « مت » بضم التاء . و « أسى » تمييز أو مفعول من أجله .
وقوله قال إذا بكسر الهمزة على أنها إذا الظرفية الشرطية .
وفي قوله « إذا » شيء محذوف يدل عليه المقام أي إذا مت بتاء الخطاب أسى وحزنا استحقيت الوصال . كما قال في

« 310 »
 
التائية الصغرى :
هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا * من الحب فاختر ذاك أو خل خلتي
وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن * وها أنت حيّ أن تكون صادقا مت
ومعنى قوله قلت للرشا الوصل متى يكون يا مولاي ، أيكون الوصل إذا مت أسى ، فقال لي في الجواب إذا مت أسى كان ذلك الوصال مني .
فمقول قول الحبيب إذا مع ما يتبعه من اللفظ المقدّر كما شرحناه وأوضحناه .
وفي البيت الجناس المحرّف في أذى بفتح الهمزة في البيت الأول وإذا بكسر الهمزة في البيت الثاني .
 
( ن ) : كنى بالرشا عن الحضرة النافرة عن إدراك العقول كنفور الظباء في فلوات الإطلاق . وقوله غذا بالقصر وأصله ممدود ، ما يتغذى به من الطعام والشراب وكون هواه غذاء للروح لأن به تقويتها وزيادة نشاطها . وقوله فعله ، أي ما يفعل بمن يحبه .
 
وقوله ولو كان أذى ، أي ولو كان ما يفعله أمرا مكروها وضررا محضا ، يعني أن جميع أفعال هذا المحبوب الحقيقي حسنة عند محبه سواء كانت أفعالا ملائمة لمزاجه ، أو منافرة له نافعة له أو مضرة على أنها كلها نافعة له في نفس الأمر علم المحب بذلك أو لم يعلم
قال تعالى : وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ البقرة : الآية 216 ]
وقوله وقد قلت له ، أي لذلك المحبوب الحقيقي وذلك القول بلسان السر والمناجاة القلبية .
 
وقوله الوصل متى ، أي الاتصال بك والانقطاع عما سواك في أي وقت يكون . وقوله مولاي إذا مت بضم التاء ، أي بالموت الاختياري أو الاضطراري . وقوله قال ، أي المحبوب المذكور بلسان المناجاة السرّية .
وقوله إذا يعني إذا مت أسى بفتح التاء وهو اكتفاء ، إشارة إلى معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم : « إنكم لن تروا ربكم عز وجل حتى تموتوا » . اهـ .
 
وقال رضي اللّه تعالى عنه :
عيني جرحت وجنته بالنّظر *** من رقّتها فانظر لحسن الأثر
لم أجن وقد جنيت ورد الخفر *** إلّا لترى كيف انشقاق القمر
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الهاء » في وجنته للحبيب لكونه معلوما في الذهن معهودا فيه ، وهذه عادة البلغاء يرجعون الضمير الغائب إلى معهود في الذهن كأنه موجود فيه لا يفارقه
قال أبو العلاء :
هو الهجر حتى ما يلم خيال * وبعض صدود الهاجرين وصال

« 311 »
 
وقد خرّجوا على مثل ذلك قوله تعالى :إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ( 1 ) [ القدر : الآية 1 ]
والهاء في قوله من رقتها يعود إلى الوجنة . وقوله « فانظر لحسن الأثر » المراد من الأثر الإحمرار الحاصل من النظر لأن العاشق إذا نظر إلى المعشوق أوجب نظره حمرة في خد المعشوق ، وهي المسماة بحمرة الخجل .
وانظر : فعل أمر ، وهو يتعدى بنفسه ، لكنه قد يقال نظرت إلى زيد ، واللام هنا بمعنى إلى قوله « لم أجن » بكسر النون لتدل الكسرة على الياء المحذوفة من الجناية وهي التعدّي ، والمراد لم أجن على وجنة الحبيب بجرحها إلا لترى عيني ، أو لترى أنت أيها الناظر كيف ينشق القمر .
وصورة انشقاق القمر هنا أن النظر إلى الخد اللطيف يجرحه فإذا جرحه فكأنه انشق القمر .
 
قوله « وقد جنيت » من جنى الثمرة إذا قطفها ، فيقول ما تعدّيت بقطف ورد الخفر - والخفر بالتحريك الحياء - إلا لحكمة ، وهي أنك ترى صورة انشقاق القمر فتكون مصدّقا للمعجزة الصادرة منه .
ورأيت في نسخة صحيحة إلا لأرى فيكون فاعل الفعل ضميرا عائدا للمتكلم .
وفي البيت تلميح إلى معجزته صلى اللّه عليه وسلم . وقد كرّر الشعراء معنى المصراع الأول .
قال شهاب الدين العزازي من قصيدة :
خطرات النسيم تجرح خدي * ه ولمس الحرير يدمي بنانه
 
وقد قلت من قصيدة :
إذا شاهدت عيني لطافة خدّه * يكاد وحاشاه من اللحظ أن يدمى
 
وفي البيت جناس شبه الاشتقاق في قوله لم أجن وقد جنيت .
 
( ن ) : قوله جرحت وجنته أي وجنة المحبوب الحقيقي ، وكنى بالوجنة هنا عما استولى عليه من التجلي الإلهي بغلبة ظهور اسم من الأسماء جامع لكل اسم فإن كل اسم من أسمائه تعالى جامع لكل اسم على حسب خصوص ذلك الاسم ، ومعنى الجرح في ذلك تقييد المطلق الحق تعالى المنزه في ذاته وصفاته وأسمائه عن مشابهة الأكوان بقيود الأكوان لضرورة الشهود والعيان في مقام العرفان .
وقوله بالنظر قال في القاموس : النظر محركة الفكر في الشيء تقدره وتقيسه ، وهو المعني هنا في جناب المتجلي الحق .
وقوله من رقتها ، أي الوجنة يعني من كمال لطافتها وشدة نزاهتها وبعدها عن كثافة الأكوان . قال تعالى :لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( 103 ) [ الأنعام : الآية 103 ]
أي لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف ، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير .
وقوله فانظر يعني يا أيها المريد السالك . وقوله لحسن الأثر ، أي الذي هو ظاهر من تقييد الإطلاق المذكور حيث اقتضاه جرح النظر الكوني


 
« 312 »
 
له . وقوله لم أجن ، أي لم أذنب . وقوله وقد جنيت ورد الخفر ، أي اقتطفت برؤية عيني ذلك الأثر الذي هو كالورد في حسن الهيئة وطيب الرائحة بمعنى أدركته وتحققت به .
وقوله إلا لترى أنت خطاب لمن قيل له أوّلا فانظر لحسن الأثر هو المريد السالك . وقوله كيف ، أي على أي كيفية . وقوله انشقاق القمر ، قال تعالى :
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ( 1 ) [ القمر : الآية 1 ]
أي قرب انكشاف ستور الغفلات عن عيون أهل الجهالات المحجوبين عن أحوال الساعة التي هم فيها .
وانشقاق القمر ظهور الأثر فيه بظهور الآثار عنه في صور التجليات من قوله صلى اللّه عليه وسلم : « إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر » فإذا رأى المريد السالك كيف انشقاق القمر فقد عرف الأمر على ما هو عليه ذوقا وكشفا فلم يحتج تعليما ولا وصفا . اهJ .
 
وقال رضي اللّه عنه :
يا من لكئيب ذاب وجدا برشا لو فاز بنظرة إليه انتعشا
هيهات ينال راحة منه شج ما زال معثّرا به منذ نشا
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الكئيب » كحزين وزنا ومعنى . و « الوجد » الحزن والعشق . و « الرشا » ولد الغزال . و « لو » هنا لامتناع ما يليه واستلزام تاليه . و « فاز » من الفوز وهو الظفر والسعادة . و « الانتعاش » أن يقوم الجسم بعد وقوعه من حزن أو مرض ، فكأنه يقول ذاب من وجده بالرشا ، فلو فاز بنظرة إليه لانتعش من أحزانه وفاز بالعافية في جسمه وجنانه ، ثم إنه رجع عن دعوى الانتعاش والسكون بعد الارتعاش ، فقال « هيهات ينال راحة منه شج » وفاعل هيهات المصدر المأخوذ من ينال ، أي هيهات يناله راحة وهو شج حزين دائما يتعثر بأذياله ، ويضطرب في جميع أحواله ، وفاعل ينال شج ، والجملة بعده صفة شج ، أي من وقت نشأته في وجوده يتقلب في نار وقوده :
تاللّه ما جئتكمو زائرا * إلا رأيت الأرض تطوي لي
ولا انثنى عزمي عن بابكم * إلا تعثرت بأذيالي
والرجوع المذكور من أنواع البديع ومنه قول المتنبي :
دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا * لأهله فشفى أني ولا كربا
 
( ن ) : ياء حرف نداء ، والمنادى محذوف تقديره يا قومي .
ومن استفهام مبتدأ وخبره محذوف تقديره معين أو مساعد أو منقذ . وقوله لكئيب ، يعني به نفسه .
وقوله برشا ، الباء للسببية أي بسبب محبة رشا ، وهو كناية عن الحضرة الإلهية النافرة عن إدراك العقول أعظم نفور لعدم المناسبة بينها وبين كل شيء ، وقوله إليه ، أي إلى ذلك

« 313 »
 
الرشا وكونه لا يفوز منه بنظرة ، لأنه إذا توجه ببصره أو بصيرته إليه كان ذلك التوجه حجابا بينه وبينه ولا يكون الأمر إلا كذلك ومع الحجاب لا تكون الرؤية ، ولا يمكن النظر وهذه حالة العبد المخلوق لا انفكاك له عنها حتى يفنى توجهه ، والمتوجه منه فإذا فني فلا ناظر ولا منظور .
وقوله هيهات ينال راحة منه ، هيهات اسم فعل بمعنى بعد والضمير في منه للرشا المذكور وكونه لا ينال منه راحة أبدا بسبب الابتلاء من المحبة ، فإن المحبوب يبتلي محبه ويمتحنه بأنواع البلايا والمحن
قال تعالى : وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ [ الأنبياء : الآية 35 ]
وقال تعالى : وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الأعراف : الآية 168 ]
وقال صلى اللّه عليه وسلم أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل . اهـ
 
وقال رضي اللّه عنه :
كلّفت فؤادي فيه ما لم يسع *** حتّى يئست رأفته من جزعي
ما زلت أقيم في هواه عذري *** حتّى رجع العاذل يهواه معي
 
[ المعنى ]
يقول تكلفت في حبه وألزمت فؤادي من محبته فوق طاقته وفوق وسعه ، فلما رأى تحملي وغاية تجملي ، قالت رأفته ونطقت رحمته ، هذا لا يجزع أبدا ولا يخاف سرمدا ، إذ لو كان عنده جزع لما كلف قلبه في المحبة ما لم يسع .
 
وقوله « ما زلت » إلى آخره معناه لما نصحني العاذل ، وقامت علي العواذل ، أقمت عندهم أعذاري ، وأظهرت لهم في المحبة أسراري ، فرجع عاذله عاذرا بل صار لي في عشقي له ناصرا ، وأثر عنده كلامي في بيان أسباب المحبة ، ومحا عن قلبي في العشق ذنبه ، فرجع معي يهواه ورحم الفؤاد لشدة بلواه ، وهذا شأن من كان صادقا ، يجعل العذول له مصادقا .
 
( ن ) : قوله فيه الضمير للمحبوب الحقيقي وقوله ما لم يسع ، أي فؤادي يعني ما لم يكن في طاقته من المجاهدات الشرعية والرياضات المرضية ظاهرا وباطنا . وإنما قال كلفت بالتشديد لأن الحق تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها .
 
وقد قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم : ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ( 2 ) [ طه : الآية 2 ]
أي لتحمل نفسك ما لا طاقة لها من أعمال الطاعات والعبادات ، ولما قام النبي صلى اللّه عليه وسلم من الليل حتى تورّمت قدماه قيل له في ذلك فقال أفلا أكون عبدا شكورا .
وقوله حتى يئست الخ .
 
يعني أن رأفة هذا المحبوب بهذا المحب من شدّة ما كلف المحب نفسه به من الأتعاب في سبيل مرضاته حتى أن تلك الرأفة يئست من جزع المحب لكمال رضاه بما هو فيه من

« 314 »
الأتعاب فصبره دائم والجزع لا يمكن أن يكون منه لموته الموت الاختياري بحيث لم يبق له قصد أصلا لغيره مرضاة محبوبه .
وقوله ما زلت أقيم في هواه عذري ، أي أعتذر عن محبتي له لأنه الجميل الحقيقي والمحسن على كل حال ولا جميل غيره ، ولا محسن سواه والخلق كلهم آلات ظهور جماله وإحسانه وأسباب وصول كرمه وامتنانه . اهـ .
 
وقال رضي اللّه تعالى عنه :
أصبحت وشاني معرب عن شاني *** حيّ الأشواق ميّت السّلوان
يا من نسخ الوعد بهجر ونأى *** فرّح أملي بوعد زور ثاني
 
[ الاعراب والمعنى ]
« أصبحت » من أخوات كان . والتاء : اسمها . و « حي الأشواق » خبرها ومضاف إليه . و « ميت السلوان » خبر بعد خبر . قوله « وشاني » معرب عن شاني معترضة ، والشأن الأول عبارة عن الدمع ، والثاني عبارة عن الحال . و « معرب » مبين لأن الإعراب في اللغة البيان . قوله « يا من نسخ الوعد » النسخ التغيير . يخاطب الحبيب بقوله يا من غير وعد الوصال . « بهجر » وبعد وبعد الاقتراب . و « نأى » عن منازل الأحباب . « فرح » من الفرح بالحاء المهملة . « أملي » أي رجائي . « بوعد زور » والزور بفتح الزاي بمعنى الزيارة .
و « ثاني » صفة لوعد ، أي لوعد ثان بعد الوعد الذي نسخه الهجر .
 
والشيخ يكرر معنى المصراع الأوّل قال في الميمية :
وشاني بشاني معرب وبما جرى * جرى وانتحابي معرب بهيامي
 
وفي البيت الجناس التام بين شاني وشاني ، والطباق بين حي وميت وبين الأشواق والسلوان وبين الهجر والزيارة .
 
( ن ) : الشان أصله الهمز فخفف بالإبدال في المحلين . والمعنى أن دموعه كاشفة عن وجدان المحبة الإلهية في قلبه .
وقوله حيّ الأشواق ميت السلوان ، يعني أشواقه لها الحياة أو هو حي من جهة أشواقه وسلوانه عن محبوبه ميت أو هو ميت من جهة سلوانه عن محبوبه .
وقوله يا من أي يا أيها المحبوب الحقيقي الذي نسخ الوعد ، أي أزاله . وتعريف الوعد لأنه معهود عند المحب من المحبوب
قال تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [ النّور : الآية 55 ]
وقال تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [ الفتح : الآية 29 ]
وقوله بوعد زور ثاني ، بضم الزاي أي كذب

« 315 »
 
بلا وفاء كالوعد الأوّل الذي أبدل بالهجر وهذا على طريقة المحبين مع المحبوبين .
والمحبة تقتضي ذلك وإلا فإن الوعد من الحق تعالى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [ التّوبة : الآية 111 ] . اهـ .
 
وقال رضي اللّه عنه :
العاذل كالعاذر عندي يا قوم أهدى *** لي من أهواه في طيف اللّوم
لا أعتبه إن لم يزر في حلمي  *** فالسّمع يرى ما لا يرى طيف النّوم
 
[ المعنى ]
هذا دو بيت في غاية ما يكون من اللطافة لأنه جعل اللوم مصوّرا صورة الحبيب وجاعلا له بعد البعد في رتبة القريب . وقوله « في طيف اللوم » من إضافة المشبه به إلى المشبه .
إذ المراد أهدى لي من أحبه ، وأهواه في لوم كالطيف أو في صورة تمثل الحبيب حاصلة في خيال اللوم .
قوله « لا أعتبه » أي لا أعتب الطيف إن فقدت منه الزيارة في حلم النوم ، وعلل ذلك بقوله « فالسمع يرى » عند تكرار العاذل الكلام « ما لا يرى طيف النوم » وذلك لأن ما يراه طيف النوم مجرد خيال وبالأغلب يكون معكوسا ، ويكتسي من لباس الالتباس ملبوسا بخلاف ما يراه السمع فإنه صحيح .
 
ومدلوله في ذكر الحبيب صريح . والرواية « يرى » بفتح الياء في الموضعين فعلى هذا يكون طيف النوم عبارة عن خيال النوم لا عن الخيال الطائف
 
والشيخ يكرّر هذا المعنى في كلامه قال :
فكأنّ عذلك عيس من أحببته * قدمت علي وكان سمعي ناظري
 
وقال المتنبي :
إن المعيد لنا المنام خياله * كانت إعادته خيال خياله
 
وقال الشيخ رحمه اللّه :
وأبيت سهرانا أمثل طيفه * للطرف كي ألقى خيال خياله
وقال الصفي الحلي من قصيدة له وأجاد :
ما ضر طيف خياله لو أنه * يحنو عليّ ولو بطيف خياله
 
وقد يروى البيت : فالسمع يرى ما لا يرى طيف النوم ، بضم الياء وكسر الراء .
أي يظهر السمع لنظر السامع ما لا يظهره النوم فيكون مضارعا من أراه يريه من باب الأفعال . وفي البيت التجنيس بين العاذل والعاذر وهو الجناس اللاحق . اهـ .

« 316 »
 
وقال رضي اللّه عنه دو بيت : عيني لخيال زائر مشبهه قرّت فرحا فديت من وجهه قد وحّده قلبي وما شبّهه طرفي فلذا في حسنه نزّهه
 
[ الاعراب والمعنى ]
« عيني » مبتدأ . وجملة قرت فرحا خبره . و « لخيال » متعلق بقرت ، وخيال منوّن موصوف بزائر ، ومشبهه بالنصب على أنه مفعول زائر .
 
( ن ) : وهو المحب العاشق الذي نحله السقم فصار يشبه الخيال من شدّة نحوله . اهـ .
و « فرحا » تمييز أو مفعول لأجله . وجملة فديت من وجهه جملة دعائية . والمعنى قرّت عيني فرحا بخيال قد زار مشبهه في الرقة والنحول ، فجعلت فداء الحبيب وجهه إليّ أي ذلك الخيال . قوله « قد وحده قلبي » أي وحد قلبي ذلك الخيال وعلمه أنه واحد في ذاته وصفاته .
« وما شبهه طرفي » فالقلب وحده والطرف ما شبهه . قوله « فلذا في حسنه نزهه » أي لما وحده القلب وما شبهه الطرف نزهه في حسنه الطرف وقدسه عن مشابهة في حسنه .
 
وما أحسن قول القاضي أبي بكر ناصح الدين الأرّجاني :
قف يا خيال وإن تساوينا ضني * أنا منك أو لي بالزيارة موهنا
نافست طيفي والمهامه دوننا * في أن يزور العامرية أينا
فسريت أعتجر الظلام إلى الحمى * ولقد عناني من أميمة ما عنا
وعقلت ناجيتي بفضل زمامها * لما رأيت خيامهم في المنحنى
لما طرقت الحيّ قالت خيفة * لا أنت إن علم الغيور ولا أنا
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح تتمّة قصائد ومقاطع للشيخ رضي الله عنه .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:52 pm

شرح تتمّة قصائد ومقاطع للشيخ رضي الله عنه .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح تتمّة قصائد ومقاطع للشيخ رضي الله عنه
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
شرح تتمّة قصائد ومقاطع للشيخ رضي الله عنه
وقال رضي اللّه عنه :
يا محيي مهجتي ويا متلفها *** شكوى كلفي عساك أن تكشفها
عين نظرت إليك ما أشرفها *** روح عرفت هواك ما ألطفها
 
[ الاعراب والمعنى ]
قوله « يا محيي مهجتي » منادى مضاف نصب بالفتحة على الياء الثانية في محيي .
والمهجة بقية الروح . « ويا متلفها » كذلك وإنما كان محييا ومتلفا لأن الإحياء عبارة عن الوصال ، والإتلاف عبارة عن الفراق بعد الاتصال .
« شكوى كلفي » مبتدأ ومضاف إليه .
و « الكلف » محركة المشقة الشديدة . و « عساك » إن كانت حرفا على ما قيل تنصب الاسم وترفع الخبر ، فالكاف اسمها .
و « أن تكشفها » خبر لكن لا يكون المصدر خبرا إلا بتأويل اسم الفاعل ، أو بحذف المضاف أي لعلك كاشف شكوى مشقتي ، أو

« 317 »
 
لعلك صاحب كشف لها . وإن أبقيت عسى على أسلوبها المعروف فالكاف في عساك في محل رفع على أنها اسم عسى على أنها مستعارة مكان الضمير المنفصل وإن تكشفها خبر على كلا التقديرين .
قوله « عين نظرت إليك ما أشرفها » مبتدأ وخبر ، ونظر يتعدى بنفسه فلم تعدى هنا بإلى .
والجواب أن نظر هنا متضمن معنى مال أو معنى التفت . وجملة ما أشرفها خبر . ويرد أن ما أشرفها للتعجب وهي إنشاء .
 
والجواب أنها على تأويل مقول أي عين نظرت إليك مستحقة أن يقال في حقها ما أشرفها . ووصف الروح بغاية اللطف لكونها عرفت هواك ، والعين بغاية الشرف لكونها نظرت جمال محياك . ولا يخفى المناسبة في جعل الشرف للعين واللطافة للروح .
 
( ن ) : الخطاب للمحبوب الحقيقي ، والمعنى أنه تعالى أحياه بإمداده وتجلى باسمه له تعالى المحيي ، فإذا ظهر له وانكشف وجوده الحق أفناه وأهلكه .
وقوله عين نظرت إليك نظرها إليه وهي في عالم الحياة الدنيا كناية عن رؤيته ظاهرا بصورة كل شيء محسوس أو معقول على معنى أن صورة كل شيء أثر من آثار أسمائه الحسنى وصفاته العليا .
وقوله ما ألطفها لطفها ظاهر لأن الروح أول مخلوق وهو من أمر اللّه ولا ألطف من أمر اللّه تعالى . اهـ .
 
وقال رضي اللّه عنه :
أهواه مهفهفا ثقيل الرّدف *** كالبدر يجلّ حسنه عن وصفي
ما أحسن واو صدغه حين بدت *** يا ربّ عسى تكون واو العطف
 
[ الاعراب والمعنى ]
« الهاء » في أهواه عائدة إلى متصور في الذهن ، وفسر بقوله « مهفهفا » فيكون تمييزا على حدّ قوله تعالى : فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [ البقرة : الآية 29 ] .
و « ثقيل الردف » حال من الضمير في مهفهفا . و « الردف » ما ظهر في العجيزة من اللحم .
و « كالبدر » حال بعد حال على أن الكاف اسم .
وجملة يجل حسنه عن وصفي مستأنفة أو حالية كذا مترادفة أو متداخلة . ويروى « يجل حسنه عن وصفي » ويجل وصفه عن وصفي ، وكلتا الروايتين مستقيمة .
أي لا يبلغ وصفي له غاية وصفه له لأنه أعلى مرتبة من أن يبلغ إليه حدّ وصفي :
اعتصام الورى بمغفرتك * عجز الواصفون عن صفتك
تب علينا فإننا بشر * ما عرفناك حق معرفتك
 
قوله « ما أحسن واو صدغه حين بدت » ، « ما » تعجبية . و « أحسن » فعل ماض وفاعله مستتر فيه وجوبا يعود إلى ما . و « واو » مفعول مضاف إلى صدغه . والواو هنا

« 318 »
 
عبارة عن شعر العذار الملتوي كالواو . ويشبه بالواو وبالدال وباللام وبعد أن تقرر أنها واو رجا من ربه أن تكون واو العطف ، لأن العطف الميل .
يقال عطف الحبيب على المحب أي مال إليه وتحنن عليه . وهذا البيت ماش على طريق المجاز لأن ذكر الردف والعطف والوصف من أنواع المجاز وإلا فهو عند الحقيقة ما إليه جواز .
 
( ن ) : قوله مهفهفا ، يكني به عن صورة التجلي الإلهي من حيث الأسماء الجمالية في حقيقة الروح الأعظم الذي هو أول مخلوق ، وهو نور محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو القلم الأعلى واللوح المحفوظ نفسه .
وقوله ثقيل الردف الإشارة بذلك إلى جميع العوالم المكتوبة بالقلم في اللوح الذي هو نفس القلم بالنور المحمدي المخلوق فيه ومنه كل شيء .
وقوله كالبدر وهو القمر ليلة التمام لظهوره في ظلمة الأكوان كما يشهده العارفون بالعيان من قوله صلى اللّه عليه وسلم : « إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر » .
وقوله واو صدغه ، الإشارة بالواو إلى عالم النور الروحاني وبالصدغ إلى عالم الظلمة الطبيعي الجسماني . وقوله حين بدت ، أي ظهرت للعارف المحقق والمحب المصدق . وقوله يا رب الخ . المعنى أنا مترج متأمل أن تكون الحكمة في ظهور هذا الشعور النفساني المرسل بين الرؤية والسماع المعوج كصور حرف الواو للميل إليّ من حضرة المحبوب والعطف عليّ من جانب غيب الغيوب . اهـ .
 
وقال رضي اللّه عنه :
يا قوم إلى كم ذا التّجنّي يا قوم *** لا نوم لمقلة المعنّى لا نوم
قد برّح بي الوجد فمن يسعفني *** ذا وقتك يا دمعي فاليوم اليوم
 
[ الاعراب والمعنى ]
من عادة العرب أنهم ينادون قومهم وأخلاءهم لأن الشكاية تكون من الشدة ، وإنما ينادى في الشدة القريب . و « كم » هنا استفهامية ولها الصدارة ، ولا ينافي ذلك دخول حرف الجر قبلها لأن ذلك مباح كما سمع في كلام العرب .
و « ذا » هنا عبارة عن الإعراض . وقوله « يا قوم » تأكيد للنداء وهو من المنادى المضاف الذي حذفت فيه الياء وبقيت الكسرة دليلا عليها . قوله « لا نوم لمقلة » المعنى لا نوم : أراد بالمعني نفسه ونكتة وضع الظاهر موضع المضمر التصريح بما منه الشكاية والمعنى الذي يوصف بالعناء وهو التعب .
ولا نوم الثانية تأكيد للأولى على حد يا قوم في البيت قبله . و « برح به الوجد » أي حمله البرحاء وهي الشدة ، ويقال فلان برّح به الوجد أي حمله الشدائد . و « الوجد » ما يجده الشخص من الحب . وقوله « فمن يسعفني » أي فمن يساعدني من أسعفه أي ساعده . وقوله « ذا وقتك يا دمعي » أي

« 319 »
 
هذا وقتك لأن الدمع من شأنه أن يخفف البلاء ، ويدفع ما في القلب من حرارة الوجد .
كما قال الشاعر :
إن البكاء هو الشفا * ء من الجوى بين الجوانح
 
وانظر إلى التأكيد في يا قوم يا قوم ولا نوم لا نوم واليوم اليوم فإنك تجد لطفا ظاهرا وحسنا باهرا .
 
( ن ) : المعنى في هذا البيت أن المحبوب الحقيقي حكم بالذنوب على المحب لا لغرض ولا عبثا ومحبه في يقظة لا نوم له ولا غفلة عنده عن ملاحظته والشوق إليه قد اشتد والوقت امتد وما حيلته إلا البكا وإليه المشتكى . اهـ .
 
وقال رضي اللّه عنه :
إن متّ وزار تربتي من أهوى *** لبّيت مناجيا بغير النجوى
في السّرّ أقول يا ترى ما صنعت *** ألحاظك بي وليس هذا شكوى
 
[ المعنى ]
اعلم أن الشعراء يذكرون زيارة الحبيب لهم بعد الموت فمن ذلك قول توبة الحميري :
فلو أن ليلى الأخيلية سلمت * عليّ ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا * إليها صدى من جانب القبر صائح
وقال الآخر :
ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا * ومن دون رمسينا من الأرض سبسب
لظل صدى صوتي وإن كنت رمّة * لصوت صدى ليلى يهش ويطرب
 
قوله « لبيت مناجيا بغير النجوى » أي إن زار تربتي من أهواه بعد الموت لبيت أي قلت : لبيك ، فإن قلت إن قولي لبيك يستدعي نداء لأن معنى لبيك أقمت على إجابتك أيها المنادي مرة بعد أخرى ، وهنا زيارة ليس فيها نداء قلت إن الزيارة تستلزم النداء لأن الحبيب إذا زار العاشق الكئيب فلا أقلّ من السلام عليه ، فكأنه يقول إن مت وزار تربتي من أهواه لبيت وبادرت إلى جواب التحية عند الزيارة بأفصح عبارة .
 
قوله « مناجيا » أي محادثا . « بغير النجوى » أي بغير مسارة . أي بل لبّيت جهرة فالمراد من قوله مناجيا أي مخاطبا لمن أهواه عند الزيارة لكن لا بالمسارة .
ثم قال « في السر أقول » الخ . فهو يقول في التلبية جهرا وفي الشكاية سرا . فله عند زيارة الحبيب لقبره حديثان : أحدهما جواب تحيته وهو جل فرحه به جهرا بغير إسرار .
والثاني شكايته

« 320 »
 
من ألحاظه وما به صنعت من رشق سهامها في الفؤاد . ثم أنه قال « وليس هذا شكوى » أي ليس قولي له « يا ترى » إلى آخره من باب الشكاية بل ذلك من باب المكالمة مع الأحباب وإفادة لذة العتاب للأصحاب .
 
( ن ) : قوله إن مت الموت الاختياري بالكشف عن حقيقة الحول والقوّة والتحقق ذوقا بأمر اللّه تعالى القيوم على جملة العوالم .
وقوله وزار تربتي ، أي ظهر في أجزاء بدني باطنا وظاهرا أمر الحق تعالى ساريا بلا سريان .
وهو قوله من أهوى ، أي من أحبّ وهو المحبوب الحقيقي . وقوله بغير النجوى يعني ليست تلك النجوى صادرة مني لأني ميت وإنما هي من المحبوب الحقيقي للمحبوب الحقيقي على حسب ما يريد .
وقوله أقول ، أي بقول منسوب إليّ وما هو منيّ غير أنه صادر عني لأني ميت والمستولي عليّ حي لا يموت .
وقوله يا ترى بالبناء للمفعول أي يا قومي ترى .
وقوله ما صنعت ، ما استفهامية وصنعت أي فعلت الذي فعلته من المحن والبلايا .
وقوله ألحاظك هي هنا كناية عن كثرة تجليات الأسماء الإلهية من المحبوب الحقيقي المخاطب بهذا الخطاب .
وقوله وليس هذا شكوى من نوع الاحتراس ، يعني أن قولي ذلك ليس بشكوى مني لأني صابر على جميع أحكامك راض بتنعيمك وانتقامك . اهـ .
 
وقال رحمه اللّه :
ما بال وقاري فيك قد أصبح طيش *** واللّه لقد هزمت من صبري جيش
باللّه متى يكون ذا الوصل متى *** يا عيش محبّ تصليه يا عيش
 
[ الاعراب والمعنى ]
« ما » استفهامية مبتدأ . و « بال » بالرفع خبره . والبال مضاف إلى الوقار ، وهو بمعنى الحال ، أي ما حال وقاري . و « فيك » متعلق بأصبح . أي أصبح وقاري فيك أي بسببك متبدلا بالطيش والخفة والجنون . يشير إلى أنه كان عاقلا فلما أحب جن .
و « طيش » خبر أصبح ، والوقف عليه لغة ربيعة . و « اللّه لقد هزمت من صبري جيش » يريد بذلك شدة ثباته على الحب ، والصبر قسمان مذموم ومحمود ، فالصبر على الحبيب وجفاه محمود ، والصبر عنه بأن يتركه الصابر ولا يصله وإذا غاب عنه لا يتأذى بغيبته فهذا مذموم .
 
وإلى ذلك أشار الشيخ حيث قال في التائية :وصبري أراه تحت قدري عليكم * مطاقا وعنكم فاعذروا فوق قدرتيقلت والصحيح في رواية البيت أن « فيك » بكسر الكاف خطابا لمؤنث ، وكذا تاء « هزمت » مكسورة خطابا لمؤنث أيضا ، أي قد هزمت جيش صبري بهجرك والوقوف على جيش كالوقوف على طيش . والبيت الثاني « باللّه متى » الخ . فعيش الأول منادى


 
« 321 »
نداء التعجب ، وذلك كقولك يا سعادة رجل يراك ومعناه الحياة . كما في القاموس .
وأصل « تصليه » تصلينه وحذفت النون مع عدم الناصب والجازم ، و « يا عيش » نداء لمن تسمى بعيش وقد يراد به عائشة وهو من تحريف العوام . انتهى .
 
( ن ) : قوله فيك ، بكسر الكاف أي في محبتك خطاب للمحبوبة الحقيقية والحضرة الإلهية . وقوله قد أصبح ، أي دخل صباح العرفان بعد انكشاف ليل الأكوان .
وقوله طيش بالسكون وأصله النصب لأنه خبر أصبح والوقوف على المنصوب بالسكون لغة ربيعة .
ومثل ذلك جيش في آخر البيت وأصلها النصب لأنها مفعول هزمت بكسر التاء ، والخطاب للمحبوبة الحقيقية . ومتى سؤال عن زمان .
ويكون أي يوجد فهي تامة . وذا فاعل يكون . والوصل صفة ذا أي الاتصال واللقاء .
ومتى الثانية توكيد لفظيّ . وقوله يا عيش منادى مضاف وهو منصوب والعيش الحياة .
وقوله تصليه خطاب للمحبوبة الحقيقية .
وقوله يا عيش تكرار من قبيل التأكيد اللفظي وهو نوع من البديع ردّ العجز على الصدر . اهـ .
 
وقال قدّس اللّه سرّه :
أهوى رشا رشيّق القدّ حلى *** قد حكّمه الغرام والوجد علي
إن قلت خذ الرّوح يقل لي عجبا *** الرّوح لنا فهات من عندك شي
 
[ المعنى ]
« أهوى » أي أحبّ . وقوله « رشا » هو ولد الغزال ومن طبعه النفور ، ولهذا كنى به عن حضرة الغيب المطلق الذي لا يزال نافرا عن إدراك العقول .
وقوله « رشيق » بتشديد الياء تصغير رشيق فعيل ، أي حسن القد لطيفه كناية عن كل شيء إذا اعتبر فيه أن الحق تعالى خلقه .
وقال القائل :
ويقبح من سواك الفعل عندي * فتفعله فيحسن منك ذاكا
 
وقوله « القد » وهو قامة الرجل وتقطيعه واعتداله كناية عن صورة كل شيء يتجلى به الحق تعالى على قلب العارف . وقوله « حلى » بالتصغير من الحلاوة .
وقوله « قد حكمه » أي جعله حاكما عليّ قاهر إلي بحسب مراده ، والضمير للرشا المذكور .
وقوله « الغرام » فاعل حكمه وهو الشوق الملازم . وقوله « والوجد » وهو زيادة المحبة . وقوله « عليّ » أي على ظاهري وباطني بحيث لا محيد لي عنه ولا انفلات لي منه .
وقوله « قلت » بضم تاء المتكلم أي له . وقوله « خذ الروح » أي روحي .
وقوله « يقل » مجزوم في جواب الشرط وفاعله ضمير الرشا المذكور .
وقوله « لي » متعلق بيقل . وقوله « عجبا » أي أعجب من قولك هذا عجبا .
وقوله « الروح لنا » أي هي روحنا . قال

« 322 »
 
تعالى : وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ الحجر : الآية 29 ]
وقال تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [ الإسراء : الآية 85 ]
وقوله « فهات » بكسر التاء المثناة اسم فعل .
وقوله « من عندك » أي من عند نفسك . وقوله « شي » مفعول هات بالوقف على المنصوب بالسكون في لغة ربيعة . اهـ .
 
وقال قدس اللّه سرّه :
ما أصنع قد أبطا عليّ الخبر *** ويلاه إلى متى وكم أنتظر
كم أحمل كم أكتم كم أصطبر *** يقضى أجلي وليس يقضى وطر
 
[ الاعراب والمعنى ]
« ما أصنع » « ما » استفهام مبتدأ ، يعني أي شيء أصنع . وجملة أصنع خبره والأصل أصنعه . وقوله « قد أبطا » بحذف الهمزة ضد أسرع . وقوله « عليّ » بتشديد الياء .
وقوله « الخبر » فاعل أبطأ ، وهو خبر الوصول بتحقق القبول من حضرة المحبوب الحقيقي وذلك لا يعرف على التحقيق بسعادة المرء أو شقاوته أبديا ، وإن مات وانتقل إلى عالم البرزخ إلا بعد حصول الاثني عشر شيئا
في قوله تعالى : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ( 1 ) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ( 2 ) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ( 3 ) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ( 4 ) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ( 5 ) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ( 6 ) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ( 7 ) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ( 8 ) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ( 9 ) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ( 10 ) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ ( 11 ) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ( 12 ) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ( 13 ) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ ( 14 ) [ التّكوير : الآيات 1 - 14 ]
وقد ذكر تعالى بعدها أربعة أشياء فقد قال : إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ( 1 ) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ( 2 ) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ( 3 ) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ( 4 ) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ( 5 ) [ الانفطار : الآيات 1 - 5 ]
وقوله « ويلاه » كلمة ندبة . وقوله « متى » هي ظرف غير متمكن سؤال عن زمان . وقوله و « كم » اسم ناقص مبني على السكون وسؤال عن العدد .
وقوله « انتظر » أي أتمهل في أمري . وقوله « كم أحمل » أي مؤنة المحبة ومشقة العشق . وقوله « كم أكتم » لا أظهر شيئا مما أقاسيه من ألم البعد والهجران ومعالجة حجب الأكوان .
وقوله « يقضى » بالبناء للمفعول بمعنى يفزع وقوله « أجلي » محرّكة غاية الوقت في الموت . وقوله « وليس يقضى » بالبناء للمفعول . وقوله « وطر » محركة الحاجة المهمة وقضاء وطره بلوغه إلى حقيقته التي كان فيها أزلا فيرجع إليها أبدا . اهـ .
 
وقال قدّس اللّه سرّه :
قد راح رسولي وكما راح أتى *** باللّه متى نقضتم العهد متى
ما ذا ظنّي بكم ولا ذا أملي *** قد أدرك فيّ سؤله من شمتا

« 323 »
 
[ المعنى ]
« قد راح » أي ذهب إلى جهة الأحبة في وقت العشي وهي مخالطة الأكوان ، والقرب من ظلمات النفوس والأبدان . وقوله « رسولي » هو عقله النوراني الممتد من نور الحقيقة المحمدية ، قال تعالى : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [ التّوبة :
الآية 128 ] . وقوله « كما راح » أي كرواحه . وقوله « أتى » أي عاد إليّ وذلك لقيامه بأمر اللّه تعالى وهو الروح الآمري الذي هو أوّل مخلوق ، وهو كلمح بالبصر لأن أمر اللّه تعالى كلمح بالبصر وهذا معنى رواحه وإتيانه . وقوله « باللّه » قسم بالاسم الجامع الذي علا بقية الأسماء الإلهية المختلفة المتضادة بالآثار . وقوله « متى نقضتم العهد » خطاب للأسماء المتقابلة المختلفة الآثار كالضار النافع المعطي المانع المعز المذل المقدم المؤخر المضل الهادي إلى غير ذلك ، فإن آثارها تقتضي نقض العهد والوفاء به . و « العهد » هو الموثق قال تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [ الأعراف : الآية 172 ] الآية . وقال تعالى في ذلك وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [ البقرة : الآية 40 ] فلما أشهدهم على أنفسهم شهدوا أنفسهم فافترقت الأسماء الإلهية فظهر منهم نقض العهد بشهود أنفسهم عندهم . وقوله « متى » من ردّ العجز على الصدر وهو تأكيد لفظيّ ، وقوله « ما ذا ظني بكم » خطاب للأسماء الإلهية المذكورة . و « ما » نافية . و « ذا » أي هذا يعني نقض العهد ظني أي الذي كنت أظنه منكم وبكم . وقوله « ولا ذا أملي » معطوف على ما ذا ظني ، يعني ولا هذا كنت أؤمله منكم . وقوله « قد أدرك فيّ » بتشديد الياء . وقوله « سؤله » مفعول أدرك أي مطلوبه ومأموله . وقوله « من » فاعل أدرك . وقوله « شمتا » بألف الإطلاق معنى شمت فرح ببليتي العدوّ والإشارة بذلك إلى النفس الأمارة بالسوء والشيطان القرين . اهـ .
 
وقال قدّس اللّه سرّه :
روحي لك يا زائر في اللّيل فدا *** يا مؤنس وحشتي إذا اللّيل هدا
إن كان فراقنا مع الصّبح بدا *** لا أسفر بعد ذاك صبح أبدا
 
[ المعنى ]
« روحي لك » خطاب للمحبوب الحقيقي من قوله تعالى : وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ الحجر : الآية 29 ] . وقوله « يا زائر في الليل » أي ففي ظلمة عالم الكون بنزول أمره من قوله تعالى : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [ الطّلاق : الآية 12 ] الآية . وقوله « فدا » من فداه فداء ، وفدى أعطى شيئا فأنقذه .
 
وقوله « يا مؤنس وحشتي » أي ملقي الأنس على وحشتي في ظلمات الأكوان وموحشات الأعيان .
وقوله « إذا الليل » أي ظلمة الأكوان . وقوله « هدا » أصله بالهمز

« 324 »
أي سكن وهو ليل الأكوان الذي ينزل فيه ربنا إلى سماء الدنيا كما ورد في الحديث .
وقوله « إن كان فراقنا » أي دخولنا إلى مقام الفرق بعد الجمع عليه تعالى .
وقوله « مع الصبح » أي ظهور نور الوجود الحق على تقادير الأكوان .
وقوله « بدا » أي ظهر ملتبسا بها من قوله تعالى : وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [ الأنعام : الآية 9 ]
وقال تعالى : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( 1 ) [ القدر : الآية 1 ]
وهو القرآن إلى قوله سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ( 5 ) [ القدر : الآية 5 ]
وقوله « لا أسفر » من سفر الصبح وأسفر أضاء وأشرق . وقوله « بعد ذاك » أي بعد فراقنا المذكور . وقوله « صبح » أي ضوء ذلك النور المذكور . وقوله « أبدا » أي دهرا منصوب على الظرفية . اهـ .
 
وقال قدّس اللّه سرّه :
يا حادي قف بي ساعة في الرّبع *** كي أسمع أو أرى ظباء الجزع
إن لم أرهم أو أستمع ذكرهم *** لا حاجة لي بناظري والسّمع
[ المعنى ]
« يا حادي » بفتح الياء ، وهو الذي يحدو الإبل أي يسوقها بالغناء لها ، والكناية بالحادي هنا عن الحقيقة المحمدية التي أرسلها اللّه تعالى تحدو بكلامها المنتظم إبل النفس المكلفة بالسير من دار الفناء إلى دار البقاء الحاملة بضائع الأعمال .
وقوله « قف بي ساعة في الربع » أي في الدار بعينها يكني بذلك عن مقام الجمع على الحق تعالى ، طلب من الحادي المذكور أن يقف به على هذا المقام ساعة ، فإنه لا يقف بمن يسوقه إلى مراتب إرثه فلا يزال الوارث المحمدي يترقى في المقامات من قوله تعالى : يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [ الأحزاب : الآية 13 ]
فلا وقوف لهم أبدا كما كان صلى اللّه عليه وسلم يقول : « إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر اللّه في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة وإن ذلك غين أنوار لا غين أغيار لأنه كلما رقى إلى مقام رأى ما قبله غينا فيستغفر منه » .
وهكذا ولكم في رسول اللّه أسوة حسنة . وقوله « كي أسمع » أي المناجاة الإلهية .
وقوله « أو أرى » أي التجليات الربانية .
وقوله « ظباء » جمع ظبي وهو الغزال كناية عن الأسماء المتوجهة على إظهار الآثار لنفورها عن إدراك المدركين .
 
وقوله « الجزع » بالفتح ويكسر منعطف الوادي ووسطه أو منقطعة ، كناية عن الذات الجامعة للأسماء والصفات .
وقوله « إن لم أرهم » أي أشهد التجليات المذكورة الفاعلة فعل الذكور في إناث آثارها ، ولهذا أشار إلى ذلك بميم جمع الذكور .
وقوله « أو أستمع » مجزوم بالعطف على إن لم أرهم .
وقوله « ذكرهم » بضم الميم أي الذكر الذي يظهر لي منهم بمناجاتهم لي .
وقوله « لا حاجة لي بناظري » أي لا فائدة لي حينئذ به لأنه يرى الأكوان الفانية والأزمان الزائلة المضمحلة .
وقوله والسمع أي لا حاجة لي

« 325 »
 
أيضا بسمعي فلا انتفاع لي به لأنه يسمع الأصوات الكونية ويشتغل بالإدراكات الظلمانية . اهـ .
 
وقال قدّس اللّه سرّه : 
وهو مما رواه عنه الشيخ الإمام زكي الدين عبد العظيم المنذري المحدث بالقاهرة المحروسة رحمه اللّه تعالى :
وحياة أشواقي إليك *** وحرمة الصّبر الجميل
ما استحسنت عيني سواك ***  ولا أنست إلى خليل
 
[ المعنى ]
« الواو » للقسم . « والحياة » ضد الموت . وقوله « أشواقي » جمع شوق . وقوله « إليك » الخطاب للحق الظاهر في صورة الخلق .
وقوله « وحرمة » وفي نسخة وتربة أي مقبرة بطريق الاستعارة المكنية بذكر موت صبره في مقابلة حياة أشواقه . وقوله « الصبر الجميل » وهو الذي لا شكوى معه .
وقوله « ما استحسنت » أي ما رأت حسنا في كل ما رأت . وقوله عيني فاعل استحسنت .
وقوله « سواك » أي غيرك من جميع الأشياء والخطاب للحق المذكور .
وقوله « ولا أنست » أي وجدت الأنس من وحشة الدنيا والآخرة . اهـ .
 
وقال قدّس اللّه سرّه :
يا راحلا وجميل الصّبر يتبعه *** هل من سبيل إلى لقياك يتّفق
ما أنصفتك جفوني وهي دامية *** ولا وفى لك قلبي وهو يحترق
 
[ الاعراب والمعنى ]
« يا راحلا » كناية عن المتجلي بالوجود الحق تجليا برقيا فيظهر أمره بصور خلقه كلمح بالبصر . وقوله « وجميل الصبر » أي الصبر الجميل وهو الذي لا شكوى معه .
والواو : للحال . والجملة حال من ضمير راحلا . وقوله « يتبعه » أي هو راحل معه أيضا . وقوله « هل من سبيل » أي طريق .
وقوله « إلى لقياك » أي لقائك والخطاب للمتجلي الحق كما ذكرنا . وقوله « يتفق » أي يمكن حصوله .
وقوله « ما أنصفتك » أي أعطتك الإنصاف وهو العدل وترك الجور في إعطاء الشيء حقه .
وقوله « جفوني » جمع جفن يعني التي هي ناظرة إليك في وقت تجليك قبل رحيلك باستتارك وإظهارك ظلمة الكون مستعلية على أنوارك . وقوله « وهي » أي جفوني .
وقوله « دامية » أي ذات دم يعني باكية على فراقك دما موضع الدمع .
وهي جملة حالية ، واوها للحال من جفوني .
وقوله « ولا وفى » أي بوعد القيام لك بالطاعة في جميع أوامرك ونواهيك ظاهرا وباطنا .
وقوله « لك » متعلق بوفى . وقوله « قلبي » فاعل وفى .
وقوله « وهو يحترق » جملة حالية من قلبي والواو للحال ، وهذا الاحتراق بنيران الفراق . اهـ .

« 326 »
وقال قدّس اللّه سرّه : 
وهو ممّا رواه لي عنه الشيخ :
حديثه أو حديث عنه يطربني *** هذا إذا غاب أو هذا إذا حضرا
كلاهما حسن عندي أسرّ به *** لكنّ أحلاهما ما وافق النّظرا
 
[ المعنى ]
« حديثه » أي حديث هذا المحبوب الحقيقي ، وهو كلامه الذي يتكلم به ، وهو القرآن العظيم ، والذكر الحكيم حيث لم يتكلم عندي غيره به .
وقوله « أو حديث عنه » أي منقول عنه أنه حديثه وهو كلام غيره من الناس فإنه كلامه أيضا لكن ناقلة غيره .
 
وقوله « يطربني » أي يجعل عندي طربا لأني أسمع كلامه على كل حال إمّا منه بلا واسطة أحد ، أو بواسطة غيره من صورة إنسانية ، منسوب ذلك الكلام عندها إليها وهي عندي غيرها ، وذلك معنى قوله « هذا » أي الحديث عنه .
وقوله « إذا غاب » أي عني بأن استتر بصورة القارئ . وقوله « أو هذا » أي حديثه .
وقوله « إذا حضرا » بألف الإطلاق بأن ظهر له متجليا بصورة القارئ أو غيره من المتكلمين به .
وقوله « كلاهما أي حديثه‌بلا واسطة غيره وحديثه بواسطة غيره وحديثه بواسطة غيره من‌الناس المتكلمين به وقوله « حسن عندي » أي له حسن ظاهر ورونق باهر .
وقوله « أسر » بالبناء للمفعول . وقوله « به » أي بكل واحد منهما . وقوله « لكن » بالتشديد . وقوله « أحلاهما » أي أحلى الحديثين المذكورين أي أكثرهما حلاوة من الآخر .
وقوله « ما » أي حديث . وقوله « وافق النظرا » بألف الإطلاق أي كان حديثا ونظرا ، وهو حديثه بلا واسطة أحد بأن كان متجليا بصورة المتكلم . اهـ .
 
وقال قدّس اللّه سرّه : وهو ومما رواه عنه الشيخ شمس الدين المعروف بابن خلكان في كناية وفيات الأعيان :
قلت لجزّار عشقتو كم تشرّحني ذبحتني قال ذا شغلي توبّخني ومال إليّ وباس رجلي يربّخني يريد ذبحي فينفخني ليسلخني
 
[ المعنى ]
« قلت » بإشباع الضمة على تاء المتكلم . وقوله « الجزار » هو الذي يجزر أي يقطع أوداج الغنم ونحوها ، وهو الذباح من الجزر وهو القطع .
يشير بذلك إلى الحق تعالى الذي يقطع الجاهلين به عن الاتصال بجنابه ، ويغفل قلوبهم عن معرفة حضرته والوقوف ببابه ، والجزار الظاهر تجلي من تجلياته وهو مظهر الاسم المميت . وقوله « عشقتو » بالواو أي عشقته ، والموال موزون ولكنه ملحون ليس على مقتضى اللغة العربية .
وقد نقل عن النظام قدس اللّه سره أنه كان يحب غلاما جزارا أشهده الحق تعالى تجليه بصورته . وقوله « كم » لمعنى التكثير .
وقوله « تشرحني » بتشديد الراء أي

« 327 »
تجعلني شرائح جمع شريحة ، والمعنى أن تجعل كل قطعة مني على حدة متبينة لي بالكشف عن أجزاء بدني مفصلة جزأ جزأ . وقوله « ذبحتني » أي أمتني بسيف قهرك وسطوتك الموت الاختياري . وقوله « قال » أي ذاك الجزار المذكور بطريق الإلقاء في القلب . « ذا شغلي » أي أنا مشتغل بذلك الآن لأنه جزارتي وصنعتي .
قال تعالى : سَنَفْرُغُ لَكُمْ [ الرحمن : الآية 31 ] أي منكم لأني مشتغل بكم الآن .
وقوله « توبخني » من التوبيخ وهو اللوم والعذل . وقوله « ومال » بحذف الألف في النطق لاستقامة الوزن .
وقوله « إليّ » بتشديد الياء التحتية وميله عطفه وملاطفته به . وقوله « وباس » بحذد الألف للوزن أيضا .
وقوله « رجلي » من قوله صلى اللّه عليه وسلم : « كنت رجله التي يمشي بها » وهو الظهور بصورة رجله لأنها خلقه وفعله وقواها له ،
قال تعالى : أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [ البقرة : الآية 165 ] .
وقوله « يربخني » بتشديد الباء الموحدة من ربخه أي جعله مسترخيا أي ضعيفا . وقوله « يريد ذبحي » أي بظهوره بي وتجليه بظاهري وباطني . وقوله « فينفخني » أي بالكشف لي عن الروح الآمري المنفوخ فيّ منه . قال تعالى : وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ الحجر : الآية 29 ]
وقوله « ليسلخني » أي ليخرجني عن عالم الطبيعة فأنسلخ عنها . اهـ .
 
وروى لي عنه السيد الشريف الشيخ الإمام ضياء الدين جعفر ابن الشيخ الإمام محمد ابن الشيخ عبد الرحمن القناوي رحمه اللّه تعالى ،
قال زرت الشيخ شرف الدين فسمعته يقول :
لمّا نزل الشّيب برأسي وخطا والعمر مع الشّباب ولّى وخطا
أصبحت بسمر سمرقند وخطا لا أفرق ما بين صواب وخطا
 
[ المعنى ]
« لما نزل الشيب » وهو بياض الشعر كناية عن ظهور نور الوجود الحق على ظلمة كونه بحيث اختفى عنه سوادها ببياض إشراق ذلك النور .
وقوله « برأسي » أي بصورة كلي فإن الرأس مما يعبر به عن الكل ، يقال عندي مائة رأس أي مائة إنسان .
والرأس موضع الحواس الخمس والعقل ، فإذا ابيض سواد ذلك بنور تجلي الوجود الحق ذهبت ظلمة الكون عنده وأشرقت الأرض بنور ربها .
وقوله « وخطا » بألف الإطلاق يقال وخطه الشيب خالطه .
وقوله « والعمر » أي مدة الحياة في الدنيا . وقوله « مع الشباب » أي أوّل العمر .
وقوله « ولّى » بتشديد اللام أي مضى وأدبر .
وقوله « وخطا » يقال خطا خطوا مشى . وقوله « أصبحت » أي دخلت في صباح شمس الأحدية .
وقوله « بسمر » أي بسبب رؤيتي أو محبتي ، والسمر جمع أسمر وهم الذين يترددون بين بياض نور التجلي وسواد ظلمة الاستتار من المشايخ الأخيار والأساتذة

« 328 »
الأبرار . وقوله « سمرقند » مدينة مشهورة وإسكان الميم وفتح الراء لحن وأما النظم هنا فاستقامته بإسكان الميم لضرورة الوزن وهم أولياء العجم أهل الكمال والعرفان . وقوله « وخطا » معطوف على سمرقند وهي بلاد أخرى في ولاية الترك . وقوله « لا أفرق » ما بين صواب « وخطا » أصله خطأ بالهمزة فخفف بحذفها أو هو ضد الصواب .
وذلك من كمال استغراقه في مشاهدة المحبوب الحقيقي بسبب اطلاعه على هؤلاء العارفين من أولياء العجم وشربه من مشربهم الرحيقي في المقام التصديقي والمنزل الصديقي . اهـ .
 
قال : وزرته مرة أخرى قريب وفاته فسمعته يقول :
خليلّى إن زرتما منزلي  *** ولم تجداه فسيحا فسيحا
وإن رمتما منطقا من فمي *** ولم ترياه فصيحا فصيحا
 
[ المعنى ]
« خليلي » بتشديد الياء التحتية تثنية خليل ، وهو الصديق أو من أصفى المودة وأصحها .
وقوله « إن زرتما » من الزيارة .
وقوله « منزلي » أي بيتي الذي أنا ساكن فيه يخاطب عقله وإيمانه لأنهما ملازمان له لا ينفكان عنه ، ومنزله مقامه الذي هو فيه مقيم من قدر اطلاعه على تجليات ربه عليه .
وقوله « ولم تجداه » أي ذلك المنزل المذكور .
وقوله « فسيحا » أي واسعا عظيما ، وهو سعة الصدر لقبول ما يرد عليه من الحقائق الإلهية والمعارف الربانية . وقوله فسيحا الفاء : للتعقيب .
وسيحا : فعل أمر خطاب للمثنى ، من ساح في الأرض ذهب ، فإن العقل والإيمان إذا لم يذهبا في حقائق الغيب ومعارف الملكوت يذهبان في عوالم المحسوسات والمعقولات .
وقوله « وإن رمتما » أي أردتما خطاب لخليليه المذكورين . وقوله « منطقا » من نطق تكلم .
 
وقوله « من فمي » وهو النطق اللساني الذي يكشف عن أسرار المعاني وقوله « ولم ترياه فصيحا » أي مفصحا لكما عن أسرار الغيوب وحقائق القلوب والفصح والفصاحة البيان .
وقوله « فصيحا » الفاء للتعقيب أيضا .
وصيحا : فعل أمر للمثنى ، خطاب لخليليه من الصياح وهو الصوت بأقصى الطاقة .
والحاصل أن العقل والإيمان خليلان ملازمان للكامل من نوع الإنسان ، وهما قوتان إلهيتان ينبعثان عن أمر اللّه تعالى والإنسان الكامل مفقود من دعوى الدخول في الوجود فهو منفرد مكتف بقيامه بالحق المعبود ، وتارة يزوره عقله وإيمانه فيعبد اللّه تعالى على الكشف وهو إحسانه ، فإن وجدا حضرته واسعة تسع كل شيء كان ذلك سر كماله في إنسانيته وإن وجداها تضيق عن أشياء فإنه ناقص الإيمان وإذا نقص إيمانه فقد نقص عقله فأمرهما بالسياحة في أرض الأكوان ليتحقق عندهما الإذعان والاعتبار بما يكون وما كان .
قال تعالى : قُلْ سِيرُوا

« 329 »
 
فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ [ الرّوم : الآية 42 ]
وإذا قصدا النطق بالحق ولم يكن اللسان فصيحا بذلك فقد أمرهما بالصياح طلبا للنجاح واستغاثة بالملك الفتاح : حي على الفلاح حي على الفلاح . اهـ .
 
وقال قدّس اللّه سرّه :
عوّذت حبيّبي بربّ الطّور من *** آفة ما يجري من المقدور
ما قلت حبيّبي من التّحقير *** بل يعذب اسم الشّيء بالتّصغير
 
[ المعنى ]
« عوذت » بتشديد الواو . وعذت بفلان واستعذت به ، أي لجأت إليه وأعذت غيري به وعوّذته بمعنى . وقوله « حبيبي » بالتصغير .
وقوله « برب الطور » متعلق بعوّذت ، والطور الجبل وجبل قرب أيلة يضاف إليه سيناء وسينين ، والمعنى بذلك هنا طور سيناء وسينين ، وهو الذي كلم اللّه تعالى عليه موسى والإشارة بحبيبي بالتصغير إلى ما في قلبه من الصورة التي تجلى بها ربه عليه ، وهو ما له من المعتقدات . وقوله « من آفة » هي العاهة أو مرض مفسد لما أصابه .
وقوله « ما يجري من المقدور » وهو ما يقدره اللّه تعالى على العبد ، والمعنى أنه عوّذ مظهر التجلي الرباني في خاطره النفساني برب موسى عليه السلام الذي ناجاه على طور سيناء ، وهو الذي ظهر له في صورة النار ،
حتى قال تعالى : وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ( 9 ) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً ( 10 ) [ طه : الآيتان 9 ، 10 ] فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ [ طه : الآية 11 ] الآية .
ومعلوم أنه وقع أولا في خاطر موسى عليه السلام صورة النار في الشجرة التي تجلّى عليه بها ربه تعالى وتقدس عن الصور كلها من حيث ما هو عليه سبحانه في ذاته وموسى يعلم التنزيه التام الرباني ،
وقد علم بالتشبيه الرحماني وبهما يحصل الكمال الإنساني بالتحقيق العرفاني فعوّذ الناظم صورة التجلي عليه العقلية وتنزيهاته الإيمانية فإن التنزيه إيمانيّ والتشبيه عقليّ ، وذلك هو المراد الشرعي في جميع الأديان فإن الحق تعالى لا يحصره تنزيه ولا تشبيه لأنه تنزه عنهما فخاف الناظم على ما عنده من ذلك من المكر الإلهي به وكان تعويذه له بسر ما وقع لموسى على الطور ليتحقق ما عنده بوراثته في مقام الإيمان باللّه من شر ما يقدره تعالى
بحكم قوله سبحانه : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشّورى : الآية 11 ]
تنزيه وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ الشّورى : الآية 11 ] تشبيه .
ثم استدرك ما أوهم له تعالى التحقير بالتصغير . فقال « ما قلت حبيبي » بالتصغير كناية عما عندي من المظهر المذكور .
وقوله « من التحقير » فإنّ التصغير يظهر منه في ابتداء الأمر عند الفهم أنه للتحقير في الاسم المصغر إما في الجرم أو في القدر .
وقوله « بل » للإضراب عن

« 330 »
 
معنى التحقير في معنى هذا التصغير .
وقوله « يعذب » اسم الشخص ، أي يصير عذبا أي حلوا وقوله « بالتصغير » قال الجلال السيوطي في شرح يائية الشيخ الناظم قدس اللّه سره تصغير الألفاظ دأب أهل الحب والعشق عند ذكر محبوبهم ، وهذا يسمى عند أهل الأدب تصغير التحبيب ، ويسمى عند أهل النحو تصغير التقريب ،
 
وأنشد الحريري في شرح الملحة قول الشاعر :
بذيالك الوادي أهيم ولم أقل * بذيالك الوادي وذياك من زهد
ولكن إذا ما حب شيء تولعت * به أحرف التصغير من شدة الوجد
( باسمه سبحانه نسأله إحسانه ) .
 
اعلم أن الشيخ الأستاذ من به كل عارف لاذ ، أعني به العارف صاحب المعارف ، وبحر العوارف ، الولي الكامل ، صاحب اللطف الوافر الشامل ، الشيخ عمر بن الفارض ، سقى اللّه ثراه من مياه المغفرة بأعذب عارض ،
قد سافر من مصر القاهرة ، إلى دمشق الخضراء ذات الرياض الزاهرة ، فوصل إليها وأهلها شاكون من ألم الطاعون ، ولم يجد بها من كان يروم من أهل الصفاء ، فرجع إلى وطنه مستعيذا باللّه من الجفاء ، وقال عند الطلوع مشيرا إلى الرجوع جلق . « أجنة من تاه وباها » . إلى آخر الأبيات الثلاثة الآتية .
 
وقد أغفلت شرح هذه الأبيات غفلة ، فاطلع على ذلك من حزت بوجوده سعدا ، سيدي ومخدومي الكريم ، ذو الطبع المستقيم ، والوجه الوسيم ، من تقلد قضاء الشام مرة بعد أخرى ، وأدرك الثناء الجميل في الدنيا والثواب في الأخرى .
أعني به المولى مصطفى الشهير بعرفي زاده ، بلغه اللّه الحسنى وزيادة ، فإنه قد كان كتب من شرحي للديوان المذكور نسخة لطيفة ، وذلك عند حضوره لقضاء الشام في المرّة الثانية من سنة إحدى وعشرين بعد الألف ، وسافر بعد الانفصال عن القضاء المذكور إلى الروم ،
وأرسل إليّ مكتوبا يتضمن إغفال بعض بيوت من الديوان بغير شرح ،
من جملتها هذه الأبيات الأربعة ، وكان وصول مكتوبه إليّ في جمادى الآخرة من شهور سنة ثلاث وعشرين بعد الألف من الهجرة النبوية ، على مهاجرها ألف ألف تحية فامتثلت المرسوم وأجبت لما ورد من الروم بما يروم .
فقلت :
جلّق جنّة من تاه وباهى *** ورباها منيتي لولا وباها
 
« جلق » بكسر الجيم وفتح اللام المشددة المفتوحة ويجوز كسرها أيضا ، اسم لنفس دمشق ويجب أن تنون مصروفة للوزن ، وفي القاموس وجلق كحمص بكسرتين مشددة اللام وكقنب دمشق أو غوطتها ، وقد علم مما في القاموس أن جلق كلمة غير

« 331 »
 
عربية ، وأنها اسم لنفس دمشق أو اسم لنفس غوطتها أو لموضع فيها . وهي مبتدأ .
و « جنة » خبرها . والخبر مضاف لمن . و « تاه » من التيه وهو الصلف والتكبر .
قوله « وباهى » المباهاة بالشيء المفاخرة به .
ومنه ( فإن اللّه يباهي بكم الأمم يوم القيامة ) فإن قلت : ما معنى دمشق جنة من تاه أما كونها جنة من باهى فمسلم لأن من سكن بها تفاخر بها وبمحاسنها على غيرها من البلاد ، لأن محاسنها عديدة ولطائفها فريدة .
 
قلت : لأنها مسماة بأم الجبابرة وكانت دمشق مسكن الجبارين ، ولقد نقل ابن عبد ربه في كتابه المسمى بالعقد أن من سكن بدمشق مدة سنة ، فإنه يجد في مزاجه كبرا ، ويجوز في معناه وجه ثان ، وهو أن يكون المراد بقوله من تاه المليح الذي يتيه على العاشقين بقرينة ما بعده لأن المراد به من باهى بمحاسنها .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح تتمّة قصائد ومقاطع للشيخ رضي الله عنه .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:53 pm

شرح تتمّة قصائد ومقاطع للشيخ رضي الله عنه .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح تتمّة قصائد ومقاطع للشيخ رضي الله عنه
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
شرح تتمّة قصائد ومقاطع للشيخ رضي الله عنه
وقد قال الشيخ رضي اللّه عنه :
ته دلالا فأنت أهل لذاكا *** وتحكم فالحسن قد أعطاكا
 
وهذه الأبيات من الرمل المسدس ، وهو فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن وفيه من زحافات الشعر ما هو جائز قال « ورباها منيتي لولا وباها » .
« الربا » جمع ربوة وهي مثلثة الراء ، وهي أعلى الشيء ، وإنما تمدح في الشعر لأن نبتها يكون ظاهرا ينظره كل أحد ، وأيضا فإن كل نبت يظهر للشمس كثيرا يعلو وينمو ويسمو ، والمراد بها الأماكن العالية التي تراد للنزهة ، وفي المثل وصل السيل الزبى يروى الزبى بالزاي ، وهو الأكثر ويروى الربا بالراء وهو قليل ، أما الأولى فالمراد منها جمع زبية ، وهي حفرة تحفر للأسد « 1 » وأما الثانية فقد علمتها وهذا مثل بضرب لوصول الشيء إلى غايته .
 
فإن قلت : قد قال أبو تمام :
لا تنكري عطل الكريم من الغنى * فالسيل حرب للمكان العالي
 
فهذا دليل على أن المكان العالي لا يوجد فيه ماء فكيف يكون نبتها مقبولا يتنزه به .
قلت : كثرة الماء كالسيل يضر بالنبات فلا يلزم من عدم وجود السيل في المكان العالي عدم وجود الماء الذي ينتفع به النبت فيصير به حسنا يتنزه به على أن الموضع العالي فيه للنبت فوائد منها الشمس ، ومنها لطف النسيم .
 والماء الذي يكون في المكان العالي فيه النفع وعدم الضرر بالتغريق .
قوله « ورباها منيتي » أي رباها مطلوبي أي ما أطلبه وأريده .
« لولا وباها » الوباء موت يحدث من تعفن الهواء وفساد الطبيعة ،
..........................................................................................
( 1 ) قوله : تحفر للأسد أي في موضع عال كما في المصباح .
 
« 332 »
 
وقد نقل الفقهاء أن الطاعون غيره فلا تنافي بين أن يكون أحدهما من طعن الجن ويكون الآخر من فساد الهواء ، فإنه نقل عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح إنك قد أسكنت الناس في أرض موبئة فانقلهم إلى الجابية من بلاد حوران ،
وبهذا ينحل أيضا الإشكال عن توجه بعض العلماء الأعلام من بلد الوباء إلى بلد آخر خوفا من فساد هوائه ، فإنه قد ورد في الحديث ما يكاد يكون صريحا في منع ذلك ،
فيقال الممنوع فيما كان من طعن الجن ، والذي يجوز ما كان من الوباء وفساد طبيعة السنة ، وأيضا فإن الشهادة في الموت من طعن الجن لا من القسم الآخر .
 
والشيخ كره الوباء ، ونقل أنه مكث بدمشق سبعة أيام وكرّ راجعا إلى مصر ، فلم يفرّ من الطاعون ، وإنما كان فراره من الوباء الذي هو مرض من الأمراض .
وما ألطف الجناس التام في قوله وباها وقوله لولا وباها ، والتمام في الكلمة الأولى من حرف العطف . وفي تاه وباهى جناس التصحيف ، وفي قوله رباها ووباها .
ورأيت في بعض كتب الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة ، أنه لو أودع رجل رجلا غلاما ، وكان في بلدة ليست من بلاد الوباء ، فنقله إلى بلاد الوباء كدمشق وقسطنطينية فمات ، ضمن الغلام لأنه عرضه للموت .
 
( ن ) : قوله جنة من تاه ، يعني يليق لأهلها أن يفتخروا ويتكبروا لأنها جنة في معمور الدنيا . وقوله وباهى ، يعني أن الساكن بها يباهي الساكن في غيرها من البلاد فيغلبه بالحسن الذي لها ، ويعني بذلك أهلها من الأربعين الأبدال أصحاب المقامات الإلهية والمراتب العرفانية .
 
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأبدال بالشام ، وهم أربعون رجلا كلما مات رجل أبدل اللّه مكانه رجلا يسقي بهم الغيث ، وينتصر بهم على الأعداء ، ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب .
رواه الإمام أحمد في مسنده عن عليّ كرّم اللّه وجهه .
وقوله لولا وباها قال في الصحاح الوباء يمد ويقصر مرض عام ، وجلق الشأم مشهورة بهذا المرض ، فإنه إذا أصاب البعض أصاب الكل ، كالزكام في الشتاء ، والحميات في الصيف والربيع ، والسعال في الخريف ونحو ذلك . اهـ .


قيل لي صف بردا كوثرها ***  قلت غال برداها برداها
 
[ المعنى ]
« قيل » مبني للمجهول . و « صف » فعل أمر من الوصف . و « بردا » نهر كبير بدمشق ، وهو النهر الذي في وسط الميدان الأخضر ، ودمشق لا تنتفع منه بيوتها ، وإنما تنتفع به القرى الواقعة تحته من جانب الغوطة والمرج . واعلم « 1 » أنه يجوز في
..........................................................................................
( 1 ) قوله : واعلم الخ . حق العبارة أن يقال واعلم أن بردا مفعول وكوثرها مضاف إليه مجرور -


 
« 333 »
 
بردا أن يكون مضافا إلى كوثرها ، ويجوز أن يكون مفعولا ، ويكون « كوثرها » منصوبا على أنه بدل من بردا ، أي صف لي بردا الذي هو كوثر دمشق ، فيكون في ذلك إشارة إلى أن دمشق جنة لأن الكوثر لا يكون إلا في الجنة .
قال « قلت غال برداها برداها » أي لما قيل لي صف بردا كوثرها ومحاسنه ، فأجبتهم بأن برداها لطيف يستحق المديح والتقريظ والوصف ، لكن إذا قست بردا دمشق الذي هو نهرها اللطيف الذي يشق واديها الأخضر برداها ، أي بالموت الذي يلازمها بالوباء المذكور في البيت الأول فيكون بردا غاليا برداها .
وقد عبر عن الوباء بالردى لأن الردى يطلق على الموت أيضا ، وليحصل أيضا التجنيس في برداها وبرداها ، والباء الأولى من نفس الكلمة أعني بردا مضاف إلى ضمير الشأم .
والباء الثانية مكسورة على أنها حرف جر وهي للمعاوضة .
ثم أنه رجع إلى وصف بلدته مصر بعد أن مدح الشأم لذاتها وصفاتها ، وذم أمرا يعرض فيها وهو الوباء الذي يعرض من كثرة التعفن في الهواء والماء ، لكثرة المياه ولسقوط ورق الأشجار في زمن الخريف بها ، ويشرب الناس من المياه حينئذ فيلزم حدوث العوارض البلغمية وتحرك الأخلاط المؤدّي إلى ما يؤذي بالجسد فقال :
 
( ن ) : قوله غال برداها ، يعني لا تفي فرحتها بترحتها فالكمال الإلهي فيها متيسر للمخلصين أكثر من غيرها ، ورجالها الكاملون فيها بالتحقيق العرفاني أكمل من غيرهم في غيرها من البلاد ، لكن الإنكار عليهم فيها أكثر من إنكار غيرهم على أهل اللّه في غيرها . اهـ .
 
وطني مصر وفيها وطري *** ولعيني مشتهاها مشتهاها
 
[ المعنى ]
« وطني مصر » الوطن منزل الإقامة . ومصر المدينة المعروفة ، وسميت بمن بناها ، وهو مصر بن نوح . وقد تصرف لسكون وسطها وعدم عجمتها وزيادتها على ثلاثة أحرف .
 
والقاهرة هي المدينة المقاربة لمصر المذكورة بناها القائد جوهر ، وهو رأس العساكر المرسلة من المغرب المهدية ، أرسلها معه المعز معد العلوي الفاطمي ، وهو أوّل من دخل إلى مصر متملكا لها من الملوك الفاطميين .
وقد ملك منهم مصر أحد عشر ملكا أولهم المعز وآخرهم العاضد .
 
فإذا أردت التعبير عنهما فقل : مصر والقاهرة ، لأن القاهرة عبارة عن المدينة التي عمرها رأس العساكر جوهر القائد ، وإنما قيل لها القاهرة لأن جوهر المذكور رصد لوضع الأساس وقتا ، فأوقف أناسا يترصدون
..........................................................................................
- ويجوز أن يكون كوثرها منصوبا الخ .


 
« 334 »
 
الوقت لأجل إلقاء أحجار الأساس ، ووضع لذلك علامة يعلم منها حصول الوقت لبقية الجماعة ممن ليس عند الرصد ، وذلك أجراس تصوّت عند تحريك الحبل فإذا سمعوا صوتها ألقوا أحجار الأساس فوقع طائر فوق حبل الأجراس وطار فتحرك الحبل وصوتت الأجراس فوضعوا أحجار الأساس لغير وقتها المرصود وزمانها المعهود ، فسميت القاهرة وقيل غير ذلك .
« وفيها » أي مصر . « وطري » أي مرادي ومطلوبي .
قوله « ولعيني مشتهاها مشتهاها » هذه العبارة لا تخلو عن إشكال من جهة المعنى والإعراب .
والمطلوب منها هكذا ، ومشتهى مصر مشتهى عيني ، لأن في مصر مكانا يعرف بالمشتهى ، وهو من محاسنها . والذي خطر لي في إعرابها أن أقول ومشتهاها ، على أن الضمير عائد إلى مصر مبتدأ ولعيني بعده حال أي ومشتهى مصر مقابلا لعيني أو مزينا . « مشتهاها » أي مطلوبها .
والضمير في مشتهى الأول راجع إلى مصر والضمير الثاني عائد إلى العين .
وحاصله ومشتهى مصر مشتهى عيني . وفي طرابلس أيضا مكان يسمى تل المشتهى .
 
( ن ) : قوله ولعيني ، خبر مقدم . وقوله مشتهاها ، الأوّل مبتدأ ، والضمير للعين أي مشتهى عيني ، والخبر واجب التقديم هنا لعود الضمير إليه ، فلو تأخر لعاد الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة ، وهو غير جائز .
وهذا المشتهى الأوّل اسم مفعول مشتق من الشهوة ، وهو اشتياق النفس إلى الشيء . فالمشتهى اسم مفعول مضاف إلى ضمير الفاعل وهو ضمير العين .
وقوله مشتهاها الثاني مرفوع بضمة مقدرة على الألف نائب فاعل مشتهى الأوّل وأصله منصوب على المفعولية .
وهذا المشتهى الثاني اسم مكان في مصر مشهور ، وضمير مشتهاها الثاني راجع إلى مصر في المصراع الأوّل ، وهذا الإعراب هو الذي ينبغي أن يكون عليه المعول .
والمعنى على هذا ولعيني يشتهي مشتهى مصر . اهـ .
ولنفسي غيرها إن سكنت *** يا خليليّ سلاها ما سلاها
 
[ المعنى ]
هذا التركيب في غاية الإشكال ، ولكن المتبادر من اللفظ أن تكون اللام في لنفسي زائدة ، وتكون نفسي فاعلا لفعل محذوف يفسره الفعل الذي بعده إذ التقدير وإن سكنت نفسي غيرها ، أي غير مصر « فيا خليلي سلاها » أي سلا نفسي الذي سلاها ، أي أذابها حيث سكنت إلى غير مصر .
 
واعلم أنه يقال سكن قلبي إلى فلان ، أي مال إليه قلبي ، ويجوز أن يكون المراد إن سكنت نفسي بلدة غير مصر فاسألا يا خليلي نفسي عن السبب الذي أذابها ، وما ذلك السبب إلا أنها سكنت غير وطنها المعهود ومالت إلى غير وردها المورود .

« 335 »
 
( ن ) : قوله ما سلاها ، ما اسم استفهام ، معناها أي شيء . وسلا فعل ماض .
قال في المصباح سلوت عنه سلوا صبرت . وقال أبو زيد السلو طيب نفس الألف عن ألفه . قال في القاموس سلاه وعنه كدعاه ورضيه نسيه .
 
والمعنى :
يا خليلي سلا نفسي أي شيء أوجب لها السلو والنسيان والصبر عن بلادها مصر إن توطنت غيرها من البلاد ، وسكنت في مدينة سواها من مدن العباد ، فإن حبّ الوطن من الإيمان ، وإليه حنين الركبان . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: قصيدة ته دلالا لسلطان العاشقين عمر ابن الفارض   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:54 pm

قصيدة ته دلالا لسلطان العاشقين عمر ابن الفارض
01 - ته دلالا، فأنت أهل لذاكا، ... وتحكم، فالحسن قد أعطاكا
02 - ولك الأمر، فاقض ما أنت قاض، ... فعلي الجمال قد ولاكا
03 - وتلافي، إن كان فيه ائتلافي ... بك، عجل به، جعلت فداكا
04 - وبما شئت، في هواك، اختبرني، ... فاختياري ما كان فيه رضاكا
05 - فعلى كل حالة أنت مني ... بي أولى، إذ لم أكن لولاكا
06 - وكفاني عزا، بحبك، ذلي، ... وخضوعي، ولست من أكفاكا
07 - وإذا ما إليك، بالوصل، عزت ... نسبتي، عزة، وصح ولاكا
08 - فاتهامي بالحب حسبي، وأني ... بين قومي أعد من قتلاكا
09 - لك في الحي هالك بك حي، ... في سبيل الهوى استلذ الهلاكا
10 - عبد رق، ما رق يوما لعتق، ... لو تخليت عنه ما خلاكا
11 - بجمال حجبته بجلال ... هام، واستعذب العذاب هناكا
12 - وإذا ما أمن الرجا منه أدنا ... ك، فعنه خوف الحجي أقصاكا
13 - فبإقدام رغبة، حين يغشا ... ك، بإحجام رهبة يخشاكا
14 - ذاب قلبي، فأذن له يتمنا ... ك وفيه بقية لرجاكا
15 - أو مر الغمض أن يمر بجفني، ... فكأني به مطيعا عصاكا
16 - فعسى، في المنام، يعرض لي الوه ... م، فيوحي، سرا إلي سراكا
17 - وإذا لم تنعش بروح التمني ... رمقي، واقتضى فنائي بقاكا
18 - وحمت سنة الهوى سنة الغم ... ض جفوني، وحرمت لقياكا
19 - أبق لي مقلة لعلي يوما، ... قبل موتي، أرى بها من رآكا
20 - أين مني ما رمت، هيهات، بل أي ... ن لعيني، بالجفن، لثم ثراكا
21 - فبشيري لو جاء منك بعطف، ... ووجودي في قبضتي قلت: هاكا
22 - قد كفى ما جرى دما من جفون، ... بك، قرحى، فهل جرى ما كفاكا
23 - فأجر من قلاك، فيك، معنى، ... قبل أن يعرف الهوى، يهواكا
24 - هبك أن اللاحي نهاه بجهل ... عنك، قل لي: عن وصله من نهاكا
25 - وإلى عشقك الجمال دعاه، ... فإلى هجره، ترى من دعاكا؟
26 - أترى من أفتاك بالصد عني، ... ولغيري، بالود، من أفتاكا
27 - بانكساري، بذلتي، بخضوعي، ... بافتقاري، بفاقتي، بغناكا
28 - لا تكلني إلى قوى جلد خا ... ن، فإني أصبحت من ضعفاكا
29 - كنت تجفو، وكان لي بعض صبر، ... أحسن الله، في اصطباري، عزاكا
30 - كم صدودا، عساك ترحم شكوا ... ي، ولو باستماع قولي: عساكا
31 - شنع المرجفون عنك بهجري، ... وأشاعوا أني سلوت هواكا
32 - ما بأحشائهم عشقت، فأسلو ... عنك يوما، دع يهجروا، حاشاكا
33 - كيف أسلو، ومقلتي كلما لا ... ح بريق، تلفتت للقاكا
34 - إن تبسمت تحت ضوء لثام، ... أو تنسمت الريح من أنباكا
35 - طبت نفسا إذ لاح صبح ثنايا ... ك لعيني، وفاح طيب شذاكا
36 - كل من في حماك يهواك، لكن ... أنا وحدي بكل من في حماكا
37 - فيك معنى حلاك في عين عقلي، ... وبه ناظري معنى حلاكا
38 - فقت أهل الجمال، حسنا وحسنى، ... فبهم فاقة إلي معناكا
39 - يحشر العاشقون تحت لوائي، ... وجميع الملاح تحت لواكا
40 - ما ثناني عنك الضني، فبماذا، ... يا مليح، الدلال عني ثناكا؟
41 - لك قرب مني ببعدك عني، ... وحنو وجدته في جفاكا
42 - علم الشوق مقلتي سهر اللي ... ل، فصارت، من غير نوم، تراكا
43 - حبذا ليلة بها صدت إسرا ... ك، وكان السهاد لي أشراكا
44 - ناب بدر التمام طيف محيا ... ك، لطرفي، بيقظتي، إذ حكاكا
45 - فتراءيت في سواك لعين ... بك قرت، وما رأيت سواكا
46 - وكذاك الخليل قلب قبلي ... طرفه، حين راقب الأفلاكا
47 - فالدياجي لنا بك الآن غر، ... حيث أهديت لي هدى من سناكا
48 - ومتى غبت ظاهرا عن عياني، ... ألفه، نحو باطني، ألفاكا
49 - أهل بدر ركب، سريت بليل ... فيه، بل سار في نهار ضياكا
50 - واقتباس الأنوار من ظاهري ... غير عجيب، وباطني مأواكا
51 - يعبق المسك، حيثما ذكر اسمي، ... منذ ناديتني أقبل فاكا
52 - ويضوع العبير في كل ناد، ... وهو ذكر معبر عن شذاكا
53 - قال لي حسن كل شيء تجلى: ... بي تملى!! فقلت: قصدي وراكا
54 - لي حبيب أراك فيه معني، ... غر غيري، وفيه، معنى، أراكا
55 - إن تولى على النفوس تولى، ... أو تجلى يستعبد النساكا
56 - فيه عوضت عن هداي ضلالا، ... ورشادي غيا، وستري انهتاكا
57 - وحد القلب حبه، فالتفاتي ... لك شرك، ولا أرى الإشراكا
58 - يا أخا العذل في من الحسن، مثلي، ... هام وجدا به، عدمت أخاكا
59 - لو رأيت الذي سباني فيه ... من جمال، ولن تراه، سباكا
60 - ومتى لاح لي اغتفرت سهادي، ... ولعيني قلت: هذا بذاكا
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح نسخت بحبي آية العشق من قبلي الأبيات من 01 إلى 08 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:54 pm

شرح نسخت بحبي آية العشق من قبلي الأبيات من 01 إلى 08 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة نسخت بحبي آية العشق من قبلي الأبيات من 01 إلى 08
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة الرابعة عشرة نسخت بحبي آية العشق من قبلي ]
وقال قدس اللّه سرّه :
01 - نسخت بحبّي آية العشق من قبلي  *** فأهل الهوى جندي وحكمي على الكلّ
 
[ المعنى ]
« نسخت » من النسخ . قال في القاموس نسخه كمنعه أزاله وغيره ، وأبطله وأقام شيئا مقامه . وقوله « بحبي » أي بمحبتي وعشقي للجمال الإلهي .
والكلام هنا من الناظم عن الحقيقة المحمدية والنور الإلهي المتجلي بالحضرة الأحمدية ، لأنه لمحة من لمحات ذلك النور ، وقطرة من بحر ذلك العالم المقدور .
وقد ورد في الحديث أن اللّه تعالى خلق الكائنات جميعها من نور محمد صلى اللّه عليه وسلم بعد أن خلق نوره من نوره ، فليس بعجيب أن يرجع الشيء إلى أصله ، ويتصل السهم بنصله .
والاقتصار في النسخ على ذكر المحبة لأن المحبة مقامه صلى اللّه عليه وسلم لأنه حبيب اللّه ، أي محبوب اللّه ، فعيل بمعنى مفعول ، ويأتي أيضا بمعنى فاعل كرحيم بمعنى راحم ، والإشارة إلى ذلك بقوله تعالى : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ المائدة : الآية 54 ]
وقوله « آية » مفعول نسخت ، والآية العلامة ، ومن القرآن كلام متصل إلى انقطاعه . وقوله « العشق » هو إفراط الحب ويكون في عفاف وغيرة ، أو عمى الحس عن إدراك عيوب المحبوب .
 
أو مرض وسواسي يجلبه لنفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور ، فإن مقام محمد صلى اللّه عليه وسلم مقام المحبة لا مقام العشق رد على المشركين لما قالوا إن محمدا عاشق ربه ، والوارد عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه محب لربه ومحبوب لا عاشق ، فقد نسخ عليه السلام آية العشق فهو باق على بشريته قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [ الكهف : الآية 110 ]
فلا فرق إلا بالوحي بجبريل وبالعصمة وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ المائدة : الآية 67 ]
يحفظك من رذائل أخلاقهم وما يصدر منهم . وقوله « من قبلي » فإنهم تفصيله وهو مجملهم ، هو الآخر الأوّل الذي عليه المعول . وقوله « فأهل » الفاء للتفريع على ما قبله .
وقوله « الهوى » هو المحبة الإلهية في الورثة المحمدية .
وقوله « جندي » بالضم وهو العسكر والأعوان لأنهم يقررون شرائعه ويوضحون ذرائعه فينصرونه

« 336 »
بالأقوال والأفعال والأحوال . وقوله « وحكمي على الكل » أي كل من خلق اللّه من أهل الهوى وغيرهم . قال تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ( 107 ) [ الأنبياء : الآية 107 ] .


02 - وكلّ فتى يهوى فإنّي إمامه *** وإنّي بري من فتى سامع العذل
 
[ المعنى ]
« كل فتى » هو السخي الكريم . وقوله « يهوى » أي يحب بالمحبة الإلهية . وقوله « فإني إمامه » أي هو مقتد بي . قال تعالى له : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ آل عمران : الآية 31 ] وقوله « وإني بريء » أي متبرىء . قوله « من فتى » أي ممن هو موصوف بالفتوة . وقوله « سامع العذل » أي اللوم على محبته الإلهية من الغافلين عن الحضرة الربانية .


03 - ولي في الهوى علم تجلّ صفاته  *** ومن لم يفقّهه الهوى فهو في جهل
 
[ المعنى ]
« ولي » أي لا لغيري ممن هو ليس على طريقتي . وقوله « علم » تنكيره للتعظيم أي علم شريف إلهي ذوقي كشفي . وقوله « تجل صفاته » أي تعظم عن مدارك القاصرين وأفهام الجاهلين . وقوله « ومن لم يفقهه » أي يفهمه . وقوله « الهوى » أي الميل الرباني والحب الرحماني . وقوله « فهو في جهل » أي جاهل بربه محروم لذة قربه ، استولت على قلبه الغفلات وأسرته حين سترته الغفلات .


04 - ومن لم يكن في عزّة الحبّ تائها *** بحبّ الّذي يهوى فبشّره بالذّلّ
 
[ المعنى ]
« ومن لم يكن في عزة الحب » أي المحبة الإلهية . وقوله « تائها » أي مفتخرا بها . وقوله « بحب » أي بمحبة متعلق بتائها .
وقوله « الذي يهوى » أي المحبوب الذي يحبه ، وهو المحبوب الحقيقي الظاهر وجهه في كل محبوب ، كما قال سبحانه : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : الآية 88 ]
فشرط ظهور الوجه الإلهي هلاك الشيء وفناؤه فإن هلك الشيء وفني ظهر الوجه الإلهي ،
فكان الحب إلهيا وإن بقي الشيء ولم يهلك ولم يفن فالحب كوني مجازي وهو لأرباب الغفلات المحجوبين بالأشياء عن وجه الذات والمحبة الإلهية تعطي العزة للمحب من عزة المحبوب الحق فلا ذل له أصلا كما أنّ المحبة الكونية تعطي الذلة بالخاصية للمحب من ذلة محبوبه ،
 
ولهذا قال في حقه « فبشره بالذل » على طريقة التهكم كقوله تعالى : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [ آل عمران : الآية 21 ] .


05 - إذا جاد أقوام بمال رأيتهم *** يجودون بالأرواح منهم بلا بخل
06 - وإن أدّعوا سرّا رأيت صدورهم *** قبورا لأسرار تنزّه عن نقل
07 - وإن هدّدوا بالهجر ماتوا مخافة *** وإن أوعدوا بالقتل حنّوا إلى القتل
08 - لعمري هم العشّاق عندي حقيقة *** على الجدّ والباقون عندي على الهزل
 


« 337 »
[ المعنى ]
« إذا جاد » أي سمح . وقوله « أقوام » جمع قوم وهم المحبون للأشياء الهالكة الفانية .
وقوله « بمال » أي من متاع الدنيا الفانية طمعا في لقاء محبوبهم والتمتع بالوصول إلى مطلوبهم .
وقوله « رأيتهم » بإرجاع الضمير إلى أهل الهوى الذين هم جنده كما سبق في البيت الأوّل ، وهم المحبون الإلهيون كما قدّمناه .
 
والخطاب لكل من في الباب من أولي الألباب . وقوله « يجودون » أي يسمحون حبّا في اللّه تعالى ورغبة في سبيله .
وقوله « بالأرواح » جمع روح . وقوله « منهم » الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف حال من الأرواح أي كائنة منهم .
وقوله « بلا يخل » متعلق بيجودون وهذا في مقابلة الذين يجودون بالمال الفاني فإنهم يجودون بالروح الباقي ولا يبخلون به في محبة المحبوب .
 
وقوله « وإن ادعوا » بالبناء للمفعول أي أودعهم اللّه تعالى بأن حقق أرواحهم وأوضح لهم مجيئهم ورواحهم . وقوله « سرّا » يعني من أسراره تعالى المختفية عن أهل الحجاب والغفلة .
وقوله « رأيت » بفتح تاء الخطاب للمخاطب الذي ذكرناه . وقوله « صدورهم » جمع صدر .
وقوله « قبورا » جمع قبر على التشبيه بالميت المدفون في القبر . وقوله « لأسرار » جمع سر وهو ما يكتم من الأمور الخفية .
 
وقوله « تنزه » بالبناء للمفعول والجملة صفة لأسرار وتنكيرها للتعظيم .
وقوله « عن نقل » متعلق بتنزه والنقل الإذاعة والإفشاء وإنما تنزهت عن ذلك لأن العبارات لا تؤدّي معناها فلو قيلت بالعبارة لكانت إليها إشارة . وقوله « وإن هدّدوا » بالبناء للمفعول أي خوّفوا بأن خوّفهم مخوّف من جهة الحق تعالى وهي الزلة يسقطون بها .
وقوله « بالهجر » متعلق بهدّدوا ، والهجر كناية هنا عن سدل الحجاب على عين القلب .
وقوله « ماتوا مخافة » تمييز وموتهم هو رجوعهم إلى المجاهدة وتصحيح العزم بالتوبة على المكابدة .
« وإن أوعدوا » بالبناء للمفعول من أوعد في الشرّ كما أن وعد يكون في الخير أي جاءهم وارد الإلهام من جهة الحق ذي الجلال والإكرام .
 
وقوله « بالقتل » يعني بقتل نفوسهم الباطلة بسيف الحق السريع بلا مماطلة . وقوله « حنوا » من الحنين وهو الشوق وشدّة البكاء والطرب أو صوت الطرب عن حزن أو فرح .
وقوله « إلى القتل » متعلق بحنوا أي الذين أوعدوا به شوقا إلى محبوبهم والحصول على مطلوبهم . وقوله « لعمري » بمعنى القسم . وقوله « هم » بضم الميم .
وقوله « العشاق » جمع عاشق يعني لا غيرهم عاشقون .
 
وقوله « عندي » أي في مذهبي واعتقادي . وقوله « حقيقة » يعني لا مجازا كغيرهم من العاشقين المحجوبين بصور المخلوقين عن المصوّر القديم الذي هو بكل

« 338 »
 
شيء عليم . وقوله « على الجدّ » بالكسر وهو الاجتهاد في الأمر وضدّ الهزل . وقوله « والباقون » أي غير هؤلاء من العشاق الذين يعشقون المعصم والساق .
وقوله « عندي » أي في رأيي واعتقادي . وقوله « على الهزل » ضدّ الجد فإن عشقهم بهوى نفساني ووسواس شيطاني وشهوة خفية وحالة غير مرضية فهي لعب ولهو وهزل ولغو وغفلة وسهو .
واللّه بصير بالعباد وإليه المرجع والمعاد .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح أنتم فروضي ونفلي الأبيات من 01 إلى 14 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:55 pm

شرح أنتم فروضي ونفلي الأبيات من 01 إلى 14 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة أنتم فروضي ونفلي الأبيات من 01 إلى 14
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة الخامسة عشرة أنتم فروضي ونفلي ]
وقال قدّس اللّه سرّه :
01 - أنتم فروضي ونفلي *** أنتم حديثي وشغلي
 
[ المعنى ]
« أنتم » خطاب للحضرات الإلهية والتجليات الأسمائية في كل شيء من الأشياء الحسية والمعنوية . وقوله « فروضي » جمع فرض وهو ما أوجبه اللّه تعالى ، سمي بذلك لأن له معالم وحدودا ، يعني ظهور جميع ما أفعله من الفرائض بكم لا بنفسي فأنتم أوجبتم عليّ ذلك ، وأنتم تفعلونه كما فعلتموني ، قال تعالى : فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [ المزمّل : الآية 9 ]
وقال تعالى : وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [ الأنعام : الآية 102 ] .
 
والوكيل بالوكالة المطلقة جميع ما يفعله من الأفعال العادية إنما يفعله للموكل لا لنفسه فهو يتصرّف عنه في جميع حركاته وسكناته في ظاهره وباطنه ، والموكل لم يفعل شيئا وإنما فعل الوكيل عنه ، ولم يفعل الوكيل شيئا لنفسه ، فالوكيل فاعل وليس بفاعل ، والموكل فاعل وليس بفاعل ، وهذا حكم اللّه تعالى على خلقه من إنسان وغيره من جميع الأشياء الحسية والمعنوية ، واللّه يحكم لا معقب لحكمه .
وقوله « ونفلي » النفل ما تفرضه على نفسك بنذر أو شروع من العبادات ، يعني وأنتم نوافلي أيضا فافعلها بكم وتفعلونها بي ، فأنا فاعلها ولست بفاعلها ، وأنتم فاعلوها بالوكالة عني ولستم بفاعليها لأنفسكم ، وقوله « أنتم حديثي » يعني وأنتم كلامي وحديثي ، وقوله « وشغلي » أي جميع ما أنا مشتغل به في الظاهر والباطن :


02 - يا قبلتي في صلاتي *** إذا وقفت أصلّي
03 - جمالكم نصب عيني *** إليه وجّهت كلّي
04 - وسرّكم في ضميري *** والقلب طور التّجلّي
 
[ المعنى ]
« يا قبلتي » ينادي الحضرات الإلهية وهي الوجه الظاهر بالتجليات الربانية ، من قوله تعالى : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ البقرة : الآية 115 ] ،
والقبلة بالكسر التي يصلي نحوها والجهة والكعبة . وقد ورد ( أن اللّه في قبلة أحدكم ) الحديث .
 
وقوله « في صلاتي » أي أنا مستقبل وجه الحق إذا استقبلت القبلة في حال الصلاة لا مستقبل جدار

« 339 »
 
المسجد لأني لا أرى المسجد ولا الجدار وإنما أرى وجه الحق فأستقبل له كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : الآية 88 ] .
وقوله « إذا وقفت أصلي » فإن وقوفي به له والصلاة منه لي لا مني له ، وهي رحمته فإن الصلاة منه الرحمة ، وهي مني عبادة له وشكر لإنعامه علي وهو الشكور بها له .
وقوله « جمالكم » أي الظاهر منكم على كل شيء بأنواع شتى للحواس الخمس وللعقل ، وقوله « نصب عيني » أي أشاهده ولا أشاهد غيره .
وقوله « إليه » أي إلى جمالكم . وقوله « وجهت كلي » أي ظاهري وباطني .
 
وقوله « وسركم » أي ما أعلمه منكم مما لا تسعه العبارة والخطاب للحضرات الإلهية كما سبق . وقوله « في ضميري » أي في قلبي .
وقوله « والقلب » أي قلبي . وقوله « طور التجلي » أي جبل الانكشاف الإلهي كما ورد ( ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن )
ومعنى « طور التجلي » أنه تعالى يناجيني من قلبي لاستيلائه عليه ،
وتدنيه إليه بتجليه لديه :


05 - أنست في الحيّ نارا *** ليلا فبشّرت أهلي
06 - قلت امكثوا فلعلّي *** أجد هداي لعلّي
07 - دنوت منها فكانت *** نار المكلّم قبلي
08 - نوديت منها كفاحا *** ردوا ليالي وصلي
09 - حتّى إذا ما تدانى *** الميقات في جمع شملي
10 - صارت جبالي دكّا *** من هيبة المتجلّي
11 - ولاح سرّ خفيّ  *** يدريه من كان مثلي
12 - وصرت موسى زماني  *** مذ صار بعضي كلّي
 
[ المعنى ]
« أنست » أبصرت . وقوله « في الحيّ » وهو البطن من بطون العرب ، والجمع أحياء ويكنى به عن المنزل إشارة إلى مجموعه ظاهرا وباطنا .
وقوله « نارا » هي حرارة عشقه ومحبته الإلهية الناشئة من قلبه .
وقوله « ليلا » منصوب على الظرفية إشارة إلى ظلمة طبعه ومزاجه العنصري .
وقوله « فبشرت أهلي » أي نفسي وقواها الظاهرة والباطنة .
وقوله « قلت امكثوا » أي لا تذهبوا من مكانكم وأنتم على ما أنتم عليه لا تفنوا لأنكم فانون . وقوله « فلعلي أجد » بالسكون في جواب الأمر وهو امكثوا .
واسم لعل الياء ، وخبرها محذوف تقديره أجد مرفوعا دل عليه المذكور ، واعترض بجملة الترجي استدراكا لما وقع منه بالقطع بالوجدان ، ولم يقع القطع بالوجدان من موسى عليه السلام ، فاقتدى به في ذلك ويمكن أن يكون سكون أجد

« 340 »
 
لضرورة الوزن أو نية الوقف ، وتكون أجد خبر لعل ، والوجد مأخوذ من الوجدان ، وهو الكشف والذوق والحس لا مجرّد الخيال والتفكر ، وقوله « هداي » بفتح ياء المتكلم أي اهتدائي إلى حقيقة أهلي المشار إليهم بقوله لهم امكثوا كما أشرنا إليهم ، والاهتداء إنما يكون إلى الحق تعالى .
 
وقوله « دنوت » أي قربت . « منها » أي من تلك النار المذكورة . وقوله « فكانت » أي فظهر لي أنها لم تزل .
وقوله « نار المكلم » بفتح اللام اسم مفعول ، وهو موسى عليه السلام الذي كلمه ربه .
وقوله « قبلي » أي في زمان بني إسرائيل لما أرسل إليهم وناره كانت تجليا إلهيا بصورة النار في شجرة الزيتون ،
قال تعالى :وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ( 9 ) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً ( 10 ) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى ( 11 ) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً( 12 ) [ طه : الآيات 9 - 12 ] .
وقوله « نوديت » بالبناء للمفعول . وقوله « منها » أي من تلك النار التي هي نار اللّه الموقدة المطلعة على الأفئدة . وقوله « كفاحا » مصدر كافح فلانا واجهه مكافحة وكفاحا كما في القاموس .
وقوله « ردّوا » أي ارجعوا . وقوله « ليالي وصلي » أي الليلات التي واصلتموني فيها وهي أحوالي العدمية الثابتة في حضرة العلم القديم ، ولا يحصل ذلك إلا بعد الفناء والاضمحلال بالكلية ذوقا وكشفا .
وقوله « حتى إذا ما تدانى » ما زائدة ، والتداني التقارب يقال تدانى بمعنى دنا قليلا قليلا . وقوله « الميقات » هو الوقت ، وهو هنا كناية عن الكشف وارتفاع حجاب الأغيار المسدول على القلوب والأفكار .
وقوله « في جمع شملي » يقال جمع اللّه شملهم ، أي ما تفرّق من أمرهم ، كناية عن ملاقاة المحبوب الحقيقي بكشف حجاب اللبس . وقوله « صارت جبالي » أي ما انجبل مني في الظاهر والباطن .
وقوله « دكا » أي مدكوكة دكا من الدك ، وهو الدّق والهدم . وقوله « من هيبة » أي عظمة .
وقوله « المتجلي » أي المنكشف ، وهو الحق تعالى الذي هو المحبوب الحقيقي فإنه إذا جاء الحق زهق الباطل . وقوله « ولاح » أي ظهر وانكشف . وقوله « خفي » وهو ما يكتم من الأمر الإلهيّ والشأن الرباني .
وقوله « يدريه » أي بعرفه ذوقا وكشفا . وقوله « من كان مثلي » أي عارفا محققا بنفسه وبربه عن كشف وشهود وعيان .
وقوله « وصرت موسى زماني » أي وارثا علم موسى في الزمان الذي أنا فيه . وقوله « مذ » أي حين .
وقوله « صار بعضي » أي كل بعض مني . وقوله « كلي » أي جميعي يشير إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم في حديث المتقرّب بالنوافل ( كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ) إلى آخره . اهـ .

 
« 341 »
13 - فالموت فيه حياتي *** وفي حياتي قتلي
14 - أنا الفقير المعنّى *** رقّوا لحالي وذلّي
 
« فالموت » الفاء للتفريع على ما قبله . والموت مفارقة الحياة فإن العارف المحقق إذا عرف نفسه وجدها في يد الحق كالقلم في يد الكاتب ، لكن القلم لا قدرة ولا إرادة له ولا سمع ولا بصر ، ونحو ذلك من صفات الإنسان . وأما الإنسان فإن له كل ذلك على وجه الكمال ، والحق تعالى هو المتصرّف في ظاهره وباطنه وليس الإنسان مع ذلك بمجبور لأنه مريد قادر ولا هو خالق لما يريد لأنه مخلوق . وقوله « فيه » أي في محبة هذا المحبوب الحقيقي .
 
وقوله « حياتي » يعني موتي الذي ينكشف لي هو حياتي الأزلية الأبدية لأنها حياته تعالى .
وقوله « وفي حياتي » يعني حياتي الأولى التي هي مجرّد توهم مني أني حيّ بنفسي إذا انكشف لي الأمر على ما هو عليه .
وقوله « قتلي » أي وجوب قتلي شرعا لأنّ ذلك دعوى خالق آخر مع الحق تعالى حيّ بنفسه ، وهو كفر موجب للقتل .
وقوله « أنا الفقير » أي المفتقر إلى الحق تعالى في ذاتي وصفاتي وأحوالي ظاهرا وباطنا .
وقوله « المعنى » بتشديد النون من عناني ، كذا يعنيني عرض لي وشغلني فأنا معنى به ، والأصل مفعول .
والإشارة بذلك أنه مشغول بالمحبة الإلهية لا ينفك عنها ، وهي محبة الحق تعالى له من قوله سبحانه :فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ[ المائدة : الآية 54 ] .
وقوله « رقوا » فعل أمر من رق الشيء يرق من باب ضرب خلاف غلظ ، ورقت الوالدة على ولدها من باب تعب حنت وعطفت ، يعني حنوا واعطفوا عليّ .
وقوله « لحالي » الحال صفة الشيء يعني حنوا واعطفوا على صفاتي التي تعلمونها مني في محبتكم .
 
وقوله « وذلي » من ذلك ذلّا إذا ضعف وهان ، وهو ذل الميت بين يدي الحيّ ، والفاني بين يدي الباقي ، والمعدوم بين يدي الموجود ، والباطل بين يدي الحق ، وذلك ذل حقيقي لا ينفك عن العبد أزلا وأبدا ، وهو في مقابلة عز الحق تعالى الأزليّ الأبديّ . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح أشاهد معنى حسنكم فيلذّ لي الأبيات من 01 إلى 07 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:56 pm

شرح أشاهد معنى حسنكم فيلذّ لي الأبيات من 01 إلى 07 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة أشاهد معنى حسنكم فيلذّ لي الأبيات من 01 إلى 07
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة السادسة عشرة أشاهد معنى حسنكم فيلذّ لي ]
وقال قدّس اللّه سرّه :
01 - أشاهد معنى حسنكم فيلذّ لي *** خضوعي لديكم في الهوى وتذلّلي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« أشاهد » مضارع شاهدته مثل عاينته وزنا ومعنى . وقوله « معنى حسنكم » أي أثر حسنكم ، والخطاب للأحبة من حيث الظهور الإلهيّ بالمظاهر المتعددة ، والحسن هو الجمال الحقيقي وهو حضرة الأسماء الحسنى .
وقوله « فليذ » الفاء للتعقيب ، ويلذ أي يصير لذيذا . وقوله « لي » أي لجميعي ظاهري وباطني . وقوله « خضوعي » فاعل يلذ ،
 
« 342 »
والخضوع قريب من الخشوع ، إلا أن الخشوع أكثر ما يستعمل في الصوت والبصر ، والخشوع في الأعناق كذا في المصباح .
وقوله « لديكم » أي في حضرتكم وحضرتهم هي الأكوان كلها ، والخطاب للأحبة المذكورين .
وقوله « في الهوى » أي في المحبة الإلهية وهي التي أوجبت الخضوع بين يدي المحبوب الحقيقي ، ولذة ذلك الخضوع لا تقاس بلذة .
وقوله « وتذللي » بالعطف على خضوعي ، والتذلل زيادة الضعف والهوان بين يدي أولي الوجوه الحسان .
 
02 - وأشتاق للمغني الّذي أنتم به *** ولولاكم ما شاقني ذكر منزلي
[ المعنى ]
« واشتاق » أي يحركني الشوق وهو نزاع النفس وحركة الهوى . وقوله « للمغني » أي المنزل والمقام كنى به عن النشأة الكونية لأنها أثر من آثار الأسماء الإلهية فهي منزل من منازل تجلياته الربانية .
وقوله «الذي» وصف للمغني. وقوله « أنتم » بضم الميم للوزن ، والخطاب للأحبة المذكورين .
وقوله « به » خبر أنتم ، والجملة صلة الموصول ، وجملة الموصول صفة المغنى على معنى الذي أنتم ظاهرون به .
وقوله « ولولاكم » بضم الميم للوزن والخطاب للأحبة المذكورين .
وقوله « ما شاقني » ما نافية وشاقني هاجني . وقوله « ذكر منزلي » أي وطني الأصلي وهو علم الحق تعالى به في الأزل . اهـ .
 
03 - فللّه كم من ليلة قد قطعتها *** بلذّة عيش والرّقيب بمعزل
04 - ونقلي مدامي والحبيب منادمي *** وأقداح أفراح المحبّة تنجلي
05 - ونلت مرادي فوق ما كنت راجيا *** فواطربا لو تمّ هذا ودام لي
 
[ المعنى ]
« فللّه » الفاء للتفريع على ما قبله واللام للتعجب . وقوله « كم » هي خبرية معناها التكثير . وقوله « من ليلة » من زائدة ، والإشارة بالليلة إلى النشأة الكونية التي يظهر بها الوجود الحق تعالى ظهور البدر الروحاني . وقوله « قد قطعتها » أي تحققت بها .
وقوله « بلذة عيش » أي حياة ربانية في حضرة قيومية .
وقوله « والرقيب » وهو خاطر الأغيار لسرّ الأسرار بدعوى النفس المتقلبة في الأطوار . وقوله « بمعزل » أي مفارق لنا متباعد عنا .
وقوله « ونقلي » بضم النون وفتحها ، قال في القاموس النقل ما يتنقل به على الشراب ، وقد يضم أو ضمه خطأ .
وقوله « مدامي » المدام الخمر كناية عما يوجب الغيبة عن الكائنات من حيث أنها أغيار للتجلي الحق الواحد القهار .
وقوله « والحبيب » هو المحبوب الحقيقي . وقوله « منادمي » يعني يناجيني في سرّي على شراب محبته ، وأناجيه وأنا طامع في كرمه وراجيه .
وقوله « وأقداح » جمع قدح بالتحريك وهو آنية

« 343 »
 
معروفة يكني به عن النشأة الكونية الكاملة من العارفين المحققين الممتلئين من شراب العلوم الإلهية والحقائق الربانية المسكرة للعقول الإنسانية ، قال تعالى : وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [ الإنسان : الآية 21 ] .
وقوله « أفراح » جمع فرح ، وهو لذة القلب بنيل ما يشتهي . وقوله « المحبة » هي المحبة الإلهية وأفراحها لذائذ القلب بالمحبوب الحقيقي .
وقوله « تنجلي » أي تعرض على الشاربين مجلوّة .
وقوله « ونلت مرادي » أي مقصودي ومأمولي من وصال المحبوب الحقيقي .
وقوله « فوق ما كنت راجيا » فإنه كان يرجو القرب إليه تعالى ، والمشاهدة لجمال وجه الحق الذي كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : الآية 88 ]
ثم ترقى به الحال حتى انكشف له حجاب النفس ، وانمحت نقطة الغين وقرت العين بالعين .
وبدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون ، وقوله « فواطربا » الفاء للتفريع على ما قبله .
و « وا » حرف ندبة ، وتكون اسما لا عجب ، وهي هنا للتعجب من كثرة طربه والطرب بالتحريك خفة تصيبه لشدّة حزن أو سرور والعامة تخصه بالسرور .
وقوله « لو تمّ » أي كمل . وقوله « هذا » أي ما أنا فيه الآن من الاتحاد الحقيقي بعد الفناء الكلي في وجوده الحق .
وقوله « ودام لي » أي استمرّ في مشاهدتي ولم يذهب عني . اهـ .


06 - لحاني عذول ليس يعرف ما الهوى *** وأين الشّجيّ المستهام من الخلي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« لحاني » أي لامني . وقوله « عذول » بالرفع فاعل لحاني ، والعذول اللائم بالمبالغة في اللوم ، وتنكيره لتحقير شأنه حيث لام وعنف على ما هو من أشرف الخصال في محبة الملك المتعال وهو جاهل بذلك لأنه غير سالك في هذه المسالك . وقوله « ليس يعرف ما الهوى » « ما » استفهامية ، أي لا يعرف أي شيء الهوى والمحبة الإلهية ، ثم قال « وأين الشجيّ » بتشديد الياء . « أين » اسم استفهام مبتدأ . و « الشجيّ » خبره . وقوله « المستهام » هو الذي أسهمه الحب أي أذاب جسمه .
قال في القاموس رجل مسهم الجسم ذاهبة في الحب ، وقال في الصحاح السهام بالفتح حر السموم وبالضم الضمر والتغير . وقوله من « الخلي » أي الخالي من هموم المحبة والعشق . اهـ .


07 - فدعني ومن أهوى فقد مات حاسدي *** وغاب رقيبي عند قرب مواصلي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« فدعني » الفاء للتعقيب . و « دعني » فعل أمر بمعنى اتركني . وقوله « ومن أهوى » أي مع الذي أحبه ، والخطاب للعذول في البيت قبله ، وهو الجاهل المنكر على أهل طريق اللّه تعالى لعدم معرفته بعلوم الأذواق . وقوله « فقد مات حاسدي » الفاء

« 344 »
 
للتعقيب ، و « مات » هلك من غيظه ، و « الحاسد » الشيطان الذي يعرف قدر علوم الذوق ، ويعلم الجزاء العظيم على المحبة الإلهية والشوق ، فالمنكر جاهل بقدر العرفان ، والذي يعرف قدر ذلك فيحسد عليه هو شيطان ، والمؤمن العارف واقع بينهما وهو عندهما في ذلة وهوان ، وباللّه المستعان .
وقوله « وغاب رقيبي » أي ذهب عني خاطر الأغيار واتضح عندي سرّ الأسرار ،
وقوله « عند قرب مواصلي » أي اقترابه مني على معنى انكشاف أمره الحق لديّ على ما هو عليه حين فنائي في وجوده وتمتعي به في شهوده . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح أبرق بدا من جانب الغور لامع الأبيات من 01 إلى 60 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:57 pm

شرح أبرق بدا من جانب الغور لامع الأبيات من 01 إلى 60 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة أبرق بدا من جانب الغور لامع الأبيات من 01 إلى 60
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة السابعة عشرة أبرق بدا من جانب الغور لامع ]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قال الشيخ علي سبط الناظم قدّس اللّه سرّهما :
وهذه القصيدة الآتية العينية التي تقدّم ذكر ترجمتها في عنوان الديوان ، وأن المطلع وهو البيت الأوّل لشيخنا ، وما يأتي بعده ذيلته عليه في شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة ، وقد وجدت القصيدة المفقودة المذكورة ،
وأثبتها بعد ذكر السبب في هذا الديوان المبارك :
01 - أبرق بدا من جانب الغور لامع أم *** ارتفعت عن وجه ليلى البراقع
 
[ المعنى ]
الغور من كل شيء قعره ، ويطلق على تهامة وما يلي اليمن وما بين ذات عرق ، والبحر غور ، وهو هنا كناية عن قلبه الصنوبري الشكل الذي هو من الجانب الأيسر من تجويف جسمه العنصري فإنه غور ونفخ الروح فيه من قبل الأمر الإلهي .
 
وقوله « لامع » فإن السالك إذا تحقق بمعرفة نفسه ظهر له أنها وهم محض في قوى النفس الفلكية وهو الموت الاختياري ، ثم تحقق بالنفس الفلكية فظهر له أنها وهم محض في الحقيقة الروحانية الآمرية وهو الموت الاضطراري في حق السعداء ،
وأما الأشقياء فنفوسهم كناية عن غلبة أوهامهم على أفهامهم فلا تفتح لهم أبواب السماء ، ثم تحقق بالحقيقة الروحانية الآمرية وهي الروح الأعظم والنور المحمدي ، وهو أوّل مخلوق ، فظهر له ظهوره عن أمر ربه ،
وعند ذلك يفنى عنده في تحقق بصيرته نفسه الإنسانية والنفس الفلكية والروح الآمرية ، ويظهر له أنه تعالى منه بدأ الأمر وإليه يعود ، ويتحقق بعلوم كثيرة إلهية نبوية ، ويظهر له معنى قول الناظم « أبرق بدا من جانب الغور لامع » .
 
وقوله « ليلى » كناية هنا عن المحبوبة الحقيقية والحضرة الإلهية العلية من حيث أنها تظهر في ليل النشآت الكونية بعد ارتفاع أستار تلك النشأة الإمكانية ،
وقوله « البراقع » كناية هنا عن كل شيء قال تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : الآية 88 ]
فالأشياء أستار ذلك الوجه وهي كلها فانية في نور وجهه الحق ، والأبيات

« 346 »
التي ذيلها سبط الناظم الشيخ العارف باللّه تعالى علي ابن بنت الشيخ عمر بن الفارض قدّس اللّه سرّهما هي هذه إلى آخر القصيدة ، ونفسها واحد وإن تكرّرت صورتها لأنّ الكلام للحقيقة الواحدة لا للصورة .
 
02 - نعم أسفرت ليلا فصار بوجهها *** نهارا به نور المحاسن ساطع
 
[ المعنى ]
قوله « نعم » في ابتداء التذييل إشارة منه إلى قبول كلام جدّه ، والإذعان له في ابتداء التبرّك بإيراد كلامه عقيب كلامه ، والاقتداء منه بشيخه وإمامه .
وقوله « أسفرت » يعني ليلى المحبوبة المذكورة في بيت المطلع . وقوله « ليلا » منصوب على الظرفية ، أي في ليل وهو عالم الكون لظلمة عدمه الأصلية .
وقوله « فصار » أي ذلك الليل الذي أسفرت فيه .
 
03 - ولمّا تجلّت للقلوب تزاحمت  *** على حسنها للعاشقين مطامع
 
[ المعنى ]
قوله « تجلت » أي المحبوبة المكنى عنها بليلى ، وإنما كان تجليها للقلوب لأنها هي الأصل في إدراك جميع المشاعر ، وإذا حصل الإدراك في القلب أدرك السمع والبصر وبقية الحواس .
 
04 - لطلعتها تعنو البدور ووجهها *** له تسجد الأقمار وهي طوالع
05 - تجمّعت الأهواء فيها وحسنها *** بديع لأنواع المحاسن جامع
 
[ المعنى ]
قوله « البدور » جمع بدر كناية عن الإنسان الكامل ، لأنّ وجوده عنده مستفاد من وجود الحق تعالى ، كما أنّ نور القمر مستفاد من نور الشمس من غير أن يحل أحدهما في الآخر .
وقوله « تسجد الأقمار » أي تفنى وتضمحل السالكون في طريق اللّه تعالى كما يضمحل نور القمر عند ظهور نور الشمس .
 
06 - سكرت بخمر الحبّ في حان حيّها *** وفي خمره للعاشقين منافع
07 - تواضعت ذلّا وانخفاضا لعزّها *** فشرّف قدري في هواها التّواضع
08 - فإن صرت مخفوض الجناب فحبّها *** لقدر مقامي في المحبّة رافع
 
[ المعنى ]
« الحان » حانوت الخمار . و « حيها » قبيلتها . والمعنى « في حان حيها » مجمع أهلها وعشيرتها ، وهم العارفون بها في كلامهم الذي يؤثر عنهم إذا فهمه السالك كما يفهمونه غاب في أسرار معانيه ، وسكر بسماعه إشارات مبانيه .

« 347 »
 
09 - وإن قسمت لي أن أعيش متيّما *** فشوقي لها بين المحبّين شائع
10 - يقول نساء الحيّ أين دياره *** فقلت ديار العاشقين بلاقع
11 - فإن لم يكن لي في حماهنّ موضع *** فلي في حمى ليلى بليلى مواضع
 
[ المعنى ]
قوله « شائع » أي ظاهر ، وكون شوقه ظاهرا بين المحبين لأن غيرهم لا يعرفون شوق المحب إلى هذه المحبوبة المذكورة . والمعنى هنا « بنساء الحي » أصحاب النفوس من الغافلين المحجوبين ، وأراد « بدياره » صورة التي يتقلب فيها من حركات إلى سكون ومن سكون إلى حركات ، فإن كل صورة منها مسكن لقلبه ونفسه ، فهي داره التي يدور عليها وكونها « بلاقع » أي فانية مضمحلة .
وقوله « فإن لم يكن لي » الخ . يعني إن لم يكن لي بين جماعة الغافلين الجاهلين بربهم مقام ومنزلة . « فلي في حمى » أي ملكوت المحبوبة المذكورة مقامات ، وذلك بها لا بنفسي ولا بعملي ولا باستحقاقي ، وإنما هو بمحض فضلها وإنعامها عليّ .


12 - هوى أمّ عمرو جدّد العمر في الهوى *** فها أنا فيه بعد أن ثبت يافع
13 - ولمّا تراضعنا بمهد ولائها *** سقتنا حميا الحبّ فيه مراضع
14 - وألقى علينا القرب منها محبّة *** فهل أنت يا عصر التّراضع راجع
 
[ المعنى ]
« أم عمرو » كناية عن أصل عمار الكون ، وهي الحقيقة الوجودية والمحبوبة الحقيقية .
وقوله « تراضعنا » أي هو والمحبوبة المذكورة ، فهو يستفيد منها الوجود ، وهي مستفيدة منه ما علمت من صوره وأحواله في الحضرة الأزلية .
وقوله « بمهد ولائها » كناية عن حضرة الأسماء الإلهية . و « المراضع » هنا كناية عن صور التجليات الإلهية والمظاهر الكونية الربانية .
وقوله « علينا » أي عليّ وعلى المحبوبة المذكورة ، والمعنى « بالقرب منها » الانكشاف العلميّ الأزليّ فإنّ المعلوم وإن كان معدوم العين فإنه قريب من العالم به قربا غير قرب مسافة وإلا لكان المعدوم موجودا في الأزل وهو محال ، ولأقرب زمان وإلا لكان الأزل زمانا وليس كذلك .


15 - وما زلت مذ نيطت عليّ تمائمي *** أبايع سلطان الهوى وأتابع
16 - لقد عرفتني بالولا وعرفتها *** ولي ولها في النّشأتين مطالع
 
[ المعنى ]
« المبايعة لسلطان الهوى » هي المعاهدة والمعاقدة على الطاعة لأحكامه . وقوله « عرفتني بالولا » بفتح الواو أي بالملك والعبودية والنعمة والمحبة . « وعرفتها » بنظير ذلك .
وقوله « في النشأتين » أي نشأة الدنيا ونشأة الآخرة .
وقوله « مطالع » يعني أن الدنيا والآخرة بالنسبة إليّ وإليها سواء ، فإن لي ولها طلوعا وظهورا وانكشافا في الدنيا والآخرة .

« 348 »
 
17 - وإنّي مذ شاهدت فيّ جمالها *** بلوعة أشواق المحبّة والع
18 - وفي حضرة المحبوب سرّي *** وسرّها معا ومعانيها علينا لوامع
19 - وكلّ مقام في هواها سلكته *** وما قطعتني فيه عنها القواطع
 
[ المعنى ]
« وإني » محركة بالفتح للوزن ، وقوله « فيّ جمالها » أي في ذاتي ، إشارة إلى أنه عرف نفسه فعرف ربه . وقوله « والع » خبر مبتدأ محذوف تقديره أنا ، والجملة في محل رفع خبر إن ، والمعنى أنا والع بلوعة أشواق المحبة من حين شاهدت جمالها ظاهرا في ظاهري الجسماني وباطني الروحاني . وقوله « وفي حضرة المحبوب » وهو النور المحمدي الذي هو أوّل مخلوق كما ورد في حديث عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه أنه قال : يا رسول اللّه أخبرني عن أوّل شيء خلقه اللّه قبل الأشياء .
قال : يا جابر إن اللّه خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره ، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء اللّه ، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا وجنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جنّ ولا إنس ، فلما أراد اللّه أن يخلق الخلق قسّم ذلك النور أربعة أجزاء : فخلق من الجزء الأوّل القلم ، ومن الثاني اللوح ، ومن الثالث العرش ،
ثم قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء :
فخلق من الأوّل السماوات ،
ومن الثاني الأرضين ،
ومن الثالث الجنة والنار ،
ثم قسّم الرابع أربعة أجزاء :
فخلق من الأوّل نور أبصار المؤمنين ،
ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة باللّه ،
ومن الثالث نور تشهدهم وهو التوحيد لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ،
وقوله « سرّي وسرّها معا » فإن النور المحمدي جامع لسرّ الحقيقة الإلهية التي خلق منها ولجميع أسرار الكائنات .
وقوله « وكل مقام » بالفتح والضم اسم موضع القيام ، وهو ما تمكن فيه السالك من أحوال الطريق كالصبر والشكر والزهد والورع وغير ذلك .
وقوله « القواطع » هي الأشغال الدنيوية والشهوات النفسانية .


20 - بوادي بوادي الحبّ أرعى جمالها *** ألا في سبيل الحبّ ما أنا صانع
21 - صبرت على أهواله صبر شاكر وما *** أنا في شيء سوى البعد جازع
 
[ المعنى ]
« بوادي » أي في وادي وكنى بالوادي عن مكان نفسه البشرية المنبثة في الجانب الأيمن من قلبه الجسماني الصنوبري الشكل في الجانب الأيسر من تجويف الجسد الإنساني ، وهي القوّة الوهمية التي يشير إليها كل إنسان بقوله أنا .
و « بوادي » الثانية جمع بادية من بدا يبدو ظهر كناية عن حضرات الإطلاق عن قيود

« 349 »
 
الإمكان وصور الأكوان . وقوله « أرعى جمالها » جمع جمل أي اتركها تأكل الكلأ ، وكنى بذلك عن الفتيان السالكين بتربيته في طريق اللّه تعالى من رجال التقوى .
وقوله « ألا » حرف استفتاح للتنبيه تدل على تحقق ما بعدها .
وقوله « الحب » أي المحبة الإلهية . وقوله « ما أنا صانع » يعني من خدمة طريق اللّه تعالى بإرشاد القابلين وتربية المريدين . اهـ .
 
22 - عزيزة مصر الحسن إنّا تجاره *** وليس لنا إلّا النّفوس بضائع
23 - لأرضك فوّزنا بها فتصدّقي *** علينا فقد نمّت علينا المدامع
24 - عسى تجعلي التّعويض عنها *** قبولها ليربحه منّا مبيع وبائع
 
[ المعنى ]
قوله « عزيزة » أي هي عزيزة أي ملكة . والحسن مملكتها . و « الهاء » في تجاره للحسن . وقوله « وليس لنا » أي معشر العارفين . وقوله « إلا النفوس بضائع » أي نفوسنا ،
قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [ التّوبة : الآية 111 ] .
وقال فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم فإن النفوس تباع وتشرى لأنها يسترقها كل من غلب عليها من الشهوات وغيرها ، وأما القلوب فإنها لا تملك لأحد غير اللّه تعالى .
 
وقوله « لأرضك » بكسر الكاف خطاب لعزيزة مصر المذكورة . وقوله « فوّزنا » أي مضينا وذهبنا وقطعنا المفازة لأرضك ، يعني تحملنا مشقات السلوك والمجاهدة النفسانية في طريق محبتك ، وارتكبنا الشدائد وقاسينا الأمور المهلكة . وقوله « بها » أي بنفوسنا .
 
وقوله « فتصدقي علينا » أي معشر السالكين بالهمم العالية طلبا للوصول وتحصيل القبول ، ولما جعلها عزيزة مصر الحسن قال لها تصدقي علينا ، كما قال إخوة يوسف عليهم السلام لأخيهم يوسف عليه السلام .
وقوله « عسى تجعلي » الخ يعني عسى تجعلي التعويض عن نفوسنا التي هي بضائعنا التي جئنا بها إليك فتشتريها منا وتعوضينا عنها بطريق الثمن قبولك إياها منا .
وقوله ليربحه أي القبول . وقوله « منا » أي معاشر التجار بالنفوس .
قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [ التّوبة : الآية 111 ] الآية .
وقوله « مبيع » فاعل يربحه ، والمبيع هو المتاع ، والمبيع هنا النفوس فتربح القبول بتحقيق الوصول .
وقوله « وبائع » هو الذي باع نفسه في سبيل اللّه فوصل إلى مقام شهود اللّه فيربح شهادة الحضرة والتحقق بالنظرة . اهـ .

« 350 »
 
25 - خليليّ إنّي قد عصيت عواذلي *** مطيع لأمر العامريّة سامع
26 - فقولا لها إنّي مقيم على الهوى *** وإنّي لسلطان المحبّة طائع
27 - وقولا لها يا قرّة العين هل إلى *** لقاك سبيل ليس فيه موانع
 
[ المعنى ]
يكني « بالعامرية » عن المحبوبة الحقيقية ، وقوله « لقاك » بكسر الكاف أصله بالهمز والمدّ فخفف بالحذف للوزن . وقوله « موانع » وهم النفس والدنيا والشيطان والعلم الغير المعمول به .
 
28 - ولي عندها ذنب برؤية غيرها *** فهل لي إلى ليلى المليحة شافع
29 - سلا هل سلا قلبي هواها وهل *** له سواها إذا اشتدّت عليه الوقائع
 
[ المعنى ]
قوله « شافع » يعني شافع يشفع لي في مغفرة ذنبي عندها بأن تريني إياها في كل شيء حتى لا أرى سواها . وقوله « سلا » فعل أمر من السؤال خطاب لخليليه .
 
وقوله « هل سلا » من السلو . وقوله « إذا اشتدت عليه الوقائع » اشتداد الوقائع على قلبه هو هجوم المصائب والبلايا ، فلا يفرّجها إلا الجناب الإلهي والحضرة الربانية الرحمانية .
 
30 - فيا آل ليلى ضيفكم ونزيلكم *** بحيّكم يا أكرم العرب ضارع
31 - قراه جمال لا جمال وإنّه *** برؤية ليلى منية القلب قانع
32 - إذا ما بدت ليلى فكلّي أعين *** وإن هي ناجتني فكلّي مسامع
33 - ومسك حديثي في هواها لأهله *** يضوع وفي سمع الخليّين ضائع
 
[ المعنى ]
« ليلى » كناية عن المحبوبة المذكورة . و « آلها » اتباعها وعبيدها من العارفين المحققين . وقوله « ضيفكم » أي أنا ضيفكم لخروجه عن حضرة الغافلين ودخوله إلى حضرة الأولياء المقرّبين . وميم بحيكم مضمومة للوزن . وقوله « قراه » بكسر القاف ، أي ضيافته .
و « جمال » الأولى بالفتح رقة الحسن .
والثانية بالكسر جمع جمل . وقوله « ناجتني » أي ساررتني .
قوله « ومسك حديثي » الخ يعني أن كلامي الذي أتحدث به من نظم ونثر في هوى المحبوبة المذكورة تفوح رائحته لأهله ، أي لأهل حديثه وهم الذين يفهمونه ويتحققون بحقائق العلم الرباني ، وهو ضائع في سمع الخليين أي البريئين من المحبة والعشق المحجوبين عن شهود الجمال الإلهيّ لاشتغالهم بشهوات بطونهم وفروجهم . اهـ .

« 351 »
 
34 - تجافت جنوبي في الهوى عن مضاجعي *** إلى أن جفتني في هواها المضاجع
35 - وسرت بركب الحسن بين محامل *** وهودج ليلى نورها منه ساطع
36 - وناديت لمّا أن تبدّى جمالها *** لعمرك يا جمّال قلبي قاطع
37 - فسيروا على سيري فإنّي ضعيفكم *** وراحلتي بين الرواحل ضالع
 
[ المعنى ]
« تجافت » تباعدت ، ومعنى البيت قد تباعدت جنوبه عن مضاجعها في ابتداء أمره عن قصد منه وإرادة إلى أن وصل إلى حالة تباعدت المضاجع عنه من غير قصد منه ولا إرادة ، وكان مختارا في ذلك فصار مضطرّا فيه .
وقوله « وسرت » بضم تاء المتكلم ، وقوله « بركاب الحسن » هم جماعة العارفين بربهم .
وقوله « محامل » جمع محمل كمجلس ومقود ، كناية عن صورهم الإنسانية المشتملة على حقائقهم الروحانية . وقوله « هودج » كناية عن الصورة الإنسانية الكاملة .
وقوله « نورها » أي نور ليلى المكنى بها عن الحق تعالى ، وهو الوجود الحق الذي قامت به السماوات والأرض حتى قال اللّه تعالى : وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [ الزّمر : الآية 69 ]
وقال تعالى : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ النّور : الآية 35 ] .
وقوله « منه » أي من ذلك الهودج . وقوله « يا جمال » بتشديد الميم ، وهو هنا كناية عن شيخ المريدين ومرشدهم ومنقذهم من عقبات الطريق ومنجدهم .
وقوله « قلبي قاطع » بمعنى مقطوع . وقوله « فسيروا » يخاطب الحضرات الإلهية الرافلة في ملابس الصور الإنسانية الكاملة المكملة في المراتب العلمية والعملية ، فإنهم السائرون على نجائب الأسماء الربانية . وقوله « فإني ضعيفكم » أي أضعف من فيكم من الرجال أولي الهمم والإقبال .
وقوله « وراحلتي » كناية عن نفسه التي يشير إليها بقوله أنا ، وقوله « ضالع » بالتذكير من غير مطابقة لراحلتي نظرا إلى المعنى ، فإن الراحلة بعير والضلع محركة الاعوجاج خلقة ، وهو في البعير بمنزلة الغمز في الدواب ، والضلع أيضا احتمال الثقل يقول إن راحلتي بين رواحل القوم معوجة في سلوكها ، ومثقلة في أحمالها تشرد عن الطريق المستقيم بشهواتها ، وقد أثقلت بهفواتها وغفلاتها . اهـ .


38 - ومل بي إليها يا دليل فإنّني *** ذليل لها في تيه عشقي واقع
39 - لعلّي من ليلى أفوز بنظرة *** لها في فؤاد المستهام مواقع
40 - والتذّ فيها بالحديث ويشتفي *** غليل عليل في هواها ينازع
 
[ المعنى ]
قوله « يا دليل » هو نور محمد صلى اللّه عليه وسلم لأنه من نور اللّه تعالى ، فالهادي هو اللّه تعالى به صلى اللّه عليه وسلم ، كما أنه صلى اللّه عليه وسلم الهادي باللّه تعالى لا بنفسه . وقوله « تيه » وهي المفازة ، والتيه أيضا الضلال ، وأرض تيه مضلة . وقوله « بالحديث » أي بالمحادثة والمكالمة ، وهي المناجاة القلبية الإلهية عند العارفين أهل الذوق والوجدان ، وهي الواردات الربانية من الحضرة الرحمانية العلية بأنواع العلوم والمعارف اللدنية. وقوله «ينازع»

« 352 »
 
من نزعت الشيء من مكانه قلعته ، وهي مفاعلة من الجانبين تعطيه الحياة وتنزعها منه . اهـ .


41 - فيا أيّها النّفس الّتي قد تحجّبت *** بذاتي وفيها بدر هالي طالع
42 - لئن كنت ليلى إنّ قلبي عامر *** بحبّك مجنون بوصلك طامع
43 - رأى نسخة الحسن البديع بذاته *** تلوح فلا شيء سواها يطالع
 
[ المعنى ]
لم يؤنث أي لتأنيث النفس لضرورة النظم ، ولهذا لما لم تكن ضرورة أنث قوله « التي تحجبت » أو لعدم اتصافها بالتأنيث والتذكير ، والتأنيث والتذكير فيها بحسب المراد ، أو لأنه ليس بمؤنث حقيقيّ فيجوز تذكيره تارة باعتبار إنسان ، وتأنيثه أخرى كما هنا .
وقوله « تحجبت بذاتي » أي استترت بحقيقتي الوجودية التي أنا بها أنا ، واستتارها بذاته انمحاء أثرها بظهور حقيقته لها وفنائه عنها بالكلية فإن حقيقته حق ونفسه المستترة بحقيقته عند الوصل باطل .
قوله « وفيها » أي في ذاتي يعني في حقيقتي الوجودية المذكورة . والواو للحال والجملة حال من ذاتي . وقوله « بدرها » أي بدر ذاتي ، والبدر هو القمر التمام على معنى أن ذاتي شمس حقيقة وجودية ، ونفسي تقديرها العدمي وتخليقها الوهمي ، وقد ظهرت أنوار تلك الشمس في بدر نفسي من غير أن تنتقل تلك الأنوار إلى بدر نفسي وتفارق الشمس .
وقوله « لئن كنت » بكسر التاء خطاب للنفس المشار إليها بقوله : يا أيها النفس .
وقوله « ليلى » خبر كان أي ليلى المحبوبة المذكورة .
وقوله « إن قلبي عامر » هو اسم حي من أحياء العرب وإليه تنسب ليلى العامرية ، والمعنى الآخر لقوله « عامر » من قولهم عمّر اللّه منزلك عمارة وأعمره جعله آهلا ، وقوله « بحبك » أي بمحبتك .
وقوله « رأى » أي قلبي والنسخة هنا كناية عن نفس الإنسان الكامل العالم العامل .
وقوله « بذاته » أي في ذاته على معنى التجلي بصورته في ظاهره وباطنه في جميع مواطنه . اهـ .


44 - فيا قلب شاهد حسنها وجمالها *** ففيها لأسرار الجمال ودائع
45 - تنقّل إلى حقّ اليقين تنزّها عن *** النقل والعقل الّذي هو قاطع
 
[ المعنى ]
فاء التفريع دخلت على المنادى الذي هو القلب العامر بالمحبة الطامع بالوصال الرائي لنسخة الحسن الحقيقي في المقام التحقيقي . وقوله « شاهد » فعل أمر من المشاهدة ، وهي المعاينة . وقوله « حسنها » أي حسن ليلى المذكورة ، وهو ما يظهر على آثارها .
وقوله « وجمالها » وهو ما لها من حيث أسماؤها وصفاتها . وقوله « ودائع »

« 353 »
 
أي فتلك الأسرار المودوعة فيها هي العلوم الإلهية التي لا نفاد لها . وقوله « تنقل » فعل أمر يخاطب القلب ، يعني من علم اليقين مرتبة العوام إلى عين اليقين مرتبة الخواص .
وقوله « إلى حق اليقين » مرتبة خواص الخواص ، فإن اليقين هو ما نزلت به الكتب وجاءت به الرسل من الشرائع والأديان والأخبار الصادقة ، فالعوام يعلمونه فقط والخواص يعاينونه بالكشف عنه فقط ، وخواص الخواص يتحققون به في ذواتهم بحيث يكون هو لا هم ، لأنه حق مضاف إلى اليقين وما سواه باطل .
وقوله « عن النقل » أي عن نقل اليقين المذكور عن سوى الحق تعالى .
وقوله « والعقل » فإنهم أخذوا علومهم الشرعية من نظر عقولهم في شرائعهم وإن كان ذلك مقبولا منهم فإنه تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [ البقرة : الآية 286 ]
وقوله « الذي هو قاطع » صفة للعقل ، فإن الناظر بعقله قائم بنفسه ، والقائم بنفسه قاطع حبل اتصاله بقدرة ربه وإرادته لاستيلاء الغفلة على قلبه واستيلاء الغفلة على قلبه لاشتغاله بزخارف الدنيا وزينتها .


46 - فإحياء أهل الحبّ موت نفوسهم *** وقوت قلوب العاشقين مصارع
47 - وكم بين حذّاق الجدال تنازع *** وما بين عشّاق الجمال تنازع
 
[ المعنى ]
« موت نفوسهم » يعني كشفهم واطلاعهم على موتهم لأنهم موتى وهم لا يشعرون .
« والمصارع » هنا البلايا والمصائب والشدائد ، تصبر عليها قلوب العاشقين الإلهيين لعلمهم أنها أفعال محبوبهم فيتقوتون بها وتتربى بها أحوالهم ويترقون بها في المقامات العرفانية والمراتب الذوقية ، وقوله « حذاق الجدال » يعني المهرة من الناس في الجدال والخصومة في العلوم أو في الأموال والتجارات والمناصب ونحو ذلك من أمور الدنيا .
وقوله « تنازع » أي مخاصمة كبيرة لا ينفكون عنها بظواهرهم أو بواطنهم أو بهما كالحسد والبغض والعداوة والكبر إلى غير ذلك .
وقوله « وما » حرف نفي يعني أن عشاق الجمال الإلهي لا مخاصمة بينهم في أمر من الأمور أصلا لا في علم ولا دنيا ولا حال ولا قال بل كلهم على قلب واحد في ذلك ، وأما في أذواقهم ووجدانهم ومداركهم وعلومهم الإلهية العرفانية فهم متفاوتون في ذلك بعضهم فوق بعض كما قال تعالى يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [ المجادلة : الآية 11 ] .
 
48 - وصاحب بموسى العزم خضر *** ولائها ففيه إلى ماء الحياة منافع
49 - فأنت بها قبل الفراق منبّأ *** بتأويل علم فيك منه بدائع

« 354 »
 
[ المعنى ]
المصاحبة هنا الملازمة . وقوله « بموسى العزم » أي بالعزم الذي هو كعزم موسى النبيّ عليه السلام وهو العزم الإلهيّ في المقام الإلهيّ .
قال تعالى حكاية عنه أنه قال : وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [ طه : الآية 84 ]
وقوله « خضر ولائها » فالخضر :
بالكسر أبو العباس النبيّ عليه السلام و « الولاء » : بالفتح الملك والصحبة والربوبية ، والضمير لليلى المذكورة ، يعني داوم بعزمك مشاهدة ملك الحق تعالى لك وصحبته وربوبيته ولازم ذلك المشهد ولا تغفل عنه . وقوله « ففيه » أي في ذلك الولاء وملازمته بالعزم الشديد .
وقوله « فأنت » أي أيها السالك في طريق اللّه تعالى . وقوله « بها » أي بالحياة التي نشرب ماءها بالعزم الموسوي من الولاء الخضري ، أو بليلى المحبوبة المذكورة .
وقوله « قبل الفراق » أي الموت . وقوله « منبأ » اسم مفعول من النبأ وهو الخبر .
وقوله « علم » تنكيره للتعظيم وهو العلم الرباني والتحقيق العرفاني .
وقوله « بدائع » أي علوم إلهية غريبة لم تظهر بعد .
 
50 - لقد بسطت في بحر جسمك بسطة *** أشارت إليها بالوفاء أصابع
51 - فيا مشتهاها أنت مقياس قدسها *** وأنت بها في روضة الحسن يانع
52 - فقرّي به يا نفس عينا فإنّه *** يحدّثني والمؤنسون هواجع
 
[ المعنى ]
« لقد بسطت » أي الحياة المذكورة في البيت قبله أو ليلى المحبوبة السابق ذكرها ، وبسط الشيء نشره . وقوله « في بحر جسمك » أي في البحر الذي هو جسمك ، والخطاب للسالك في طريق اللّه تعالى . وقوله « بسطة » أي زيادة سعة .
وقوله « أشارت إليها » أي تلك البسطة . وقوله « بالوفاء » أي بالتمام والزيادة .
وقوله « أصابع » تنكيرها للتكثير يقال شيء عظيم يشار إليه بالأصابع ، والأصابع إشارة إلى ما يعرف به زيادة النيل ووفاؤه ، وهو في مصر مشهور .
وقوله « فيا مشتهاها » أي مشتهى تلك الحياة المذكورة أو ليلى المحبوبة المذكورة ، والمشتهى منها هو قربها ووصالها ، والكناية بمشتهاها إلى مرادها الذي تحبه من السالكين العارفين بها أو هي نفسها وهو أقرب ، والإشارة هنا بالمشتهى إلى مكان في مصر معروف يدخل إليه النيل وهو منتزه . وقوله « مقياس » من قست الشير بغيره وعلى غيره قدرته ، والإشارة بالمقياس إلى مكان في مصر العتيقة فيه عمود منصوب يعرف به مقدار زيادة النيل ونقصانه .
 
وقوله « قدسها » أي قدس الحياة المذكورة أو قدس ليلى المذكورة والقدس الطهر ، وقوله « وأنت » خطاب للمشتهى أيضا .
وقوله « في روضة الحسن يانع » فكون المشتهى يانعا في روضة الحسن والجمال بسبب الحياة الإلهية المذكورة أو بليلى المحبوبة المذكورة ، كناية عن حصول جميع المطالب ، والتمتع بالنعيم في جنة الرغائب

« 355 »
 
والغرائب وقوله « فقرّي به » أي بالمشتهى . وقوله « يا نفس » ينادي نفسه العارفة بربها معرفة ذوقية وجودية وجدانية . وقوله « فإنه » أي المشتهى المذكور بالمعنى المسطور .
وقوله « والمؤنسون هواجع » يعني أنّ المؤنسين له في ظلمة ليل الأكوان من أهله وأصحابه وأحبابه على زعمهم أنهم مؤنسون له يتحدثون معه ، وعنده أن المؤنس له هو الحق الظاهر له بمظاهرهم وهم لا يشعرون لأنهم نائمون بنوم الغفلة والدعاوى النفسانية . اهـ .
 
53 - فها أنت نفس بالعلا مطمئنّة *** وسرّك في أهل الشّهادة ذائع
 
[ المعنى ]
« أنت بالعلا » بضم العين يعني المراتب العالية والمقامات السامية . وقوله « وسرّك » بكسر الكاف خطاب لنفسه المذكورة ، وسرّها هو الأمر الوجداني الذي يجده قلب العارف بربه المحقق مما لا يمكنه التعبير عنه عجزا عن بيانه ، وقوله « في أهل الشهادة » أي بينهم وأهل الشهادة هنا كناية عن العارفين بربهم المشاهدين لتجلياته في أنفسهم وفي غيرهم . وقوله « ذائع » أي ظاهر وإذا كان سرّ النفس ذائعا بين أمثاله من العارفين المحققين كان ذلك زيادة شرف في حقه وكمال طمأنينة في مقامه .
 
54 - لقد قلت في مبدأ ألست بربّكم *** بلى قد شهدنا والولا متتابع
55 - فيا حبّذا تلك الشّهادة إنّها *** تجادل عنّي سائلي وتدافع
56 - وأنجو بها يوم الورود فإنّها *** لقائلها حرز من النّار مانع
57 - هي العروة الوثقى بها فتمسّكي *** وحسبي بها أنّي إلى اللّه راجع
 
[ المعنى ]
« مبدأ » بالقصر وأصله بالهمز . وقوله « ألست بربكم » هو قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [ الأعراف : الآية 172 ] الآية .
وقوله « بلى » مقول قول لقد قلت . وقوله « قد شهدنا » أي عرفنا وتحققنا بمعاينة أنك ربنا . وقوله « والولا » بالفتح الملك والنصر والاستيلاء ، وقوله « متتابع » أي لا ينقطع وهو المدد الإلهيّ والسرّ الرباني الدائم الإمداد .
 وقوله « تلك الشهادة » أي التي أشهدني إياها ربي يوم أخذ الميثاق عليّ وبقيت معي إلا الآن .
وقوله « تجادل عني سائلي » أي تخاصم عني من يسألني في الدنيا فتلهمني الجواب بطريق الفيض ، أو ترد السائل عني مخذولا مدحورا ، أو تكفيني فتنة سائل القبر في عالم البرزخ الأخروي .
وقوله « يوم الورود » أي على الحق تعالى بانكشاف الحجاب المطلق ، وفتح الباب المغلق ، وانطواء الدنيا بأوهامها وظهور عالم الآخرة وانتشار

« 356 »
 
أعلامها . وقوله « حرز » بالكسر أي حصن . وقوله « هي » أي بالشهادة المذكورة .
وقوله « العروة الوثقى » أي الثابتة المحكمة . وقوله « بها » أي بالشهادة المذكورة ، وتقديم الجارّ والمجرور للحصر .
وقوله « فتمسكي » مخاطبة لنفسه المتقدم ذكرها . وقوله « وحسبي » الخ ، يعني يكفيني بالشهادة المذكورة إني راجع إلى اللّه تعالى .
 
58 - فيا ربّ بالخل الحبيب محمّد *** نبيّك وهو السّيّد المتواضع
59 - أنلنا مع الأحباب رؤيتك الّتي *** إليها قلوب الأولياء تسارع
60 - فبابك مقصود وفضلك زائد *** وجودك موجود وعفوك واسع
 
[ المعنى ]
قوله « مع الأحباب » هم الأولياء العارفون بربهم ورثة الأنبياء والمرسلين في مقام القرب ومراتب اليقين .
وقوله « قلوب » لم يقل عيون لأنها في الدنيا رؤية بالقلب وهي العلم به تعالى ، وأما رؤية البصر فهي الموعود بها في الآخرة .

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: أبرق بدا من جانب الغور لامع   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:58 pm

من قافية العين
أبرق بدا من جانب الغور لامع
01 - أبرق، بدا من جانب الغور، لامع، ... أم ارتفعت، عن وجه ليلي، البراقع
02 - أنار الغضا ضاءت، وسلمى بذي الغضا، ... أم ابتسمت، عما حكته، المدامع
03 - أنشر خزامي فاح، أم عرف حاجر ... بأم القرى، أم عطر عزة ضائع
04 - ألا ليت شعري: هل سليمي مقيمة ... بوادي الحمى، حيث المتيم والع
05 - وهل لعلع الرعد الهتون بلعلع، ... وهل جادها صوب من المزن هامع
06 - وهل أردن ماء العذيب وحاجر، ... جهارا، وسر الليل، بالصبح، شائع
07 - وهل قاعة الوعساء مخضرة الربى، ... وهل، ما مضى فيها من العيش، راجع
08 - وهل، بربى نجد، فتوضح، مسند، ... أهيل النقا عما حوته الأضالع
09 - وهل بلوى سلع يسل عن متيم ... بكاظمة، ماذا به الشوق صانع
10 - وهل عذبات الرند يقطف نورها، ... وهل سلمات، بالحجاز، أيانع
11 - وهل أثلات الجزع مثمرة، وهل ... عيون عوادي الدهر عنها هواجع
12 - وهل قاصرات الطرف عين، بعالج ... على عهدي المعهود، أم هو ضائع
13 - وهل ظبيات الرقمتين بعيدنا، ... أقمنا بها، أم دون ذلك مانع
14 - وهل فتيات بالغوير يرينني ... مرابع نعم، نعم تلك المرابع
15 - وهل ظل ذاك الضال، شرقي ضارج، ... ظليل، فقد روته مني المدامع
16 - وهل عامر، من بعدنا، شعب عامر، ... وهل هو، يوما، للمحبين جامع
17 - وهل أم بيت الله، يا أم مالك، ... عريب، لهم عندي، جميعا، صنائع
18 - وهل نزل الركب العراقي، معرفا، ... وهل شرعت، نحو الخيام، شرائع
19 - وهل رقصت، بالمأزمين، قلائص، ... وهل، للقباب البيض، فيها تدافع
20 - وهل لي، بجمع الشملة، في جمع، مسعد ... وهل لليالي الخيف، بالعمر بائع
21 - وهل سلمت سلمى على الحجر الذي ... به العهد، والتفت عليه الأصابع
22 - وهل رضعت، من ثدي زمزم، رضعة، ... فلا حرمت، يوما عليها، المراضع
23 - لعل أصيحابي، بمكة، يبردوا، ... بذكر سليمى، ما تجن الأضالع
24 - وعل اللييلات، التي قد تصرمت، ... تعود لنا، يوما، فيظفر طامع
25 - ويفرح محزون، ويحيا متيم، ... ويأنس مشتاق، ويلتذ سامع
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح إن كان منزلتي في الحب عندكم الأبيات من 01 إلى 25 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:58 pm

شرح إن كان منزلتي في الحب عندكم الأبيات من 01 إلى 25 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة إن كان منزلتي في الحب عندكم الأبيات من 01 إلى 25
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ شرح القصيدة السابعة عشرة إن كان منزلتي في الحب عندكم ]
قال الشيخ علي سبط الناظم قدّس اللّه سرّهما :
قد تقدم في عنوان الديوان ذكر هذين البيتين اللذين رواهما الشيخ إبراهيم الجعبري عن الشيخ قدّس اللّه سرّهما لما حضر وفاته ، وشاهد حاله وما فاته ، ورأى موته في المحبة حياته وهما هذان البيتان :
إن كان منزلتي في الحب عندكم *** ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت روحي بها زمنا *** واليوم أحسبها أضغاث أحلام
وقد طالعت بعد ذلك في مجموع رقائق عند خال أولادي ، وهو الأمير شهاب الدين أحمد ابن الأمير المرحوم علاء الدين أزدور ، رحم اللّه تعالى سلفه وأسعده بإحسانه وأسعفه ، وكان ذلك في العشر الأوّل من شهر ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة ، قرأت فيه بعد البيتين المذكورين أربعة أبيات تتمة الستة فسررت بها فإنها من نفس الشيخ قدّس اللّه سرّه ، وقد أضفت إليها قبلها وبعدها أبياتا مذيلة عليها فتح اللّه تعالى عليّ بنظمها ببركة نفسه قدّس اللّه سرّه ، وهي هذه جميعها وأبيات الشيخ وسطها .
 
01 - نشرت في موكب العشّاق أعلامي *** وكان قبلي بلي في الحبّ أعلامي
 
[ المعنى ]
« نشرت » خلاف طويت . وقوله « في موكب » يقال وكب يكب وكوبا وكبانا مشى في درجات ، ومنه الموكب للجماعة ركبانا أو مشاة أو ركاب الإبل للزينة وأوكب لزمهم ، كذا في القاموس وقوله « العشاق » أي أهل المحبة الإلهية وهم العارفون بربهم المحققون .
وقوله « أعلامي » جمع علم بالتحريك ، وهو الراية وما يعقد على الرمح ، كناية عن التقدم على الكاملين من أهل زمانه يشير به إلى مقام الشيخ عمر بطريق الكلام على لسانه لكونه بمنزلة ترجمانه .
وقوله « وكان قبلي » أي قبل زماني ، وهو زمن السلف الصالحين من الأولياء المقربين أهل المعرفة واليقين . وقوله « بلي » بضم

« 358 »
الباء فعل ماض مبني للمفعول . وقوله « في الحب » بالضم أي المحبة الإلهية .
وقوله « أعلامي » جمع علم وهو سيد القوم ، والمعنى أن الابتلاء بالمحبة الإلهية كان في مشايخي وساداتي من قبلي وأنا اقتفيت أثرهم واقتديت بهم .
 
02 - وسرت فيه ولم أبرح بدولته *** حتّى وجدت ملوك العشق خدّامي
 
[ المعنى ]
« وسرت فيه » أي في الحبّ الإلهيّ والسير قطع مسافات الدنيا ، وتنقل أحوالها إلى منتهى الأجل مصاحبا للحب المذكور اقتداء بمن قبلي من الأعلام ومتابعة لمشايخي في هذا المقام . وقوله « ولم أبرح بدولته » أي الحب يعني مصاحبا لها ، والدولة انقلاب الزمان والعقبة في المال . وقوله « حتى وجدت ملوك » جمع ملك بكسر اللام وهو السلطان .
وقوله « العشق » أي المحبة الإلهية وهم أولياء عصره من المحبين الإلهيين .
وقوله « خدامي » جمع خادم بمعنى رعاياه الذين يخدمونه بمعونتهم له بأحوالهم وأقوالهم في نصرة الحق على الباطل . اهـ .
 
03 - ولم أزل منذ أخذ العهد في قدمي *** لكعبة الحسن تجريدي وإحرامي
 
[ المعنى ]
« ولم أزل » أي مستمرا على حالي المذكور ، وقوله « منذ » اسم مبني على الضم ، أو حرف جر بمعنى من إن كان الزمان ماضيا ، وبمعنى في إن كان حاضرا ، وإن وليها اسم مرفوع فهي مبتدأ وما بعدها خبر . وقوله « أخذ » بالجر أو بالرفع .
وقوله « العهد » أي عهد الربوبية قال تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [ الأعراف : الآية 172 ] فالألف واللام في العهد للعهد .
 
وقوله « في قدمي » بكسر القاف وفتح الدال المهملة من قدم خلاف حدث فهو قديم .
وقوله « لكعبة الحسن » أي الجمال الإلهي ، وجعله كعبة باعتبار طواف قلوب العارفين حوله ودوران أبصارهم عليه . وقوله « تجريدي » يقال جردته من ثيابه بالتشديد نزعتها عنه ، وتجرد هو منها كما في المصباح ، وهو التجرد عن الطبيعة الجسمانية والأخلاق النفسانية والفناء عن الأغيار بالكلية .
وقوله « وإحرامي » يقال أحرم الشخص دخل في حج أو عمرة ، ومعناه أدخل نفسه في شيء حرم عليه به ما كان حلالا له كذا في المصباح ، وكانت أحوال النفس ومقتضيات الطبيعة حلالا له مباحة الإتيان بها فلما دخل في طريق معرفة ربه لنيل كمال قرب ، وانكشف له جلية الحال ، وتحقق بفنائه في ظهور ربه وكمال الاضمحلال حرم عليه ما كان له حلال ، وكلف بما لم يكلف به غيره من الجهال قال تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [ المائدة : الآية 48 ] . اهـ .

« 359 »
04 - وقد رماني هواكم في الغرام إلى *** مقام حبّ شريف شامخ سامي
05 - جهلت أهلي فيه أهل نسبته *** وهم أعزّ أخلّائي وألزامي
06 - قضيت فيه إلى حين انقضا أجلي *** شهري ودهري وساعاتي وأعوامي
 
[ المعنى ]
« وقد رماني » أي : ألقاني . وقوله « هواكم » أي محبتكم ، والخطاب للأحبة ، وهم تجليات الوجود الحق في الصور الجميلة حسا ومعنى . وقوله « في الغرام » وهو العشق اللازم والشوق الملازم . وقوله « إلى مقام حب شريف » أي له الشرف في الدارين .
وقوله « شامخ » أي مرتفع . وقوله « سامي » من سما يسمو سموا علا ، وهي أوصاف مترادفة للحب الشريف ، وهو المحبة الإلهية التي لا تحصل للعبد السالك في طريق اللّه تعالى إلا بعد فنائه بالكلية .
وقوله « جهلت أهلي » أي قومي ومن أنا أعرفهم من رفقتي وعشيرتي .
وقوله « فيه » أي في ذلك الحب المذكور من كمال اشتغالي به واستغراقي في معاناة أحواله .
ثم قال « أهل نسبته » بدل من أهلي بدل كل من كل وهم المنتسبون إليه أي إلى الحب المذكور .
وقوله « وهم » الواو للحال ، والجملة حال من أهلي ، والعامل فيه جهلت . وقوله « أعز أخلائي » جميع خليل ، وهو الصديق يعني لهم العزة عندي من جميع أهل خلتي أي صداقتي .
وقوله « وألزامي » معطوف على أخلائي كأنه جمع لزام أي ملازم . وقوله « قضيت » أي أذهبت وأمضيت . وقوله « فيه » أي في ذاك الحبّ المذكور . وقوله « إلى حين انقضا » بالقصر لضرورة الوزن . وقوله « أجلي » أي موتي . وقوله « شهري » مفعول قضيت . وقوله « ودهري » أي زماني الذي أنا فيه .
 
وقوله « وساعاتي » جمع ساعة . وقوله « وأعوامي » جمع عام وهو الحول والسنة ، على معنى أنه قطع أوقاته كلها في هذا الحب المذكور إلى أن انقضى أجله ، وهذا مما يؤيد أن صاحب هذا الكلام قاله على لسان الشيخ عمر قدس اللّه سرهما فإن قوله إلى حين انقضاء أجلي لا يناسب أن يكون من كلامه نفسه ولا من كلام الناظم لأنه حين القول كان حيّا . اهـ .
 
07 - ظنّ العذول بأنّ العذل يوقفني *** نام العذول وشوقي زائد نامي
 
[ المعنى ]
« ظن العذول » أي اللائم الذي يلومني على المحبة . وقوله « بأن العذل » أي اللوم الصادر منه لي . وقوله « يوقفني » أي عن السير في طريق المحبة الإلهية فلا أسلك فيه إلى منتهاه ، وأنقطع عن طلب المحبوب بسبب لومه لي وتعنيفه على المحبة .
وقوله « نام العذول » أي غفل ولم ينتبه لأحوالي . وقوله « وشوقي » أي نزوع قلبي في كل وقت إلى الحبيب . وقوله « زائد » أي كثير .
وقوله « نامي » أي كثير أيضا يعني أن شوقه إلى الأحبة المذكورين لا يزال في زيادة وبدؤه في إعادة . اهـ .

« 360 »
 
08 - إن عام إنسان عيني في مدامعه *** فقد أمدّ بإحسان وإنعامي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« إن » شرطية . وقوله « عام » أي سبح . وقوله « إنسان عيني » إنسان العين حدقتها .
وقوله « في مدامعه » متعلق بعام . وقوله « فقد » الفاء في جواب الشرط . وقوله « أمد » فعل ماض مبني للمفعول من الإمداد وهو الإعانة . وقوله « بإحسان » متعلق بأمد .
وقوله « وإنعام » بكسر الهمزة مصدر أنعم عليه إنعاما والإنعام معطوف على الإحسان ، فإن البكاء من خشية اللّه تعالى كالبكاء في محبته مقام جليل وإحسان جزيل وإنعام جميل .


09 - يا سائقا عيس أحبابي عسى مهلا *** وسر رويدا فقلبي بين أنعامي
10 - سلكت كلّ مقام في محبّتكم *** وما تركت مقاما قطّ قدّامي
11 - وكنت أحسب أنّي قد وصلت *** إلى أعلى وأغلى مقام بين أقوامي
12 - حتّى بدا لي مقام لم يكن أربي *** ولم يمرّ بأفكاري وأوهامي
 
[ الاعراب والمعنى ]
« يا سائقا » منادى شبيه بالمضاف منصوب منوّن من ساق الماشية حثها على السير ، وهو كناية هنا عن الحق تعالى كما قال : وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ ( 20 ) [ البروج : الآية 20 ] .
وقوله « عيس » مفعول لسائق ، كناية عن النشأة الإنسانية الحاملة لأمانة التكليف من قوله تعالى : وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [ الأحزاب : الآية 72 ] .
وقوله « أحبابي » جمع حبيب ، وهو المتجلي الحق وإنما جمع لكثرة تجلياته واختلافاتها ، ولهذا ذكر الاسم الجامع لجميع الأسماء في قوله تعالى : وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ ( 20 ) [ البروج :
الآية 20 ]
فهو ظاهر بهم بطريق الاستعلاء عليهم ، وهم عيسه الحاملون لظهوره وتجلياته ، كما أنهم حاملون تكاليفه وأحكامه فهو سائق لهم باعتبار قيوميته عليهم ووحدته الغيبية عنهم ، وهم أحبابهم باعتبار تجلياته لهم واختلاف ظهوراته وكثرة شؤونه بهم .
وقوله « عسى » هي فعل ماض جامد غير متصرف ، وهو من أفعال المقاربة وفيه ترج وطمع .
وقوله « مهلا » أي أن تمهل مهلا ، كما تقول عسى زيد أن يخرج ، فزيد فاعل « 1 » عسى وأن يخرج مفعوله ، وهو بمعنى الخروج إلا أن خبره لا يكون اسما لا يقال عسى زيد منطلقا ومهلا بالتحريك ، والمعنى في ذلك طلب الرفق والتأني في السير .
وقوله « وسر » فعل أمر من السير . وقوله « رويدا » قال في القاموس امش على رود بالضم ، أي مهل وتصغيره رويد ، وهي هنا صفة لمصدر محذوف تقدير سر سيرا
..........................................................................................
( 1 ) قوله : فزيد فاعل الخ . الأولى أن يقول اسم عسى وأن يخرج خبرها

« 361 »
 
رويدا . وقوله « فقلبي » الفاء للتعقيب ، وقوله « بين أنعام » بفتح الهمزة جمع نعم بالتحريك جمع لا واحد له من لفظه وأكثر ما يقع على الإبل ، وقيل الأنعام ذوات الخف والظلف ، وهي الإبل والبقر والغنم ، والمعنى أن قلبي سائر بين الإبل المكنى بها عن النشآت الإنسانية الحاملة للتجليات الإلهية ، وهذا غاية إدراكه ولا يقدر أن يتجاوزها إلى حضرة المتجلي الحق لفناء حقيقته في ذلك الوجود الحق .
وقوله « سلكت كل مقام » أي موضع إقامة روحانية في حضرة ربانية . وقوله « في محبتكم » الخطاب للأحبة المذكورين . وقوله « وما تركت » أي أهملت .
وقوله « مقاما » أي من مقامات القرب إليه تعالى . وقوله « قط » يقال ما فعلت ذلك قط أي في الزمان الماضي . وقوله « قدامي » خلاف ورائي .
وقوله « وكنت أحسب » أي أظن . وقوله « إني قد وصلت إلى أعلى » بالعين المهملة من العلو وهو الرفعة . وقوله « وأغلى » بالغين المعجمة من غلا غلوا جاوز الحد وغالى في أمره بالغ .
وقوله « مقام » أي منزلة ومرتبة عالية وقوله « بين أقوامي » أي عشيرتي وأصحابي من أهل طريق اللّه تعالى . وقوله « حتى بدا » أي ظهر وانكشف .
وقوله « ولم يمرّ » أي ذلك المقام . وقوله « بأفكاري » جمع فكر .
وقوله « وأوهامي » جمع وهم ، يعني لم أكن أظنّ أن ذلك يعرض عليّ لأنه مقام كوني من مقامات العامة ، وهو مقام الجزاء الأخروي بأن تراءت له الجنة ، وما أعده اللّه تعالى له فيها من النعيم المقيم ، وكان ذلك في وقت احتضاره قبيل موته قدس اللّه سرّه ، كما ورد ما معناه لا يموت أحدكم حتى يعرض عليه مقامه في الآخرة .
وقد سبق قصة ذلك له مع الشيخ إبراهيم الجعبري في ديباجة هذا الديوان وشرحناها هناك ، ولم نشرح البيتين من قول الشيخ عمر بن الفارض رضي اللّه عنه وذلك قوله « 1 » مع زيادة الأبيات الأربعة على البيتين السابقين فالجملة ستة ، والذي أنشده منها في هذه الواقعة هما هذان البيتان الأولان .
 
13 - إن كان منزلتي في الحبّ عندكم *** ما قد رأيت فقد ضيّعت أيّامي
14 - أمنيّة ظفرت روحي بها زمنا *** واليوم أحسبها أضغاث أحلام
 
[ المعنى ]
« إن كان منزلتي » أي رتبتي ومقداري . وقوله « في الحب » أي المحبة الإلهية .
وقوله « عندكم » بضم الميم للوزن أي في حضرتكم ، فإن لسان المحبة يقتضي أكثر من ذلك لأن غرض المحب رؤية المحبوب لا غير ، فلو كان له غرض في شيء غير
..........................................................................................
( 1 ) قوله : وذلك قوله الخ . لا يخفى ما في عبارته والظاهر أن يقول والأبيات ستة أولها البيتان السابقان وبعدهما الأبيات الأربعة الآتية .

 
« 362 »
 
الرؤية لم يكن محبّا لأن القلب لا يسع شيئين . وقوله « ما قد رأيت » يعني من المقام الكوني وهو زخارف الكائنات الأخروية ، وقوله « فقد ضيعت أيام » أي جعلت أيامي الماضية في المجاهدات والعبادات ضائعة لا فائدة فيها حيث لم يحصل بسببها غرضي ولا تم مقصودي .
وقوله « أمنية » تقديره هي أمنية ، يعني أيامي التي مضت لي في الدنيا من حين دخولي في طريق السلوك إلى اللّه تعالى بالمجاهدات الشرعية والأحوال المرضية هي أمنية لي واحدة الأماني . وقوله « ظفرت » أي فازت .
وقوله « روحي » فاعل ظفرت . وقوله « بها » أي بتلك الأمنية . وقوله « زمنا » أي مرة من الزمان ، وقوله « واليوم » أي في هذا الوقت الذي ظهر لي منه ما ظهر من الزخارف الكونية والشهوات النفسانية ،
كما قال تعالى : وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [ الزخرف : الآية 71 ]
وذلك مطلوب أصحاب النفوس البشرية من عامة المؤمنين ، وقوله « أحسبها » أي أظنها يعني تلك الأمنية المذكورة . وقوله « أضغاث أحلام » أي أخلاط منامات واحدها ضغث أي حلم .
والمعنى
في ذلك أنني الآن لما ظهر لي خلاف مقصودي وما كنت أؤمله ظننت أن جميع ما تقدم لي في أيامي الماضية رؤيا منام وخيالات فاسدة لأنه ورد في الأثر ( أن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ) . وقد ورد عن الشيخ عمر قدّس اللّه سره أنه بعد ذلك تبسّم مسرة لنيل مراده وبلوغ مقام إسعاده وأن الحق تعالى سمح له بالرؤيا اللائقة بمقامه . ( وبقية الأبيات الأربعة هي قوله ) :
 
14 - وإن يكن فرط وجدي في محبّتكم *** إثما فقد كثرت في الحبّ آثامي
 
[ المعنى ]
« وإن يكن فرط » بسكون الراء أي كثرة . وقوله « وجدي » أي شوقي وهيامي .
وقوله « في محبتكم » خطاب للأحبة وهم أنواع التجليات الإلهية بالصفات والأسماء الربانية بجميع الآثار الكونية . وقوله « إثما » أي ذنبا من الذنوب .
وقوله « فقد كثرت في الحب » أي في المحبة . وقوله « آثامي » فاعل كثرت ، أي ذنوبي ، يعني يلزم من كون كثرة الأشواق في المحبة ذنبا كثرة ذنوب المشتاق والذنوب مقتضيات التقصير والعصيان فيلزم من ذلك كثرة ذنوب المحب ، وأن تكون ذنوبه على مقدار محبته وأشواقه ومحبته وأشواقه كثيرة فذنوبه كثيرة .
 
15 - ولو علمت بأنّ الحبّ آخره *** هذا الحمام لما خالفت لوّامي
 
[ المعنى ]
« ولو علمت بأن الحب » أي المحبة الإلهية . وقوله « آخره » أي منتهى أمره بالمحب العاشق . وقوله « هذا الحمام » بكسر الحاء المهملة الموت ، وأشار إليه لأنه

« 363 »
 
قال ذلك في وقت احتضاره ، والمعنى لو كنت أعلم بأن المحبة ذنب وأن آخرها هذا الموت وأنا مصرّ على الذنب . وقوله « لما خالفت لوّامي » جمع لائم وهو العذول الذي يعنف المحب على محبته ، وهذا جواب لو ، يعني لما كنت أخالف عواذلي ولوّامي وكنت أطيعهم في كل ما قالوا وأترك المحبة لكن ما علمت ذلك حتى ظهر لي ما ظهر مما لم يكن في حسابي . اهـ .
 
16 - أودعت قلبي إلى من ليس يحفظه *** أبصرت خلفي وما طالعت قدّامي
17 - لقد رماني بسهم من لواحظه أصمى *** فؤادي فواشوقي إلى الرّامي
 
[ المعنى ]
« أودعت » يقال أودعت زيدا مالا ، دفعته له ليكون عنده وديعة يحفظه . وقوله « قلبي » أي مجموع عقلي وروحي ونفسي .
وقوله « إلى من ليس يحفظه » أي حفظ عناية وهداية ، وهو محبوبه الحقيقي ، وهو الذي كنّي عنه بصيغة الجمع في البيت السابق ، يعني حينئذ حيث ظهر لي ما ظهر ، وإلا فإن من أسمائه تعالى الحفيظ ، فهو يحفظ القلب وغيره من جميع الأكوان ، وذلك لأن الكلام كله مرتب على أوّله ، وأوّله قوله إن كان منزلتي الخ ، وهو أمر مشكوك عنده ، ولهذا استعمل فيه إن دون إذا وقال أحسب .
وقوله « أبصرت خلفي » أي حينئذ أكون أيضا نظرت إلى الأمور الماضية التي خلف ظهري ، والكامل من الناس لا ينظر خلف ظهره وإنما ينظر بين يديه . وقوله « وما طالعت » أي ما نظرت نظرا دائما . وقوله « قدامي » أي أمامي وهو وقته الحاضر فيه .
وقوله « لقد رماني » أي ذلك المحبوب المذكور ، وقوله « بسهم من لواحظه » أي عيونه ، أفرد السهم وجمع العيون لأنّ عيونه كثيرة حيث له ظهور بكل شيء على حسب كثرة أسمائه وصفاته واختلافها في الآثار ، وأما السهم الواحد فهو حقيقته الوجودية الواحدية الأحدية ، وقد ظهر له سهم منها أي ظهور واحد في نشأته الإنسانية وهو نصيبه كما قال قدس اللّه سره في خمريته .
على نفسه فليبك من ضاع عمره * وليس له منها نصيب ولا سهم
 
وقوله « أصمى » أي قتل . وقوله « فؤادي » ، أي قلبي وفيه تشبيه قلبه بالصيد الذي يرميه الصائد بالسهم فيقتله ، وقوله « فواشوقي » الفاء للتفريع . و « وا » للتعجب من كثرة شوقه .
 
وقوله « إلى الرامي » أي الذي رماه بسهم من لواحظه كما ذكرنا ، والرامي هنا بالألف واللام للعهد الذكري ، وهو المذكور بقوله في أول البيت لقد رماني فيكون غير الرامي الذي في البيت بعده لأن الألف واللام فيه للجنس أو للاستغراق ، أي كل رام وإن كان ذلك الرامي المعهود هو كل رام أيضا ، لكن اختلاف اللفظين ولو

« 364 »
 
بالاعتبار المجرد كاف في عدم الإيطاء في القوافي . ثم قال الذي ذيّل على هذه الأبيات الستة بما يناسبها .


18 - آها على نظرة منه أسرّ بها *** فإنّ أقصى مرامي رؤية الرّامي
 
[ المعنى ]
« آها » بالنصب والتنوين كلمة تحزن وتوجع . وقوله « على نظرة منه » أي من ذلك المحبوب الحقيقي . وقوله « أسر » بالبناء للمفعول ، أي يحصل لي السرور .
وقوله « بها » أي بتلك النظرة بالقلب أو بالبصر . وقوله « فإن أقصى » أي أبعد . وقوله « مرامي » أي مقصودي ومطلوبي . وقوله « رؤية الرامي » يعني الذي رمى في قوله تعالى لنبيه عليه السلام وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ الأنفال : الآية 17 ]
فإذا كان أفضل المخلوقات على الإطلاق ما رمى إذ رمى ولكن اللّه رمى ، فما بالك بغيره من بقية مخلوقات اللّه ، ولهذا قلنا إن المعنى بهذا الرامي كل رام فهو غير الرامي الأول في البيت قبله فلا إيطاء في القافية للاختلاف الاعتباري بالخصوص والعموم . اهـ .
 
19 - إن أسعد اللّه روحي في محبّته *** وجسمها بين أرواح وأجسامي
20 - وشاهدت واجتلت وجه الحبيب *** فما أسنى وأسعد أرزاقي وأقسامي
 
[ المعنى ]
« إن أسعد اللّه روحي » أي جعلها سعيدة . وقوله « في محبته » أي محبة اللّه تعالى . وقوله « وجسمها » بالنصب معطوف على روحي أي جسم تلك الروح . وقوله « بين » أي من بين . وقوله « أرواح وأجسام » أي لم يسعدها وإنما أشقاها . وقوله « شاهدت » أي روحي المذكورة . وقوله « واجتلت » أي كشفت بنفسها بحول ربها .
 
وقوله « وجه الحبيب » أي المحبوب الحقيقي الظاهر في كل شيء . وقوله « فما » الفاء في جواب الشرط . وما : تعجبية نحو ما أحسن زيدا ، والمعنى شيء عظيم حسن زيدا ،
وقوله « أسنى » أي : أرفع من السناء بالمد وهو الرفعة ، أو أضوأ وأنور من السنا بالقصر وهو الضوء والنور ، وقوله « وأسعد » من السعادة ضد الشقاوة .
وقوله « أرزاقي » مفعول أسنى . وقوله « وأقسامي » مفعول أسعد ، يعني إذا حصل لي الكشف عن وجه الحبيب الظاهر على كل شيء فان ، فما أرفع وأضوأ أرزاقي المعنوية وهي العلوم والمعارف والحقائق الإلهية ، وما أسعد أقسامي جمع قسم وهي الحظوظ النفسانية والمطالب الروحانية .
 
22 - ها قد أظلّ زمان الوصل يا أملي *** فامنن وثبّت به قلبي وأقدامي
23 - وقد قدمت وما قدّمت لي عملا *** إلّا غرامي وأشواقي وإقدامي



« 365 »

[ الاعراب والمعنى ]
« ها » حرف تنبيه . وقوله « قد أظل » بالظاء المعجمة ، أي أقبل أو قرب . وقوله « زمان الوصل » أي اللقاء والاجتماع ، وهو وقت الموت والارتحال إلى دار البقاء .
وقوله « يا أملي » أي يا مقصودي ومطلوبي خطاب للمحبوب الحقيقي .
وقوله « فامنن » من المنة وهي النعمة التامة . وقوله « وثبت » بتشديد الباء الموحدة ، فعل دعاء من التثبيت وهو الإدامة والاستقرار والتمكين . وقوله « به » أي بالوصل المذكور .
وقوله « قلبي » مفعول ثبت . وقوله « وأقدامي » جمع قدم . وقوله « وقد قدمت » الواو للحال ، والجملة حال من ضمير المتكلم ، يقال قدم الرجل البلد .
وقوله « وما » نافية . وقوله « قدمت » بتشديد الدال المهملة يقال قدمت الشيء خلاف أخرته . وقوله « لي » أي لأجلي .
وقوله « عملا » مفعول قدمت أي عملا صالحا يكون سببا لنجاتي ونعيم حياتي . وقوله « إلا غرامي » أي حبي اللازم وعشقي الملازم للجناب الإلهي . وقوله « وأشواقي » جمع شوق . وقوله « وإقدامي » بكسر الهمزة مصدر أقدم على الشيء إقداما إذا أقبل عليه منهمكا به يعني ليس لي عمل صالح غير محبتي الإلهية وأشواقي إلى لقاء الحضرة الربانية وإقبالي على ذلك بالكلية . اهـ .
 
24 - دار السّلام إليها قد وصلت إذا *** من سبل أبواب إيماني وإسلامي
25 - يا ربّنا أرني أنظر إليك بها *** عند القدوم وعاملني بإكرامي
 
[ المعنى ]
« دار السلام » أي السلامة من جميع الآفات وهي الجنة . وقوله « إليها » أي إلى دار السلام ، والجار والمجرور متعلق بوصلت قدم عليه للحصر لا إلى غيرها ، وهي النار ، وهذا إشارة إلى ما وقع للشيخ عمر ابن الفارض قدّس اللّه سرّه بقوله المذيل على أبياته على لسانه . وقوله « قد وصلت » أي تحقيقا حصل الوصول .
وقوله « إذا » بالتنوين أي في ذلك الحين . وقوله « من سبل » بسكون الباء الموحدة لغة في سبل بضمها وهما جميع سبيل . وقوله « أبواب » جمع باب .
 وقوله « إيماني » أي باللّه تعالى وبجميع ما يجب الإيمان به . وقوله « وإسلامي » أي تسليمي وانقيادي ظاهرا وباطنا لكل ذلك . وقوله « يا ربنا » أي يا مالكنا ومالك جميع أمورنا .
وقوله « أرني أنظر إليك » كما قال موسى عليه السلام رب أرني أنظر إليك ،
ولكن قال ذلك موسى عليه السلام في حياته الدنيا ، والشيخ قدّس اللّه سرّه قيل على لسانه في حياته الأخروية كما أشير إليه بقوله بها أي بدار السلام ، وهي جنة الآخرة .
وقوله « عند القدوم » أي الإقبال عليك بعد الموت . وقوله « وعاملني بإكرام » جملة دعائية ختم بها قصيدته الميمية تبركا بذكر الرؤية الربانية ، ونسأل اللّه تعالى أن يلحقنا بأوليائه في مقامات قربه ، ويتحفنا في دنيانا وآخرتنا بالكمالات ويجعلنا من حزبه ، وأن ييسر لنا كل عسير كما يسّر علينا

« 366 »
 
إتمام هذا الشرح المنير ، وقد اتفق الفراغ منه عشية يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف من الهجرة النبوية ، 1123 هـ.
وقلت مؤرخا إتمام هذا الشرح بمعونة اللّه تعالى :
ولابن الفارض الديوان لما * حكى عقدا نظيما جوهريا
عنيت بشرحه هذا إلى أن * تكامل أرخوه الفارضيا

والحمد للّه أولا وآخرا باطنا وظاهرا وكتبه العبد الفقير إلى مغفرة ربه عبد الغني النابلسي غفر اللّه ذنوبه وستر عيوبه

.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: فهرس محتويات الجزء الثاني .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 9:59 pm

فهرس محتويات الجزء الثاني .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

فهرس محتويات الجزء الثاني
 فهرس المحتويات الجزء الثاني

القصيدة الأولى
ما بين ضال المنحنى وظلاله * ضلّ المتيّم واهتدى بضلاله 3
وبذلك الشّعب اليماني منية * للصّبّ قد بعدت على آماله 4
يا صاحبي هذا العقيق فقف به * متولّها إن كنت لست بواله 5
وانظره عنّي إنّ طرفي عاقني * إرسال دمعي فيه عن إرساله 5
واسأل غزال كناسه هل عنده * علم بقلبي في هواه وحاله 6
وأظنّه لم يدر ذلّ صبابتي * إذ ظلّ ملتهيا بعزّ جماله 7
تفديه مهجتي الّتي تلفت ولا * منّ عليه لأنّها من ماله 7
أترى درى أنّي أحنّ لهجره * إذ كنت مشتاقا له كوصاله 7
وأبيت سهرانا أمثّل طيفه * للّطرف كي ألقى خيال خياله 8
لا ذقت يوما راحة من عاذل * إن كنت ملت لقيله ولقاله 9
فوحقّ طيب رضا الحبيب ووصله * ما ملّ قلبي حبّه لملاله 9
واها إلى ماء العذيب وكيف لي * بحشاي لو يطفا ببرد زلاله 9
ولقد يجلّ عن اشتياقي ماؤه * شرفا فواظمئي للامع آله 9


القصيدة الثانية
احفظ فؤادك إن مررت بحاجر * فظباؤه منها الظّبا بمحاجر 11

فالقلب فيه واجب من جائز * إن ينج كان مخاطرا بالخاطر 12
وعلى الكثيب الفرد حيّ دونه الآ * ساد صرعى من عيون جآذر 13

« 370 »
 
أحبب بأسمر صين فيه بأبيض * أجفانه منّي مكان سرائري 13
وممنّع ما إن لنا من وصله * إلّا توهّم زور طيف زائر 15
للماه عدت ظما كأصدى وارد * منع الفرات وكنت أروى صادر 16
خير الأصيحاب الّذي هو آمري * بالغيّ فيه وعن رشادي زاجري 17
لو قيل لي ماذا تحبّ وما الّذي * تهواه منه لقلت ما هو آمري 17
ولقد أقول للائمي في حبّه * لمّا رآه بعيد وصلي هاجري 17
عنّي إليك فلي حشى لم يثنها * هجر الحديث ولا حديث الهاجر 17
لكن وجدتّك من طريق نافعي * وبلذع عدلي لو أطعتك ضائري 18
أحسنت لي من حيث لا تدري وإن * كنت المسئ فأنت أعدل جائر 19
يدني الحبيب وإن تناءت داره * طيف الملام لطرف سمعي السّاهر 20
فكأنّ عذلك عيس من أحببته * قدمت عليّ وكان سمعي ناظري 21
أتعبت نفسك واسترحت بذكره * حتّى حسبتك في الصّبابة عاذري 21
فاعجب لهاج مادح عذّاله * في حبّه بلسان شاك شاكر 21
يا سائرا بالقلب غدرا كيف لم * تتبعه ما غادرته من سائري 22
بعضي يغار عليك من بعضي ويح * سد باطني إذ أنت فيه ظاهري 22
ويودّ طرفي إن ذكرت بمجلس * لو عاد سمعا مصغيا لمسامري 22
متعوّدا إنجازه متوعّدا * أبدا ويمطلني بوعد نادر 23
ولبعده اسودّا الضّحى عندي كما أب * يضّت لقرب منه كان دياجري 23


القصيدة الثالثة
أرج النّسيم سرى من الزّوراء * سحرا فأحيا ميّت الأحياء 24

أهدى لنا أرواح نجد عرفه * فالجوّ منه معنبر الأرجاء 25
وروى أحاديث الأحبّة مسندا * عن إذخر بأذاخر وسحاء 26
فسكرت من ريّا حواشي برده * وسرت حميّا البرء في أدوائي 26
يا راكب الوجناء بلّغت المنى * عج بالحمى إن جزت بالجرعاء 27
متيمّما تلعات وادي ضارج * متيامنا عن قاعة الوعساء 28
 
« 371 »
 
وإذا أتيت أثيل سلع فالنّقا * فالرّقمتين فلعلع فشظاء 28
فكذا عن العلمين من شرقيّه * مل عادلا للحلّة الفيحاء 28
وأقر السلام عريب ذيّاك اللّوى * عن مغرم دنف كئيب نائي 29
صبّ متى قفل الحجيج تصاعدت * زفراته بتنفّس الصّعداء 30
كلم السّهاد جفونه فتبادرت * عبراته ممزوجة بدماء 30
يا ساكني البطحاء هل من عودة * أحيا بها يا ساكني البطحاء 32
إن ينقضي صبري فليس بمنقض * وجدي القديم بكم ولا برحائي 32
ولئن جفا الوسميّ ما حل تربكم * فمدامعي تربي على الأنواء 32
واحسرتي ضاع الزّمان ولم أفز * منكم أهيل مودّتي بلقاء 32
ومتى يؤمّل راحة من عمره * يومان يوم قلى ويوم تنائي 32
وحياتكم يا أهل مكّة وهي لي * قسم لقد كلفت به أحشائي 35
حبّيكم في النّاس أضحى مذهبي * وهواكم ديني وعقد ولائي 35
يا لائمي في حبّ من من أجله * قد جدّ بي وجدي وعزّ عزائي 36
هلّا نهاك نهاك عن لوم امرئ * لم يلف غير منعّم بشقاء 36
لو تدر فيم عذلتني لعذرتني * خفّض عليك وخلّني وبلائي 36
فلنازلي سرح المربّع فالشّبي * كة فالثّنيّة من شعاب كداء 38
ولحاضري البيت الحرام وعامري * تلك الخيام وزائري الحثماء 38
ولفتية الحرم المريع وجيرة ال * حيّ المنيع تلفّتي وعنائي 38
فهم هم صدّوا دنوا وصلوا جفوا * غدروا وفوا هجروا رثوا لضنائي 39
وهم عياذي حيث لم تغن الرّقى * وهم ملاذي إن عدت أعدائي 40
وهم بقلبي إن تناءت دارهم * عنّي وسخطي في الهوى ورضائي 40
وعلى محلّي بين ظهرانيهم * بالأخشبين أطوف حول حمائي 41
وعلى اعتناقي للرّفاق مسلّما * عند استلام الرّكن بالإيماء 41
وتذكّري أجياد وردي في الضّحى * وتهجّدي في اللّيلة اللّيلاء 42
وعلى مقامي بالمقام أقام في * جسمي السّقام ولات حين شفاء 43
 
« 372 »
 
عمري ولو قلبت بطاح مسيله * قلبا لقلبي الرّيّ بالحصباء 44
أسعد أخيّ وغنّني بحديث من * حلّ الأباطح إن رعيت إخائي 44
وأعده عند مسامعي فالرّوح إن * بعد المدى ترتاح للأنباء 45
وإذا إذا ألم ألمّ بمهجتي * فشذا أعيشاب الحجاز دوائي 46
أأذاد عن عذب الورود بأرضه * وأحاد عنه وفي نقاه بقائي 47
وربوعه أربي أجل وربيعه * طربي وصارف أزمة اللّأواء 47
وجباله لي مربع ورماله * لي مرتع وظلاله أفيائي 47
وترابه ندّي الذّكيّ وماؤه * وردي الرّويّ وفي ثراه ثرائي 47
وشعابه لي جنّة وقبابه * لي جنّة وعلى صفاه صفائي 47
حيّا الحيا تلك المنازل والرّبا * وسقى الوليّ مواطن الآلاء 49
وسقى المشاعر والمحصب من منى * سحّا وجماد مواقف الأنضاء 49
ورعى الإله بها أصيحابي الألى * سامرتهم بمجامع الأهواء 49
ورعى ليالي الخيف ما كانت سوى * حلم مضى مع يقظة الإغفاء 49
واها على ذاك الزّمان وما حوى * طيب المكان بغفلة الرّقباء 51
أيّام أرتع في ميادين المنى * جذلا وأرفل في ذيول حيائي 51
ما أعجب الأيّام توجب للفتى * منحا وتمنحه بسلب عطاء 51
يا هل لماضي عيشنا من عودة * يوما وأسمح بعده ببقائي 51
هيهات خاب السّعي وانفصمت عرا * حبل المنى وانحلّ عقد رجائي 51
وكفى غراما أن أبيت متيّما * شوقي أمامي والقضاء ورائي 51


القصيدة الرابعة
أوميض برق بالأبيرق لاحا * أم في ربا نجد أرى مصباحا 55

أم تلك ليلى العامريّة أسفرت * ليلا فصيّرت المساء صباحا 55
يا راكب الوجناء وقّيت الرّدى * إن جبت حزنا أو طويت بطاحا 56
وسلكت نعمان الأراك فعج إلى * واد هناك عهدته فيّاحا 56
فبأيمن العلمين من شرقيّه * عرّج وأمّ أرينه الفوّاحا 57
 
« 373 »
 
وإذا وصلت إلى ثنيّات اللّوى * فأنشد فؤادا بالأبيطح طاحا 58
وأقر السّلام أهيله عنّي وقل * غادرته لجنابكم ملتاحا 59
يا ساكني نجد أما من رحمة * لأسير الف لا يريد سراحا 59
هلّا بعثتم للمشوق تحيّة * في طيّ صافية الرّياح رواحا 60
يحيا بها من كان يحسب هجركم * مزحا ويعتقد المزاح مزاحا 60
يا عاذل المشتاق جهلا بالّذي * يلقى مليّا لا بلغت نجاحا 62
أتعبت نفسك في نصيحة من يرى * أن لا يرى الإقبال والإفلاحا 62
أقصر عدمتك واطّرح من أثخنت * أحشاءه النّجل العيون جراحا 62
كنت الصّديق قبيل نصحك مغرما * أرأيت صبّا يألف النّصّاحا 63
إن رمت إصلاحي فإنّي لم أرد * لفساد قلبي في الهوى إصلاحا 64
ماذا يريد العاذلون بعذل من * لبس الخلاعة واستراح وراحا 64
يا أهل ودّي هل لراجي وصلكم * طمع فينعم باله استرواحا 65
مذ غبتم عن ناظري لي أنّة * ملأت نواحي أرض مصر نواحا 65
وإذا ذكرتكم أميل كأنّني * من طيب ذكركم سقيت الرّاحا 65
وإذا دعيت إلى تناسي عهدكم * ألفيت أحشائي بذاك شحاحا 65
سقيا لأيّام مضت مع جيرة * كانت ليالينا بهم أفراحا 67
حيث الحمى وطني وسكّان الغضى * سكني ووردي الماء فيه مباحا 67
وأهيله أربي وظلّ نخيله * طربي ورملة وادييه مراحا 67
واها على ذاك الزّمان وطيبه * أيّام كنت من اللّغوب مراحا 67
قسما بمكّة والمقام ومن أتى ال * بيت الحرام ملبّيا سيّاحا 67
ما رنّحت ريح الصّبا شيح الرّبا * إلّا وأهدت منكم أرواحا 67


القصيدة الخامسة
هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم * أم بارق لاح بالزّوراء فالعلم 71

أرواح نعمان هلّا نسمة سحرا * وماء وجرة هلّا نهلة بفم 72
يا سائق الظّعن يطوي البيد معتسفا * طيّ السّجلّ بذات الشّيح من إضم 74
 
« 374 »
 
عج بالحمى يا رعاك اللّه معتمدا * خميلة الضّال ذات الرّند والخزم 74
وقف بسلع وسل بالجزع هل مطرت * بالرّقمتين أثيلات بمنسجم 74
نشدتك اللّه إن جزت العقيق ضحى * فاقر السّلام عليهم غير محتشم 76
وقل تركت صريعا في دياركم * حيّا كميت يعير السّقم للسّقم 76
فمن فؤادي لهيب ناب عن قبس * ومن جفوني دمع فاض كالدّيم 77
وهذه سنّة العشّاق ما علقوا * بشادن فخلا عضو من الألم 78
يا لائما لامني في حبّهم سفها * كفّ الملام فلو أحببت لم تلم 78
وحرمة الوصل والودّ العتيق وبال * عهد الوثيق وما قد كان في القدم 79
ما حلت عنهم بسلوان ولا بدل * ليس التّبدّل والسلوان من شيمي 79
ردّوا الرّقاد لجفني علّ طيفكم * بمضجعي زائر في غفلة الحلم 79
آها لأيّامنا بالخيف لو بقيت * عشرا وواها عليها كيف لم تدم 80
هيهات وا أسفي لو كان ينفعني * أو كان يجدي على ما فات وا ندمي 81
عنّي إليكم ظباء المنحنى كرما * عهدت طرفي لم ينظر لغيرهم 81
طوعا لقاض أتى في حكمه عجبا * أفتى بسفك دمي في الحلّ والحرم 82
أصمّ لم يصغ للشّكوى وأبكم لم * يحر جوابا وعن حال المشوق عمي 82


القصيدة السادسة
ما بين معترك الأحداق والمهج * أنا القتيل بلا إثم ولا حرج 84

ودّعت قبل الهوى روحي لما نظرت * عيناي من حسن ذاك المنظر البهج 84
للّه أجفان عين فيك ساهرة * شوقا إليك وقلب بالغرام شجي 85
وأضلع أنحلت كادت تقوّمها * من الجوى كبدي الحرّا من العوج 86
وأدمع هملت لولا التّنفّس من * نار الهوى لم أكد أنجو من اللّجج 86
وحبّذا فيك أسقام خفيت بها * عنّي تقوم بها عند الهوى حججي 87
أصبحت فيك كما أمسيت مكتئبا * ولم أقل جزعا يا أزمة انفرجي 88
أهفو إلى كلّ قلب بالغرام له * شغل وكلّ لسان بالهوى لهج 89
وكلّ سمع عن اللّاحي به صمم * وكلّ جفن إلى الإغفاء لم يعج 90
 
« 375 »
 
لا كان وجد به الآماق جامدة * ولا غرام به الأشواق لم تهج 90
عذّب بما شئت غير البعد عنك تجد * أوفى محبّ بما يرضيك مبتهج 90
وخذ بقيّة ما أبقيت من رمق * لا خير في الحبّ إن أبقى على المهج 91
من لي بإتلاف روحي في هوى رشأ * حلو الشّمائل بالأرواح ممتزج 92
من مات فيه غراما عاش مرتقيا * ما بين أهل الهوى في أرفع الدّرج 93
محجّب لو سرى في مثل طرّته * أغنته غرّته الغرّا عن السّرج 93
وإن ضللت بليل من ذوائبه * أهدى لعيني الهدى صبح من البلج 94
وإن تنفّس قال المسك معترفا * لعارفي طيبه من نشره أرجي 95
أعوام إقباله كاليوم من قصر * ويوم إعراضه في الطّول كالحجج 96
فإن نأى سائرا يا مهجتي ارتحلي * وإن دنا زائرا يا مقلتي ابتهجي 96
قل للّذي لامني فيه وعنّفني * دعني وشأني وعد عن نصحك السّمج 97
فاللّوم لؤم ولم يمدح به أحد * وهل رأيت محبّا بالغرام هجي 98
يا ساكن القلب لا تنظر إلى سكني * واربح فؤادك واحذر فتنة الدّعج 98
يا صاحبي وأنا البرّ الرّؤوف وقد * بذلت نصحي بذاك الحيّ لا تعج 99
فيه خلعت عذاري واطّرحت به * قبول نسكي والمقبول من حججي 99
وابيضّ وجه غرامي في محبّته * واسودّ وجه ملامي فيه بالحجج 100
تبارك اللّه ما أحلى شمائله * فكم أماتت وأحيت فيه من مهج 100
يهوى لذكر اسمه من لجّ في عذلي * سمعي وإن كان غذلي فيه لم يلج 101
وأرحم البرق في مسراه منتسبا * لثغره وهو مستحي من الفلج 102
تراه إن غاب عنّي كلّ جارحة * في كلّ معنى لطيف رائق بهج 102
في نغمة العود والنّاي الرخيم إذا * تألّفا بين ألحان من الهزج 103
وفي مسارح غزلان الخمائل في * برد الأصائل والأصباح في البلج 104
وفي مساقط أنداء الغمام على * بساط نور من الأزهار منتسج 104
وفي مساحب أذيال النّسيم إذا * أهدى إليّ سحيرا أطيب الأرج 105
وفي التثامي ثغر الكاس مرتشفا * ريق المدامة في مستنزه فرج 105
 
« 376 »
 
لم أدر ما غربة الأوطان وهو معي * وخاطري أين كنّا غير منزعج 106
فالدّار داري وحبّي حاضر ومتى * بدا فمنعرج الجرعاء منعرجي 107
ليهن ركب سروا ليلا وأنت بهم * بسيرهم في صباح منك منبلج 108
فليصنع الرّكب ما شاؤوا بأنفسهم * هم أهل بدر فلا يخشون من حرج 108
بحقّ عصياني اللّاحي عليك وما * بأضلعي طاعة للوجد من وهج 110
أنظر إلى كبد ذابت عليك جوى * ومقلة من نجيع الدّمع في لجج 110
وارحم تعثّر آمالي ومرتجعي * إلى خداع تمنّي الوعد بالفرج 110
واعطف على ذلّ أطماعي بهل وعسى * وامنن عليّ بشرح الصّدر من حرج 110
أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه * قول المبشّر بعد اليأس بالفرج 112
لك البشارة فاخلع ما عليك فقد * ذكرت ثمّ على ما فيك من عوج 112


القصيدة السابعة
خفّف السّير واتّئد يا حادي * إنّما أنت سائق بفؤادي 114

ما ترى العيس بين سوق وشوق * لربيع الرّبوع غرثى صوادي 115
لم تبقّي لها المهامه جسما * غير جلد على عظام بوادي 116
وتحّفت أخفافها فهي تمشي * من جواها في مثل جمر الرّماد 117
وبراها الونى فحلّ براها * خلّها ترتوي ثماد الوهاد 118
شفّها الوجد إن عدمت رواها * فاسقها الوخد من جفار المهاد 119
واستبقها واستبقها فهي ممّا * تترامى به إلى خير وادي 119
عمرك اللّه إن مررت بوادي * ينبع فالدّهنا فبدر غادي 120
وسلكت النّقا فأودان ودّا * ن إلى رابغ الرّوي الثّماد 121
وقطعت الحرار عمدا الخيما * ت قديد مواطن الأمجاد 122
وتدانيت من خليص فعسفا * ن فمرّ الظّهران ملقى البوادي 122
ووردت الجموم فالقصر فالدّك * ناء طرّا مناهل الورّاد 122
وأتيت التّنعيم فالزّاهر الزّا * هر نورا إلى ذرا الأطواد 122
 
« 377 »
 
وعبرت الحجون واجتزت فاختر * ت ازديارا مشاهد الأوتاد 122
وبلغت الخيام فابلغ سلامي * عن حفاظ عريب ذاك النّادي 122
وتلطّف واذكر لهم بعض ما بي * من غرام ما إن له من نفاد 125
يا أخلّاي هل يعود التّداني * منكم بالحمى بعود رقادي 126
ما أمرّ الفراق يا جيرة الحيّ * وأحلى التّلاق بعد انفراد 126
كيف يلتذّ بالحياة معنى * بين أحشائه كوري الزّناد 127
عمره واصطباره في انتقاص * وجواه ووجده في ازدياد 127
في قرى مصر جسمه والأصيحا * ب شآما والقلب في أجياد 127
إن تعد وقفة فويق الصّخيرا * ت رواحا سعدت بعد بعادي 128
يا رعى اللّه يومنا بالمصلّى * حيث ندعى إلى سبيل الرّشاد 129
وقباب الرّكاب بين العلمي * ن سراعا للمأزمين غوادي 129
وسقى جمعنا بجمع ملثّا * ولويلات الخيف صوب عهاد 130
من تمنّى مالا وحسن مآل * فمنائي منى وأقصى مرادي 130
يا أهيل الحجاز إن حكم الدّه * ر ببين قضاء حتم إرادي 131
فغرامي القديم فيكم غرامي * وودادي كما عهدتم ودادي 131
قد سكنتم من الفؤاد سويدا * ه ومن مقلتي سواء السّواد 132
يا سميري روّح بمكّة روحي * شاديا إن رغبت في إسعادي 132
فذراها سربي وطيبي ثراها * وسبيل المسيل وردي وزادي 133
كان فيها أنسي ومعراج قدسي * وسقامي المقام والفتح بادي 134
نقلتني عنها الحظوظ فجذّت * وارداتي ولم تدم أورادي 134
آه لو يسمح الزّمان بعود * فعسى أن تعود لي أعيادي 135
قسما بالحطيم والرّكن والأس * تار والمروتين مسعى العباد 135
وظلال الجناب والحجر والمي * زاب والمستجاب للقصّاد 135
ما شممت البشام إلّا وأهدى * لفؤادي تحيّة من سعاد 135
 
« 378 »
 
القصيدة الثامنة
أرى البعد لم يخطر سواكم على بالي * وإن قرّب الأخطار من جسدي البالي 138

فيا حبّذا الأسقام في جنب طاعتي * أوامر أشواقي وعصيان عذّالي 139
ويا ما ألذّ الذّلّ في عزّ وصلكم * وإن عزّ ما أحلى تقطّع أوصالي 139
نأيتم فحالي بعدكم ظلّ عاطلا * وما هو ممّا ساء بل سرّكم حالي 140
بليت به لمّا بليت صبابة * أبلّت فلي منها صبابة إبلال 141
نصبت على عيني بتغميض جفنها * لزورة زور الطّيف حيلة محتال 141
فما أسعفت بالغمض لكن تعسّفت * عليّ بدمع ثم الصّوب هطّال 142
فيا مهجتي ذوبي على فقد بهجتي * لترحال آمالي ومقدم أوجالي 142
وضنّي بدمع قد غنيت بفيض ما * جرى من دمي إذ طلّ ما بين أطلالي 143
ومن لي بأن يرضى الحبيب وإن علا ال * نّحيب فإبلالي بلائي وبلبالي 143
فما كلفي في حبّه كلفة له * وإن جلّ ما ألقى من القيل والقال 143
بقيت به لمّا فنيت بحبّه * بثروة إيثاري وكثرة إقلالي 144
رعى اللّه مغنى لم أزل في ربوعه * معنّى وقل إن شئت يا ناعم البال 145
وحيّا محيّا عاذل لي لم يزل * يكرّر من ذكري أحاديث ذي الخال 146
روى سنّة عندي فأروى من الصّدى * وأهدى الهدى فاعجب وقد رام إضلالي 146
فأحببت لوم اللّؤم فيه لو أنّني * منحت المنى كانت علامة عذّالي 146
جهلت بأن قلت اقترح يا معذّبي * عليّ فأجلى لي وقال أسل سلسالي 147
وهيهات أن أسلو وفي كلّ شعرة * لحتفي غرام مقبل أيّ إقبال 147
وقال لي اللّاحي مرارة قصده * تحلّ بها دع حبّه قلت أحلى لي 148
بذلت له روحي لراحة قربه * وغير عجيب بذلي الغال في الغالي 148
فجاد ولكن بالبعاد لشقوتي * فيا خيبة المسعى وضيعة آمالي 149
وحان له حيني على غرّة * ولم أدر أنّ الآل يذهب بالآل 149
تحكّم في جسمي النّحول فلو أتى * لقبضي رسول ضلّ في موضع خالي 150
فلو همّ باقي السّقم بي لاستعان في * تلافي بما حالت له من ضنا حالي 150
 
« 379 »
 
ولم يبق منّي ما يناجي توهّمي * سوى عزّ ذلّي في مهانة إجلالي 150


القصيدة التاسعة
هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل * فما اختاره مضنى به وله عقل 152

وعش خاليا فالحبّ راحته عنّا * فأوّله سقم وآخره قتل 153
ولكن لديّ الموت فيه صبابة * حياة لمن أهوى عليّ بها الفضل 153
نصحتك علما بالهوى والّذي أرى * مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو 154
فإن شئت أن تحيا سعيدا فمت به * شهيدا وإلّا فالغرام له أهل 155
فمن لم يمت في حبّه لم يعش به * ودون اجتناء النّحل ما جنت النحل 155
تمسّك بأذيال الهوى واخلع الحيا * وخلّ سبيل النّاسكين وإن جلّوا 155
وقل لقتيل الحبّ وفّيت حقّه * وللمدّعي هيهات ما الكحل الكحل 155
تعرّض قوم للغرام وأعرضوا * بجانبهم عن صحّتي فيه واعتلّوا 160
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم * وخاضوا بحار الحبّ دعوى فما ابتلّوا 160
فهم في السّرى لم يبرحوا من مكانهم * وما ظعنوا في السّير عنه وقد كلّوا 160
وعن مذهبي لمّا استحبّوا العمى على ال * هدى حسدا من عند أنفسهم ضلّوا 160
أحبّة قلبي والمحبّة شافعي * لديكم إذا شئتم بها اتّصل الحبل 162
عسى عطفة منكم عليّ بنظرة * فقد تعبت بيني وبينكم الرّسل 162
أحبّاي أنتم أحسن الدّهر أم أسا * فكونوا كما شئتم أنا ذلك الخلّ 162
إذا كان حظّي الهجر منكم ولم يكن * بعاد فذاك الهجر عندي هو الوصل 164
وما الصّدّ إلّا الودّ ما لم يكن قلى * وأصعب شيء غير إعراضكم سهل 165
وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم * عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل 166
وصبري صبر عنكم وعليكم * أرى أبدا عندي مرارته تحلو 166
أخذتم فؤادي وهو بعضي فما الّذي * يضرّكم لو كان عندكم الكلّ 167
نأيتم فغير الدّمع لم أر وافيا * سوى زفرة من حرّ نار الجوى تعلو 168
فسهدي حيّ في جفوني مخلّد * ونومي بها ميت ودمعي له غسل 168
هوى طلّ ما بين الطّلول دمي فمن * جفوني جرى بالسّفح من سفحه وبل 169
 
« 380 »
 
تباله قومي إذ رأوني متيّما * وقالوا بمن هذا الفتى مسّه الخبل 169
وماذا عسى عنّي يقال سوى غدا * بنعم له شغل نعم لي بها شغل 170
وقال نساء الحيّ عنّا بذكر من * جفانا وبعد العزّ لذّ له الذّلّ 171
إذا أنعمت نعم عليّ بنظرة * فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل 171
وقد صدئت عيني برؤية غيرها * ولثم جفوني تربها للصّدا يجلو 171
وقد علموا أنّي قتيل لحاظها * فإنّ لها في كلّ جارحة نصل 172
حديثي قديم في هواها وماله * كما علمت بعد وليس له قبل 173
وما لي مثل في غرامي بها كما * غدت فتنة في حسنها ما لها مثل 173
حرام شفا سقمي لديها رضيت ما * به قسمت لي في الهوى ودمي حلّ 174
فحالي وإن ساءت فقد حسنت بها * وما حطّ قدري في هواها به أعلو 174
وعنوان ما فيها لقيت وما به * شقيت وفي قولي اختصرت ولم أغلو 174
خفيت ضني حتّى لقد ضلّ عائدي * وكيف ترى العوّاد من لا له ظلّ 175
وما عثرت عين على أثري ولم * تدع لي رسما في الهوى الأعين النّجل 176
ولي همّة تعلو إذا ما ذكرتها * وروح بذكراها إذا رخصت تغلو 177
جرى حبّها مجرى دمي في مفاصلي * فأصبح لي عن كلّ شغل بها شغل 177
فنافس ببذل النّفس فيها أخا الهوى * فإن قبلتها منك يا حبّذا البذل 178
فمن لم يجد في حبّ نعم بنفسه * ولو جاد بالدّنيا إليه انتهى البخل 178
ولولا مراعاة الصّيانة غيرة * ولو كثروا أهل الصّبابة أو قلّوا 179
لقلت لعشّاق الملاحة أقبلوا * إليها على رأيي وعن غيرها ولوا 179
وإن ذكرت يوما فخرّوا لذكرها * سجودا وإن لاحت إلى وجهها صلّوا 179
وفي حبّها بعت السّعادة بالشّقا * ضلالا وعقلي عن هداي به عقل 180
وقلت لرشدي والتّنسّك والتّقى * تخلّوا وما بيني وبين الهوى خلّوا 181
وفرّغت قلبي عن وجودي مخلصا * لعلّي في شغلي بها معها أخلو 182
ومن أجلها أسعى لمن بيننا سعى * وأعدو ولا أغدو لمن دأبه العذل 183
فأرتاح للواشين بيني وبينها * لتعلم ما ألقى وما عندها جهل 184
 
« 381 »
 
وأصبو إلى العذّال حبّا لذكرها * كأنّهم ما بيننا في الهوى رسل 184
فإن حدّثوا عنها فكلّي مسامع * وكلّي إن حدّثتهم ألسن تتلو 185
تخالفت الأقوال فينا تباينا * برجم ظنون بيننا ما لها أصل 185
فشنّع قوم بالوصال ولم تصل * وأرجف بالسّلوان قوم ولم أسلو 185
فما صدق التّشنيع عنها لشقوتي * وقد كذبت عنّي الأراجيف والنّقل 185
وكيف أرجّي وصل من لو تصوّرت * حماها المنى وهما لضاقت بها السّبل 186
وإن وعدت لم يلحق الفعل قولها * وإن أوعدت فالقول يسبقه الفعل 187
عديني بوصل وامطلي بنجازه * فعندي إذا صحّ الهوى حسن المطل 188
وحرمة عهد بيننا عنه لم أحل * وعقد بأيد بيننا ما له حلّ 188
لأنت على غيظ النّوى ورضا الهوى * لديّ وقلبي ساعة منك ما يخلو 188
ترى مقلتي يوما ترى من أحبّهم * ويعتبني دهري ويجتمع الشّمل 189
وما برحوا معنى أراهم معي فإن * نأوا صورة في الذّهن قام لهم شكل 190
فهم نصب عيني ظاهرا حيثما سروا * وهم في فؤادي باطنا أينما حلّوا 190
لهم أبدا منّي حنوّ وإن جفوا * ولي أبدا ميل إليهم وإن ملّوا 190


القصيدة العاشرة
أبرق بدا من جانب الغور لامع * أم ارتفعت عن وجه سلمى البراقع 193

أنار الغضى ضاءت وسلمى بذي الغضى * أم ابتسمت عمّا حكته المدامع 194
أنشر خزامى فاح أم عرف حاجر * بأمّ القرى أم عطر عزّة ضائع 195
ألا ليت شعري هل سليمى مقيمة * بوادي الحمى حيث المتيّم والع 196
وهل لعلع الرّعد الهتون بلعلع * وهل جادها صوب من المزن هامع 197
وهل أردن ماء العذيب وحاجر * جهارا وسرّ اللّيل بالصّبح شائع 197
وهل قاعة الوعساء مخضرّة الرّبى * وهل ما مضى فيها من العيش راجع 198
وهل بربى نجد فتوضح مسند * أهيل النّقا عمّا حوته الأضالع 199
وهل بلوى سلع يسل عن متيّم * بكاظمة ماذا به الشّوق صانع 199
وهل عذبات الرّند يقطف نورها * وهل سلمات بالحجاز أيانع 200
 
« 382 »
 
وهل أثلات الجزع مثمرة وهل * عيون عوادي الدّهر عنها هواجع 201
وهل قاصرات الطّرف عين بعالج * على عهدي المعهود أم هو ضائع 201
وهل ظبيات الرّقمتين بعيدنا * أقمن بها أم دون ذلك مانع 202
وهل فتيات بالغوير يرينني * مرابع نعم نعم تلك المرابع 203
وهل ظلّ ذاك الضّال شرقيّ ضارج * ظليل فقد روّته منّي المدامع 204
وهل عامر من بعدنا شعب عامر * وهل هو يوما للمحبّين جامع 205
وهل أمّ بيت اللّه يا أمّ مالك * عريب لهم عندي جميعا صنائع 205
وهل نزل الرّكب العراقي معرّفا * وهل شرعت نحو الخيام شرائع 206
وهل رقصت بالمأزمين قلائص * وهل للقباب البيض فيها تدافع 207
وهل لي بجمع الشّمل في جمع مسعد * وهل للّيالي الخيف بالعمر بائع 208
وهل سلّمت سلمى على الحجر الّذي * به العهد والتفّت عليه الأصابع 208
وهل رضعت من ثدي زمزم رضعة * فلا حرّمت يوما عليها المراضع 209
لعلّ أصيحابي بمكّة يبردوا * بذكر سليمى ما تجنّ الأضالع 209
وعلّ اللّويلات الّتي ق * تعود لنا يوما فيظفر طامع 210
ويفرح محزون ويحيا متيّم * ويأنس مشتاق ويلتذّ سامع 210


القصيدة الحادية عشرة
أدر ذكر من أهوى ولو بملامي * فإنّ أحاديث الحبيب مدامي 212

ليشهد سمعي من أحبّ وإن نأى * بطيف ملام لا بطيف منام 213
فلي ذكرها يحلو على كلّ صيغة * وإن مزجوه عذّلي بخصام 213
كأنّ عذولي بالوصال مبشّري * وإن كنت لم أطمع بردّ سلام 214
بروحي من أتلفت روحي بحبّها * فحان حمامي قبل يوم حمامي 214
ومن أجلها طاب افتضاحي ولذّ لي اطّ * راحي وذلّي بعد عزّ مقامي 215
وفيها حلالي بعد نسكي تهتّكي * وخلع عذاري وارتكاب أثامي 215
أصلّي فأشدو حين أتلو بذكرها * وأطرب في المحراب وهي إمامي 216
وبالحجّ إن أحرمت لبّيت باسمها * وعنها أرى الإمساك فطر صيامي 216
 
« 383 »
 
وشأني بشأني مغرب وبما جرى * جرى وانتحابي معرب بهيامي 217
أروح بقلب بالصّبابة هائم * وأغدو بطرف بالكآبة هامي 218
فقلبي وطرفي ذا بمعنى جمالها * معنّى وذا مغرى بلين قوام 218
ونومي مفقود وصبحي لك البقا * وسهدي موجود وشوقي نامي 219
وعقدي وعهدي لم يحلّ ولم يحل * ووجدي وجدي والغرام غرامي 220
يشفّ عن الأسرار جسمي من الضّنا * فيغدو بها معنى نحول عظامي 220
طريح جوى حبّ جريح جوانح * قريح جفون بالدّوام دوامي 221
صريح هوى جاريت من لطفي الهوى * سحيرا فأنفاس النّسيم لمامي 222
صحيح عليل فاطلبوني من الصّبا * ففيها كما شاء النّحول مقامي 222
خفيت ضنا حتّى خفيت عن الضّنا * وعن برء أسقامي وبرد أوامي 223
ولم أدر من يدري مكاني سوى الهوى * وكتمان أسراري ورعي ذمامي 224
ولم يبق منّي الحبّ غير كآبة * وحزن وتبريح وفرط سقام 225
فأمّا غرامي واصطباري وسلوتي * فلم يبق لي منهنّ غير أسامي 225
لينج خليّ من هواي بنفسه * سليما ويا نفس اذهبي بسلام 226
وقال اسل عنها لائمي وهو مغرم * بلومي فيها فاسل ملامي 226
بمن أهتدي في الحبّ لو رمت سلوة * وبي يقتدي في الحبّ كلّ إمام 227
وفي كلّ عضو فيّ كلّ صبابة * إليها وشوق جاذب بزمامي 227
تثنّت فخلنا كلّ عطف تهزّه * قضيب نقا يعلوه بدر تمام 228
ولي كلّ عضو فيه كلّ حشا بها * إذا ما رنت وقع لكلّ سهام 228
ولو بسطت جسمي رأت كلّ جوهر * به كلّ قلب فيه كلّ غرام 229
وفي وصلها عام لديّ كلحظة * وساعة هجران عليّ كعام 229
ولمّا تلاقينا عشاء وضمّنا * سواء سبيلي دارها وخيامي 230
وملنا كذا شيئا عن الحيّ حيث لا * رقيب ولا واش بزور كلام 230
فرشت لها خدّي وطاء على الثّرى * فقالت لك البشرى بلثم لثامي 230
فما سمحت نفسي بذلك غيرة * على صونها منّي لعزّ مرامي 230
 
« 384 »
 
وبتنا كما شاء إقتراحي على المنى * أرى الملك ملكي والزّمان غلامي 230


القصيدة الثانية عشرة
قف بالدّيار وحيّ الأربع الدّرسا * ونادها فعساها أن تجيب عسا 234

فإن أجنّك ليل من توحّشها * فاشعل من الشّوق في ظلمائها قبسا 235
يا هل درى النّفر الغادون عن كلف * يبيت جنح اللّيالي يرقب الغلسا 236
فإن بكى في قفار خلتها لججا 6 * وإن تنفّس عادت كلّها يبسا 236
فذو المحاسن لا تحصى محاسنه * وبارع الأنس لا أعدم به أنسا 237
كم زارني والدّجى يربدّ من حنق * والزّهر تبسم عن وجه الّذي عبسا 237
وابتزّ قلبي قسرا قلت مظلمة * يا حاكم الحبّ هذا القلب لم حبسا 238
زرعت باللّحظ وردا فوق وجنته * حقّا لطرفي أن يجني الذي غرسا 239
فإن أبى فالأقاحي منه لي عوص * من عوّض الدّرّ عن زهر فما بخسا 240
إن صال صلّ عذاريه فلا حرج * أن يجن لسعا وأنّي أجتني لعسا 241
كم بات طوع يدي والوصل يجمعنا * في بردتيه التّقى لا نعرف الدّنسا 241
تلك اللّيالي الّتي أعددت من عمري * مع الأحبّة كانت كلّها عرسا 242
لم يحل للعين شيء بعد بعدهم * والقلب مذ آنس التّذكار ما أنسا 243
يا جنّة فارقتها النّفس مكرهة * لولا التّأسّي بدار الخلد متّ أسا 243


القصيدة الثالثة عشرة
شربنا على ذكر الحبيب مدامة * سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم 245

لها البدر كأس وهي شمس يديرها * هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم 246
ولولا شذاها ما اهتديت لحانها * ولولا سناها ما تصوّرها الوهم 247
ولم يبق منها الدّهر غير حشاشة * كأنّ خفاها في صدور النّهى كتم 248
فإن ذكرت في الحيّ أصبح أهله * نشاوى ولا عار عليهم ولا إثم 248
ومن بين أحشاء الدّنان تصاعدت * ولم يبق منها في الحقيقة إلّا اسم 249
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ * أقامت به الأفراح وارتحل الهمّ 249
ولو نظر النّدمان ختم إنائها * لأسكرهم من دونها ذلك الختم 250
 
« 385 »
 
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميّت * لعادت إليه الرّوح وانتعش الجسم 251
ولو طرحوا في فيء حائط كرمها * عليلا وقد أشفى لفارقه السّقم 251
ولو قرّبوا من حانها مقعدا مشى * وينطق من ذكرى مذاقتها البكم 252
ولو عبقت في الشّرق أنفاس طيبها * وفي الغرب مزكوم لعاد له الشّمّ 253
ولو خضبت من كاسها كفّ لامس * لما ضلّ في ليل وفي يده النّجم 253
ولو جليت سرّا على أكمه غدا * بصيرا ومن رأووقها تسمع الصّمّ 254
ولو أنّ ركبا يمّموا ترب أرضها * وفي الرّكب ملسوع لما ضرّه السّمّ 255
ولو رسم الرّاقي حروف اسمها على * جبين مصاب جنّ أبرأه الرّسم 256
وفوق لواء الجيش لو رقم اسمها * لأسكر من تحت اللّوا ذلك الرّقم 257
تهذّب أخلاق النّدامى فيهتدي * بها لطريق العزم من لا له عزم 258
ويكرم من لم يعرف الجود كفّه * ويحلم عند الغيظ من لا له حلم 258
ولو نال فدم القوم لثم فدامها * لأكسبه معنى شمائلها اللّثم 259
يقولون لي صفها فأنت بوصفها * خبير أجل عندي بأوصافها علم 259
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا * ونور ولا نار وروح ولا جسم 260
تقدّم كلّ الكائنات حديثها * قديما ولا شكل هناك ولا رسم 261
وقامت بها الأشياء ثمّ لحكمة * بها احتجبت عن كلّ من لا له فهم 262
وهامت بها روحي بحيث تمازجا إتّحادّا * ولا جرم تخلّله جرم 262
فخمر ولا كرم وآدم لي أب * وكرم ولا خمر ولي أمّها أمّ 262
ولطف الأواني في الحقيقة تابع * للطف المعاني والمعاني بها تنمو 264
وقد وقع التّفريق والكلّ واحد * فأرواحنا خمر وأشباحنا كرم 264
ولا قبلها قبل ولا بعد بعدها * وقبليّة الأبعاد فهي لها حتم 265
وعصر المدى من قبله كان عصرها * وعهد أبينا بعدها ولها اليتم 265
محاسن تهدي المادحين لوصفها * فيحسن فيها منهم النّثر والنّظم 266
ويطرب من لم يدرها عند ذكرها * كمشتاق نعم كلّما ذكرت نعم 267
وقالوا شربت الإثم كلّا وإنّما * شربت الّتي في تركها عندي الإثم 268
 
« 386 »
 
هنيئا لأهل الدّير كم سكروا بها * وما شربوا منها ولكنّهم همّوا 268
وعندي منها نشوة قبل نشأتي * معي أبدا تبقى وإن بلي العظم 269
عليك بها صرفا وإن شئت مزجها * فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظّلم 270
فدونكها في الحان واستجلها به * على نغم الألحان فهي بها غنم 271
فما سكنت والهمّ يوما بموضع * كذلك لم يسكن مع النغم الغمّ 272
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة * ترى الدّهر عبدا طائعا ولك الحكم 273
فلا عيش في الدّنيا لمن عاش صاحيا * ومن لم يمت سكرا بها فاته الحزم 275
على نفسه فليبك من ضاع عمره * وليس له فيها نصيب ولا سهم 275


يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Empty
مُساهمةموضوع: فهرس محتويات الجزء الثاني .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي  Emptyالخميس يناير 04, 2024 10:00 pm

فهرس محتويات الجزء الثاني .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

فهرس محتويات الجزء الثاني
 فهرس المحتويات الجزء الثاني
شرح ألغاز الشيخ
اللغز الأول
ما اسم طير إذا نطقت بحرف * منه مبدأه كان ماضي فعله 278

وإذا ما قلبته فهو فعلي * طربا إن أخذت لغزي بحلّه 278
اللغز الثاني
ما اسم قوت يعزى لأوّل حرف * منه بئر بطيبة مشهوره 279

ثمّ تصحيفها لثانيه مأوى * ولنا مركب وباقيه سوره 279
اللغز الثالث
اسم الّذي أهواه تصحيفه * وكلّ شطر منه مقلوب 280

يوجد فيه تلك إذا قسمة * ضيزى عيانا وهو مكتوب 280
اللغز الرابع
ما اسم شيء من النّبات إذا ما * قلبوه وجدته حيوانا 281

وإذا ما صحّفت ثلثيه حاشا * بدأه كنت واصفا إنسانا 281
اللغز الخامس
ما اسم لطير شطره بلدة * في الشرق من تصحيفها مشربي 282

وما بقي تصحيف مقلوبه * مضعّفا قوم من المغرب 282

« 387 »
 
اللغز السادس
ما اسم بلا جسم يرى صورة * وهو إلى الإنسان محبوبه 283
وقلبه تصحيفه ضدّه * فاعن به يعجبك ترتيبه 283
حاشيتا الاسم إذا أفردا * أمر به والأمن مصحوبه 283
حروفه أنّى تهجّيتها * فكلّ حرف منه مقلوبه 283


اللغز السابع
ما اسم إذا فتّشت شعري تجد * تصحيفه في الخطّ مقلوبه 284
وهو إذا صحّفت ثانيه من * أنواع طير غير محبوبه 284
ونقط حرف فيه إن زال مع * ألف به بيع بخرّوبه 285
ونصفه الثلثان من آلة * لجنسه في الضرب منسوبه 285
ونصفه الآخر نصف اسم من * جانسه يتبع أسلوبه 285
وقلبه قلب لمن فهمه * من بعد لام كلّ أعجوبه 285
حاشيتاه عوذة بعد ما * صحّفتا في الذكر مطلوبه 285
والجيم فيه إن تعد داله * والدال جيما فيه محسوبه 285
من بعد حرفين به صحّفا * والزاي واو فيه مكتوبه 285
صار اسم من شرّفه اللّه بال * وحي كما شرّف مصحوبه 285


اللغز الثامن
ما اسم شيء من الحيا * نصفه قلب نصفه 287
وإذا رخّم اقتضى * طيبه حسن وصفه 287


اللغز التاسع
ما بلدة بالشام قلب اسمها * تصحيفه أخرى بأرض العجم 287
وثلثه إن زال من قلبه * وجدته طيرا شجيّ النغم 287
وثلثه نصف وربع له * وربعه ثلثاه حين انقسم 287


اللغز العاشر
خبّروني عن اسم شيء شهيّ * اسمه ظلّ في الفواكه سائر 288

نصفه طائر وإن صحّفوا ما * غادروا من حروفه فهو طائر 288
 
« 388 »
 
اللغز الحادي عشر
يا خبيرا باللّغز بيّن لنا ما * حيوان تصحيفه بعض عام 289

ربعه إن أضفته لك منه * نصفه إن حسبته عن تمام 289


اللغز الثاني عشر
أيّ شيء حلو إذا قلبوه * بعد تصحيف بعضه كان خلوا 290

كاد إن زيد فيه من ليل صبّ * ثلثاه يرى من الصّبح أضوا 290
وله اسم حروفه مبتداها * مبتدأ أصله الذي كان مأوى 290
 
اللغز الثالث عشر
اسم الذيّ تيّمني حبّه * تصحيف طير وهو مقلوب 291

ليس من العجم ولكنّه * إلى اسمه في العرب منسوب 291
حروفه إن حسبت مثلها * لحاسب الجمّل أيّوب 291


اللغز الرابع عشر
سيّدي ما قبيلة في زمان * مرّ منها في العرب كم حيّ شاعر 291

ألق منها حرفا ودع مبتداها * ثانيا تلق مثلها في العشائر 291
وإذا ما صحّفت حرفين منها * كلّ شطر مضعفّا اسم طائر 291
 
اللغز الخامس عشر
ما اسم إذا ما سأل المرء عن * تصحيفه خلّا له أفحمه 292
فنصف يس له أوّل * من غير ما شكّ ولا جمجمه 292
وإن ترد ثانيه فهو لا * يذكر للسّائل كي يفهمه 292
وإن تقل بيّن لنا ما الّذي * منه تبقّى بعد ذا قلت مه 292
بيّنه لي إن كنت ذا فطنة * فإنّني قد جئت بالتّرجمه 292ا
 
للغز السادس عشر
ما اسم فتى حروفه * تصحيفها إن غيّرت 294
في الخطّ عن ترتيبها * مقلته إن نظرت 294
أدعو له من قلبه * بعودة منه سرت 294
 
« 389 »
اللغز السابع عشر
ما اسم قوت لأهله * مثل طيب تحبّه 294
قلبه إن جعلته * آخرا فهو قلبه 294
 
اللغز الثامن عشر
يا سيّدا لم يزل في * كلّ العلوم يجول 295
ما اسم لشيء لذيذ * له النّفوس تميل 295
تصحيف مقلوبه في * بيوت حيّ نزول 295
 
اللغز التاسع عشر
ما اسم لما ترتضيه * من كلّ معنى وصوره 295
تصحيف مقلوبه اسما * حرف وأوّل سوره 295
 
اللغز العشرون
إن جزت بحيّ لي على الأبرق حي * وأبلغ خبري فإنّني أحسب حي 296
قل مات معنّاكم غراما وجوى * في الحبّ وما اعتاض عن الرّوح بشي 296
عرّج بطويلع فلي ثمّ هوى * واذكر خبر الغرام وأسنده إلي 297
وأقصص قصصي عليهم وابك علي * قل مات ولم يحظ من الوصل بشي 297
 
اللغز الحادي والعشرون
إن جزت بحيّ ساكنين العلما * من أجلهم حالي كما قد علما 298
قل عبدكم ذاب اشتياقا لكم * حتّى لو مات من ضنا ما علما 298
 
اللغز الثاني والعشرون
أهوى قمرا له المعاني رقّ * من صبح جبينه أضاء الشّرق 300
تدري باللّه ما يقول البرق * ما بين ثناياه وبيني فرق 300
 
اللغز الثالث والعشرون
ما أحسن ما بلبل منه الصدغ * قد بلبل عقلي وعذولي يلغو 301
ما بتّ لديغا من هواه وحدي * من عقربه في كلّ قلب لدغ 301
 
« 390 »
 
تتمّة قصائد ومقاطع للشيخ
ما جئت منى أبغي قرى كالضّيف * عندي بك شغل عن نزول الخيف 302
والوصل يقينا منك ما يقنعني * هيهات فدعني من محال الطّيف 302
* * *
لم أخش وأنت ساكن أحشائي * أن أصبح عنّي كلّ خلّ نائي 303

فالنّاس اثنان واحد أعشقه * والآخر لم أحسبه في الأحياء 303
* * *
روحي للقاك يا مناها اشتاقت * والأرض عليّ كاحتيالي ضاقت 304
والنّفس فقد ذابت غراما وأسى * في جنب رضاك في الهوى ما لاقت 304
* * *
أهوى رشا كلّ الأسى لي بعثا * مذ عاينه تصبّرى ما لبثا 305
ناديت وقد فكرت في خلقته * سبحانك ما خلقت هذا عبثا 305
* * *
يا ليلة وصل صبحها لم يلح * من أوّلها شربته في قدحي 306
لمّا قصرت طالت وطابت بلقا * بدر محني في حبّه من منحي 306
* * *
ما أطيب ما بتنا معا في برد * إذ لاصق خدّه اعتناقا خدّي 308
حتّى رشحت من عرق وجنته * لا زال نصيبي منه ماء الورد 308
* * *
أهوى رشا هواه للقلب غذا * ما أحسن فعله ولو كان أذى 309
لم أنس وقد قلت له الوصل متى * مولاي إذا متّ أسى قال إذا 309
* * *
عيني جرحت وجنته بالنّظر * من رقّتها فانظر لحسن الأثر 310
لم أجن وقد جنيت ورد الخفر * إلّا لترى كيف انشقاق القمر 310
* * *
 
« 391 »
 
يا من لكئيب ذاب وجدا برشا * لو فاز بنظرة إليه انتعشا 312
هيهات ينال راحة منه شج * ما زال معثّرا به منذ نشا 312
* * *
كلّفت فؤادي فيه ما لم يسع * حتّى يئست رأفته من جزعي 313

ما زلت أقيم في هواه عذري * حتّى رجع العاذل يهواه معي 313
* * *
أصبحت وشاني معرب عن شاني * حيّ الأشواق ميّت السّلوان 314

يا من نسخ الوعد بهجر ونأى * فرّح أملي بوعد زور ثاني 314
* * *
العاذل كالعاذر عندي يا قوم * أهدى لي من أهواه في طيف اللّوم 315

لا أعتبه إن لم يزر في حلمي * فالسّمع يرى ما لا يرى طيف النّوم 315
* * *
عيني لخيال زائر مشبهه * قرّت فرحا فديت من وجهه 316

قد وحّده قلبي وما شبّهه * طرفي فلذا في حسنه نزّهه 316
* * *
يا محيي مهجتي ويا متلفها * شكوى كلفي عساك أن تكشفها 316

عين نظرت إليك ما أشرفها * روح عرفت هواك ما ألطفها 316
* * *
أهواه مهفهفا ثقيل الرّدف * كالبدر يجلّ حسنه عن وصفي 317

ما أحسن واو صدغه حين بدت * يا ربّ عسى تكون واو العطف 317
* * *
يا قوم إلى كم ذا التّجنّي يا قوم * لا نوم لمقلة المعنّى لا نوم 318

قد برّح بي الوجد فمن يسعفني * ذا وقتك يا دمعي فاليوم اليوم 318
* * *

 
« 392 »
 
إن متّ وزار تربتي من أهوى * لبّيت مناجيا بغير النجوى 319
في السّرّ أقول يا ترى ما صنعت * ألحاظك بي وليس هذا شكوى 319
* * *
ما بال وقاري فيك قد أصبح طيش * واللّه لقد هزمت من صبري جيش 320

باللّه متى يكون ذا الوصل متى * يا عيش محبّ تصليه يا عيش 320
* * *
أهوى رشا رشيّق القدّ حلى * قد حكّمه الغرام والوجد علي 321

إن قلت خذ الرّوح يقل لي عجبا * الرّوح لنا فهات من عندك شي 321
* * *
ما أصنع قد أبطا عليّ الخبر * ويلاه إلى متى وكم أنتظر 322

كم أحمل كم أكتم كم أصطبر * يقضى أجلي وليس يقضى وطر 322
* * *
قد راح رسولي وكما راح أتى * باللّه متى نقضتم العهد متى 322

ما ذا ظنّي بكم ولا ذا أملي * قد أدرك فيّ سؤله من شمتا 322
* * *
روحي لك يا زائر في اللّيل فدا * يا مؤنس وحشتي إذا اللّيل هدا 323

إن كان فراقنا مع الصّبح بدا * لا أسفر بعد ذاك صبح أبدا 323
* * *
يا حادي قف بي ساعة في الرّبع * كي أسمع أو أرى ظباء الجزع 324

إن لم أرهم أو أستمع ذكرهم * لا حاجة لي بناظري والسّمع 324
* * *
وحياة أشواقي إلي * ك وحرمة الصّبر الجميل 325

ما استحسنت عيني سوا * ك ولا أنست إلى خليل 325
* * *

 
« 393 »
 
يا راحلا وجميل الصّبر يتبعه * هل من سبيل إلى لقياك يتّفق 325
ما أنصفتك جفوني وهي دامية * ولا وفى لك قلبي وهو يحترق 325
* * *
حديثه أو حديث عنه يطربني * هذا إذا غاب أو هذا إذا حضرا 326

كلاهما حسن عندي أسرّ به * لكنّ أحلاهما ما وافق النّظرا 326
* * *
قلت لجزّار عشقتو كم تشرّحني * ذبحتني قال ذا شغلي توبّخني 326

ومال إليّ وباس رجلي يربّخني * يريد ذبحي فينفخني ليسلخني 326
* * *
لمّا نزل الشّيب برأسي وخطا * والعمر مع الشّباب ولّى وخطا 327

أصبحت بسمر سمرقند وخطا * لا أفرق ما بين صواب وخطا 327
* * *
خليلّى إن زرتما منزلي * ولم تجداه فسيحا فسيحا 328

وإن رمتما منطقا من فمي * ولم ترياه فصيحا فصيحا 328
* * *
عوّذت حبيّبي بربّ الطّور * من آفة ما يجري من المقدور 329

ما قلت حبيّبي من التّحقير * بل يعذب اسم الشّيء بالتّصغير 329
* * *
جلّق جنّة من تاه وباها * ورباها منيتي لولا وباها 330

قيل لي صف بردا كوثرها * قلت غال برداها برداها 332
وطني مصر وفيها وطري * ولعيني مشتهاها مشتهاها 333
ولنفسي غيرها إن سكنت * يا خليليّ سلاها ما سلاها 334
* * *

 
« 394 »
 
نسخت بحبّي آية العشق من قبلي * فأهل الهوى جندي وحكمي على الكلّ 335
وكلّ فتى يهوى فإنّي إمامه * وإنّي بري من فتى سامع العذل 336
ولي في الهوى علم تجلّ صفاته * ومن لم يفقّهه الهوى فهو في جهل 336
ومن لم يكن في عزّة الحبّ تائها * بحبّ الّذي يهوى فبشّره بالذّلّ 336
إذا جاد أقوام بمال رأيتهم * يجودون بالأرواح منهم بلا بخل 336
وإن أدّعوا سرّا رأيت صدورهم * قبورا لأسرار تنزّه عن نقل 336
وإن هدّدوا بالهجر ماتوا مخافة * وإن أوعدوا بالقتل حنّوا إلى القتل 337
لعمري هم العشّاق عندي حقيقة * على الجدّ والباقون عندي على الهزل 337
 
أنتم فروضي ونفلي * أنتم حديثي وشغلي 338
يا قبلتي في صلاتي * إذا وقفت أصلّي 338
جمالكم نصب عيني * إليه وجّهت كلّي 338
وسرّكم في ضميري * والقلب طور التّجلّي 338
أنست في الحيّ نارا * ليلا فبشّرت أهلي 339
قلت امكثوا فلعلّي * أجد هداي لعلّي 339
دنوت منها فكانت * نار المكلّم قبلي 339
نوديت منها كفاحا * ردوا ليالي وصلي 339
حتّى إذا ما تدانى ال * ميقات في جمع شملي 339
صارت جبالي دكّا * من هيبة المتجلّي 339
ولاح سرّ خفيّ * يدريه من كان مثلي 339
وصرت موسى زماني * مذ صار بعضي كلّي 339
فالموت فيه حياتي * وفي حياتي قتلي 341
أنا الفقير المعنّى * رقّوا لحالي وذلّي 341
 
أشاهد معنى حسنكم فيلذّ لي * خضوعي لديكم في الهوى وتذلّلي 341
وأشتاق للمغني الّذي أنتم به * ولولاكم ما شاقني ذكر منزلي 342
فللّه كم من ليلة قد قطعتها * بلذّة عيش والرّقيب بمعزل 342
 
« 395 »
 
ونقلي مدامي والحبيب منادمي * وأقداح أفراح المحبّة تنجلي 342
ونلت مرادي فوق ما كنت راجيا * فواطربا لو تمّ هذا ودام لي 342
لحاني عذول ليس يعرف ما الهوى * وأين الشّجيّ المستهام من الخلي 343
فدعني ومن أهوى فقد مات حاسدي * وغاب رقيبي عند قرب مواصلي 343


* * *
أبرق بدا من جانب الغور لامع * أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع 345
نعم أسفرت ليلا فصار بوجهها * نهارا به نور المحاسن ساطع 346
ولمّا تجلّت للقلوب تزاحمت * على حسنها للعاشقين مطامع 346
لطلعتها تعنو البدور ووجهها * له تسجد الأقمار وهي طوالع 346
تجمّعت الأهواء فيها وحسنها * بديع لأنواع المحاسن جامع 346
سكرت بخمر الحبّ في حان حيّها * وفي خمره للعاشقين منافع 346
تواضعت ذلّا وانخفاضا لعزّها * فشرّف قدري في هواها التّواضع 346
فإن صرت مخفوض الجناب فحبّها * لقدر مقامي في المحبّة رافع 346
وإن قسمت لي أن أعيش متيّما * فشوقي لها بين المحبّين شائع 346
يقول نساء الحيّ أين دياره * فقلت ديار العاشقين بلاقع 346
فإن لم يكن لي في حماهنّ موضع * فلي في حمى ليلى بليلى مواضع 347
هوى أمّ عمرو جدّد العمر في الهوى * فها أنا فيه بعد أن ثبت يافع 347
ولمّا تراضعنا بمهد ولائها * سقتنا حميا الحبّ فيه مراضع 347
وألقى علينا القرب منها محبّة * فهل أنت يا عصر التّراضع راجع 347
وما زلت مذ نيطت عليّ تمائمي * أبايع سلطان الهوى وأتابع 347
لقد عرفتني بالولا وعرفتها * ولي ولها في النّشأتين مطالع 347
وإنّي مذ شاهدت فيّ جمالها * بلوعة أشواق المحبّة والع 348
وفي حضرة المحبوب سرّي وسرّها * معا ومعانيها علينا لوامع 348
وكلّ مقام في هواها سلكته * وما قطعتني فيه عنها القواطع 348
بوادي بوادي الحبّ أرعى جمالها * ألا في سبيل الحبّ ما أنا صانع 348
 
« 396 »
 
صبرت على أهواله صبر شاكر * وما أنا في شيء سوى البعد جازع 348
عزيزة مصر الحسن إنّا تجاره * وليس لنا إلّا النّفوس بضائع 349
لأرضك فوّزنا بها فتصدّقي * علينا فقد نمّت علينا المدامع 349
عسى تجعلي التّعويض عنها قبولها * ليربحه منّا مبيع وبائع 349
خليليّ إنّي قد عصيت عواذلي * مطيع لأمر العامريّة سامع 349
فقولا لها إنّي مقيم على الهوى * وإنّي لسلطان المحبّة طائع 349
وقولا لها يا قرّة العين هل إلى * لقاك سبيل ليس فيه موانع 350
ولي عندها ذنب برؤية غيرها * فهل لي إلى ليلى المليحة شافع 350
سلا هل سلا قلبي هواها وهل له * سواها إذا اشتدّت عليه الوقائع 350
فيا آل ليلى ضيفكم ونزيلكم * بحيّكم يا أكرم العرب ضارع 350
قراه جمال لا جمال وإنّه * برؤية ليلى منية القلب قانع 350
إذا ما بدت ليلى فكلّي أعين * وإن هي ناجتني فكلّي مسامع 350
ومسك حديثي في هواها لأهله * يضوع وفي سمع الخليّين ضائع 350
تجافت جنوبي في الهوى عن مضاجعي * إلى أن جفتني في هواها المضاجع 350
وسرت بركب الحسن بين محامل * وهودج ليلى نورها منه ساطع 350
وناديت لمّا أن تبدّى جمالها * لعمرك يا جمّال قلبي قاطع 350
فسيروا على سيري فإنّي ضعيفكم * وراحلتي بين الرواحل ضالع 351
ومل بي إليها يا دليل فإنّني * ذليل لها في تيه عشقي واقع 351
لعلّي من ليلى أفوز بنظرة * لها في فؤاد المستهام مواقع 351
والتذّ فيها بالحديث ويشتفي * غليل عليل في هواها ينازع 351
فيا أيّها النّفس الّتي قد تحجّبت * بذاتي وفيها بدر هالي طالع 352
لئن كنت ليلى إنّ قلبي عامر * بحبّك مجنون بوصلك طامع 352
رأى نسخة الحسن البديع بذاته * تلوح فلا شيء سواها يطالع 352
فيا قلب شاهد حسنها وجمالها * ففيها لأسرار الجمال ودائع 352
تنقّل إلى حقّ اليقين تنزّها * عن النقل والعقل الّذي هو قاطع 352
 
« 397 »
 
فإحياء أهل الحبّ موت نفوسهم * وقوت قلوب العاشقين مصارع 353
وكم بين حذّاق الجدال تنازع * وما بين عشّاق الجمال تنازع 353
وصاحب بموسى العزم خضر ولائها * ففيه إلى ماء الحياة منافع 353
فأنت بها قبل الفراق منبّأ * بتأويل علم فيك منه بدائع 353
لقد بسطت في بحر جسمك بسطة * أشارت إليها بالوفاء أصابع 354
فيا مشتهاها أنت مقياس قدسها * وأنت بها في روضة الحسن يانع 354
فقرّي به يا نفس عينا فإنّه * يحدّثني والمؤنسون هواجع 354
فها أنت نفس بالعلا مطمئنّة * وسرّك في أهل الشّهادة ذائع 355
لقد قلت في مبدأ ألست بربّكم * بلى قد شهدنا والولا متتابع 355
فيا حبّذا تلك الشّهادة إنّها * تجادل عنّي سائلي وتدافع 355
وأنجو بها يوم الورود فإنّها * لقائلها حرز من النّار مانع 355
هي العروة الوثقى بها فتمسّكي * وحسبي بها أنّي إلى اللّه راجع 355
فيا ربّ بالخل الحبيب محمّد * نبيّك وهو السّيّد المتواضع 356
أنلنا مع الأحباب رؤيتك الّتي * إليها قلوب الأولياء تسارع 356
فبابك مقصود وفضلك زائد * وجودك موجود وعفوك واسع 356

* * *
نشرت في موكب العشّاق أعلامي * وكان قبلي بلي في الحبّ أعلامي 357
وسرت فيه ولم أبرح بدولته * حتّى وجدت ملوك العشق خدّامي 358
ولم أزل منذ أخذ العهد في قدمي * لكعبة الحسن تجريدي وإحرامي 358
وقد رماني هواكم في الغرام إلى * مقام حبّ شريف شامخ سامي 359
جهلت أهلي فيه أهل نسبته * وهم أعزّ أخلّائي وألزامي 359
قضيت فيه إلى حين انقضا أجلي * شهري ودهري وساعاتي وأعوامي 359
ظنّ العذول بأنّ العذل يوقفني * نام العذول وشوقي زائد نامي 359
إن عام إنسان عيني في مدامعه * فقد أمدّ بإحسان وإنعام 360
يا سائقا عيس أحبابي عسى مهلا * وسر رويدا فقلبي بين أنعام 360
 
"398"
 
سلكت كلّ مقام في محبّتكم * وما تركت مقاما قطّ قدّامي 360
وكنت أحسب أنّي قد وصلت إلى * أعلى وأغلى مقام بين أقوامي 360
حتّى بدا لي مقام لم يكن أربي * ولم يمرّ بأفكاري وأوهامي 360
إن كان منزلتي في الحبّ عندكم * ما قد رأيت فقد ضيّعت أيّامي 361
أمنيّة ظفرت روحي بها زمنا * واليوم أحسبها أضغاث أحلام 361
وإن يكن فرط وجدي في محبّتكم * إثما فقد كثرت في الحبّ آثامي 362
ولو علمت بأنّ الحبّ آخره * هذا الحمام لما خالفت لوّامي 362
أودعت قلبي إلى من ليس يحفظه * أبصرت خلفي وما طالعت قدّامي 363
لقد رماني بسهم من لواحظه * أصمى فؤادي فواشوقي إلى الرّامي 363
آها على نظرة منه أسرّ بها * فإنّ أقصى مرامي رؤية الرّامي 364
إن أسعد اللّه روحي في محبّته * وجسمها بين أرواح وأجسام 364
وشاهدت واجتلت وجه الحبيب فما * أسنى وأسعد أرزاقي وأقسامي 364
ها قد أظلّ زمان الوصل يا أملي * فامنن وثبّت به قلبي وأقدامي 364
وقد قدمت وما قدّمت لي عملا * إلّا غرامي وأشواقي وإقدامي 364
دار السّلام إليها قد وصلت إذا * من سبل أبواب إيماني وإسلامي 365
يا ربّنا أرني أنظر إليك بها * عند القدوم وعاملني بإكرام 365
 
* * *
تم بحمد الله تعالى
عبدالله المسافر بالله
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الثاني شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي
» مختارات من ديوان شمس الدين التبريزي القصائد من 01 - 50 الجزء الاول مولانا جلال الدين الرومي
» سلطان العاشقين عمر ابن الفارض -قدس سره-
» ميمية ابن الفارض سلطان العاشقين
» بقلم محمد جمال صقر_ عمر بن الفارض سلطان العاشقين

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة المنتديات :: ديوان أهل الغرام-
انتقل الى: