منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 5:38 am

مقدمة وخطبة الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

المقدمة وخطبة الكتاب على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
مقدمة وخطبة كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نور أسرار أصفيائه بأنوار فصوص صفاته، وجواهر أسمائه، فانفتحت أعين بصائرهم بفتوحات غيبه لتدبر ما في السماوات والأرض بإحيائه، والصلاة على من أفاض أمطار فضائله على أرواح رسله وأنبيائه لتتفجر بحار أسراره الممتلئة بلالئ أنواره إلى أنهار صدور أوليائه محمد و آله ما طلعت شموس ضيائه في أفلاك قلوب أحبائه.
وبعد...
فلما كان كتاب «فصوص الحكم» مما لا يرتقي إلى درك أسراره إلا همم من أوتي جوامع الكلم من لوامع الحكم، وأكثر من سبقنا من شروح الكتاب، لم ينتهجوا في أكثر المواضع سنن الصواب، ولم يميزوا قشره عن اللباب، ولم يتكلموا في رفع ما يتوهم عليه من الكفر والبدعة والحشو، بل هو كلام من أوتي الحكمة، وفصل الخطاب، وإنهم وإن جاوزوا في إفادة الزوائد في غير مظانها الحد الأقصى؛ فقد فاتهم من فوائد الكتاب ما لا يحصى.
سألني من أصدقائي من كان متحريا للصدق طالبا للحق أن أملي له شرحا يفيد القلوب المتصفين شرحا، ويكون لهم أتم جنة عمن قصد به في أخذ ما ذكر شرحا وافيا بحل معاقده، وتقرير مقاصده، وربط كلماته وإيراد بنیانه، نراعي فيه قواعد الشرع في كل أصل وفرع غير أخذ بتأويل يبعد فيه الأمد، بل يؤيده ما قبله أو بعده، بحيث لا يعسر قبوله على أحد إلا على بليد أو ملحد أو عنيد أو من جسد.
مزيلا عنه الأوهام، شافيا عما يعرض لناظريه من الأسقام، غير مقلد شارځا، ولا أكاني بالتصريح لأحد منهم جارحان فسارعت إلى إجابته، وشرعت في كتابته سائلا من الله تعالى فيه صيب الصواب.
ويجعله لي نورا يوم القاه، يقربني إليه زلفى، ويفيدني لديه حسن مآب بعظيم منه، وكريم جوده، إنه هو البر المنعم الوهاب، ولقبته بـ "خصوص النعم في شرح فصوص الحكم"، والله الموفق للإتمام، والمسئول عن حسن الاختتام.
قال رضي الله عنه: (الحمد لله منزل الحكم على قلوب الكلم بأحدية الطريق الأمم من المقام الأقدم، وإن اختلفت الحل والملل لاختلاف الأمم، وصلى الله على مد الهمم، من خزائن الجود والكرم، بالقيل الأقوم، محمد وعلى آله وسلم، أما بعد... فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرون وستمائة بمحروسة دمشق، وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب، فقال لي: هذا «كتاب فصوص الحكم» خذه، واخرج به إلى الناس ينتفعون به.
فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا، فحققت الأمنية، وأخلصت النية، وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله من غير زيادة ولا نقصان.
وسألت الله تعالى أن يجعلني فيه، وفي جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، وأن يخصني في جميع ما يرقمه تيتاني، وينطق به لساني، وينطوي عليه جناني بالإلقاء الوحي، والنفث الروحي في الروع النفسي بالتأييد الاعتصامي، حتى أكون مترجما لا متحكما، ليتحقق من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب أنه من مقام التقديس المنزه عن الأغراض النفسية التي يدخلها التلبيس.
وأرجو أن يكون الحق لما سمع دعائي قد أجاب ندائي، فما ألقي إلا ما يلقي إلي ولا أنزل في هذا المسطور إلا ما ينزل به علي، ولست بنبي رسول، ولكني وارث وآخرتي حارث.
فمن الله فاسمعوا ... و إلى الله فارجعوا
فإذا ما سمعتم ما ... أتيت به فعوا
ثم بالفهم فصلوا ... مجمل القول و أجمعوا
ثم منوا به على ... طالبيه لا تمنعوا
هذه الرحمة التي ... وسعتكم فوسعوا
ومن الله أرجو أن أكون ممن أيد فتأيد، وقيد بالشرع المحمدي المطهر فتقيد وقيد، وحشرنا في زمرته كما جعلنا من أمته، فأول ما ألقاه المالك على العبد من ذلك.)
(الحمد لله منزل الحكم على قلوب الكلم)، الحمد: إظهار كمالات الذات، وما يتعلق بها من الأفعال والصفات، والله علم للفرد الموجود من واجب الوجود بالذات، اعتبرت معه الصفات أم لا، وقيل: مع جميع الصفات .
"فاعلم أيدك الله وإيانا بروح منه أن الحمد و الثناء له ثلاث مراتب: حمد الحمد و حمد المحمود لنفسه، وحمد غيره له وما ثم مرتبة رابعة.
ثم في الحمد الذي يحمد الشيء نفسه، أو يحمده غيره تقسیمات، إما أن يحمده بصفة فعل، وإما بصفة تنزيه وما تم حمد ثالث بهذا التقسيم."
والإنزال لغة: تحريك الشيء من علو إلى سفل، استعير لإظهار أمر في السوافل بعد كمونه في العوالي، والحكم: جمع حكمة، وهي العلم اليقيني بحقائق الأشياء وأحكامها مع العمل بمقتضاه، والقلب جوهر مجرد في ذاته، متصرف في البدن بواسطة النفس، التي هي جسم لطيف، تنبعث عنه القوى المدركة والمحركة، متوسط بينها وبين الروح الذي هو من عالم الأمر، وهو الجوهر المجرد في ذاته وأفعاله.
والكلم: جمع كلمة، وهي اللفظ الموضوع المفرد، استعيرت لحقيقة الإنسان الكامل لجمعها ظهورات الأسماء الإلهية والحقائق الكونية مثل جمع الكلمة للحروف، وقد تستعار الحروف للحقائق البسيطة حمدا لله تعالى على إنزال الحكم لإفادتها السعادة الأبدية بتكمیل القوة النظرية والعملية، واعتبر إنزالها على القلوب؛ لأن الإنزال عليها إنما يكون بعد الإنزال
على الأرواح، والإنزال عليها قد لا يسري أثره إلى القلب عند تكدره، والنفس غير قابلة له إلا إذا تنورت بنور القلب بعد كمال التركية، فحينئذ يسري نور القلب إليها، ثم منها على سائر الأعضاء، فإن امتلات نورا سرى على نفوس من يناسبهم، ثم على سائر ما في العالم، حتى يتم صلاح بتمامه.
ولذلك خص الحمد بإنزال الحكم على القلوب، وخص قلوب الكمل إذ قلوب غيرهم غير مستعدة لقبول الحكم على الكمال؛ إذ لا تخلو عن شائبة الوهم والخيال، ولا يتأتى العمل منها بمقتضاها.
"اعلم أيدك الله وإيانا بروح منه أن القلب عبارة عن النشأة الجامعة بين الحقائق الجسمانية والقوى المزاجية، وبين الحقائق الروحانية والخصائص النفسية، وهو جوهر برزخي له وجه إلى جميع الأطراف وله مقام المضاهات، وأن يتسع لانطباع التجلي الذاتي الذي ضاق عنه العالم الأعلى والأسفل بما اشتملا عليه."
(بأحدية الطريق الأمم)، الطريق: ما يوصل السير فيه إلى المقصد، وأحديته جمعه فوائد الطرق، كأنها تصير بعد تفرقها واحدة والأمم الأقرب، وذلك طريق الكشف الجامع فوائد طرق النقل والعقل من الوصول إلى المقصد، وهو تحصيل الكمالات العلمية والعملية مع الحلو عما يلزم طريق النقل من التقليد، وطريق النظر من الشبهات الموجبة للتفرقة والبعد بترتيب المقدمات.
ولذلك لا يكاد يرتفع اختلاف مذاهب أرباب النظر (من المقام الأقدم)، أي: منزلها من التعين الأول المتضمن للعلم بالذات، ومن التعين الثاني المتضمن للعلم بالأسماء والصفات، وهما وإن ترتبا عقلا فهما أقدم من غيرهما في الوجود مساوقان فيه في الواقع.
وإنما اعتبرنا انهما؛ لأنه لا بد للكل من العلم بالذات والصفات جميعا على وجه لا يحتمل الغلط والقصور، وسائر المقامات لا تخلو عن أحدهما، ومقام الإطلاق لا يعتبر فيه العلم أصلا ؛ فهو إنما ينزل من أحد التعينين على القلوب المناسبة له، وهي التي أجازته مع غاية الصفاء فيها.
"أعلم في قوله: (من المقام الأقدم): أي أقدم من القديم، وهو أحدية الذات التي هي منبع فیضان  الفيض الأقدس على الأعيان الثابتة. وإنما قال : من المقام الأقدم؛ لأن أحدية الذات أقدم من أحدية الأسماء المسماة بالواحدية القديمة التي هي مرتبة الألوهية، فافهم."
(وإن اختلفت الملل و النحل)، أي: ملل من أنزلت عليهم من الأنبياء ونحل أممهم، فإن ذلك لا يخل بأحدية طريقهم في جمعها فوائد سائر الطرق في الإيصال إلى المقصد المذكور، ولا تكون علومهم من المقام الأقدم، بل غاية ذلك اختلاف وجوه مشيهم فيه، وذلك لاختلاف استعدادات (الأمم)، فالأحكام الفرعية المتعلقة بالجوارح أو القلوب، وإن اختلفت باختلاف الاستعدادات؛ فهي نازلة من المقام الأقدم، معدة في الإيصال إلى المقصد لمن جعلت طريقا لوصوله حين جعلت، ثم سندت على من بعدهم بعدما كانت منفتحة لمن تقدمهم، ولهذا لا يتأتي في الاعتقادات الأصلية أصلا.
" فما زلنا من الخلاف؛ لأنهم: أي أهل التحقيق قد خالفوا المختلفين، ولذلك خلقهم، فما تعدی كل خلق ما خلق له، فالكل طائع في عين الخلاف.
وهنا مسألة دورية ذكرها الشيخ رضي الله عنه في «الفتوحات»: وهي إن الشرائع اختلفت لاختلاف النسب الإلهية، واختلاف النسب الاختلاف الأحوال، واختلاف الأحوال لاختلاف الأزمان، واختلاف الزمان لاختلاف الحركات الفلكية، واختلاف الحركات الفلكية الاختلاف التوجهات، واختلاف التوجهات الاختلاف المقاصد، واختلاف المقاصد الاختلاف التجليات، واختلاف التجليات الاختلاف الشرائع، واختلاف الشرائع لاختلاف النسب الإلهية، فدار الدور، انتهى كلامه ."
(وصلى الله على محمد الهمم) :"أي أفاض الاسم الجامع لجميع الكمالات رحمته لجامع جميع التجليات ذاتا واسما وصفة، فلما كان المقام مقام الدعاء عدل من الجملة الإسمية إلى الجملة الفعلية؛ ليدل على التجدد والاستمرار، يشير إلى أن الصلاة من الله تعالى مجدد دائما ابدا على ممد الهمم."
لما أوجب تحصيل الحكمة بطريق الكشف والعيان؛ إذ طريق النظر مخطر، وذلك بتوجيه القصد والهمة بعد تصفية القلب، وتزكية النفس، ولا يتأتى ذلك لغير الكامل بالذات إلا بواسطة الكامل لوجوب المناسبة بين المفيض والمستفيض توسل بالروح الأكمل الذي له إمداد همم المستعدين للكمال بإيصالها إلى أقصى النهايات مصونة عن أغاليط الأوهام والخيالات بأفضل الوسائل التي هي الصلاة المفيدة.
وصلته بربه ليستفيض منه، فيفيض على من يناسبه من (خزائن الجود والكرم)، الجود: إفادة ما ينبغي، لا لعوض ولا لغرض، والكرم: الابتداء بالنعم من غير موجب وخزائنهما الأسماء الإلهية.
وفيه إشارة إلى أن إمداد الهمم إنما يتأتى لمن له التصرف في الخزائن الإلهية بالاستفاضة منها للإفاضة على المستعدين، حتى يتم به صلاح العالم.
وهذا هو سبب بعثة الرسل إذ المصالح الدنيوية لا تنتظم إلا بشرع وضعه شارع مستحق الطاعة؛ لتميزه عن غيره بآيات تدل على أنه من عند ربه، مع وعد الثواب والعقاب للموافق والمخالف، لئلا يقع الهرج فيما بين الناس بمعارضة الشهوة، والغضب، و المصالح الأخروية، لا يستقل العقل بدركها كعدم استقلال نور البصر بالإبصار بدون نور الشمس.
(بالقيل الأقوم) وهو القرآن الذي دل إعجازه، وهي أنه للعلم الأزلي أوفق، والأخبار النبوية التي دل القرآن المجيد على أن صاحبها :"وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" [النجم: 3 ،4] .
يمد الهمم بذلك من حيث إن تدبره يكشف عن أكثر العلوم، على أن الأمور الكشفية إنما يتحقق صدقها وبراعتها عن الأوهام والخيالات باستعانته، والاستشهاد منه، وتأخيره عن قوله من خزائن الجود والكرم يدل على أنه إنما نزل من
خزائن الجود والكرم، وعلى أن الخزائن الإلهية إنما تعرف عنه؛ لأنها توقيفية، فلا تعرف إلا بواسطته، أو بواسطة الإجماع الذي دل على صدقه.
(وآله وسلم) توسل بآله ، صلى الله عليه وسلم لبعد ما بيننا وبينه من المناسبة، فلا بد في تحصيلها من واسطة.
والمعلوم بذلك إذ لا أكمل منهم بعده ثمراته طلب السلامة له، ولهم في تحصيل تلك الكمالات وإفاضتها على المستحقين ليسلم عن القصور؛ فافهم، والله الموفق والملهم.
أما بعد: (فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة) هي الرؤيا الصالحة؛ لأنها تبشر بالغيب عن الحق بريئا عن شوائب الوهم والخيال الباطل؛ ولذا جعلت جزءا من النبوة في قوله صلى الله عليه وسلم : "لم يبق من النبوة إلا المبشرات".
قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟
قال صلى الله عليه وسلم : "الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له".
و أشار بذلك إلى أن هذا الكشف يشبه كشف النبوة؛ فلا يسوغ إنكاره.
كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم : "إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله ".
(أريتها)، أي: أرانيها الله تعالى، ولم يكن ذلك من نفسي، (في العشر الأخير من محرم)، أي: حين كان لي هجرة إلى مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، بعد حصول الكمال لي في ذلك.
كما أشار إليه بالعشر الأخير، فإن العشرة عدد كامل، وكونها الأخيرة إشارة إلى انتهائه في ذلك، (سنة سبع وعشرون وستمائة) بين التاريخ ليعلم أنه من أواخر كشوفه الحاصلة له حالة الكمال.
(بمحروسة دمشق)، أشار بذلك إلى أنه إنما استفاد ذلك بواسطة من دفن فيه من الأنبياء عليهم السلام - وإلى أنه حين أظهره كان بين أظهر أعلام الإسلام المشددين على الملوك وغيرهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومع ذلك لم يقدروا على إنكار شيء منه على وجهه، ولا محو كتبه لغيبته، (وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب)، أشار بذلك إلى أنه كالملك له؛ فلا يصل إليه غيره إلا بواسطته .
وما حصل للشيخ رضي الله عنه بواسطته فهو أتم مراتب الكشف، وأشار إلى هذا المعنى بقوله: (فقال لي: هذا كتاب «فصوص الحكم»).
أي: علوم تتزين بها بقية العلوم كما نزين الخاتم بالفص، أو علوم هي غايات كمالات أذواق الحمل من الأنبياء عليهم السلام؛ إذ الفص ختم للخاتم، ونهاية لكماله، خص الشيخ رضى الله عنه  بإعطاء ذلك في هذه الأمة التي علماؤها كأنبياء بني إسرائيل؛ فهو من أكابر أولئك العلماء.
ولأمر ما قال له صلى الله عليه وسلم : («خذه واخرج به إلى الناس») ، الأمر بأخذه أولا ليفوز برتبة الكمال، ثم بإخراجه إلى الناس ليفوز برتبة التكميل.
وهذه الجملة تكمل المشابهة بالأنبياء عليهم السلام، فإن من الأولياء من يعطى الأسرار، ولا يؤمر بإخراجها إلى الناس، وفيه تمهيد لعذره في إخراج هذه الأسرار بأنه لم يخرجها ما لم يجب عليه إخراجها بأمر الله تعالى، فإن الأمر الرسول ، ورؤيته كأمر الله تعالی ورؤيته: "من يطع الأول فقد أطاع الله" [النساء: 80]، حديث الطبراني: «ومن رآني، فقد رأى الحق» .
ثم علل ذلك بقوله: (ينتفعون به)، بأن يطلعوا بذلك على كمالات الأنبياء عليهم السلام، وغاية علومهم وأذواقهم، ويرون مع ذلك فضل نبينا صلى الله عليه وسلم عليهم في تلك المراتب فيزدادون به إيمانا، ويطلعون بذلك على بعض أحوال الناس.
وفي قوله: "إلى الناس ينتفعون به" إشارة إلى أن من لا ينتفع به، فليس من الناس بل من البهائم أو السباع أو الشياطين؛ فافهم.
فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأولي الأمر منا)، لما كان أمره صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى للآية المذكورة .
مع أن الكامل لا يرى شيئا إلا يرى الله فيه أو معه أو قبله أو بعده، قال: السمع والطاعة لله ولرسوله، ولما كانت المشايخ تابعين له صلى الله عليه وسلم كان أمره صلى الله عليه وسلم موجبا لإجازتهم هو إشارة إلى إجازتهم بطريق الإلزام في إظهار الأسرار.
(كما أمرنا)، إشارة إلى قوله تعالى: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " النساء: 59 ، وهم المشايخ والعلماء في جميع الأمور.
قال: منا وكذا الأمراء في بعض الأمور، وهو فيما أمروا أن يأمروا بذلك.
(فحققت الأمنية) أي: لما أمرت بأخذ ذلك الكتاب وإخراجه إلى الناس الموجبين للفوز برتبة
الكمال والتكميل في علوم تتزين بها، وتكمل بقية العلوم اليقينية التي هي مناط أعلى مراتب السعادة الأبدية.
وهي علوم الكل من الأنبياء عليهم السلام - أدركت أمنيتي محققة إذ وجدت ذلك عن كشف تام نبوي على يدي أكملهم، وليس للولي الاطلاع على ذلك بنفسه.
كان رضى الله عنه يتمنى ذلك مدة مديدة منذ أطلعه الله، وأشهده أعيان رسله وأنبيائه في مشهد أقيم فيه بـ «قرطبة" سنة ست وثمانين وخمسمائة على ما يأتي في فص هود عليه السلام ذكره الشيخ رضى الله عنه في المنام لبعضهم.
(وأخلصت النية) أي: جردتها عن طلب العوض من الثناء والثواب يجعلها مجرد قصد الامتثال إذ تركه يوجب النزول عن الرتبة العالية التي يخلص فيها الكشف عن شوب الوهم والخيال.
(وجردت القصد والهمة) عن توجيههما إلى ما سوى الامتثال؛ ليتم السمع والطاعة فتصح الاستقامة؛ فلا يكون الكشف إلا به إدراجا فيخاف اختلاله بشوب الوهم والخيال، فجعلتهما متوجهين (إلى إبراز هذا الكتاب)، إلى عالم الشهادة.
(كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة)، إذ لو زاد و میز لم يكن الكل فصوص الحكم لاختلاط الأدنى بالأعلى، وإلا كان مع ذلك مفتريا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد نهى الشيخ له أن يجلد كتابه هذا مع كتاب آخر له أو لغيره.
(ولا نقصان)، لما فيه من كتمان ما أمر بتبليغه فيدخل تحت قوله تعالى: "وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" [المائدة: 67].
(وسألت الله تعالی)، مخافة تغليط الشيطان بتغيير الرؤيا بإيهام رؤية غير المرئي، ونسيان البعض.
(أن يجعلني فيه)، أي: في إبراز هذا الكتاب على الحد المذكور، (وفي جميع أحوالي)، إذ لو تطرق في بعض الأحوال لم يؤمن أن يتطرق في إبرازه أيضا.
(من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان)، بالإضلال والوسوسة.
كما قال تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " [الحجر: 42].
وسألته (أن يخصني في جميع ما يرقمه تيتاني)، أي: ما اكتبه، (و ينطق به لساني)، أي: أقوله، (وينطوي عليه جناني)، أي: ما يخطر بقلبي (بالإلقاء السبوحي) أي: بإلقاء الخاطر الرباني والملكي، (والنفث الروحي)، أي: إلقاء الروح للمعنى بطريق النفث.
وفيه إشارة إلى خفاء ما يلقى بالنسبة إلى الإلقاء بين السابقين طلب الاختصاص بذلك بعد الاستعاذة عن الخاطر الشيطاني، لئلا تزاحمه الخواطر النفسية.
فلا تصفي حكاية الكلام النبوي عن شرب النفس سيما المنامي.
وبالغ في ذلك بأن طلبه إلى حيث يسري أثره إلى لسانه؛ فلا يسبق بغير ما في قلبه من الخاطر الرباني، أو الملكي، أو الروحي، ثم إلى قلبه فلا يسبق بغيره، وطلب أن يكون ذلك الإلقاء والنفث (في الروع النفسي)، وهو وجه للقلب يلي النفس يسمى بالروع.
"الروع :هو القلب وهو القوة التي طورها وراء طور العقل، ينقلب بتقلب التجليات وهو برزخ بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء من رحمة إلى رحمة، فافهم. "
وهو الخوف لما يخاف على القلب من الكدورة من ذلك الوجه طلب الإلقاء والنفث فيه؛ لأنه لو كان في الوجه الآخر ربما عارضه كدورة النفس من هذا الوجه، ولو كان في هذا الوجه عمه النور، وسرى إلى النفس، ثم إلى سائر البدن.
ثم طلب كون ذلك الإلقاء والنفث مقروئا (بالتأييد الاعتصامي)، أي: بتأييد الله تعالى، الروع أي: القلب في أن يعتصم بذلك الإلقاء والنفث، لئلا تمحوه الخواطر الشيطانية والنفسانية بورودهما عليهما بأن يمنع الله عز وجل من ورودهما أو من تأثيرهما (حتی)، غاية لقوله: «أن يخصنی»، (أكون مترجما)، أي: مبينا لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم أو لما يرد على بطریق الإلقاء والنفث
"تنبيه: قوله رضى الله عنه (حتى أكون): يتعلق بـ "سألت"، فإن قيل: قوله : حتى أكون مترجما بما يدل على أنه كان أخذ المعاني وترجمها بألفاظ و عبارات مناسبة من عنده كما هو عادة الترجمان، قلنا: ليس الأمر هكذا بل الترجمة تطلق أيضا على إبعاد الكلام من الأصل. كما قال الشيخ رضى الله عنه في الباب التاسع والعشرين وثلاثمائة في القرآن: إنه كلام الله بلا شك، والترجمة للمتكلم به كان ممن كان انتهى كلامه رضي الله عنه."
(لا متحكما)، أي: ذاكرا للأمر على سبيل التحكم من عند نفسي، إما عن هواها أو عن تلبيس الشيطان؛ فإن ذلك لا يخلو عن التحكم الذي هو ترجيح غير الراجح (ليتحقق)، متعلق بقوله: "أكون مترجما" أي: ليعلم على سبيل التحقيق (من يقف عليه من أهل الله)، المطلعين على الحقائق بطريق الكشف (أصحاب القلوب)، المصفاة عن كدورات النفس قيد بذلك إذ لا كشف لمن دونهم. : وأما من كان فوقهم؛ فإنه لا يمكنه الوقوف على الكتب إلا إذا راد إلى مقام القلب (أنه)، أي: الكتاب وارد (من مقام التقديس)، أي: من الإلقاء أو النفث لخلوص حقائقه (المنزه عن الأغراض النفسية)، التي تدعو إليها خواطرها؛ لأنها (التي يدخلها التلبيس)، أي: تلبيس حقيقة بأخرى، فإن النفس تلبس على القلب لتجذبه إلى أغراضها التي من اللذات السفلية العاجلة
ولم تتعرض لوساوس الشيطان؛ لأنه إنما يتوسل بتلك الأغراض فلا يكون بدونها، ولما كان في الدعوات ما لا يستجاب فلا يتم المطلوب.
قال: (وأرجو)، لرعايتي آداب الدعاء وشرائطه الموجبة للإجابة، (أن يكون الحق)، تعالى (لما سمع دعائي قد أجاب ندائي)، أي: قولي: یا رب! بقوله: لبيك عبدي، فإنه أقل وجوه الإجابة عند اجتماع الشرائط والآداب
فقد ورد:  "إن العبد إذا قال: يا رب" قال الله "لبيك عبدي"".
وهذا القدر كاف في هذا المطلوب، وإذا كان الحق قد أجاب ندائي (فما ألقي)، أي: أملی بطريق الإيماء (إلا ما يلقي إلي)، من الحضرة الإلهية، أو النبوية بطريق الإيماء فإن لفظ الإلقاء يشعر بذلك
(ولا أنزل)، بطريق التصريح (في هذا المسطور، إلا ما ينزل به علي)، من إحدى الحضرتين بطريق التصريح، ولما أوهم ذلك أنه يدعي النبوة قال: (ولست بنبي، ولا رسول ولكني)، أشابههم " ولي مثلهم"
لأني (وارث)، عنهم علومهم، وأحوالهم، وأعمالهم "قال الشيخ : إن أطيب ما يورث من العلم ما يرثه العالم من الأسماء الإلهية."
(ولآخرتي حارث)، بتحصيل ذلك، فلا يبعد الإلقاء إلي والإنزال علي، وإن لم أكن نبيا، ولا رسول؛ لأن من شابه قوما أخذ بعض أحكامهم، وإذا كنت لا ألقي إلا ما يلقى إلي، ولا أنزل ما ينزل به على
(فمن الله)، لا مني فاسمعوا هذا الكتاب، (وإلى الله فارجعوا)، فإن فائدة السماع من الله لا تتم بدون الرجوع إلى الله في الفهم، (فإذا ما سمعتم ما أتيت به) من عند الله "و رسوله"، (فعوا) أي: فاحفظوه كما يحفظ القرآن والأخبار النبوية.
(ثم) أي: بعد الرجوع إلى الله، وحفظ ما سمعتم يحصل لكم فهم في أسراره، فعند ذلك (بالفهم فصلوا مجمل القول)، أي: ما أجمل فيه من الأسرار التي تضيق عنها العبارات الصريحة
(واجمعوا) أي: اعزموا في توجيه الهمم إلى درك أسراره التي تضيق عنها أفهام أكثر أرباب العقول فضلا عن العامة.
(ثم) أي: بعد حصول كمال الفهم لأسراره لا قبل ذلك (منوا به) أي: بإظهاره مع ما فيه من الأسرار (علی طالبية)، ليفوزوا برتبة التكميل بعد الفوز برتبة الكمال.
وطالبوه من ينتفع به في طريق الآخرة، فيدعوه إلى المساعي الباطنة مع تزيين الظاهر بظواهر الأعمال، فيؤكد في حقه ظاهر الشرع باطنه، وباطنه ظاهره.
لا من يعطل الجوارح من الأعمال، ويرى باطن الشرع مخالفا لظاهره، والحقيقة على خلاف الشريعة فإنه إلحاد وكفر.
فكل شريعة بلا حقيقة عاطلة، وكل حقيقة بلا شريعة باطلة، وإياك ثم إياك أن تضيعه بإعطاء أهل الأهوية.
فإنه كبيع السيف من قاطع الطريق إذ يرى أدنى الشبهات غنيمة، ولا يرضى بتأويل الكتاب بما يوافق الشرع، وإن كان أقرب من تأويله، وأكثر طلبة هذا الكتاب في هذا الزمان ممن استولى عليه الشيطان، وأغرقهم في بحر الطغيان، والله المستعان.
(لا تمنعوا) طالبيه من تحصيله، فإن من منح الجهال علما أضاعه، ومن منع المستوجبين فقد ظلم.
وأشار إلى هذا الظلم بقوله: (هذه الرحمة التي وسعتكم) بحيث لا تنقص بالاتفاق مثل نقصان المال به (فوسعوا) فإن منعه ظلم أشد من ظلم من منع ماله الجائع الذي تعذر عليه سد جوعته بغير ماله؛ لأنه ينقص ماله بالإنفاق.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم : "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار". والمراد إذا كان السائل مستحقا لتحصيل ذلك العلم.
ثم أشار إلى كونه رحمة لا استدراجا بقوله: (وأرجو أن أكون ممن أيد فتأيد)، وأيد والاستدراج إنما يكون في شأن من يصر على المعاصي، وهو يعطي العلوم والكرامات، ثم لا تجره إلى الصلاح، وأرجو أن أكون ممن أيده الله الكريم بروح قدسي مانع من المعاصي حتى صرت كالمعصوم بل عاصما نفسي وغيري عن ذلك.
ثم أشار إلى تعليل ذلك بقوله: (وقيد بالشرع المحمدي المطهر فتقيد وقد)، ثم كأن قائلا قال: ربما يحصل هذا التأييد لبعض الناس ليأمن من مكر الله، فيصير كافرا بذلك، فقال: (وأن يحشرنا في زمرته كما جعلنا من أمته) فأرجو دوام ذلك من الله تعالی.
"قال رضي الله عنه فى رسالة تنبيهات على علو الحقيقة المحمدية :
وأعجب ما عندنا من العناية الإلهية التي صحت لنا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : إذ كل واحد من الرسل صلى الله عليهم وسلم يحشر جزئ الحكم .
أي يحشر معهم للشهادة على قومه الذين أرسل إليهم . لاقترانه بطائفة مخصوصة .
والقطب منا : ليس كذلك "يعني لا يقف مثل هذا الموقف" فإنه عام ، جامع لكل من في زمانه من بر وفاجر ، وإن كان إرثه عيسويا أو موسويا "أي فيه من صفات سيدنا عيسى أو سيدنا موسى" فلا يقدح ذلك فيه ، فإنه من مشكاةٍ محمدية ، فله المقام الأعم .
وقد نبه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله عن طائفة من أمته : " ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء " صلى الله عليهم وسلم ، للبركة المحمدية التي نالتهم من مقامه الأعم .
ومن هذه النفخة قال القطب عبد القادر الكيلاني قدس سره: "أوتيتم اللقب، وأوتينا ما لم تؤتوا"."
والعجب كل العجب ممن يزعم التمسك بهذا الكتاب بتأويل فاسد يوافق ما يهواه، ثم يجعل الشرع وراءه ظهرا بعد هذا الذي قاله الشيخ في شأنه، ثم الذي يستعاذ منه ما يراه بعض الحال من جعله فوق الكتاب الإلهي والسنة "ومن لم تجعل الله له نورا فما له من نور" [النور:40].
وإذا كان جميع الكتاب بإلقاء الله تعالى (فأول ما ألقاه المالك على العبد من ذلك) أورد هذه العبارة تنزها عن دعوى الربوبية التي تظهر عن أهل الشطح وغيرهم على سبيل الغلبة تحقيقا لاقتدائه بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان مفتخرا بالعبودية.
فالعجب من بعض الجهال من طلبة الكتاب، إذ يدعي الربوبية لنفسه، ويزعم أنه مقتدي بالشيخ،" ومن يضلل الله ما له من هاد" [الرعد: 33].
ثم إنه أطلق المالك والعبد إشارة إلى أنه ملكه بجميع أسمائه، وأنه صار عبدا من جميع جهاته لجميع تلك الأسماء؛ فافهم، والله الموفق والملهم.
.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 3:51 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 12:23 pm

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية  الجزء الأول

قال رضي الله عنه : (لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها ، و إن شئت قلت أن يرى عينه، في كون جامع يحصر الأمر كله ، لكونه متصفا بالوجود، و يظهر به سره إليه: فإن رؤية الشي ء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل و لا تجليه له.
و قد كان الحق سبحانه أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوة.
و من شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا و يقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه.)
"فص: في اللغة، عبارة عن ملتقى الحكم الإلهية المشتملة على قوسي الأحدية والواحدية، فالملتقى هو الوحدة الصرفة التي هي القلب المحمدي وقلب كل نبي قبله، والحكمة هي العلم بوضع الأشياء موضعها.
والإلهية هي مرتبة جامعة لجميع الأشياء، والكلمة هي العين الفاضلة الجامعة الفاصلة المانعة كأعيان الأنبياء عليهم السلام، 
و
الأدمية هي المنسوبة إلى آدم عليه السلام حقيقة الحقائق الإنسانية، وأراد رضي الله عنه بآدم وجود العالم الإنساني."
(لما) أي: ما يتزين به، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بحقائق الأسماء الإلهية، وظهوراتها بصورها وآثارها ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى آدم أبي البشر اللي حيث علم الأسماء كلها، وهي الأسماء الإلهية والكونية بظهورها فيه، واطلاعه على ما ظهر فيه لما جواب الشرط، وهو أوجد آدم محذوف بقرينة قوله.
فكان آدم عين جلاء تلك المرآة، (شاء الحق تعالی) اختار هذا اللفظ لثبوت معناه لله عز وجل في كل حال من غير توقف على أمر بخلاف بعض أسمائه تعالى الدالة على النسب؛ فإن اعتبارها يتوقف على المنتسبين، وإن كان الكل قديما في الواقع (من حيث أسمائه) لا الذات وحدها.
فإنه باعتباره غني عن العالمين، فالتجلي الذاتي لا بد وأن يكون مع اسم، وإن لم يلتفت إليه، والأسماء تطلب الظهور في المظاهر الكونية من حيث تضمنها النسب، ووصف الأسماء بقوله: (الحسنی)؛ لأن التجلي، وإن كان باسم جلالي؛ فهو أيضا من حيث الظهور له جمال.
ولذلك قيل: لكل جلال جمال هو دنوه من المظاهر وتأنسه بها، وبقوله: (التي لا يبلغها الإحصاء) أشار إلى أن لكل كلي وجزئي من العالم اسما خاصا إلهيا يؤتيه، ولا نهاية لها، وأراد الله عز وجل أن يظهر بها في الكون الجامع مجتمعة كاملة يحصل لظهوره بها إجمال بعد التفصيل، وهو الظهور في الأكوان المتفرقة القاصرة. (أن يرى أعيانها) أي: صورها الكاملة
كأنها أعياها لكمال هذا المظهر الذي هو في غاية الصقالة بحيث تتم مطابقة الصور الظاهرة فيه لدى الصورة بخلاف سائر المظاهر .
(وإن شئت قلت) لما شاء الحق من حيث أسمائه الحسنى (أن يرى عينه)؛ لأنها عند اجتماعها لا تغاير الذات مغایرتها عند افتراقها لعدم اعتبار مفهوماتها المتغايرة حينئذ يكون لها أحدية الجمع بالرجوع إلى الإجمال بعد التفصيل
(في كون) أي: موجود حادث (جامع) لأسرار الأسماء الإلهية والكونية بحيث
(يحصر الأمر) أي: شأن الظهور الإلهي من جميع وجوهه (لكونه متصفا بالوجود) أي: وجوه ظهوراته في أسمائه، وسائر مظاهره، وفي أكثر النسخ «بالوجود) أي: بصورته الكاملة التي كأنها نفسه، فاجتمعت وجوه ظهوراته في ظهوره فيه، (ويظهر به سره إليه) أي: وشاء أيضا أن يجعله عارفا بسه، وهو الذات والصفات بجعله مظهرا الصور الأسماء الإلهية وآثارها كلها التي كانت فيه بالقوة بحيث يصير الكل سرا واحدا بعد التفرق في العالم ليعود إلى وحدته التي كان عليها في مرتبة الذات.
وهذه المعرفة مقصودة بالذات كما قال: "كنت كنزا مخفيا؛ فأحببت أن أعرف".
ثم أشار إلى تعليل ذلك بقوله: (فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه، في أمر آخر يكون له كالمرآة؛ فإنه تظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه، مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل، ولا تجليه له)
أي: إنما شاء الحق من حيث أسمائه الحسنى، أن يرى أعيانها أو عينه في الأكوان الجزئية، أو في كون جامع؛ لأنه تعالى، وإن كان يرى ذاته وأسمائه وصفاته في الأزل .
فتلك الرؤية، وإن كانت كما له يستغني بها عن رؤية أخرى، فليست مثل رؤيته ذاته وأسمائه وصفاته في الأكوان الجزئية متفرقة، أو في الكون الجامع مجتمعة، فإن الرؤية فيها تختلف باختلاف المظاهر، كما تختلف صورة أحدنا في المرآة استقامة، واعوجاجا، واستدارة، واستطالة.
وهي كمال آخر الظهورها مستغن عنه بالنظر إلى الذات والأسماء والصفات من حيث تعلقها بالذات؛ فهي غیر مستكملة بها في أنفسها بل في ظهوراتها، ومن شأن الكامل التكميل.
على أنه يجوز أن يقال: إنها كمال الأسماء من حيث تعلقها بالأكوان، وظهور صورها وآثارها، وهي وإن كانت كاملة أزلية؛ ففيها جهة إمكان من حيث إنها غير قائمة بأنفسها بل بالذات، وهي باعتبار ذلك تطلب الكمالات الإمكانية؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
ثم أشار الى سبب ظهوره في الكون الجامع كآدم بعد ظهوره في العالم.
فقال: (وقد كان الحق) قبل خلق آدم (أوجد العالم كله وجود شبح مستو، لا روح فيه) "لفقد عين الإنسان الذي هو إنسان العين، والذي لم يكن شيئا مذكورا".
أما كونه كالشبح المستوى فباعتبار انتظام بعض أجزائه ببعض.
وإفاضة الأرواح الغير الإنسانية على الأجسام مثل انتظام أمر المركبات العنصرية مستوية المزاج، وإفاضة الأرواح المناسبة لها، وأما كونه لا روح فيه مع ذلك فباعتبار عدم ما هو المقصود بالذات من خلقه، وهو الكون الجامع لظهورات الأسماء والصفات على نهج الاجتماع كما كان في الذات.
وإنما أوجد الحق العالم قبل كذلك؛ لأن الجمعية تفتقر إلى الأجزاء، فأوجد أجزاء العالم؛ ليكون كالأجزاء لتلك الجمعية.
ويكون العالم كالبدن الجامع للأجزاء، وتكون الجمعية بمنزلة الروح للبدن، إذ هذه الجمعية هي المقصودة؛ لأن المعرفة التامة المقصودة من خلق العالم لا تحصل بدونها، إذ لا يعرف أحد ما ليس فيه.
(فكان) العالم قبل آدم كمرآة غير مجلوة، أما كونه كالمرآة فلشموله على صور الأسماء بحيث تصح إفاضة روح الجمعية عليها شمول المرأة على الأجزاء القابلة لفيضان صور الأشياء عليها، وأما كونه
(كمرآة غير مجلوة )؛ فلأنه وإن ظهر في بعض أجزائه الأرواح المناسبة لها لم تظهر فيه الروح المقصود بالذات الذي هو صورة الجمعية الإلهية.
"قال رضي الله عنه : غير مجلوة أراد بعدم جلائها احتجابها بذاتها، فلا ترى نفسها إلا بعينها لا بعين الرب ، فأوجد آدم على صورة الكون: أي جميع الكائنات غيبا باطنا وظاهرا شهادة؛ ليقابل بغيبه الغيب، وبشهادته الشهادة ليتجلى له بجميع الأسماء، وينظر للكون ببصر وبصيرة الله فافهم."
(ومن شأن الحكم الإلهي) وهو القضاء الأزلي الذي أعطى كل شيء خلقه أي: قدر لكل مستحق حقه (أنه ما سوى محلا) أي: ما سوی مزاج شيء من الفلكيات أو العنصريات (إلا ولا بد أن يقبل روحا إلهيا) أي: فائضا من جنابه بحسب ما يليق بذلك المحل كالقوى المعدنية والنباتية والحيوانية، فكذلك العالم إذا تم تسويته لم يكن له بد من قبول الروح المقصود من خلقه.
وهو الإنسان الكامل (عبر عنه) أي: عن ذلك الحكم الإلهي بإفاضة الروح اللائق بالمحل (بالنفخ) أي: بنفخ الإله الروح (فيه)؛ لأن حصل له من النفس الرحماني الذي تنفس به عن آثار الأسماء التي كانت فيها بالقوة.
فكانت تلك الآثار قبل ظهورها المطلوب للأسماء كالكرب لها فأخرجها عن الباطن إخراج الهواء عنه دفعا لذلك الكرب.
وبهذا أول قوله تعالى: "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " [الحجر: 29].
وذلك لتعذر النفخ الحقيقي، وهو إخراج الهواء عن جوف النافخ إلى محل الاشتعال، فالمراد إفاضة الروح الموجب اشتعال المحل بنوره المشابه للنار في التأثير والإشراق.
وما هو إلا لحصول الاستعداد من تلك الصورة المساة لقبول الفيض التكلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال، وما بقي ثمة إلا قابل، والقابل لا يكون إلا من فيضه.
قال رضي الله عنه :  و ما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال.
و ما بقي إلا قابل، و القابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس.
فالأمر كله منه، ابتداؤه وانتهاؤه، «وإليه يرجع الأمر كله»، كما ابتدأ منه.
فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة و روح تلك الصورة، و كانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم «بالإنسان الكبير».
فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية و الحسية التي في النشأة الإنسانية.
فكل قوة منها محجوبة بنفسها لا ترى أفضل من ذاتها، و أن فيها، فيما تزعم، الأهلية لكل منصب عال و منزلة رفيعة عند الله، لما عندها من الجمعية الإلهية مما يرجع من ذلك إلى الجناب الإلهي، و إلى جانب حقيقة الحقائق، و- في النشأة الحاملة لهذه الأوصاف- إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية التي حصرت قوابل العالم كله أعلاه و أسفله.)
ثم أشار إلى تعليل اقتضاء التسوية لقبول الروح الإلهي بقوله: "وما هو" أي: ليس تسوية المحل بمعنی تساوي تقادير الأجزاء، وطبائعها على ما يوهمه اللفظ.
وإلا كان روح كل مثل روح الأخر من كل وجه للاتفاق على أن اختلاف الأرواح بحسب اختلاف الأمزجة .
بل (ما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض) أي: قبول الروح بطريق فيضان نور الشمس على المحل القابل لنورها، وليس بانفصال شيء منها، وانتقاله إلى المحل بل بحدوث ما يناسب نورها في ذلك المحل.
فكذلك فيض الروح أثر (التجلي الدائم الذي لم يزل، ولا يزال) قبل حدوث هذا المحل؛ فليس التجلي حادثا بحدوث المحل بل ظهور أثر التجلي فيه يتوقف على حصوله، وتسويته توقف فيضان الصور على المرآة على تصقیلها وتسوية أجزائها، وإن كانت تلك الصور موجودة قبل المرآة.
وهذه الروح حاصلة في كل صورة فلكية أو عنصرية، إذ لا تخلو عن القوى المحركة بالطبع، أو الإرادة بل كل شيء يسبح بحمده، ولكن لا يفقه غير أهل الكشف تسبيحه، وكما أن لكل جزء من العالم روحا يدبره، فكذا لمجموعة لا بد من روح يدبرها، وهو المقصود بالذات، وهو الإنسان الكامل.
ثم استشعر سؤالا: وهو أنكم قد خصصتم التجلي بفيضان الروح؛ فمن أين فيضان القابل؟
فإن كان من التجلي؛ فلا بد له من تسوية المحل، ولا يحل قبل القابل، وإن كان من غيره بطلت قاعدة التوحيد.
فقال: (وما بقي) أي: بعد البحث عن فيضان الروح (إلا قابل) أي: بحث فيضان القابل للأرواح المذكورة الأجزاء العالم الكبير أو الإنسان.
ثم أجاب عنه فقال: (والقابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس)، وهو الفيض الحاصل من التجلي الإلهي بالأسماء لا واسطة القوابل الظاهرة، بخلاف فيضان الأرواح بواسطة هذه القوابل فإنه مقدس، وأما القوابل الباطنة أعني: الأعيان الثابتة فلا تعد وسائط لعدميتها، ولا من الفيض إذ لا معنى له سوى إشراق نور الوجود كفیضان نور الشمس على المحل القابل له، ولو كانت من الفيض لكانت مجعولة وحمل القابل عليها في الكتاب مخل بالنظم على ما لا يخفى.
وإنما كان فيض الروح مقدسا مع براءته عن المواد الجسمانية المظلمة باعتبار تعلقه بالجسم المظلم لا في نفسه، فإنه أقدس من فيض القوابل أيضا فافهم، فإنه مزلة للقدم.
وإذا كان فيضان الأرواح والقوابل منه (فالأمر) أي: أمر الفيض (كله منه ابتداؤه) بفيضان القوابل الظاهرة.
(وانتهاؤه) بفيضان الأرواح المكملة لتلك القوابل، ( وإليه يرجع الأمر كله) أي: إلى تجليه يرجع فيضان الوجود على الأرواح، وقوابلها حال البقاء.
(كما ابتدأ ) الفيضان أول زمان حدوثها (منه)، وإذا كان العالم كالشبح المسوى بلا روح فكان كمرآة غير مجلوة، وكل شبح مسوي كمرآة غير قابل للروح بالجلاء. (فاقتضى الأمر) الإلهي، وهو الجود المفيض على كل مستحق حقه، وقد استحق العالم الروح المدبر فيه الذي يحصل به جلاؤه (جلاء مرآة العالم) بفيضان الروح المدير لمجموعه، وهو الإنسان الكامل النازل من العالم منزلة المصقل للمرآة.
(فكان آدم عين جلاء تلك المرآة) بتدبيره إياها تدبير المصقل للمرأة في تكميل نظامها، (وروح تلك الصورة) الحافظ لها.
ولذلك إذا خرج الإنسان الكامل من الدنيا خربت خراب الميت على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، كيف وهو المقصود من وجودها كالروح من وجود البدن لما فيه من الجمعية المطلوبة للحق تعالى في الظهور.
ثم استشعر سؤالا: وهو أنه لم لا تكون الملائكة هي الأرواح المدبرة لكل العالم، مع أن روحانيتها أعظم وأقوى من روحانية الإنسان فلا يكون العالم قبل آدم كشبح مسوي بلا روح، ولا كمرآة غير مجلوة مع وجودها؟
فأجاب بقوله: (وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة)، يعني أن الملائكة ليست هي الأرواح المدبرة لكل العالم من كل الوجوه.
بل لكل منهم مقام معلوم أي: تصرف خاص في جزء من أجزاء العالم أو في كله على وجه خاص فأشبهوا القوى الحيوانية. في الاختصاص بالمقام المعلوم، فهم بعض قوى تلك الصورة الكلية للعالم، وإن كانت أرواحا لبعض أجزائه ثم بين الصورة بقوله: (التي هي صورة العالم) لئلا يتوهم أن المراد: صورة آدم، وأن الملائكة بعض قواها.
"" كشبح مسوي بلا روح أي: المنزه عن الجعل والتأثير؛ وذلك لأن المراتب كلها إلهية بالأصالة، وظهرت أحكامها باقتضاء ذاتي، فالأمر قبول ذاتي، وحصول استعدادي، وظهور، وبروز له تعالى لذاته بذاته لا غير. وقبول هذا لازم لفهم سريان النور الأزلي والفيض الألهي الساري في الوجود كله، فافهم.
أن هذه المسألة من أساس معارف الشيخ رضى الله عنه  ولا تغفل عنها، ولا تأخذ عنها بدلا فإنها كشف أوسع الكشوف، وإن اعترضوا علينا بذكر هذه المسألة، فليس بأقل منع جرى على طلل، "وأن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم"، والله المستعان، فافهم.""
ثم أشار إلى أن الصورة الكلية للعالم أيضا تحتاج إلى القوى كالإنسان بقوله: (المعبر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير) ؛ لشموله على ما في الإنسان مع التفصيل والإنسان عالم صغير؛ لشموله على ما في العالم الإجمال، والمفصل أكبر من المجمل لاعتبار الكثرة في أجزائه.
وفيه إشارة إلى أن الإنسان الكامل يتصرف في كل العالم كأنه بدنه كما يتصرف كل إنسان في بدنه الخاص لكن تصرفه في بدنه بقوی بدنه، وتصرفه في العالم بواسطة الملائكة.
فلذلك قال: (فكانت الملائكة) التي هي قوى العالم له أي: للإنسان الكامل المتصرف في كل العالم (كالقوى الروحانية)، وهي القوى العقلية المدركة للكليات، و كالقوى (الحسية التي هي النشأة الإنسانية) عند تصرف روحه في بدنه.
فأخذ الأنبياء العلوم من الملائكة كأخذها من قوى أبدانهم.
ويدل على أن تصرفهم في العالم بالملائكة انتصار نبينا صلى الله عليه وسلم بهم يوم بدر.
ثم أشار إلى أن الملائكة، وإن كانت كالقوى؛ فإنها تتوهم أنها كالأرواح الكلية مع الرد عليهم بأن دعوتهم الكمال لأنفسهم مثل دعوى القوى الإنسانية إياه لأنفسها، فقال:(وكل قوة) منها أي: من قوى العالم والإنسان (محجوبة بنفسها) ترى الكمال لأنفسها وأفعالها من الإدراكات، وغيرها (لا ترى أفضل من ذاتها).
ولذلك اعترضت الملائكة على آدم، ولا ينقاد الوهم للعقل، ولا العقل للوهم، و«إن» بالكسر على أن الجملة حالية، وبالفتح على أنه عطف على قوله: "بنفسها"
أي: ومحجوبة (بأن فيها) أي: في تلك القوى فيما تزعم «ما» مصدرية، والجار والمجرور متعلق بقوله: «فیها».
(الأهلية لكل منصب عال) كالخلافة، والتصرف في كل العالم.
(ومنزلة رفيعة عند الله) من تحصيل المعارف الإلهية على الكمال مع العبادة التامة (لما) هو متعلق بقوله: «محجوبة» أي: بقوله لا ترى أي: بقوله تزعم (عندها) أي: في أنفسها أو قوابلها (من الجمعية الإلهية) أي: من جمع الله تعالی فيها.
(بين ما يرجع من ذلك) أي: مما عندها (إلى الجناب الإلهي) أي: عالم الأسماء باعتبار ظهورها في ذلك، وبين ما يرجع (إلى جانب حقيقة الحقائق) عالم الإمكان المشتمل على حقائق الممكنات، وهذا يعم كل قوة في العالم أو الإنسان.
ثم أشار إلى ما يختص بالقوى الإنسانية؛ فقال: وبين ما يرجع (في النشأة الحاملة لهذه الأوصاف) أي: في نشأة الإنسان الحاملة الأهلية كل منصب عال، ومنزلة رفيعة، ذكر ذلك مبالغة في التعجب من احتجاجها بأنفسها مع كونها في هذه النشأة (إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية)؛ فإن هذه القوى الروحانية في الإنسان، إنما حصلت من امتزاج الطبائع العنصرية، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والفلكية فيه.
فلذلك قيد الطبيعة بالكلية، ثم صرح بقوله: (التي حصرت قوابل العالم كله أعلاه وأسفله)، وهذا هو الذي أكد احتجابها إذ بذلك نظرت أنها جامعة للأسرار الإلهية والكونية لكنه غلط إذا لو تم جمعها التم تصرفها في العالم كتصرف روح الإنسان الكامل فيه.
"" قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات المكية باب السادس والمائتين  : أما أنوار الطبيعة فهي أنوار يكشف بها صاحبها ما تعطيه الطبيعة من الصور في الهباء وما تعطيه من الصور في الصورة العامة التي هي صورة الجسم الكل وهذه الأنوار إذا حصلت على الكمال تعلق علم صاحبها بما لا يتناهى وهو عزيز الوقوع عندنا وأما عند غيرنا فهو ممنوع الوقوع عقلا حتى إن ذلك في الإله مختلف فيه عندهم وما رأينا أحدا حصل له على الكمال ولا سمعنا عنه ولا حصل لنا وإن ادعاها إنسان فهي دعوى لا يقوم عليها دليل أصلا مع إمكان حصول ذلك وأنوار الطبيعة مندرجة في كل ما سوى الحق وهي نفس الرحمن الذي نفس الله به عن الأسماء الإلهية وأدرجها الله في الأفلاك والأركان وما يتولد من الأشخاص إلى ما لا يتناهى.""
قال رضى الله عنه : (وهذا لا يعرفه عقل بطريق نظر فكري، بل هذا الفن من الإدراك لا يكون إلا عن كشف إلهي منه يعرف ما أصل صور العالم القابلة لأرواحه.
فسمي هذا المذكور إنساناً و خليفة، فأما إنسانيته فلعموم نشأته و حصره الحقائق كلّها.
وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر، و هو المعبَّر عنه بالبصر. فلهذا سمي إنساناً فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم.
فهو الإنسان الحادث الأزلي و النشء الدائم الأبدي، و الكلمة الفاصلة الجامعة ، قيام العالم بوجوده، فهو من العالم كفصّ الخاتم من الخاتم، و هو محل النقش و العلامة التي بها يختم بها الملك على خزانته.
وسماه خليفة من أجل هذا، لأنه تعالى الحافظ به خلقَه كما يحفظ الختم الخزائن.
فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلا بإذنه فاستخلفه في حفظ الملك فلا يزال العالم محفوظاً ما دام فيه هذا الإنسان الكامل.
أَلَا تراه إذا زال و فُكَّ من خزانة الدنيا لم يبق فيها ما اختزنه الحق فيها و خرج ما كان فيها و التحق بعضه ببعض، و انتقل الأمر إلى الآخرة فكان خَتْماً على خزانة الآخرة ختماً أبديّاً ؟
فظهر جميع ما في الصور الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود، وبه قامت الحجة للَّه تعالى على الملائكة.
فتحفَّظْ فقد وعظك اللَّه بغيرك، سأنظر من أين أُتي على من أُتي عليه.)
ثم أشار إلى أنه لا يمكن إقامة البرهان العقلي على رجوع بعض ما عندها إلى الجناب الإلهي، وبعضه إلى جانب حقيقة الحقائق، وبعضه إلى الطبيعة الكلية.
فقال: (وهذا لا يعرفه عقل)، وإن كان لا ينكره أيضا (بطریق نظر فكري) بترتيب المقدمات (بل هذا الفن من الإدراك) أي: إدراك مرجع الموجودات من الحضرات المذكورة (لا يكون إلا عن كشف إلهي) بأن ترفع حجب القلب بتصقيله، فيجاري به المبادئ العالية المنتقشة بالعلوم بل العلم الأزلي .
(منه يعرف ما أصل صور العالم) أي: مرجعها من الحضرات المذكورة (القابلة) تلك الصور (لأرواحه) أي: أرواح العالم الكبير والصغير من النفوس السماوية والمعدنية والنباتية والحيوانية والإنسانية وقواها.
ووصف الصور بذلك يشير إلى أنه كان الواجب على القوى أن تنظر في الصور القابلة أن لها أيضا هذه الجمعية مع أنها ليست مقصودة بذاتها بل بأرواحها، فلا يكون لها فضل بل هذه القوى باعتبار هذه الجمعية غايتها أن تساوي تلك الصور، فافهم؛ فإنه مزلة للقدم.
وإذا كان جمعية ما سوى آدم وأولاده قاصرة، وإن بلغوا من العظمة ما بلغوا، ولا بد من الجمعية الكاملة فكانت لآدم وأولاده، (فسمي هذا المذكور) أي: آدم
(إنسانا وخليفة فأما إنسانيته) أي: كونه مسمى بالإنسان (فلعموم نشأته) أي: شمول خلقته ظهورات الأسماء والصفات الإلهية، (وحصره الحقائق) أي: أسرار سائر الموجودات فهو مؤنس لهما، ولما تم فيه معنى الأنس اشتق منه صيغة المبالغة، وهي الإنسان.
وأيضا لتسميته إنسانا وجه آخر، (وهو) أنه (للحق بمنزلة إنسان العين من العين) أي: بمنزلة البصر للحق، فإن إنسان العين: هو (الذي يكون به النظر) أي: إدراك المبصرات للعين (وهو) أي: الذي يكون به للعين النظر، (والمعبر عنه بالبصر) الذي هو القوة المدركة للمبصرات، وهو إنسان العين.
فلهذا أي: فلوجود هذا المعنى في الإنسان من حيث إنه مقصود بالذات من خلق العالم.
" اعلم أنه ليس المراد أن الواجب في حقه تعالی جسم له عين، وأن آدم إنسانها، فإنه لا يقوله عاقل فضلا عن عارف، وإنما أراد الله بحكمته عبدا إنسانا كاملا يكون خليفة له سبحانه لتصريف وإدارة بعض أمور الكون التي سوف يستخلفه عليها,وأما كونه سبحانه وتعالى في عالم القدم يرى الأشياء قبل  ظهورها؛ فهذا منه؛ لأنه من عالم القدم حيث هذا يكون لآدم حال كونه صورة مخزونة في العلم الإلهي، وليس هذا له حال كونه جسما عنصريا."
وفي تقديم الجار والمجرور، وإعادة لفظ «سمي» إشارة إلى أن هذا الوجه الكامل الذي لا ينبغي أن يعتبر معه غيره سمي إنسائا كأنه هو بصر الحق بعينه، (فإنه به نظر الحق إلى خلقه)؛ لأن خلقه من مقدماته أو متمماته (فرحمهم) ليوقف ذاته أو كماله عليهم .
فالإنسان: هو العلة الغائية من إيجادهم، وإذا كان هو العلة الغائية (فهو الإنسان الحادث الأزلي) إذ العلة الغائية متأخرة في الواقع عن سائر العلل متقدمة عليها في ذهن الفاعل كالجلوس على السرير متقدم في ذهن النجار على سائر علل السرير، ومتأخر عن تمامه في الواقع.
فالإنسان من حيث تأخره في الواقع عن سائر الموجودات حادث قريب الحدوث، ومن حيث تقدمه في العلم الإلهي رتبة عليها أقدم منها. "اعلم أنه لا إشكال في هذا ولا كفر، ولا زلل ولا خلل.
أما أزلية هذا الإنسان : فباعتبار صورة حقيقته العلمية فى أراده الله خلقه وإيجاده ليكون خليفته ويدير ما يوكله اليه  .
وأما حدوثه : فباعتبار وقت خلقه وإظهاره إلى العالم المحسوس عالم الشهود .
فلا زلل ولا خلل في قوله: الحادث الأزل فهو الحادث بخلقه وإظهاره الأزل فى علم الله سبحانه."
(والنشؤ الدائم الأبدي)؛ لأن الحكيم إذا ظفر بمطلوبه بعد ترتیب مقدمات كثيرة لا يعدمه بالكلية.
بل غاية ما يفعل به أن ينقله من مقام إلى آخر، (والكلمة الفاصلة الجامعة)، فإنه من حيث جمعيته الأسرار الإلهية والكونية أشبه الكلمة في جمعها للحروف.
ومن حيث إنه مقصود بالذات انفصل عما عداه مع أنه جمع مقاصد كل ما عداه فصارت فاصلة جامعة.
وإذا كان هو المقصود من خلق العالم وروحه، (فتم العالم لوجوده)، إذ ما ليس بمقصود بالذات لا يتم بدونه، وكذا الجسم لا يتم بدون الروح.
وإذا كان تمام العالم به (فهو من العالم كفص الخاتم من الخاتم) به يتم الخاتم، وإذا كان كفص الخاتم، وفص الخاتم محل النقش (الذي) به يعلم الملك ما يختم من خزائنه.
(فهو) أي: الإنسان (محل النقش والعلامة) أي: محل النقش صورة الجمعية الإلهية التي يعلم بها ما يختم من خزائن العالم المملوء بصور أسمائه الحسنى كما أن فص الخاتم الملك محل العلامة (التي بها يختم الملك على خزائنه) ليحفظها.
وكذلك الحق حفظ بعلامة نقش جمعيته خزائن العالم.
(وسماه) أي: المذكور وهو آدم (خليفة من أجل هذا) أي: من أجل حفظه الخزائن العالم مع احتجاب الحق عنها كحفظ الحق إياها بدون الحجاب، وهذا هو فعل الخليفة في حفظ المدينة عند غيبة الملك عنها.
وإليه الإشارة بقوله: (لأنه) أي: المذكور، وهو آدم (الحافظ به خلقه) الذي هو صدر تجليات أسمائه بكونه مقصودا منها، وهو يحتاج إليها من حيث إنها مقدماته أو متمماته .
(كما يحفظ الختم) أي: ختم الملك بنقش فص خاتمه (الخزائن) لا من حيث إنه ختم بل من حيث إنه قائم مقام حضور الملك .
(فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها)، لإخراج ما فيها من المخزونات (إلا بإذنه).
فكذلك ما دام ختم الحق على خزائن العالم لا يجسر أحد من الأسماء القهرية، ومظاهرها على فتح خزائن العالم لإخراج ما فيه إلا بإذن الاسم الأعظم الذي هو رب الإنسان الكامل.
فلما كان له استعداد الختم على خزائن العالم (فاستخلفه في حفظ العالم) بتدبيره إياه بما تحقق به من حقائق الأسماء الإلهية اللطيفة.
(فلا يزال العالم) الدنيوي (محفوظا) عن الهلاك الكلى، (ما دام فيه هذا الإنسان) الذي هو ختم على خزائن عالم الدنيا.
""فكما أن الفص محل النقش، كذلك الإنسان الكامل محل ظهور صور الأسماء الإلهية، وكما أن في الفص علامة تدل على صاحب الخاتم، كذلك العالم بمنزلة الخاتم، وفصه الإنسان الكامل، وفيه علامة تدل على الحق تعالی؛ لظهور جميع أسمائه فيه الدالة عليه.""
وقد ورد"لا تقوم الساعة ما دام يقال في الأرض: الله الله".  وهو اسم الذات المستجمع جميع الصفات فلا ينطق به على ما هو عليه إلا الإنسان (الكامل) بقدر الطاقة البشرية.
ثم استدل على أن حفظ العالم بسببه بقوله: (ألا تراه) أي: الإنسان الكامل (إذا زال) عن عالم الدنيا (وفك) ختمه (من خزانة الدنيا، لم يبق فيها ما اختزنه الحق تعالی فيها)؛ التجاسر الأسماء القهرية ومظاهرها على فتحها (وإخراج ما فيها) إلى العدم، أو إلى البرزخ، أو الأخرة .
(والتحق بعضه ببعضه) في الخروج فانشقت السماء، وطمست الكواكب، وسجرت البحار، وبست الجبال، ودكت الأرض، وصعقت، الحيوانات، (وانتقل الأمر) أي: أمر التجلي الإلهي على سبيل الجمعية والتفرقة جميعا (إلى الآخرة)؛ بسبب انتقال الإنسان الكامل إليها، فكان الإنسان هو (ختما على خزانة الآخرة) ليحفظها (ختما أبدا) لعدم انتقاله إلى عالم وراءها.
ولما كان الإنسان محل نقش الجمعية الإلهية (فظهر جميع ما في الصورة الإلهية) من ظهوره (بأسمائه) في العالم على سبيل التفرقة اجتمعت (في هذه النشأة الإنسانية فحازت) هذه النشأة (رتبة الإحاطة) بأسرار الكائنات، (والجمع) لما تفرق من الأسماء الإلهية في العالم (بهذا الوجود) الذي هو صورة وجود الحق والخلق جميعا.
(وبه) أي: بكونه محيطا جامعا (قامت الحجة) أي: حجة (الحق على الملائكة) ، القائلين على نهج الاعتراض: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" البقرة :30.
"وعلم آدم الأسماء لها ثم عرضهم على الملائكة" البقرة: 31.
فألزمهم الحجة بجمعيته للأسماء الإلهية، والكونية بالوقوف على أسرارها وخواصها بعد تحققه بها.
ثم قال لهم بعد إلزام الحجة:" إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" [البقرة : 33].
وإذا كانت حجة الحق قائمة على كل من نازعه، وإن بلغ كالملائكة (فتحفظ) عن منازعته (فقد وعظك الله بغيرك) بإقامة الحجة على غيرك، وتوبيخه إياه.
وكذا تحفظ عن مخالفته، فقد وعظك الله بما فعل بغيرك، وهو إبليس وأتباعه، (وانظر من أين أتي) بالهلاك الكلي (على من أتي عليه)، وهو إبليس حيث خالف أمرا من أوامره فأحبط عليه عمل ثمانين ألف سنة لحق به بالملائكة فأخرج عن الملائكة إلى حيث صار مقدم الأشقياء وقدوتهم.
قال رضى الله عنه : (فإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة، و لا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية، فإنه ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته، و ليس للملائكة جمعية آدم، و لا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها، و سبحت الحق بها و قدسته،
وما علمت أن لله أسماء ما وصل علمها إليها، فما سبحته بها و لا قدسته تقديس آدم.
فغلب عليها ما ذكرناه، وحكم عليها هذا الحال فقالت من حيث النشأة: «أتجعل فيها من يفسد فيها»؟
وليس إلا النزاع وهو عين ما وقع منهم.
فما قالوه في حق آدم هو عين ما هم فيه مع الحق.
فلولا أن نشأتهم تعطي ذلك ما قالوا في حق آدم ما قالوه وهم لا يشعرون.
فلو عرفوا نفوسهم لعلموا، و لو علموا لعصموا.
ثم لم يقفوا مع التجريح حتى زادوا في الدعوى بما هم عليه من التسبيح والتقديس.
و عند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة عليها، فما سبحت ربها بها و لا قدسته عنها تقديس آدم و تسبيحه.
فوصف الحق لنا ما جرى لنقف عنده ونتعلم الأدب مع الله تعالى فلا ندعي ما نحن متحققون به وحاوون عليه بالتقييد، فكيف أن نطلق في الدعوى فنعم بها ما ليس لنا بحال ولا نحن منه على علم فنفتضح؟
فهذا التعريف الإلهي مما أدب الحق به عباده الأدباء الأمناء الخلفاء.
ثم نرجع إلى الحكمة فنقول: اعلم أن الأمور الكلية و إن لم يكن لها وجود في عينها فهي معقولة معلومة بلا شك في الذهن، فهي باطنة- لا تزال- عن الوجود العيني.)
ثم أشار إلى إن نزاع الحق و مخالفته إنما ينشأن عن الجهل بأسراره في أفعاله وأحكامه؛ فقال: (وإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة) من إحاطته بأسرار الخلق وجمعه ما تفرق من ظهورات أسماء الحق.
(ولا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية) التي تقتضيها جمعية الذات للأسماء، وهي لا تتأتى إلا من المظهر الجامع الأسرارها، وكيف تقف الملائكة على ذلك؟!
(فإنه ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته) أي: مسلم أدرك مثاله من ذاته أي: ما تمثل من الغير في ذاته.
(وليس للملائكة جمعية آدم) فتدركها من ذواتهم، (ولا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها) أي: نشأة آدم إذ لم توجد تلك الأسماء قبل آدم في غيره حتى تتمثل في إدراكات الملائكة، وما عبدت الملائكة الحق بتلك الأسماء المخصوصة فضلا عن العبادة الذاتية، إذ ما (سبحت الحق بها، وقدسته) .
"أي ما وقفت مع الأسماء التنزيهية المخصوصة بهم أيضا؛ لأنها لو وقفت ما اعترضت. أنهم وقفوا مع مقتضى ذواتهم، ولم يقفوا مع مقتضى ذات الخليفة، ولا مقتضى عبادتهم الذاتية إلإلهية؛ لعدم وقوفهم، واطلاعهم بالذاتیات وذلك لعدم علمهم بذات الحق تعالى، فافهم."
.
يتبع


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الخميس يوليو 25, 2019 12:24 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 12:24 pm

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي
الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية  الجزء الثاني

ثم أشار إلى أن جهلهم كان مركبا فقال: (وما علمت) الملائكة (أن الله أسماء ما وصل علمها إليها) أي: إلى تلك الأسماء (فما سبحته) أي: الملائكة الحق (بها) أي: بذكر تلك الأسماء (ولا قدسته) بل كانوا يظنون أنهم أحاطوا علما بأسمائه، وسبحوه بكل اسم وقدسوه به، ولذلك أطلقوا في دعوى التسبيح والتقديس (فغلب عليها) أي: على الملائكة (ما ذكرناه) أي: لا من كون كل منهم محجوبا بنفسه.
(وحكم عليها هذا الحال) أي: الجهل المركب الموجب لظن احاطتهم بالأسماء الإلهية، وبما في الأكوان من أسراره مع جهلهم لجمعية آدم، واختصاصه ببعض الأسماء الإلهية.
وهي التي لم يصل علمهم إليها بل رأوه قاصرا عن تجلي الأسماء الإلهية التي تجلت فيهم، فقالت: (من حيث النشأة ) الجسمانية لأدم المشتملة على العناصر المتقابلة الطبائع التي بها الكون، والفساد المشتملة على الشهوة والغضب بما فيها من الهواء والنار ("أتجعل فيها") أي: في الأرض ("من يفسد فيها") بطلب شهواته، ويسفك الدماء بثوران غضبه.
ثم زاد عليهم الشيخ فه بقوله: (وليس) أي: فساد آدم وأولاده (إلا النزاع) مع الحق بالاعتراض عليه فيما لا تبلغه عقولهم، والسخط بقضائه فيما لا يوافق طباعهم، ومخالفة أوامره ونواهيه.
(وهو) أي: النزاع المعبر عنه بالفساد فيه قول الملائكة الذين طعنوا به في حق آدم (عين) أي: مثل (ما وقع منهم) مع الحق حيث اعترضوا عليه، وإذا كان طعنهم في آدم نزاعا مع الحق، وهم سابقون على أدم في ذلك.
(فما قالوه في حق آدم) من الفساد (هو عين ما هم فيه) الآن من النزاع (مع الحق) سابقون على أدم فيه، فهم أولى بذلك الطعن.
ثم إنهم لما طعنوا في أدم بما رأوا فيه من مبدأ الفساد، وقد سبقوه في استحقاق ذلك الطعن، وهو حادث لا بد له من سبب هو مبدؤه فلا بد فيهم من مبدأ الفساد أيضا، وهو الجهل المركب والحجاب المذكوران.
(فلولا أن نشأتهم تعطي ذلك) النزاع مع الحق (ما قالوا في آدم ما قالوه) ، من نسبة الفساد إليه مع أن النزاع مع الحق أعظم أنواعه (وهم لا يشعرون).
أن ما طعنوا في حق آدم نزاع مع الحق، ولا أنه فساد ناشئ من نشأتهم؛ فهذا جهل آخر مركب فيهم (فلو عرفوا نفوسهم لعلموا) ما في نشأتها من الجهل، والحجاب اللذين هما من مبادئ الفساد؛ فلذلك وقع منهم النزاع مع الحق، والدليل على ذلك: أنهم (لو علموا) أن الفساد الذي طعنوا به في حق آدم غير ما هم فيه "ما هم عليه وفيه الآن بالطعن والنزاع مع الحق سبحانه في آدم " (لعصموا) عن هذا الطعن، وسلموا عن النزاع مع الحق الذي هو أعظم أنواع الفساد.
(ثم) أي: بعدما ذكرنا ما فيهم من الجهل المركب والحجاب والنزاع مع الحق؛ ففيهم جهل آخر مركب أشد منه، وفساد آخر: وهو أنهم (لم يقفوا) أي: لم يقتصروا (مع التجريح) أي: تجريح آدم بنسبة الفساد إليه مع أنه عين ما هم فيه (حتى زادوا في الدعوى) أي: دعوى الكمال المطلق لأنفسهم (بما هم) أي: بسبب ما هم (عليه من التسبيح والتقديس)، فقالوا: "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" [البقرة:30].
فأطلقوا كأنهم يحيطون بوجوه التسبيح والتقديس.
ولم تتم لهم هذه الدعوى إذ (عند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة تقف عليها فما سبحت ربها) أي: بذكرها والعمل بمقتضاها، (ولا قدسته) تقديسا صادرا عنها أي: عن معرفتها (تقدیس آدم وتسبيحه)؛ فهو المسبح المقدس على الكمال والإطلاق دونهم، وإذا كان حال المعترض على الحق والمنازع له هكذا.
(فوصف) أي: بين (الحق لنا) أي: لوعظنا واعتبرنا (ما جرى) بينه وبين ملائكته مع إلزامه إياهم حجته البالغة (لنقف عنده) بالتأمل فيه، ونعتبر بذلك نزاعنا مع الحق في مخالفة أوامره ونواهيه "والجدل مع الحق بما نعلمه"، (ونتعلم الأدب مع الله تعالی)؛ فلا نعترض عليه في شيء من أفعاله وأحكامه، ولا نجرح أحدا من عباده بذكر نقصه مع دعوى الكمال لأنفسنا.
(فلا ندعي ما نحن متحققون به وحاوون عليه) دعوى مقرونة (بالتقييد) بمقدار ما تحققنا به وحوينا عليه مخافة تعدي الدعوى إلى ما وراءه .
(فكيف) يسوغ لنا (أن نطلق في الدعوى فنعم بها) أي: بتلك الدعوى إثبات (ما ليس لنا بحال) من الكمال، (ولا نحن منه على علم) فضلا عن الحال (فنفتضح؟) كما افتضحت الملائكة بتلك الدعوى بذكرها في الكتاب الذي لا يزال الجمهور يتلوه في الأمصار والأغوار إلى يوم القيامة.
(فهذا) أي: بيان ما جرى بينه وبين الملائكة: هو (التعريف الإلهي) لما تقتضيه حضرة الحق من الأدب (مما أدب الحق به عباده العلماء) لئلا يدعوا ما وراء علمهم.
(الأمناء) لئلا يخونوا في أوامره ونواهيه وسائر أحكامه (الخلفاء) لئلا ينقضوا عهوده ومواثيقه في إقامة حدوده وأحكامه.
فإن قيل: هذا يشعر بعدم عصمة الملائكة، وقد دلت النصوص مثل: "لا يسبقونه بالقول وهم بأمره  يعملون" [الأنبياء: 27]، "لا يعون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " [التحريم: 6]، ولولا عصمتهم فلا ثقة بهم فيما يأتون به من الوحي.
قلنا: النصوص العامة قابلة للتخصيص، فيجوز أن يخصص بما ورد منهم في حق آدم عليه السلام ، ولا يدل على عصمتهم عن ذنب لا يعلمون أنه ذنب، والوثوق إنما يزول إذا صدر عنهم ذنب بعد علمهم بكونه ذنبا، ولكنهم يعاتبون على ذلك لئلا يتجاسروا في الأمور، وقد جوز المحققون السهو على الأنبياء مع أنهم يعاتبون عليها؛ فلنجوز مثل ذلك على الملائكة؛ فافهم.

(ثم) أي: بعد بيان ما جرى بين الله تعالى، وبين الملائكة من شأن آدم عليه السلام (نرجع إلى الحكمة) أي: بيان العلم اليقيني المتعلق بكيفية ظهور الحق بأسمائه وصفاته في العالم الكبير والصغير بعد تقديم مقدمة البيان ارتباط كل منهما بالآخر بعد بيان ارتباط الأمور الموجودة بالمعقولة، وكون كل منهما ظاهرا في الآخر.
(فنقول: اعلم أن الأمور الكلية) كالإنسان والحياة والعلم، (وإن لم يكن لها) باعتبار تقيدها بالكلية (وجود في عينها) أي: في الواقع (فهي معقولة) أي: موجودة في العقل؛ لأنها
(معلومة بلا شك في الذهن)، وإن تشكك نفاة الوجود الذهني في ذلك بناء على أن العلم إضافة للعالم إلى المعلوم عندهم لا حصول صورة الشيء في العقل؛ فهي من حيث (هي) كلية معقولة (باطنه لا تزل عن الوجود الغيبي) بالغين المعجمة، والباء الموحدة.
قال رضى الله عنه : (ولها الحكم و الأثر في كل ما له وجود عيني، بل هو عينها لا غيرها أعني أعيان الموجودات العينية، و لم تزل عن كونها معقولة في نفسها.
فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات كما هي الباطنة من حيث معقوليتها.
فاستناد كل موجود عيني لهذه الأمور الكلية التي لا يمكن رفعها عن العقل، ولا يمكن وجودها في العين وجودا تزول به عن أن تكون معقولة.
وسواء كان ذلك الوجود العيني مؤقتا أو غير مؤقت، نسبة المؤقت و غير المؤقت إلى هذا الأمر الكلي المعقول نسبة واحدة.)
ثم أشار إلى أنها وإن كانت معقولات صرفة وباطنة؛ فلها جهة ظهور وارتباط بالموجودات العينية، فقال: (ولها الحكم) على كل ما له وجود عيني كزيد وعلمه وحياته.
فيقال: إنه إنسان وعلم وحياة، ولها (الأثر) أيضا (في كل ما له وجود عيني) كأن يقال: زيد عالم؛ لأن علمه جعله عالما، فقد ظهر الأمر الكلي لا بقيد الكلية في الوجود العيني، وأثر فيه أيضا، ثم بالغ في بيان ذلك الظهور.
فقال: (بل هو) الأمر الكلي لا بقيد الكلية بل باعتبار أنه طبيعة من الطبائع أي: حقيقة من الحقائق (عينها لا غيرها)، فإن الإنسانية عين زيد، وإن العلم عين علم زيد، وإن لم يكن زيد وعلمه عين الإنسانية الكلية، والعلم الكلی.
فلذا قال: (أعني أعيان الموجودات الغيبية) لئلا يتوهم أن المرادات الموجود الغيبي عين الأمور الكلية هذا وجه ظهورها مع أن لها بطونا أيضا.
وذلك أنها مع ظهورها (لم تزل عن كونها مصقولة في نفسها) من حيث هي كلية فاجتمع فيها الظهور والبطون باعتبارین :
اعتبار قيد الكلية.
واعتبار أنها طبيعة من الطبائع.
(فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات) حيث اعتبر فيها أنها طبيعة من الطبائع (كما هي الباطنة من حيث معقوليتها)، حيث اعتبر فيها قيد الكلية.
فلما جاز البطون والظهور على الأمور التي لا وجود لها في الخارج أصلا أو مستقلا بل جاز اتحادها بالموجودات الخارجية؛ ففي الأمر المحقق المستقل أولى، وإذا كان (لهذه الأمور الكلية) أثر في الموجودات العينية، (فاستناد كل موجود عيني) لا باعتبار تحققها في أنفسها بل باعتبار أنها (التي لا يمكن رفعها عن العقل).
فالوجود العقلي بها صار سبا لاستناد غيرها إليها، وإذا كان الوجود العقلي صالحا لسبية استناد الأمور الموجودة إليها فاستناد بعض الموجودات إلى بعض كان بطريق الأولى.
ثم أشار إلى أن الاستناد إليها في تحقق الموجودات العينية؛ فإن ذلك الاستناد إنما يتصور إلى الموجود الخارجي.
فقال: وهذه الأمور الكلية (لا يمكن وجودها في العين)، وإن كانت عين الموجودات العينية من وجه، ولها الأثر فيها (وجودا تزول به عن أن تكون معقولة) فالاستناد إليها لا يكفي في التحقيق الخارجي، وإنما هو استناد الموجود إلى الوجود.
ثم أشار إلى أن الأمور المعقولة، وإن لم تزل عن كونها معقولة موجودة في العقل أزلا وأبدا فنسبة الحوادث وغيرها إليها سواء.
ليتوسل ذلك إلى أن استناد الحوادث اليومية وغيرها إلى الواجب الأزلي على السوية لا كما يقوله الفلاسفة من استناد الحوادث اليومية إلى الحركات السماوية.
فقال: (وسواء كان ذلك موجود العيني مؤقتا أو غير مؤقت)، فإنهما لا يتفاوتان بالنسبة إليه بل لكون نسبة غير المؤقت بلا واسطة، ونسبة الأخر: وهو المؤقت بواسطة أو وسائط، بل ( نسبة المؤقت) كالحوادث اليومية، (وغير المؤقت).
كما يقال: الله حي عالم (إلى هذا الأمر الكلي المعقول نسبة واحدة) قيد بالمعقول لئلا يتوهم أن المراد الكلي الطبيعي من حيث هو في ضمن الموجود الجزئي.
فإنه ليس مستندا للكل؛ بل لذلك الجزئي، وإنما كانت نسبة المؤقت وغير المؤقت إلى هذا الأمر الكلي نسبة واحدة؛ لأن استنادهما إليه ليس بطريق العلية حتى يلزم من أزلية العلة أزلية المعلول.
وهكذا ليس استناد الموجودات إلى الحق استناد إلى العلة بل علة وجود الحوادث تعلق إرادة الحق وقدرته بهم، وللاهتمام بيان أن استناد الكلي إلى الأمر الكلي على السوية قال: نسبة المؤقت وغير المؤقت بالإظهار مع الاستغناء عنه بالإضمار.
قال رضى الله عنه : (غير أن هذا الأمر الكلي يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسب ما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينية، كنسبة العلم إلى العالم، والحياة إلى الحي.
فالحياة حقيقة معقولة و العلم حقيقة معقولة متميزة عن الحياة، كما أن الحياة متميزة عنه.
ثم نقول في الحق تعالى إن له علما وحياة فهو الحي العالم.
ونقول في الملك إن له حياة وعلما فهو العالم والحي.
ونقول في الإنسان إن له حياة وعلما فهو الحي العالم.
وحقيقة العلم واحدة، وحقيقة الحياة واحدة، ونسبتها إلى العالم والحي نسبة واحدة.
ونقول في علم الحق إنه قديم، و في علم الإنسان إنه محدث.
فانظر ما أحدثته الإضافة من الحكم في هذه الحقيقة المعقولة،)
ثم أشار إلى أنها، وإن كان لها الحكم، والأثر في كل ما له وجود عيني، فلكل ما له وجود حكم.
وأثر في الأمر الكلي أيضا؛ ليتوسل بذلك إلى أن للأعيان الثابتة للموجودات أيضا حكما على الحق في حكمه عليها.
فقال: (غير أن هذا الأمر الكلي يرجع إليه) أثر،(وحكم من الموجودات العينية بحسب ما تقتضيه حقائق تلك الموجودات العينية).
كما يقال: علم الله قديم، وعلم الملك والإنسان حادث فتم الارتباط من الجانبين، وصح ظهور كل منهما في الآخر بالحكم والأثر؛ فليقس على هذا ارتباط العالم والإنسان مع الحق من الجانبين.
وإنما لم يقل: حقائقها لئلا يتوهم عود الضمير إلى حقائق الأمور الكلية، ثم مثل أثر الأمور الكلية في الموجودات العينية باعتبار وجودها في الذهن مستد؟ عليه بتميزها، إذ لا تميز للمعدوم المطلق.
بقوله: (كنسبة العلم إلى العالم، والحياة إلى الحي) أورد مثالين ليميز بينهما حتى يتم استدلاله على وجودهما في الذهن.
وأشار إليه بقوله: (فالحياة حقيقة معقولة، والعلم حقيقة معقولة متميزة عن الحياة) بحقيقة العلم موجودة في الذهن.
(ثم نقول): لبيان استواء نسبة الموقت وغير المؤقت إلى حقيقة العلم والحياة (في الحق تعالی، إن له حياة، وعلما).
واستدل عليه بقوله: (فهو الحي العالم) ؛ وذلك لأن المشتق لا يصدق كما هي حياة متميزة عنه بحقيقتها أيضا موجودة في الذهن بدون المصدر.
(ونقول: في الملك إن له حياة، وعلما، فهو الحي العالم، ونقول في الإنسان: إن له حياة وعلما؛ فهو الحي العالم)
أعاد قوله: فهو الحي العالم، ليكون دليلا استقرائيا على أن كل حي عالم له حياة، وعلم نفيا لقول الفلاسفة والمعتزلة: أنه تعالى حي عالم بلا حياة وعلم.
ثم أشار إلى وحدة الحقيقة الكلية للحياة والعلم في حياة كل حي، وعلم كل عالم؛ ليتوسل بذلك إلى أن الوجود واحد ظهر في كل الموجودات، وأن نسبة الموجودات إليه نسبة واحدة.
فقال: (وحقيقة العلم) في الكل أي: في علم الحق والإنسان والملك حقيقة واحدة وحقيقة الحياة في الكل حقيقة (واحدة ونسبتها) أي: نسبة حقيقة العلم وحقيقة
الحياة (إلى العالم والحي)، أي: إلى علم كل عالم وحياة كل حي (نسبة واحدة) فلم تتغير وحدة الحقيقة الكلية بكثرة المظاهر، ولم تتكثر النسب بالنظر إلى الحقيقة الكلية، وإن تكثرت بالنظر إلى الموجودات.
(ونقول) لبيان رجوع الحكم والأثر من الموجودات العينية إلى المعقولات الكلية عند ظهورها فيها (في علم الحق إنه قديم، وفي علم الإنسان إنه محدث، فانظر ما أحدثته الإضافة) أي: إضافة العلم إلى الحق القديم والإنسان الحادث (من الحكم) بالقدم والحدوث (في هذه الحقيقة المعقولة).
التي ليس لها ذلك قبل ظهورها فيها، فكذلك ظهور الحق في مرتبة التعين الأول والثاني أوجب الحكم بالوجوب والقدم، وفي العالم والإنسان بالإمكان والحدوث لا في ذاته بل في صورته.
قال رضى الله عنه : (وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات و الموجودات العينية.
فكما حكم العلم على من قام به أن يقال فيه عالم، حكم الموصوف به على العلم أنه حادث في حق الحادث، قديم في حق القديم.
فصار كل واحد محكوما به محكوما عليه.
ومعلوم أن هذه الأمور الكلية وإن كانت معقولة فإنها معدومة العين موجودة الحكم، كما هي محكوم عليها إذا نسبت إلى الموجود العيني.
فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة ولا تقبل التفصيل ولا التجزي فإن ذلك محال عليها، فإنها بذاتها في كل موصوف بها كالإنسانية في كل شخص من هذا النوع الخاص لم تتفصل
ولم تتعدد بتعدد الأشخاص ولا برحت معقولة.
وإذا كان الارتباط بين من له وجود عيني وبين من ليس له وجود عيني قد ثبت، وهي نسب عدمية، فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل لأنه على كل حال بينها جامع- وهو الوجود العيني- وهناك فما ثم جامع.
وقد وجد الارتباط بعدم الجامع فبالجامع أقوى وأحق.)
(وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات) من الأمور الكلية، وبين الموجودات العينية برجوع حكم كل منها إلى الآخر، (فكما حكم العلم على من قام به أن يقال فيه)(علم حكم الموصوف به) ، وهو الموجود العيني الذي قام به العلم (على العلم بأنه حادث في حق ) الموصوف (الحادث) كالإنسان (قديم في حق القديم)، وهو الله تعالی.
فصار كل واحد من العلم والموصوف به (محكوم به، ومحكوما عليه) فكذلك الحق مع الأعيان بحكم الحق عليها بما علم منها، وهي تحكم عليه بأن يحكم عليها بما علم منها بلسان الاستعداد الذي مخالفته توجب مخالفة الحكمة ويخل بالوجود الإلهي.
ثم أشار إلى ما يدل على أن نزاهة الحق ووحدته لا تبطلان بالظهور في الحوادث الكثيرة، كما لا تبطل نزاهة الأمور الكلية و وحدتها بانتسابها إلى الموجودات العينية فقال: (ومعلوم أن هذه الأمور الكلية وإن كانت معقولة) أي: موجودة في العقل (فإنها معدومة العين) لكنها مع عدميتها في العين (موجودة الحكم) في الموجودات العينية، (كما هي محكوم عليها) من جهة الموجودات العينية.
(إذا نسبت إلى الموجود العيني فتقبل) الأمور الكلية (الحكم) الخارجي (في الأعيان الموجودة) بأنها قديمة أو حادثة مع نزاهتها عن ذلك في أنفسها.
فكذلك الحق بحسب ظهوره يقبل أحكام المظاهر مع تنزيهه عن كونه محلا للأحكام الحادثة، (ولا تقبل) تلك الأمور الكلية (التفصيل) أي: التكثر بالإفراد إذ لا وجود للأمور الكلية من حيث هي كلية في ضمن الجزئيات، وإنما الموجود منها في الجزئيات الطبيعة من حيث هي، (ولا تقبل) تلك الأمور الكلية (التجزئ) أيضا أي: التكثر بالأجزاء، (فإن كل ذلك محال عليها) أما التفصيل فلما ذكرنا، وأما التجزئ فلوحدتها وبساطتها على أنها منزهة عن الأحكام الخارجية.
فإنها لا تلحق من حيث هي خارجية الأمور المعقولة من حيث هي معقولة، وإن كانت الأمور المعقولة موجودة في الموجودات العينية بحيث إنها طبائع، فإنها أيضا لا تتجزئ .
(فإنها بذاتها) أي: باعتبار كونها طبائع (في كل موصوف بها) لا بطريق التجزئ، ولا بطريق التفصيل (كالإنسانية)، فإنها (في كل شخص شخص من هذا النوع الخاص) الإنساني (لم تتفصل) بالإفراد والأجزاء، وإلا لم يصدق على أحد منها أنه إنسان بل إن فيه شيئا من الإنسانية.
ولذلك (لم تتعدد) الإنسانية من حيث هي كلية (بتعدد الأشخاص) حتى يقال: بأن في كل شخص لحصة من الإنسانية الكلية، فإن ذلك باطل؛ لأنها من حيث أنها كلية لا توجد في الخارج، وذلك أنها (لا برحت معقولة)، وتعدد الأشخاص أمر خارجی، فهكذا تعلق الحق بالخلق لا يوجب تكثره بالإفراد، ولا بالأجزاء ولا يبطل نزاهته عن كونه محل الحوادث أو حالا فيها.
ثم بين الارتباط العام بين كل الموجودات؛ ليتوصل بذلك إلى المقصود وهو الارتباط بين الحق والخلق؛ فقال: (وإذا كان الارتباط بين من له وجود عيني، وبين من ليس له وجود عینی قد ثبت) بظهور كل منهما في الآخر، ثم استشعر سواء لا بأنه كيف يتصور الارتباط بين الأمر العقلي والموجود العيني مع أن الارتباط امر وجودي؛ لأنه نقيض اللا ارتباط فقال: (وهي) الرابطة (نسبة عدمية) ، إما كونها نسبة؛ فلأنها تعلق عقلي محض، وإما أنها عدمية؛ فلأنها من باب الإضافات التي لا وجود لها سيما إذا كان أحد طرفيها عدميا، وكونها نقيض اللا ارتباط لا يقتضي وجودها في الخارج، بل غاية ذلك الوجود الذهني (فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل؛ لأنه) أي: الشأن
(على كل حال)، أي: سواء كان أحدهما علة للآخر أم لا، وسواء كان أحدهما الحق، والآخر الخلق أو كلاهما الخلق بينهما أي: بين كل موجودين (جامع) محقق يرتبط به أحدهما بالآخر (وهو) أي: ذلك الجامع هو (الوجود العيني) لاشتراكه بين كل موجودين.
(وهناك) أي: في الأمور المعقولة والموجودات العينية (فما ثمة) أي: بينهما (جامع) محقق (وقد وجد الارتباط) بين الأمور الكلية، والموجودات العينية بظهور حكم كل منهما، وأثره في الآخر (بعدم الجامع) المحقق بل بالنسبة العدمية والجامع أي: فوجود الارتباط في الموجودات العينية بعضها ببعض مع تحقق (الجامع أقوي وأحق)، وهذا هو الارتباط العام فيما بين كل موجودين.
قال رضى الله عنه : (ولا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه و افتقاره إلى محدث أحدثه لإمكانه لنفسه. فوجوده من غيره، فهو مرتبط به ارتباط افتقار.
ولا بد أن يكون المستند إليه واجب الوجود لذاته غنيا في وجوده بنفسه غير مفتقر، و هو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث فانتسب إليه.
ولما اقتضاه لذاته كان واجبا به.
ولما كان استناده إلى من ظهر عنه لذاته، اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شي ء من اسم و صفة ما عدا الوجوب الذاتي فإن ذلك لا يصح في الحادث و إن كان واجب الوجود و لكن وجوبه بغيره لا بنفسه.)
ثم رجع إلى المقصود، وهو بيان الارتباط بين الحق والخلق، فقال: (ولا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه)؛ لأن المشتق لا يوجد بدون أصله، وكل ما ثبت حدوثه ثبت (افتقاره إلى محدث)؛ لأنه الذي أحدثه بأن أرجح وجوده على عدمه بعد استوائها بالنسبة إليه، (لإمكانه لنفسه) فلا تقتضي نفسه رجحان أحد فطرف الوجود، إنما يترجح بأمر وجودي يرجحه.
وطرف العدم إما بترجیحه إياه، أو بعدم ترجیحه طرف الوجود لا بنفسه، وإذا كان ذلك (فوجوده من غيره)، إذ لا يصح أن يكون الأمر المرجح طرف الوجود ذات الممكن، وإلا كان مرجحا لوجوده قبل وجوده؛ بل لم يكن حينئذ ذاته ذات الممكن؛ بل ذات الواجب.
(فهو) أي: فالمحدث (مرتبط به) أي: بذلك الغير الذي رجح طرف وجوده (ارتباط افتقار) أي: ارتباط هو افتقاره إليه في ترجيح طرف وجوده، فهذا هو الجامع المحقق الذي هو الرابط الخاص إما كونه جامعا؛ فلأنه الوجود العيني الذي في كل واحد منهما، وإما كونه الرابط الخاص، فلأن وجود أحدهما لما لم يكن نفسه لم يكن له بد من اكتسابه ممن له بذاته.
"هذا هو الواقع كما في الإلهيات كالعلم فإنه أمر نسبي، وآثاره وأحكامه ظاهرة في الخارج، فافهم
فإذا فهمت ما ذكرنا عرفت بلا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه فإذا ثبت حدوثه، ثبت افتقاره، وافتقاره إلى محدث أحدثه لإمكانه لنفسه، فوجوده من غيره فهو مرتبط به ارتباط افتقار، ولا بد أن يكون المستند إليه واجب الوجود لذاته، غنيا في وجوده بنفسه غير مفتقر، فإذا ارتبط الأمران كما قلنا، فلا بد من جامع كما ذكرناه. "
فالحاصل أن الرابط هاهنا هو الوجود مع اعتبار عليه أخرى بين الوجوديين، وهو كون أحدهما مفتقرا، والآخر مفتقرا إليه، وإليه أشار بقوله: (ولا بد وأن يكون المستند إليه) أي: الذي استند إليه وجود المحدث بمعنى أنه حصل منه.
(واجب الوجود لذاته)، وإلا افتقر إلى غيره؛ فإن كان أيضا غير واجب افتقر إلى ثالث، وهلم جرا، فإما أن يتسلسل أو ينتهي إلى واجب الوجود لذاته، فإن ذلك بقطع التسلسل المحال؛ لأنه إذا كان واجب الوجود لذاته، كان (غنيا في وجوده بنفسه غير مفتقر) إلى غيره في وجوده وصفاته.
ثم أشار إلى إن واجب الوجود لذاته : هو الذي أفاد الوجود لكل موجود لا لواسطة، وإن لم يلزم التسلسل عند انتهاء الوسائط إلى الواجب بالذات، إذ هو الأولى بذلك لكماله ونقص غيره لإمكانه فغايته أن يكون سبا لإفاضة الواجب الوجود لا مبدأ بنفسه.
فقال: (وهو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث) قريبا كان أو بعيدا، (فانتسب) وجوده (إليه) لا إلى الواسطة المفتقرة إلى الغير، هذا وجه ارتباط المحدث بالواجب على النهج الخاص.
ثم أشار إلى وجه ارتباط الواجب بالمحدث بظهوره فيه، فقال: (ولما كان استناده) أي: الحادث (إلى من ظهر) الحادث (عنه لذاته) بلا واسطة أمر آخر حتى يقال : يحتمل أخذ صورة الواسطة المغايرة لصورة الأصل (اقتضى) استناده إليه لذاته (أن يكون) هذا الحادث (على صورته)؛ لأن صورة الفرع تابعة لصورة الأصل على ما هو العادة المشهورة.
فالحادث شارك الحق في الصورة الوجودية، ولوازمها مشاركة صورة الإنسان الظاهرة في المرأة للإنسان المجازي لها.
وليس المراد الاشتراك في الصورة الحسية بل المراد في الصورة المعنوية، وهو الاشتراك بينهما (فيما ينسب إليه) أي: إلى من ظهر عنه (من كل شيء من اسم) دال على الذات وحده، ومع صفة (وصفة ماعدا) الوصف الذي هو
(الوجوب الذاتي؛ فإن) ظهور (ذلك لا يصح في الحادث)؛ لأن لازمه هو الافتقار الذاتي ينافي هذا الوصف، (وإن كان) الحادث، إنما (واجب الوجود) من حيث إن موجده أوجب له الوجود، وإن وجوده ضروري حال كونه موجودا، وهي الضرورة المسماة بالضرورة لشرط المحمود (لكن وجوبه بغيره لا بنفسه)، فليس هذا الوجوب لوجود الحادث صورة للوجوب الذاتي الذي هو وصف الحق، بل غايته أنه صورة للوجوب من حيث أنه وجوب في الجملة.
قال رضى الله عنه : (ثم لتعلم أنه لما كان الأمر على ما قلناه من ظهوره بصورته، أحالنا تعالى في العلم به على النظر في الحادث وذكر أنه أرانا آياته فيه فاستدللنا بنا عليه.
فما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف إلا الوجوب الخاص الذاتي.
فلما علمناه بنا ومنا نسبنا إليه كل ما نسبناه إلينا.
وبذلك وردت الإخبارات الإلهية على ألسنة التراجم إلينا.
فوصف نفسه لنا بنا: فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا، و إذا شهدنا شهد نفسه.)
(ثم) أي: بعد العلم بالارتباط بين الحق والخلق من الجانبين أعني: افتقار الحادث إلى المحدث، وظهور المحدث بصورته المعنوية في الحادث؛ (ليعلم أنه لما كان الأمر) أي: أمر الارتباط من جانب الحق (علی ما قلناه من ظهوره) أي: الحق (بصورته المعنوية في الحادث.
(أحالنا تعالى في العلم به) أي: بذاته وصفاته (على النظر في الحادث)، فإنه يدل بذاته من حيث افتقاره إلى الواجب على ذات الواجب، وعلى صفاته التي بها تعلقه بالعالم.
ويدل أيضا بصفاته بحيث إنها مظاهر صفات الحق على صفاته كما دل بوجوده من حيث صورة وجوده الحق على وجوده، وذلك أنه (ذكر) في كتابه الكريم (أنه أرانا آیاته) أي: دلائل ذاته وصفاته (فيه) أي: في الحادث حيث قال: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم" [فصلت: 53].
(فاستند بنا) أي: بذواتنا وصفاتنا من حيث حدوثنا، وكوننا على صورته (عليه) أي: على كل واحد من ذاته وصفاته، (وما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف) أي: مظاهره (إلا الوجوب الذاتي) فإنا وإن وصفنا الحق به فلسنا مظاهره لكونه الوصف (الخاص بالحق، وإن علمنا اختصاصه به من افتقارنا إليه مع استحالة التسلسل اللازم على تقدير عدم كونه واجبا بالذات.
(فلما علمناه بنا) أي: بما ظهر فينا من صفاته القابلة للظهور فينا (ومنا) أي: وعلمنا بعض أوصافه كوجوبه الذاتي من افتقارنا للزوم التسلسل على تقدير عدمه (نسبنا إليه كل ما نسبناه إلينا) إما بطريق الحقيقة.
وذلك فيما يليق به مما لا ينافي الوجوب الذاتي كالحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة والسمع والبصر، والكلام أو بطريق المجاز، إما بإرادة الغاية كالرضا والغضب، أو بوجه آخر كالجوع والعطش والمرض، وغير ذلك مما وردت به الأخبار النبوية، كما قال: (وبذلك وردت الأخبار الإلهية على ألسنة التراجم إلينا)، وهم الأنبياء عليهم السلام، مثل: " مرضت فلم تعدني، و جعت فلم تطعمني، وعطشت فلم تسقني"، "الله يستهزئ بهم" [البقرة: 15] "سخر الله منهم" [التوبة: 79]، و"ضحك الله مما فعلنا البارحة"، "وأقرضوا الله قرضا حسنا" [الحديد: 18].
ولا حاجة إلى تأويلات من لا وقوف له على هذا المشرب مع بعدها.
وفي قوله: (إلينا) أي: الواصلة إلينا بإيصال الرسل إشارة إلى جواز إفشائها، وإن كانت شنيعة بحسب الظاهر، لكن يقال للعامة: إنها من المتشابهات التي يجب الإيمان بها، وتفويض تأويلها إلى الله تعالى، وإذا كانت الأخبار الإلهية واردة بذلك على السنة التراجم.
(فوصف) أي: بين الحق (نفسه لنا بنا) أي: بظهوره فينا بصور أسمائه، أو آثارها، أو ما يتعلق بها إذ لولا ذلك لم يكن للحادث أن يعرف القديم مع بعد ما بينهما من المناسبة، ولما ظهر فينا صرنا مرآته، ولما لم يكن لنا من الوجود سوى صورته الظاهرة في أعياننا، ولا ثبوت لها إلا في علمه.
فهو مرآتنا (فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا) بما فيها من جمعية أسراره؛ لأنه مرآتنا، (وإذا شهدنا) الحق (شهد نفسه) أي: صور أسمائه أو أثارها، أو ما يتعلق بها فينا؛ لأنا مرآته بعد ما كان يشهد نفسه في نفسه.
ثم أشار إلى أن الظاهر في الكل، وإن كان واحد فلا يلزم وحدة تلك الصور الظاهرة لذلك الواحد ولا اتفاقها.
بل يجوز تكثرها واختلافها بحسب تكثر المرايا واختلافها، وقدم لذلك التمثيل بالأمور المعقولة مع الموجودات العينية؛ ليتوسل بذلك إلى بيان افتراق صور ظهور الحق في أنفسها، وفيما بينها وبين الحق.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 12:25 pm

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية   الجزء الثالث

قال رضى الله عنه : (ولا نشك أنا كثيرون بالشخص و النوع، و أنا و إن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا فنعلم قطعا أن ثم فارقا به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض، و لولا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد.
فكذلك أيضا، وإن وصفنا بما وصف نفسه من جميع الوجوه فلا بد من فارق، وليس إلا افتقارنا إليه في الوجود وتوقف وجودنا عليه لإمكاننا وغناه عن مثل ما افتقرنا إليه.
فبهذا صح له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم.
فلا تنسب إليه الأولية مع كونه الأول.)
فقال: (ولا نشك أنا) أي: المحدثات (كثيرون بالتشخيص) أي: المحدثات (وإن كنا على حقيقة واحدة) نوعية أو جنسية (فنعلم قطعا أن ثمة) أي: في الواقع بين كل فرد فرد، ونوع نوع (فارقا) من الأعراض المشخصة، أو الفصول المميزة (به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض) و الأنواع بعضها عن بعض لكن لم يتعرض لتميز الأنواع لا يستلزم تميز الأشخاص إياه.
وإنما قال : بعضها عن بعض لئلا يتوهم أن المراد تميز أشخاص نوع عن أشخاص نوع آخر، (ولولا ذلك) الفارق بين الأفراد والأنواع (ما كانت) أي: حصلت (الكثرة في الواحد) النوعي أو الجنسي.
فهذا استدلال بالكثرة في الحقيقة الواحدة على وجود الفارق، وإذا عرفت هذا فيما بين الأشخاص والأنواع التي هي صور حقيقة الواحدة النوعية أو الجنسية مع أنها حقيقة معقولة.
(فكذلك أيضا وإن وصفناه) نحن الحق بسبب ظهوره فينا (بما وصف به نفسه) بحيث يطابق وصفنا إياه، وصفة نفسه (من جميع الوجوه فلا بد من فارق) بين أوصافنا وأوصافه.
(وليس) ذلك الفارق بالنسبة إلى الكل (إلا افتقارنا إليه) أي: (في الوجود)، وذلك الافتقار (توقف وجود)، الماهية من توقف صورة المرأة على محاذاة ذي الصورة إياها.
وذلك التوقف (لإمكاننا، وغناه) أي: الحق (عن مثل ما افتقرنا إليه) أي: في الوجود وإلا كان ظهوره في المظاهر يتوقف، وهي ثبوت المظاهر في نفسها أي: بالفناء الذاتي (صح) أنه لا يجتمع هو، واستمرار الوجود في الماضي بحيث لا ينقطع فيه أصلا؟ لأنه لما لا يفتقر في وجوده إلى غيره فوجوده مقتضى ذاته، فاستمر باستمراره الثابت، وصح له (القدم)، وهي هكذا استمرار الوجود في الماضي بحيث لا ينقطع فيه أصلا بل
(الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم)؛ لأنها بهذا المعنى ماهية للفناء الذاتي ؛ لأن ما افتتح وجوده عن عدم فمقتضي وجوده إما ذاته، ولا يتغير مقتضى الذات أو غيره فيفتقر إلى الغير.
وإنما قيد انتفاء الأولية بهذا المعنى لثبوت الأولية له بمعنی سبق وجوده على الكل، وبمعنی كونه يستند إليه الكل في الابتداء إلا أن الشيخ رضي الله عنه لم يعتبر الأول من المعنيين.
لأن الأول بذلك المعنى لا يقابل الأخر، بل اعتبر المعنى الثاني؛ فقال: (فلا تنسب إليه الأولية) بمعنی: افتتاح الوجود عن عدم (مع كونه الأول) بمعنی: استناد الكل إليه في البداية، أو يعني سبق وجوده على الكل .
إلا أن الشيخ لم یعنی ما ذكرت، لكنه لم يصرح بمنعه لصحته، وقد صرح بمنع كونه أول بمعنی افتتاح الوجود لبطلانه من كل وجه؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
قال رضى الله عنه : (ولهذا قيل فيه الآخر.
فلو كانت أوليته أولية وجود التقييد لم يصح أن يكون الآخر للمقيد، لأنه لا آخر للممكن، لأن الممكنات غير متناهية فلا آخر لها.
و إنما كان آخرا لرجوع الأمر كله إليه بعد نسبة ذلك إلينا، فهو الآخر في عين أوليته، والأول في عين آخريته.
ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن ، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا و الظاهر بشهادتنا.
ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فيخاف غضبه ويرجو رضاه.
ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس.)
(وهذا) أي: ويكون أوليته ليست افتتاح الوجود عن عدم (قيل: فيه الآخر) وآخريته حينئذ ليست بمعنى انتهاء وجوده بعد انتهاء وجود الممكنات بل آخريته بمعنی: بقاء وجوده بعدما فني ما فني إلى الأبد.
ولكن هذا المعنى ليس على الإطلاق، فلذا لم يعتبره الشيخ رضي الله عنه و بمعنى: أنه يستند إليه الكل في النهاية أي: في البقاء ثم استدل على أن أوليته و آخريته ليست بمعنی افتتاح الوجود عن عدم واختنامه به .
بقوله: (فلو كانت أوليته أولية وجود التقييد) أي: بمعنى أن وجوده في الماضي مقيد بزمان مخصوص سابق على زمان افتتاح وجود سائر الموجودات كانت آخريته أيضا أخرية وجود التقييد، وهو أن وجوده في المستقبل مقيد بزمان مخصوص ينتهي عنده، ويأتي ذلك الزمان بعد زمان انقطاع وجود سائر الموجودات لكن كونه آخر بهذا المعنى باطل.
لأنه (لم يصح أن يكون الحق هو الآخر المقيد) أي: للممكن الذي تقيد وجوده بزمان مخصوص ينقطع بانقطاعه؛ لأنه إنما يتحقق عند انقطاع زمان جميع الممكنات لكنه محال؛ (لأنه لا آخر للمكن؛ لأن الممكنات غير متناهية) لاتفاق أهل التحقيق على أن الأمور الأخروية لا تتناهى.
وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على بقاء الأرواح الإنسانية على الأبد، وإذا كانت الممكنات غير متناهية كان زمانا غير منقطع حتى يأتي بعد انقطاعه زمان ينقطع فيه زمان الحق.
وإنما استدل بهذا الدليل؛ ليشير إلى إن الحق على تقدير كونه ممكنا لا يصح في شأنه هذا المعنى؛ فكيف عند كونه واجب الوجود؛ فافهم فإنه مزلة للقدم.
(وإنما كان آخرا لرجوع الأمر) أي: أمر الوجود (كله إليه) أما وجوده، فلأنه لذاته، وأما وجودنا؛ فلأنه ظله وصورته، ولا قيام له بذاته فهو بالحقيقة منسوب إليه (بعد نسبته إلينا)، والظاهر، واعتبر رضي الله عنه في الآخر معنى البقاء بعد فناء ما فني؛ لأنه ليس على الإطلاق، ولا هو مخصوص بالفناء الذاتي على نسب.
وإذا كان أوليته وأخريته بمعنی كونه مستند إليه لكل في الماضي والمستقبل مع أنه لا يجرى عليه الزمان، ولا ماض في حقه، ولا مستقبل؛ (فهو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته) فاتحد فيه الأبد بالأزل، وصدق في حقه السرمد، وهو اتصال الأزل بالأبد.
والحاصل أن الوجوب الذاتي أوجب له الفناء الذاتي، والأزل والقدم، والأزلية بمعنی: كونه مستند إليه للكل في البداية والأخروية بمعنی: كونه مستند إليه في النهاية.
(ثم) أي: بعدما علمت أنه ظهر فينا بصفات لا تختص بالوجوب الذاتي إما بصورها، أو آثارها، أو ما يتعلق بها (ليعلم أن الحق وصف نفسه) أي: بين من أوصافه في كتابة الكريم (أنه ظاهر و باطن) حيث قال: "هو الأول والأخر والظاهر والباطن" [الحديد: 3].
ولما لم يكن لهما اختصاص بالوجوب الذاتي لم يكن بد من ظهورهما في العالم، وإن كان يتوهم أن ظهور الظاهر كتحصيل الحاصل، وأن ظهور الباطن كالجمع بين النقيضين (فأوجد العالم) الكبير والصغير (عالم غيب) الأرواح الإنسانية والملائكة، (وعالم شهادة) الأجسام الفلكية والعنصرية، وأعراضها.
(فندرك الباطن) أي: باطن الحق ( بغيبنا، وندرك الظاهر بشهادتنا)، وهذا هو لظهورها بالصورة، ولتعلم أيضا أنه (وصف نفسه بالرضا والغضب) بحيث قال: "رضي الله عنهم ورضوا عنه" [المجادلة:22].
"لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" [الفتح: 18].
وقال: "وغضب الله عليه ولعنه" [النساء: 93]، وقال: "فعليهم غضب من الله" [النحل: 16].
[right]ولما لم يكن لهما اختصاص بالوجوب الذاتي لم يكن لهما بد من الظهور وبصورهما وآثارهما أو ما يتعلق بآثارهما (فأوجد العالم) لظهور ما يتعلق بآثارهما (ذا خوف ورجاء فنخاف) أثار (غضبه، ونرجو) أثر (رضاه) ولم يتعرض لظهور صورهما وآثارهما لوضوحه.

ولتعلم أيضا أنه (وصف نفسه بأنه جميل ذو جلال) والجمال من صفات اللطف، والجلال من صفات القهر ولما لم يكن لهما اختصاص بالوجوب الذاتي لم يكن بد من ظهورهما بصورهما وآثارهما أو متعلقهما، (فأوجدنا) لظهور آثارهما (على هيبة) من الحلال (وأنس) من الجمال قدم الجميل أولا؛ لأنه أقرب إلينا؛ لأن دنو الحق من الخلق به، ثم عكس في مثال يشعر بأصالة الجلال.

قال رضى الله عنه : (وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به.
فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهنا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته.
فالعالم شهادة والخليفة غيب، ولذا تحجب السلطان.
ووصف الحق نفسه بالحجب الظلمانية وهي الأجسام الطبيعية، والنورية وهي الأرواح اللطيفة.
فالعالم بين كثيف ولطيف، وهو عين الحجاب على نفسه، فلا يدرك الحق إدراكه نفسه.
فلا يزال في حجاب لا يرفع مع علمه بأنه متميز عن موجده بافتقاره إليه.
ولكن لا حظ له في الوجوب الذاتي الذي لوجود الحق، فلا يدركه أبدا.
فلا يزال الحق من هذه الحقيقة غير معلوم علم ذوق وشهود، لأنه لا قدم للحادث في ذلك.
فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفا.
ولهذا قال لإبليس: «ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي»؟
وما هو إلا عين جمعه بين الصورتين: صورة العالم وصورة الحق، وهما يدا الحق.
وإبليس جزء من العالم لم تحصل له هذه الجمعية.)
(وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالی) أي: يوصف به من الأوصاف التي تتضمن النسب، (و یسمی به) من الأسماء التي لا تتضمن النسب، لكن ما لا يكون من خواص الوجوب الذاتي لا بد وأن يظهر فينا بصورته أو أثره ، أو ما يتعلق به ولما كانت هذه الأسماء والصفات متعلقة بالعوالم التي لا بد من التقابل فيها لتكون أزواجا، ويبقى الحق فردا بلا زوج.
كما أشار إليه ولك بقوله: "سبحان الذي خلق الأزواج كلها" [يس: 36]، لم يكن من التقابل في الأسماء والصفات، وكان الحق هو الموجد لها بواسطة تلك الأسماء والصفات، فهي له ?الأيدي.
(فعبر عن هاتين الصفتين) المتقابلتين كالظهور، والبطون، والرضا، والغضب، والجمال، والجلال وغير ذلك مما لا يختص بالوجوب الذاتي )باليدين( استعارة من يدي الإنسان اللتين هما فعله مع تخالفهما في الوضع، والتأثير كتخالف الأسماء الإلهية في المفهوم، والتأثر.
ووصفهما بقوله: (اللتين توجهتا منه على خلق الإنسان الكامل) ليشير إلى أن ذلك تفسير لقوله تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" [ص: 75].
وفيه على القول من فسرهما بالإرادة والقدرة إذ لا اختصاص لهما على ذلك التقدير بأدم؛ فلا يكون حجة على إبليس؛ لأنه تعالى إنما احتج بذلك عليه (لكونه الجامع لحقائق العالم) أي: كلياته (ومفرداته) أي: جزئياته وحقائق العالم ومفرداته متقابلة في الأسماء المتوجهة إليه أيضا متقابلة، ولكنها مع تقابلها اجتمعت فيه فصارت كالمتحدة بخلافها في العالم الكبير.
"الكلام تعليل المتوجه باليدين؛ لأن الإنسان الكامل يجمع حقائق العالم، وهي الأمور الكلية المعقولة التي لها الآثار، والأحكام على مفردات الأعيان الخارجية؛ لأن أحدية جمع الجميع علما وعينا.
قال رضي الله عنه في «الفتوحات»:  لما كان المقصود من العالم الإنسان الكامل كان من العالم أيضا الإنسان الحيوان المشبه للكامل في النشأة الطبيعية وكانت الحقائق التي جمعها الإنسان متبددة في العالم فناداها الحق من جميع العالم فاجتمعت فكان من جمعيتها الإنسان فهو خزانتها فوجوه العالم مصروفة إلى هذه الخزانة الإنسانية لترى ما ظهر عن نداء الحق بجميع هذه الحقائق فرأت صورة منتصبة القامة مستقيمة الحركة معينة الجهات وما رأى أحد من العالم مثل هذه الصورة الإنسانية ومن ذلك الوقت تصورت الأرواح النارية والملائكة في صورة الإنسان وهو قوله تعالى :"فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا"وقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا" أهـ."
فلذلك قال: (فالعالم) أي: الكبير من حيث اشتماله على صور الأسماء المتقابلة متفرقة منفصلة (شهادة)؛ لأن العلم التفصيلي يشاهد فيه أجزاء المعلوم، وصفاته واحدة بعد واحدة .
والخليفة من حيث اشتماله على صور الأسماء المتقابلة مجتمعة محملة غيب إذ لا يشاهد في العالم الإجمالي أجزاء المعلوم، ولا صفاته واحدة بعد واحدة؛ ولهذا أي: هو لأجل أن (الخليفة) الحقيقي (غيب يحجب) عن نظر العامة (السلطان) الذي هو: الخليفة الظاهر لتكون الصورة على نهج الأصل، ولهذا لا يعرف الخليفة الحقيقي من لم يبلغ مرتبته إلا باعتبار ظاهر صورته.
وإنما كان الخليفة غيبا ليناسب به الحق، إذ (وصف الحق نفسه بالحجب الظلمانية، وهي الأجسام العنصرية)، قيد الأجسام بها لكمال معنى الحجابية فيها؛ لأن تبدل الصور فيها يدل دلالة واضحة على أن لها مادة استترت بصورتها، فلما صار بعضها حجابا على بعضها فهي أولى بكونها حجابا على غيرها والسماوات السبع عنده من الأجسام العنصرية بخلاف تلك المنازل وتلك البروج والعرش والكرسي.
ثم وصفها بقوله: (الكثيفة)؛ لأن الكثافة تدل على الظلمة ووصف نفسه أيضا بالحجب النورانية: (وهي الأرواح اللطيفة) فإنها لما كانت أنوارا قريبة منا حجبت ما وراءها من الأنوار عن العقل واللطافة تدل على نورانیتها.
وهذا إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" .
فجعل رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم بمنزلة قول الله تعالى؛ لأنه لا "ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" [النجم: 3، 4].
 ومعنی احتجاب حق بها أنه تعالى أظهر صورها وآثارها، وأخفى من ورائها أفعاله وصفاته وأسماءه، وهذه الحجب لا بد من تحققها في حق الخليفة أيضا؛ فإنه يتصرف أيضا بهذه الأجسام والأرواح كأنها جسمه وقواه؛ فهو محتجب وراءها احتجاب روح الإنسان وراء أعضائه وقواه؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
(فالعالم بين كثيف ولطيف) وإذا كانت الكثافة ظلمة واللطافة نورا، وهما حجابان فالعالم كله حجاب لا متردد بطريق الحصر بين كثيف هي أجسام العالم كله عنصرا أو غيره، وإن كان بعضه اللطف من بعض ولطيف هي أرواحه.
وهذا الحجاب ليس بالنسبة إلى الحق يمنعه من إدراك ما في العالم أو ما وراءه، لو فرض بل (وهو عين الحجاب على نفسه) يمنعه من إدراك الحق الإدراك الكامل، ولا ينبغي أن يعرض بينه وبين الحق حجاب آخر، كما هو المتعارف في الحجب الظاهرة من الأجسام، (فلا يدرك العالم الحق مثل إدراك نفسه)؛ لأنه إنما يتم إدرا?ه برفع الحجاب، وهو نفسه فإذا رفع نفسه فمن يدرك الحق منه.
(فلا يزال) العالم في (حجاب) عن الحق (لا يرفع) عنه؛ لأنه ما بقي فهو في حجاب نفسه، وإذا رفع فهو في حجاب العدم هذا (مع) حجاب آخر لمن يعلم منه هو حجاب (علمه بأنه متميز عن موجده)، والتمييز مباينة توجب البعد الموجب للجهل، مع أن ذلك التميز (بافتقاره إليه)، فلا يدركه ما لم يرتفع عنه حجاب افتقاره إليه بالوجوب الذاتي.
(ولكن لاحظ له في الوجوب الذاتي الذي لوجود الحق)، وإن فني وجوده في وجود الحق، وبقي به (فلا يدركه أبدا) لا حال الفناء والبقاء، ولا بدونهما.
(فلا يزال الحق من هذه الحقيقة)  أي: من هذا الوجه الذي هو الوجوب الذاتي (غير معلوم علم ذوق وشهود) بل غايته أن يعلم بعلم التصور الذي هو حجاب، وإن علم بالذوق والشهود من وجه آخر كان الفناء، والبقاء لكن لا يمكن من هذا الوجه أعني: الوجوب الذاتي.
(لأنه لا قدم للحادث في ذلك) الوجه، ولا يعرف أحد ذوقا وشهودا ما ليس فيه؛ لوجوب اتصاف الذائق بصفة المذوق، وانتفاش محل الشهود من الشاهد بصورة المشهود.
ولما كان العالم حجابا عن الحق يمنع عن ظهوره بأفعاله الدالة على أسمائه ، وصفاته الدالة على ذاته، ولا فاعل غيره فهو يفعل بالعالم أجسامه، وأرواحه في الظاهر كما يفعل بأسمائه وصفاته في الباطن.
فهما أيضا يدان للحق بينهما تقابل مثل التقابل بين الأسماء الإلهية، والحقائق الكونية وليده من الأسماء المتقابلة، لما توجهت على خلقة أدم صار جامعا الحقائق العالم المتقابلة ومفردات.
كذلك فقد اجتمعت فيه هاتان اليدان أيضا، وهما أشل مما تقدم، فحمل القرآن عليه أولى (فما جمع) ابنه (لآدم بين يديه إلا تشریفا) أي: لأعضاء الخلافة التي هي غاية الشرف؛ لأنه ناسب بهما الحق، والخلق فصار مستعدا؛ لأن يستفيض من الأول، ويفيض على الثاني.
ولهذا التشريف فضل آدم على التحمل، وصار مستحقا لسجود الملائكة له حتى الزم حجبة الحق على إبليس حيث قال لإبليس: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " [ص: 75].
(وما هو) أي: التشريف الملزم حجة الحق على إبليس (إلا عين جمعه بين الصورتين صورة العالم، وصورة الحق)؛ ليناسبهما فيستحق خلافة الحق على الخلق.
(وهما) أي: الصورتان (يدا الحق)، إما صورة الحق: وهي أسماؤه فهي المؤثرة في الباطن، وإما صورة العالم؛ فهي المؤثرة في الظاهر حتى أن المنفعل منه فاعل للقبول، وهو نوع من التأثير والتقابل بینهما أتم؛ لشمولهما تقابل الأسماء الإلهية، والحقائق الكونية مع اعتبار تقابل آخر بين تلك الأسماء والحقائق.
(وإبليس جزء من العالم) فليس له من الفضيلة ما يتمسك بها من الإباءة عن السجود، ولم يطلع على هذه الجمعية.
إذ (لم تحصل له هذه الجمعية)، فاعتبر نفسه جزءا من العالم وهو النار، وآخر لأدم، وهو التراب؛ فقال: "خلقتني من نار وخلقته من طين" [ص: 76].

قال رضى الله عنه : (ولهذا كان آدم خليفة فإن لم يكن ظاهرا بصورة من استخلفه فيما استخلفه فيه فما هو خليفة، وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا التي استخلف عليها- لأن استنادها إليه فلا بد أن يقوم بجميع ما تحتاج إليه- وإلا فليس بخليفة عليهم.
فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل، فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم و صوره و أنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى.)
(وهذا) أي: ولأجل تشریف الحق آدم بالجمع بين يديه اللتين هما صورتا الحق والخلق (كان آدم خليفة) للحق على الخلق.
ثم بين كون الخلافة منوطة بذلك بقوله: (فإن لم يكن) أي: آدم (ظاهرا بصورة من استخلفه)، وهو الحق تعالى لا في كل ما في الحق حتى الوجوب الذاتي.
بل (فيما استخلفه فيه) أي: في الأمر الذي جعله خليفة فيه، وهو أن يتحقق بالأسماء الظاهرة في العالم، وسائر ما يقبل الظهور من الأسماء؛ ليستفيض بذلك من الحق، فيفيض إلى الخلق (فما هو خليفة)، إذ لا يقوم مقام الأصل بدونه، كما لا تقوم المرأة مقام الشمس في إفاضة النور على الجدار بدون أن يتصور بصورة الشمس، هذا بيان وجوب ظهوره بصورة الأصل.
وأما بیان وجوب ظهوره بصورة من استخلف عليه؛ فهو قوله: (وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا التي استخلف عليها) بوجود حقائقها فيه الطالبة لكمالاتها مع قصور مناسبتها مع الحق تعالى، فما هو خليفة عليها، حذف هذا الجواب بقرينة ما بعدها لأنه لولا تلك الحقائق فيه، لم يستحق أو الفيض الذي يفيض عليها؛ لأن الفيض منوط بالقابل، وتلك الحقائق هي القابلة.
ولكنها قاصرة عن تحصيل ذلك الفيض بأنفسها؛ لأنها غير مقصودة بالذات فتطلب فيضها من الخليفة؛ (لأن استنادها إليه) من حيث هو مقصود بالذات.
وهي مقصودة لأجله، وهو كامل المناسبة مع الحق، ومعها أيضا لما فيه من الجمعية مع شائبة التفرقة من جهة ما فيه من الإجمال بعد التفصيل؛ ولذلك اختص ?ل قوة منه بأمر خاص لا يوجد في غيره، وإذا كان استناد الكل إليه في أنواع الفيض المختلفة التي يختص كل نوع بحقيقة تطلبه،(فلا بد أن يقوم بجميع ما تحتاج) الرعايا (إليه) بتحقق حقائقها فيه حتى يستفيض ما يستحق كل حقيقة منها، ثم يفيض على كل منها ما يستحق.
(وإلا) أي: وإن لم يقم بجميع ما تحتاج إليه الرعايا (فليس بخليفة عليهم)، بل إنما تتصور خلافته على من يقوم بحاجته دون غيره؛ لكنه يكون قاصرا على ذلك التقدير؛ فلا تتم مناسبته مع الحق، فإن استفاض بتلك المناسبة القاصرة فحقائق العالم كذلك فلا يحتاج
إلى الخليفة، وإذا كان كذلك (فما صحت الخلافة) الموصلة للفيض الإلهي (إلا للإنسان الكامل) الجامع لما تحتاج إليه الرعايا، وما تشتمل عليه خزائن الأسماء الإلهية.
وإذا كانت الخلافة تتم بمناسبة الطرفين، ومناسبة الحق تتم بالجمعية، ومناسبة الخلق بالتفرقة، جمع فيه بين الصورتين مع التفرقة بينهما.
(فأنشأ صورته الظاهرة) أي: الجسمية (من حقائق العالم)، أي: كلياته وصوره لا من حيث هي صور للأسماء الإلهية، فإن الأجسام هي أجسام ليست صورا للأسماء الإلهية.
إذ ليس لها صورة حسية، وإن كانت صورا لها من حيث الوجود، وبعض المعاني القائمة بها، فالصورة الظاهرة للإنسان من حقائق العالم، (وصوره) من حيث هي آثار الأسماء الإلهية، أو ما يتعلق بها، وأخذ الإنسان صور الأسماء الإلهية ليس بواسطة العالم بل بالذات.
(وأنشأ صورته الباطنة) الروحية، وما يفيض منها من القوى المدركة، والمحركة (على صورته تعالی)، وهي الصورة المعنوية، وفيها الجمعية إذ جعله حيا، عالما، مريدا، قادرا، سميعا بصيرا، مت?لما
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الرابع .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 12:27 pm

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الرابع .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الرابع

قال رضى الله عنه : (و لذلك قال فيه «كنت سمعه و بصره» ما قال كنت عينه و أذنه: ففرق بين الصورتين.
و هكذا هو في كل موجود من العالم بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود.
و لكن ليس لأحد مجموع ما للخليفة، فما فاز إلا بالمجموع.
و لو لا سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان للعالم وجود، كما أنه لو لا تلك الحقائق المعقولة الكلية ما ظهر حكم في الموجودات العينية.)
(ولذلك) أي: ولأجل اختصاص الباطن بصورة الحق (قال فيه: «كنت سمعه وبصره») يعني سمعه و بصره في الكمال بحيث يسمع حاجات الكل، ویری استحقاقاتهم كأنه عين سمعي، وبصري اللذين ليس غيري، فكأني سمعه وبصره، فنسب صورة سمعه وبصره اللذين هما من الصورة الباطنة إلى ذاته؛ لكون صورته تعالى معنوية.
(وما قال: "كنت عينه وأذنه") اللذين هما من الصور الظاهرة (ففرق بين الصورتين) اللتين جمعهما في أدم بنسبة إحداهما إلى ذاته دون الأخرى؛ ليحصل فيه مع الجمعية الافتراق؛ ليناسب الحق والخلق جميعا، وهذا كالصريح بأن الأجسام من حيث هي أجسام ليست صورة الحق، وإن كانت من حيث الوجود، وبعض المعاني القائمة بها صور الحق وأسمائه، كما أشار إليه بقوله: (وهكذا) أي: كما ظهر الحق في آدم بصورته المعنوية كذا (هو) ظاهر بصورته المعنوية من جهة الذات والأسماء في كل موجود من العالم الكبير (بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود)، وإن لم تكن أجسامه وأعراضها المحسوسة صورا لذاته وأسمائه، بل باعتبار وجودها و بعض المعاني القائمة بها، لكن تلك الصور الإلهية فيها لا تكفي في استفاضة الفيض؛ لأنه منوط بالجمعية، وليست لغير الإنسان الكامل.
وإليه الإشارة بقوله: (ولكن ليس لأحد) من العالم (مجموع ما للخليفة) من صورة الحق ذاته وأسمائه، وإذا كان جميع ما في العالم مع اشتماله على صورة الحق، ومناسبته إياه بها لا يصلح للاستفاضة، مع أنه لا بد من الفيض؛ لعموم الجود الإلهي، ولا بد من المناسبة التامة التي للخليفة الذي هو الإنسان الكامل.
(فما فاز) برتبة الخلافة على الكل (إلا بالمجموع)، إذ لو جاز استفاضة من كمل صورة اسم بذاته، لجاز الفيض بالأصالة على ما ليس بمقصود بالذات.
واستدل على أن الحق ظاهر بصورته المعنوية في كل موجود من حيث الوجود. ومن حيث بعض المعاني القائمة به بقوله: (فلولا سريان الحق في الموجودات) أي: سريان إشراق نوره على بواطن الموجودات.
بحيث (يظهر فيها بالصورة) سريان نور الشمس في المرآة بظهور صورتها فيها من غير أن ينفصل من الشمس شيء، ولا يحل منه في المرأة (لما كان للعالم وجود)، إذ أصله العدم.
وهو وإن كان ممكنا يستوي الوجود والعدم بالنسبة إليه، فيكفي عدم ترجيح الوجود مرجحا لعدمه، كما أنه لا نور في المرأة بدون إشراق نور الشمس عليها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: "الله نور السموات والأرض" [النور: 35].
وهذا ما قاله الإمام حجة الإسلام الغزالي في «مشكاة الأنوار وحقيقة الحقائق»، ومن هاهنا ترقی العارفون من حضيض المجاز إلى بقاع الحقيقة، واستكملوا معارجهم فرأوا بالمشاهدة العينية أن ليس في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى، وأن" كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88].
لا أنه يصير هالك في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلا وأبدا، ولا يتصور إلآ كذلك.
فإن كل شيء سواه إذا اعتبرت ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض، وإذا اعتبرت من الوجه الذي سرى الوجود إليها من الأول الأحق، وأي موجود إلا في ذاته بل من الوجه الذي يلي موجده، فيكون الموجود وجه الله فقط.
ثم شبه ظهور الحق في الموجودات بظهور الحقائق الكلية في الموجودات العينية .
إشعارا بأنه لا يستلزم الحلول والاتحاد، وأن وجود الموجودات متوقف على وجوده تعالى وظهوره فيها توقف أحكام الموجودات العينية على تلك الحقائق الكلية.
فقال: (كما أنه لولا تلك الحقائق المعقولة) كالحياة والعلم (ما ظهر حكم في الموجودات العينية) لامتناع الحكم على شيء بأنه حي عالم بدون تصور الحياة والعلم.
قال رضى الله عنه : (و من هذه الحقيقة كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده.
فالكل مفتقر ما الكل مستغن ... هذا هو الحق قد قلناه لا نكني
فإن ذكرت غنيا لا افتقار به ... فقد علمت الذي بقولنا نعني
فالكل بالكل مربوط فليس له ... عنه انفصال خذوا ما قلته عني
فقد علمت حكمة نشأة آدم أعني صورته الظاهرة.
و قد علمت نشأة روح آدم أعني صورته الباطنة، فهو الحق الخلق.
و قد علمت نشأة رتبته و هي المجموع الذي به استحق الخلافة.
فآدم هو النفس الواحدة التي خلق منها هذا النوع الإنساني.
و هو قوله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا و نساء».
فقوله اتقوا ربكم اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم، و اجعلوا ما بطن منكم، و هو ربكم،
وقاية لكم: فإن الأمر ذم و حمد: فكونوا وقايته في الذم و اجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين.
ثم إنه سبحانه و تعالى أطلعه على ما أودع فيه و جعل ذلك في قبضتيه:
القبضة الواحدة فيها العالم، و القبضة الأخرى فيها آدم و بنوه.
و بين مراتبهم فيه.)
فقال: (ومن هذه الحقيقة) (')، أي: سريان إشراق نور الحق في الموجودات بالصورة التحقق بالوجود مع إمكانها، (كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده) سواء فرض قديما بالزمان أو حادثا.
"حقيقة الافتقار من العالم إلى الحق تعالى الموجد في وجوده:
أي لو لم يكن الحق سبحانه الموجد ساريا في العالم ما كان العالم , وإذا ارتفع المدد، ينعدم العالم ويرجع إلى أصله، فالعالم محتاج إلى الحق سبحانه الموجد دائما أبدا .
والحق سبحانه لا تظهر أحكامه إلا في العالم، كما أن الرعية تحتاج إلى السلطان، والسلطان ما يظهر سلطانه إلا على الرعية فلا يكون السلطان إلا بالرعية.
إن الرب بلا مربوب لا يعقل، كما أن المربوب بلا رب لا يكن، فافهم."
فالعالم بهذا الافتقار لا يتحد بالحق لغناه في ذلك، وإن افتقر في الظهور بالمظاهر إليه لكنه مستغن عن ذلك الظهور إذ لا كمال له فيه بخلاف العالم، فإن افتقاره إلى الحق في تحصيل الكمال له.
وبقوله: "في وجوده"  قد أشار إلى افتقار الحق إليه في الظهور لكنه لم يصرح به الآن؛ لأنه كالافتقار من حيث استغناؤه عن ذلك الظهور، لكنه أشار إليه بقوله: (فالكل) أي: كل واحد من الخلق والحق في الوجود والظهور (مفتقر) إلى الأخر.
ولما كان نسبة الافتقار إلى الحق شنيعا عند العامة أكده بقوله: (ما الكل مستغن) ضرورة أن الربوبية تفتقر إلى المربوب و الخالق إلى الخلق والرازق إلى المرزوق لكن هذا الافتقار بحسب الظهور عند إرادته مع الاستغناء عنه فهو كالضرورة لشرط المحمول في قولنا: زيد قائم بالضرورة مادام قائما، وقد دخل في هذا افتقار الموجودات العينية إلى الحقائق الكلية وافتقارها إلى الموجودات.
ثم قال: (هذا هو الحق قد قلناه لا نكني)، أي: ليس نسبة الافتقار إلى الحق بطريق المجاز بناء على أن الافتقار بحسب الظهور، ليس بافتقار حقيقي للاستغناء عن ذلك الظهور، فنسبته إليه بطريق المجاز.
فقال: هذا ليس بطريق المجاز؛ لأن كماله يقتضي تكميل يستحق التكميل فهو افتقار حقيقي في مقتضى الكمال الوجودي، وإن لم يتوقف عليه شيء من كمالاته الذاتية والأسمائية من حيث تعلق الأسماء بالذات.
ثم قال: (فإن ذكرت غنيا لا افتقار به) وهو الذات الإلهية والأسماء من حيث نسبتها إلى الذات واستدللت عليه بقوله تعالى: "والله الغنى وأن الفقراء" [محمد:38]، وإجماع الملك على أنه الغني المطلق؛ فلا يرد علينا، (فقد علمت الذي بقولنا نعني) هو افتقار الحق في ظهور ذاته وصفاته في المظاهر لا في وجودها وكمالاتها في أنفسها.
ثم صح بالمقصود من اعتبار هذا الافتقار، فقال: (فالكل بالكل مرتبط) ارتباطا موجبا لقرب كل واحد من الأخر، (فليس له) أي: لكل واحد (عنه) أي: عن الأخر
(انفصال) أي: استغناء وعدم ارتباط.
(خذوا ما قلته عني) إن لم يكن لكم استقلال ذوق بذلك، فلا بأس لمن لا يتم له الذوق في أمران يقلد من علم كماله منه إلى أن يكمل له الذوق فيه فقلدوني.
ولا تقلدوا من خالفني بمنع القول بالافتقار من جانب الحق مطلقا حتى في الظهور في المظاهر مع أنه لا ضرر فيه.
وإن الافتقار الممتنع في حقه تعالى هو ما ينافي الوجوب الذاتي، وهو الافتقار في الوجود والكمالات الذاتية.
وأما الكمالات الظهورية؛ فلا ينافي في الافتقار فيها ذلك، وإذا علمت أن الخليفة لا به وإن يكون جامعا بين صورتي الحق والخلق مع لزوم الاجتماع المطلق في إحداهما وشوب التفرقة في الأخرى ليناسب بذلك الحق والخلق.
(فقد علمت حكمة نشأة جسد آدم أعني: صورته الظاهرة)، وهي الجسم وأعراضها المحسوسة، ولإدخالها قيد الجسد بالصورة الظاهرة لئلا يتوهم أن المراد نفس الجسم لا غير، وتلك الحكمة استعداده لإفاضة الكمالات على الخلق، وكونه خليفة عليهم، (وقد علمت) حكمة (نشأة روح آدم أعني صورته الباطنة) قيد الروح بها ليشير إلى أنه ليس من قبل الأجسام.
وليدخل فيه القوى إذ لا يقال لها روح، لكنها داخلة في الصورة الباطنة والحكمة في ذلك استعداده للاستفاضة من الحق بما فيه من الجمعية الأسمائية، وإذا كان هو المفيض والمستفيض بالصورتين المذكورين؛
(فهو الحق الخلق) أي: تام النسبة بهما لكمال صورهما فيه مع فعلهما فكأنه عينهما، فلذلك صح كونه خليفة منه عليهم.
وفيه إشارة إلى أنه، وإن بلغ بقدر الطاقة البشرية؛ فلا بد وأن يصدق عليه لفظ الخلق إذ لا يصير واجب الوجود لكنه قد يطلق عليه في التسمية الصوفية لفظ الحق باعتبار كمال ظهور صورته فيه.
كما نقل عن الحلاج من قوله: أنا الحق .
وعن أبي يزيد أنه: سبحاني ما أعظم شأني، وحاشا هما من دعوى الربوبية لأنفسهما، فإن ذلك ظاهر الاستحالة؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
ثم أشار إلى أنه وإن كان فيه الصورتان اللتان هما الإفاضة والاستفاضة وبينهما اجتماع من وجه، وافتراق من وجه، وخلافته من حيث الاجتماع لا الافتراق.
فقال: (وقد علمت نشأة رتبته، وهي المجموع الذي به استحق الخلافة).
وفيه الإشارة إلى أن الإنسان إنما يصير إنسانا عند صيرورته خليفة للحق على خلقه يتصرف بباطنه على بواطنهم وبظاهره على ظواهرهم حتى يصير بحيث يتصرف بمجموعه في مجموعهم.
وإلى أن الخليفة من لا يحجبه الحق عن الخلق، ولا الخلق عن الحق، وإذا كانت الخلافة بالمجموعية، والمجموعية تقتضي وحدة وكثرة وهما وحدة الهيئة المجموعية، وكثرة تفصيل الأجزاء الداخلة في تلك الهيئة.
(فآدم) من حيث ما فيه من وحدة الهيئة المجموعية "من حيث الحقيقة لها أحدية الجمع وبها استحق الخلافة، فإنها من مقام برزخي التي خلق منها هذا النوع الإنساني؛ فإن هذا النوع الإنساني من حيث إنه نوع كالعقل الأول، وجد آدم من حيث إنه خليفة فبث منهما أفرادا كثيرة ذكورا وإناثا، فكما ظهرت من الذات المرتبة، ومنها ظهرت صور العالم مؤثرات ومتأثرات، كذلك آدم الخليفة ذات ومرتبة، وبث منهما أفرادا كثيرة ذكورا وإناثا .
وهو قوله: أي ما قلنا: إن الأصل نفس واحدة، وخلق منها كثيرا."
(هو النفس الواحدة ) ومن حيث ما فيه من الكثرة بنفسه هي (التي خلق منها هذا النوع الإنساني) أي: إفراده كلها، وكانت داخلة في هيئة المجموعية.
وهذا (وهو معنى قوله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا ونساء " [النساء: 1])، من حيث إن نفسه كانت مشتملة على صورتين صورة الحق وهي الفاعلة، وصورة الخلق وهي القابلة، والزوج هي الصورة القابلة الكلية، "وبث منهما" من حيث اشتمال صورته على الأسماء الكثيرة الإلهية والحقائق الكثيرة الكونية، "رجالأ كثيرا ونساء"، فالرجال مظاهر الأسماء الإلهية من حيث الفاعلية، والنساء مظاهر الحقائق الكونية من حيث القابلية.
وإن كان كل منهما مظاهر الأسماء الإلهية والحقائق الكونية جميعا من جهات أخر والتقوى من الوقاية، وهي لإطلاقها وقاية من الظاهر الذي هو مجموع الصورتين من حيث أن الصورة في المرآة لا بد وأن تكون ظاهرة.
وإن كانت الأمر باطن ظهر في مرآة معنوية، وإن كان في تلك الصورة أيضا خفاء كالأرواح للباطن المطلق الذي هو الحق ووقاية من الباطن المذكور للظاهر الذي هو مجموع الصورتين، وهو الإنسان، وللظاهر الذي هو العالم.
(فقوله: "اتقوا ربكم" اجعلوا ما ظهر منكم) من مجموع الصورتين أو من سورة العالم (وقاية لربكم) بنسبة النقائض إلى ذلك الظاهر، (واجعلوا ما بطن منكم) أي: ما ترجع إليه صورتكم الباطنة، (وهو ربكم) الذي فاض منه الصورة الروحانية عليكم وعلى العالم (وقاية لكم) بنسبة الكمالات إلى ذلك الباطن المطلق الذي ترجع إليه صورتكم الباطنة.
ثم علل ذلك بقوله: (فإن الأمر) أي: الأمر ما ينسب إليكم من النقائض والكمالات، (ذم وحمد فكونوا وقايته في الذم)، فانسبوه إلى أنفسكم لا إليه، (واجعلوا وقايتكم في الحمد)، فانسبوه إليه لا إلى أنفسكم.
(تكونوا أدباء) أي: مراعين للأدب بنسبة الكمال إلى الرب، والنقص إلى أنفسكم (عالمين) بحقائق الأشياء، فإن الحقيقة الإلهية تقتضي الكمالات، والحقيقة الكونية تقتضي النقائص.
ولذلك ورد: "من وجد خيرا؛ فليحمد الله، ومن وجد الآخر، فلا يلومن إلا نفسه".
ولا شك أن نسبة خلق الخنزير والقاذورات إلى الله تعالی سوء أدب؛ فكيف لا يسوء في نسبة قبائح أفعال الإنسان إليه؟
وإن كان الكل مخلوقا له تعالى، لكنه إنما خلقه بحسب اقتضاء أعيان الحوادث ذلك، (ثم) أي: بعد إن جمع الله في آدم بين يديه فجعله جامگا الصورة الحق والخلق على سبيل الاجتماع والتفرقة جامعا بينهما في حقه (إنه تعالى أطلعه على ما أودع فيه) ذلك الاطلاع مقصود للحق بالذات، كما أشار إليه بقوله: "فأحببت أن أعرف".
ولا يتأتى قبل ذلك إذ لا يعلم أحد ما ليس فيه ولتتأتى منه الاستفاضة والإفاضة مع الشعور كالأصل ولذلك (جعل ذلك) أي: ما أودع فيه (في قبضتيه) أي: قبضتي آدم وإنما جعلهما قبضتين لاعتبار التفرقة في أحدهما والجمعية (في الأخرى القبضة الأخرى فيها آدم وبنوه) يتصرف فيهم بقواه وقوتهم بالجمع، وإن كانت جمعيته لا تخلوا عن التفرقة وتفرقته عن الجمعية.
ولما توقف التصرف على النهج الأكمل فيهم على الشعور باستعداداتهم، واستحقاقاتهم (بین مراتبهم فيه)
أي: في أدم بإخراج الذر من ظهره ثم الذر من كل ذر خرج منه إلى آخر ما يكون من أولاده؛ فأعطاها الحياة بإفاضة نور الروح عليها، ثم أنطقهم ببلی . ثم رد الذر إلى ظهر آدم والأرواح إلى مقارها ليعرف آدم ما يستحق كل من أولاده.
فلذلك ورد: "أنه يقال له يوم القيامة: أخرج بعث النار، فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين".
قال رضى الله عنه : (وإنما يعرف ذلك منهم لما رأي في أول فطرتهم، وجعل ذلك حجة عليهم أيضا، إذا كشف عنهم الحجب فيتذكرون ما جرى عليهم؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم. .
قال رضي الله عنه: ولما أطلعني الله سبحانه و تعالى في سري على ما أودع في هذا الإمام الوالد الأكبر.
جعلت في هذا الكتاب منه ما حد لي لا ما وقفت عليه، فإن ذلك لا يسعه كتاب و لا العالم الموجود الآن.
فمما شهدته مما نودعه في هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حكمة إلهية في كلمة آدمية، و هو هذا الباب.
ثم حكمة نفثية في كلمة شيئية.
ثم حكمة سبوحية في كلمة نوحية.
ثم حكمة قدوسية في كلمة إدريسية.
ثم حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية.
ثم حكمة حقية في كلمة إسحاقية.
ثم حكمة علية في كلمة إسماعيلية.
ثم حكمة روحية في كلمة يعقوبية.
ثم حكمة نورية في كلمة يوسفية.
ثم حكمة أحدية في كلمة هودية.
ثم حكمة فاتحية في كلمة صالحية.
ثم حكمة قلبية في كلمة شعيبية.
ثم حكمة ملكية في كلمة لوطية.
ثم حكمة قدرية في كلمة عزيرية.
ثم حكمة نبوية في كلمة عيسوية.
ثم حكمة رحمانية في كلمة سليمانية.
ثم حكمة وجودية في كلمة داودية.
ثم حكمة نفسية في كلمة يونسية.
ثم حكمة غيبية في كلمة أيوبية.
ثم حكمة جلالية في كلمة يحياوية.
ثم حكمة مالكية في كلمة زكرياوية.
ثم حكمة إيناسية في كلمة إلياسية.
ثم حكمة إحسانية في كلمة لقمانية.
ثم حكمة إمامية في كلمة هارونية.
ثم حكمة علوية في كلمة موسوية.
ثم حكمة صمدية في كلمة خالدية.
ثم حكمة فردية في كلمة محمدية.
وفص كل حكمة الكلمة التي تنسب إليها.
فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب. فامتثلت ما رسم لي، ووقفت عند ما حد لي، ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت، فإن الحضرة تمنع من ذلك و الله الموفق لا رب غيره.
و من ذلك:   )
(ولما أطلعني الله في سري) أي: روحي المنور بنور ربه عند محاذاته للعلم الأزلي بغاية صفائه واتساعه للانتقاش بما فيه (على ما أودع في هذا الإمام) بدؤه الكل في تحصيل الفضائل الإنسانية (الوالد الأكبر) الذي تولدت منه الكمالات الإنسانية كما تولدت منه الأفراد الإنسانية؛ فهو الوالد حسا ومعنى.
وأما الفضائل المخصوصة بمحمد صلى الله عليه وسلم  ؛ فليست من جهة الإنسانية بل من حقيقته المخصوصة به (جعلت في هذا الكتاب منه ما ) أي: ما حده (لي) رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه إشارة إلى إن المذكور في الكتاب ليس مأخوذا عن المنام وحده بل عن الاطلاع الإلهي.
وإنما المتعلق بالمنام تحديد ما فيه (لا ما وقفت عليه) لمحاذاة سرى للعلم الأزلي (فإن ذلك لا يسعه كتاب)، وإن بلغ من طول الحجم ما بلغ فضلا عن هذا المختصر بل (ولا) يسعه (العالم الموجود الآن)؛ لأن متناه في ذاته ومدة بقائه.
وكلمات الله التي وقفت عليها بمحاذاة سرى للعلم الأزلي مما أودع في آدم الجامع للحقائق الإلهية والكونية غير متناهية : "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" [الكهف: 19].
وإذا كان لا يسع لما اطلعت عليه كتاب ولا العالم الموجود الآن (فمما) خبر مقدم لقوله حكمة (شاهدته) ما بيان لما في (فمما نودع في هذا الكتاب كما)
يتعلق بقوله: «نودع» (حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . .
وفيه إشارة إلى أنه لما تعذر أيراد الكل مما شاهدته في الكتاب، فبالضرورة أخذت ما حده لي رسول الله و للإيداع فيه (حكمة إلهية) أي: علم يقيني يتعلق بظهورات الأسماء الإلهية (في كلمة آدمية) أي: حقيقة جامعة منسوبة إلى آدم أبي البشر العلي
وفيه إشارة إلى أنه وإن اقتصر فيه على ما حده له رسول الله.
فهو أمر جامع على وجه الإجمال لما ظهر في الحقيقة الجامعة، وفيه إشارة إلى أن المشاهد أمور جليلة من جملتها المذكور في هذا الفص.
ثم قال: وهو أي: ما حده لي رسول الله للإيداع في هذا الكتاب من الحكمة الإلهية في الكلمة الآدمية هذا الباب الذي إذا فتح انفتح عن خزائن العلوم الغيبية.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 3:50 pm

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية   الجزء الأول
الفص الشيثي
أي: ما يتزين به، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بالنفث الإلهي المسمى بالنفس الرحماني الذي به ظهرت آثار الأسماء الإلهية بطريق التنفس عنها لكونها حينئذ في تلك الأسماء بالقوة، فكانت كالكرب.
"النفث: بسكون الفاء والثاء المثلثة إرسال النفس وجوامع رتق، فلا يكون النفث إلا ريحا لا بد من ذلك، حتى يعم: أي يشمل المادة والصورة فكما أعطاه من روحه بريحه، أعطاه من نشأته الطبيعية من ريقه، فجمع له الكل في النفث بخلاف النفخ، فإنه ريح مجردة.
فالنفث هنا عبارة عن إفاضة النفس الرحماني الذي يحيي به كل موجود وعلى قلب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم."
فأخرجها بطريق التنفس ونسب النفس إلى الرحمن؛ لأنه الاسم الكلي الذي به ظهرت تلك الآثار المسماة بالعطايا والمنح والهبات، ولم يكن ظهور الأسماء بذلك؛ لأنها لم تكن كالكرب في الذات لظهورها لها أزلا وأبدا .
بخلاف آثارها المتوقفة على وجود الحوادث، ظهر ذلك العلم بزینتیه وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى شيث عليه السلام ؛ لأنه أول من ظهر بهذا العلم، وهو الممد لكل من يتكلم فيه بعده غير الخاتم، وكان عطاء كاملا لأدم عليه السلام ؛ لأنه أول نبي في ذريته.
ولهذا سمي شيثا؛ لأن معناه بالعبرية هبة الله، وكان خروجه من آدم كخروج النفس؛ لأنه أول من ظهر سره فتم فيه هذا المعنى من حيث ذاته وعلمه واسمه وإمداده وحصوله من أبيه.
قال رضى الله عنه : (اعلم أن العطايا و المنح الظاهرة في الكون على أيدي العباد و على غير أيديهم على قسمين:منها ما يكون عطايا ذاتية عطايا أسمائية و تتميز عند أهل الأذواق، كما أن منها ما يكون عن سؤال في معين و عن سؤال غير معين. و منها ما لا يكون عن سؤال سواء كانت الأعطية ذاتية أو أسمائية.
فالمعين كمن يقول يا رب أعطني كذا فيعين أمرا ما لا يخطر له سواه و غير المعين كمن يقول أعطني ما تعلم فيه مصلحتي- من غير تعيين- لكل جزء من ذاتي من لطيف و كثيف.)
(اعلم أن العطايا والمنح) الفرق بينهما أن العطايا تختص بما يوهب فيه الأصل، والمنافع والمنح تعم ما يوهب فيه المنفعة وحدها، إذ يقال: المنحة للناقة التي يباح لبنها سنة ثم يرد إلى مالكها.
(الظاهرة في الكون) أي: الزائدة على أصل الوجود ولوازمه، فإنها من صور الأسماء، والمراد هنا آثارها (على أيدي العباد وعلى غير أيديهم)، ذكر ذلك ليشعر من أول الأمر أن العطايا الذاتية يجوز كونها بالواسطة إذ لا تأثير لها، وإن كانت السنة الإلهية جارية بفعل المسببات عند تحقق أسبابها، لكن ليس فعله بها.
(على قسمين: عطايا ذاتية) أي: منسوبة إلى الذات لعدم الاسم الذي هو الواسطة، أو لانتسابها إلى اسم تارة وإلى آخر أخرى فتنسب إلى الأصل، وليس المراد ما يكون بلا واسطة أصلا، لأن الذات من حيث هي غنية عن العالمين.
(وعطايا أسمائية) منسوبة إلى اسم معين؛ فلا تنسب إلى الذات، وإن كانت أصلا ليظهر بذلك جهة نسبتها إلى الذات لتيسير تحصيلها بتلك الجهة بدعوة ذلك الاسم.
(وتتميز) هذه العطايا (عند أهل الأذواق) لعسر إقامة البرهان العقلي على بيان انتساب كل عطاء إلى ما نسب إليه من اسم أو غيره، بل إنما يعرف ذلك بالذوق والوحيد إن ثم شبه هذا التغيير وعدمه من جهة الفاعل القابل من جهة القبول، فقال: (كما أن منها ما يكون عن سؤال في) أمر (معين) .
ومنها ما يكون (وعن سؤال في) أمر (غیر معین) لكن لم يصرح بقوله: ومنها؛ لأنهما كقسم واحد، فإن ما ينسب إلى اسم غير معين حقه ويجعل من العطايا الأسمائية إلا أن المقصود من تلك النسبة وهو تيسر تحصيل ذلك المطلوب عن دعوة ذلك لما تعذر ها هنا نسب إلى الذات من حيث أنها الأصل.
فالذاتي الحقيقي ما لا ينتسب لاسم لخفائه، وهو المشار إلى ما شبه به هو بقوله: (ومنها ما لا يكون عن سؤال) في معين، ولا في غير معين، وسيصرح بكونه هو القسم الثاني.
ثم أشار إلى أنه وإن شبه الأسماء شبه بما يكون عن سؤال في معين، والذاتي بما يكون عن سؤال في غير معين أولا عن سؤال فالمشبه به إذا كان عن سؤال في معين لا يلزم وإن يكون عطاء أسمائنا.
وكذا ما يكون عن سؤال في غير معين أو عن سؤال إن يكون عطاء ذاتيا بل السؤال في معين وغيره وعدمه يعم الكل.
فقال: (سواء كانت الأعطية ذاتية أو أسمائية) فإن كون الحاصل عن السؤال في معين مشبها به للعطاء الاسم لا يستلزم كونه عطاء اسميا.
وكذا كون الحاصل عن السؤال في غير معين أولا عن السؤال مشبها به للعطاء الذاتي لا يستلزم كونه عطاء ذاتيا.
ثم مثل المشبه به بعد الإشارة إلى أنه لا يمكن تمثيل المشبه، بل إنما يتميز عند أهل الأذواق.
فقال: (فالمعين) أي: فالمسئول فيه المعين (كمن) أي: كمسئول من (يقول: يا رب أعطني كذا، فيعين أمرا ما) بشخصه ويستلزم ذلك جميع ذاتياته وأعراضه المشخصة وغيرها.
ثم بالغ في تعيينيه بقوله: (لا يخطر له سواه) مما دل عليه لفظه بالتضمن أو الالتزام مما يدخل تحت كليات هذه هي المفهومات التضمنية أو الالتزامية، (وغير المعين كمن يقول: يا رب أعطني ما تعلم فيه مصلحتي) ، فيذكر عرضا عاما للمسئول عنه
(من غير تعيين لكل جزء)، أي: لشيء من أجزائه (من ذاتي) فضلا عن الأعراض فضلا عن مشخصاتها (من كثيف) كالأجزاء العقلية مثل الحيوان الناطق للإنسان (ولطيف) كالأجزاء الحسية كالوجه والرأس والرقبة له، وهذا مبالغة في عدم التعيين، إذ هو بالأعراض المشخصة الكائنة بعد الأعراض اللاحقة للأجزاء الذاتية، فإن لم يتعرض للأسبق لم يتعرض لما بعده أصلا، ولما فرغ عن بيان حرية قبول المسئول فيه؛ شرع في بيان جهة السؤال تنبيها على أنه لابد من جهة الفاعل هي أسماؤه حتى في العطايا الذاتية على ما تأتي الإشارة إليه في أنه لا بد من سؤال الاستعداد وجهة في القابل في القبول، وهي سؤاله وجهة توجب ذلك السؤال فيه.
قال رضى الله عنه : (والسائلون صنفان، صنف بعثه على السؤال الاستعجال الطبيعي فإن الإنسان خلق عجولا.
والصنف الآخر بعثه على السؤال لما علم أن ثم أمورا عند الله قد سبق العلم بأنها لا تنال إلا بعد السؤال،
فيقول: فلعل ما نسأله فيه سبحانه يكون من هذا القبيل، فسؤاله احتياط لما هو الأمر عليه من الإمكان: وهو لا يعلم ما في علم الله ولا ما يعطيه استعداده في القبول، لأنه من أغمض المعلومات الوقوف في كل زمان فرد على استعداد الشخص في ذلك الزمان.
ولولا ما أعطاه الاستعداد السؤال ما سأل.
فغاية أهل الحضور الذين لا يعلمون مثل هذا أن يعلموه في الزمان الذي يكونون فيه، فإنهم لحضورهم يعلمون ما أعطاهم الحق في ذلك الزمان وأنهم ما قبلوه إلا بالاستعداد.
وهم صنفان: صنف يعلمون من قبولهم استعدادهم، وصنف يعلمون من استعدادهم ما يقبلونه.
هذا أتم ما يكون في معرفة الاستعداد في هذا الصنف.
ومن هذا الصنف من يسأل لا للاستعجال ولا للإمكان، وإنما يسأل امتثالا لأمر الله في قوله تعالى: «ادعوني أستجب لكم».
فهو العبد المحض، وليس لهذا الداعي همة متعلقة فيما سأل فيه من معين أو غير معين، و إنما همته في امتثال أوامر سيده.
فإذا اقتضى الحال السؤال سأل عبودية وإذا اقتضى التفويض والسكوت سكت.)
فقال: (والسائلون) في مبدأ سؤالهم في أمر معين أو غير معين (صنفان)(صنف بعثه على السؤال الاستعجال الطبيعي) أي: الذي من طبعه الذي خلق عليه، (فإن الإنسان ځلق عجولا)، وقد بقي هذا السائل على ذلك فهو صاحب النفس الأمارة فلا يكون من أهل الحضور، ومع ذلك قد يكون عطاؤه ذاتيا، فلا وجه لتخصيصه بالكمل.
(والصنف الآخر) قد تزكت نفسه عن هذه الرذيلة فيكون من أهل الحضور، (بعثه على السؤال) علمه بأن بعض المطالب تتوقف على السؤال: (لما علم أن ثمة) أي: في التقدير الأزلي (أمورا) جليلة (عند الله، قد سبق العلم) الإلهي (بأنها) لجلالتها عند الله (لا تنال إلا بعد السؤال) المتضمن مزيد التذلل.
وقد يكون ذلك في الأمور الخسيسة أيضا؛ لكن السؤال بذلك لا يكون من أهل الحضور وتوقفها على سؤالهم ليظهر خستهم، فإذا كان سؤال أهل الحضور من هذا القبيل.
(فيقول: فلعل ما نسأله فيه سبحانه يكون من هذا القبيل) فيه إشارة إلى أنه ليس من شأن الكامل ترك السؤال؛ لأنه كالاعتراض على الله تعالى، والاختيار عليه، وترك الرضا بما عنده.
بل إنهم يسألون لما علموا من رضاه في ذلك المزيد التذلل عنده، وتوقيفه المسئول عليه فليس فيه اعتراض عليه، ولا اختيار، ولا ترك رضا.
وإنما قال : لعل؛ لأنه يخاف من نفسه أن يكون بدعة للطمأنينة قبل الاتصاف بها كما قال يوسف الي عن نفسه: "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء" [يوسف: 53]، وفيه تنبيه للمريدين؛ فإنهم لا يسوغ لهم الحزم في أمثال هذه المواضع.
ثم أشار إلى وجه كونه ليس باعتراض، ولا اختيار، ولا ترك رضا بقوله: (فسؤاله احتياط لما هو الأمر) أي: أمر المسئول أي: التقدير الأزلي (عليه من الإمكان) أي: من إمكان توقفه على السؤال، فإن توقف فلا يفوته بترك السؤال مع أنه أمر جليل عند الله، وإن لم يتوقف حصل بكل حال مع ما في السؤال من مزيد التذلل.
ولما توهم من قوله فسؤاله احتياط أنه يناقض قوله، لما علم أشار إلى دفعه بقوله: (وهو) أي: هذا السائل بطريق الاحتياط (لا يعلم ما في علم الله) هل هو متوقف على السؤال أم لا، وحضوره مع الله تعالى، وتزكية نفسه عن رذيلة الاستعجال لا يستلزم كونه مطلقا على العلم الأزلي تفصية.
وإن صار مكاشفا به إجمالا كيف وهو لا يعلم ما هو أقرب من ذلك، إذ (لا) يعلم (ما يعطيه استعداده في القبول ) قيد بذلك؛ لأنه قد علم بالكشف الحاصل عن تزكية نفسه أنه قد حصل له استعداد السؤال لا محالة على ما سيصرح به؛ (لأنه من أغمض المعلومات الوقوف في كل زمان فرد) قيد بذلك؛ لأنه قد يتيسر لأمل الحضور الوقوف على استعداده لأمر ما في بعض الأزمنة.
لكونه مكاشفا قد تزكت نفسه مع أنه يعسر عليه الوقوف في كل زمان فرد (على استعداد الشخص) لما يقبله (في ذلك الزمان) ؛ لأن غاية ما يحصل بالتزكية في حق الأكثرين الوقوف الإجمالي دون التفصيلي حتى قال أكمل الخلائق: "ولا أعلم الغيب" [الأنعام: 50]، أي: كله.
وقال تعالى: "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير" [الأعراف: 88].
بل لا يمكن معرفة الغيب على الوجه الكلى الأكمل إلا للرسل لقوله تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " [الجن: 26، 27]
ثم أشار إلى فائدة التقييد بقوله: «في القبول»، وهو الاحتراز عن الوقوف على استعداد السؤال؛ فإنه لا يمتنع عليه غالبا بقوله: (ولولا ما أعطاه الاستعداد السؤال ما سأل) ضرورة أنه لو لم يتوقف الفيض على الاستعداد لوجب أن يحصل لكل أحد كل شيء؛ لعموم الجود الإلهي.
وفيه إشارة إلى أن استعداد السؤال لا يستلزم استعداد القبول أيضا سؤالا لكنه سؤال خفي غير لفظي ولا حالي، وإذا كان كل ما يجري على العبد متوقفا على استعداده مع أنه يعسر عليه الوقوف في كل زمان فرد على ذلك، وإن بلغ رتبة الحضور والكشف (فغاية أهل الحضور) أي: الذين يحضرون مع الله تعالى بتزكية أنفسهم، فيكاشفون بما يجري عليهم من الله من أين هو (الذين لا يعلمون مثل هذا) أي: استعدادهم لما يقبلونه في كل زمان فرد.
(أن يعلموه) أي: ذلك الاستعداد (فإنهم لحضورهم) الكائن بعد التزكية (يعلمون ما أعطاهم الحق) بجوده العام (في ذلك الزمان، وإنهم ما قبلوه إلا بالاستعداد) الحاصل لهم في ذلك الزمان.
وإلا لوجب أن يحصل لكل أحد كل شيء؛ لعموم الجود فإن رأوا في ذلك نقصا أحالوه على قصور استعدادهم الذي هو مقتضى أعيانهم الثابتة.
وإن رأوا كمالا أحالوه على عموم الجود، وكمال الفضل الإلهي إذ لا يجب عليه شيء.
فلذلك ورد: "من وجد خيرا؛ فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك؛ فلا يلومن إلا نفسه".
(وهم) أي أهل الحضور الذين يعلمون بالكشف أن كل ما يجري على العبد بحسب استعداده (صنفان: صنف يعلمون من قبولهم) عند حصوله (استعدادهم) له، وهم الذين ذكر غايتهم فيما بعد، (وصنف يعلمون من استعدادهم ما يقبلونه) قبل أن يقبلوه؛ لكنه في بعض الأحيان وبعض الأمور، (وهذا أتم في معرفة الاستعداد في هذا الصنف) أي: الذين لا يعلمون ما يستعد له الشخص في كل زمان فرد.
وإنما قال في هذا الصنف؛ لأن معرفة ما يذكرهم في القسم الثاني من العطايا التي لا تكون عن سؤال بالاستعداد أتم؛ لاطلاعهم على أحوال الأعيان الثابتة تفصيلا، (ومن هذا الصنف) أي: صنف أهل الحضور الذين يعلمون من استعدادهم ما يقبلونه يدل على هذا التقييد مع قرب الإشارة قوله: فيما بعد فإذا اقتضى الحال السؤال سأل ووجه التخصيص بهم أن سؤالهم لما كان بالعبودية.
فلا بد أن يعلموا ما يتعبدون به في كل حال (من يسأل لا للاستعجال) لكونه من أهل التركية والحضور (ولا للإمكان) أي: إمكان توقف المسئول على السؤال؛ لأنه وافق ما يقبله من استعداده، (وإنما يسأل امتثالا لأمر الله) المخصوص بذلك الوقت باعتبار ما علم من استعداده الخاص أنه متعبد به في ذلك الوقت، وذلك الأمر هو المذكور في قوله" ادعوني أستجب لكم " [غافر:60]).
وإنما خصصناه مع عمومه لما يذكر بعد (فهو العبد المحض) "أي الخالص عن شوب الربوبية، وليس لهذا الداعي همة داعية متعلقة فيما يسأل فيه من معين أو غير معين وإنما همته في امتثال أوامر سیده."، أما كونه عبدا؛ فلان الدعاء مخ العبادة، وأما كونه محضا؛ فلانه (ليس هذا الداعي همة متعلقة فيما يسأل فيه) سواء كان مسئولة (من معين أو غير معين) بخلاف من تقدم.
فإنه يقصد في المعين ذلك المعين من حيث هو، وفي غيره إعانة مصلحة نفسه فهو عبد لذلك المعين ولمصالح نفسه، وهذا ليس كذلك؛ لأنه (إنما همته) في المعين وغيره (في امتثال أوامر سيده)، وإنما جمع لأوامر؛ ليشير إلى وجه تخصيص الأمر بالدعاء بوقت خاص إذ لا بد من ذلك عند ازدحام الأوامر الكثيرة، ويعرف ذلك التخصيص من يعلم القبول من الاستعداد.
فلذلك قال: (فإذا اقتضى الحال السؤال سأل عبودية)، وإن علم حصوله باستعداده مع أنه لا قصد له في الحصول أيضا، (وإن اقتضى التفويض والسكوت) عن السؤال (سكت).
قال رضي الله عنه : (فقد ابتلي أيوب عليه السلام و غيره و ما سألوا رفع ما ابتلاهم الله تعالى به،
ثم اقتضى لهم الحال في زمان آخر أن يسألوا رفع ذلك فرفعه الله عنهم.
و التعجيل بالمسئول فيه و الإبطاء للقدر المعين له عند الله.
فإذا وافق السؤال الوقت أسرع بالإجابة، و إذا تأخر الوقت إما في الدنيا و إما إلى الآخرة تأخرت الإجابة: أي المسئول فيه لا الإجابة التي هي لبيك من الله فافهم هذا.
و أما القسم الثاني و هو قولنا: «و منها ما لا يكون عن سؤال» فالذي لا يكون عن سؤال فإنما أريد بالسؤال التلفظ به، فإنه في نفس الأمر لا بد من سؤال إما باللفظ أو بالحال أو بالاستعداد.
كما أنه لا يصح حمد مطلق قط إلا في اللفظ، و أما في المعنى فلا بد أن يقيده الحال.
فالذي يبعثك على حمد الله هو المقيد لك باسم فعل أو باسم تنزيه.)
ثم أشار إلى دليل لتخصيص الأمر المطلق أقوى مما تقدم، وهو وجوب متابعته للنبي صلى الله عليه وسلم المأمور بمتابعة من تقدم من الأنبياء فيما لم ينسخ في شريعته الي بقوله: (فقد ابتلي أيوب وغيره، وما سألوا رفع ما ابتلاهم الله به)؛ لأن حالهم اقتضى أولا السكوت عنه؛ ليتحقق
منهم الصبر، (ثم اقتضى لهم الحال في زمان آخر) رفقا لما يتوهم من أنفسهم من إظهار التجلد في مقاومة القهر الإلهي (أن يسألوا رفع ذلك) البلاء، (فسألوا) عبودية لا عن عدم الصبر (فرفعه الله عنهم)، وإن كان في إبقاء ذلك البلاء زيادة في مراتبهم تحقيقا لوعد الإجابة عند الأمر بالدعاء.
ثم استشعر سؤالا بأنه تعالى أمر كل واحد بالدعاء، ووعدهم بالإجابة من غير شرط آخر، ومقتضاه إجابة كل واحد في كل دعاء، ونحن نرى أن دعوات البعض لا تستجاب أصلا، ودعوات البعض تستجاب تارة دون أخرى، فأشار إلى جوابه بأن كل من دعا الحق حاضر القلب صحيح المعرفة، فلا بد أن يستجاب دعاؤه بقوله تعالى: "لبيك عبدي".
وبإعطاء المسئول في وقته المقدر له فقال: (والتعجيل بالمسئول فيه) في حق بعض الأدعية (والابطاء) به في البعض الآخر (للقدر)، أي: الوقت (المعين له عند الله) فإن الحوادث مقدرة بأوقاتها.
والسؤال قد يقع عن الاستعجال الطبيعي قبل الوقت، ووعد الإجابة لم يقع على سبيل التعجيل بل في الجملة.
(فإذا وافق السؤال الوقت) اتفاقا، أو لكون السائل واقفا من استعداده على القبول (أسرع بالإجابة) أي: بـ «لبيك» وبحصول المسئول فيه جميعا.
(وإذا تأخر الوقت) أي: وقت المسئول فيه عن وقت السؤال لوقوعه عن الاستعجال، (ما) كائنا ذلك الوقت (في الدنيا) بعد مدة مديدة، (وإما في الآخرة) إذا لم يكن للسائل استعداد القبول في أوقات الدنيا، وإنما ذكر ذلك؛ لأن بعض السائلين قد يموتون من غير حصول المسئول فيه فيتوهم أن النص منتقض به.
(تأخرت الإجابة أي :) إجابة حصول (المسئول فيه) إلى ذلك الوقت في الدنيا، أو الأخرة.
(لا الإجابة التي هي: لبيك من الله) فإنها لا تتأخر عن وقت السؤال أصلا إذا صدر عن حاضر القلب صحيح المعرفة لما ورد في الحديث: "إن العبد إذا دعا ربه، يقول الله: لبيك عبدي".
وذلك لأن تأخيرها كالإعراض عن مثل ذلك العبد في وقت توجهه إليه (فافهم هذا) من وعد الإجابة في القرآن.
فإنها لا نهاية لشرفها بالقياس إلى إجابة حصول المسئول فيه مع أنها لا بد من حصولها، وإن تأخرت إلى الأخرة.
(وأما القسم الثاني، وهو قولنا: ومنها ما لا يكون عن سؤال) بينه لئلا يتوهم أنه ما يكون عن سؤال في غير معين، وقد أشار أولا إلى رفع هذا الوهم بعدم إعادة لفظة، ومنها هناك مع إعادتها في هذا القسم.
ولما كان ظاهره أنه لا سؤال شمة أصلا مع أنه لا بد منه؛ لتتحقق جهة القبول في القابل، كما لا بد من تحقق جهة الفعل في الفاعل.
وهو الاسم الإلهي قال: فالذي لا يكون عن سؤال ليس المراد به أنه لا يكون ثمة سؤال أصلا، كما أنه لا يراد بالعطاء الذاتي ما لا يكون بواسطة اسم الهي أصلا.
(فإنما أريد بالسؤال) في قولنا، ومنها ما لا يكون عن سؤال (التلفظ به)، فهو المنفي دون سؤال الحال أو الاستعداد.
فإنه في نفس الأمر لا بد لكل عطاء (من سؤال إما باللفظ، أو بالحال، أو بالاستعداد) ضرورة أنه لو كان العطاء بدونه لوجب أن يحصل لكل شيء ما أمكن له في نظر العقل؛ لعموم الجود الإلهي: "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" [الملك: 3].
ثم استدل على ذلك بأن الله تعالى إنما فعل ما فعل لاستیجاب الحمد، وهو لا بد وأن يتقيد، فلو جاز العطاء من غير تقيد سؤال؛ لجاز الحمد من غير تقيد إذ هو مرتب عليه.
فقال: (كما أنه لا يصح حمد مطلق) غير مقيد باسم تنزيه أو اسم فعل (إلا في اللفظ) بأن يقول: الحمد لله فلا يصف اسم الله باسم آخر من أسماء التنزيه أو أسماء الأفعال، ولا يعلق الحمد بأحدهما.
""قال رضي الله عنه فى الفتوحات الباب 379 :اعلم أن الثناء على الله على نوعين  مطلق ومقيد فالمطلق لا يكون إلا مع العجز مثل:
قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"
قال قائلهم:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح ..... فأنت الذي نثني وفوق الذي نثني
ولا يمكن أن يحيط مخلوق بما يجب لله تعالى من الثناء عليه.
وأما الثناء المقيد فالحكماء يقيدونه بصفة التنزيه لا غير
وإن أثنوا عليه بصفة الفعل فبحكم الكل أو الأصالة لا يحكم لشخص
وما عدا الحكماء فيقيدون الثناء على الله بصفة الفعل وصفة التنزيه معا وهؤلاء هم الكمل لأنهم شاركوا الحكماء فيما علموا وزادوا عليهم بما جهله الحكماء ولم يعلموه لقصور همهم ""
(وأما في المعنى، فلا بد أن يقيده الحال) أي: حال الحامد، وهو الداعي إلى حمده؛ لأنه من الأفعال الاختيارية التي لا تقع بدون الداعي.
(فالذي يبعثك على حمد الله) من نظرك في كماله التنزيهي أو الفعلي (هو المقيد لك) أي: لحمدك المطلق في اللفظ يقيده في المعنى (باسم فعل، وباسم تنزيه) على أن يجعلهما في المعنى صفتين لاسم الله، أو متعلقين بحمده، والعطاء الإلهي يقتضي ذلك.
قال رضي الله عنه : (و الاستعداد من العبد لا يشعر به صاحبه و يشعر بالحال لأنه يعلم الباعث وهو الحال. فالاستعداد أخفى سؤال.
وإنما يمنع هؤلاء من السؤال علمهم بأن الله فيهم سابقة قضاء.
فهم قد هيئوا محلهم لقبول ما يرد منه وقد غابوا عن نفوسهم وأغراضهم.
ومن هؤلاء من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه قبل وجودها، ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به و هو ما كان عليه في حال ثبوته، فيعلم علم الله به من أين حصل.
وما ثم صنف من أهل الله أعلى وأكشف من هذا الصنف، فهم الواقفون على سر القدر وهم على قسمين:
منهم من يعلم ذلك مجملا، ومنهم من يعلمه مفصلا، والذي يعلمه مفصلا أعلى وأتم من الذي يعلمه مجملا، فإنه يعلم ما في علم الله فيه إما بإعلام الله إياه بما أعطاه عينه من العلم به، وإما أن يكشف له عن عينه الثابتة وانتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى و هو أعلى: فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به لأن الأخذ من معدن واحد إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له هي من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك، أي أحوال عينه، فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها أن يطلع في هذه الحال على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها لأنها نسب ذاتية لا صورة لها.
فبهذا القدر نقول إن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادة العلم.
و من هنا يقول الله تعالى: «حتى نعلم» و هي كلمة محققة المعنى ما هي كما يتوهمه من ليس له هذا المشرب.
و غاية المنزه أن يجعل ذلك الحدوث في العلم للتعلق ، و هو أعلى وجه يكون للمتكلم بعقله في هذه المسألة، لو لا أنه أثبت العلم زائدا على الذات فجعل التعلق له لا للذات.
و بهذا انفصل عن المحقق من أهل الله صاحب الكشف والوجود.)
ثم أشار إلى الفرق بين سؤال الحال، وسؤال الاستعداد؛ ليبني عليه ما يذكره بعد من فضيلة الواقف على الاستعداد، فقال: (والاستعداد من العبد لا يشعر به صاحبه) في حق الأكثر، (ويشعر بالحال) صاحبها لا محالة.
""لأنه يعلم بالباعث وهو الحال فالاستعداد أخفى سؤال لأن العلم بكل استعداد جزئي في وقت جزئي صعب لمن لا يشرف على الأعيان ولا يكون هذا النوع من العلم إلا للأفراد خاصة.
وكمال ذلك كختم الختم فإنه من مقام باطن النبوة وهو الشعرة التي من الخاتم رضي الله عنه في الخاتم صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقع الميراث الكامل.
وأما أرباب الأحوال فيعرفون ذلك من البواعث فإنها من الأحوال، فهو هين الخطب من هذه الحيثية. ""
(لأنه يعلم الباعث) على السؤال سواء سأل لفظا أو لا والباعث: (هو الحال) فهو معلوم له لا محالة، فهو وإن خفي بالنسبة إلى سؤال اللفظ جلي بالنسبة إلى سؤال الاستعداد، (فالاستعداد أخفى سؤال) لا يعلمه إلا من أطلعه الله على سر القدر.
ثم أشار إلى الأسباب المانعة من السؤال اللفظي مع إدراج ما ذكر من وقف على الاستعداد في ذلك فقال(وإنما يمنع هؤلاء) التاركين للسؤال (من السؤال) اللفظي مع إدراج ما ذكر من وقف على الاستعداد في ذلك، فقال: وإنما يمنع هؤلاء التاركين للسؤال من السؤال اللفظي (علمهم بأن الله فيهم سابقة قضاء) مشتمل على علم تام، وجود كامل فوجب أن يكون على أحسن الوجوه، (فهم هيئوا محلهم لقبول ما يرد منه) أي: من الله الجواد العلام المحبوب (وقد غابوا عن نفوسهم، وأغراضهم) الداعية إلى السؤال في المعين وغيره، ولغنائهم ليس لهم سؤال العبودية وهؤلاء، وإن عز شأنهم فلا اطلاع لهم على سر القدر لا إجمالا ولا تفصيلا.
ثم أشار إلى من له ذلك فقال: (ومن هؤلاء) أي: الممتنعين عن السؤال؛ لعلمهم بأن الله فيهم سابقة قضاء (من يعلم أن علم الله به) الموجب لعطائه (في جميع أحواله) المتجددة عليه ذكر ذلك ليشير إلى أن اختلاف العطايا منوط باختلاف الأحوال، وهو إنما يطلب عطاء متجددا مخالفا لما تقدم .
(هو) مقتضى (ما كان) الشخص (عليه في حال ثبوت عينه) في العلم الإلهي، ولما كان عرف المتكلمين أن الثبوت: هو الوجود ربما أوهم أن المراد ذلك رفعه بقوله: (قبل وجودها) وذلك لأن الثبوت المذكور أزلي، والوجود لها
حادث، والمقصود بيان أن تجدد الأقوال الوجودية عليه من مقتضيات عينه الثابتة قبل وجودها فلا يتغير عن ذلك.
ومن هنا (يعلم أن الحق لا يعطيه) شيئا سواء سأله باللفظ، أو الحال، أو لم يسأل (إلا ما أعطته) أي: الحق (عينه من العلم به) أي: بما تقتضيه عينه، وهو لا يقبل التغير لكونه أزليا، إذ (هو ما كان عليه في حال ثبوته) في العلم الإلهي الأزلي الذي لا يكون محلا للحوادث.
(فيعلم) هذا العبد أن علم الله به، وإن كان أزلا؛ فهو (من أين حصل) ليس المراد: أنه انفعل عن عينه، بل إنه لما كانت معرفة الشيء على ما هو عليه، وكأنه أخذ منه فيترك السؤال من علمه أنه لا بد، وأن يصل إليه مقتضی عينه بكل حال.
وهذا وإن كمل فقد خفي عليه أن عينه قد تقتضي أن يكون عطاؤها بعد سؤال منه بذلك، وأنه قد يطالب بالسؤال عبودية، ومع هذا (ما ثمة) أي: في تاركي السؤال (صنف من أهل الله) أشار بذلك إلى أنهم، وإن تركوا العبودية بترك السؤال فلا يخرجون بذلك عن كونهم من أهل الله
(أعلى وأكشف من هذا الصنف)، وإن كان في غيرهم أعلى منهم، وهو ممن يعمل بمقتضى الحال في السؤال، وتركه أو يسأل للعبودية (فهم الواقفون) من بينهم (على سر القدر)، وإن كان غيرهم أكثر وقوفا منهم.
""سر القدر: توقيت ما عليه الأشياء في عينها من غير مزيد من حضرة المقيت؛ فإنه يقدر أوقات الأوقات صورية ومعنوية.
فما حكم القضاء قدره هذا الاسم تقدير العزيز الحكيم وهذا هو عين سر القدر.
فهم الواقفون الحاضرون لهذا التوقيت على مقتضى الاستعداد، والمطلعون على أصله وفرعه، ولهذا المقام إجمال وتفصيل، منهم من يعلم ذلك تفصيلا.""
ولذلك قسم الواقفين على سير القدر مطلقا ، فقال : (وهم على قسمين):
(منهم: من يعلم ذلك مجملا)، وهو أن كل ما يجري في العالم تابع للعلم الإلهي، وتابع لمقتضيات أعيان الموجودات؛ ولكن لا اطلاع له على تفاصيل ذلك لا من عين نفسه ولا غيره.
(ومنهم: من يعلمه مفصلا) يطلع على تفاصيل ذلك من نفسه في كل الأحوال، أو بعضها، وقد يكون فيهم من يطلع على تفاصيل كل الأعيان في بعض الأحوال، وهو نادر جدا، (والذي يعلمه مفصلا أعلى وأتم من الذي يعلمه مجملا)، وإن كان أعلم ممن لا يطلع على سير القدر، وإن آمن به، وإنما لم يقل.
وهذا أعلى دون الأول مع أنه أخص؛ لأنه يوهم أن المراد أن الواقف على سر القدر أعلى من غيره، وهو غير مقصود هنا، وقد فهم مما تقدم، وبين وجه علوه بقوله: (فإنه يعلم ما في علم الله فيه) قيد بذلك.
لأنه الغالب في حق من يطلع إذ لا إطلاع على الغيب المطلق، ولو في بعض الأقوال نادر جدا،"عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول" [الجن: 26، 27].
(إما بإعلام الله إياه) بالوحي، أو الإلهام، أو الكشف الضروري في اليقظة أو المنام (بما أعطاه) أي: الحق عينه (من العلم به)، مع أنه محجوب عن عينه.
وفيه تنبيه بأن كل إعلام إلهي ليس موجبا للوقوف على سر القدر بل الإعلام على هذا الوجه، ومعنى إعطاء العين الثابتة العلم للحق أنه لما كان معرفة الشيء على ما هو به فكأنه أعطاه إياه.
(وإما بأن يكشف له) الكشف المعنوي (عن عينه الثابتة)، وإن كانت عدمية بأن يكشف له عن علمه الأزلي الذي ثبتت عينه فيه، ويكشف له عن (انتقالات الأحوال عليها) في الأزمنة الآتية إلى ما يتناهى من حيث ثبوتها أيضا في العلم الأزلي، وإنما ذكرها؛ لأن الكشف عن عينه الثابتة يجوز أن يكون بدون الكشف عن أحوالها، كمن يرى الشيء من بعد لا يطلع على تفاصيل أعراضه وأجزائه وهو أي: من يكشف له عن عينه الثابتة، و انتقالات الأحوال عليها (إلى ما لا يتناهى أعلى) من صاحب الإعلام.
وإن كان أعلى ممن يعلم القدر إجمالا، ثم بين وجه كونه أعلى بقوله: (فإنه يكون في علمه بنفسه) فيه إشعار بأنه.
وإن كوشف عن العلم الأزلي، يجوز أن يخفى عليه أحوال أعيان غيره (بمنزلة علم الله به) في الإحاطة بتفاصيل أحواله الغير المتناهية من غير ليس وخفاء.
(لأن الأخذ) أي: أخذ علم الله، وعلم هذا العبد (من معدن واحد هو) عينه الثابتة؛ فإن علم الله، وإن كان قديما إلا أنه من حيث المطابقة للمعلوم كالمأخوذ منه؛ فلا فرق من هذه الجهة بين العلمين .
(إلا أنه) أي: العلم بالعين الثابتة، وانتقالات الأحوال عليها إلى غير النهاية (من جهة العبد)؛ لحدوثه (عناية من الله سبقت له)، وعلم الله لقدمه ليس عن عناية أحد؛ لكن العناية الإلهية أيضا (هي من جملة أحوال عينه)، فهي أيضا من العبد من هذا الوجه، وإذا كانت العناية الإلهية من جملة أحوال عينه.
(فيعرفها) أي: العناية من حيث كونها من جملة أحوال عينه معرفة كشفية (صاحب هذا الكشف) الذي كوشف عن أحوال عينه الثابتة؛ (إذا أطلعه الله على ذلك).
ولما أمكن كون الإشارة إلى العناية، وهو باطل؛ لأن الاطلاع عليها لا يستلزم الاطلاع على كونها من أحوال عينه.
وكذا إلى أحوال عينه مطلقا أي: سواء اعتبرت من حيث هي، أو من حيث وقوع صورة الوجود عليها، وهو أيضا باطل لما يذكره بعد بين بقوله أي:على أحوال عينه.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 3:51 pm

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية      الجزء الثاني
من حيث هي لا من حيث كونها مواقع صور الوجود والأحوال الأولى، هي التي لا تتوقف على الوجود بخلاف الثانية.
وإنما قلنا: إنما يعرف العبد كون العناية الإلهية من جملة أحوال عينه، إذا أطلعه الله عليها من حيث هي لا من حيث كونها مواقع صور الوجود، وإن كان حال وقوعها عليها (فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على أحوال عينه) لا من حيث هي.
بل من حيث إنها (التي تقع صورة الوجود عليها) المانعة من رؤية الأعيان كمنع وقوع الصورة الحسية على المرأة المحسوسة عن رؤية تلك المرأة (أن يطلع في هذا الحال) أي: حال اطلاعه على الأعيان من حيث تقع صورة الوجود على الأعيان نفسها فضلا عن أن يطلع على أحوالها التي لها من حيث هي، وهي التي من جملتها العناية الإلهية التي هي اطلاع الحق عليها.
فلذلك قلنا: لا وسع لمخلوق حال اطلاعه على الأعيان من حيث يقع عليها صورة الوجود أن يطلع في هذا الحال (على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة) من حيث هي أي: (في حال عدمها).
وفيه إشارة إلى إن العناية من جملة أحوال العين إذا كانت من حيث هي، وإنما كان هذا الاطلاع من الحق عليها عناية؛ (لأنها) أي: الأعيان باعتبار تلك الأقوال.
(نسب ذاتية) أي: نسب ذات الحق إلى تعیناته في المظاهر، فهو يعتني بها.
""مجردة عن الأسماء والصفات لا صورة لها فى علم الله سبحانه ، يدرك غير الذات ولا تمييز ولا فرق بينها وبين الذات بل هي نسب و خصوصيات لحضرة الذات تسمى باصطلاحهم شئون ذاتية، وهي عين ذاتها فإذا اطلع العبد المعتني به على الأعيان الذاتية من حيث إنها شئون، فيرى شئونا ذاتية لا صورة لها في ذاتها، بل يرى أنها عين الذات""
وإنما قلنا: هي نسب ذاتية؛ لأنها (لا صورة لها) حال ثبوتها في العلم الإلهي، إذ ليس عبارة عن حصول صور الأشياء فيه، والإلزام إما كونه محلا للصور المتبدلة الحادثة، أو جهله بالحوادث، وما وقع في كلام بعضهم من أن الأعيان صور عمله تعالى.
فالمراد: أنها متميزة عنده تميز الصور الذهنية، فلما كان اطلاع العبد على أحوال عينه الثابتة من حيث هي؛ بعد وقوع الصور الوجودية، وهي مانعة عن رؤية المرآة الحسية فضلا عن العدمية.
لم ی?ن بد من العناية في رفع حجابيتها؛ حتى لا يكون اطلاعه عليها من حيث هي مواقع صور الوجود، فإن ذلك مانع من رؤيتها من حيث بكل حال.
(فبهذا القدر نقول: إن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد)، وإلا فهذا الاطلاع ورفع حجابتها أيضا من مقتضی عينه الثابتة، ثم إن كل ما في العالم، وإن كان بالعناية الإلهية؛ فهي في هذا العبد أتم من حيث إنها وقعت (بهذه المساواة) بين العبد وربه (في أخذ العلم) من معدن واحد.
(ومن هنا) أي: ومن كون العناية الإلهية اطلاع الحق على أحوال الأعيان من حيث هي، وهي باقية فيها مع تبدل الأحوال الوجودية عليها؛ فالعلم أيضا يتعلق بها فتحدث له نسبة متجددة باعتبار تبدل الأحوال الوجودية مع ثبوت تعلقه بأحوالها من حيث هي (يقول الله: "حتى نعلم" [محمد: 31]) .
أي: حتى يقع علمنا على الأمر المتجدد بعد تعلقه بأحوال الأعيان الثابتة من حيث هي، وهو مع ثبوته مطابق هذا الأمر المتجدد، فكأنه متجدد أيضا.
(وهی) أي: حتى نعلم على هذا التقدير (كلمة محققة المعنی) أي: محمولة على حقيقة التجدد في العلم بحسب تعلقه بالأحوال الوجودية مع بقائه على حاله باعتبار تعلقه بأحوال الأعيان من حيث هي (ما هي كما يتوهمه من ليس له هذا المشرب) فيحملها على المحاز بأنه جعل التجدد في المعلوم كالتجدد في العلم، أو أراد حتى يظهر ما علمناه.
(وغاية) المتكلم (المنزه) ذات الحق وصفاته عن الحدوث وعن نقيضه الجهل بالحوادث (أن يجعل ذلك الحدوث) المفهوم من قوله: "حتى نعلم"، (في العلم المتعلق) أي: من حيث تعلقه بالأحوال المتجددة مع بقائه بحاله باعتبار تعلقه بأحوال الأعيان الثابتة من حيث هي.
(وهذا) ، أي: جعل الحدوث في تعلق العلم. (أعلى وجه يكون للمتكلم بعقله في هذه المسألة) أي: مسألة علم الله بالحوادث (لولا أنه أثبت العلم زائدا على الذات) يجعله حصول صور الأشياء أمرا ليس من الذات ولا غيرها،(فجعل التعلق) لنفس العلم (لا للذات) مع أنه إنما يصح لو كان العلم مغايرا للذات.
(وبهذا) أي: بجعله العلم زائد على الذات بجعله إياه عبارة عن حصول صور الأشياء، (انفصل عن المحقق من أهل الله صاحب الكشف والوجود)، فرأى الوجود غير الذات، ورأى الصفات لا عيئا، ولا غيرا لها، والقول بزيادتها يستلزم القول بمغایرتها؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.

قال رضي الله عنه : (ثم نرجع إلى الأعطيات فنقول: إن الأعطيات إما ذاتية أو أسمائية.
فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا تكون أبدا إلا عن تجل إلهي.
ليعلم المتجلى له أنه ما رآه.
وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلي من هذا.
وأجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراه أبدا البتة حتى إن بعض من أدرك مثل هذا في صور المرايا ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي وبين المرآة. هذا أعظم ما قدر عليه من العلم، والأمر كما قلناه وذهبنا إليه.
وقد بينا هذا في الفتوحات المكية وإذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق.
فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى في أعلى من هذا الدرج فما هو ثم أصلا، وما بعده إلا العدم المحض.
فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسمائه وظهور أحكامها وليست سوى عينه.
فاختلط الأمر وانبهم: فمنا من جهل في علمه فقال: "والعجز عن درك الإدراك إدراك"، ومنا من علم فلم يقل مثل هذا وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم السكوت، ما أعطاه العجز. وهذا هو أعلى عالم بالله.
وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء)
(ثم) أي: بعد الفراغ مما عرض من بحث المشبه به أي: كون العطايا عن سؤال أو عن غير سؤال؛ (نرجع إلى) بحث ما كنا بصدده، وهو المشبه أعني: تقسيم (الأعطيات) أي: الذاتية والأسمائية (فنقول: الأعطيات إما ذاتية، أو أسمائية).
ثم أشار إلى أن الذاتيات أيضا من الأسماء؛ فقال: (وأما المنح) أراد بها إعطاء المنافع وحدها، (والهبات) أراد بها إعطاء الأعيان مع المنافع، بحيث لا يطلب معه ش?را، ولا عبادة، (والعطايا الذاتية) أراد بها أعم من ذلك، وإنما أورد ذلك يشير إلى أنها ليست على نهج واحد، وقد مر ما يشير إلى ذلك من كونها على أيدي العباد، وعلى غير أيديهم، فيستدل بذلك على أنها ليست من الذات وحدها.
ولذلك قال: (فلا تكون إلا عن تجلي إلهي) أي: عن حضرة الأسماء؛ لأن الذات من حيث هي غنية عن العالمين؛ فلذلك لم يفسر العطايا الذاتية بما يكون بلا واسطة أصلا؛ بل بما لا يكون عن واسطة اسم معين، أو مما يغلب فيه نور الذات على الاسم.
ثم استشعر سؤالا بأن من العطايا الجليلة تجلي الذات الإلهية في الدنيا والآخرة، وقد اشتهر القول بذلك عن القوم والغني الذاتي لا ينافي ذلك.
فقال: (والتجلي من الذات) موجب لسير الذات بما يظهر في مرآتها من صورة الرائي، فيصير حجابا عن رؤية المرأة، وذلك لأن التجلي من الذات (لا يكون أبدا إلا بصورة استعداد المتجلى له)، وهو أن يشرق النور الذاتي على العين الثابتة من المتجلى له، وعلى روحه وقلبه؛ فليستنير بقدر استعداده؛ فيصير صورة مقيدة باستعداد المتجلى له.
ثم تنعكس هذه الصورة إلى مرآة الحق فيحجب عن رؤية المرأة (غير ذلك لا يكون)؛ إذ الرؤية للحق لا تكون بدون تجليه للرائي بإشراقه على عينه الثابتة، أو روحه، أو قلبه وإشراقه على كل شيء بقدر استعداده على ما يقدر.
ولكن ذلك لا يوجب رؤيته ما لم ير في أمر آخر؛ فإن العين لا تبصر نفسها إلا في مرآة.
وأتم ما يكون ذلك في مرآة الذات؛ فتنعكس الصورة من أحد هذه الثلاثة إلى مرآة الحق، (فإذن المتجلى له ما رأي) في تجلی الذات (سوى صورته) التي فاضت عليه من الحق حال الرؤية، انعكست منه إلى مرآة الحق، ولا يمكن أنه يرى بصورة استعداد غيره، وإن انعكست إلى مرآة الحق، ما لم تحصل تلك الصورة في أحد الثلاثة من الرائي.
فهو إذن صورة استعداد الرائي، وإذا رأى صورته (في مرآة الحق، ما رأى الحق الذي هو المرأة من حيث ذاته؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يراه) أي: الحق من حيث ذاته (مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه)؛ لأن رؤية الصورة في المرأة المعقولة يمنع من دونه المرأة، (كالمرأة في الشاهد إذا رأيت الصورة)، أي: صورة شيء (فيها لا تراها) أي: نفس المرأة (مع علمك بأنك ما رأيت الصور، أو صورتك إلا فيها) فالمرآة من حيث هذا العلم متجلية ظاهرة، ومن حيث ستر الصورة لها إياها باطنة.
 وإذا كانت رؤية الصورة في المرأة مانعة من رؤية المرأة نفسها، (فأبرز الله ذلك مثالا نصبه لتجلية الذاتي) رؤية الذات في الدار الآخرة أو الدنيا .
كما قيل في حق نبينا صلى الله عليه وسلم للتنبيه على أنها لا تكون إلا بانع?اس صورة استعداد المتجلى له في مرآة الحق.
(ليعلم المتجلى له أنه ما رآه) حين تجلى له، فهذا هو الحكمة في خلق المرايا في الشاهد؛ لأنه (ما ثمة) أي: في الواقع (مثال أقرب) لحقيقة رؤية الذات، (ولا أشبه بالرؤية والتجلي من هذا المثال.
ثم بالغ في شأن كمال هذا المثال لما يتوهم بعض الجهال من رؤية المرأة عند رؤية الصورة فيها، فقال: (واجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرأة أن ترى جوم المرآة) من المحل الذي ترى فيه الصورة (لا تراه البتة) لحجب الصورة عن رؤيته كأنها متوسطة بين الرائي والمرآة (حتى أن بعض من أدرك مثل هذا) المنع من رؤية الجرم (في صور المرايا، ذهب إلى أن الصورة المرئية) في المرأة ثابتة (بين بصر الرائي، وبين المرآة) ليست في جرم المرآة، وإلا لم تحجب عن رؤية ظاهر الجرم هذا البيان.
(وهو) إقامة التمثيل المذكور (أعظم ما قدر عليه من العلم) أي: الدليل الموجب للعلم بأن التجلى الذاتي لا يوجب ?شف الذات.

(والأمر كما قلناه وذهبنا إليه) وإن ضعف هذا التمثيل، ولم يوجب العلم اليقيني، (وقد بينا هذا) أي: وجه دلالة هذا التمثيل (في الفتوحات المكية)، وليست عندي حتى أبين ما ذكره فيها، وإذا تعذر إقامة الدليل العقلي على ذلك فهو إنما يعرف بالذوق، (فإذا ذقت هذا) أي: عرفت أنه التجلي الذاتي بالذوق، وإن لم يتم فيه كشف الذات (ذقت الغاية التي لا فوقها غاية) في معرفة التجلي الذاتي الذي هو غاية الغايات، وإن كان لا نرى فيه الذات لحجب صورة الرائي عن رؤية (في حق المخلوق) إذ الخالق لا يحجبه شيء عن شيء أصلا.
وإذا كان هذا غاية الغايات، (فلا تطمع) في تجلي الذات، أن يحصل لك من غير كسب أعلى من هذه الروح، (ولا تتعب نفسك) بطلب (أن ترقی درجة أعلى من هذا الدرج) ، وهو أن يحصل لك تجلي الذات من غير حجاب .
""لأنه فوق استعدادك المقيد: فما هو ثمة أصلا أي ليس الحق هناك؛ بل إنه معك حيث أنت، وأنت ما تتعدى استعدادك معه؛ لأن الحق في نفس الأمر مع كل معتقد؛ بل هو صورة كل معتقد واستعداد لا يتعدى عنه فأرح نفسك ولا تتعب إنك معه كما هو معك، وإن لم تشعر بذلك.""
(فما هو) أي: أعلى من هذا الدرج، وهو التجلي الذاتي من غير حجاب (ثمة) ، أي: في حق المخلوق (أصلا)، وإنما هو شأن الخالق، وقد ورد في حديث الرؤية: «أنه ليس بينهم وبين ربهم إلا رداء الكبرياء».
(وما بعده) أي: بعد التجلي الذاتي المستلزم للحجاب الذي أقله حجب صورة الرائي الظاهرة في مرآة الذات عند الرؤية (إلا العدم المحض)، إذ ما ذكرنا نهاية تجلي الوجود، وما دونه من تجلي الأسماء أو الأفعال، ولا ترقى إليها، وإنما إليها النزول، وإذا كان التجلي الذاتي مستلزما لرؤية صورة استعداد المتجلى له.
(فهو) أي: ذات الحق (مرآتك في رؤيتك نفسك) أي: في رؤيتك صورة لنفسك فاضت عليها من ربها بحسب أعمالها وأحوالها على ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: "فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا" [الكهف: 110].
وهذه الشركة عبادة النفس، ومن جملتها الرؤيا التي فسر بها الآية، (وأنت مرآته في رؤيته أسماءه) أي: صورها، (وفي ظهور أحكامها) أي: آثارها إذ الذات وأسمائها لم تزل مرئية له على أنها لا يمكن ظهورها في الأشياء؛ لأن الظاهر في الأشياء مقيد باستعداداتها، ولا يقيد بالذات من حيث هي.
ولكن يقال له: تجلي الذات؛ لأن أسماءه (ليست سوى عينه)، أي: ليست غيرا لما هو عين الذات فإنها ليست عينها ولا غيرها، ولا سيما إذا اجتمعت في المظاهر الكاملة لم يعتبر تميزها عن الذات بمفهوماتها أصلا.
وهذا إشارة إلى كمال مرائيه من تجلي الذات له، وإنه تكون الأسماء في شأنه كأنها عين الذات، وإذا صارت الأسماء في هذا التجلي كأنها عين الذات.
(فاختلط الأمر) أي: أمر التجلي الذاتي في نفسه، (وانبهم) على المتجلى له؛ فلا يتميز عنده تجلي الذات عن تجلي الأسماء والصفات؛ لعدم المغايرة الموجبة للتمييز بينهما إلا بطريق الذوق لبعض الكل.
وإليه الإشارة بقوله: (فمنا) أي: من أهل تجلي الذات (من جهل في علمه) تمييز تجلي الذات عن تجلي الأسماء والصفات، فقال: العجز عن درك الإدراك أي: عن تميز التجلي الذاتي عن الأسمائي إدراك لما عليه أمر التجلي من الاختلاط والإبهام، والعجز عن الدرك نفس الجهل ومن ملزوماته، وقد جعله عين الإدراك الذي هو العلم.
ومنا من علم أي: ميز بين التجلي الذاتي والأسمائي مع هذا الاختلاط والإيهام بأن أحدهما، وإن لم يكن غيرا للآخر؛ فليس أيضا عينه، ولم يقل مثل هذا لاستلزامه جعل أحد النقيضين أو ملزومه عين الآخر.
وهو أي: التمييز بينهما على القول أي: أصوب الاعتقادات (بل) عطف على قوله: لم يقل (أعطاه العلم السكوت) عن بيان ذلك؛ لضيق العبارة، وخوف ضلال العامة، وإنما أخره عن قوله، وهو أعلى القول؛ لأنه لو قدمه عليه التوهم أن المسكوت عنه أعلى الاعتقادات، وهو باطل بل الأعلى هو أجزم، وإن كان مما ينبغي أن يسكت عنه عند حضور العامة، وهذا الذي ميز بين التجليين، وسكت عن بيانه عند العامة (أعلى عالم بالله) يطلع على تجلياته، ويراعي الأدب معه؛ فلا يعبر عن أسراره بما يوهم العامة خلاف الواقع تقية منه، فإن العلم بالله موجب للتقوى منه "إنما يخشى الله من عباده العلماء " [فاطر:28]، فهو بهذه المعرفة، وهذا السكوت جميعا صار على عالم بالله، فلذلك أخر هذا الكلام عن قوله، بل أعطاه العلم السكوت.
(وليس هذا العلم) أي: تمييز التجلي الذاتي عن الأسمائي مع عدم المغايرة بينهما بطريق الكشف على وجه الأصالة، لغاية كماله (إلا لخاتم الرسل، وخاتم الأولياء) لكونهما أجمع لأسرار الرسالة والولاية، فناسبهما هذا العلم بالذات، وخاتم الولاية شخص يظهر في آخر عهد عيسى عليه السلام ، فيشهد له عیسی، و كفی به شهيدا على ما صرح به الشيخ في كتابه المسمی بـ "عنقاء المغرب في معرفة ختم الأولياء، وشمس المغرب " ، وجعل في «الفتوحات» خاتم الولاية المطلقة عيسى، وخاتم الولاية المحمدية رجلا من العرب، ويجب تأويله بأن عیسی خاتم الولاية التي للأنبياء، والرجل المذكور يظهر بالولاية المخصوصة بمحمد دون ولاية سائر الأنبياء.
قال رضي الله عنه: (وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى أن الرسل لا يرونه- متى رأوه- إلا من مشكاة خاتم الأولياء: فإن الرسالة والنبوة- أعني نبوة التشريع، ورسالته- تنقطعان، والولاية لا تنقطع أبدا.
فالمرسلون، من كونهم أولياء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء؟
وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلى.
وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد
ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم، وفي تأبير النخل.
فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شي ء وفي كل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في رتبة العلم بالله: هنالك مطلبهم.
وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها، فتحقق ما ذكرناه.
ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل سوى موضع لبنة، فكان صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة.)
والمشار إليه في «العنقاء»، فهو خاتم الولاية للكل، ولذلك (ما يراه) بطريق الكشف (أحد من الأنبياء والرسل) ذكرهما لئلا يتوهم أن للأنبياء خاتما آخر كما للرسل پری الأنبياء من مشكاته دون مشكاة خاتم الرسل لا بل هو واحد، وإن وقع التعدد في خاتم الولاية على ما قررنا (إلا من مشكاة الرسول الخاتم)، وهي ما يلوح له منه نور الكشف، (ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم) لمزيد المناسبة بين كل متجانسين
(حتى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء)؛ لأنهم أول ما يرونه يرون، وهم أولياء والنبوة تحصل لهم بعد ذلك، وحال الرسالة لا تزول عنهم تلك الرؤية، بل تحصل من المشكاتين جميعا، وبعد انقطاعها تبقى لهم الرؤية من مشكاة خاتم الولاية لا غير.
(فإن الرسالة): وهو تبليغ الاعتقادات الحقة، والأحكام الحكيمة، وما يترتب عليهما (والنبوة) أنباء أسرارها، ومبانيها (أعني: نبوة التشريع ورسالته) قيد بذلك.
لأن النبوة بمعنى: إعلام الحق إياهم بأسراره وإرساله الأملاك إليهم لإكرامهم لا ينقطع أبدا، وهي جهة عالية دائمة بخلاف نبوة التشريع ورسالته فإنهما (تنقطعان) بعد دخول الجنة والنار على ما صرح به في الفص العزيري فتنقطع مشكاتهما فلا تكون جميع أوقات الرؤية أوقات رسالة التشريع ونبوته، (والولاية) التي للأنبياء وغيرهم (لا تنقطع أبدا) فلا تنقطع مشكاتها.
(فالمرسلون من كونهم أولياء) لا من كونهم رسلا أو أنبياء، فإنهم يرونه من مشكاة الرسالة والنبوة التي ليست للتشريع دائما، والتي للتشريع حين (لا يرون ما ذكرناه) من تميز التجلي الذاتي عن الأسمائي بطريق الذوق (إلا من مشكاة خاتم الأولياء)، وإن كانت ولايتهم أكمل من ولايته، إلا أنه الذي ظهر بها دونهم لاختصاصهم بالظهور بالنبوة والرسالة .
""وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلى.
وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم؛ وفي تأبير النخل، فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة، وإنما نظر الرجل إلى التقدم في رتب العلم بالله: هنالك مطلبهم.""
يدل على ذلك قول الشيخ في «الفص العزيري»: أن ولاية الأنبياء هي الفاضلة على نبوهم التشريعية دون ولاية الأولياء، ويدل عليه العقل أيضا، وهو أنه لو كان أتم منهم في الولاية؛ لفاضت عليه النبوة والرسالة كما فاضتا على من دونه، على ما هو مقتضى السنة الإلهية في وجوده، ويدل عليه أيضا قول الشيخ هنا: (فكيف من دونهم من الأولياء؟)،
وإذا انتسبت إلى خاتم الأولياء مشكاة الولاية التي منها رؤية الأنبياء صار خاتم الأولياء كأنه متبوع للأنبياء، (وإن كان خاتم الأولياء تابا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع) الذي هو دون ولاية الأنبياء فكيف تابعا لهم في ولايتهم في الحقيقة، وإن كان كأنه متبوع لهم في الظاهر.
(فذلك) أي: كون خاتم الأولياء تابعا في الحقيقة (لا يقدح في) علو (مقامه) الذي أوجب كونه كأنه متبوع للأنبياء باعتبار نسبة مشكاة الولاية إليه، (ولا يناقض) كونه تابعا (ما ذهبنا إليه) من كونه متبوعا بالنسبة إلى أمر واحد، (فإنه) أي: خاتم الأولياء (من وجه يكون أنزل)، وهو النظر إلى الحقيقة يكون فيها تابعا، (كما أنه من وجه يكون أعلى)، وهو النظر إلى الظهور بالولاية التامة يكون فيها متبوعا، (وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه) من تفضيل خاتم الولاية باعتبار نسبة مشكاة الولاية إليه مع تفضيل الأنبياء سیما خاتمهم باعتبار الحقيقة (في فضل عمر رضي الله عنه في أسارى بدر في الحكم فيهم) على خاتم الأنبياء عليهم السلام - مع فضله على عمره بما لا يحصى، (فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء) حتى في الحكم في الأسارى، وحتى في نسبة مشكاة الولاية.
(وإنما نظر الرجال إلى التقدم في رتب العلم بالله) فيفضلون الأنبياء سیما خاتمهم باعتبار تقدمهم الحقيقي، ويفضلون خاتم الأولياء باعتبار ظهوره بمشكاة الولاية (هنالك مطلبهم)، فلا يفضلون عمر، وإن ظهر فضله في الحكم في أسارى بدر.
و إليه الإشارة بقوله: (وأما حوادث الأكوان فلا تعلق خواطرهم بها)، وليس المراد نبوة التشريع ورسالته، إذ ليستا من حوادث الأكوان؛ لأن الأحكام المنوطة بهما قديمة على ما تقرر في الأصول.
ولذلك قال: (فتحقق) إذ هو مزلة، إذ يرى أن حكم عمر رضي الله عنه من قبيل حكم نبوة التشريع، وهو غلط إذ البحث في تصویب اجتهاده، وأيضا بما يتوهم أن نبوة التشريع والرسالة لما انقطعتا كانتا من حوادث الأكوان؛ لأن المراد انقطاع التعلق دون الأحكام المتعلقة؛ لأنها قديمة.
ثم أشار إلى كيفية كونهما ختمين مع الفرق بين ختميتهما بأن خاتم النبوة كان يرى ختم الولاية في ضمن نبوة، فقال: (ولما مثل) جواب الشرط محذوف، أي: كان هذا التمثيل ثابتا أيضا لخاتم الولاية (النبي ، النبوة) أي: نبوة جميع الأنبياء (بالحائط من) حيث إنها محيطة بالكمالات إحاطة الدار بالساكن من (اللبن).
و فيه إشارة إلى أنه مما لا يحترق بنار الشبهات رأي فيهم كثرة، وقوام تلك الكثرة هذا الواحد، (وقد كمل) الحائط عمن لقدمه من الأنبياء (سوى موضع لبنة واحدة)، لولاها لتزلزل بنيان النبوة لبطلان مصالح بعض أحكامهم، مع أن أهلها قد تخيرها أيضا، (فكان صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة) المكملة لبنيان النبوة الصائنة لها عن التزلزل.
فكان هذا المثال خاتم الأولياء، إذ به تمت الولاية التي هي مستند مصالح العالم بحيث يتزلزل بانتقالهم عن آخرهم.
غير أنه صلى الله عليه و سلم لا يراها كما قال لبنة واحدة.
و أما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا، فيرى ما مثله به رسول الله صلى الله عليه و سلم، و يرى في الحائط موضع لبنتين ، و اللبن من ذهب و فضة.
فيرى اللبنتين اللتين تنقص الحائط عنهما و تكمل بهما، لبنة ذهب و لبنة فضة.
فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين، فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين. فيكمل الحائط.

ثم أشار إلى الفرق بين المثالين؛ فقال: (غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يراها) أي: اللبنة التي نقص الحائط عنها (إلا كما قال: "لبنة واحدة") ، لأنه كان يرى كمال الولاية للأنبياء فكأنها انختمت في ضمن نبوته، وهو لم يظهر بها وولاية غيرهم غير منظور لها لقصورها.
(وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا) أي: الرؤية أو المثال من باب إطلاق السبب على المسبب، إذ الرؤيا سبب الاطلاع في الغاية على الأمثلة، وإنما لم يكن له بد من ذلك.
لأنه سبب كمال العالم وانتظام مصالحه، (فیری ما مثل به رسول الله صلى الله عليه وسلم) للنبوة من الحائط مثالا للولاية، وهذا الحائط حائط الكمالات المطلقة؛ ولكنه (يرى في الحائط موضع لبنتين)؛ لأن الولاية لا تنتظم بدون النبوة فيرى الكمال بنبوة خاتم الرسالة وولاية نفسه، ويرى اللبن الواحد (من ذهب)، والأخر من (فضة) باعتبار أن الذهب، وإن عز فليس فيه كمال الظهور، وكان هذا في ولاية الأنبياء لم يظهروا بها، وقد ظهر بها الأولياء.
والفضة وإن دنا فهو غاية في الظهور، وقد ظهر بها الأنبياء، وهو ظاهر والأولياء أيضا في أعمالهم الظاهرة.
وقد أخفى أكثرهم جهة الولاية (فيري اللبنتين) اللتين (ينقص الحائط) أي: حائط الكمالات (عنهما) قبل وجود خاتم الأنبياء، وخاتم الأولياء (ويكمل بهما) بعد وجودهما.
(لبنة فضة ولبنة ذهب) تنفصل عنده اللبنتان مع أن لبنة الذهب كانت محققة في رؤية خاتم الأنبياء، وكانتا كالواحدة عنده من حيث إن الولاية إشاعة الأنوار الرشاد في النبوة، وتقوية للمعجزات الظاهرة عليهم بظهور الكرامات في أتباعهم.
ثم إن خاتم الأولياء، وإن لم يكن نبيا لكن له نصيب منها من حيث وقوفه على أسرارها، ومن حيث أخذه العلوم والأحكام عن الله بلا واسطة.
(فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تلك اللبنتين)، وإن كملت إحديهما لخاتم الأنبياء؛ لأن كمال نبوته إنما تم بإشاعة نور الرشاد في (خاتم الأولياء، فيكمل الحائط) أي: حائط الكمالات بوجوده عنده، وإن كانت ولايته في ضمن نبوة خاتم الأنبياء وولايته عليه السلام عنده.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العرب   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 3:54 pm

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العرب

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية    الجزء الثالث
قال رضي الله عنه: (والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضة، وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه، لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول.
فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع بكل شيء.
فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين».
وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث.
وكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من كون الله تعالى تسمى «بالولي الحميد».
فخاتم الرسل من حيث ولايته، نسبته مع الخاتم للولاية نسبة الأنبياء والرسل معه، فإنه الولي الرسول النبي.
وخاتم الأولياء الولي الوارث الآخذ عن الأصل المشاهد للمراتب.
وهو حسنة من حسنات خاتم المرسل محمد صلى الله عليه وسلم مقدم الجماعة وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة. فعين حالا خاصا ما عمم.)
ثم أشار إلى أنه في الحقيقة لبنة واحدة هي أخذ العلوم والأحكام عن الله تعالی بلا واسطة.
لكنه كان لأحدهما بنفسه، وللأخر بمتابعته تفصلت عند التابع المرتبتان دون المتبوع؛ لأنه لا يلتفت إلى التوابع.
فقال: (والسبب الموجب لكونه) أي: خاتم الأولياء (رأى لبنتين) ، مع أن اللبنة في الحقيقة واحدة (أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر)؛ لأن التشريع مخصوص به ليس للولي ذلك، وإن أخذ عن الله بلا واسطة.
(وهو) أي: شرع خاتم الأنبياء (موضع اللبنة الفضية وهو ظاهره) أي: ظاهر هذا الولي، وظاهر (ما يتبعه) أي: الولي النبي (فيه من الأحكام) فهو أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر.
(كما هو آخذ عن الله تعالى في السر) أي: بطريق خفي ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه إلا أن أخذه ليس باعتبار الأصالة، بل باعتبار متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما كان أحدا عن الله في السر.
(لأنه يرى الأمر بالكشف على ما هو عليه، ولا بد أن يراه هكذا)، وإن لم يبلغ إليه خبر ما شرع النبي صلى الله عليه وسلم .
(وهو) أي: الأخذ عن الله (موضع اللبنة الذهبية) لما فيه من الخفاء.
ولذلك لا يصح للولي أن يعمل شيئا، لم يعرف أنه شرع لنبيه، وإنما لم يكن له بد من أن يراه هكذا، (فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول)؛ لأنه اتصل بالعلم الأزلي الذي هو مأخذ الملك.
وهذا الملك لأبعد واسطة في حق النبي صلى الله عليه وسلم على الحقيقة؛ لأنه من جملة قواه، ولم يصب من قوى الولي.
وإلا كان صاحب الوحي أيضا مع أنه مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فلا بد له أن يكاشف ذلك بقوى نفسه.
فلم يتم تصرف الولي في التام كتصرف النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه بقوى نفسه وقوى العالم.
(فإن فهمت ما أشرت به) ، من بيان كيفية ختم النبوة والولاية بالتمثيل، (فقد حصل لك العلم النافع) الداعي إلى متابعة الأنبياء والأولياء الموجب لاعتقاد أن الولي، وإن بلغ ما بلغ من الكمال فلا بد من متابعته النبي.
وإن الولاية من كمالات النبوة حتى رأي النبي صلى الله عليه وسلم اللبنة واحدة لكنها انفصلت عند أتباعه إلى ثنتين، مع بقاء نوع خفاء في الولاية.
وإن ظهرت في خاتم الأولياء على أتم الوجوه حتى رأى لبنة الولاية لبنة ذهب باعتبار خفاء الولاية في نفسها.
وإن كانت شريفة في الأصل الذي هو النبي لاستقلاله بنفسه مع وجوب متابعة الولي، وإذا كان أخذ الخاتمين من معدن واحد، وهو العلم الأزلي بلا واسطة لنهاية كمالهما حتى صار ذلك العلم كأنه ذاتي لهما وغيرهما لما لم يتم له ذلك.
لم يكن له بد من الواسطة، لكن جهة الولاية في حق الأنبياء مندرجة في النبوة.
(فكل نبي من لدن آدم عليه السلام إلى آخر نبي) كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم  ، وإنما صرح بآدم عليه السلام وعيسى عليه السلام؛ لأن بعضهم يفضلونهما على نبينا صلى الله عليه وسلم ، (ما منهم أحد يأخذ) المعارف الجليلة تتميز التجلي الذاتي عن الأسمائي مع عدم المغايرة بينهما (إلا من مشكاة خاتم النبيين)، إما من جهة النبوة فظاهر، وإما من جهة الولاية؛ فلأنها في الأصل له، وهي فيه أكمل على ما يصرح به الشيخ في الفص العزيري.
وإن لم تنسب إليه مشكاة الولاية، (وإن تأخر وجود طينته) أي: الوجود الجسماني له فمشكاته لحقيقته المتقدمة؛ لأنها ذاتية له؛ (فإنه بحقيقته موجود) قبلهم، (وهو) أي: دليل وجوده مع مشكاته قبلهم (قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين" ) ولا نبوة بدون مشكاتها وقوله بين الماء والطين.
أي: لا ماء ولا طينا؛ لأن المتوسط بين الأمرين لا يكون أحدهما فلا متحقق بنبوته كما قال: (وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث)؛ لأن النبوة ليست ذاتية لهم فتتوقف على حصول شرائطها، وكذلك خاتم الأولياء) لكون كماله ذاتيا (كان وليا و آدم الكلية بين الماء والطين).
وإن كانت ولاية آدم عليه السلام أكمل من ولاية خاتم الأولياء، إلا إن مشكاتها لما نسبت إلى خاتم الولاية جعلت الولاية ذاتية له، فكأنها فيه أكمل (وغيره من الأولياء) المجردة ولايتهم (ما كان ولا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية) الحاصلة تلك الشرائط (من الأخلاق الإلهية).
إذ تشبهوا بها (في الاتصاف بها) أي: بما يناسبها وتلك الأخلاق الإلهية هي المفهومة (من كون الله يسمى بالولي الحميد)، وإذا كانت ولاية خاتم الأولياء كأنها ذاتية له.
(فخاتم الرسل من حيث ولايته) لا من حيث نبوته ورسالته تشريعية، أو غيرها (نسبته مع الخاتم للولاية) في أن ظهور كمال ولايته به (نسبة الأنبياء والرسل معه) في أن ظهور كمال نبوتهم ورسالتهم به.
(فإنه) أي: خاتم الأنبياء (الولي الرسول النبي) فهو ذو جهات، فيجوز أن يظهر بكمالات من مضى من الرسل والأنبياء، ويجوز أن يظهر بكمال ولايته (وخاتم الأولياء)؛ وذلك لأنه (الولي) بذاته (الوارث) كمال الولاية من محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء (الآخذ) للأحكام والعلوم (عن الأصل المشاهد للمراتب) فكمل إرثه للولاية المحمدية، بل صار له نصيب من النبوة أيضا بتلك المشاهدة ولكنه إنما وجد هذه الكمالات ببركة متابعته صلى الله عليه وسلم.
فهي كمالاته في الحقيقة كما قال: (وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل محمد مقدم الجماعة) أي: جماعة الأنبياء والأولياء كلهم حتى الخاتم بيده تكمیل استعداداتهم، ومنه فيض كمالاتهم.
(وسيد ولد آدم عليه السلام) كلهم حتى خاتم الولاية (في فتح باب الشفاعة الكبرى) التي هي تكميل الناقصين ذوي الاستعدادات القاصرة.
بإفاضة النور الإلهي عليهم بواسطته لإذهاب ظلمات معاصيهم الحاجبة عن ربهم، والحجاب
سبب العذاب.
"" ذكر في رسالة القدس في المفاضلة بين الإنسان والملك: إن التفاضل ما يقع إلا من جنس واحد، والإنسان الكامل قد خرج من أن يكون جنس العالم، فافهم. ""
(فعین حالا خاصا) لسيادته للكل في قوله صلى الله عليه وسلم : "أنا سيد ولد آدم، وأنا أول شافع مشفع".
إذ لم يوجد منه أثر في غيره، (ما عمم) لمشاركة سائر الأنبياء والأولياء في باقي كمالاته، وإن كانت له بالذات وهم بتبعيته.
قال رضي الله عنه: (وفي هذا الحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية، فإن الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين.
ففاز محمد صلى الله عليه وسلم بالسيادة في هذا المقام الخاص.
فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام.
وأما المنح الأسمائية: فاعلم أن منح الله تعالى خلقه رحمة منه بهم، وهي كلها من الأسماء.
فإما رحمة خالصة كالطيب من الرزق اللذيذ في الدنيا الخالص يوم القيامة، ويعطى ذلك الاسم الرحمن. فهو عطاء رحماني.
وإما رحمة ممتزجة كشرب الدواء الكره الذي يعقب شربه الراحة، وهو عطاء إلهي، فإن العطاء الإلهي لا يتمكن إطلاق عطائه منه من غير أن يكون على يدي سادن من سدنة الأسماء.
فتارة يعطي الله العبد على يدي الرحمن فيخلص العطاء من الشوب الذي لا يلائم الطبع في الوقت أو لا ينيل الغرض وما أشبه ذلك.
وتارة يعطي الله على يدي الواسع فيعم، أو على يدي الحكيم فينظر في الأصلح في الوقت، أو على يدي الوهاب، فيعطي لينعم لا يكون مع الواهب تكليف المعطى له بعوض على ذلك من شكر أو عمل، أو على يدي الجبار فينظر في الموطن وما يستحقه، أو على يدي الغفار فينظر المحل وما هو عليه.
فإن كان على حال يستحق العقوبة فيستره عنها، أو على حال لا يستحق العقوبة فيستره عن حال يستحق العقوبة فيسمى معصوما ومعتنى به ومحفوظا وغير ذلك مما شاكل هذا النوع.)
ثم أشار إلى عظمة مقام فتح باب الشفاعة بأن كل كمال دونه ليس بكمال بالنظر إليه فقال: (وفي هذا الحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية) التي بها تخلق الأولياء وولايتهم، وفيها ظهور سائر الأنبياء، فبهذا صار مظهر الذات دون خاتم الأولياء ودون غيره.
ثم استدل على تقدمه على الأسماء الإلهية بقوله: (فإن الرحمن) أجمع الأسماء الإلهية (ما يشفع عند المنتقم في أهل البلاء) الذين هم قاصرو الاستعداد جدا (إلا بعد شفاعة الشافعين) من الأنبياء والأولياء الذين أخذوا أثر الشفاعة من محمد صلى الله عليه وسلم فاتح بابها.
فإذا تقدموا في ذلك على الأسماء؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم أولى بذلك (ففاز محمد صلى الله عليه وسلم بالسيادة في هذا المقام العظيم)، الذي كل مقام دونه لا يعتد به بالنظر إليه، وهو المسمى بالمقام المحمود إذ تلك المقامات، إنما تفيد كمال المستعدين الكامل استعدادهم لا غير.
(فمن فهم المراتب والمقامات) وعلم ما يشترك منها بين الأنبياء والأولياء، وما يشترك (لم يعسره قبول هذا الكلام) في أن سيادته في الأمر الواحد، وهو أعظم الأمور كالسلطنة والسيادة، وأما سائر المراتب فيجوز أن تشارك الرعايا والعبيد للسلاطين، والسادات فيها؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
(وأما المنح الأسمائية) أي: العطايا المنسوبة إلى الأسماء المعينة عامة أو خاصة، واحدا أو متعددا، وأطلق عليها لفظ المنح؛ لأن الغالب فيها إفاضة المنافع إما بواسطة إعطاء الأعيان التي تقدم بها، أو بدون واسطتها.
(فاعلم أن منح الله تعالی) أي: الصادرة عن الحضرة الإلهية التي هي حضرة الأسماء (خلقها رحمة منه بهم)؛ لأن الفائض منه بالقصد الأول الوجود، وهو خير كله.
وإنما الشر هو: العدم أو نسبته لكنها على الإطلاق لا تنسب إلى الله، ولا إلى الاسم الرحمن، لأن المقصود من هذه القسمة بيان مستندات العطايا المخصوصة ما أمكن؛ ليتوسل بمستندها إلى تحصيلها على أن المستند إليهما مستند إلى الأسماء الجزئية إذ الأمور الجزئية لا تستند إلى أمور كلية.
وإليه الإشارة بقوله: (وهي كلها من الأسماء) أي: الداخلة تحت اسم الله، أو اسم الرحمن؛ فقسم العطايا إليهما أولا، ثم المنسوبة إلى اسم الله إلى أقسام أخر.
فقال: (فإما رحمة خالصة) عن شوب كراهة الطبع، وعدم نيل المقصود، وعدم سلامة العاقبة.
(كالطيب) أي: الحلال (من الرزق اللذيذ في الدنيا الخالص) عن الحساب والعقاب (يوم القيامة، ويعطى ذلك الاسم الرحمن) الدال على المبالغة في الرحمة لا باعتبار كونه من السدنة، بل باعتبار مقابلته لاسم الله في قوله: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن "الإسراء:110]. ولا ينسب إلى اسم أخر تحته، ولا إلى اسم الله، ولا إلى الذات.
أما الأول: فلعدم تعيينه.
وأما الثاني : فلأن المقصود التنبيه على المستند الخاص.
وأما الثالث: فلأنه من المنح الزائدة على الكمالات الذاتية.
(وإما رحمة ممتزجة) بما لا يعد رحمة في العرف العام، (كشرب الدواء الكريه الذي يعقب شربه الراحة) فشيب بأعقاب الراحة الكراهة؛ فلا ينسب إلى الرحمن؛ لعدم مبالغة الرحمة فيه، ولا إلى الذات لتعين الأسماء فيه من الرحمن والقاهر.
ولذلك يقول: (هو عطاء إلهي) لاستناده إلى اسم معين باعتبار كونه من السدنة، وإن لم يكن منها في مواطن أخر (فإن) كان (العطاء الإلهي لا يمكن إطلاق عطاء منه من غير أن يكون على يدي سادن) ، أي: خادم معين واحد فصاعدا (من سدنة الأسماء) لا من الأسماء المخدومة كالر حمن بالاعتبار الذي ذكرناه لا باعتبار تبعيته لاسم الله .
في قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم" [الفاتحة: 1]، إذ هو بهذا الاعتبار من السدنة، وإذا كان كل عطاء على يد سادن من الأسماء عطاء إها لا ينسب إلى الرحمن، ولا إلى الذات.
(فتارة يعطي الله العبد على يدي الرحمن) لا باعتبار كونه مخدوما دالا على المبالغة في الرحمة؛ بل باعتبار كونه من السدنة مزج منه الرحمة مع غيرها أولا (فيخلص) الرحمن
(العطاء من الشوب) الواقع منه أولا (الذي لا يلائم الطبع في الوقت) من غير مضي مدة مديدة، (أو) من الشوب الذي (لا ينيل الغرض) بما كان واقعا فيه، (وما أشبه ذلك) .
فاسم الرحمن هنا كالسادن للعطاء الإلهي الواقع على يدي سادن أخر.
(وتارة يعطي الله على يدي الواسع) فيعم العبد بأنواع العطايا أو العباد بنوع منه لائم الطبع أولا.
(أو على يدي الحكيم، فينظر في الأصلح) للمعطى له، أو للعامة (في الوقت) الحاضر إذ باعتبار وقت ما لا يخلو عطاء عن حكمة ومصلحة للحمل، فلا ينسب إليه على الخصوص إلا ما هو بحسب الوقت الحاضر.
(أو على يدي الواهب، فيعطي لينعم) المعطى له حالا أو مالا، (ولا يكون مع) عطاء (الواهب) على الخصوص، وإن كانت الأسماء كلها واهبة من وجه (تكليف المعطى له) العوض على ذلك من شكر ثناء باللسان، أو اعتقاد بالجنان، أو عمل بالأركان إذ لا هبة مع العوض.
أو على يدي الجبار الذي يجبر الكسير؛ (فينظر في المواطن) ، أي: مواطن المعطى له هل فيها كسر أم لا، (وما يستحقه) كل موطن من وجوه الجبر.
(أو على يدي الغفار)، وهو الذي يستر الشخص عن العقوبة، أو عن استحقاقها (فينظر المحل) أي: محل الغفر، (وما هو عليه) من النقاء عن المعاصي أو التلوث بها.
(فإن كان على حال يستحق العقوبة) لتلوثه بالذنوب (فيستره عنها) أي: عن العقوبة.
(أو على حال لا يستحق العقوبة) لكنه يمكنه أن تطرأ عليه تلك الحال (فيستره عن حال يستحق العقوبة) عليها، (فيسمى معصوما)؛ لأنه عصمه الله عن المعاصي.
(ومعتني به) للعناية الإلهية في عصمته (ومحفوظا)؛ لأنه حفظ عن أسباب العقوبة.
وعنها وغير ذلك مما يشاكل هذا النوع من الأسماء، وهذا هو فائدة استغفار أهل العصمة.
قال رضي الله عنه: (والمعطي هو الله من حيث ما هو خازن لما عنده في خزائنه.
فما يخرجه إلا بقدر معلوم على يدي اسم خاص بذلك الأمر.
«فـ أعطى كل شي ء خلقه» على يدي العدل و إخوانه.
وأسماء الله لا تتناهى لأنها تعلم بما يكون عنها- و ما يكون عنها غير متناه- و إن كانت ترجع إلى أصول متناهية هي أمهات الأسماء أو حضرات الأسماء.
وعلى الحقيقة فما ثم إلا حقيقة واحدة تقبل جميع هذه النسب و الإضافات التي يكنى عنها بالأسماء الإلهية.
والحقيقة تعطي أن يكون لكل اسم يظهر، إلى ما لا يتناهى، حقيقة يتميز بها عن اسم آخر، تلك الحقيقة التي بها يتميز هي الاسم عينه لا ما يقع فيه الاشتراك، كما أن الأعطيات تتميز كل أعطية عن غيرها بشخصيتها، و إن كانت من أصل واحد، فمعلوم أن هذه ما هي هذه الأخرى)
ثم قال: (والمعطي) لكل هذه العطايا: (هو الله) لا اسم الرحمن بالاعتبار السابق؛ لأنه لم تتمحض فيها الرحمة، ولا اسم الله تعالى من حيث جمعة للأسماء، بل (من حيث هو خازن لما عنده) من أنواع الفيض الذي (في خزائنه)، وهي الأسماء التي هي سدنته.

وإذا كانت العطايا الإلهية بهذه الأسماء المخصوصة، ولا يترجح بعضها على بعض إلا باستعداد المعطى له (فما يخرجه) أي: نوعا من الفيض (إلا بقدر معلوم) يقتضيه استعداد المعطى له بحسب أحواله.
وإذا كان معطيا لكل أحد بقدر أي: ما يستحق أن يخلق فيه فمن حيث كون كل عطاء على هذا الوجه يكون (على يدي) استعداده، "أعطى كل شيء خلقه" [طه: 50]) على وجه الحكمة من غير بخل، ولا ظلم بل (على يدي الاسم العدل وأخواته)، ?المقسط، والحق، والحكم وأمثالها حيث لم يجاوز القدر المستعد له.
فالعطايا من حيث تقدرها بمقدار الاستعداد تتعلق بهذه الأسماء، كما أنها باعتبارات أخر تتعلق باسم الله أو اسمه الرحمن، والمتعلق باسم الله يتعلق باسمه الواسع والحكيم، والوهاب، والحنان.
ثم استشعر سؤالا بأن مقتضى ما ذكرتم أن العطايا الكلية تنسب إلى الأسماء الكلية والعطايا الجزئية تنسب إلى الأسماء الجزئية، والعطايا الجزئية غير متناهية.
فهذا يقتضي أن تكون الأسماء الإلهية متناهية لكنه باطل؛ لأنها توقيفية ومعلوم بالضرورة أنها لا متناهية.
فقال: (وأسماء الله لا تتناهى؛ لأنها تعلم بما يكون عنها)، مما يوجب نسبة مسماها إليها، والمسمى إذا انتسب إلى أمور كثيرة يكون له بالنظر إلى كل نسبة اسم، (وما يكون عنها غير متناه)، فالأسماء أيضا غير متناهية ضرورة إن أسباب الأمور الغير المتناهية من الجزئيات تكون غير متناهية.
(وإن كانت ترجع إلى أصول) لها كلية (متناهية) هي التوقيفية، وإنما خصت بذلك من حيث (هي أمهات للأسماء) الجزئية تتفرع تلك الجزئيات عنها، (أو حضرات الأسماء) الجزئية تجتمع في حضرة الاسم الكلي اجتماع الأشخاص الكثيرة بحضرة أمير أو وزیر ذلك.
لأن غير المتناهي لا يوجد إلا في ضمن أمر كلي؛ بل لا بد لكل كثرة من الرجوع إلى وحدة هي أصلها.
(فما ثم) أي: في الواقع (إلا حقيقة واحدة) هي الذات الإلهية ( تقبل جميع النسب والإضافات التي كئى عنها بالأسماء الإلهية)، فإنها أسماء الذات باعتبار هذه النسب والإضافات، وهذا تصريح بأن تعدد النسب يوجب تعدد الأسماء، ولا شك أن النسبة إلى الجزئيات غير النسبة إلى الكليات.
ثم استدل على أنه لا بد من الأسماء الجزئية للظهور في الأمور الموجودة، فقال: (والحقيقة) أي: العلم الحقيقي (يعطي) أي: يفيد ويقتضي (أن يكون لكل اسم يظهر) في مظاهر متحدة النوع، أو الجنس كثيرة (إلى ما لا يتناهی) بحسب الإمكان (حقيقة) شخصية تتحقق في ضمنها حقيقته العامة التي لا بد من فرض تحققها للظهور في تلك المظاهر، إذ (يتميز بها) ذلك الاسم (عن اسم آخر) اختلفت مظاهرهما جنسا أو نوعا.
(وتلك الحقيقة ) الخاصة لذلك (الاسم) هي (عينه) أي: عين الاسم (لا ما يقع فيه الاشتراك) أي: الحقيقة الكلية فإنها ليست عين الاسم المحقق في الخارج باعتبار اشترا?ه، إذ لا تحقق للأمر الكلي من حيث هو كلي في الخارج أصلا، وإنما المتحقق الكلي من حيث هو طبيعة من الطبائع أي: حقيقة من الحقائق فهذا التميز في الأسماء الكلية بتحقق حقائقها الجزئية.
فالتميز الحقيقي إنما هو في الأسماء (كما) في آثارها التي هي العطايا، وذلك (أن الأعطيات تتميز كل أعطية عن غيرها بشخصيتها)، إذ تتميز كلياتها إنما يحصل بتميز جزئياتها، ولا ينحصر التميز في الفضول والخواص، (فمعلوم أن هذه) العطية باعتبار تشخصها (ما هي هذه الأخرى)، وإن اشتركتا في الفضل والخاصة.
قال رضي الله عنه : (وسبب ذلك تميز الأسماء.
فما في الحضرة الإلهية لاتساعها شيء يتكرر أصلا.
هذا هو الحق الذي يعول عليه.
وهذا العلم كان علم شيث عليه السلام، وروحه هو الممد لكل من يتكلم في
مثل هذا من الأرواح ما عدا روح الخاتم فإنه لا يأتيه المادة إلا من الله لا من روح من الأرواح، بل من روحه تكون المادة لجميع الأرواح، وإن كان لا يعقل ذلك من نفسه في زمان تركيب جسده العنصري.
فهو من حيث حقيقته ورتبته عالم بذلك كله بعينه، من حيث ما هو جاهل به من جهة تركيبه العنصري.
فهو العالم الجاهل، فيقبل الاتصاف بالأضداد كما قبل الأصل الاتصاف بذلك، كالجليل والجميل، وكالظاهر والباطن والأول والآخر وهو عينه ليس غير.
فيعلم لا يعلم، ويدري لا يدري، ويشهد لا يشهد.
وبهذا العلم سمي شيث لأن معناه هبة الله.
فبيده مفتاح العطايا على اختلاف أصنافها و نسبها، فإن الله وهبه لآدم أول ما وهبه:
وما وهبه إلا منه لأن الولد سر أبيه.
فمنه خرج و إليه عاد. فما أتاه غريب لمن عقل عن الله.)
ثم صرح بالمقصود من الاستدلال، وهو أن الأمور الجزئية لا بد وأن تستند إلى أسباب جزئية؛ فقال: (وسبب ذلك تميز الأسماء) الجزئية التي هي الأسباب الفاعلية لتلك العطايا، وإذا كان كل عطاء اسم خاص، (فما في الحضرة الإلهية لا تسعها) بكثرة أسمائها المتجلية إلى غير النهاية (بشيء يتكرر أصلا) بل يكون لكل موجود في كل لحظة تجلي خاص لا يشاركه فيه غيره، ولا نفسه في وقت آخر.
(هذا هو الحق الذي)، يقول الكلية في دعائه: "أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك".
فلا يقال بتناهي الأسماء الإلهية كما يقول بعض أهل الظاهر: إنها التي وقع بها التوقيف ولا بتناهي التجليات وتكررها.
ولا بتناهي الموجودات الجزئية كما يقوله القائلون بانقطاع الثواب والعقاب.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الرابع .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 3:54 pm

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الرابع .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية    الجزء الرابع
نعم لا يجوز لنا أن نطلق على الله تعالی أسماء من الأسماء بدون التوقيف، ولا يلزم منه أن تكون جميع أسمائه توقيفية.
(وهذا العلم) أي: علم استناد كل عطاء إلى ما هو مستنده من الذات والأسماء، كان أول ما كان في عالم الإنسان الظاهر (علم) حيث لأنه أول عطاء كامل لآدم عليه السلام حصل له من سره الذي أوتي به علم الأسماء كلها.
والعطايا آثار تلك الأسماء فأوتي هذا من حيث إنه الأثر الكامل علم تلك الآثار (وروحه، هو الممد لكل من يتكلم في مثل هذا من الأرواح) أي: أرواح الأنبياء والأولياء والعلماء؛ لسبقه في هذا الأمر على الوجه الأكمل؛ فهو سبب لمن تأخر على ما جرت به السنة الإلهية.
(ما عدا روح الخاتم) للنبوة والولاية (فإنه لا تأتيه المادة) أي: المدد المفيد لعلم من العلوم (إلا من الله)؛ لأن الكمالات ذاتية له فلا تتوقف على سبب، ولا على شرط .
(لا من روح من الأرواح)، وإن كان سابقا باعتبار تركبه الجسدي؛ (بل من روحه يكون المدد لجميع الأرواح) ؛ لأن الكمال لما كان له ذاتيا، ولغيره غير ذاتي؛ كان الغير أخذا منه الكمال، وهو ممده عن اختيار منه فكان بعلمه حال تجرده.
(وإن كان) روح الخاتم (لا يعقل) ذلك (من نفسه في زمان تركيبة العنصري)؛ لاحتجابه به عن علمه مع أنه عالم بذلك بالذات.
فلا يزول بالغير، وقيد بالعنصر احترازا عن المثالي؛ فإنه ليس بحاجب، (فهو من حيث حقيقته ورتبته عالم بذلك كله) أي: بإمداده ومن يمده ويمد به إذ لا اختيار بدون ذلك في الإمداد (بعينه، من حيث ما هو جاهل به من جهة تركيبه الجسدي )، كأنه احد فيه جهة العلم والجهل حيث صار الأمر الواحد بالوحدة الحقيقية عالما وجاهلا في زمان واحد بالنسبة إلى أمر واحد.
(فهو العالم الجاهل)؛ لأن ما بالذات لا يزول بالغير، وإن اختفى به قبل تكشف الحجب عنه إذا كانت الهيئات الطبيعية حاجبة للنفس عما في الروح من الأسرار الكامنة كما أن السراج منیر بكل حال.
إلا أن الحجاب بينه وبين الجدار مانع من استنارة الجدار لا من نور السراج في ذاته، وإذا كان هو العالم الجاهل.
وهما ضدان لتواردهما على محل واحد مع غاية الخلاف بينهما (فيقبل الاتصاف) بالإمداد فيكون هذا الجهل من كمالاته لا من نقائصه إذ بتثبته بذلك بر به في قبوله (بالأضداد، كما يقبل الأصل) أي: الحق تعالی (الاتصاف بذلك بالجليل والجميل) متضادان، والباطن والظاهر) متضادان، (والأول والآخر) متضادان فاجتمعت في الأصل الأضداد من وجوه كثيرة.
(وهو) أي: الخاتم من كمال اتصافه بصفاته على الطاقة البشرية كأنه (عينه، وليس غيره) فيتصف بالضدين في مراتب العلم أيضا من وجوه كثيرة، (فيعلم ولا يعلم) علم اليقين،
(ويدري ولا يدري) عين اليقين، (ويشهد ولا يشهد) حق اليقين و شيث ابن آدم -عليهما السلام - (بهذا العلم) أي: علم استناد كل عطاء إلى ما منه من الذات والأسماء (سمي شيثا؛ لأن معناه) بالعبرانية الهبة أي: (هبة الله) استغني عن الفاعل لتعينه كأنه بهذا العلم كان نفس العطايا مع أنه أعظم هبة لآدم، مع أنه كان ممدا لمن عداه؛ فهو هبة من كل وجه.
كأنه هبة كلية شاملة على الجزئيات، (فبيده مفتاح العطايا على اختلاف أصنافها ونسبها)، فإن روحه لكليته يتصرف بخلافة الحق في كل هذه الجزئيات، وكيف لا يكون كليا (فإن الله وهبه لآدم عليه السلام أول ما وهبه)، فلا بد أن يكون كلا تتفرع منه الهبات الجزئية، وكيف لا يكون كليا؟!
(وما وهبه إلا منه)، وهو جامع للأسماء كلها فهبته جامعة لآثارها.
وإنما وهبه منه؛ (لأن الولد سر أبيه)، وإذا كان سره (فمنه خرج) سره، (وإليه عاد) السر حين صار هبة له.
(فما أتاه) أي: آدم عليه السلام (غریب) من العطاء بل سره هو الذي أعطاه، وهذه المعرفة إنما تكمل (لمن عقل عن الله تعالی) أنه ما أعطى شيئا إلا ما علمه منه فاقتضاه، ومقتضی عين السر سره؛ فهو المردود عليه.
قال رضي الله عنه : (وكل عطاء في الكون على هذا المجرى.
فما في أحد من الله شيء، وما في أحد من سوى نفسه شي ء وإن تنوعت عليه الصور.
وما كل أحد يعرف هذا، وأن الأمر على ذلك، إلا آحاد من أهل الله.
فإذا رأيت من يعرف ذلك فاعتمد عليه فذلك هو عين صفاء خلاصة خاصة الخاصة من عموم أهل الله تعالى.
فأي صاحب كشف شاهد صورة تلقي إليه ما لم يكن عنده من المعارف وتمنحه ما لم يكن قبل ذلك في يده، فتلك الصورة عينه لا غيره.
فمن شجرة نفسه جنى ثمرة علمه، كالصورة الظاهرة منه في مقابلة الجسم الصقيل ليس غيره، إلا أن المحل أو الحضرة التي رأى فيها صورة نفسه تلقى إليه تنقلب من وجه بحقيقة تلك الحضرة)
ثم صرح بالتعميم نفيا لما يتوهم من تخصيص كون الولد سر أبيه؛ فقال: (وكل عطاء في الكون على هذا المجرى)، وهو رد للشيء مقتضى العين الثابتة للشيء عليه، (فما في أحد من الله شيء) ابتداء من غير اقتضاه عينه إياه، وإذا كان كل عطاء للشيء من مقتضى عينه.
(فما في أحد من سوى نفسه شيء، وإن تنوعت عليه الصور) أي: صور العطايا مع وحدة العين القابلة وذلك لاختلاف استعداداتها المتعاقبة، وكل استعداد سابق مع الأمر المتجدد سبب لاستعداد لاحق، وكل استعداد جديد يقتضي صورة جديدة.
(وما كل أحد) من العارفين (يعرف هذا) أي: اقتضاء كل عين صورا مختلفة باستعداداتها المختلفة بل يتوهم أن استعداد كل عين لما كان من الفيض الأقدس لم يكن فيه اختلاف.
وهو غلط إذ الفيض الأقدس إنما يتعلق بالاستعداد الكلي، وأما الاستعدادات الجزئية التي هي مفاضة، فمن الفيض المقدس بأسباب متوسطة.
""إنما قال عنه: (يعرف) ولم يقل: (يعلم)؛ لأن المعلومات كلها تذكار، فإنها كانت معلومة ثم أنسيت ثم أعلمت، فسميت معرفة؛ لأنها مسبوقة بالجهل بخلاف العلم، فلهذا إن العلم صفة الحق، والمعرفة صفة الكون.""
ولا يعرف (أن الأمر) الإلهي الكلي (ذلك) التفصيل يتنصل إلى استعدادات جزئية، فتختلف الصور باختلاف تلك الاستعدادات الجزئية (إلا أحاد من أهل الله) المحيطون بتفاصيل أسرار القدر.
ثم بالغ في مدحهم بقوله: (وإذا رأيت من يعرف ذلك) معرفة شهودية،( فاعتمد عليه فذلك عين صفاء خلاصة خاصة الخاصة من عموم أهل الله) الواقفين على سر القدر.
وذلك لأن عامة أهل الله، إنما يعرفون أن الله تعالى ما فعل بهم إلا ما علم منهم، وخاصتهم علموا أنهم أعطوه العلم هم فحكم عليهم بما علم منهم.
وخاصة الخاصة علموا أنهم حكموا على الله أن يحكم عليهم بما علم منهم، وخلاصتهم علموا أن ذلك الحكم بحسب استعدادهم الأول.
وصفاء الخلاصة علموا أن الاستعداد الأول يفصل إلى هذه الاستعدادات المختلفة، وأمر كل شيء راجع إلى عينه لا غيره، وإذا كان كل عطاء، وفيض في الكون لا يكون إلا عن عين المعطى له ونفسه.
(فأي صاحب كشف) صوري (شاهد) من عالم المثال (صورة) لشخص إنساني أو غيره (تلقی) تلك الصورة (إليه) أي: إلى صاحب هذا الكشف (ما لم يكن عنده من المعارف، وتمنحه) من عطايا أخر (ما لم يكن قبل ذلك في يده فتلك الصورة) الخلقية المانحة (عينه) أي: عين صاحب هذا الكشف (لا غيره)، وإن غایرت صورته الحالية صورته المحسوسة ضرورة أن العطاء للشيء من عينه الثابتة في أي: صورة ظهرت له من الصور المختلفة باختلاف استعداداتها بحسب المواطن، وهذه الصور المختلفة كالشجرة المختلفة الأغصان إلى الجهات حصلت لنواة عينه الثابتة بحسب غرسها الذي هو موطنها.
(فمن شجرة نفسه) أي: صورة عينه الثابتة (جنى ثمرة غرسه) ، وهي المعارف الملقاة إليه من تلك الصورة.
ثم شبه عينية هذه الصورة المثالية الملقاة للمعارف المانحة ما لم يكن عنده قبل ذلك بصورته المحسوسة مع ما بينهما من التفاوت بعينيه ما يظهر في المرايا الجسمية لصور من يقابلها مع ما بينهما من الاختلاف؛ فقال: (كالصورة الظاهرة) لشخص (في مقابلة الجسم الصقيل)، فإن ما يظهر فيه عينه (ليس غيره) فكذا ما يظهر في عالم المثال ليس غيره (إلا أن المحل والحضرة التي رأى فيها) صاحب هذا الكشف صورته (نفسه تلقى إليه).
ويمنحه (تنقلب) أي: تتغير (من وجه بحقيقة) أي: بمقتضى حقيقة (تلك الحضرة) المثالية بحسب المعنى الغالب على صاحب الرؤية، أو المرئي له .
قال رضي الله عنه : (كما يظهر الكبير في المرآة الصغيرة صغيرا أو المستطيلة مستطيلا، و المتحركة متحركا.
وقد تعطيه انتكاس صورته من حضرة خاصة، وقد تعطيه عين ما يظهر منها فتقابل اليمين منها اليمين من الرائي، وقد يقابل اليمين اليسار وهو الغالب في المرايا بمنزلة العادة في العموم: وبخرق العادة يقابل اليمين اليمين ويظهر الانتكاس.
وهذا كله من أعطيات حقيقة الحضرة المتجلى فيها التي أنزلناها منزلة المرايا.
فمن عرف استعداده عرف قبوله، وما كل من عرف قبوله يعرف استعداده إلا بعد القبول، وإن كان يعرفه مجملا.
إلا أن بعض أهل النظر من أصحاب العقول الضعيفة يرون أن الله، لما ثبت عندهم أنه فعال لما يشاء، جوزوا على الله تعالى ما يناقض الحكمة وما هو الأمر عليه في نفسه.
ولهذا عدل بعض النظار إلى نفي الإمكان وإثبات الوجوب بالذات وبالغير.
والمحقق يثبت الإمكان ويعرف حضرته، والممكن ما هو الممكن ومن أين ه و ممكن وهو بعينه واجب بالغير، ومن أين صح عليه اسم الغير الذي اقتضى له الوجوب.
ولا يعلم هذا التفصيل إلا العلماء بالله خاصة.)
ثم صرح بالمقصود: وهو تشبيه هذا الاختلاف بالاختلاف بين صور المرايا المحسوسة، وصورة الرائي؛ فقال: (كما يظهر الكبير في المرآة الصغيرة صغيرا وفي المرآة المستطيلة) يظهر (مستطيلا)، وفي المرآة (المتحركة) يظهر (متحركا) فهذه وجوه الاختلافات بين صورة الرائي، وبين ما يظهر في المرايا بحسب اختلافها في أنفسها.
ثم أشار إلى الاختلاف بحسب أوضاع المرايا فقال: (وقد تعطيه) أي: المرأة الرائي (انتكاس صورته من حضرة خاصة) كالواقف على طرف الحوض مستويا تسفل رأسه، وتتعالی رجلاه.
(وقد تعطيه عين ما يظهر) بحسب الوضع كمرآة الحديد الموضوعة أمام الوجه رفيقابل اليمين منها) أي: من صورة المرأة (اليمين من الرائي) فتقع الموافقة من هذا الوجه على خلاف القياس في تقابل شخصين في عالم الحس مع ما ذكرنا من المخالفة بينهما في الصغر والاستطالة والتحرك.
(وقد يقابل اليمين منها اليسار) من الرائی، (وهو الغالب في المرايا) المثالية.
وقد يقع ذلك في موضع الارتفاع من مقعر الجسم الصقيل كالظاهر تظهر صورة في موضع الانخفاض منه، وأخرى في موضع الارتفاع يخالفه إحداهما يمينا ويسارا.
(بمنزلة العادة في العموم)، أي: بمنزلة رؤية شخص شخصا آخر أمام وجهه، (وبخرق العادة) في المرائي المثالية (يقابل اليمين) من الصورة الظاهرة في تلك المرأة (اليمين) من الرائي.
(ويظهر الانتكاس) أيضا في صورة تلك المرآة، فهذه جملة وجوه الاختلاف بين صورة الرائي، وصور المرايا الحسية والمثالية.
(وهذا) الاختلاف صورة المرئي لصورة الرائي في عالم المثال (كله من أعطيات) أي: مقتضيات (الحضرة المتجلي فيها) أي: بحسب استعداد الرائي فيها، أو المرئي له فيها .
(التي أنزلناها منزلة المرايا) المحسوسة المختلفة، وإن لم تكن تلك الحضرة مرأة، ولا اختلاف فيها وإنما هو فيما يرى فيها بحسب الرائي أو المرئي.
فلذلك قال: (فمن عرف استعداده) أي: مقتضی استعداداته المختلفة بحسب أحواله (عرف قبوله) بحسب كل حال لتلك الصور قبل وقوع ذلك على التفصيل، (وما كل من عرف قبوله) لاختلافها حين وقوعه (يعرف استعداده) لذلك القبول.
(إلا بعد حصول القبول) على سبيل التفصيل، (وإن كان يعرفه) أي: الاستعداد قبل القبول أو القبول بحسبه (مجملا)؛ لأنه لاطلاعه على سر القدر يعلم أنه لا يقبل إلا ما يستعد له لاقتضاء الحكمة مع عموم الجود الاقتصار على حد الاستعداد هذا ما استقر عليه رأي المحققين من الصوفية وغيرهم.
إلا أن بعض أهل النظر من أصحاب العقول الضعيفة، يرون أن الله يفعل بالأشياء ما يشاء
استعدت له أم لا (لما ثبت عندهم أنه فقال لما يشاء)، ولو كان فعله منوطا بالاستعداد لكان موجبا لا مختارا.
ولذلك (جوزوا على الله ما يناقض الحكمة)، وهي الاقتصار على قدر الاستعداد، وما يناقض (ما هو الأمر عليه في نفسه) مما علمه الحق تعالی وقدره.
(وهذا) أي: والتقصي عن شبهة هؤلاء القائلين بأن الفاعل على وفق الاستعداد لا يكون فعالا لما يشاء، وإن كان موافقا للحكمة مع ثبوتها بالنص.
(عدل) في الجواب عنها (بعض التظار) عن جادة الصواب (إلى نفي الإمكان، وإثبات الوجوب) لكل موجود إما (بالذات، أو بالغير).
قائلا: بأنه فعال لما يشاء على سبيل فرض ثبوت الإمكان لكنه ليس بثابت إذ المشيئة في الفعل وتركه، إنما تتأتي في الممكن.
لكن نفي الإمكان يستلزم نفي الممكن وفاعل بالحكمة على تقدير الوجوب، وهو ثابت للمحدثات بالغير، وهو استعدادها الموجب لفعل الفاعل بحسبه.
وإنما لم يكن هذا جادة الصواب؛ لأنه راجع إلى القول بالموجب بالذات؛ وهو مذهب الفلاسفة (والمحقق) القابل بأن فعله بالمشيئة والحكمة جميعا (يثبت الإمكان) ليثبت له القول بالمشيئة على سبيل التحقيق دون مجرد الفرض، وهو استواء نسبة الوجود والعدم إلى الشيء .
(ويعرف حضرته)، وهو العلم الإلهي الذي تميزت فيه الأعيان الممكنة، ويعرف (الممكن وما هو الممكن) أي: ما هو ماهيته وهو العين الثابتة مع قطع النظر عن استعداده، (ومن أين هو ممكن).
وهو أن استعداده لا يوجب الفيض من المبدأ الفياض بطريق الإلجاء؛ بل بالاختيار؛ لكن السنة الإلهية جارية بأن فعله تابع لاستعداده.
ولذلك (هو بعينه واجب) الوجود (بالغير) الذي هو الاستعداد الموجب للفعل بحسب جريان السنة الإلهية، رعاية للحكمة والجود، ويعرف المحقق أيضا أن الوجود، وإن كان واحدا وهو واجب بالذات.
فهذا ليس بواجب بالذات؛ بل هو غيره ووجوبه بالغير فيعرف (من أين صح عليه اسم الغير الذي اقتضى له الوجوب) بالغير، وذلك أن الوجود إنما وجب بالذات في ذاته لا في المظاهر؛ بل إنما وجب فيها باستعداداتها، وإن الظاهر في المظاهر صورة الوجود، ولم يحل فيها الوجود فهو غيره.
(ولا يعلم هذا التفصيل إلا العلماء بالله خاصة) إذ غيرهم إما قابل بالمشيئة مع جواز مناقضة الحكمة، أو بالإيجاب على وفق الحكمة بلا مشيئة، ولا يعرف الممكن ما هو في نفسه، ولا جهة إمكانه، ولا يعرف جهة الاتحاد له مع الحق مع جهة المباينة، بل إما أن يكون بالحلول أو بالاتحاد المطلق، أو بالمباينة المطلقة بين الحق والخلق؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
قال رضي الله عنه : (وعلى قدم شيث يكون آخر مولود يولد من هذا النوع الإنساني.
وهو حامل أسراره، وليس بعده ولد في هذا النوع. فهو خاتم الأولاد.
وتولد معه أخت له فتخرج قبله ويخرج بعدها يكون رأسه عند رجليها.
ويكون مولده بالصين ولغته لغة أهل بلده.
ويسري العقم في الرجال والنساء فيكثر النكاح من غير ولادة ويدعوهم إلى الله فلا يجاب.
فإذا قبضه الله تعالى وقبض مؤمني زمانه بقي من بقي مثل البهائم لا يحلون حلالا ولا يحرمون حراما، يتصرفون بحكم الطبيعة شهوة مجردة عن العقل والشرع فعليهم تقوم الساعة.
(وعلى قدم شيث عليه السلام ) أي: طريقة سيره إلى الله، وفي الله، وبالله، وعن الله (يكون آخر مولود يولد من هذا النوع الإنساني)، ليكون آخر ما وهب لآدم عليه السلام الك كأول ما وهب له من الكل تنبيها على أن النهاية كالبداية، وأن الخاتمة كالسابقة، والتقييد بالنوع الإنساني يشير إلى عدم انقطاع ولادة الدواب بذلك.
(وهو حامل أسراره) أي: علومه المتعلقة بالعطاء بل وغيرها وسائر أحواله، وليس المراد خاتم الكمالات الإنسانية فقط به، بل (ليس بعده ولد في هذا النوع) لانتهاء الكمال المطلوب من خلق الإنسان به من كل وجه.
(فهو خاتم الأولاد) لا كما يقوله الفلاسفة: من أنه لا انتهاء الأفراد الإنسان، (فتولد معه أخت له)؛ ليكون ختم الولادة بالصنفين، وقد كانت ولادة آدم عليه السلام التي بنفسه كذلك (فتخرج) أخته (قبله، ويخرج) هو (بعدها) ليكون الختم الحقيقي بالأكمل.
(يكون رأسه عند رجليها)؛ لتكون ولادته على النهج الطبيعي لكمال حالهما، (ویكون مولده بـ "الصين")؛ لأنه أقصى البلاد كما أنه أقصى الأولاد.
(ولغته لغة بلده) ليمكنه دعوتهم إلى الله تعالی (ويسري العقم في الرجال والنساء)، أي: من الجانبين تحقيقا لختميته فلا يولد صغير يموت قبل الاستعداد للكمال الإنساني، لئلا يكون فيهم من لا يبلغه دعوته فلا يكون من الشرار الموجبين لقيام الساعة.
وذلك أنه (يدعوهم إلى الله) بجملة أسرار شیث (فلا يجاب) إذ لو أجيب لكان فيهم إنسان كامل يجب حفظ العالم من أجله، فلا يقرب فناؤه مع وجوده، وهذا ينافي ختمیته.
(فإذا قبضه الله، وقبض مؤمني زمانه بقي من بقي مثل البهائم) ليس فيهم من الكمالات الإنسانية، ولذلك (لا يحلون حلالا، ولا يحرمون حراما)؛ لأن ذلك مخصوص بأهل الكمال من الإنسان غير معطى للبهائم.
فهم (يتصرفون) في أنفسهم وفي العالم (بحكم الطبيعة شهوة) أي: لأجلها (مجردة عن الشرع والعقل) اللذين هما الكمال الإنساني أحدهما كنور القمر.
والثاني كنور الشمس (فعليهم تقوم الساعة) لعدم من يحفظ لأجله عالم الدنيا، وهو الإنسان الكامل القائم بقوانين الشرع والعقل جميعا فافهم. والله الموفق والملهم.
ولما فرغ عن بيان ظهور الأسماء الإلهية في المظاهر، وهو جهة التشبيه شرع في بيان تنزهها في أنفسها عن النقائص الإمكانية ليشير إلى أنها لا تلحقها ولا الذات، وإن ظهرت في المظاهر.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 3:56 pm

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية  الجزء الأول
الفص النوحي
أي: ما يتزين به، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بتنزيه الأسماء والصفات الإلهية عن النقائص الإمكانية، ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى نوح عليه السلام لغلبة التنزيه في دعوته لقومه.
لغلبة التشبيه عليهم حتى اعتقدوا في الأسماء الإلهية أنها أجسام فاتخذوا الأصنام صورا لها يعبدونها فوجب أن يدعوهم إلى التنزيه المحض في بعض الأحيان، وإن كان اعتقاده التنزيه، لم يكن بحيث يمنع من ظهوره في المظاهر.
أو من إثبات الصفات الوجودية التي بها مناسبته للخلق لكنه لم يتعرض لذلك في دعوته في بعض الأحيان خوفا من استقرار التشبيه عليهم؛ لغلبته فيهم لكنه قد دعاهم أيضا حينا إلى التشبيه المحض في الظاهر ليجذبهم إلى إجابته بما يناسبهم.
قال رضي الله عنه : (اعلم أيدك  الله بروح منه أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد.
فالمنزه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب.
ولكن إذا أطلقاه وقالا به، فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه ووقف عند التنزيه و لم ير غير ذلك فقد أساء الأدب و أكذب الحق و الرسل صلوات الله عليهم و هو لا يشعر، و يتخيل أنه في الحاصل و هو من الفائت.
وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض، ولا سيما وقد علم أن ألسنة الشرائع الإلهية إذا نطقت في الحق تعالى بما نطقت إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول، وعلى الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ بأي لسان كان في وضع ذلك اللسان.)
قال رضي الله عنه : "فإن للحق في كل خلق ظهورا: فهو الظاهر في كل مفهوم".
(اعلم أن التنزيه) أي: المطلق المانع من ظهور الحق في المظاهر، ومن إثبات الصفات الوجودية له (عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي) قيد بذلك؛ لأنهم قائلون بمطلق التنزيه في الذات من حيث هي (عين التحديد) له بتناهي ظهوره، وهو أنه ظاهر لذاته في ذاته لا غير، وعين (التقييد) له بوجوه المباينة مع الخلق مع امتناع ذلك في شأنه بالإجماع، أما عندنا فلوجوب ظهوره في المظاهر، وأما عند المتكلمين.
فلأنه يستدل عليه بخلقه، ولا بد من مناسبة الدليل للمدلول، وأما عند الحكماء فلا بد من مناسبة الفاعل للمنفعل، فلا ينبغي أن يبالغ فيه بحيث ينفي عنه التشبيه الموجب لظهوره في المظاهر.
أو للصفات الوجودية له لدلالة النصوص على ذلك كأية النور، وكقوله تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" [الأنفال: 17]، وكقوله: «جعت فلم تطعمني، ومرضت فلم تعدني»، وكقوله: "كنت سمعه وبصره" ، و كحديث التحول في الصور يوم القيامة.
بل إنما يجب نفي التشبيه الموجب لكونه جسما أو عرضا، أو ما في حكمهما كاعتقاد أهل الشرك والمشبهة، (فالمنزه) أي: القائل بالتنزيه المطلق (إما جاهل) بما له من الصفات الوجودية كالمعتزلة والفلاسفة، أو بظهوره في المظاهر كعامة المتكلمين، (وإما صاحب سوء أدب) يعرف صفاته الوجودية، وظهوره من ظواهر النصوص لكنه يقتصر في الاعتقاد، أو القول على التنزيه المحض كمن يقتصر في اعتقاد السلطان، أو مدحه له أنه ليس بكلب، ولا فأرة، ولا حمار.
ولذلك ضم المحققون إلى قوله: "سبحان الله" [الصافات: 159]، قول: "والحمد لله "[الصافات: 182]، أو "بحمده" [الإسراء: 53].
ثم أشار إلى أن الجهل والإساءة لا يفضيان إلى الكفر إذا لم ينضم إلى أحدهما إنكار الشرائع الواردة بإثبات الصفات الوجودية، أو بالظهور.
فقال: (ولكن إذا أطلقاه) أي: اعتقد إطلاق التنزيه، (وقالا به) أي: اقتصرا عليه في الذكر بأن قالا: سبحان الله فقط؛ فلا يخلوا، إما أن يقولا: بالشرائع مع التأويل أو بإنكارهما مطلقا.
(فالقائل بالشرائع): وإن أولها على خلاف الواقع، ولو من وجه المؤمن كالمعتزلة، وكالفلاسفة لو لم يقولوا: بقدم العالم، ونفي حشر الأجساد، ونفي العلم بالحوادث الجزئية ممن يعترف بالشرائع، ويأوها بخلاف منكریها، فإنهم كفرة، ولظهور أمرهم لم يتعرض لهم.
ثم القائل بالشرائع، وإن قلنا بإيمانه فإيمانه ناقص؛ لأنه (إذا نزه، ووقف عند التنزيه) في المدح، (ولم ير غير ذلك) في الاعتقاد، وفيه إشعار بأن المنزه إذا لم يقف عنده، ولم يكن يرى غيره بل أثبت الصفات الوجودية، وظهوره في المظاهر فهو كامل الإيمان ليس داخلا في قوله : (فقد أساء الأدب)  بالاقتصار على الصفات السلبية، وإثبات الغير مع الله من كل وجه مع الإجماع على نفي الضد عنه، (وأكذب الحق والرسل) فيما ورد في الصفات الوجودية والظهورية، وإن أول تأويلها غير مطابق للواقع، ولو من وجه، (وهو لا يشعر) بتكذيبه لتأويله، (ويتخيل أنه بتأويله (في) الاعتقاد (الحاصل) مطابقته للواقع، وهو في الاعتقاد (الغائب) المطابقة، وإن طابق باعتبار ذاته لكن لا يطابق باعتبار أسمائه المقتضية لظهوره في المظاهر؛ ولذلك (فهو كمن آمن ببعض) من الكتاب، (وكفر ببعض)؛ لأنه آمن ببعض الوجوه المفهومة منه، وهو وجه التأويل المطابق من وجه دون وجه، وكفر ببعض الوجوه المفهومة منه، وهو وجه الظاهر المطابق لظهوره في المظاهر.
(ولا سيما وقد علم) بمقتضى قوله : "إن للقرآن ظهرا وبطئا، وحدا ومطلعا" (أن ألسنة الشرائع الإلهية) أي: ألفاظ الكتاب والسنة (إذا نطقت في الحق تعالی بما نطقت به) سواء كانوا مما يدل على ظهوره في المظاهر، وعلى الصفات الثبوتية أم لا، (إنما جاءت به) أي: بذلك المنطوق.
(في العموم) أي: في حق العوام الذين لا يطلعون على التأويلات (على المفهوم الأول) الظاهر المطابق لاعتبار ما من اعتبارات الحق، وإلا كان تضليلا لهم محضا.
(وعلی الخصوص) أي: وفي حق الخصوص، ولفظه على تشير إلى أن هذه الوجوه كلها غالية عليهم؛ لغلبة روحانيتهم على نفوسهم الحاجبة عن الأسرار (على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ) بطريق المطابقة، والتضمن والالتزام ما لم يتناقض بخلاف الحشوية المنتصرين على الظواهر والباطنية المقتصرين على التأويلات، وفي معناهم أهل الطامات من المتصوفة لكن تأويل الباطنية بكل حال باطل، وتأويل أهل الطاقات قد يصح لو اعترفوا بالظاهر.
(بأي لسان كان) من العربية، والعبرية، والسريانية، وفيه تعريض بأهل التشبيه من المسلمين واليهود يعتبر كل مفهوم له (في وضع ذلك اللسان) أي: مما لوضعه فيه دخل بأي طريق كان مما ذكرنا المناسب للموضع، وكل منها يجب الإيمان به بمقتضى الحديث السابق، وكيف لا؟
فإنه مظهر من مظاهر الحق (فإن للحق في كل خلق ظهورا) فكيف لا يكون له ظهور في مفهومات كلامه، (فهو الظاهر في كل مفهوم) من تلك المفهومات، وظهور الصورة موجب للعلم بذي الصورة فهو موجب للإيمان : وهو التصديق بأنه من صوره.
قال رضي الله عنه : (وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته:
وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الباطن. فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة. فيؤخذ في حد الإنسان مثلا ظاهره وباطنه، وكذلك كل محدود. فالحق محدود بكل حد.)
ثم أشار إلى أنه لغاية ظهوره بكثرة المظاهر بطن عن أكثر الإفهام فقال(وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم، من قال: إن العالم صورته) أي: مظهر لوجوده (وهويته) أي: محل الإشارة الحسية إليه، وإن كان في نفسه منزها عن الصور.
وقبول الإشارة الحسية فإنه لقبول ظهوره في العالم يقبل ظهوره في المفهومات بخلاف من أنكر ظهوره في العالم، فإنه ينكر ظهوره في المفهومات أيضا فيبطن عن فهمه، وكيف لا يكون العالم مظهرا له. (وهو الاسم الظاهر) أي: سبب تسميته بالظاهر.
ثم شبه بطونه في المفهومات ببطونه في العالم مع غاية ظهوره فيهما؛ فقال: (كما أنه) أي: الحق مع غاية ظهوره في صور العالم (بالمعنی) أي: بالحقيقة.
(روح ما ظهر) أي: روح تلك الصور التي ظهرت منه يدبر فيها تدبير الروح للبدن، وروح كل شيء باطنه (فهو الباطن) باعتبار حقيقته لا صورة له ولا ظهور، وإذا كان هو الباطن بالنسبة إلى العالم مع ظهور صورة ظاهرة، وباطنة فيه باعتبار أرواحهم وأجسامهم (فنسبته) من حيث المعنى والحقيقة التي بها بطونه المطلق (لما ظهر من صور العالم الروحانية والجسمانية التي هي مظاهر باطنه من وجه، ومظاهر ظاهرة (نسبة الروح) الإنساني (المدبر للصورة) الإنسانية، إذ بوجوده قوام وجود كل شيء، إذ لو فرض له عدم أو غيبة لانعدمت الأشياء، وإذا كان الحق بمنزلة الروح الأرواح الأشياء، وأجسامها لا تحقق لها بدولة (فيؤخذ في حد الإنسان مثلا باطنه) باعتبار ظهور باطنه في روحه، (وظاهره) باعتبار ظهور ظاهره في جسمه، وليس المراد بالحد التعريف.
ولذلك قال: (وكذلك كل محدود) في الموجودات يؤخذ فيها ظاهر (الحق) باعتبار جسمه وباطنه باعتبار روحه أو قوته بالحق باعتبار ظهور باطنه وظاهره في الموجودات
(محدود بكل حد) تعريفي للمظاهر مع أنه ليس بمحدود في نفسه لا باعتبار التناهي، ولا باعتبار الحد التعريفي.
قال رضي الله عنه : (وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ولا تعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورته.
فلذلك يجهل حد الحق، فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة، وهذا محال حصوله: فحد الحق محال. وكذلك من شبهه وما نزهه فقد قيده وحدده وما عرفه.
ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه بالوصفين على الإجمال- لأنه يستحيل ذلك على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور فقد عرفه مجملا لا على التفصيل كما عرف نفسه مجملا لا على التفصيل.
ولذلك ربط النبي صلى الله عليه وسلم معرفة الحق بمعرفة النفس فقال: «من عرف نفسه عرف ربه». )
قال رضي الله عنه : (وقال تعالى: «سنريهم آياتنا في الآفاق» وهو ما خرج عنك «وفي أنفسهم» وهو عينك، «حتى يتبين لهم» أي للناظرين «أنه الحق» [فصلت: 53] من حيث إنك صورته وهو روحك. فأنت له كالصورة الجسمية لك، وهو لك كالروح المدبر لصورة جسدك. والحد يشمل الظاهر والباطن منك: )
ثم أشار إلى أنه لا يمكن تحديده بحدود المظاهر حدا مستجمعا لحدودها بقوله: (وصور العالم لا تنضبط) بما فيها من العوالم المشخصة، (ولا يحاط بها) عددا، (ولا يعلم حدود كل صورة منها) لعسر الاطلاع على ذاتيتها بل على أعراضها اللازمة الشاملة (إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورة) أي: من معرفة بعض حدود صور العالم
(فلذلك) أي: فللجهل ببعض صور العالم بل أكثرها (يجهل حد الحق) باعتبار ظهوره في المظاهر، (فإنه لا يعلم حده) الجامع لحدود الأشياء (إلا بعلم حد كل صورة) من صور العالم، (وهو) أي: علم حدودها كلها (محال حصوله للبشر، (فحد الحق) من حيث الظهور في جميع المظاهر حصول العلم به (حال) أيضا للبشر.
(وكذلك) أي: مثل المنزه على الإطلاق في الجهل، وإساءة الأدب بل أشد منه بكثير (من شبهه) على الإطلاق، حتى جعله من الأجسام، (وما نوهه) عن نقائص الإمكان (فقد قيده) بقيود يحتاج بها إلى مخصص يخصصه بها إذ جعله من الأجسام يستلزم تقيده بالصورة الجسمية والنوعية والشخصية مع العوارض المشخصة، (وحدده) بأن ألزمه التناهي في الذات بالمقدار لوجوب تناهي الأبعاد الجسمية بخلاف تجديد المنزه؛ فإنه متناه في الظهور في ذاته لا يتعداها إلى سائر المظاهر.
ولذلك (ما عرفه) أصلا بخلاف المنزه، فإنه عرفه من وجه هو الأصل بالنظر إلى الذات؛ فلذلك كان مؤمنا، وهذا كافر، (ومن جمع في معرفته بين التنزيه) باعتبار الذات والصفات السلبية، (والتشبيه) باعتبار ظهوره في المظاهر والصفات الوجودية (ووصفه بالوصفين) مقا بأن يقول: إنه حال ظهوره في المظاهر منزه عن الحلول فيها، والاتحاد من كل وجه بها، وإنه حال تنزهه عنها ظاهر فيها (على الإجمال).
بأن يقول: إنه منزه عن كل ما لا يليق به من النقائص الإمكانية، وظاهر بصور أسمائه التي لا تتناهي في صور العالم، وإنما قيد بالإجمال؛ (لأنه يستحيل ذلك) أي: وصفه بهما (على التفصيل) لتوقفه على المعرفة التفصيلية بصور العالم التي ينزه الحق عن وجوه إمكاناتها، وتشبه أسماؤه بما ظهر فيها من صورها لكنها في حق المخلوق محال (لعدم الإحاطة بما في صور العالم).
وقوله: (فقد عرفه) خبر لقوله: ومن جمع (مجملا لا على التفصيل)، لا باعتبار الذات، ولا باعتبار الظهور، وهي غاية ما يمكن للمخلوق من معرفته الحق (كما عرف نفسه) الناطقة مع دوام حضورها له بحيث لا يغفل عنها أصلا (مجملا لا على التفصيل).
ولذلك وقع فيه الاختلاف الذي قلما وقع مثله في موضع آخر.
(ولذلك) أي: ولأجل أنه لا يمكن معرفة الحق إلا على الإجمال كمعرفة النفس " من عرف نفسه عرف ربه " (ربط النبي معرفة الحق بمعرفة النفس) تنبيها على أنها مع غاية قربها، ودوام حضورها إذا لم تعرف إلا بالإجمال، فكيف يعرف الحق مع غاية بعده عن العقول والأوهام إلا بالإجمال.
وقال تعالى عطف على قوله: «ربط النبي» أي: ولذلك (قال تعالى: سنريهم ، آیاتنا [فصلت: 53]) أي: ظهور أسمائنا وصفاتنا ("في الآفاق") [فصلت: 53]، (وهو ما خرج عنك) من صور العالم، فأحال معرفته على معرفة الآفاق، ولا تعرف الأفاق إلا بالإجمال، فلا يعرف الرب إلا بالإجمال ("وفي أنفسهم" [فصلت: 53]، وهو عينك) أي: ذاتك فأحال معرفته عليها أيضا، كما أحال النبي معرفته عليها، وهي أيضا إجمالية (حتى يتبين لهم [فصلت: 53]، أي: للناظرين) في حقائقها الممكنة التي لا وجود لها بأنفسها فسر الضمير بالناظرين؛ لأن المعرضين عن النظر لا يتبين لهم ("أنه" [فصلت: 53]) أي: الظاهر فيها الذي أفاد لها الوجود ("الحق" [فصلت: 53]).
الذي وجوده ذاته لا باعتبار حلوله فيها، أو اتحاده من كل وجه بها بل ظهوره فيها (من حيث إنك) أيها العالم، والإنسان باعتبار ظاهر و باطنك (صورته، وهو) باعتبار المعنى والحقيقة (بروحك) الذي به قوام صورتك الروحانية والجسمانية، (فأنت) بها العالم والإنسان باعتبار روحك وجسمك (له كالصورة الجسمية لك ) أي: لروحك فإن الصورة الجسمية لك صورة لروحك من وجه يظهر بها في المنام ونحوه، وإن لم يكن لروحك لتجرده صورة أصلا.
(وهو) أي: الحق (لك) ما العالم، والإنسان باعتبار المعنى والحقيقة (كالروح المدبر الصورة جسدك)، وإن كان روحك مكتسبا للكمالات بهذا التدبير، والحق تعالى لا يكتسب شيئا من الكمالات بكن فقد صرت بروحك وجسمك مظهر الباطنة، وظاهره فأشبه مجموعك بمجموعه.
مع أنه باعتبار المعنى والحقيقة أشبه روحك في تدبيرك فيحصل تعريفه بظاهر وباطنك على سبيل التمثيل، فكأنه محدود بحدك في الظاهر والباطن.
(والحد يشمل الظاهر والباطن منك)، فإن الحيوان الناطق في حد الإنسان يشمل ظاهره: وهو الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة، وباطنه: وهو النفس الناطقة المدركة للكليات.
قال رضي الله عنه : (فإن الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبر لها لم تبق إنسانا، ولكن يقال فيها إنها صورة الإنسان، فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة.
ولا ينطلق عليها اسم الإنسان إلا بالمجاز لا بالحقيقة. )
قال رضي الله عنه : (وصور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلا. فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز كما هو حد الإنسان إذا كان حيا. وكما أن ظاهر صورة الإنسان تثني بلسانها على روحها ونفسها والمدبر لها، كذلك جعل الله صورة العالم تسبح بحمده ولكن لا نفقة تسبيحهم لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور.)
قال رضي الله عنه : (فالكل ألسنة الحق ناطقة بالثناء على الحق.
ولذلك قال: «الحمد لله رب العالمين» أي إليه يرجع عواقب الثناء، فهو المثني والمثنى عليه:
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا ... وإن قلت بالتشبيه كنت محددا
وإن قلت بالأمرين كنت مسددا ... وكنت إماما في المعارف سيدا
فمن قال بالإشفاع كان مشركا ... ومن قال بالإفراد كان موحدا
فإياك والتشبيه إن كنت ثانيا ... وإياك والتنزيه إن كنت مفردا
فما أنت هو: بل أنت هو وتراه في ... عين الأمور مسرحا ومقيدا )
قال رضي الله عنه : (قال الله تعالى «ليس كمثله شي ء» فنزه، «وهو السميع البصير» فشبه.
وقال تعالى «ليس كمثله شي ء» فشبه و ثنى، «و هو السميع البصير» فنزه و أفرد.)
ثم استدل على أن الحد يجب أن يشمل الظاهر والباطن بقوله: (فإن الباقية) من الإنسان بعد موته لا يصدق عليها حد الإنسان على الحقيقة؛ لفوات الباطن، فإنه (إذا زال عنها الروح المدبر لها) الذي هو باطنها (لم يبق إنسانا)؛ لأنه لم يبق ناطقا، ولا حيوانات؛ الفوات هذا الباطن، (ولكن يقال فيها: إنها صورة تشبه صورة الإنسان فلا فرق بينها، وبين صورة) أخذت للإنسان (من خشب أو حجارة) لاستوائهما في عدم الناطقية والحيوانية.
(ولا ينطبق عليها) أي: على صورة الإنسان من خشب أو حجارة (اسم الإنسان إلا) بطريق (بالمجاز) أي: الاستعارة (لا بالحقيقة)؛ فكذلك صورة الميت لا تسمی بالإنسان إلا بالمجاز، وإن كانت العامة تنكر نفي الإنسانية عنها.
ثم أشار إلى أن حدود الأشياء، وإن زالت عنها بزوال أرواحها، فحد الحق لا يزول عنها ما دامت موجودة لا حال الحياة ولا بعد الممات.
فقال: (وصور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلا) إذ لا تبقى بدون إشرافه عليها صورا كصورة المرآة، إذا لم يحازيها ذو الصورة (فحد الألوهية) "أي للعالم الذي هو الاسم الظاهر".
أي: ظهور الأسماء والصفات (له) أي: لكل ما في العالم بكل حال (بالحقيقة لا بالمجاز كما هو) أي: الحيوان الناطق (حد الإنسان) بالحقيقة (إذا كان حيا) لكنه يزول بالموت بخلاف حد الألوهية.
ثم استدل على أنك له كالصورة الجسمية لك، وإنه كالروح المدبرة لصورة جسدك بما أشار إليه النص الإلهي بقوله: (وكما أن ظاهر صورة الإنسان تثني بلسانها على روحها، ونفسها، والمدبر لها)، وهو الحق (كذلك جعل الله صورة العالم تسبح بحمده) كأنها تسبح على روحها بما ظهر فيها من كمالاته.
(ولكن لا نفقه تسبيحهم) أي: تسبيح كل واحد بما فيه من الكمال المخصوص على التفصيل؛ (لأننا لا نحيط بما في العالم من الصور) المسبحة كل منها يسبحه بتسبيح خاص على وفق كماله المخصوص به.
وإذا كان من الأرواح صور الحق، والحق روحها المدبر لها، (فالكل ألسنة الحق) ينطق بها نطق أرواحنا بألسنتنا (ناطقة بالثناء على الحق) الذي هو روحها؛ (ولذلك) أي: ولكون الكل ألسنة الحق.
""ولسان الحمد ثلاثة: "اللسان الإنساني" و"لسان الروحاني" و"اللسان الرباني".
أما «اللسان الإنساني»:
فهو للعوام، وشكره بالتحدث بإنعام الله وإكرامه، مع تصديق القلب بأداء الشكر.
وأما «اللسان الروحاني»:
فهو للخواص، وهو ذكر القلب لطائف اصطناع الحق في تربية الأحوال، وتزكية الأفعال. .
وأما «اللسان الرباني»:
فهو للعارفين، وهو حركة السير، يصدق شكر الحق جل جلاله بعد إدراك الطائف المعارف، وغرائب الكواشف بنعت المشاهدة والغيبة في قربه، و اجتناء ثمرة الأنس، وخوض الروح في بحر القدس، وذوق الأسرار مع مباينة الأنوار.""
(قال الله تعالى: "الحمد لله " (الفاتحة: 2]) فأضاف مطلق الحمد من جميع الموجودات إلى الله تعالى، وبين جهة إضافته على الإطلاق إليه.
بقوله: ("رب العالمين" [الفاتحة: 2])، ولما كان بعض تلك المحامد من الخلق للخلق بحسب الظاهر، قال: (أي: إليه يرجع عواقب الثناء)؛ لأنه الحامد نفسه بألسنة بعض صوره على بعضها، إذ الحمد للصورة حمد لذي الصورة، (فهو المثني) من حيث هو روح الكل، والروح من كل شيء هو الناطق بلسانه، (والمثنى عليه) من حيث إن الكل إنما يثني على ذاته أو صوره.
وإذا عرفت أن المعرفة الصحيحة هي الجمع بين التنزيه والتشبيه دون التقييد بأحدهما؛ فانظر في لوازمها، (فإن قلت بالتنزيه) المحض (كنت مقيدا) للحق بمباينته للكل من كل وجه مع أنه لا بد من مناسبة الدليل، والمدلول، والفاعل، والمنفعل، والصورة، وذي الصورة، (وإن قلت بالتشبيه) المحض (كنت محددا) للحق في ذاته، وجعلته من الأجسام التي يجب تناهي أبعادها.
(وإن قلت بالأمرين) التنزيه باعتبار الذات، والصفات السلبية، والتشبيه باعتبار الصفات الوجودية والظهور في المظاهر الكونية (كنت مسددا) قائلا بأقوى الأقاويل لجمعه بين الدلائل العقلية الدالة على التنزيه، والسمعية الدالة على التشبيه، (وكنت إماما في المعارف سیكا)، إذ تصير قائلا بالتوحيد، إذ لا يتصور بدون القول بالظهور، وإلا لوجب أن يقول الموحد: إن الموجود الواحد قد يكثر بالإفراد، وهو القول بتعدد الألهة، ولذا قال:
(فمن قال بالإشفاع) أي: بتعدد الوجود الواحد بناء على أنه كلي يكثر بالإفراد (كان مشركا) قائلا بتعدد الآلهة.
وهذا ما ذكره الإمام حجة الإسلام الغزالي في كتاب «الصبر والشكر» في "الإحياء" في بيان كشف الغطاء عن الشكر حيث قال الفريق الثاني: الذين ليس هم عمی؛ ولكن بهم عور يبصرون بإحدى العينين.
وجود الموجود الحق فلا ينكرونه، والعين الأخرى إن تم عماها أثبت موجودا آخر مع الله، وهذا مشرك تحقيقا، كما كان الذي قبله جاحدا تحقيقا.
(ومن قال بالإفراد) أي: بأن الوجود فرد واحد از وأبدا ظهر في جميع الموجودات (كان موحدا) بتوحيد الخواص (فإياك والتشبيه إن كنت ثانيا) قائلا بتعدد الوجود فإن القول: بالتشبيه معه يستلزم تشبیه وجود الحق بوجود غيره فيلزم تعدد الألهة، (وإياك والتنزيه إن كنت مفردا) فإن القول: بتنزيه الحق عن الظهور في المظاهر مع القول بوحدة الوجود، وحدة شخصية يستلزم القول بعدم تحقق الحوادث في الخارج، وهو سفسطة.
ثم قال لمن أفرد الوجود، وقال: بظهوره في المظاهر (فما أنت هو)؛ لأنه كل الوجود، ولست كله بل أنت صورة من صوره (بل أنت هو) إذ لا تحقق بشيء دونه كما تحقق لصورة المرآة بدون ذي الصورة، وهي كأنها ذو الصورة، (وتراه) أيها المفرد القائل: بظهوره في المظاهر (في عين الأمور مسځا) أي: مطلقا غير مقيد بها باعتبار ذاته (ومقيدا) بكل واحد باعتبار ظهوره في ذلك الواحد.
ثم استدل على أن كمال المعرفة في الجمع بين التنزيه والتشبيه مع أخذ كل منهما في الأخر؛ فقال: (قال تعالى: " ليس كمثله شيء" [الشورى:11]، فنزه)؛ لأنه نفي مثل المثل وإلا كان مثلا لمثله فلا يصح نفي مثل المثل مع تحقق المثل "وهو السميع البصير" [ الشورى:11]، (فشبه) بإثبات السمع والبصر له المناسبين لسمعنا وبصرنا من وجه فدل أول الآية على التنزيه وآخرها على التشبيه.
ثم أشار إلى أن عكس هذا أيضا مدلول الآية ليدل على أن كلا منهما في الآخر لا يفارقه؛ فقال: (قال تعالى: "ليس كمثله شيء [الشورى:11]، فشبه) بنفي مثل المثل بطريق دلالة المطابقة فدل على إثبات المثل، وهو صورته الظاهرة في المظاهر مع نفي المثل عنها بمعنى: أنه لا يماثلها صورة أخرى من كل وجه؛ لعدم تكرر التجليات مع عدم تناهيها، (وثنى) بجعل صورته الظاهرة مثلا له أي: مناسبا له لا متحدا معه بالنوع، فإنه محال (وهو السميع البصير [الإسراء: 1]، فنزه) بصيغة الحصر الدال على نفي السمع والبصر عن غيره.
(وأفرد) بأن كل سمع وبصر في الحقيقة راجع إلى سمعه وبصره؛ فسمع الحوادث وبصرها كصور المرآة لا حقيقة لها سوى ذي الصورة ففهم كل من التنزيه والتشبيه ، مما فهم منه الأخر بعد فهم كل منهما على حدة.
قال رضي الله عنه : (لو أن نوحا عليه السلام جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه: فدعاهم جهارا ثم دعاهم إسرارا، ثم قال لهم: «استغفروا ربكم إنه كان غفارا».
و قال: «دعوت قومي ليلا و نهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا».
و ذكر عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته.)
فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من إجابة دعوته.
قال رضي الله عنه : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،  وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان، ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه.
فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن.
ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. «فـ ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد.)
ثم أشار إلى أن أحدية الجمع والفرق بين التنزيه والتشبيه مخصوصة بالكمال المحمدي لم تكن في دعوة نوح عليه السلام, بل كان في دعوته التفرقة لفظا بإيراد كل منهما في ألفاظ مختلفة .
فقال: (لو أن نواحا جمع لقومه بين الدعوتين) التنزيه والتشبيه في لفظ واحد (لأجابوه)؛ لأنها بقوة نوريتها كانت تجذب أرواحهم عن متابعة النفوس برفع الحجب الظلمانية عنها إلى ما فاضت هي منه فتتبعها النفوس.
لكن غلب عليهم ظلمة نفوسهم عند كون دعوته تفريقيا في اللفظ فجذبتهم ظلمتها إلى السفل الذي هو مقرها. (فدعاهم جهارا) من حيث التشبيه لما فيه من مناسبتهم على ما هو عادة المناظرين في إرخاء العنان مع الخصوم في بعض المقدمات هي ليستدرجوهم بذلك إلى مطالبهم، (ثم دعاهم إسرارا) من حيث التنزيه لما رآهم يصرون على الكفر عند الدعوة التشبيهية.
(ثم قال: "فقلت استغفروا ربكم" [نوح:10])، أي: اطلبوا منه ستر ظلمات نفوسكم ("إنه كان غفارا" [نوح:10])، إن طلبتم منه ذلك ليتيسر لأرواحكم الصعود إلى ما فاضت هي منه.
ثم أشار إلى تفرقة أخرى في دعوته بين الظاهر والباطن؛ فقال: (وقال: "قال رب إني دعوت قومي ليلا" [نوح: 5])، أي: إلى الباطن من حيث ظهوره في العقول والأرواح
("ونهار" [نوح: 5])، أي: إلى الظاهر من حيث ظهوره في صورهم وجثثهم ("فلم يزدهم دعائي إلا فرارا" [نوح: 6])، عن الله إلى نفوسهم المظلمة لعجزهم عن رؤية الجمعية الإلهية في صورة التفرقة التي كانت في هذه الدعوة بحسب اللفظ، ولكنها لما كانت جمعية بحسب الحقيقة، أثرت في أرواحهم فأفادتهم من المعرفة ما علموا به، وجوب إجابة دعوته كما أشار إليه بقوله: (وذكر) نوح (عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته)؛ لاشتمالها على الجمع بين التنزيه والتشبيه في الحقيقة، وإن كانا على سبيل التفرقة في اللفظ، وإذا كانت دعوة جمعيته في الحقيقة تفريقية في اللفظ كانت مؤثرة في التفريق من وجه، والتغير من آخر .
(فعلم العلماء بالله) الواقفون على تأثيرات الدعوات في التعريف بقدر جمعیتها.
والتغير بقدر نوريتها (ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم) حيث علموا وجوب إجابة دعوته لما فيها من الجمعية الحقيقية (بلسان الذم) حيث لم ينقادوا لما علموا وجوبه، بل اتبعوا نفوسهم الأمارة، فاقتصروا على ما فيها من التفرقة بحسب اللفظ.
(وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته) بالقول فيه إشارة إلى أن معرفة أرواحهم وجوب إجابته، إجابة من وجه، بل من كل وجه لو لم يعقبهم ظلمات نفوسهم الأمارة التي أقرتها باقتصار النظر في اللفظ المفرق (لما فيها من الفرقان)، أي: ذكر التشبيه بلفظ والتنزيه بآخر، وكذا ذكر الظاهر بلفظ، والباطن بآخر فلم تتم نوریتها بحيث تجذب أرواحهم جدا قويا إلى ما فاضت هي منه من الحضرة الإلهية.
( والأمر) أي: الذي منه فيض أرواحهم (قرآن) جامع بين حضرة الوجوب، وهي حضرة التنزيه والبطون، وبين حضرة الإمكان، وهي حضرة التشبيه والظهور من غير افتراق بينهما، كما قال: (لا فرقان) فلو دعا بطريق القرآن لأثرت دعوته في رفع الحجب الظلمانية من كل وجه، فانجذبت أرواحهم إلى مقارها الأصلية، وتركت متابعة النفوس الأمارة، فلما دعا بطريق الفرقان بقیت الحجب.
وذلك لأن (من أقيم) أي: كان مقيما في الأصل (في القرآن)، وهي الأرواح قبل التعلق بالأشباح (لا يصغي إلى الفرقان) إصغاء ينجذب به لا محالة إلى مقره الأصلي، إلا إذا كان ممن سفل من رؤية التفرقة إلى رؤية الجمع، وإليه الإشارة بقوله: (ولو كان) أي: الفرقان المدعو إليه في دعوة نوح بحسب اللفظ (فيه) أي: في القرآن إذ كل كثرة ترجع إلى الوحدة فلو كانت أرواحهم كاملة لرجعت إلى القرآن عند رؤية هذا الفرقان (فإن القرآن يتضمن الفرقان)، فإن النظر إلى الأجزاء المتفرقة مفرق عن النظر إلى الهيئة المجموعية، إلا في حق الكمل الذين لا يحجبهم شيء عن شيء.
(ولهذا) أي: ولكون القرآن متضمنا للفرقان شاملا على أجزائه جامعا للمعارف (ما اختص بالقرآن) أي: الدعوة الجامعة بين التنزيه والتشبيه (إلا) من كانت نبوته جامعة الأسرار النبوة، وولايته الأسرار الولاية (محمد ، وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس)، وإذا كان القرآن مخصوصا بمحمد ، وهذه الأمة (وليس كمثله" [الشورى: 11]) أي: مثل محمد وأمته ("شيء" [الشورى:11]) في كمال النبوة والولاية وجمعيتهما، ولما كملت جمعيتهم إلى هذا الحد.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 3:58 pm

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه
الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية  الجزء الثاني
(فجمع الأمرين) أي: الأمر معارف من تقدم من الأنبياء والأولياء ""أي أمر التنزيه والتشبيه"" (في أمر واحد) جاء فيه بالتفرقة باعتبار، والجمعية بأخر فهذا اقتباس لطيف وإيهام بديع، وإذا كانت إجابة الأرواح المحتجبة بالحجب الكثيفة الظلمانية مختصة بالقرآن الجاذب بنوریته لها إلى مقارها، بحيث تتبعها النفوس الأمارة بالقسر.
قال رضي الله عنه : (فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.)
قال رضي الله عنه : (ونوح دعا قومه «ليلا» من حيث عقولهم وروحانيتهم فإنها غيب.
«ونهارا» دعاهم أيضا من حيث ظاهر صورهم وحسهم، وما جمع في الدعوة مثل «ليس كمثله شيء» فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان فزادهم فرارا.)
قال رضي الله عنه : (فلو أن نوحا عليه السلام أتي بمثل هذه الآية لفظا)، وفيه إشارة إلى أنه جاء بهذه المعرفة معنی وحقيقة؛ ولكن كان لفظه قاصرا عنها موهما للتفرقة، (لأجابوه) بغلبة نورانیتها على ظلماتهم، إذ للجمعية نورهم عظيم، سيما إذا كانت جامعة للجمعية والتفرقة جميعا.
والآية كذلك (فإنه) أي: مثل هذه الآية (شبه) بقوله: ("وهو السميع البصير" [الإسراء: 1])، (ونزه) بقوله: "ليس كمثله شيء" [الشورى:11] ففيه تفرقة من وجه وإن كان (في آية واحدة).
ثم أشار إلى وجه الجمع بقوله: (بل في نصف آية)، وهو قوله: "ليس كمثله شيء" [الشورى:11]، إذ فيه نفي المثل وإثباته، وكذا في قوله: "وهو السميع البصير" [الإسراء: 1]، إثبات التشبيه ونفيه.
قال رضي الله عنه : (ونوح الی دعا قومه ليلا) أي: إلى الباطن (من حيث عقولهم وروحانيتهم، فإنها غيب) فهي مظاهر الاسم الباطن .
(ونهارا) أي: إلى الظاهر (دعاهم أيضا من حيث) ظاهر (صورهم وحسهم) مظاهر الاسم الظاهر، (وما جمع في الدعوة) بين الظاهر والباطن في لفظ واحد (مثل) جمع (" ليس كمثله شيء" [الشورى:11]، فنفرت بواطنهم) أي: أرواحهم، وإن لم تشعر بذلك نفوسهم وقلوبهم (لهذا الفرقان) بين الظاهر والباطن في اللفظ حيث لم تجد ما كانت مقيمة فيه من الجمعية،
ولم تقدر على الانتقال من التفرقة؛ لغلبة الحجب النفسانية، وجودا بها عليها، (فزادهم فرارا) لما لم يجدوا المعشوق الروحاني الذي كانت أرواحهم مقيمين فيه فصعب عليهم ترك معشوق نفوسهم الأمارة من اللذات السفلية، فزادوا نزولا إلى أسفل سافلين.
قال رضي الله عنه : (ثم قال عن نفسه إنه دعاهم ليغفر لهم، لا ليكشف لهم، وفهموا ذلك منه صلى الله عليه وسلم.
لذلك «جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم» وهذه كلها صورة الستر التي دعاهم إليها فأجابوا دعوته بالفعل لا بلبيك. ففي «ليس كمثله شيء» إثبات المثل ونفيه)
ثم أشار إلى أنه كان لأرواحهم منفر آخر وراء الفرقان المذكور، فقال: (ثم قال عن نفسه: إنه دعاهم ليغفر لهم) أي: ليستر عنهم المظاهر السفلية التي عشقوها لا من حيث هي مظاهر بل من حيث هي مفيدة لنفوسهم من اللذات السفلية الشاغلة عن اللذات العلوية.
(لا ليكشف لهم) عما فيها من أسرار الظهور الإلهي التي نزلت أرواحهم في أبدانهم؛ لكشفها لكن غفلوا عن جهة المظهرية فجعلوها مقاصد بالذات فأمرهم؛ ليطلبوا الستر عنها ليكشف لهم عن الذات الإلهية، لا في هذه المظاهر لما رآها شاغلة لهم عنها بالكلية، (وفهموا) أي: أرواحهم وإن لم تشعر بها قلوبهم ونفوسهم (منه ذلك صلى الله عليه وسلم ، لذلك " جعلوا أصابعهم في آذانهم  واستغشوا ثيابهم " . فهذه كلها صورة الستر التي دعاهم إليها فأجابوا دعوته بالفعل). أي: بفعل الستر لا بالطريق الذي أمرهم به، وهو الرياضة والاشتغال بحيث يسترهم ذلك عن المحسوسات، وهؤلاء اقتصروا على ظاهر الستر في غير الصورة المطلوبة عنادا منهم عند عدم رؤية الجمعية في الظاهر (لا بلبيك)، وهي الإجابة في الصورة المطلوبة بالطريق المأمور به.
فبهذا ظهر الفرق بين الدعوة النوحية الفرقانية، والدعوة المحمدية القرآنية ("ففي ليس كمثله شيء" [الشورى:11])، الذي هو دعوة محمد صلى الله عليه وسلم (إثبات المثل) بدلالة المطابقة، (ونفيه) بدلالة الالتزام، وإثبات المثل دليل الظهور ونفيه دليل البطون فجمع بينهما كما جمع بين التنزيه والتشبيه.
قال رضي الله عنه : (وبهذا قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم إنه أوتي جوامع الكلم.
فما دعا محمد صلى الله عليه وسلم قومه ليلا ونهارا.  بل دعاهم ليلا في نهار ونهارا في ليل.)
قال رضي الله عنه : (فقال نوح في حكمته لقومه: «يرسل السماء عليكم مدرارا» وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري، «ويمددكم بأموال» أي بما يميل بكم إليه فإذا مال بكم إليه رأيتم صورتكم فيه. فمن تخيل منكم أنه رآه فما عرف، ومن عرف منكم أنه رأى نفسه فهو العارف. فلهذا انقسم الناس إلى غير عالم وعالم. «وولده» وهو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري. والأمر موقوف علمه على المشاهدة بعيد عن نتائج الفكر.)
 
قال رضي الله عنه : («إلا خسارا، فما ربحت تجارتهم» فزال عنهم ما كان في أيديهم مما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم: و هو في المحمديين «و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه»، و في نوح «ألا تتخذوا من دوني وكيلا» فأثبت الملك لهم و الوكالة لله فيهم. فهم مستخلفون فيه.
فالملك لله وهو وكيلهم، فالملك لهم وذلك ملك الاستخلاف.)

قال رضي الله عنه : (وبهذا كان الحق تعالى مالك الملك كما قال الترمذي رحمه الله.
«ومكروا مكرا كبارا»، لأن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو لأنه ما عدم من البداية فيدعي إلى الغاية. «أدعوا إلى الله» فهذا عين المكر، «على بصيرة» فنبه أن الأمر له كله، فأجابوه مكرا كما دعاهم "مكرا ". )
قال رضي الله عنه : (فجاء المحمدي وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته وإنما هي من حيث أسماؤه فقال: «يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا» فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم، فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين.
فقالوا في مكرهم: «وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق و نسرا»، فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من يعرفه و يجهله من يجهله. في المحمديين: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه» أي حكم. فالعالم يعلم من عبد، )
قال رضي الله عنه : (ولهذا قال محمد صلى الله عليه وسلم عن نفسه: إنه أوتي جوامع الكلم) جمع بلفظ واحد بين التنزيه والتشبيه والظهور والبطون، وإذا كان محمد أوتي جوامع الكلم، (فما دعا محمد صلى الله عليه وسلم قومه ليلا ونهارا) على سبيل التفرقة بين الظاهر والباطن، (بل دعاهم ليلا في نهار) فإن الباطن، إنما عرف بظهوره في الأرواح والعقول، فصار ظاهرا (ونهارا في ليل)، فإن الظاهر إذا تم ظهوره خفي فصار باطنا على أن الظهور في المظاهر موجب؛ لتقيد صوره بتلك المظاهر فهي حاجبه عن حقيقة الذات.
ولما أمرهم نوح عليه السلام التي بطلب الستر عن المحسوسات، وعدهم على ذلك حصول المعارف العقلية والتجليات الإلهية،
قال رضي الله عنه :  (فقال نوح في حكمته) أي: في بيان حكمة أمره بطلب الستر عن المحسوسات (لقومه) "يرسل السماء" [نوح: 11]، أي: سماء المبادئ العالية من الحضرة الإلهية والعقول المجردة، والأرواح الطاهرة الملكية "عليكم مدرارا" [نوح: 11])، أي: بأسرار الأسماء الإلهية والكونية، وهي المعارف العقلية عن العقول المجردة،
والمعاني المجردة عن الحضرة الإلهية (والنظر الاعتباري)، وهو الانتقال مما يرى في عالم الحس، أو عالم المثال إلى ما يناسبه عن حضرة الأرواح الطاهرة الملكية، ("ويمددكم بأموال" [نوح: 12]، أي: بما يميل بكم إليه) من تجليه (فإذا مال بكم إليه رأيتم صوركم فيه)؛ لأنه إنما يرى إذا فاضت منه صورة نورانية على العين الثابتة للرائي بما تناسب الحق.
وذلك مدد منه تعالى إياه بحسب استعداده الخاص الحاصل له عن الستر عن المحسوسات، فتنع?س تلك الصورة إلى مرآة الذات فيحجب عن رؤيتها حجب صور المرايا عن رؤية إجرامها، (فمن تخيل منكم) عند ذلك التجلي (أنه رآه ) .
أي: الحق من غير حجب صورته عن رؤيته، (فما عرف حقيقة) أمر التجلي، (ومن عرف منكم أنه رأى نفسه) في مرآته عند تجليه (فهو العارف) المطلع على حقيقة أمر التجلي.
قال رضي الله عنه : (فلهذا) أي: فلانقسام أهل التجلي إلى من تخيل أنه رأى الحق، وإلى من يعرف، وإلى من لا يعرف، أنه لا يرى، وإنما يرى صورته في مرآته (انقسم الناس) كلهم (إلى عالم وغير عالم)؛ لأنه إذا تطرق الجهل إلى أهل التجلي فغيرهم أولی بذلك على أن أكثرهم يقلدونهم.
ثم قال نوح: "واتبعوا" [نوح: 21]، أي: قلدوا "من لم يزده ماله وولده" [نوح: 21]، أي: تجليه "إلا ځسارا" [نوح: 21]، إذ تخيل أنه رأى الحق فزعم أنه الإله، أو أنه على صورته فأمرهم أن يتخذوا صنما على صورته، ولكن لم يصرح به الشيخ نه استغناء عنه بما أشار إليه، وجاء للإشارة إليه بما هو عطف عليه وهو قوله: "وولده" [نوح: 21].
أي: واتبعوا یعنی: قلدوا من لم يزده (وولده، وهو ما أنتجه نظره الفكري) من المعارف العقلية، وهو وإن كان بمنزلة نور البصر؛ فلا يفيد بدون التنور بنور الشرع الذي هو بمنزلة نور الشمس ، ولو اجتمعا فلا يتم رفع الالتباس بدون نور الكشف.
لذلك قال: (والأمر) أي: أمر المعقولات (موقوف علمه) صافيا عن شوائب اللبس على المشاهدة الحاصلة بالتصفية، كما قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".
[العنكبوت: 69] (بعيد عن نتائج العقل)  سيما إذا تجرد عن نور الشرع، وإذا كان في حق صاحب النظر هذا الحال لا جرم، ولم يزد في حق مقلده .
قال رضي الله عنه : ("إلا خسارا" [نوح: 21]) سيما إذا ترك تقليد الأنبياء عليهم السلام لأجله، فإذا بعد عن نتائج العقل المجرد عن نور الشرع والكشف، ("فما ربحت تجارتهم " [البقرة: 16]) في إتعابهم الأفكار في تحصيل المقدمات النظرية، "وما كانوا مهتدين" [البقرة:16]، إلى ما يطابق الواقع من تلك المعارف فكانوا خاسرين.
(فزال عنهم) بكشف الحجب بالموت عنهم، (ما كان في أيديهم مما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم) يتصرفون فيه، وينتفعون به تصرف الملاك وانتفاعهم، (وهو) أي: تلك المعارف العقلية بنور الكشف ثابت (في المحمديين)؛ فإنهم مالكون لها ينتفعون بها، ويفيضونها على من يرونه أهلا لذلك بدليل قوله تعالى في شأنهم: ("وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" [الحديد: 7]).
فأمرهم بإنفاق العلوم العقلية، وهو شأن الملاك خلافة عن الله تعالی كأنهم قائمون قيامه في الملك ملكهم الاختيار في ذلك، وكذا (في) حق مؤمني قوم (نوح عليه السلام) إذ قال في حق أولادهم: ("وألا تتخذوا من دوني وكيلا" [الإسراء: 2])، "ذرية من حملنا مع نوح" [الإسراء: 3].
فهم أصل في ذلك الأمر أمروا ألا يتخذوا غير الله من أفكارهم وكيلا في تحصيل العلوم العقلية، ولم يبق لهم اختيار في الاستفاضة والإفاضة.
وإذا أمرهم الله أن يتخذوه وكيلا في تحصيل تلك العلوم وإفاضتها، (فأثبت الملك لهم) في تلك العلوم (والوكالة) في تحصيلها، وإفاضتها (الله) إذ جعل المالك وكيلا لا يتصور؛ لكنه لا شك في أنه مالك بالأصالة فهم مستخلفون (فيه) أي: في ملك تلك العلوم عن الله.
وإذا كانوا (مستخلفين) في ملك تلك العلوم، (فالملك) في تلك العلوم (الله) ومع كونه مالكا (هو وكيلهم)؛ لأنه قد ملكهم، (فالملك) بعد تملیكه إياهم ذلك (هم) لا بذاتهم.
ولذلك قال: (وذلك ملك الاستخلاف) فليس لهم التصرف في ذلك باختيارهم؛ بل الاختيار الله وإلا كانوا اتخذوا من دونه وكيلا من أنفسهم.
قال رضي الله عنه : (وبهذا) أي: وبتلك المعارف الكشفية (كان الحق مالك الملك) تتصرف عبيده في معارفه تصرف الملاك، وينتفعون بها انتفاعهم، (كما قال الترمذي).
وقد روي عن أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه أنه قال في مناجاته حين تجلى له الملك الحق المبين: " ملكي أعظم من ملكك؛ لأنك لي، وأنا لك، فأنا ملكك وأنت ملكي، وأنت العظيم الأعظم".
وإلى هذا أشار الشيخ رضي الله عنه في اصطلاحاته إذ قال: مالك الملك هو الحق في حال مجازاة العبد على ما كان منه إذ أعظم المجازاة ما يكون بالمعارف الإلهية ؛ فافهم، فإنه مزلة القدم.
ولما فرغ عن بيان تقليدهم من لم يزده ماله وولده إلا خسارا شرع في بيان أخذهم بقول نوح الكلية على سبيل المكر والمكابرة بما ينجر إلى ما كانوا عليه من عبادة الأصنام فقال: ("ومكروا" [نوح: 22]).
أي: مكرت أرواحهم في إجابة دعوة نوح إذا أجابوه لا في التنزيه، ولا في الظهور في الكل، بل في بعض المظاهر، أو في الكل مع جعل المظاهر القاصرة كاملة بحيث تستحق العبادة فكان مكرهم ( "مكرا كبارا" [نوح: 22])، كابروا فيه مع نوح العلي وقصدوا بذلك جزاء مكره في دعوتهم إلى الله تعالی؛ (لأن الدعوة إلى الله) من حيث اشتمال هذا الاسم سائر الأسماء (مكر بالمدعو) لإصلاح أمره وإرشاده من حيث لا يشعر.
إذ لو قيل له: إنه يدعي من اسم إلى اسم مع أنه مع الله بكل حال لربما كابر وزعم أنه مع الاسم المدعو إليه، كالرحيم، والغفور من حيث إنه يراه غير مؤاخذ بذنوبه، مرزوقا معافي.
وإنما قلنا: إنه مكر بالمدعو؛ (لأنه) أي: اسم الله من حيث شموله للأسماء (ما عدم من البداية) التي فيها المدعو الآن؛ لأنه لا يخلوا عن تجلي اسم من الأسماء الإلهية (فيدعی إلى الغاية) التي فيها الله خاصة، بل هو فيهما بالتجلي؛ لكنه في الأول بالاسم القهري، وفي الثاني بالاسم اللطفي.

فهذا أي: الدعاء من بعض الأسماء إلى بعض في المعنى مع كونه في اللفظ ("أدعوا إلى الله" [يوسف: 18]) تعالی (عين المكر) بالمدعو لإصلاحه وإرشاده، كما قال: لكنه ("على بصيرة" [يوسف: 18]) من الداعي إذ علم بمكابرة المدعو لو صرح له بالمدعو إليه من الأسماء، (فنبه) روح المدعو بمكره على مكر الداعي، إذ علم (أن الأمر) أي: أمر البداية والغاية (له كله) .
إذ الكل من حيث مظاهر الأسماء الداخلة تحت حيطة هذا الاسم الكلي، وقد خصصه نوح اللي بالأسماء اللطفية، إذ دعاهم إليه من حيث تضمنه إياها خاصة.
(فأجابوه مكرا) بقبول دعوته في غير الصورة المطلوبة؛ لأنه دعاهم إلى التنزيه باعتبار ذاته، والتشبيه باعتبار ظهوره في المظاهر، وهم إنما قبلوا دعوته بتخصيص ظهوره ببعض المظاهر أو الكل مع جعل البعض القاصرة كأنها الكل حتى جعلوها مستحقة للعبادة .
وهو غلط إذ المظهر الكامل هو الإنسان فلا يليق به أن يعبد ما دونه، وهو أيضا لا يستحق العبادة من غيره؛ لأن غاية كماله أن يظهر بالعبودية التي هي أصله، وقصدوا بذلك أن يجيبوه مكرا (كما دعاهم مكرا) من بعض الأسماء إلى بعض، مع أنه أظهر أنه يدعوهم إلى الله الذي هو الكل
قال الشيخ رضي الله عنه : (فجاء) الداعي (المحمدي) لإزالة صورة المكر في هذه الدعوة مع دعاية أمر الإرشاد، ومنع المكابرة منهم.
(وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته) أي: تعيين الإلهية الشاملة للأسماء كلها اللطفية والقهرية، (وإنما هي من حيث أسمائه) يدعو من بعضها إلى بعض أي: من القهرية إلى اللطفية فاختار من اللطفية الاسم الجامع للأسماء اللطفية؛ (فقال: "يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " [مريم: 85]، فجاء) في هذه الدعوة (بحرف الغاية)، وهو إلى من غير مكر، وهو أنه (قرنها) أي: الدعوة إلى الغاية بالاسم الرحمن الشامل للأسماء اللطفية دون اسم الله الشامل لها ولغيرها.
والآية وإن وردت في الحشر فهو مرتب على أمر الدنيا، إذ هي مزرعة الأخرة. (فعرفنا) من هذه الدعوة المحمدية الجامعة لأنواع الكمالات الدالة على أنه، إنما يدعو إلى الاسم الجامع للأسماء المفيضة لأنواعها، وهو الذي رحم به الكل أولا فيجب الرجوع إليه آخرا؛ لأن النهاية هي الرجوع إلى البداية " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" [المائدة: 48].
وهذا يشير إلى أن كل واحد من شرعته جاء في بدايته (أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي) كلي رحم به على الكل فأخرجه من ظلمة العدم إلى نور الوجود، والرجوع إليه لا يمكن إلا بنور الفطرة.
ولذا (أوجب عليهم أن يكونوا متقين) عن الحجب الظلمانية الحاصلة من الاعتقادات الفاسدة، والهيئات الرديئة من المعاصي الفرعية؛ ليمكنهم الوصول بنور الفطرة إلى ذلك الاسم راكبين مطايا الاعتقادات الطيبة والهيئات الصالحة.
فلذلك قال: "يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا" [مريم: 85]، (فقالوا في مكرهم) في إجابة نوح لما دعاهم إلى من تنزه عن الكل مع ظهوره في الكل: (" لا تذرن آلهتكم " [نوح: 23])، إذ هي المظاهر لا غير في زعمهم أو هي الكاملة في المظهرية بحيث تستحق العبودية من المظاهر القاصرة، وقد غلطوا إن الإنسان أكمل منهم مع أن أصل المظاهر العبودية؛ فحقها أن تكون عابدة لا معبودة.
("لا تذرن" [نوح: 23])، على الخصوص (" ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا" [نوح: 23]، فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق) أي: من تجلياته (بقدر ما تركوا من هؤلاء) لانحصار المظهرية فيها في زعمهم، أو لكونها مظاهر كاملة عندهم مستحقة للعبادة، (فإن للحق في كل معبود وجها) خاصا من تجلياته أراد بذلك أن يعبد فيها (يعرفه من يعرفه، ويجهله من يجهله).
وليس ذلك الوجه في سائر المظاهر، وإلا لعبدت أيضا، وغلطوا في ذلك فإن الحق إنما أراد أن يعبده فيها من كان بينه وبين الحق حجاب فلا يراه إلا في هذه المظاهر القاصرة، ويقتصر نظره عليها والدليل على أنه المعبود فيها بالحقيقة ما ورد في كتاب (المحمديين)، وهو قوله تعالى: ( "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " [الإسراء:23])، أي: حكم ولا تبدل الحكم الله لكن عبادته بذاته حق، وعبادة المظاهر باطلة لما فيها من التفرقة "أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار" [يوسف: 39].
(فالعالم) بظهور الحق فيها (يعلم من عبد) فيها بالحقيقة، وإن قصد الغير؛ لكن الجزاء إنما يترتب على القصد إذ له تأثير في المقاصد "إنما الأعمال بالنيات"، لا على ما وقع في الحقيقة ولو قصدوا عبادة الظاهر فيها، فإن قصدوا ذلك لاختصاصها بالمظهرية أو الكمال مظهريتها فهو أيضا غلط فاحش، وإلا فلا معنى لعبادتها.
قال رضي الله عنه : (و في أي صورة ظهر حتى عبد، و أن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة و كالقوى المعنوية في الصورة الروحانية،فما عبد غير الله في كل معبود.)
قال رضي الله عنه : (فالأدنى من تخيل فيه الألوهية، فلو لا هذا التخيل ما عبد الحجر و لا غيره. و لهذا قال: «قل سموهم»، فلو سموهم لسموهم حجارة و شجرا و كوكبا.
و لو قيل لهم من عبدتم لقالوا إلها ما كانوا يقولون الله و لا الإله. و الأعلى ما تخيل ، بل قال هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر.
فالأدنى صاحب التخيل يقول: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» و الأعلى العالم يقول: 
«فإلهكم إله واحد فله أسلموا» حيث ظهر «وبشر المخبتين» الذين خبت نار طبيعتهم، فقالوا إلها و لم يقولوا طبيعة، «و قد أضلوا كثيرا، أي حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه و النسب.)
قال رضي الله عنه : («و لا تزد الظالمين» لأنفسهم. «المصطفين » الذين أورثوا الكتاب، أول الثلاثة. فقدمه على المقتصد والسابق. «إلا ضلالا» إلا حيرة المحمدي. «زدني فيك تحيرا»، «كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا».)

(وفي أي: صورة ظهر) من الصور الموجبة للحجاب، والكشف الموجب لاعتقاد استحقاقها العبادة له فيها، أو للمظاهر نفسها (حتی عبد) فالذات من حيث جلالها اقتضت ذلك، وأرادت أن تعبد في هذه المظاهر؛ ليقهر بذلك فيكمل ظهور قهره وجلاله، ولا معنى لجعلها كالقبلة.
لأن القبلة هي الجهة التي يتوسل بالتوجه إليها في الظاهر إلى توجه الباطن إلى الحق، وليس يحصل ذلك من هذه الأصنام بل عبادتها توجب ظلمات كثيفة نورت الميل إلى المحسوسات مع إنكار الكمالات الحقيقية، كإنكار النبوة و الأمور الأخروية على ما هو المشاهد من أهلها، وإن كان المعبود في الكل واحد إذ لا تكثر هذه الصور المعبودة (فإن التفريق والكثرة) في صور المظاهر (كالأعضاء) أي: كتفريق الأعضاء وكثرتها (في الصورة المحسوسة) بجسد الإنسان.
(وكالقوى المعنوية) أي: وكتفريق القوى المعنوية وكثرتها (في الصورة الروحانية) مع أن مرجع الكل هو الإنسان الواحد بالشخص، وإذ كان مرجع الكل هو الله (فما عبد) في الحقيقة (غير الله في كل معبود).
فلذلك أرادت الذات الإلهية أن تعبد في كل معبود، وهو معنى قول أهل السنة: إن الله تعالى يريد الكفر من الكافر، ولكن لا يرضى إلا الإسلام والتوحيد لأنه إنما تكمل حكمته في الظهور لا في الحجاب.
فلذلك قالوا: إن جلاله عاشق لجماله، وإذا كان الكل يرجع إلى الحق الواحد مع التفريق فيه انقسم الناس إلى جاهل أدني يقتصر نظره على التفريق، وعالم أعلى يعلم رجوع الكل إلى الحق، وبينهما مراتب
قال رضي الله عنه :  (فالأدنى من تخيل فيه الألوهية) فعبده لاعتقاد كونه إلها عنده بالحقيقة لا لكونه مظهرا إلها، فإن ذلك من الاعتقاد الأوسط وهو أيضا غالط من حيث تجویز عبادة المظهر، أو جعله قبلة (فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره)؛ لأنه لا يعرف المظهر، وقد بينا غلط من جوز عبادة المظاهر.
(وهذا) أي: ولأجل أنه تخيل فيه الألوهية، وأراد الله تعالی بيان فساد هذا التخيل (قال) لنبيه : (" قل سموهم" [الرعد: 33])، أي: اذكروا ما وضع لها واضع اللغة من الألفاظ بإزاء ما فيها من المعاني، وقبل منه ذلك في الإعصار"العصور" كلها لموافقته الواقع (فلو سموهم لسموهم حجرا وشجرا وكوكبا) إذ لم يضع لها الواضع غيرها فدل على أنه ليس فيها شيء من معنى الألوهية.
ولكنهم يعتقدونها فيهم حتى (لو قيل لهم: من عبدتم، لقالوا: إلها) فيقال: قد ناقضتم واضع اللغة بل أنفسكم حيث لم تسموها بالألهة مع أنكم تعتقدون فيها الألوهية فتجعلونها إلها من الآلهة، وما عبدتموها على أنها مظاهر للإله الواحد؛ فلذلك
(ما كانوا يقولون: الله) باسم العلم، (ولا الإله) بلام العهد الدال على الواحد المعهود فيما بين الموحدين؛ لأنهم يعلمون أنه ليس المسمى بذلك العلم، ولا ذلك الواحد المعهود فيما بين الموحدين.
(والأعلى) العالم بالله (ما تخيل) فيه الألوهية (بل) غايته إن (قال: هذا مجلي إلهي) كسائر ما في العالم، (يجب تعظيمه) من حيث المظهرية كسائر صور العالم .
(فلا يقتصر) على تعظيمه، كما يفعله عبدته بل إذا رأى منهم تعظیم ذاته ينبغي أن يغار عليه، فیكسر بل غاية تعظيمه أن يعتقد فيه أنه مسبح الله تعالى، وأنه حجاب العزة به احتجب الحق عن أهل الضلال.
فقهرهم بظهور عزته وجلاله (فالأدنى صاحب التخيل يقول: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" [الزمر: 3 ])؛ وذلك لأنهم عندهم آلهة صغار لا يمكن الوصول إلى الإله الأعظم بدون واسطتهم.
وهذا باطل إذ لا دليل على قربهم من الله تعالى مع قصور مظهريتهم، بل هم الأنبياء والأولياء، وكيف يتصور لهم قرب لو ادعوا مشاركته في الألوهية، كما زعم هؤلاء بل ذلك موجب للعداوة والخصومة.
"قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا" [الإسراء: 42]، "ولعلا بعضهم على بعض" [المؤمنون: 91].
(والأعلى العالم) بالله (يقول: فإلهكم إله واحد فله أسلموا" [الحج: 34] حيث ظهر) بالانتقال من المظاهر إلى الظاهر، فلا يرون شيئا إلا يرون الله فيه، بل لا يرون في شيء إلا الله.
وسيأتي الكلام عليه عن قريب؛ ولكن لا يعبدون المظاهر، ولا الصور الظاهرة فيها من حيث هي صور، وإن ظهر منها تأثيرات كتأثير صورة الشمس الظاهرة في المرآة، فيما يقابلها من الماء.
والصورة الظاهرة فيه فيما يقابلها من الجدار كاعتقاد الطبائعية تأثيرات الطبائع في الأشياء.
فلذلك قال: ("وبشر المخبتين" [الحج: 34]، الذين خبت نار طبيعتهم فقالوا) :  نری (إلها ) أي: وجها من وجوهه يؤثر في الأشياء.
(ولم يقولوا: طبيعة) فينسبون الكل إلى الله دون المظاهر بل يجعلونها كالقلم والكاغد لا منة لهما في جوائز السلاطين، بل لا يلتفتون إلى ذلك بالكلية؛ فلذلك حذف لفظة «نری»، كأنهم لا يلتفتون إلى رؤيتهم ولا إلى فنائهم، (وقد أضلوا ‘[نوح:24])، أي: أرواح الماكرین ("كثيرا"[نوح: 24]) من القلوب والنفوس، (أي: حيروهم) مع علمهم بأن الإله واحد، وقد ظهر في هذه المظاهر، فتوهموا أنها المظاهر لا غير، أو أنها المظاهر الكاملة التي تستحق العبادة، أو أنها عين الظاهر من كل وجه حتى وقعوا (في تعداد) الوجود (الواحد) الحق (بالوجوه والنسب) أي: بظهوره في كل مظهر من وجه خاص، وانتسابه إلى كل مظهر بنسبة خاصة، فتوهموا أنه يستحق العبادة فيها فجعلوا كل واحد إلها عن الحيرة المذمومة.
ويمكن أن يقال: ("وقد أضلوا" [نوح: 24] ) . أي: الأصنام المذكورة من حيث هي مظاهر جلالية كثيرا من أهل الحجاب أي: حيروهم الحيرة المذمومة بلسان الحال فأوقعوهم في تعداد الإله الواحد عند ظهوره فيها بالوجوه والنسب فاعتبارهم مظهريتها لما فيها من معرفة الحق المتجلي فيها لم يفدهم فائدة التعريف بل أوقعهم في الضلال والإضلال.
ويمكن أن يقال: "وقد أضلوا" [نوح:24]، أي: المخبتون "كثيرا" [نوح:24]، من العامة أي: حيروهم حين نطقوا بالتوحيد فتوهموا من ذلك إلهية الكل إذ تكلموا في تعداد الوجود الواحد بالوجوه والنسب .
يعني: أنهم أهل البشارة، وإن وقعت منهم هذه العبارة الموهمة عند غلبة التوحيد عليهم فعلی هذا هو ليس من قول نوح المحكي في القرآن، بل هو اقتباس موهم لطيف.
ثم ذكر ما يدل على الحيرة المحمودة بطريق الإشارة مما تدل العبارة على الحيرة المذمومة أخذا بظاهر القرآن وباطنه استيفاء بجميع مفهوماته، فنزل ما هو بطريق الإشارة في حق الكل والذي بطريق العبارة نازل في حق الطغاة فقال: ("ولا تزد الظالمين" [نوح: 28]) .، لم يتعرض للمفهوم الأول، وهو تفسير الظالم بالشرك أو القاطع حق الغير لظهوره، بل فسره بطريق الإشارة بما ورد في نص آخر بطريق التصريح.
وهو قوله تعالى"ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم؛ لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " [فاطر: 32].
ليكون ما دعا به نوح عليه السلام دعاء شر على الطغاة بعينه دعاء خير للكل؛ لئلا يخلو عن دعاء الخير في ضمن دعاء الشرك لئلا يتوهم كونه من النفوس الشريرة التي لا بدل ما يصدر عنها من الخوارق على صدقها.
فقال: ("المصطفین" [ص: 47]، الذين أورثوا الكتاب) أي: أوتوا أسراره بطريق الوراثة لا الكسب والدراسة صاروا ظالمين لقطعهم على أنفسهم حظوظها من فضول الطعام و المنام والكلام، فصاروا مصطفين بإنباء أسرار الكتب السماوية، (فهم) أيهذا الظالم المصطفی (أول الثلاثة) المذكورين في الآية المذكورة .
(فقدمه) لمزيد فضله لكونه من أرباب الوصول (على السابق) بالخيرات، وهو المقتصر على الأعمال الصالحة (والمقتصد) وهو السائر في الأقوال والمقامات التي هي الطريقة دعا له نوح عليه السلام بطريق الإشارة ألا يزيده الله (" إلا ضللا" [نوح:24]) فسره بطريق الإشارة بقوله: (إلا حيرة) أراد المحمودة وهي حيرة من كوشف بالأسرار الإلهية التي لا مثال لها في عالم المحسوسات والمعقولات.
والمذمومة حيرة من غلط في الاعتقاد أو العمل، وهي عين الضلال وليست مطلوبة للكمل، وإنما يطلبون أو يطلب لهم الحيرة المحمودة كما طلبها الداعي (المحمدي) بقوله: ("رب زدني فيك تحيرا").
ثم ذكر أن هذه الحيرة المحمودة كما فهمت بطريق الإشارة من الحيرة المذمومة من الآية المذكورة فهمت أيضا بطريق الإشارة من الآية الواردة في حق المنافقين بطريق العبارة البيان حيرتهم المذمومة.
أعني قوله تعالى: ("كلما أضاء لهم" [البقرة:20])، أي: لأهل الكشف عن مقامات الحق وأسراره في مقام البقاء ("مشوا فيه وإذا أظلم عليهم" [البقرة: 20])، بالفناء التام ("قاموا" [البقرة:20])هذا الطريق الإشارة، ومعناها بطريق العبارة كلما أضاء للمنافقين عن نور الإيمان مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم بظلمات الشبهات قاموا وسكنوا عن المشي في الإيمان وارتدوا.
قال رضي الله عنه : (فالحائر له الدور و الحركة الدورية حول القلب فلا يبرح منه،)
قال رضي الله عنه : (وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود طالب ما هو فيه صاحب خيال إليه غايته: فله من وإلى و ما بينهما.
وصاحب الحركة الدورية لا بدء له فيلزمه «من» ولا غاية فتحكم عليه «إلى»، فله الوجود الأتم وهو المؤتى جوامع الكلم والحكم.
«مما خطيئاتهم» فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله، وهو الحيرة، «فأدخلوا نارا» في عين الماء في المحمديين. "و إذا البحار سجرت": سجرت التنور إذا أوقدته.)

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 3:58 pm

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية  الجزء الثالث    
قال رضي الله عنه : ("فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا» فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد. فلو أخرجهم إلى السيف، سيف الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة، وإن كان الكل لله و بالله بل هو الله.
«قال نوح رب» ما قال إلهي، فإن الرب له الثبوت والإله يتنوع بالأسماء فهو كل يوم في شأن.  فأراد بالرب ثبوت التلوين إذ لا يصح إلا هو.
«لا تذر على الأرض» يدعو عليهم أن يصيروا في بطنها. المحمدي «لو دليتم بحبل لهبط على الله»، «له ما في السماوات و ما في الأرض».)

ثم أشار إلى سبب دعاء نوح عليه السلام لهم بالحيرة المحمودة بقوله: (فالحائر له الدور) في سيرة حول الجناب الإلهي، وذلك أن له (الحركة الدورية حول القلب) الذي عليه مدار الموجودات، وهو الحق (فلا يبرح منه) لا في حال مشيه، ولا في حال قيامه؛ لأنه كلما رد إلى البقاء رأى نور الحق فيرد إلى الفناء؛ فهو مع الحق دائما بخلاف من لا حيرة له.
وهو (صاحب الطريق المستطيل) في السير إلى الحق فإنه غلط؛ لأنه (مائل) عن الصراط المستقيم الذي هو رؤية الحق في البداية والنهاية (خارج عن المقصود)؛ لأن المقصود من السير : هو الإحاطة بأسرار الحق وتجلياته في البداية والنهاية، وهو يقصد أمرا يختص بالنهاية، ولا يوجد في البداية.
فهو (طالب ما هو فيه) في البداية لو صدق في طلبه؛ لكنه (صاحب خیال) يتخيل أن بينه، وبين مقصوده مسافة فصار مقصوده غير مقصوده (إليه) أي: إلى ذلك الخيال (غايته) فلا يحصل له من الحق إلا الصورة المتخيلة.
(فله) أي: ابتداء سير (من) غير الحق (وإلى) أي: انتهاء سير إلى ما تخيل من صورة الحق في الغاية، (وما بينهما) من المسافة التي يتوهم أنها مقامات السير إلى الله، ومنازله (وصاحب الحركة الدورية الذي يدور حول الحق في البداية والغاية متحيرا فيه (لا بدء) في سيره من غير الحق (فيلزمه «من») أي: ابتداء سير من أمر ليس معه من الحق شيء.

(ولا غاية) لسيره ينقطع فيه السير (فيلزمه «إلى») أي: انتهاء إلى الحق بحيث ينقطع السير بعده بالكلية مع أنه لا نهاية للسير فيه، وإذا لم يكن له بداية ونهاية فهو مع الحق أبدا (فله الوجود الأتم) لاستنارته بنور الحق في جميع أحواله وصاحب الطريق المستطيل في البداية مع غير الحق فهو في ظلمة من ذلك.
وفي النهاية صاحب خيال فهو في ظلمة الخيال، (وهو المؤتي جوامع الكلم) الدالة على أسرار الموجودات (والحكم) أي: العلوم المحكمة التي تتعلق بذات الواجب وصفاته مما لا يتبدل بتبدل الأزمنة والأحوال وإنما أوتي جوامعها؛ لأن ما يفاض عليه إنما هو من حضرة الجمع.
ثم أشار إلى سبب ذلك بما يفهم بطريق الإشارة في حق الكمل من آية نزلت بطريق العبادة في حق الطغاة منهم، وهي قوله تعالى("مما خطيئاتهم" [نوح: 25]). أي: من خطيئات هؤلاء الظالمين المصطفين أرباب الحيرة في سيرهم هذا بطريق الإشارة من الخطوة المناسبة بوجه من الوجوه للخطيئة، وهي المغضبة المفهومة بطريق العبادة في حق الطغاة؛ فلذا قال: (فهي التي خطت بهم) أي: سارت هم وحركتهم حول الجناب الإلهي بالحركة الدورية المفيدة للتنور بالنور التام الإلهي الكاشف عن علمه الشامل للكل شمول البحر أغرقوا في ذلك البحر العلمي كما أغرق الطغاة بخطيئاتهم.
أي: بمعاصيهم في البحر المحسوس.
(فغرقوا) أي: هؤلاء الظالمون المصطفون المتحيرون بالحيرة المحمودة.
(في بحار العلم بالله، وهو) أي: الفرق فيها هو (الحيرة) المحمودة الحاصلة لهؤلاء الظالمين المصطفين المتحركين بالحركة الدورية حول الجناب الإلهي ("فأدخلوا نارا" [نوح:25]). أي: نار المحبة بكشف جمال تلك الحقائق مع عدم الانتهاء في الإحاطة بها فلا ينقطع السوق في تحصيلها أبد الآباد، فالإدخال في تلك النار إدخال (في عين الماء) أي: ماء العلم الذي به حياة الروح.
وهذا أيضا بطريق الإشارة المأخوذة من إغراق الطغاة في البحر المحسوس وإدخالهم نار جهنم، ثم استدل على جعل بحر العلم عين نار المحبة بما ورد في كتاب (المحمديين) من قوله تعالى: ("وإذا البحار سجرت" [التكوير: 6])، أي: أوقدت فجعلت نارا؛ لأنه (من سجرت التنور إذا أوقدته)، وهذا التسجير كما يكون للبحار المحسوسة يوم القيامة يكون في بحار العلم بالله للكمل من المحمديين وغيرهم في الدنيا التي هي مزرعة الأخرة (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا"[نوح: 5]).
وهذا لكونه كالسالبة في صدقها مع وجود الموضوع تارة وعدمه أخرى يدل على عدم وجود الناصر لهم أصلا، وهو في حق الطغاة وعلى عدم غير الله ناصرا، أخرى: وهو في حق الكمل (فكان الله عين أنصارهم) نصرهم لوجوده على وجودهم الباطل فأفناهم عنهم (فهلكوا فيه إلى الأبد) كما هلك الطغاة في جهنم إلى الأبد.

قال رضي الله عنه (فلو أخرجهم) أي: الظالمين المصطفين عن هذا البحر المهلك لهم في الله إلى السيف) أي: الساحل (سیف الطبيعة) إذ ليس وراء ذلك البحر سواها (لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة)، وهي الهلاك في الله بغلبة وجوده على وجوداتهم، (وإن كان الكل) أي: وجوداتهم (لله) من مجاليه.
(وبالله) أي: قائما به إذ لا وجود لشيء من نفسه بل من الوجه الذي يليه، (بل هو الله) إذ لا وجود في الحقيقة سواه، ولا تحقق لشيء في الخارج سوی الموجود .
كما قال الإمام حجة الإسلام الغزالي في الباب الثالث من كتاب التلاوة من "الإحياء" بل التوحيد الخالص ألا نرى في كل شيء إلا الله لكن لو أخرجهم عن الطبيعة، وهي من حيث هي طبيعة حاجبة عن الله لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة فإن التجلي الإلهي، وإن عم فهو متفاوت إلى ما لا نهاية له.
ثم أشار إلى ما دعا به نوح عليه السلام في حق أولئك الظالمين المصطفين بطريق الإشارة في ضمن دعائه على الطغاة بطريق العبارة عند رؤية استغراقهم في بحار العلم بالله الموجب للحيرة برؤية الجمع الذي هو رؤية الحق بلا خلق.

فقال ("وقال نوح رټي" [نوح: 26]).  و(ما قال) في الدعاء: (إلهي فإن الرب) من حيث إن له نسبة خاصة إلى مربوب خاص (له الثبوت) على وجه خاص في تربيته لا يتجاوزه إلى غيره، (والإله ) احترز عنه؛ لأنه (يتنوع بالأسماء) التي تحت حيطته في التجليات (فهو) أي: الإله ("كل يوم هو في شأن" [الرحمن: 29])، في تجليه على مألوهه.
قال رضي الله عنه : (فأراد) نوح عليه السلام بالرب أي: باختيار لفظ (الرب) في دعائه (ثبوت التلوين) أي: طلب ثبوت التلوين، وهو الفرق بعد الجمع لأولئك الظالمين المصطفين؛ لئلا يردوا إلى مقام الجمع المحض أو إلى الفرق الأول بعد ذلك.
وإنما قلنا: أراد ذلك مع أنه لم يصرح به (إذ لا يصح) في حقهم طلب شيء (إلا هو) أي: التلوين؛ لأن مقام الجمع موجب للإضلال، ومقام الفرق الأول نزول إلى السفل فلم يبق لهم إلا مقام التلوين.
("لا تذر على الأرض" [نوح: 26])، أي: فوقها، وهي سماء الجمع بل اجعلهم تحتها فهو (يدعو عليهم أن يصيروا في بطنها) أي: أن يصيروا باطنا، والحق ظاهرا. وهذا هو الكمال في مقام الفرق بعد الجمع.
وإنما قال رضي الله عنه: يدعو عليهم مع أنه دعاء لهم لمشاكلته عبارة القرآن الواردة في الدعاء على الطغاة، ويدل على أن الحق هو الظاهر ، والخلق هو الباطن، ما قال النور (المحمدي «لو دليتم بحبل لهبط على الله").
ولا شك أن محل الهبوط هو السطح الظاهر من المهبوط عليه، ويدل عليه أيضا قوله تعالى: ("له ما في السموات والأرض" [البقرة:116]. فخص وجود كل منهما بالحق فهو الظاهر، وما فيهما الباطن .

قال رضي الله عنه : (وإذا دفنت فيها فأنت فيها و هي ظرفك: «و فيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى» لاختلاف الوجوه.
«من الكافرين» الذين «استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم» طلبا للستر لأنه «دعاهم ليغفر لهم» والغفر الستر. «ديارا» أحدا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة.
«إنك إن تذرهم» أي تدعهم وتتركهم «يضلوا عبادك» أي يحيروهم فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظرون أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عند أنفسهم عبيدا، فهم العبيد الأرباب.
«و لا يلدوا» أي ما ينتجون و لا يظهرون «إلا فاجرا» أي مظهرا ما ستر، «كفارا» أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره. فيظهرون ما ستر)

قال رضي الله عنه : ثم أشار إلى ترتيب التجليات ليتضح أن هذا آخر المقامات فقال: (فإذا دفنت فيها) أي: في الأرض يعني: علقت روحك بهذا الجسد الترابي (فأنت فيها) لا ترى الحق أصلا كيف، (وهي ظرفك) فتكون حجبها الظلمانية محيطة بك، وليس معك عقل بالفعل فتدرك به الحق مع الحجاب النوراني فهذا مقام الفرق الأول، وهو رؤية الخلق بلا حق،(" وفيها نعيدكم" [طه: 55]).
إلى الجمع الذي كنتم فيه حال الفطرة الروحانية،("ومنها نخرجكم"  [طه:55]).  
إلى الفرق بعد الجمع ("تارة أخرى" [طه:55])لأنه نسبة من وجه الفرق الأول، وليس هذا من القرآن بل هو اقتباس لطيف موهم، وكل ذلك (لاختلاف الوجوه).
أي: وجوه التجليات الفرق الأول، ثم الجمع.
ثم الفرق الثاني ربما ألا يذر على الأرض ("من الكافرين" [الشعراء: 19]).
أي: السائرين للخلق بنفيهم إياهم بالكلية في مقام الجمع.
ولذلك بينهم بقوله: (الذين "جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم "[نوح: 7] طلبا للستر) عن المبصرات والمسموعات، بل عن عالم الخلق إجابة لدعوة نوح عليه السلام .
(لأنه دعاهم ليغفر لهم، والغفر) في أصل اللغة: (الستر)، وهذا أيضا بطريق الإشارة فأوجب عليهم أولا أن يطلبوا الستر؛ ليحصلوا في مقام الجمع، ثم دعا أن يحصلوا في مقام الفرق بعد الجمع لترتبه عليه فدعا ألا يذر على الارض منهم ("ديارا" [نوح: 26]).
أي: (أحدا حتى تعم المنفعة) أي: منفعة حصول التلوين للكل (كما عمت الدعوة) إلى جميع وجوه التجليات، وهذا كله بطريق الإشارة، ومفهوم العبارة إنما هو الدعاء على الطغاة بالاستئصال الكلي.
ثم بين تعليل ذلك بطريق الإشارة أيضا في ضمن تعليل دعاء الاستئصال على الطغاة بطريق العبارة بقوله: ("إنك إن تذرهم" [نوح: 27] أي: تدعهم وتتركهم) في مقام الجمع المحض ("يضلوا عبادك" [نوح: 27]، أي: يحيروهم) بعبادتهم الموهمة لإلهية الكل (فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظرون أنفسهم أربابا بعدما كانوا عند نفوسهم عبيدا)، مع أن انقلاب الحادث قديما، وغير خالق السماوات والأرض خالقا لهما من المحالات الصريحة.
وإذا امتنع الانقلاب، (فهم العبيد الأرباب) عبيد من حيث الحدوث، والتعدد أرباب من حيث ما فيهم من سر الربوبية مع أن الحدوث مناف للقدم، والتعدد مناف للوحدة .
فيتحيرون عند ذلك فدعا أن يزول عنهم ما يوجب هذه الاتهامات الفاسدة المفيدة لحصول مقام الفرق بعد الجمع("ولا يلدوا" [نوح: 27]، أي: ما ينتجون) في اعتقاداتهم عن استغراقهم في مقام الجمع.
(ولا يظهرون) في كلماتهم عن ذلك ("إلا فاجرا" [نوح: 27]، أي: مظهرا) على العامة (ما ستر) عنهم من أسرار الربوبية (" كفارا" [نوح: 27] أي: ساترا ما ظهر) من تلك الأسرار منهم .
(بعد ظهوره) في كلماتهم (فيظهرون) أولا على العامة (ما ستر) أي: ما يجب ستره عنهم لقصورهم.
قال رضي الله عنه : (ثم يسترونه بعد ظهوره، فيحار الناظر و لا يعرف قصد الفاجر في فجوره ، ولا الكافر في كفره، و الشخص واحد.)
قال رضي الله عنه : («رب اغفر لي» أي استرني واستر من أجلي فيجهل قدري ومقامي كما جهل قدرك في قولك: «وما قدروا الله حق قدره» *.
«ولوالدي»: من كنت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة. «ولمن دخل بيتي» أي قلبي.
«مؤمنا» مصدقا بما يكون فيه من الإخبارات الإلهية وهو ما حدثت به أنفسها. «وللمؤمنين» من العقول «والمؤمنات» من النفوس.
«ولا تزد الظالمين»: من الظلمات أهل الغيب المكتنفين خلف الحجب الظلمانية.
«إلا تبارا» أي هلاكا، فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحق دونهم في المحمديين. «كل شي ء هالك إلا وجهه» والتبار الهلاك.
ومن أراد أن يقف على أسرار نوح فعليه بالرقي في فلك يوح "نوح"، وهو في التنزلات الموصلية لنا والسلام . )

ولذلك قال العارفون: إفشاء سر الربوبية كفر، (ثم يسترونه بعد ظهوره) عليهم بإظهار تأويل لما صدر عنهم من تلك الكلمات . مع أنهم لقصورهم لا يقدرون على التطبيق بينهما. (فيحار الناظر) من العامة إلى كلماتهم، (ولا يعرف قصد الفاجر) المظهر (في فجوره ولا الكافر) أي: الساتر (في كفره) أي: لا يعرف لم يظهره، ثم يستره.
أخذ الفاجر من الفجر، وهو الصبح لما فيه من الإظهار.
والكافر من الكفر وهو الستر بطريق الإشارة.
وكذا معنى الولادة على ما هو دأبه لقصده بيان سائر المفهومات بعد المفهوم اول، ويزيده تحيرا أن (الشخص) المظهر الساتر (واحد) .""أي بالذات وإن تعدد بالاعتبار، وهذا عين الإضلال والتحير"".
إذ لو كانا اثنين لربما ظن أن في اعتقادهما اختلافا فإذا رآه من شخص واحد يحار في شأنه هل هو مجنون؟ أم له في كل من ذلك قصد؟.
ولما فرغ عن دعاءه طلب الكمال لكمل أمته في ضمن دعاء الاستئصال على الطغاة دعا لنفسه ما هو غاية الكمال فقال("ربي اغفر لي " [نوح:28]). ولما كان المفهوم الأول طلب غفران الذنوب، وهو عليه السلام معصوم فسره بقوله : (أي: استرني) أي: استر ذاتي بحيث تصير باطني، والحق ظاهري.
(واستر من أجلي) كمالاتي بغاية ظهورها فإن الشيء إذا جاوز حده ما ورث ضده (فيجهل مقامي) منك، (وقدري) في كمالاتي.
(كما جهل قدرك) مع غاية ظهورك إذ لا تحقق لشيء بدون إشراق نورك عليه. وفي كل شيء آية تدل عليك , على ما أشرت إليه (في قولك: "وما قدروا الله حق قدره" [الأنعام: 19]).
أي: ما عرفوه حق معرفته، واغفر ("ولوالدى" [نوح: 28]).
ولما كان قصد الشيخ رضي الله عنه  بیان غير المفهوم الأول فسره بقوله (من كنت نتيجة عنهما وهما العقل) المنتج لروحانيتي، (والطبيعة) المنتجة لجسمانیتي طلب لهما الستر بغاية ظهورهما في تصرفاتهما. واغفر ("لمن دخل بيتي" [نوح: 28]).  
ولما كان قصده أيضا بیان غير المفهوم الأول فسره بقوله (أي: قلبي) والداخل فيه النفس الحيوانية طلب لها الستر عن إمارتها؛ بأن تصير مطمئنة متنورة بنور القلب.
ولذلك قال ("مؤمنا" [نوح:28]. أي: مصدقا بما يكون فيه) أي: في القلب (من الإخبارات الإلهية وهو) أي: ما يكون فيه من الإخبارات الإلهية (ما حدثت) القلوب (به أنفسها)، وفي نسخة أنفسهم , بما أخذته القلوب عن الأرواح عن الله تعالى، واغفر ("للمؤمنين" [نوح: 28]). ، من العقول "والمؤمنات" [نوح: 28]، من النفوس).
بغاية الظهور لها في تصرفاتها، وهذا كله بطريق الإشارة ثم طلب لمن يستر أحواله ومقاماته عن الخلق مزيد الستر بطريق الإشارة في ضمن دعائه على الطغاة فقال: ("ولا تزد الظالمين") [نوح: 28]، أي: الجاعلين أنفسهم في حجاب عن الخلق أخذ الظالم بطريق الإشارة (من الظلمات).
ولما أوهم أنهم أهل الحجب الظلمانية فسره بقوله: (أهل الغيب) أي: الغائبين عن نظر العامة لقصور نظرهم عن إدراكهم .
(المكتنفين خلف الحجب الظلمانية)، التي للخلق، فلا يبصرونهم دعا في شأنهم ألا يزيدهم ("إلا تبارا"  [نوح:28] أي: هلاگا). في ذاته  بحصول الفناء لهم حتى يقطعوا الالتفات إلى نظر الخلق، فلا يشتغلوا بالاستتار عنهم؛ لأن ذلك عن بقاء نفوسهم، فإذا فنوا في الله (فلا يعرفون نفوسهم)، فكيف يطلبون ستر أحوالها ومقاماتها عن نظر العامة (لشهودهم وجه الحق دونهم).
ثم أشار إلى أن هذا التبار مشيرا إلى الفناء كالهلاك (في) كتاب (المحمديين) في قوله تعالى: ("كل شيء هالك إلا وجهه " [القصص: 88]) .، وكيف لا؟
(والتبار: الهلاك) فقد عرفت بما ذكرنا أن هذه المعاني بطريق الإشارة بحيث لا تنافي المفهومات الأول فإنها لو أديت بطريق العبارة فليس فيها إنكار المفهومات الأول لهذه العبارات كفعل أهل الظاهر من الصوفية.
وفعل الباطنية من الشيعة قال ذلكإنما كان إلحادا وكفرا لإنكار المفهومات الأول لهذه العبارات؛ وإلا فلا شك أن للقرآن ظاهرا وباطنا، وحدا ومطلعا، كما نطق به الحديث: «إن للقرآن ظاهرا وباطنا وحدا ومطلعا»أخرجه ابن حبان في صحيحه.
(ومن أراد أن يقف على أسرار نوح فعليه بالترقي في فلك نوح) أي: الشمس تحصيل المعارف المتعلقة بروحانيته الغالب عليها التنزيه كروحانية نوح؛ فهي متعلقة بها (وهو) أي: بيان ذلك الترقي مذكور (في) كتاب ("التنزلات الموصلية" لنا) .
ولما فرغ عن الحكمة السبوحية المنزهة عن النقائص الإمكانية شرع في الحكمة القدوسية المنزهة عما يعد كمالات في الممكنات، وليست بكمالات على الإطلاق.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 4:10 pm

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية   الجزء الأول

أي: ما يتزين به، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بتنزيه الحق عن النقائص، وعن الكمالات الإمكانية ظهر بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى إدريس عليه السلام إذ بالغ في التجرد فلم يتم.
ولم يطعم ستة عشر عاما، فصار إلى عالم القدس، فلحق بالملائكة السماوية والملأ الأعلى، فرفع إلى السماء الرابعة، فحصل له على المكانة في ضمن علو المكان.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (العلو نسبتان، علو مكان وعلو مكانة. فعلو المكان «ورفعناه مكانا عليا». وأعلى الأمكنة المكان الذي تدور عليه رحى عالم الأفلاك وهو فلك الشمس، وفيه مقام روحانية إدريس عليه السلام.
وتحته سبعة أفلاك وفوقه سبعة أفلاك وهو الخامس عشر.
فالذي فوقه فلك الأحمر وفلك المشترى وفلك كيوان وفلك المنازل والفلك الأطلس فلك البروج وفلك الكرسي وفلك العرش.
والذي دونه فلك الزهرة وفلك الكاتب، وفلك القمر، وكرة الأثير، وكرة الهوى، وكرة الماء، وكرة التراب.
فمن حيث هو قطب الأفلاك هو رفيع المكان.
وأما علو المكانة فهو لنا أعني المحمديين.
قال الله تعالى «وأنتم الأعلون والله معكم» في هذا العلو، وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة.)
ولذلك أخذ في بحث العلو مع أن التنزه عن كمالات الشيء علو عليه فقال: (العلو نسبتان علو مكان، وعلو مكانة) أي: العلو أمر إضافي يعرض للمكان بالنظر إلى آخر الكون الأول نفس المحيط، وأقرب إليه، ومما يلي الرأس الكائن عن الوضع الطبيعي، ولو بالفرض وكون الآخر بخلاف ذلك.
أو للمكانة مرتبة كاملة لشخص النظر إلى مرتبة أخرى لم تبلغ ذلك الكمال (فعلو المكان مثل ما في قوله تعالى: ("ورفعناه مكانا عليا" [مريم: 57])، وجاء في الأخبار: «أنه رفع إلى السماء الرابعة".
ومعلوم أن علوه المكاني، إنما هو بالنظر إلى ما تحته، وقد جعله الله أعلى الأمكنة على الإطلاق، فأخذ في بيانه بقوله، (وأعلى الأمكنة) من حيث جمعه بين العلو المكاني على بعض المكانة والرتبة على أكثرها (المكان الذي يدور عليه رحى عالم الأفلاك) يدور حولها كالرحا حول القطب الذي في وسطه، وخير الأمور أوسطها، (وهو فلك الشمس وفيه روحانية إدريس عليه السلام ) لمناسبتها روحانية هذا الفلك التي هي في غاية الشرف اقتضت لكوكبها أتم الأنوار المحسوسة.
ثم بين وقوعها في الوسط لقوله: (وتحته سبعة أفلاك) أي: كرات ثلاثة أفلاك، وأربعة عناصر، وقصد بذلك كونه وسط العالم كله لا الأفلاك فقط على أنه لا يصح كونه وسطا على مذهبه بالنظر فيما فوقه بدون ذلك.
إذ قال: (وفوقه سبعة أفلاك وهو) أي:
فلك الشمس (الخامس عشر) بين السبعتين،
(فالذي فوقه فلك الأحمر) أي: المريخ،
(وفلك المشتري وفلك كيوان) أي: زحل.
(وفلك المنازل) الثمانية والعشرين.
(والفلك الأطلس) أي: المجرد عن النجوم، فلك البروج؛ لأنها مقدرة هناك مسماة بأسماء ما كان بإزائها من صور الكواكب يوم ذلك التقدير، وإن تغير اليوم عن ذلك، وهو صاحب الحركة اليومية .
(وفلك الكرسي) مظهر القدر.
(وفلك العرش) مظهر الفضاء.
ولذلك جعل الكرسي مستوى الرحيم، والعرش مستوى الرحمن، والحكماء إنما لم يحكموا بأكثر من تسعة أفلاك؛ لعدم وجدان الدليل العقلي على ذلك، وإن وجدوا على أنه لا بد من تسعة فلا جزم لهم في جانب الكثرة.
(والذي دونه فلك الزهرة، وفلك الكاتب) أي: عطارد.
(وفلك القمر، وكرة الأثير) أي: النار،
(وكرة الهواء، وكرة الماء وكرة التراب فمن حيث هو) أي: فلك الشمس (قطب الأفلاك) عليه مدار رحاها (هو رفيع المكان مكانة ).
وإن كان فوقه المكنة كثيرة لكن لكون المكانة ضمنية لم يعتد بها في حق إدريس عليه السلام ، وإليه الإشارة بقوله(وأما على المكانة فهو لنا)، ولما أوهم اختصاصه بطائفة الأولياء فسره بقوله: (أعني المحمديين)، وهم وإن كانوا أدني من سائر الأنبياء لكن لهم أن يبلغوا منزلا بواسطته لا يمكن لغيرهم.
ولو كانوا أنبياء كما أن عبد الوزير يمكنه أن يدخل مع الوزير مكانا من أماكن الأمير أي: لا يمكن لمن هو أعلى منه بنفسه.
(قال تعالى: "وأن الأعلون" [محمد:35] )، قيده بعلو المكانة مع إطلاقه بقرينة ما بعده من قوله: ("والله معكم" [محمد: 35])، فدل على أنه معكم (في هذا العلو، وهو متعال عن المكان) ، فلا يكون هذا على المكان (لا عن المكان ) .  "رفيع الدرجات" [غافر : 15].
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (و لما خافت نفوس العمال منا أتبع المعية بقوله «و لن يتركم أعمالكم»: فالعمل يطلب المكان و العلم يطلب المكانة، فجمع لنا بين الرفعتين علو المكان بالعمل و علو المكانة بالعلم. ثم قال تنزيها للاشتراك بالمعية «سبح اسم ربك الأعلى» عن هذا الاشتراك المعنوي.)
ثم أشار إلى أن إدريس لم يختص بعلو المكان بل شاركناه فيه مع اختصاصنا بعلو المكانة.
وذلك أنه (لما خافت نفوس العمال منا) من جهة أنهم رأوا قد خصوا بعلو المكانة المختصة بالعلوم والأحوال دون الأعمال فظنوا أعمالهم ضائعة لا ثواب لها .
(اتبع المعية) أي: ذكر عقيبها (بقوله: "ولن يتركم أعمالكم" [محمد: 35]).
أي: لا ينقصكم ثوابها (فالعمل يطلب المكان) أي: علو المكان؛ لأنه محسوس تعلق بالجوارح المحسوسة فيقتضي أمرا محسوسا.
(والعلم يطلب المكانة) لتعلقه بأمر مجرد، وهو القلب والروح فأشبه المعاني فاقتضى ما يناسبها، وإذا كان كذلك (فجمع لنا بين الرفعتين على المكان بالعمل، وعلو المكانة بالعلم).
وخص إدريس عليه السلام بعلو المكان مع صيرورته من عالم الأرواح المجردة المقتضية علو المكان؛ لأنه إنما بلغ هذا المقام بأعماله فروحانيته متفرعة عنها، وكان له أيضا على المكانة في ضمن ذلك.
لأجل روحانيته من حيث هي روحانية (ثم) أي: بعدما جعل على المكانة مشتركا بيننا وبين الحق تعالی.
(قال: تنزيها للاشتراك) أي: تبعيدا للاشتراك في علو المكانة الموهم للتسوية (بالمعية: "سبح اسم ربك الأعلى" [الأعلى: 1])، فأمر بتنزيه هذا الاسم عن (هذا الاشتراك المعنوي) الدال على التواطؤ المقتضي للتسوية بل كان بينهما من التفاوت ما ينفي الاشتراك بالكلية.
و من أعجب الأمور كون الإنسان أعلى الموجودات، أعني الإنسان الكامل، و ما نسب إليه العلو إلا بالتبعية، إما إلى المكان و إما إلى المكانة و هي المنزلة.
فما كان علوه لذاته.
فهو العلي بعلو المكان و بعلو المكانة. فالعلو لهما. فعلو المكان.
كـ «الرحمن على العرش استوى»[طه: 5] وهو أعلى الأماكن.
وعلو المكانة «كل شيء هالك إلا وجهه»[القصص: 88]، و «إليه يرجع الأمر كله »[هود: 123]، «أإله مع الله»[النمل:60].
ثم أشار إلى أن العلو، وإن حصل لنا في المكان والمكانة فليس ذلك لذاتنا فقال:
(ومن أعجب الأمور كون الإنسان أعلى الموجودات أعني: الإنسان الكامل) المفهوم من مطلق لفظ الإنسان إذ غيره إنسان صورة ملحق بسائر الحيوانات المعجم معنی. (وما ينسب العلو إليه إلا بالتبعية) أي: بواسطته نسبته (إما إلى المكان، وإما إلى المكانة)، وإذا كان علوه بتبعية أحدهما (فما كان علوه لذاته)؛ لأن ما بالذات لا يحتاج إلى الواسطة .
(فهو) أي: الإنسان الكامل مع كونه أعلى الموجودات التي يدخل فيها المكان والمكانة هو (العلي بعلو المكان والمكانة) على سبيل منع الخلو.
(فالعلو لهما) بالذات بالنظر إلى الإنسان وسائر المكونات؛ ولكنه بالحقيقة للحق تعالى إذ لا كمال لهما بالذات، فالعلو لهما أيضا بالتبعية إما في المكان فباعتبار عنايته تعالی .
( فعلو المكان "الرحمن على العرش استوى" [طه:5])، فالعلو للعرش مع كونه نفس المحيط، إنما هو باستواء الرحمن عليه، فإذا لم يكن علوه لذاته فغيره أولی.
(وعلو المكانة) أيضا بالذات للحق بدليل قوله تعالى: ("كل شيء هالك إلا وجهه " [القصص: 88].
ولا علو الهالك والمراتب أشياء؛ فهي هالكة ("وإليه يرجع الأمر كله"[هود: 123])، فعلو المكان والمكانة وغيرهما راجع إليه ("أإله مع الله" [النمل:60]) .
فلو كان للعبد علو بالذات لكان إلها؛ لأن ما يكون علوه لذاته يكون في غاية الكمال إذ القصور من العوارض، ولا تعارض العوارض لما هو بالذات، ولا غاية كمال إلا الله تعالی.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (و لما قال الله تعالى «و رفعناه مكانا عليا»[مريم: 57]  فجعل «عليا» نعتا للمكان، «و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة»[البقرة:30]، فهذا علو المكانة.
و قال في الملائكة «أستكبرت أم كنت من العالين» [ص: 75] فجعل العلو للملائكة.
فلو كان لكونهم ملائكة لدخل الملائكة كلهم في هذا العلو.
فلما لم يعم، مع اشتراكهم في حد الملائكة، عرفنا أن هذا علو المكانة عند الله.
وكذلك الخلفاء من الناس لو كان علوهم بالخلافة علوا ذاتيا لكان لكل إنسان.
فلما لم يعم عرفنا أن ذلك العلو للمكانة. و من أسمائه الحسنى العلي.
على من وما ثم إلا هو؟ فهو العلي لذاته. أو عن ما ذا و ما هو إلا هو؟
فعلوه لنفسه. )
ثم أشار إلى أنه كيف يكون العلو بالذات لغير الحق، وأعلى الموجودات الباقية بالإجماع من العقلاء إما الإنسان أو الملك، ولا علو هما إلا بالمكان أو المكانة مع أن علو هذين ليس بالذات.
فقال: (ولما) حذف جوابه بقرينة المذكور، وهو عرفنا أنه ليس لهما بالذات (قال تعالی: ورفعته مكانا عليا [مريم: 57]، فجعل عليا نعتا للمكان) أولا وبواسطته لإدريس عليه السلام مع كونه إنسانا كاملا من كبار الأنبياء عليهم السلام عرفنا أنه ليس لإنسان آخر لذاته، ولما قال تعالى: ("وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " [البقرة:30].
فهذا العلو الذي أثبته الله تعالى لآدم عليه السلام عند الملائكة (علو المكانة)، وهي الخلافة مع كون آدم جامعا لأسرار أولاده الكل ما عدا الخاتم عرفنا أنه ليس لإنسان آخر لذاته.
ولما قال في حق (الملائكة) حين عاتب إبليس: ("أستكبرت أم كنت من العالين" [ص: 75]، فجعل العلو للملائكة) بعضهم إذ قسمهم إلى العالين وغيرهم.
ولم يمكن لإبليس أن يقول: أنا منهم (فلو كان) العلو للملائكة ذاتيا (لكونهم ملائكة، لدخل الملائكة كلهم في هذا العلو).
فلم يصح التقسيم، و لصح لإبليس أن يقول: أنا منهم (فلما لم يعم مع اشتراكهم في) كل الملائكة في (حد الملائكة عرفنا أن هذا) العلو ليس بذاتي لأحد من الملائكة بل هذا (علو المكانة) لأولئك العالين خاصة (عند الله، وكذلك الخلفاء من الناس لو كان علوهم) الذي ثبت لهم (بالخلافة علوا ذاتيا) لكونهم إنسانا،
(لكان) ذلك العلو (لكل إنسان) سواء كان خليفة أم لا؛ لأن ما بالذات لا يزول بالغير، فلا يزول بزوال الخلافة.
(فلما لم يعم) بل اختص بالخلفاء، (عرفنا أن ذلك العلو للمكانة) ، وهي الخلافة في حقهم لدورانه معها وجودا وعدما.
"أي العلو للمكانة الحاصلة للخلفاء عند الله أو عند الناس لا لنفس طبائعهم الإنسانية ليكون ذاتيا ."
ثم استدل على أن العلو بالذات، إنما يكون لله تعالى إذ ما يكون للمكان أو المكانة فإنما يكون بالنسبة إلى ما كان أخرا ومكانة أخرى، وما بالذات لا يتوقف على الغير، والنسبة متوقفة على المنتسبين.
فقال: (ومن أسمائه الحسنى: العلي). ولا شك أن أسماء الله تعالى قديمة؛ فعلوه (على من) يكون من الأشخاص أولى الرتب في الأزل.
(وما ثم) أي: في الأزل (إلا هو) أو (عن ماذا) يكون من الأمكنة، (وما هو إلا هو) أي: لا هوية الأحد في الأزل سواه، وإذا لم يكن علوه من المكانة، ولا من المكان في الأزل، وقد سمي بالعلي فيه (فعلوه لنفسه) لا لمكانة تفرض له بالنظر إلى مكانة غيره، ولا مكان يفرض له أعلى من مكان غيره.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : ( وهو من حيث الوجود عين الموجودات. فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو. فهو العلي لا علو إضافة، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الموجود، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات. والعين واحدة من المجموع في المجموع. فوجود الكثرة في الأسماء، وهي النسب، وهي أمور عدمية.
وليس إلا العين الذي هو الذات. فهو العلي لنفسه لا بالإضافة. فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة، لكن الوجوه الوجودية متفاضلة.
فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجود الكثيرة. لذلك نقول فيه هو لا هو، أنت لا أنت.
قال الخراز رحمه الله تعالى، وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن الله تعالى لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها.
فهو الأول والآخر والظاهر والباطن. فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره.
وما ثم من يراه غيره، وما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه.
وهو المسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات.)
ثم أشار إلى أن العلو بالذات، وبالإضافة أيضا للحق باعتبار ذاته وظهوراته لكن الأول: يعم اعتبار ذاته وجميع ظهوراته، والثاني : يخص ظهوراته في بعض المظاهر دون بعض فقال: (وهو) أي: الحق (من حيث الوجود) الظاهر في الموجودات (عين الموجودات)، إذ لا يتحقق في مراياها سوى صورته، ولا وجود لصورة المرآة سوى وجود ذي الصورة، ولا وجود لمراياها أصلا.
(فالمسمى محدثات) من حيث هي صور الوجود الحق (هي العلية لذاتها)، كما أن الحق الذي هو ذو الصورة على لذاته؛ وذلك لأنها
ليست من حيث التحقق (إلا هو) لما ذكرنا فيكون علوها علوه (فهو) أي: الحق هو (العلي) فيها لذاته، (لا علو إضافة)، إذ علوه ليس علوا لإضافة في ذاته.
وإنما قلنا: ليست إلا هو؛ لأن المتحقق في الموجودات إما صورة الوجود الحق أو الأعيان، فإن كان الأول فهو المطلوب، والثاني باطل؛ لأن الأعيان إما تعتبر مع صورة الوجود، ومع عدمها الأصلي، أو مع ثبوتها في العلم الأزلي، والأول لا يوجب وجود الأعيان لأن صورة المرآة لا توجب لها وجود بل إن كانت موجودة بقيت على حالها لا تتغير إلى صورة المرآة.
فكيف توجب صورة الوجود لها وجودا، وإذا لم يجب لها وجود في هذا الاعتبار فبالأولى ألا يجب لها وجود في الاعتبارين الباقيين.
(لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه) أي: في الحق يعني في علمه (ما شمت رائحة من الوجود)، وإذا لم يكن لها وجود في هذه الاعتبارات الثلاث (فهي على حالها) من العدم الأصلي.
وإن فاض عليها صور الوجود (مع تعداد الصور في الموجودات)، فليس هذا التعدد لها من الأعيان العدمية، ولا من الوجود الواحد، إذ (العين) المتحققة (واحدة من المجموع).
أي: مجموع الصور الأعيان التي على عدمها الأصلي، وإذا لم يكن تعدد الصور من الوجود الواحد، ولا من الأعيان .
(فوجود الكثرة) أي: كثرة الصور إنما هو (في الأسماء) أي: أسماء العين الواحدة اقتضت تعدد الصور من حيث اختلاف مفهوماتها، (وهي) أي: الأسماء بهذا الاعتبار هي (النسب) أي: نسب الذات إلى الأعيان الثابتة.
(وهي) أي: النسب (أمور عدمية) فلا تحقق لها بهذا الاعتبار في الخارج فكيف يكون لها صور في الأعيان؟
ولذلك يقول: (ليس) المتحقق في الخارج في هذه الصور (إلا العين) الواحدة (التي هي الذات) تعددت صوره باعتبار أسمائه، فظهرت في أعيان الموجودات، وإن كانت الأسماء من حيث اختلاف مفهوماتها، والأعيان غير متحققة في الخارج إلا أن لها نوع ثبوت تصلح به الأسماء للتأثير، والأعيان للقبول، وإذا لم يكن لغيره تحقق أصلا.
(فهو العلي لنفسه لا بالإضافة) في هذه الصور، إذ لا يتحقق للغير يجعل له علو معية مكان أو مكانة ,
(فما في العالم من هذه الحيثية) أي: حيثية كونه عين وجود الحق (علو إضافة)، وإن أمكن ذلك باعتبار حيثية أخرى إليها.
أشار بقوله(لكن الوجوه الوجودية) أي: الصور الظاهرة في مرايا الأعيان متفاضلة) بعضها أقرب إلى مطابقة ذي الصورة من بعض، وبعضها مخصوص بجهة العلو (فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة) لا باعتبار بل (من حيث الوجوه الكثيرة ) التي الظهوره في الأعيان باعتبار اختلاف أسمائه، فتلك الوجوه متحدة بالذات من وجه مخالفة لها من وجه.
(لذلك نقول فيه) أي: في كل وجه هو هو تارة، (وهو لا هو) تارة، وهو (أنت) تارة، وهو (لا أنت) أخرى.
وذلك باعتبار اتحادهما واختلافهما فهو مع وحدته قبل الاتصاف بهذه المختلفات المتضادة باعتبار ظهوره في المظاهر، بل باعتبار أسمائه أيضا.
واستدل عليه بقول أبي سعيد الخراز رحمه الله تعالى فقال: (قال الخراز رحمه الله :) وحين قال هذا القول كان في شهوده أنه (وجه من وجوه الحق، ولسان من ألسنته) لا يظهر منه إلا الحق ولا ينطق إلا بالحق، (ينطق عن نفسه) حين شاهدها متنورة بنور ربها، متصورة بصورة كاملة من تجليات.
(بأن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد)، لا بمعنى أنه يجمعها في المظاهر الجزئية فإنه محال، بل إنما يجمعها (في الحكم عليه بها) باعتبار أسمائه وظهوراته بالوجوه الكثيرة مع وحدته، ومع رجوع الكل إليه، (فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن).
ثم أشار إلى وحدته حين اتصافه بهذه الأضداد بقوله: (فهو عين ما ظهر) حين بطونه (وهو عين ما بطن حين ظهوره) .
ثم أشار إلى رجوع الكل إليه بقوله: (وما ثم من يراه غيره) في الظهور، (وما ثم من) ينظر عنه، فإنما يراه في الظهور هو أو وجوهه، وإنما (يبطن عنه) بعض وجوهه، والكل ليس (غيره) بهذا الاعتبار (فهو ظاهر لنفسه باطن عنه)
باعتبار بعض وجوهه، لا باعتبار ذاته فإنه محال.
ثم أشار إلى أن هذه الوجوه، وإن رجعت إليه فهي متخالفة في أنفسها، فهو يتسمی بأسمائها باعتبار ظهوره بها، وهي لا تسمى باسمه.
فقال: وهوى الحق باعتبار هذه الوجوه التي اختلفت بها صوره في المرايا (هو المسمى: أبا سعيد وغيره من أسماء المحدثات) إذ الأصل في أسماء صور المرايا أن تسمي باسم ذي الصورة لكنها لما اختلفت اختص كل باسم خاص فلا يسمى باسم ذي الصورة.
ولذا قال تعالى: "هل تعلم له، سميا" [مريم: 65] بل كان ذا الصورة سمي بأسمائها.
قال الشيخ أبو طالب المكي به في كتابه «قوت القلوب» في ذكر وصف الزاهد، وفضل الزهد: روينا عن ابن عباس في قوله تعالى: "جميعا منه" [الجاثية: 13]، قال: "في كل حرف اسم من أسمائه تعالى، فكان اسم كل شيء عين اسمه، كما أن فعل كل فاعل عين فعله"، انتهى).
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (فيقول الباطن لا إذا قال الظاهر أنا، و يقول الظاهر لا إذا قال الباطن أنا. و هذا في كل ضد، و المتكلم واحد و هو عين السامع.
يقول النبي صلى الله عليه و سلم: «و ما حدثت به أنفسها» فهي المحدثة السامعة حديثها، العالمة بما حدثت به أنفسها ، و العين واحدة و اختلفت الأحكام.
و لا سبيل إلى جهل مثل هذا فإنه يعلمه كل إنسان من نفسه و هو صورة الحق.
فاختلطت الأمور و ظهرت الأعداد بالواحد في المراتب المعلومة.
فأوجد الواحد العدد، و فصل العدد الواحد، و ما ظهر حكم العدد إلا المعدود و المعدود منه عدم و منه وجود، فقد يعدم الشي ء من حيث الحس وهو موجود من حيث العقل. فلا بد من عدد و معدود، و لا بد من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه.)
وهذا الاختلاف في الصور من اختلاف الأسماء.
(فيقول الباطن: لا) أي: لست الظاهر (إذا قال الظاهر: أنا) الاسم الظاهر، ويقول الظاهر: لا، إذا قال الباطن: أنا، وهذا الاختلاف بعينه (في كل ضد) من صور تلك الأسماء، وهي مع هذه الاختلافات راجعة إلى العين الواحدة.
إذ (المتكلم) المتصف بكل (واحد) من الباطن والظاهر مع اختلاف القول بينهما بحسب تضادهما واحد، (وهو عين السامع) في القولين المختلفين، واتحاد المتكلم والسامع هاهنا .
(كقول النبي صلى الله عليه وسلم ) أي: كاتحادهما في قوله صلى الله عليه وسلم  : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، ("وما حدثت به أنفسها" ) أي: (حدثت أنفسها) لا نفسها تحدثها من حيث إنها من وجه جاهلة بذلك الحديث محتاجة إلى سماعه من نفسها.
(والعين) أي: عين النفس واحدة، (وإن اختلفت الأحكام) إلى أحكام تلك العين التي هي النفس بالتحديث، والسماع، والعلم، والجهل، لاختلاف الوجوه.
فكذا وجوه الحق مع وحدة العين إذ معرفته منوطة بمعرفة النفس، وإذا كان هذا الاختلاف في النفس مع وحدة العين.
(فلا سبيل إلى جهل مثل هذا) في الحق الذي معرفته منوطة بمعرفة النفس، وقد عرف بالضرورة في النفس، (فإنه يعلم كل إنسان من نفسه) هذا الاختلاف منها وقت تحديثها مع اتحادها، وكيف ينكر ذلك في الحق.
(وهو) أي: اختلاف وجوه النفس وأحكامها مع اتحاد عينها (صورة الحق) في ظهوره بالوجوه المختلفة من أسمائه باختلاف المظاهر المفروضة في الخارج الثابتة في العلم مع وحدة العين المحققة في نفس الأمر.
ويؤيد هذا ما نقله الشيخ أبي عبد الرحمن السلمي عن الواسطي في قوله تعالى: "فلما أتاها نودى يا موسى" [طه: 11]، "إنى أنا ربك" [طه: 12].
قيل لموسى: كيف عرفت أن النداء هو نداء الحق.
فقال: أفناني وشملني فكأن كل شعرة كان مخاطبا بنداء من جميع الجهات.
وكأنها تعبر من نفسها بجواب، ولما شملتني أنوار إلهية، وأحاطت بي أنوار العزة والجبروت، علمت أنه ليس لأحد أن يخبر عن نفسه باللفظين جميعا متتابعا إلا الحق.
قال: فكان هو محل الفناء.
فقلت: أنت، أنت لم تزل، وليس لموسى معك مقام، ولا له جرأة على الكلام إلا أن تبقيه ببقائك، وتنعته بنعوتك فتكون أنت المخاطب، والمخاطب جميعا .
فقال: لا يحمل خطابي غيري ولا يجيبني سواي، أنا المتكلم والمكلم، وأنت في الوسط شبح يقع بك محل الخطاب، انتهى.
وإذا جمع الواحد بين الأضداد، واختلفت أحكامها (فاختلطت الأمور) .
أي: اختلط كل ضد بضده، وحصلت الكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة، ولما كان حصول الوحدة في الكثرة متعارفا كما في الإنسان الواحد مع كثرة أعضائه، وقواه لم يفتقر في بيانها إلى مثال.
ولما كان حصول الكثرة في الوحدة غير متعارف افتقر في بيانها إلى مثال.
ولما كان معناه أن الواحد يتصور بالصور الكثيرة كالشخص المقابل للمرايا الكثيرة، وأنه يحدثها بمقابلته تلك المرايا.
وأن الكثرة تفصل الوحدة أورد لكل ذلك أمثلة مرجعها مثال واحد، وتمثيل العين الواحدة بالواحد من العدد، وتمثيل الصور الكثيرة بالعدد، وتمثيل المرايا بالمعدود.
فقال: (فظهرت الأعداد بالواحد) أي: ظهرت الصور التي هي الحوادث بالعين الواحدة ظهور العدد بالواحد في المراتب المعلومة من الآحاد، والأعشار، والمائين، والألوف، وغير ذلك.
فالواحد في المرتبة الثانية اللفظية أو الذهنية اثنان وفي الخطية عشرة، وفي الثالثة اللفظية أو الذهنية ثلاثة، وفي الخطية مائة، وفي الرابعة اللفظية أو الذهنية أربعة وفي الخطية ألف .
فكذا ظهور العين الواحدة في المرتبة الأولى عقل الكل، وفي المرتبة الثانية من حيث الوجود عقل ثان، ومن حيث العلم نفس كلية، ومن حيث الإمكان جسم كلی، وهكذا إلى ما لا نهاية له.
(فأوجد الواحد العدد) أي: أوجدت العين الواحدة الحوادث بظهورها في مراتبها بصور الحوادث مثل إيجاد الواحد العدد بظهوره في مراتبه بصور العدد.
(وفصل العدد الواحد) أي: فصلت الحوادث المتكثرة العين الواحدة بإبراز ما كان فيها بالقوة من الظهور في المظاهر مثل تفصيل العدد للواحد.
(وما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود) أي: وما ظهر حكم الحوادث إلا بالأعيان الثابتة المسماة في اصطلاح أهل النظر بالماهيات.
كما أنه ما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود من حيث إن العدد كم منفصل، وهو عرض فلابد له من محل يقوم به.
فكذا الظهور صفة لا بد له من موصوف، فإن كان الذات فذاك، وإلا فلابد من ماهية أخرى.
ثم أشار إلى أن قيام صفة الظهور بالأعيان لا يقتضي تحققها في الخارج، كما أن وجود العدد لا يتوقف على وجود المعدود في الخارج بل يكفي وجوده العقلي.
فقال: (والمعدود) أي: بعضه (عدم) أي: معدوم في الخارج.
(ومنه وجود) فكما يصح كون العدد وصفا للمعدود المعدوم يصح كون الظهور وصفا للأعيان المعدومة مع أن وصف العدد وصف وجودي، إذ العدد من الموجودات عند الحكماء على أن كونه وصفا للمعدود ليس باعتبار عدمه الخارجي، بل باعتبار وجوده الذهني.
فقد انعدم الشيء من حيث الحس، وهو موجود من حيث العقل والظهور يجوز أن يقوم بأمر عدمي في الخارج، كما إذا تقابلت المرآتان، وقابلتهما صورة شخص فإنه يظهر في كل مرآة مرآة أخرى.
ويظهر في تلك المرآة الأخرى معدومة في الخارج والصور الظاهرة في الأعيان الثابتة لا تقتضي أزيد من هذا كيف والظهور أمر إضافي .

فإن كانت الإضافات موجودة فـي العدد عند قابلي وجوده، وإلا فالمعدوم الخارجي باعتبار وجوده الذهني أو المثالي يجوز أن يكون صفة للمعدوم الخارجي، باعتبار وجوده الذهني أو المثالي. 
يتبع الجزء الثاني
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 4:11 pm

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية   الجزء الثاني

 وإذا كان الواحد غير الكثير بالذات، (فلا بد) لظهوره في مراتبه التي له بالقوة (من) عدد)، وإذا لم يمكن فرضه إلا بفرض (ومعدود)؛ فلا بد من معدود، وإذا كان العدد صور الواحد، والصور لا تتحقق بدون ذي الصورة فحينئذ (لابد من واحد ينشىء ذلك) العدد.
وإن قلنا: أن العدد ينشأ من نفس المعدود لكن لا ينشأ منه لذاته، بل لابد له من سبب هو الواحد، فينشأ ذلك العدد من المعدود (بسببه) أي: بسبب ذلك الواحد، فكذا لابد للحق الذي هو غير العالم المستغني عنه باعتبار ظهوره في مظاهره من صور وأعيان، والأعيان، وإن كانت منشأ الصور، فليست منشأ لها بالذات.
وإلا كانت واجبة الوجود بالذات، فلا بد لها من سبب هو العين الواحدة فالمرايا، وإن كانت منشأ صور الأشياء، فليست منشأ لها بالذات بل بواسطة ذي الصورة بمحازاته إياهم.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (فإن كل مرتبة من العدد حقيقة واحدة كالتسعة مثلا و العشرة إلى أدنى وإلى أكثر إلى غير نهاية، ما هي مجموع، ولا ينفك عنها اسم جمع الآحاد. فإن الاثنين حقيقة واحدة و الثلاثة حقيقة واحدة ، بالغا ما بلغت هذه المراتب، وإن كانت واحدة. فما عين واحدة منهن عين ما بقي. فالجمع يأخذها فنقول بها منها، و نحكم بها عليها.)
ثم أشار إلى أن هذه الكثرة المختلفة حقائق أجزائها لابد فيها من وحدة هي العين الواحدة فقال: (فإن كان كل مرتبة من العدد حقيقة واحدة) مغايرة لحقيقة مرتبة أخرى.
فيه إشارة إلى أن الأصح أن جمع الأحاد ذاتي لجميع مراتب العدد، وهي متحدة بالحقيقة مختلفة بالعوارض المشخصة، كزيد وعمرو؛ فإن فرض خلافه جعل جمع الأحاد عرضا عاما لها، وجعلت مختلفة الحقائق (كالتسعة مثلا) حقيقة الآحاد، (والعشرة) حقيقة العقود (إلى أدنى)  كحقيقة الاثنين والثلاثة. "أي منهما وهو من الثمانية إلى الاثنين"
وفيه إشارة إلى إننا، وإن قلنا: بأن حقائق مراتب الأعداد مختلفة فالآحاد ليست مختلفة الحقائق فيما بينها على الأظهر، بل اختلافها بالعوراض المشخصة لا غير، (وإلى أكثر) كحقيقة المائة والألف (إلى غير نهاية). "أي منهما وهو من الآحاد و العشرات والمئات والآلاف "
وإن لم يكن لتلك المراتب أسامي مخصوصة (ما هي مجموع) أي: ليست تلك المراتب الغير متناهية مشتركة في حقيقة واحدة هي كونها مجموع الآحاد على هذا الفرض.
ومع ذلك لا بد في جميع تلك المراتب المختلفة الحقائق من قدر مشترك، إذ (لا ينفك اسم جمع الآحاد) سواء فرض ذاتيا لها، أو عرضا عاما، وهو المفروض الآن (فإن الاثنين حقيقة واحدة، والثلاثة حقيقة واحدة بالغة، ما بلغت هذه المراتب)، فهي مع لا تناهيها ليست إفراد حقيقة واحدة على هذا الفرض.
(وإن كانت واحدة) باعتبار اسم جمع الأحاد (فما عين) مرتبة (واحدة) عين ما بقي من المراتب، بل مختلفة بالذات على هذا الفرض فكذا صور الحوداث، وإن فرض أن لكل فرد منها حقيقة مغايرة الحقيقة سائر الإفراد لا إلى نهاية فلا ينفك عنها اسم العين الواحدة هو الوجود.
وبالجملة: فلا بد فيها من الأمر مشترك، ومن الأمر يميز كل واحدة سواء اعتبرت المشترك ذاتيا أو عرضا عاما، وسواء اعتبر المميز ذاتيا أو عرضا مشخصا.
(فالجمع) أي: اسم جمع الآحاد على التقديرين (يأخذها) أي: يتناولها تناول الكلي الذاتي أو العرضي للجزيئات.
(فنقول: بها منها) أي: بأن حقيقة كل مرتبة من العدد جزئي من جزئيات حقيقة جمع الآحاد.
(ونحكم بها) أي: بحقيقة جمع الآحاد (علیها) أي: على مراتب العدد على تقدير كون جمع الأحاد ذاتيا لها، أو عرضا عاما.
فكذلك صور العين الواحدة التي هي الوجود تقول لكل صورة منها: بأنها من جزئيات العين الواحدة، ونحكم بالعين الواحدة على تلك الصور من حيث هي جزئياتها، وإن لم تكن تلك الصور من جزئيات العين الواحدة حقيقة بل جزئیات صور ظهوره الكلية.
ثم أشار إلى أن ظهور العين الواحدة مع بساطتها في هذه الصور لا ينافي تركيب بعضها من بعض، كما أن ظهور الواحد مع بساطته في الأعداد لا ينافي كون بعض الأعداد مركبة من بعض.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه (قد ظهر في هذا القول عشرون مرتبة، فقد دخلها التركيب فما تنفك تثبت عين ما هو منفي عندك لذاته.
ومن عرف ما قررناه في الأعداد، و أن نفيها عين إثباتها ، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، و إن كان قد تميز الخلق من الخالق. فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق).
فقال: (وقد ظهر في هذا القول) القائل: بأن الاثنين حقيقة، والثلاثة حقيقة أخرى، وليستا من انفراد حقيقة واحدة: هي حقيقة الآحاد (عشرون مرتبة) بسيطة مسماة بأسماء مخصوصة تسعة أحاد، وتسعة أعشار، ومائة، وألف، ولا شك أنها غير متناهية (فقد دخلها التركيب) بين بعض المراتب مع بعض، فكذلك بعض صور العين الواحدة البسيطة يجوز أن تتركب مع بعض.
وإذا كان حال الواحد مع العدد ما ذكرنا (فما تنفك تثبت) للواحد من الكثرة والاختلاف الحقيقي والتركيب، وما تنفك تثبت للعدد من الوحدة، والاتفاق في اسم جمع الآحاد (عين ما هو منفي عندك) عن الواحد.
والعدد (لذاته) فكذلك تثبت للعين الواحدة من الكثرة والاختلاف والتركيب، وتثبت لصورها من الوحدة، والاتفاق في اسم الوجود.
وإليه الإشارة بقوله: (ومن عرف ما قررناه في الأعداد) من حيث هي مظاهر الواحد،
(وأن نفيها) أي: الأعداد عن الواحد باعتبار ذاته (عين إثباتها) له في مراتب ظهوراته إذ لا وجود لهم في ذواتهم، وإنما هو من إشراق نور وجوده عليهم، (علم أن الحق المنزه) عن الكثرة والتركيب، وسائر الوجوه الإمكانية (هو الخلق المشبه) باعتبار مراتب ظهوراته.
(وإن كان قد تميز الخلق عن الخالق) بماهيتهم وصورهم المختلفة، وسائر الوجوه الإمكانية مع امتناع الكل في الحق باعتبار ذاته.
(فالأمر) أي: أمر الموجودات من حيث الوجود (الخالق) أولا، إذ هو له بالأصالة (المخلوق) باعتبار الصور المتحالفة المشتملة على الوجوه الإمكانية.
(والأمر) أي: أمر الموجودات من حيث الماهية والصور والوجوه الإمكانية المخلوق) من حيث الذات (الخالق) من حيث التحقق.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه ( كل ذلك من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحد و هو العيون الكثيرة. فانظر ما ذا ترى «قال يا أبت افعل ما تؤمر»، و الولد عين أبيه. فما رأى يذبح سوى نفسه.  «و فداه بذبح عظيم»، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان.
و ظهر بصورة ولد: لا، بل بحكم ولد من هو عين الوالد. «و خلق منها زوجها»: فما نكح سوى نفسه. فمنه الصاحبة و الولد و الأمر واحد في العدد.
فمن الطبيعة و من الظاهر منها ، و ما رأيناها نقصت بما ظهر منها و لا زادت بعدم ما ظهر؟
و ما الذي ظهر غيرها: و ما هي عين ما ظهر لاختلاف الصور بالحكم عليها : فهذا بارد يابس و هذا حار يابس: فجمع باليبس و أبان بغير ذلك. و الجامع الطبيعة، لا، بل العين الطبيعية. فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة، لا، بل صورة واحدة في مرايا مختلفة. فما ثم إلا حيرة لتفرق النظر.
ومن عرف ما قلناه لم يحر. و إن كان في مزيد علم فليس إلا من حكم المحل ، و المحل عين العين الثابتة: فيها يتنوع الحق في المجلى فتتنوع الأحكام عليه، فيقبل كل حكم، و ما يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه)
ثم أشار إلى التوحيد فقال: (كل ذلك) أي: الخالق والمخلوق (من عين واحدة) هي الوجوه (لا بل هو العين الواحدة)، إذ لا تحقق لصورة المرآة من حيث الحقيقة في المرآة بل المتحقق ذو الصورة في الخارج.
(وهو) مع وحدته في الخارج هو (العيون الكثيرة) من حيث كثرة الصور، ( فانظر ماذا ترى" [الصافات: 12]) من كون العين الواحدة نفس العيون الكثيرة، وهو الموجب للاختلاط.
إذا كانت العين الواحدة جامعة للموجودات ذاتا، وصفات، ونسبا، وجمعا، وفرقا؛ فلها العلم الذاتي بذلك، إذ لا يمكن اعتباره بالنسبة إلى مكان أو مكانة.
ولذلك رأى إبراهيم عليه السلام الكبش بصورة ابنه بل بصورة نفسه فهذا مع ما بعده يتضمن اقتباسا لطيفا موهما أعني قوله ("قال ياأبت افعل ما تؤمر" [الصافات: 12])، من ذبح ابنك إذ رأيته في منامك الذي ليس إلا من الله لا من النفس، ولا من الشيطان لكنه إنما وجب على إبراهيم ذبح نفسه؛ ليفني في الله ويبقى به، وهو محل التكاليف دون الابن فرأى نفسه في صورة ولده وذلك لأن (الولد عين أبيه) في الوجود، والصور النوعية.
(فما رأی) إبراهيم (يذبح سوى نفسه) في صورة ابنه؛ ولكن لم يكن تعبير رؤياه ذبح نفسه، بل ذبح الكبش؛ وذلك لأنه (فداه) ربه (بذبح عظيم)، هو: الكبش، وما يقع من تعبير الرؤيا في الحس هو المرئي في المنام بالحقيقة في صورة تناسبه بوجه ما فظهر بصورة كبش في الحس (من ظهر بصورة إنسان) في المنام.
ثم أشار إلى أن الفداء أيضا كان على إبراهيم فقال: (وظهر بصورة ولد) في إمرار السكين على عنقه، (بل بحكم ولد) في الفداء (من هو عين الوالد).
إذ كان تحت السكين فنسب الفداء إليه مع أنه فداء عن الوالد الذي وجب عليه ذبح نفسه، وهو أقرب المذكورين في قوله تعالى : "وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا هو البلاؤ المبين وفديناه بذبح عظيم" [الصافات: 14-17].
فعلم أن الولد: هو الوالد، والوالد: هو الكبش، باعتبار أن العين الواحدة هي المتكثرة بالصور المختلفة.
ثم استدل على أن الولد عين الوالد بقوله تعالى: ("وخلق منها زوجها" [النساء: 2])، وإذا كان زوجها من نفسه (فما نكح سوى نفسه)؛ لتحصيل الولد (فمنه الصاحبة) التي ولده جزؤها، ومنه (الولد) أيضا فهو جزئه.
وجزء جزئه، وجزء الجزء جزء. فهو جزؤه بكل اعتبار لكنه على صورة كله.
ولم ينقص منه شيء بخروجه منه فهو عينه كیف (والأمر) أي: أمر الولد والوالد (واحد) في الحقيقة، والوجود تكثر عند ظهوره (في العدد) كما قلنا من ظهور الواحد في العدد مع بقاء الواحد على حاله من البساطة.
وعدم قبول الكثرة، والتغير في ذاته فإن كنت منكرا لذلك فقل لي (فمن الطبيعة) أي: الماهية الجنسية والنوعية، (ومن الظاهر منها) من الأفراد هل هي عينها، أو غيرها مع بقائها بحالها، وكيف تقول بعدم بقائها بحالها.
"أي من الطبيعة هي جزئياتها التي هي الوجود الحق المتعين بتعيين كلي أولا ثم تعيينات شخصية"
(وما رأيناها نقصت بما ظهر منها، ولا زادت بعدم ما ظهر) منها، وكيف تقول بأن الأفراد عينها أو غيرها، (وما) أي: ليس (الذي ظهر) عنها (غيرها وما هي).
أي: الطبيعة (عين ما ظهر) من الأفراد، وإن كانت تمام ماهيتها عند كونها نوعية. (لاختلاف الصور) أي: صور الأفراد الظاهرة عنها؛ فلا تكون الطبيعة عينها مع وحدتها (بالحكم)، أي: مع الحكم بتلك الطبيعة (عليها)، أي: على تلك الأفراد فلا تكون غيرها؛ لامتناع الحكم بأحد المتباينين على الأخر.
ثم أشار إلى أن بعض أفرادها مع البعض الآخر لا عين، ولا غير من كل وجه؛ ليتوسل بذلك إلى أن الطبيعة لا عينها ولا غيرها.
فقال: (فهذا بارد یابس) للأرض، (وهذا حار يابس) للنار (فجمع) بين الأول والثاني (باليابس) ، المشترك بينهما، وأبان بينها بغير ذلك، وهو برودة أحدهما، وحرارة الأخر.
فبين هذين الفردين من أفراد الطبيعة جمع، وفرق بهذه العوارض (والجامع) مع بينهما وراء الجمع باليبوسة (الطبيعة) الجامعة للحرارة والبرودة أيضا، فقد جمعت بما به الفرق أيضا.
(لا) تقل: أن الطبيعة جامعة على أنها عرض عام (بل عين) أي: عين هذه المختلفات الطبيعة، والاختلافات عوارض وصور.
(فعالم الطبيعة) أي: أفرادها (صور) ظهرت في مرآة واحدة هي الطبيعة هذا على تقدير كونها ذاتية للأفراد (لا) على تقدير أنها عرض عام لها، (بل) على هذا التقدير الطبيعة.
(صورة واحدة) في نفسها ظهرت بصور مختلفة (في مرايا مختلفة) من أفرادها، فكذا الوجود مع الموجودات ليست عينه ولا غيره، وما نقص بظهورها وما زاد بعدمها.
وهو جامع بينها بالكون في الأعيان مع تباينها بالصفات فهي صور مختلفة في مرأة واحدة وجودية لا بل الوجود صور واحدة في مرايا مختلفة من الأعيان.
(فما ثم) أي: في الطبيعة مع أفرادها، والوجود مع الموجودات الأخيرة (لتفرق النظر) أي: نظر صاحب الكشف فلا يدري أهي عينهما أو غيرهما؟
وهل هي صور متعددة في مرآة واحدة أو صورة واحدة في مرايا متعددة؟
(ومن عرف ما قلناه) من بیان وجه العينية والغيرية ووجه مرآتية كل منهما للآخر، (لم يحر) عند الكشف لسابق معرفته بما كوشف منه.
(وإن كان العارف في مزید علم) يعلم أن الأعيان معدومة فكيف يصلح للمرآتية، وأن الحق واحد لا اختلاف فيه فكيف يكون مرآة لصور متعددة مختلفة فإنه أيضا لا يحار (فليس) كل من العينية والغيرية، والمرآتية .
(إلا من حكم المحل) أي: محل صور أفراد الطبيعة، أو محل صور الموجودات (فالمحل) إن كان ماهية، فالوجود والطبيعة صورة واحدة في مرايا مختلفة، والماهية.
(هو العين الثابتة)، ويكفي ثبوتها في العلم الأزلي؛ لكونها محل انطباع الصورة كمرآة تظهر في مرآة عند تقابل المرآتين تظهر فيها الصورة التي للشخص المحاذي لهما، وإن كان المحل نفس الوجود والطبيعة.
فالصور، إنما تنتقش فيهما بعد فيضانها على الأعيان الثابتة، ويحصل الاختلاف في الحق بسببها، وعلى التقديرين المحل عين العين الثابتة.
وإذا صارت الأعيان محال مختلفة (فيها) أي: بواسطتها (يتنوع الحق) مع وحدته، وعدم الاختلاف فيما يظهر فيه باعتبار ظهوره أو (في المجلى) بحسب استعداده (فتتنوع الأحكام عليه) مع امتناع الاختلاف فيه بحسب ذاته (فيقبل كل حكم) من  أحكام المحدثات باعتبار ظهوره في الأعيان.
وظهور الأعيان فيه مع أنه باعتبار ذاته منزه عنهما، وليس محلا للحوادث.
وذلك لأنه (لا يحكم عليه) بتلك الأحكام الحادثة (إلا عين ما تجلى فيه)، فتلك الأحكام إنما هي في صورته؛ فلا يكون هو من حيث هو محلا للحوادث، هذا على تقدير ظهوره في الأعيان ظاهر.
وكذلك على تقدير ظهور صور الحوادث في مرآة الحق، إذ الصور المرئية في المرآة المحسوسة ليست في جرمها، ولا في سطحها، ولا في ثخنها، لما أنها ترى كبيرة بعيدة فوق قدر ثخنها ومقدارها، فهي معلقة ظاهرة في عالم المثال.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه  ( وما ثم إلا هذا:
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا ... و ليس خلقا بذاك الوجه فاذكروا
من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته ... و ليس يدريه إلا من له بصر
جمع و فرق فإن العين واحدة ... وهي الكثيرة لا تبقى ولا تذر
فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية و النسب العدمية بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، و سواء كانت محمودة عرفا و عقلا و شرعا أو مذمومة عرفا و عقلا و شرعا.
و ليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة.
و أما غير مسمى الله مما هو مجلى له أو صورة فيه، فإن كان مجلى له فيقع التفاضل- لا بد من ذلك- بين مجلى و مجلى، و إن كان صورة فيه فتلك الصورة عين الكمال الذاتي لأنها عين ما ظهرت فيه. فالذي لمسمى الله هو الذي لتلك الصورة. ولا يقال هي هو ولا هي غيره. )
وإليه الإشارة بقوله: (ما ثم) أي: في الواقع (إلا هذا) التجلي لا حلول الحوادث فيه، ولا اتحادها به من كل وجه، وإذا عرفت أنه يتنوع بالتجلي، ويقبل أحكام الحوادث منه (فالحق خلق بهذا الوجه) أي: بتنوعه بالتجلي، وقبول تلك الأحكام.
(فاعتبروا) في العين الواحدة جهة الحقية، والخلقية .
(وليس خلقا بذلك الوجه) أي: باعتبار تنزهه عن الأحكام الإمكانية بالنظر إلى ذاته و صفاته الأزلية .
(فاذكروا) أي: ظهور الحق في مرآة الخلق فإن الظاهر في ذلك النظر (من) وجهي عينية الحق للخلق، وغيرينه لهم .
(لم تخذل بصيرته) بنفي ما هو ثابت من الحق، وإثبات ما ليس بثابت من الخلق إلا من جهة إشراق نور الحق عليهم، (وليس يدريه إلا من له بصر) يبصر به الأشياء كما هي.
ثم أشار إلى ذلك الإبصار بقوله: (جمع وفرق) أي: قل بالجمع والفرق ما إذ إفراد الجمع زنادقة، وإفراد التفرقة تعطيل، والعرب أخذهما معا.
(فإن العين واحدة) باعتباره (وهي) العيون الكثيرة باعتبارات أخرى بحيث (لا تبقي) وحدتها بتلك الاعتبارات، (ولا تذر) وحدتها بالاعتبار الأول على ما نبه عليه في مثال الواحد مع العدد والطبيعة مع الإفراد.
وهذا اقتباس يشير إلى أنه في الحيرة كحيرة من وقع في سقر التي وصفها الله تعالی بأنها "لا تبقى ولا تذر" [المدثر: 28]، فافهم.
إذا كانت العين الواحدة جامعة للموجودات ذاتا، وصفات، ونسبا، وجمعا، وفرقا؛ فلها العلم الذاتي بذلك، إذ لا يمكن اعتباره بالنسبة إلى مكان أو مكانة.
(فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية) التي هي كمالات في نفسها، وإن كان في بعضها نقص نسبي، (والنسب العدمية) كالوحدة، والكثرة، والوجوب، والقدم، وتنوع التجليات، وقبول الأحكام من المجالي.
(بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها سواء كانت) تلك الأمور أو النعوت (محمودة عرفا، وعقلا، وشرعا) كإعطاء المال , مستحقا من المال الحلال ما يسد به رمقه.
(أو مذموم عرفا، وعقلا ، وشرعا) كإساءة الشخص من غير موجب إلى من أحسن إليه ولا يلحقه ذم ما ذم منها باعتبار جمعيته لها كما يلحق الفلك المحيط بالقاذورات قذرها.
ولا باعتبار تجليه عليها كما لا يلحق الشمس باعتبار إشراقها عليها، ولا باعتبار ظهور صورة في الأعيان أو ظهور صور الأعيان في مرآته، كما لا يلحق الشخص اعوجاج عند ظهوره في المرأة المعوجة، ولا يلحق المرأة نقص بظهور صور الناقصين فيها؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
(وليس ذلك) الكمال المستغرق لها (لمسمى الله خاصة) لاختصاصه من بين الأسماء الإلهية بالجمع بين الذات والصفات التي بعضها متجلية في سائر الموجودات، فله ذلك الكمال بذلك الجمع.
(وأما غير مسمى الله) خاصة بألا يكون من أسماء الله تعالی أصلا، ولذلك قال: (مما هو مجلی له)، وهو العين الثابتة، (أو صورة) له ظهرت في مجلى، فلا يكون له العلم الذاتي المستغرق للكمالات من كل وجه.
(فإن كان مجلى له فيقع التفاضل) الموجب للعلو الإضافي لبعضها (لا بد من ذلك) للاختلاف الذاتي (بين مجلی ومجلی).
ولا وجود لها أصلا فلا علو لها بالذات أصلا، (وإن كان صورة) للحق (فتلك الصورة عين الكمال الذاتي) باعتبار اتحادها بذي الصورة؛لأنها من وجه (عين ما ظهرت) صورته (فيه فالذي لمسمى الله) من العلم الذاتي .
(هو الذي لتلك الصورة) على نهج الاستغراق لو كمل ظهوره فيها لكن ينقص من الاستغراق بقدر نقصان الصورة عن مطابقة ذي الصورة، ولا بد من المغايرة أيضا.
كما قال: (ولا يقال هي) أي: تلك الصورة (هو) الله من كل وجه؛ لاشتمالها على جملة من الوجوه الإمكانية، (ولا هي غيره) من كل وجه لامتناع ذلك فيما بين الصورة، وذي الصورة فهي في حكمه بقدر مطابقتها إياه.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه (و قد أشار أبو القاسم بن قسي في خلعه إلى هذا بقوله: إن كل اسم إلهي يتسمى بجميع الأسماء الإلهية و ينعت بها.
وذلك أن كل اسم يدل على الذات وعلى المعنى الذي سيق له ويطلبه.
فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء، و من حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به، يتميز عن غيره كالرب و الخالق و المصور إلى غير ذلك.
فالاسم المسمى من حيث الذات، والاسم غير المسمى من حيث ما يختص به من المعنى الذي سيق له.
فإذا فهمت أن العلي ما ذكرناه علمت أنه ليس علو المكان و لا علو المكانة، فإن علو المكانة يختص بولاة الأمر كالسلطان و الحكام و الوزراء و القضاة و كل ذي منصب سواء كانت فيه أهلية لذلك المنصب أو لم تكن، و العلو بالصفات ليس كذلك، فإنه قد يكون أعلم الناس يتحكم فيه من له منصب التحكم و إن كان أجهل الناس. فهذا علي بالمكانة بحكم التبع ما هو علي في نفسه. فإذا عزل زالت رفعته و العالم ليس كذلك.)
(وقد أشار أبو القاسم بن قسي في خلعه) أي: كتابه المسمي ب«خلع النعلين» (إلى هذا) أي: إلى أن ما يكون عينا من وجه، وغيرا من وجه يكون في حكمه بحسب العينية لا بحسب الغيرية (بقوله: إن كل اسم الهي يتسمى بجميع الأسماء الإلهية) أي: يحمل عليه سائر الأسماء حمل المواطأة (وينعت) كل اسم إلهي (بها) أي: الأسماء كلها، وهذا الحمل والنعت باعتبار دون آخر.
(وذلك) أي: سبب التسمي والنعت باعتبار دون آخر
(هناك) أي: في حضرة الأسماء قيد بذلك؛ لأن حضرة الذات مسماة بالجميع، ومنعوت بها سواء اعتبرت عينيتها لها، أو غيريتها معها.
(أن كل اسم) عين الذات من وجه، وغيرها من وجه فكل اسم مع اسم آخر، كذلك لأن عين العين من وجه عين من ذلك الوجه، وكذا غير الغير من وجه غير إن وجد ذلك الوجه بينهما أيضا، (يدل على الذات) المسماة بجميع تلك الأسماء. .
(وعلى المعنى الذي سيق له) أي: قصد بوضعه ذلك المعنى لا نفس الذات، وإنما سيق ذلك الاسم لذلك المعنى لأن ذلك المعنى (ويطلبه) أي: ذلك الاسم لذلك المعنى إذ اسم الذات لا يفهمه مع وجوده في الذات.
والاسم الموضوع لذلك المعنى وحده لا يدل على وجوده في الذات، فلا بد من اسم يدل على الذات من حيث هي محل ذلك المعنى، ويكون المقصود منه فهم ذلك المعنى، وإذا كان كل اسم دالا على الذات.
وعلى المعنى المسوق له (فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء) التي اللذات فهذه جهة عينية كل اسم مع آخر، وهي جهة عينيته للذات، (ومن حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به) ذلك الاسم (يتميز عن غيره) من الأسماء بحيث يكونان اسمين مختلفين فلا يحمل أحدهما على الآخر، وذلك باعتبار المفهوم، والتعلق (كالرب والخالق والمصور) فإنها وإن اشتركت في معنى الإيجا.
فلا يقال: الرب هو الخالق أو المصور باعتبار المفهوم أو مفهوم الرب تكميل المربوب، ومفهوم الخالق تقديره بمقدار، ومفهوم المصور تشكيلة بشكل (إلى غير ذلك) من الاختلافات بين الأسامي المتقاربة المفهوم والمتضادة.
(فالاسم) الواحد من الأسماء الإلهية: (هو المسمى)، بجميع الأسماء (من حيث الذات) المسماة بالجميع (والاسم غير المسمى) باسم آخر (من حيث ما يختص به من المعنى الذي سيق له)، إذ بهذا يغاير الذات بتغاير الاسم الأخر أيضا لتحقق وجه الغيرية بينهما أيضا، وإن كان غير الغير قد لا يكون غيرها إذا لم يتحقق وجه الغيرية بينهما.
فمقتضی كلام أبي القاسم بن قسي هاهنا: أن العلو ذاتي وغير ذاتي لها من حيث مغایرتها للوجود بل قد يكون لها بذلك الاعتبار علو إضافي، وقد لا يكون (فإذا علمت أن العلی) ، بعلو الذات (ما ذكرناه) من مسمى الله تعالی خاصة، ومن الصور الوجودية باعتبار اتحادها به (فهمت أنه) ، أي: ذلك العلو (ليس علو المكان) إذ لا اعتبار له هناك (ولا علو المكانة، فإن علو المكانة مختص بولاة الأمر)، إذ هي صفة عارضة تقتضي مكانة، والذي بدونها إما بالذات، أو بالصفة اللازمة، أو بالصفة التي هي كاللازمة "له".
وهما في حكم العلو بالذات (كالسلطان، والحاكم) كحاكم المظالم، والجرائم، والمحتسب، (والوزراء، والقضاة) وبالجملة (كل ذي منصب) كثر التمثيل؛ ليشعر بالدليل الاستقرائي.
ثم قال: (سواء كانت فيه أهلية ذلك المنصب، أو لم تكن)؛ ليشير إلى أن العلو بالمنصب لیس علوا ذاتيا، إذ ليس علوا بالصفات فضلا عن العلو بالذات.
ولذلك قال: (والعلو بالصفات ليس كذلك) أي: لا يختص بولاة الأمر بل يكون لمن هو أدنى منهم في علو المكانة , فإنه قد يكون أعلم الناس يتحكم فيه من له منصب التحكم، وإن كان صاحب منصب التحكم (أجهل الناس) .
فليس علو ذي المنصب بالصفات فضلا عن أن يكون بالذات، (فهذا علي بالمكانة بحكم التبع) لمنصبه الذي يقتضي على المكانة .
(ما هو علي في نفسه)، وإلا لم يتوقف على المنصب لكنه متوقف عليه (فإذا عزل) عن منصبه (زالت رفعته).
لأنها كانت بتبعية أمر عارض بخلاف من يكون علوه بالصفات اللازمة، وهو (العالم) فإن علوه (ليس كذلك) أي: لا يزول بحال فكيف يزول من كان علوه ذاتيا بالانتقال من مكان عال أو مرتبة عالية إلى مكان أسفل أو مرتبة دنيئة، فافهم والله الموفق والملهم.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 4:55 pm

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص الإبراهيمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية   الجزء الأول

الفص الإبراهيمي
المهيمية أي: ما يتزين به، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بالهيمان ظهر بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى إبراهيم العلي لبلوغه مبلغا لا يدري أنه يخلل إبراهيم حضرات صفات الرب.
"الهيمان شدة العشق، وهو صفة تقتضي عدم انحياز صاحبها إلى جهة بعينها بل إلى المحبوب في أيه جهة كان، لا على التعيين وعدم امتیاز صاحبها بصفة مخصوصة تقيده . كتاب نقد النصوص في شرح نقش الفصوص للجامي"
فصار الرب ظاهره متصلها بصفاته المحدثة باعتبار ظهوره فيه، أو تخلل الحق صفات إبراهيم فصار إبراهيم ظاهره متصفا بما يناسب صفاته القديمة، هذا كله باعتبار الصفات الظاهرة فقط، فجعل تارة للحق، وتارة لإبراهيم.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (إنما سمي الخليل خليلا لتخلله و حصره جميع ما اتصفت به الذات الإلهية. قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني ... و به سمي الخليل خليلا
كما يتخلل اللون المتلون، فيكون العرض بحيث جوهره ما هو كالمكان و المتمكن، أو لتخلل الحق وجود صورة إبراهيم عليه السلام. وكل حكم يصح من ذلك، فإن لكل حكم موطنا يظهر به لا يتعداه. ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذم؟
ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها و كلها حق له كما هي صفات المحدثات حق الحق )
وأما ظهور الذات مع جميع الصفات فمختص بنبينا صلى الله عليه وسلم فسمي لذلك حبيبا من حبه القلبي الجامع لسر الروح والنفس.
فهو إشارة إلى جمعيته للكل، ولما اقتضت هذه الجمعية غاية الظهور لاستغراقها وجوه الظهور خفیت.
ولذلك لم ينص الحق تعالى في كتابه على كونه حبا بل أشار إليه بقوله: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" [آل عمران: 31].
وقد نص على كون إبراهيم عليه السلام خليلا.  فقال: "واتخذ الله إبراهيم خليلا" [النساء: 125].
وإلى ما ذكرنا في معنى الخلة أشار بقوله: (إنما سمي الخليل خليلا) .
أي: سمى إبراهيم خليل الله؛ (لتخلله) أي: لجعله صفاته غير متمايزة عن صفات الحق عند ظهور الحق بصفات إبراهيم حين أخفى إبراهيم صفاته في صفات الحق (وحصره) أي إبراهيم (جميع ما اتصفت به الذات الإلهية) باعتبار ظهوره في مظاهر العالم، وإلا فللحق صفات
لا تقبل الظهور، كما أشار إليه الحديث: "أو استأثرت به في علم الغيب عندك". رواه أحمد وابن حبان والحاكم .
وهذا اعتذار بأن غيره، وإن تتخلل بعض تلك الصفات فلا يسمى خليط؛ لأن ذلك حاصل في كل شيء، فلا يختص بهذا الاسم إلا من اتصف بجميع تلك الصفات، ثم استشهد على ذلك بما قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبه سمي الخليل خليلا
أي: صرت بحيث لا يمتاز قلبك عن قلبي الذي هو مسلك الروح .
(وبذا) أي: وهذا سمي أعني: عدم الامتياز (سمي الخليل خليلا) ثم شبه هذا التحلل المعنوي في عدم قبول الإشارة المعنوية المميزة بالتخلل الحسي للون مع المتلون في عدم قبول الإشارة الحسية المميزة .
"" قالهما الشاعر بشار بن برد :
قَدْ تخلَّلْتَ مسلكَ الروح مِنِّي ولذا سمي الخليلُ خليلا
فإِذَا ما انَطقْتُ كنْتَ حديثي    وإذا ما سكت كنتَ الغليلا
وهما بيتين قالهما البحتري
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي وَبِذَا سُمِّيَ الخَلياُ الخَلِيلاَ
وإِذا مَا نطَقْتُ كُنْتَ صَحِيحاً وإِذا مَا سَكَتُّ كُنْتَ عَليلاَ ""
فقال: (كما يتخلل اللون المتلون فيكون العرض) أي: اللون (بحيث جوهره) أي: في حيز جوهرة بحيث لا يمتاز أحد الحيزين عن الآخر.
(ما هو) أي: ليس هذا التحلل كالمكان والمتمكن، فإن حيز كل واحد منهما يمتاز عن الآخر بالإشارة الحسية هذا باعتبار كون الحق هو الظاهر بصفات إبراهيم.
ثم أشار إلى عكسه بقوله: أو (للتخلل الحق وجود صورة إبراهيم الخ) أي: بجعل الحق صفاته صفات إبراهيم عليه السلام  بحيث يظهر إبراهيم عليه السلام بما يناسب صفات الحق.
ثم أشار إلى حقية المعنيين في كون إبراهيم عليه السلام  سمي خليلا بحسب المواطن المختلفة فقال: وكل حكم يصح في خلة إبراهيم أو تسميته خليلا؟
(من ذلك) أي: من تخلل إبراهيم عليه السلام ، أو تخلل الحق لكنه بحسب المواطن المختلفة، (فإن لكل حكم) من هذين (موطئا يظهر) ذلك الحكم (به لا يتعداه) إلى موطن آخر .
فلا يمكن اجتماعهما في حالة واحدة باعتبار واحد، لكن كان إبراهيم مترددا بينهما تارة يفعل الحق ما يريده إبراهيم  عليه السلام لو بقيت له إرادة، وتارة يفعل إبراهيم ما يريده الحق، واستدل على صحة الأول بقوله: (ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات)، ويجوز إطلاق ذلك إذ (أخبر بذلك عن نفسه).
بقوله: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" [الأنفال: 17]، وكيف وقد جاز أن يظهر (بصفات النقص)؟
وقد أخبر بذلك عن نفسه بقوله: «مرضت فلم تعدني، و جعت فلم تطعمني»، رواه مسلم وابن حبان و الأدب المفرد لابن حجر و مسند ابن راهويه
وأيضا (بصفات الذم) وأخبر بذلك عن نفسه بقوله: "الله يستهزئ بهم" [البقرة: 15]، واستدل على الثاني بقوله: (ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق) أي: بما يناسب صفاته القابلة للظهور .
(من أولها إلى آخرها) كالعليم، والقدير، والمريد، والسميع، والبصير، والمتكلم، والحي، (وكلها) أي: كل صفات الحق (حق) أي: ثابت (له) أي: العبد (كما) هي أي: القصة (صفات المحدثات حق للحق).
وهذا إشارة إلى أن حدوث العبد لا ينافي اتصافه بما يناسب الصفات القديمة، كما أن قدم الحق لا ينافي اتصاف ما ظهر منه في المحدثات بصفاتهم.
وإن كان اتصاف العبد بالصفات القديمة، واتصاف الحق به بالصفات الحادثة محالا.

قال الشيخ رضي الله عنه : («الحمد لله»: فرجعت إليه عواقب الثناء من كل حامد و محمود. «و إليه يرجع الأمر كله» فعم ما ذم و حمد، و ما ثم إلا محمود و مذموم. اعلم أنه ما تخلل شي ء شيئا إلا كان محمولا فيه. فالمتخلل - اسم فاعل- محجوب بالمتخلل- اسم مفعول. فاسم المفعول هو الظاهر، واسم الفاعل هو الباطن المستور. قال الشيخ رضي الله عنه : (وهو غذاء له كالماء يتخلل الصوفة فتربو به وتتسع. فإن كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه، فيكون الخلق جميع أسماء الحق سمعه و بصره و جميع نسبه و إدراكاته. وإن كان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فيه، فالحق سمع الخلق و بصره و يده و رجله و جميع قواه كما ورد في الخبر الصحيح. )
ثم استدل على ثبوت صفات المحدثات للحق بقوله: ("الحمدلله") (الفاتحة: 2]، (فرجعت إليه عواقب الثناء من كل حامد ومحمود) فكان الحق حامدا بكل حمد على لسان ذاته وعبده،.
وكان محمودا ذاته وخلقه، وإن كان الحق حامدا للخلق أو الخلق حامدا للحق فرجعت حامدية العبد و محموديته إلى الله، وهما من صفات الخلق.
ثم عمم فقال: ("وإليه يرجع الأمر كله". [هود: 123]، فعم) هذا الأمر كل (ما ذم) و حمد من الخلق فرجع إليه كل محمود ومذموم من صفات العبد.
ثم قال: يفهم من هذا رجوع جميع صفات العبد إليه؛ وذلك لأنه (ما ثم) أي: في صفات العبد (إلا محمود، أو مذموم).
إذ لا واسطة بينهما، فرجعت جميع الصفات إلى الحق، وكيف لا والصفات لا تلحق الأعيان من حيث عدمها، بل من حيث وجودها فهي لاحقة لصورة الحق.
واللاحق لصورة الشيء في حكم اللاحق به سيما إذا كانت صورته متوقفة على محاذاة ذي الصورة، لكن الذم حاصل في الصورة، إذا كانت بحسب مقتضی المرآة لم يكن لنقص في الذات.
ثم أشار إلى ما يتعلق بالتخللين من الحكم فقال: (اعلم أنه ما تخلل شيء شيئا إلا كان محمولا فيه) أي: حاص في ضمنه حصول العام في ضمن الخاص الذي يحمل عليه ذلك العام.
والحاصل في ضمن شيء يكون مستورا فيه، (فالمتخلل اسم فاعل محجوب)
أي: مستور (بالمتخلل اسم مفعول، فاسم المفعول) فيما نحن فيه سواء جعلناه صفات الحق، أو الخلق.
(هو الظاهر اسم الفاعل هو الباطن)، وكل باطن لشيء محمول له غذاء لذلك الشيء بمعنى: أنه يفيد زيادة فيه.
(فهو) أي: اسم الفاعل (غذاء له) أي: لاسم المفعول، وإن لم يصر أحدهما جزءا للآخر ولا من جنسه كما في الغذاء المتعارف.
بل هو (كالماء يتخلل الصوفة فتربو به) الصوفة (وتتسع) في المقدار فيصير الماء كغذاء الصوفة في إفادة الزيادة لمقدارها، ولما لم يحصل هاهنا زيادة المقدار أيضا، ولا التخلل الحسي بينه بقوله:
(فإن كان الحق هو الظاهر) لتحلل الخلق فيه، (فالخلق مستور فيه) استتار الغذاء في المتغذي لا باعتبار إفادة الزيادة في ذاته، أو أسمائه القديمة وصفاته من حيث هي أسماؤه، وصفاته بل في أسمائه وصفاته باعتبار ظهوره في المظاهر.
(فيكون الخلق جميع أسماء الحق) بهذا الاعتبار، وهي أسماء صوره في المظاهر لكن لكمال تلك الصورة يراها المكاشف كأنها ذو الصورة وإنما كان الخلق ههنا جميع صفات الحق إذ ليس لصوره في المظاهر شيء من أسمائه القديمة بل ما يناسبها من أسماء الحوادث (سمعه وبصره وجميع نسبه وإدراكاته) فيفعل الحق بها بإرادة صاحبها، لو بقيت له إرادة.
وإن كان الخلق هو الظاهر التخلل الحق فيه، (فالحق مستور) لا كاستتار الشيء وراء الحجاب المحسوس، بل بمعنى أنه (باطن فيه) فيكون الحق غذاء الخلق باعتبار أن صفاتهم كملت بما يناسب صفاته، فيفعل العبد بها فعله في عوالمه.
(فالحق سمع الخلق، وبصره، ويده، ورجله، وجميع قواه كما ورد في الخبر الصحيح) عن رسول الله عن الله تعالى: «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها».
قال: فالحق سمع الخلق، ولم يقل فسمع الحق للإشارة بأنه من الكمال بحيث لا يتميز عن الصفة القديمة في نظر المكاشف، كما أن الصفات القديمة لا تتميز عن الذات، فكان العبد أيضا لا يتميز عنه.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم إن الذات لو تعرت عن هذه النسب لم تكن إلها. وهذه النسب أحدثتها أعياننا: فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها، فلا يعرف حتى نعرف. قال عليه السلام: «من عرف نفسه عرف ربه» وهو أعلم الخلق بالله. فإن بعض الحكماء وأبا حامد ادعوا أنه يعرف الله من غير نظر في العالم وهذا غلط.)
ثم أشار إلى أنه لا يبعد منا أن نفيده صفات بحسب ظهوره فينا بعد وجودنا فقد أفدناه قبل وجودنا ما هو أصل الصفات وأكملها.
فقال: (ثم إن الذات لو تعرت عن هذه النسب) التي بيننا وبينه في الإيجاد والتكميل وغيرهما، وهي العلم، والإرادة، والقدرة، والكلام، وغيرها (لم تكن إلها).
وهي ليست من ذاته فقط بل (هذه النسب أحدثتها أعياننا) لتوقف النسب على المنتسبين.
وما توقف عليه الشيء، فالشيء كأنه محدث به، وإن كان قديما بالزمان، فهو حادث بالذات للافتقار إلى الغير، وصفاته تعالى من حيث هي نسبة تتوقف على أعيان الموجودات.
(فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها)، وإن كانت ذاته قديمة بالذات، وصفاته بالنظر إليها كذلك، وكذا بالزمان لكنها باعتبار كونها نسبا تتوقف على أعياننا توقفها على ذاته، والإلهية متوقفة عليها، فهي أولى بأن تكون مستفادة منا وإذا توقفت إلهيته وسائر صفاته التي لها نسبة إلينا علينا، ولو بحسب التصور لا في نفس الأمر فلا يعرف من حيث هو إله، ويتصف بتلك الصفات .
(حتى نعرف قال صلى الله عليه وسلم : «من عرف نفسه، فقد عرف ربه )
فجعل معرفة النفس سببا لمعرفة الرب فتنعدم عند عدم سببها.
(وهو أعلم الخلق بالله) فلا يسمع بإزائه قول غيره، أنه يعرف من غير معرفة النفس، (فإن بعض الحكماء) كأبي علي بن سينا وأتباعه، (وأبا حامد) الغزالي من الأثر على المؤثر برهان، إني ومن المؤثر على الأثر برهان لي هو أكمل من الأول.
(وهذا) القول منهم (غلط) لأنهم إن أرادوا أن المؤثر من حيث هو مؤثر يدل على الأثر فلا شك أن معرفة مؤثريته تتوقف على معرفة الأثر.
إذ التأثير الذي هو جزء مفهوم المؤتر نسبة تتوقف على المنتسبين، فلا يعرف كونه مؤثرا وإلها بدون الأثر، وإن أرادوا أن ذات المؤثر إذا عرفت من حيث هي ذات؛ عرف الأثر فهو ممنوع.

قال الشيخ رضي الله عنه : (نعم تعرف ذات قديمة أزلية لا يعرف أنها إله حتى يعرف المألوه. فهو الدليل عليه.
ثم بعد هذا في ثاني حال يعطيك الكشف أن الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه و على ألوهيته، و أن العالم ليس إلا تجليه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه ، وأنه يتنوع و يتصور بحسب حقائق هذه الأعيان و أحوالها، و هذا بعد العلم به منا أنه إله لنا.)
وإليه أشار بقوله: (نعم تعرف ذات قديمة أزلية ، لا يعرف أنها إله؛ حتى يعرف المألوه)، وإذا لم يكن لمعرفة الذات القديمة الأزلية من حيث هي ذات دلالة على إلاهيتها، ولا على الأثر فهو أي: المألوه (فهو الدليل عليه) أي: على كونه إلها، وعلى أنه أثر له؛ لكن هذا في طريق النظر والاستدلال، والذي ذكروه من برهان لم لو صح، فإنما هو في حال الكشف فجعله من قبيل الاستدلال غلط سلمنا أنه منه.
فلا نسلم أنه من غير نظر في العالم أولا، بل هو متأخر عنه لمن تبين.
وإليه أشار بقوله: (ثم بعد هذا) أي: دلالة العالم على الصانع (في ثاني حال يعطيك الكشف الذي ليس من الاستدلال في شيء لا بالأثر على المؤثر ولا بالعكس.
(أن الحق نفسه) من حيث ظهوره في المظاهر (كان) عند استدلالنا بنا عليه
(عين الدليل على نفسه) أي: ذاته (وعلى ألوهيته) للأشياء، وذلك أنه يعلم بالكشف المذكور، (أن العالم) الذي كان يستدل به على الصانع (ليس إلا تجلية في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه).
فيعلم بهذا الكشف أنه كان قد دل وجوده فيها على وجوده في نفسه، وعلى أنه أوجدها تجليه فيها، ويعلم أيضا بالكشف المذكور.
(أنه يتنوع) صوره؛ وذلك لأنه (يتصور بحسب حقائق الأعيان وأحوالها).
وقد كان يحتجب عنا بهذا التنوع فتتوهم أن وجودها مع كثرتها واختلافها كيف يكون الوجود الواحد الحق الذي لا اختلاف فيه أصلا، ولكنها أمور ممكنة تفتقر إلى واجب الوجود المرجح وجودها على عدمها، وإنما اعتبر أحوالها؛ لأن الشخص الواحد قد تختلف صوره باختلاف أحواله مع وحدة عينه الثابتة.
ثم صرح بالمقصود أعني: أنه لا بد في معرفة الصانع في الجملة من نظر في العالم أو" فقال: (وهذا) أي: معرفة أنه المتجلي في أعياننا، إنما هو (بعد العلم منا أنه إله لنا)، إذ لا نشك أننا موجودون بوجود ليس بالأثر على المؤثر.

قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم يأتي الكشف الآخر فيظهر لك صورنا فيه، فيظهر بعضنا لبعض في الحق، فيعرف بعضنا بعضا، و يتميز بعضنا عن بعض. فمنا من يعرف أن في الحق وقعت هذه المعرفة لنا بنا، و منا من يجهل الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة بنا: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. و بالكشفين معا ما يحكم علينا إلا بنا، لا، بل نحن نحكم علينا بنا و لكن فيه، و لذلك قال «فلله الحجة البالغة»: يعني على المحجوبين إذ قالوا للحق لم فعلت بنا كذا و كذا مما لا يوافق أغراضهم، «فيكشف لهم عن ساق»: و هو الأمر الذي كشفه العارفون هنا، فيرون أن الحق ما فعل بهم ما ادعوه أنه فعله و أن ذلك منهم، فإنه ما علمهم إلا على ما هم عليه، فتدحض حجتهم و تبقى الحجة لله تعالى البالغة.)

ثم أشار إلى ما يشبه دلالة المؤثر على الأثر مع تأخره عن دلالة الأثر على المؤثر بمرتبتين فقال: (ثم يأتي الكشف الآخر) الذي يكون فيه الحق مرآة للخلق، والمرأة سبب ظهور الصور فكأنها دالة على نفسها، وعلى ذوى الصور.
وهي الآثار (فيظهر لك صورنا فيه) بعد ظهور صوره فينا، إذ كنا مرآة له (فيظهر بعضنا البعض في الحق) كالصور المجتمعة في المرأة الواحدة عند محاذاة ذوى الصور إياها يظهر لأحدهم من كان خلفه من محاذاة تلك المرآة.
وإن لم يقع عليه بصره (فيعرف بعضنا بعضا) بالحق، وإن لم يكن ذلك البعض معروفا له قبل ذلك فيطلع حينئذ على أحواله ومراتبه وما جرى عليه.
وما يأتي في حقه بمقدار ما كوشف من ذلك (ويتميز بعضنا عن بعض)، وإن لم يكن في الذات أجزاء تنطبع صور البعض في جزء البعض الآخر في جزء آخر، بل هي كالصور المنطبعة في مرآة القلب.
وفيه دلالة المؤثر على الأثر، إنما تحصل دلالة عليه؛ ولكن في حق مكاشف يعرف أن هذه المعرفة وقعت له في مرآة الحق؛ لكن لا يعرف أن هذه المعرفة وقعت له في مرآة الحق؛ لكن لا يعرف كل مكاشف ذلك.
(فمنا من يعرف أن في الحق وقعت هذه المعرفة لنا بنا) أي: بظهورنا فيه لا بنفس الحق فنحن الدليل أو لا في تلك الحالة أيضا فلا تتم دلالة المؤثر على الأثر كل وجه.
على أن ذات الحق تكون مستورة حينئذ لوجوب استتار المرآة عند ظهور الصورة فيها على ما مر.
منا من يجهل الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة منا فیزعم أن المرآة مرآة العقول، أو النفوس السماوية، أو أنها وقعت لنا لا (بنا).
أو أن صورنا صارت عين الحق فهذا مع هذا الكشف الذي هو غاية النور باق في ظلمة الجهل.
ولذلك ("قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين") [البقرة: 67]، ثم أشار إلى أن مبنى الاستدلالين على القول بالمؤثر والأثر، وهو إنما يتم لو كان تأثيره من حيث هو.
لكن الكشفان المذكوران يمنعان من ذلك . فقال: (وبالكشفين معا ما يحكم علينا إلا بنا)
إما بالكشف الأول أعني: تجلي الحق في مرايا الأعيان فلاختلاف صوره بحسبها، وحسب أحوالها فما يحكم على كل واحد منها بالتجلي المخصوص بها إلا بمقتضاها.
وإما بالكشف الثاني أعنيظهور صورنا في مرآة الحق فلأن يتميز بعضنا عن بعض هناك ليس بحسب المرآة لوحدها، وعدم الاختلاف فيها .
بل بحسب ما فاض علينا من مفضيات أعياننا فما حكم علينا بالتجليين إلا بنا لا أي: الحق (لا) يحكم علينا ابتداء بشيء (بل نحن نحكم علينا بنا) أو لا؛ لأن حكمه تابع لعلمه التابع لمقتضيات الأعيان، وهي الحاكمة بأنفسها على أنفسها ابتداء.
(ولكن) اقتضاء الأعيان الثابتة، إنما هو حال ثبوتها (فيه) أي: في علمه فنسب ذلك إليه؛ لأنه الموجود دونها؛ (ولذلك) أي: و لكوننا الحكام علينا بنا (قال تعالى: "فلله الحجة البالغة) [ الأنعام: 149 ].
ولما اختص التزام الحجة بالخصم المعترض، والاعتراض على الله تعالى لا يتأتي إلا من المحجوبين دون أهل الكشف التاركين للاعتراض على الله لاطلاعهم على سر القدر.
قال: (يعني على المحجوبين إذ قالوا للحق: لم فعلت كذا) من المعاصي، (وكذا) من العقاب وإن كان فيه حكم كثيرة للحق؛ لكنه (مما لا يوافق أغراضهم فيكشف لهم عن ساق) .
وهو ما بطن عنهم من سر القدر عبر عنه بالساق الذي ستره غالب في العادة.
"الساق : حقيقة هول الأمر و شدته . كشفت الحرب عن ساقها"
فلذلك قال: (وهو) أي: الساق المستور عن المحجوبين في الدنيا المكشوف عنه هم يوم القيامة (الأمر الذي كشفه العارفون هنا) أي: في الدنيا قبل يوم القيامة من سر القدر.
(فيرون) أي: المحجوبون عند كشف الساق في الآخرة (أن الحق ما فعل بهم ما ادعوه أنه) أي: الحق (فعله) مستقلا بدونهم، ويرون أن ذلك الفعل (منهم) أي: من أعيانهم .
(فإنه) أي: الحق ما فعل بهم إلا ما علمه منهم لاستحالة انقلابه جهلا ،
(وما علمهم إلا على ما هم عليه)، وإلا كان جهلا، وإذا كشف لهم عن الساق المذكور (فتدحض حجتهم) الباطلة، (وتبقى الحجة لله البالغة) أنهم هم الذين فعلوا ذلك بأنفسهم "وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم" [هود:11].

قال الشيخ رضي الله عنه : (فإن قلت فما فائدة قوله تعالى: «فلو شاء لهداكم أجمعين» قلنا «لو شاء» لو حرف امتناع لامتناع: فما شاء إلا ما هو الأمر عليه. و لكن عين الممكن قابل للشيء و نقيضه في حكم دليل العقل، و أي الحكمين المعقولين وقع، ذلك هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته.)
ثم استشعر سؤالا فقال: (فإن قلت) إذا كان الحكم تابعا لمقتضيات الأعيان بل هي الحاكمة على أنفسها لم يكن له الحكم على خلاف ذلك.
(فما فائدة قوله تعالى: "فلو شاء لهداكم أجمعين") [الأنعام: 149] يا أهل الضلالة أجمعين مع أن المشيئة إنما تقال حيث يصح منه الحكم بأي نقيض اختاره.
قلنا: لو شاء في قوله: ولو شاء لهداكم أجمعين [الأنعام: 149]، لا يدل على ثبوت مشيئة هداية الجميع.
لأن («لو» حرف امتناع لامتناع) أي: حرف بدل على امتناع الجزاء لامتناع الشرط؛ فلا يدل على وجود مشيئة هداية الجميع بل على انتقائها .
(فما شاء) من الهداية والضلالة (إلا ما هو الأمر) أي: أمر أعيان المكلفين (عليه) كما قال: "هو أعلم بمن ضل عن سبيله" [النحل:125].
ثم أشار إلى أن الآية، وإن لم تدل على وجود مشيئة هداية الجميع تدل على مكان وجودها فقال: (ولكن عين الممكن) من حيث هو ممكن، وغير نظر إلى مقتضاها بعين الكشف (قابل للنقيضين في حكم دليل العقل) .
فيصح تعلق المشيئة بما يفعل بالأعيان بالنظر إلى تلك القابلية لها في دليل العقل، لكن السنة الإلهية جارية بأنها لا تتعلق إلا بما هو الأمر عليه.
ولذلك نقول: (أي الحكمين المعقولين) أي: الجائزين على غير الممكن في دليل العقل (وقع ذلك) الحكم في الخارج .
(هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته) أي: هو الذي كان مقتضى عينه، وإن جاز خلاف مقتضاها في دليل العقل، إذ لو وقع خلافه لأختتمت الحكمة وانقلب العلم جهلا ، و بطل كمال الجود الإلهي.
ثم أشار إلى أن الهداية لو فسرت بالإيصال إلى المطلوب فعدم تعلق المشيئة بها بالنسبة إلى أهل الضلالة ظاهر؛ ولذلك لم يتعرض له مع أنه داخل في المعنى الثاني، وهو تفسير الهداية بالبيان، وإن فسرت به.

قال الشيخ رضي الله عنه : (و معنى «لهداكم لبين لكم: و ما كل ممكن من العالم فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو عليه: فمنهم العالم و الجاهل. فما شاء ، فما هداهم أجمعين، و لا يشاء، و كذلك «إن يشأ»: فهل يشاء؟ هذا ما لا يكون.
فمشيئته أحدية التعلق و هي نسبة تابعة للعلم و العلم نسبة تابعة للمعلوم و المعلوم أنت و أحوالك. فليس للعلم أثر في المعلوم، بل للمعلوم أثر في العلم فيعطيه من نفسه ما هو عليه في عينه.)

فكذلك وإليه الإشارة بقوله: (ومعنى "لهداكم" [الأنعام: 149]: لبين لكم)
يعني: الحقائق الإلهية والنبوية، وسر القدر، وجميع ما يتعلق بالمعاش والمعاد، ولكن ما وقعت المشيئة على هداية الجميع بهذا المعنى.
وذلك لأنه (ما كل ممكن من العالم فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو عليه).
وإنما قال: من العالم ليشير إلى أنه من المعلوم أن ذلك ممتنع في بعض الممكنات عقلا كالجماد والنبات.
وفي البعض الآخر: وإن لم يمتنع عقلا فهو غير واقع . فعلم أنه لا دخل للإمكان في اقتضاء ذلك، ولا للإنسية والجنية .
بل فعل ذلك في حق البعض من الثقلين دون البعض، (فمنهم العالم) لاقتضاء عينه فتح بصيرته، (ومنهم الجاهل) لاقتضاء عينه عدم فتح بصيرته.
(فما شاء) بيان تلك الأمور لكل ممكن في العالم، ولا لكل إنس وجن (فما هداهم أجمعين بهذا المعنى الأعم فضلا عن الأخص.
ثم أشار إلى أن هذا المعنى غير مخصوص بالماضي كما يوهمه ظاهر عبارة القرآن بل هو عام للأزمنة فقال: (ولا يشاء) ذلك في الحال والاستقبال.

ثم أشار إلى إن أراء هذا المعنى لا تختص بكلمة « لو»؛ بل قال (وكذلك إن يشأ) الله لهداكم أجمعين، فهل يشاء هداية الجميع؟
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 4:58 pm

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص الإبراهيمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية   الجزء الثاني

(هذا ما لا يكون) وإذا عرفت أن الهداية بمعنی البيان فضلا عما هو أخص منه لا تعلق المشيئة بها في حق الجميع؛ بل يمتنع ذلك في مقتضى السنة الإلهية.
(فمشيئته) بمقتضى سنته (نسبة) بين الحق وبين العين الثابتة (تابعة للعلم)، إذ لو خالفته لزم انقلاب العلم جهلا.
(والعلم نسبة للمعلوم)، إذ لو لم تتبعه لكان على خلاف المعلوم فیكون جهلا فمشيئته تابعة للمعلوم الذي هو أحد النقيضين دائما في الواقع، ولما توهم أن المعلوم هو العين الثابتة مع أن بعض المعلومات غيرها .
أزال ذلك بقوله: (والمعلوم أنت وأحوالك) فمشيئته تابعة لك و لأحوالك، والتابع لا يؤثر في المتبوع.
(فليس للعلم في أثر المعلوم) كما يوهمه قولهم: إن علمه تعالی فعلي لا انفعالي، وإلا كان محلا للحوادث.
(بل للمعلوم أثر في العلم) الذي هو الذات الأزلية فضلا عن العلم الذي هو من الصفات فإنه يؤثر فيه (فيعطيه من نفسه ما هو عليه).
ولا يلزم منه كونه تعالى أو كون علمه محلا للحوادث؛ لأن المراد من التأثير إفادة النسبة، وهي عدمية، ولا يكون هو ولا علمه انفعاليا بل علمه فعلي أفاد للعين الثابتة بعون الإرادة والقدرة ظهور مقتضاها .
قال الشيخ رضي الله عنه : (و إنما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون و ما أعطاه النظر العقلي، ما ورد الخطاب على ما يعطيه الكشف. و لذلك كثر المؤمنون و قل العارفون أصحاب الكشوف.
«و ما منا إلا له مقام معلوم»: و هو ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك، هذا إن ثبت أن لك وجودا. فإن ثبت أن الوجود للحق لا لك، فالحكم لك بلا شك في وجود الحق. و إن ثبت أنك الموجود فالحكم لك بلا شك. )
ثم استشعر سؤالا بأنه إذا لم يكن للعلم أو العالم تأثير في المعلوم فما معنی تعلق مشيئته به فقال: (وإنما ورد الخطاب الإلهي) في الظاهر (بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون) من أن له تأثيرا في الأشياء.
إذ تأثير الأعيان فيه بعيد عن طباعهم، وهو (ما أعطاه النظر العقلي) من أن الحق مؤثر في الممكنات بلا عكس .
نعم له تأثير تابع لتأثيرهم فيه يجب تأويل الخطاب بذلك في نظر أهل الكشف.
وذلك لأنه (ما ورد الخطاب) في الظاهر (على ما يعطيه الكشف) فيجب تأويله بالتأثير الفرعي لا الأصلي .
مع أن المتبادر إلى الأفهام أن الأصلي هو الذي تواطأ عليه المخاطبون من أهل النظر العقلي.
(ولذلك) أي: و لورود الخطاب في الظاهر بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون دون أهل الكشف حتى احتاجوا إلى التأويل . فـ (كثر المؤمنون) الأخذون بظاهر الخطاب المساعد بالدليل العقلي.
(وقل العارفون أصحاب الكشوف) المؤولون للخطاب مع مساعدة الدليل العقلي الظاهرة بسبب ما كوشفوا لكن كلا المعنيين صحيح في الواقع، وإن كان أحدهما أصليا حقيقا، والأخر فرعيا محازيا.
وإليه الإشارة بقوله: ("وما منا") [الصافات: 146]) أي: المؤمنين والعارفين ("إلا له مقام معلوم ") [الصافات: 164]. أي: في فهم الخطاب على مقتضى العقل أو الكشف.
ثم بين أثر المعلوم في العالم بقوله: (وهو) أي ذلك الأثر (ما كنت) أي: كانت عينك ملتبسة (به) من مقتضاها (في) حال (ثبوتك) في العلم (ظهرت به في وجودك).
فلولا أن العينك ومقتضاها أثرا في العلم لما أثر العلم فيما ظهرت به في وجودك من الأحوال المخصوصة، إذ الوجود مجرد في نفسه عن تلك الأحوال.
والعلم لا يقتضيها من حيث هو إذ هو تابع للمعلوم فلا يقتضي له حالة فيه لم تكن من مقتضی عين قرب بها فهذا أثرك في العلم أولا، وفي العالم ثانيا.
هذا على تقدير مغايرة وجودك للحق بأن يكون وجوده حقيقا، ووجودك ظلا له.
كما قال: (هذا إن ثبت أن لك وجودا) إذ لا أثر لك في وجود الحق حينئذ من حيث هو؛ بل من حيث هو عالم يتأثر بما تأثر به علمه.
ثم أشار إلى ما هو أثر المعلوم في العالم من حيث الذات بلا واسطة العلم،
فقال: (ثبت أن الوجود)، وإن اقترن بعينك الثابتة (للحق لا لك) لبقاء عينك على عدمها الأصلي.
فلا تتصف بالوجود الذي ظهر فيها من حيث هي مرآته، (فالحكم لك) أيها المعلوم (بلا شك في وجود الحق) الذي هو عالم لا بواسدلة العلم؛ بل أثر فيه بتخصصه في الظهور بمقتضي عينك مع إطلاقه في نفسه.
هذا إذا أثبت أن العين الثابتة لم تصر موجودة بوجود الحق؛ بل بقيت على عدمها الأصلي، ومع ذلك أثرت في وجود الحق باعتبار مرآيتها له.
(وإن ثبت أنك الموجود) بوجود الحق، وليس لك وجود آخر هو ظل وجوده
(فالحكم لك) أيضا (بلا شك) في وجود الحق الذي صرت به موجودا.
لأنك إذا أثرت على تقدير معدومیتك فتأثيرك مع موجوديتك بطريق الأولى.

قال الشيخ رضي الله عنه : (و إن كان الحاكم الحق، فليس له إلا إفاضة الوجود عليك و الحكم لك عليك. فلا تحمد إلا نفسك و لا تذم إلا نفسك، و ما يبقى للحق إلا حمد إفاضة الوجود لأن ذلك له لا لك.
فأنت غذاؤه بالأحكام، ... و هو غذاؤك بالوجود.
فتعين عليه ما تعين عليك. فالأمر منه إليك ومنك إليه.
غير أنك تسمى مكلفا و ما كلفك إلا بما قلت له كلفني بحالك و بما أنت عليه.
و لا يسمى مكلفا: اسم مفعول.
فيحمدني و أحمده ... و يعبدني و أعبده
ففي حال أقر به ... و في الأعيان أجحده
فيعرفني و أنكره ... و أعرفه فأشهده
فأنى بالغنى و أنا ... أساعده فأسعده؟
لذاك الحق أوجدني ... فأعلمه فأوجده
بذا جاء الحديث لنا ... و حقق في مقصده
و لما كان للخليل هذه المرتبة التي بها سمي خليلا لذلك سن القرى ، و جعله ابن مسرة مع ميكائيل للأرزاق ، و بالأرزاق يكون تغذي المرزوقين.
فإذا تخلل الرزق ذات المرزوق بحيث لا يبقى فيه شيء إلا تخلله، فإن الغذاء يسري في جميع أجزاء المغتذي كلها وما هنالك أجزاء فلا بد أن يتخلل جميع المقامات الإلهية المعبر عنها بالأسماء فتظهر بها ذاته جل وعلا
فنحن له كما ثبتت ...  أدلتنا ونحن لنا
وليس له سوى كوني ... فنحن له كنحن بنا
فلي وجهان هو وأنا ... و ليس له أنا بأنا
ولكن في مظهره ... فنحن له كمثل إنا
و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل.)
ثم أشار إلى نسبة الحكم إلى الحق لا تنافي نسبته إليك.
فقال: (وإن كان الحاكم الحق فليس له) من الأحكام (إلا إفاضة الوجود عليك)، وهو لا ينافي نسبة الحكم إليك باعتبار أخر .
وهو أن يقال: (الحكم لك) في استفاضة الوجود على وجه خاص (عليك فلا تحمد إلا نفسك) أي: عينك الثابتة إذا ظهرت بالمحامد؛ لأنها من استفاضتها.
(ولا تذم إلا نفسك) إذا ظهرت بالمذام؛ لأنها من طلبها . (وما بقي) شيء من المحامد و المذام (للحق إلا حمد إفاضة الوجود، لأن ذلك له لا لك)، إذ ليس لك من الوجود شيء حتى تفيضه عليك، أو على غيرك.
ولا ذم في إفاضة الوجود أصلا، وإن الحق الشر بالموجود بسببه إذ هو من إفاضة عدم الغير، أو عدم كماله إليه. ولذلك ورد: "الحمد لله على كل حال". رواه ابن حبان والحاكم.
وإذا كان كل حكم لك في وجوده باعتبار ظهوره فيك لا له، وكان له إفاضة الوجود عليك لا لك.
فإن غذاؤه أي: غذائها ظهرت من وجوده فيك (بالأحكام)، تكمله بها تكميل الغذاء للمتغذي.
(وهو) أي: الحق (غذاؤك بالوجود) يكمل عينك الثابتة بإفاضته عليها "بالإمداد و الإيجاد"، وإذا كنت غذاؤه، وكان غذاؤه بالمعنى المذكور؛ (فتعين عليه) من شكرك مثل (ما تعين عليك) من شكره.
فكأنه أمر كل واحد الأخر بشكره وكلفه به، (فالأمر منه إليك) بأن تشكره على إفاضة الوجود، (ومنك إليه) بأن يشكرك في إفادتك ظاهر وجوده فيك الأحكام المحدثة.
(غير أنك تسمی مكلفا) اسم مفعول، ومأمورا لما كلفك، وأمرك به من شكره مع أنك مكلف اسم فاعل.
وذلك لأنه (ما كلفك إلا بما قلت له كلفني بحالك) أي: بلسان حالك عند صيرورته غذاك بإفاضة الوجود عليك، (وبما أنت عليه) أي: وبما عليه عينك في حال ثبوتها من اقتضائها أن يكلفك شكره على صيرورته .
غذاك أعني: إفاضة الوجود عليك، والحق (لا يسمى مكلفا اسم مفعول)، ولا مأمورا، وإن كلفته وأمرته بحالك أن يشكرك على صيرورتك غذاؤه بإفاضة الأحكام المحدثة على ظاهر وجوده.
لأن لك فيما أفاض عليك من الوجود كل الكمال، وإفادتك الأحكام المحدثة لما ظهر من وجوده فيك لا تجعله كاملا في ذاته؛ بل في ظهوره المستغني عنه بالنظر إلى ذاته، فلا عبرة به.
وإذا أوجب على كل واحد من الحق والخلق شكر الأخر، وامتثال أمره بالشكر وغيره .
(فيحمدني وأحمده ) أداء لما على كل واحد من شكر الأخر، (ويعبدني وأعبده) امتثالا لما أمرته وأمرني بالشكر أطلق على الشكر اسم العبادة؛ لأنه المقصود منها سيما عند الأمر به بلسان الاستعداد، أو الحال، أو القول، ويطلق على الله تعالی مجازا ما ليصح إطلاقه عليه حقيقة . كقوله صلى الله عليه وسلم : "ضحك الله مما فعلتما البارحة" .رواه البخاري
وإذا وجب علينا شكره، وهو ذكر كمالات المشكور، وهو باعتبار استقراره في مقر غيره لا في ظهوره في المظاهر بالنسبة إلى ذاته.
(ففي حال أقر به)، وهو حال استقراره في مقر غيره نكرها شعارا بأنها نكرة لا تتعرف لعسر الوصول إليها، بل لتعذره بالكلية، (وفي الأعيان اجحده) لما لحقه باعتبار ظهوره في المحدثات من النقائص و المذام.
وإذا جحدته ( فيعرفني) من مظاهره، وإن كنت (وأنكره)؛ لأن إنكاري ظهوره في لا يخرجني من كوني من مظاهره.
وكذا إنكاري من جملة مظاهره، فإنه ينكر عند ظهوره في المظاهر أنه باعتباره مستقر في مقر غيره، وإنما هو باعتبار آخر.
وإذا أقررت به في مقر غيره لعرفه معرفة تقديسية تفيد صفاء الباطني.
(فأشهده) في مقر غيره باعتبار، وفي الأعيان أيضا غير مقيد بشيء من ذلك.
وإذا وجب عليه شكري، وامتثال أمري بلسان الاستعداد بحسب جريان السنة لرعاية الحكمة باعتبار ظهوره في المظاهر.
(فإني) له بالفناء (غني) بهذا الاعتبار، (وأنا أساعده) فيما يريد من ظهوره في المظاهر، (وأسعده) بما أفيد وجوده باعتبار ظهوره في المظاهر أحكامها .
(لذاك) أي: التكميلي ظهورك بذاته، وأسمائه وصفاته في المظاهر (الحق أوجدني)، وإذا كان إيجاده إياي لكمال ظهور وجوده، وأسمائه وصفاته التي من جملتها العلم. (فأعلمه فأوجده) في قلبي بتصوري إياه المتوجه إليه إذ في ذلك كمال لوجوده، ولعلمه بظهوره في الموجودات الخارجية والذهنية بعد كماله التام في ذاته.
(لذا جاء الحديث لنا)، وهو قوله لك حكاية عن الله: «قد مثلوني بين أعينهم»، أي: أوجدوا مثالي.
رواه الدينوري في المجالسة و المناوي فى الإتحافات السنية وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم وعبد الحق الأشبيلي في التهجد
وقوله التالية: «إن الله في قبلة المصلي، فلا يبصقن أحدكم في صلاته قبل قبلته». رواه مسلم
(وحقق في مقصده)، وهو كمال ظهره في المظهر الكامل وحصول معرفته للخلق، كما قال: "كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف" .ذكره على القاري الهروي فى مرقاة المفاتيح و ذكره العجلوني فى كشف الخفاء والسيوطي في الدر المنتثرة
ولما فرغ عن تحقيق خلة إبراهيم شرع فيما يترتب عليها فقال:
(ولما كان للخليل عليه السلام هذه المرتبة)، وهو كونه غذاء كاملا للحق، أفاد ظاهر وجوده كمالات صفات المحدثات المناسبة صفات الحق في الأول، وكون الحق غذاءه، أفاده جميع صفاته تحققا، وتخلقا.
وإليه الإشارة بقوله: (التي سمي بها خليلا)، وإن لم يسم غيره بذلك، وإن كان فيه بعض ذلك لم يكن له يد من الظهور بما يفيد التغذي للخلق؛ ليجازي على ذلك بما يزداد به تغذيا من الحق.  أي: من مقاماته التي لا نهاية لها.
(ولذلك) أي: لإرادة استكمال مقام الحلة لنفسه (سن القرى) أي: الضيافة للخلق، وبالغ في ذلك حتى (جعله ابن مسرة الجبلي مع ميكائيل للأرزاق).
قال الشيخ -رحمه الله - في الباب الثالث عشر من «الفتوحات»:
روينا عن ابن مسرة الجبلي من أكبر أهل الطريق علما وحالا وكشفا العرش المحمول هو الملك وهو محصور في جسم وروح وغذاء ومرتبة:
فآدم وإسرافيل للصور
وجبريل ومحمد للأرواح
وميكائيل وإبراهيم للأرزاق
ومالك ورضوان للوعد والوعيد
وليس في الملك إلا ما ذكر والأغذية التي هي الأرزاق حسية ومعنوية .
فالذي نذكر في هذا الباب الطريقة الواحدة التي هي بمعنى الملك لما يتعلق به من الفائدة في الطريق وتكون جملته عبارة عن القائمين بتدبيره :
فتدبر صورة عنصرية أو صورة نورية
وروحا مدبر الصورة عنصرية
وروحا مدبرا مسخرا الصورة نورية
وغذاء لصورة عنصرية
وغذاء علوم ومعارف لأرواح
ومرتبة حسية من سعادة بدخول الجنة
ومرتبة حسية من شقاوة بدخول جهنم
ومرتبة روحية علمية.أهـ

وغذاء، ومرتبة، فأدم ال وإسرافيل للصور، وجبريل ومحمد للأرواح، وإبراهيم التي و میكائیل للأرزاق، ومالك ورضوان للوعد والوعيد انتهی.
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ"
ثم قال وهم اليوم أربعة يعني في يوم الدنيا وقوله يومئذ ثمانية يعني يوم الآخرة
العرش محصور في جسم وروح وغذاء ومرتبة , يريد أن العرش الذي يحمله ثمانية المراد الملك الإلهي.
وهذا الملك مشتمل على الجسم وجسم الكل هو الصور الذي بيد إسرافيل عليه السلام من الملائكة، وبيد آدم عليه السلام من الأنبياء، من حيث هو بمنزلة الجسم الكلي للإنسان الذي هو المقصود من العالم.
ومشتمل على الروح، والروح الكلي بيد جبريل عليه السلام من الملائكة، فإنه روح القدس والروح الأمين.
وبيد محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء، فإنه أبو الأرواح كلها ومشتمل على غذاء الحق من المعادن، والنبات، والحيوانات، وكذا العناصر من النار، والهواء، والماء، والتراب.
وهو بید میكائیل عليه السلام من الملائكة، وبيد إبراهيم عليه السلام من الأنبياء، ومشتمل على مرتبة، وغايتها المراتب الأخروية في السعادة والشقاوة، ومراتب السعادة بيد رضوان، و مراتب الشقاء بيد مالك.
وإنما لم يجعل هاهنا مع الملك نبي؛ لعدم اختصاص نبي بذلك لمشاركة الكل في إفادة السعادة لمن صدقهم و أطاعهم. والشقاوة لمن كذبهم وخالفهم.
وذلك لأنه (بالأرزاق يكون تغذي المرزوقين)، فيكون مخللا للرزق في جميع أجزائهم تكميلا لها، تخلقا بخلق ربه في التكميل.
(فإذا تخلل الرزق) الظاهر (ذات المرزوق بحيث لا يبقى فيه شيء) من أعضائه (إلا تخلله) الرزق وجوبا.
(فإن الغذاء يسري في جميع أجزاء المتغذي كلها)، استحق الجزاء من الله تعالى بأن يتخلل في الإله، أو يتخلل فيه الإله باعتبار الأجزاء التصور ذلك.
ولكن (ما هنالك أجزاء)؛ لكن مقاماته تقوم مقام الأجزاء، (فلا بد أن يتخلل جميع المقامات الإلهية المعبر عنها بالأسماء فتظهر بها) أي: بتلك الأسماء في مظهر إبراهيم عليه السلام عند تخلله (ذاته جل وعلا)، فتكون صفات الحق هي الظاهرة. 
بمعنى: أنها مناسبة للصفات القديمة إذ لا يتصور انتقال تلك الصفات إلى ما ظهر في إبراهيم التي من صورة الحق، وإذا ظهر ذاته فينا بتلك الأسماء فنحن له غذاء في إفادة صفاتنا لما ظهر من صورته فينا، وإن كانت تلك الصفات مناسبة الصفات الحق .
(كما ثبتت أدلتنا) الدالة على ظهور الحق بصفات المحدثات، وبصفات النقص، وبصفات الذم من الآيات والأخبار في أول هذا الفص..
ونحن في كوننا غذاء للحق (لنا) تكمل ذاتيا وصفاتيا بما يناسب صفات الحق بظهوره بها فينا، (وليس له) أي: للحق باعتبار ظهوره فينا (سوی كوني) أي: سوی صفات المحدثات، إذ الصفات القديمة لا تنتقل إلى ما ظهر في المحدثات.
(فنحن له) في إفادة صفات المحدثات بعد صيرورتها مناسبة لصفات الحق.
(كنحن بنا) في استفادة تلك الصفات أي: المناسبة لصفات الحق (فلي) عند ظهور الحق بصفاته فينا (وجهان هو) باعتبار إن الظاهر صفاته لا كصفات سائر المحدثات.
(وأنا)  باعتبار أن تلك الصفات ليست قديمة بل حادثة متغيرة عن الأصل مقتضي عيني الثابتة.
(وليس له) إزائنا فكيف تكون الصفات فينا عين صفاته، وإن بلغت ما بلغت من الكمال؛ (ولكن في مظهره) فيكون الظاهر في عيني صورها فتكون عيني مرآة لتلك الصور.
(فنحن له) باعتبار مرآتیه عیننا (كمثل أنا) في المحلية لتلك الصور لا للذات والصفات الأزلية .
("والله يقول الحق وهو يهدي السبيل") [الأحزاب:4].
ولما كانت الحكمة المهيمية تظهر الحق بالخلق، والخلق بالحق.
نهاية الفص الإبراهيمي
وكانت الحكمة الحقيقية أكمل في هذا المعنى بحيث تظهر كل شيء بكل شيء حتى تظهر الحيوانات العجم بصور المحتمل من الأنبياء عليهم السلام عقبها بها.

فقال:
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 6:09 pm

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص الإسحاقي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية   الجزء الأول
قال الشيخ رضي الله عنه : 
(فداء نبي ذبح لقربان ... وأين ثؤاج الكبش من نوس إنسان
وعظمه الله العظيم عناية  ... بنا أو به لا أدر من أي ميزان
ولا شك أن البدن أعظم قيمة ... وقد نزلت عن ذبح كبش لقربان
فيا ليت شعري كيف ناب بذاته ... شخيص كبيش عن خليفة رحمان
ألم تدر أن الأمر فيه مرتب ... وفاء لإرباح ونقص لخسران؟
فلا خلق أعلى من جماد وبعده ... نبات على قدر يكون وأوزان
وذو الحس بعد النبت والكل عارف ... بخلاف كشفا وإيضاح برهان
وأما المسمى آدما فمقيد ... بعقل وفكر أو قلادة إيمان
بذا قال سهل المحقق مثلنا ... لأنا وإياهم بمنزل إحسان 
فمن شهد الأمر الذي قد شهدته ... يقول بقولي في خفاء وإعلان
ولا تلتفت قولا يخالف قولنا ... ولا تبذر السمراء في أمر عميان
هم الصم والبكم الذين أتى بهم ... لأسماعنا المعصوم في نص قرآن
أي: ما يتزين به، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بظهور كل شيء بكل شيء بالحق من حيث أن الكل مظهره ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى إسحاق الكي حيث تصور الكبش في المنام بصورته حتى توهم أنه فداؤه، وأنه يساويه في الجملة حتى صلح للفداء، وإليه الإشارة بقوله: (فداء نبي) بحذف همزة الاستفهام للتعجب، (بح ذبح ) بالكسر ما تهيا من الغنم للذبح، والمراد الكبش، (لقربان) أي: للتقرب إلى الله تعالی. عجب
أولا: من كونه فداء من نبي كامل مع وجوبه مقارنة الفداء للمفدى عنه، والمناسبة بينهما.
وثانيا: من إقامته مقام إفناء النفس في التقرب إلى الله تعالی.
والغرض إظهار ذلك بعد انخفائه؛ ليتمكن في النفس فضل نتمكن، وبالغ فيه أولا،
فقال: (وأين ثواج الكبش؟)
وهو صوته من (نوس إنسان) النوس: صوت سوق الإبل، والمراد صوت الإنسان حال الشدة، والغرض المبالغة في التعجب بأنه إذا لم يقم صوت أحدهما مقام صوت الأخر، مع أنه من الأغراض المتقدمة، فكيف يكون أحدهما فداء للآخر قائما مقامه؟!
ثم زاد تعجبا؛ فقال: (وعظمه الله العظيم) حيث قال: "وفديناه بذبح عظيم" [الصافات: 17]، مع غاية دنوه في الظاهر، والمعظم في غاية العظمة، فلا يليق به تعظيم ما ليس بمعظم، ثم سئل عن علة ذلك التعظيم.
فقال: (عناية به أو بنا) أي: أعظمه لكونه معتني به للحق؛ لكونه من مظاهره الجليلة، أو لكونه لما صار فداء عن أعظم المظاهر وسيا لحفظه؛ عظمه عناية بالمفدى عنه، ثم تجاهل فيما سئل، فقال: (لم أدر من أي میزان) يعرف مقدار عظمته.
ثم أشار إلى أنها لا تعرف بميزان القيمة، فقال: (ولا شك أن البدن أعظم قيمة وقد نزلت) يعني: في حق إسحاق عليه السلام، بل في حق الكل عن بع بدنة أو بقرة، (عن ذبح كبش لقربان) قيد بذلك؛ لأنها أعظم في باب الدية.
ثم ازداد تجاهلا، فقال: (يا ليت شعري كيف ناب بذاته) أي: ليس فيه من الصفات الجليلة ما يجعله صالحا لهذا المعنى.
(شخيص كبش) أي: شخص واحد حقير من هذا النوع الحقير في نظر الخلق، (عن خليفة رحمن) أي: النبي الكامل، مظهر الاسم الجامع الأكثر الأسماء. .
ثم زاد في التعجب بأن الفداء يجب أن يكون أعلى من المفدى عنه رتبة أو غبطة، فقال: (ألم تدر أن الأمر فيه) أي: الفداء (مرتب) أي: يكون الفداء ذا رتبة علية؛ لأنه (وفاء) من الفادي (لأرباح) أي: أرباح الأخذ (ونقص) أي: نقي وإسقاط من الفادي (لخسران)"أي خسران ذلك الكسب" يلحق الأخذ، وقد قال تعالى: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" [البقرة:267].
ثم أشار إلى ما صلح به الكبش للفداء، وهو أن الإنسان، وإن كان مظهرا جامعا إلهيا، فقد كثرت فيه الوجوه الإمكانية الحاجبة عن الله تعالى، فقد عارض فيه موجب البعد موجب القرب، وأما ما عداه ممن قلت فيه الأمور الإمكانية فهو أعلى من وجه، لكنه إن كثرت فيه الأمور الوجوبية صلح لفداء الإنسان الكامل وإلا فلا.
قال: (فلا شيء أعلى من جماد) لقلة الأمور الإمكانية؛ لكن قلت فيه الوجوه الوجوبية أيضا فلم يصلح للفداء، (وبعده نبات) لما زاد فيه من الأمور الإمكانية القوة المغذية والنامية والمولدة، فلم تظهر فيه زيادة الأمور الوجوبية، فلم يصلح للفداء على قدر (يكون وأوزان) يزداد بعده بقدر زيادة هذه القوى، وينقص بقدر نقصها، على أن منها ما يقرب من الحيوان كالنحلة، فيكون قريبا منه في البعد.
(وذو الحس) أي: الحيوان صاحب الحواس، (بعد النبت) لما زاد فيه بعد القوى النباتية الحواس العشر أو أقل، والقوى المحركة وهي وإن كانت من الأمور الممكنة لكنها لما كانت من أسباب العلوم أشبهت الأمور الوجوبية، فصلح بها الحيوان للفداء، فما كان منه أكثر مناسبة للإنسان الكامل كالكبش صالح لفدائه، وذلك من حيث خلوه عن الأخلاق الذميمة بخلاف سائر الحيوانات.
ثم استشعر سؤالا بأن العلو إنما يكون للمعرفة التي خلق العالم لأجلها، وليست في هذه الأشياء، فأجاب بقوله: (والكل عارف بخلاقه) علمنا ذلك منها (كشفا) لما يفعل من أفعال ذوى الشعور، (وإيضاح برهان)، وهو النص الإلهي الدال على أن الكل يسبح بحمد ربه، ولا يتأتى بدون معرفته.
وقد ورد في الحديث: "لا يسمع صوت المؤذن حجر، ولا شجر، إلا شهد له يوم القيامة" .رواه ابن حبان والبيهقي في «الشعب» والطبراني في الكبير.
وروي: "أنه عليه السلام  لما أخذ بذبح البدن جعلن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ".رواه أحمد في المسند وأبو داود  والبيهقي في السنن الكبری.
ثم أشار إلى ما في الإنسان من الأمور الإمكانية بقوله: (وأما المسمى آدم) وهو الإنسان الجامع لمراتب كل إنسان، (فمقيد) بقيود زائدة على القوى الجمادية، والنباتية، والحيوانية، إذ هو مقید (بعقل) وهو ما يدرك به الأمور الكلية المعقولة، (وفكر) وهو القوة التي تركب وتحلل بين المعاني الوهمية والصور الخيالية، (أو قلادة إيمان)، وهي الكشف الذي يدرك الحقائق الإلهية وغيرها.
أو هنا لمنع الخلو إذ مدرك الحقائق منا لا يخلو عن أحد هذين، فهذه الأمور، وإن كانت مفيدة للمعلوم؛ فهي من حيث إمكانها حجب مانعة من الوصول إلى الحق، وإن كانت من وجه آخر توصله إليه أيضا.
ثم استشهد على عرفانها وعلو رتبها بقول من تقدمه؛ فقال: (بذا) أي: بعلو رتبة هذه الأشياء وعرفانها.
محقق المتكلمين والفلاسفة، وقوله: (لأنا) متعلق بقوله: (مثلنا وإياهم بمنزل إحسان) وهو مقام قريب من مقام المشاهدة كما قال صلى الله عليه وسلم : «أن تعبد الله كأنك تراه ".رواه ابن حبان والبيهقي في الشعب ، والبيهقي في دلائل النبوة.
(فمن شهد الأمر الذي قد شهدته يقول بقولي) علي (في خفاء) أي: يعتقده في نفسه، (وإعلان) أي: يظهره في الناس، ولا يبالي إلا من غير أهله على ما سيشير إليه، (ولا تلتفت قولا يخالف قولنا)، وهو قول من حمل التسبيح في الآية على لسان الحال، مع أنه مناف لمفهوم الحديث المذكور، بل ما بعده من قوله: "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" [الإسراء: 44]، وتسبيح لسان الحال يفقهه جمع غفير من العقلاء، (ولا تبذر) الحنطة (السمراء في أرض عميان)، وهي التي لا ماء فيها وافر ولا مطر، والسمراء أحوج إلى ذلك، وهذا مثل يضرب لمن يلقي الحقائق على من لا يتم استعداده لفهمها أو الانتفاع بها.
ثم أشار إلى تعليل ذلك بقوله: (هم) أي: المخالفون (الصم) عن استماع الحقائق، (والبكم) عن النطق بها، لو سمعوا وفهموا (الذين أتى بهم عن الكذب في كل ما أخبر، فهؤلاء من جملتهم وإن تأخروا عن عصره في نص القرآن) وهو قوله تعالى: "صم بكم عمي فهم لا يعقلون" [البقرة: 171].
وهي وإن وردت في حق الكفرة؛ فليس بعجب، لغشيان ظلمة الكفر عليهم، وهؤلاء مع تنورهم بنور العلم قد حجبوا عن ذلك، فهم أعجب حالا منهم، فكأنها منحصرة في هؤلاء.
قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أيدنا الله وإياك أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال لابنه: «إني أرى في المنام أني أذبحك» [الصافات: 102] والمنام حضرة الخيال فلم يعبرها.
وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام فصدق إبراهيم الرؤيا، ففداه ربه من وهم إبراهيم بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله تعالى وهو لا يشعر.
فالتجلي الصوري في حضرة الخيال محتاج إلى علم آخر يدرك به ما أراد الله تعالى بتلك الصورة.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ألا ترى كيف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في تعبير الرؤيا: «أصبت بعضا وأخطأت بعضا» فسأله أبو بكر أن يعرفه ما أصاب فيه وما أخطأ فلم يفعل.
وقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام حين ناداه: «أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا» [الصافات: 105] وما قال له صدقت في الرؤيا أنه ابنك: لأنه ما عبرها، بل أخذ بظاهر ما رأى، والرؤيا تطلب التعبير. )
ثم أشار إلى أن القول بالفداء أمر متوهم، وإن ثبت بظاهر النص، وما ذكرنا مبني على صحته.
فقال: (اعلم أيدنا الله وإياك) دعا الشيخ رضي الله عنه إشعارا بصعوبة هذا المقام، وقد وقع فيه السهو لإبراهيم عليه السلام (أن إبراهيم الخليل عليه السلام) وصفه بذلك إشعارا بأنه مع علو رتبته قد وقع له ما وقع.
قال لابنه إسحاق عليه السلام"إني أرى في المنام أي أذبحك" [الصافات: 102] ، ورؤياي حق فلا بد أن يقع كما رأيت، أو يقع تأويله لكن لا يناسب.
ولدي شيء آخر من كل ما يذبح في الكمال فلا يقع الأعين، ما رأيت فيها وإلا الوقع الذبح عليه، ولم يقع إلا على الكبش، ورؤيا الأنبياء يجوز أن يقع تأويلها.
وذلك أن (لمنام حضرة الخيال) وهو كما قد يصور المرئي بصورته ما يناسبه بوجه ما، وظن أن رؤياه من قبيل الأول؛ لبعد المناسبة بين ابنه وبين سائر الأشياء سيما الكبش، (لم يعبرها) أن رؤياه، وسها في ذلك، (وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم عليه السلام في المنام) لوقوع الذبح عليه، والواقع في الحس هو المرئي في المنام، سواء كان بعين صورته، أو بما يناسبها.
(صدق إبراهيم عليه السلام الرؤيا) أي: ظاهر ما رأى فأجرى السكين على حلقوم ابنه، ولو عبر الصدق تأويله دون ظاهره، فلما صدقه إبراهيم عليه السلام بوهمه؛ ساعده ربه على ذلك، فـ (فداه ربه من وهم إبراهيم عليه السلام) إذ الواقع عليه الذبح هو ابنه (الذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله) حيث وقع الذبح عليه فسماه فداء.
وإن كان هو المرئي في المنام بصورة ابنه مساعدة لإبراهيم ال، (وهو لا يشعر) تعبير رؤياه، وإلا لم يجر السكين على حلقوم ابنه.
وهذا إشارة إلى مساعدة الحق إياه فيما توهم ولم يشعر، فكيف لا يساعده فيما يشعر؟ وإثبات الوهم والسهو لا يبعد في حق الأنبياء عليهم السلام؛ فإنه وقع السهو لنبينا عليه السلام في الصلاة في حديث ذي اليدين، وفي الاجتهاد في أسارى بدر، وما قيل لو سها لوجبت متابعته لقوله تعالى: "فاتبعوه" [الأنعام: 153].
ولكان من لا يسهو من آحاد الأمة خيرا منه؛ مردود بأن الاتباع لا يجب في أمور كثيرة كخواصه عليه السلام ، والأفعال المباحة له، فهو عام مخصوص لا يبعد تخصيصه مما وقع فيه سهو، ولا بد وأن يظهر إذ لا يقر عليه السلام على ذلك.
وكون الأحاد أحسن حالا في بعض الأمور الدنيئة لا ينافي علو رتبته عليه السلام كما في حديث تأبير النحل حيث قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»رواه البخاري ومسلم.
إذا لم يشعر إبراهيم العلية مع كمال علمه بالحقائق بتأويل ما رآه مصورا بصورة ابنه في حضرة الخيال، (فالتجلي الصوري) قید به؛ لأن التجلي المعنوي لا يحتاج إلى شيء، إذ لا التباس لبعض المعاني بالبعض عند انكشافها صريحة، بخلاف ما إذا انكشف مصورة (في حضرة الخيال) في يقظة أو منام.
فإنه (يحتاج إلى علم آخر) وراء علم الحقائق التي يجب الاطلاع عليها لمن كان نبيا أو وليا (يدرك به ما أراد الله بتلك الصورة) مما يناسبها بوجه ما، وقد يعرفها من ليس له قدم راسخ في الحقائق، ويجهلها الراسخون.
(ألا ترى كيف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر) مع رسوخه في معرفة الحقائق (في تعبيره الرؤيا)، وهو ما روي: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال: إني رأيت ظلة ينطف منها السمن والعسل، وأرى الناس يتكففون في أيديهم فالمستكثر والمستقل، وأرى سبا وأهلا من السماء إلى الأرض، فأراك يا رسول الله أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل اخر فعلا، ثم اخذ به رجل اخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع، ثم وصل له فعلا، فقال ابو بكر: أي رسول الله بأبي أنت وأمي - والله لتدعني فأعبرها.
فقال: اعبرها، فقال: أما الظلة؛ فظلة الإسلام، وأما ما ينطف من السمن والعسل؛ فهو القرآن لينه وحلاوته، وأما المستكثر والمستقل؛ فهو المستكثر من القرآن، والمستقل منه.
وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه نأخذ به، فيعليك الله، ثم يأخذ به بعدك رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر بعده فيعلو به، ثم يأخذ به رجل أخر بعده فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به.
أي رسول الله لتحدثني أصبت أم أخطأت؟.
فقال : "أصبت بعضا، وأخطأت بعضا"، فقال: أقسمت بأبي أنت وأمي يا رسول الله لتحدثني ما الذي أصبت، وما الذي أخطأت، فقال عليه السلام: «لا تقسم»، متفق عليه .
وإليه الإشارة بقوله: (فسأله أبو بكر أن يعرفه ما أصاب فيه، وما اخطأ فلم يفعل ) إشعارا بأن الجهل بذلك لا يضر الكامل إذا رسخ في معرفة الحقائق، وبأن تعرف مثله بالاجتهاد أولى، إذ بذلك يحصل له ملكة في معرفة تأويلات سائر الصور الخيالية، والذي يلوح لخاطري الفاتر أن أبا بكر أخطأ في تفسير الظلة بالإسلام مع أنها ينطف منها القرآن، والقرآن لا ينطف من الإسلام، بل من الحضرة الإلهية، فالأولى تفسيرها بها؛ فهو إشارة بأننا تحت ظلة الحضرة الإلهية التي ينطف منها القرآن، وأخطأ أيضا في تفسير السبب بأنه الدين الحق، إذ لم يحصل الانقطاع لعثمان فله قط في أمر دينه بل في خلافته.
فالأولى تفسيرها بالخلافة وقعت فيها الفترة في أمر عثمان، ثم وصلت بعلي له فعلا بذلك أمر عثمان إذ قام علي مقامه، وكأنه باق على حاله.
وألا ترى كيف (قال الله تعالى لإبراهيم) مع رسوخه في معرفة الحقائق أكبر من معرفة رسوخ أبي بكر وغيره (حين ناداه:" أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا" [الصافات: 105]  أي: جعلتها صادقة على الإطلاق مع أن ظاهرها ليس كذلك، وإن كانت رؤيا الأنبياء صادقة، إما في الظاهر أو في التأويل.
(وما قال له): صدقت في الرؤيا بحيث تطابق رؤياك الواقع من كل وجه، فلم يساعده في هذا الموضع، وإن ساعده في جعل الكبش فداء لابنه؛ لأن المساعدة فيما هو جهل محض تجهيل لا يليق بالحق تعالى.
إذ لو كان وهم إبراهيم علما لقال له: (صدقت في الرؤيا إنه ابنك)، وإنما قال له:(قد صدقت الرؤيا ) "أي: حققت ما أمرناك به في المنام ، من تسليم الولد للذبح ، وبالعزم والإتيان بالمقدمات." مع أنها ما صدقت بحسب الظاهر (لأنه ما عبرها)؛ لأن التعبير تكذيب للظاهر، وإن كان صادقا في التأويل، وهو ما عبرها (بل أخذ بظاهر ما رأى والرؤيا) أي: ورؤياه (تطلب التعبير) أي: ولطلب الرؤيا التعبير بحيث يعرفه أكثر العقلاء، وإن التبس على إبراهيم التي في رؤياه هذه لبعد المناسبة.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولذلك قال العزيز "إن كنتم للرؤيا تعبرون"[يوسف: 43] . ومعنى التعبير الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر.
فكانت البقر سنين في المحل والخصب.
فلو صدق في الرؤيا لذبح ابنه، وإنما صدق الرؤيا في أن ذلك عين ولده، وما كان عند الله إلا الذبح العظيم في صورة ولده ففداه لما وقع في ذهن إبراهيم عليه السلام: ما هو فداء في نفس الأمر عند الله. فصور الحس الذبح وصور الخيال ابن إبراهيم عليه السلام. فلو رأى الكبش في الخيال لعبره بابنه أو بأمر آخر.
ثم قال «إن هذا لهو البلاء المبين» [الصافات: 106]أي الاختبار المبين أي الظاهر يعني الاختبار في العلم: هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا؟
لأنه يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير: فغفل فما وفى الموطن حقه، وصدق الرؤيا لهذا السبب )
"" أضاف المحقق : أخبر سبحانه أن هذا بلاء ظاهر أي: هذا بلاء في الظاهر ولكن لا يكون في الباطن بلاء؛ لأنه في الحقيقة بلوغ منازل المشاهدات، وشهود لأسرار حقائق المكاشفات، وهذه من عظائم القربات، وأصل البلاء ما يحجبك عن مشاهدة الحق لحظة، ولم يقع هذا البلاء بين الله وبين قلوب المصطادين بشبكات محبة القدم قط؛ فإن قلوبهم تحت غواشي أنوار سبحات وجهه فانية، وكيف يقع عليها البلاء وهي تفني في جمال الحق؟! إن كنت تريد بلائهم فإنه تعالی بلاؤهم، وذلك البلاء لا ينقطع عنهم أبدا، ويمنع هذا البلاء جميع البلاء عنهم.""
(قال العزيز) ملك مصر: فإن القائل: "إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات ځضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون " [يوسف: 43].
ثم استشعر سؤالا بأنه قال: تعبرون بالتخفيف، والتعبير الذي تحتاج إليه الرؤيا مصدر المشدد، فأجاب عنه بقوله: (ومعنى التعبير: الجواز) أي: العبور (من صورة ما رآه إلى أمر آخر) لعدم انضباط الخيال فيه حتى يأتي في كل مرة بما هو مثال تام للمرئي بل كثيرا ما يأتي بما يناسبه مناسبة بعيدة جدا.
فمعنى التعبير جعل الصورة المرئية عابرة إلى ما يقع في الحس، وقد حصل هذا العبور في رؤيا الملك (فكانت البقر) العجاف (سنين في المحل) والبقر السمان في (الخصب) كما قال يوسف عليه السلام مع بعد مناسبة البقر مع السنة.
ولذلك جعل معبر و عصره رؤياه من أضغاث الأحلام.
وقالوا:" وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين " [يوسف: 44]، فلم يطلع عليه إلا يوسف بنور النبوة.
ثم أشار إلى أن مساعدة الحق إبراهيم عليه السلام في وهمه يجعل الكبش فداء لا تستلزم مساعدته أباه في جعله صادقا في رؤياه، بحيث لا يلبس عليه الخيال صورة الحس بصورة بقرة.
فقال: (فلو صدق) إبراهيم (في الرؤيا) أي: في عين ما رأى أنه ابنه (لذبح ابنه) أي: الوقع الذبح عليه دون الكبش.
ولكنه (إنما صدق) إبراهيم (الرؤيا) على ظن أن خياله لا يلتبس عليه كما هو حاله في الأكثر يقظة ومناما مع بعد المناسبة جدا، فصدق رؤياه (في أن ذلك) المرئي (عين ولده) مع أنها كانت كاذبة في الظاهر غير مساعدة من جانب الحق.
وذلك لأنه (ما كان) المرئي (عند الله إلا الذبح العظيم) ظهر في المنام (في صورة ولده)، لأنه الذي وقع عليه الذبح في عالم الحس والواقع في عالم الحس:
هو الثابت في العلم الأزلي بالنظر إلى نفس الأمر، وإن كان غيره أيضا ثابتا فيه بالنظر إلى أمور أخرى؛ لكنه تعالی اعتبر ذلك أيضا لوقوعه في مظهره الكامل الذي هو إبراهيم عليه السلام
(ففداه) أي: فجعله الله فداء ولده (لما وقع في ذهن إبراهيم عليه السلام ) فجعل الواقع فيه كالواقع في العلم الأزلي بالنظر إلى نفس الأمر.
ومع ذلك (ما هو فداء في نفس الأمر عند الله) بالنظر إلى علمه الناظر إلى ما هو نفس الأمر بالحقيقة؛ لكن العلمان لما صارا معتبرين أظهر لهما صورتين، (فصور الحس الذبح) على وفق العلم الناظر إلى نفس الأمر بالحقيقة.
(وصور الخيال ابن إبراهيم عليهم السلام) على وفق العلم الناظر إلى أمور أخرى فوجب التحالف فيما ظهر من صورهما، (فلو رأى) إبراهيم التي (الكبش في الخيال) نوما أو يقظة (لعبره) الحس (بابنه أو بأمر آخر)؛ لأن هذه المخالفة واقعة في العلم الأزلي، فلا بد من ظهورها هاهنا.
ثم أي: بعد ما اعتبر الحق وهمه من وجه دون وجه (قال: إن هذا هو البلؤا المبين" [الصافات: 106] أي: الاختبار) المبين أي: (الظاهر).
ولما كان المشهود أنه اختبره في أنه هل يذبح ولده أم لا؟
قال: (يعني: الاختبار في العلم) إذا الاختبار بذبح الولد أو النفس، إنما يليق في حق العامة، ولما الأنبياء لا يتأتى منهم مخالفة أمر الحق أصلا لعصمتهم، ولكنهم يختبرون في العلم هل يقتصرون في مطالعة العلم الأزلي إلى ما هو بالنظر إلى مظاهرهم.
وإلى ما هو بالنظر إلى نفس الأمر، وقد وجب هذا النظر حيث كان الكشف في الرؤيا المقتضية للتعبير غالبا من صورة ما رأى في المظهر إلى ما هو بالنظر إلى نفس الأمر.
فاختبر (هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا؟) لظنه أن ما ظهر في المظهر الكامل لا بد وأن يوافق العلم الأزلي بالنظر إلى نفس الأمر، وقد بينها؛ فإن هذا إن تم فهو في غير الكشف الصوري لا محالة.
بخلاف ما ظهر في الكشف الصوري غالبا؛ (لأنه يعلم أن موطن الخيال)، وهو الكشف الصوري مناما أو يقظة (يطلب التعبير) غالبا (فغفل ) عن هذا الاقتضاء اعتمادا على أن ما يظهره في المظهر الكامل لا بد وأن يوافق العلم الأزلي بحسب نفس الأمر.
وغفل عن أنه قد يكون بحسب التأويل، وقد يكون بحسب الظاهر (فما وفي الموطن حقه)، وإن وضحه الحق تعالى بأنه الذي وفي لوفائه حق معرفة الحقائق.
وهذه معرفة دنيئة بالنسبة إليها؛ فلا يحل نقضها بمطلق الوفاء، (وصدق الرؤيا لهذا السبب) أي: بسبب الغفلة المذكورة مع أن الحق وصفه على الإطلاق بأنه الذي وفي؛ ولكنه صار موفيا لحق كل موطن بعده فبقي قوله تعالى: "وإبراهيم الذي وفى" [النجم: 37] على الإطلاق حقيقة بعدما كان بحارا.
قال الشيخ رضي الله عنه : (كما فعل تقي بن مخلد الإمام صاحب المسند، سمع في الخبر الذي ثبت عنده أنه عليه السلام قال: «من رآني في النوم فقد رآني في اليقظة فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي» فرآه تقي بن مخلد وسقاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤيا لبنا فصدق تقي بن مخلد رؤياه فاستقاء فقاء لبنا.
ولو عبر رؤياه لكان ذلك اللبن علما. فحرمه الله علما كثيرا على قدر ما شرب. )
"" قال الشيخ الأكبر فى الفتوحات الباب السادس والثمانون ومائتان: 
والوحي على ضروب شتى و يتضمنه هذا المنزل فمنه ما يكون متلقى بالخيال كالمبشرات في عالم الخيال : وهو الوحي في النوم .
فالمتلقى خيال والنازل  كذلك والوحي كذلك ومنه ما يكون خيالا في حس على ذي حس .
ومنه ما يكون معنى يجده الموحى إليه في نفسه من غير تعلق حس ولا خيال بمن نزل به وقد يكون كتابة ويقع كثيرا للأولياء .
وبه كان يوحى لأبي عبد الله قضيب البان ولأبي زكريا البجائي بالمعرة بدير النقرة ولتقى بن مخلد تلميذ أحمد بن حنبل صاحب المسند ولكن كان أضعف الجماعة في ذلك .
فكان لا يجده إلا بعد القيام من النوم مكتوبا في ورقة ومما يتضمن هذا المنزل خلق الأعراض صورا ذوات قائمة متحيزة في رأى العين.
فاعلم أن الإنسان إذا جاء الله به إليه جمعه عليه جمعية لا تفرقة فيها حتى يهبه الله تعالى في ذلك ما يريد أن يهبه مما سبق في علمه ""
ثم أشار إلى أن الرؤيا كثيرا ما تكون على ما يعينه فيها بمساعدة الحق صاحبها، وإن كان غير نبي وولي، فما فعله إبراهيم عليه السلام (كما فعل بقي بن مخلد الإمام صاحب المسند) في الحديث، وذلك أنه (سمع في الخبر الذي ثبت عنده) بحسب اللفظ، وإن لم يبلغ حقيقة معناه أنه عليه السلام  قال: "من رآني في النوم، فقد رآني في اليقظة، لا تلبس فيها من الشيطان، فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي"رواه أحمد في المسند وابن ماجه
وإن كان قد يتمثل بصور أخرى ، ويزعم أنه النبي أو فلان، ويلبس بذلك فيما يأمر وينهي ويخبر فظن أن المرئي على صورته عليه السلام يكون عينها لأمثالها، ويكون ما يرى في ذلك المنام عين الواقع لأمثاله.
فرآه) أي: النبي صلى الله عليه وسلم (بقي بن مخلد وسقاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤيا لبنا، فصدق بقي بن مخلد رؤیاه) أنه صلى الله عليه وسلم عين اللبن فساعده الله في هذا الاعتقاد، وإن كان تعبير رؤياه عنده فلو عبره العلم فجعله لبنا في بطنه.
(فاستقاء) اختبارا الصحة الحديث بحسب ما فهم منه (فقاء لبنا، ولو عبر رؤياه) بالعلم الذي هو غذاء الروح كاللبن للجسم.
(لكان ذلك اللبن) المرئي في المنام (علما) له في الواقع بقدر ما شربه، فلما لم يعبره فاته ذلك العلم (فحرمه الله علما كثيرا) كان يحصل له لو عبر رؤياه (على قدر ما شرب ) من اللبن.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي في المنام بقدح لبن: «فشربته حتى خرج الري من أظافيري ثم أعطيت فضلي عمر».
قيل ما أولته يا رسول الله؟ قال العلم.
وما تركه لبنا على  صورة ما رآه لعلمه بموطن الرؤيا وما تقتضيه من التعبير.  وقد علم أن صورة النبي صلى الله عليه وسلم التي شاهدها الحس أنها في المدينة مدفونة، وأن صورة روحه ولطيفته ما شاهدها أحد من أحد ولا من نفسه.  كل روح بهذه المثابة
فتتجسد له روح النبي في المنام بصورة جسده كما مات عليه لا يخرم منه شيء.
فهو محمد صلى الله عليه وسلم المرئي من حيث روحه في صورة جسدية تشبه المدفونة لا يمكن للشيطان أن يتصور بصورة جسده صلى الله عليه وسلم عصما من الله في حق الرائي. )
ثم أشار إلى أنه كيف فاته هذا التعبير، وقد وقع فيما رآه رسول الله بنفسه.
فقال: "ألا ترى رسول الله و أتي في المنام بقدح لبن قال: فشربته" فارتوي مني كل
عضو (حتى خرج الري من أظفاري) التي هي أطراف أعضائي، (ثم أعطيت فضلي عمر) أي: فضل ما بقي في إنائي (قيل: ما أولته يا رسول الله، قال: العلم)؛ فهو إرتواؤه صلى الله عليه وسلم من العلم، وسريان نوره في كل عضو منه، وقد أعطى من فضل ذلك العلم، وبقيته عمر رضي الله عنه ولذلك قال فيه ابن عباس يوم مات: "اليوم مات تسعة أعشار العلم ".
فالحاصل أنه صلى الله عليه وسلم مع كمال حاله عبره، (وما تركه لبنا على صورة ما رآه، لعلمه بموطن الرؤيا) وإن كانت رؤيا أكمل الخلائق.
(وما يقتضيه من التعبير) أي: ولعلمه بمقتضى الرؤيا من التعبير بحسب الحالة الغالبة عليه.
ثم أشار إلى أن بقي بن مخلد كيف لم يجعل صورته عليه السلام ، وصورة ما يرى في ذلك المنام من عالم المثال.
(وقد علم أن صورة النبي و التي شاهدها الحس إنها) بالكسر ، وهي مع الجملة خبر أن (في المدينة مدفونة) لم تخرج وقت الرؤيا عن القبر، (وأن) بفتح الهمزة (صورة روحه ولطيفته) أي: قبله (ما شاهدها أحد من أحد) غيره (ولا من نفسه) ولا يختص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم لفضل لطافته، بل (كل روح بهذه المثابة)؛ لأنها مجردة في مجردات لا تصير محسوسة، وإذا لم يكن المرائي في المنام جسمه ولا روحه ولا قلبه (فتجسد) أي: يتمثل له أي: المرئي (روح النبي ) في المنام (بصورة جسده) صورة تامة المطابقة (كما مات عليه)، لا كما كان عليه حال الشباب أو الطفولية، (لا يخرم) أي: لا ينقص منه أي: من (المرئي) في المنام (شيء) من الصورة التي مات عليها صلى الله عليه وسلم .
(فهو) أي: الظاهر في المنام بأنه النبي (محمد صلى الله عليه وسلم المرئي من حيث روحه في صورة) جسدية أي: مثالية (تشبه الصورة (المدفونة) له صلى الله عليه وسلم ، إذ لو كان المرئي غيره لم يصدق في حقه؛ فقد رآني.
ولا يمكن من حيث جسده لما مر، ولا من حيث قلبه؛ لأنه تابع لروحه فلا يمكن رؤيته بدونه، ولا منه حيث نفسه لفنائها.
ولو لم تشبه المدفونة لم تصدق عليه رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يؤمن فيها من تلبيس الشيطان، بخلاف ما إذا كانت مشابها للمدفونة؛ فإنه (لا يمكن للشيطان أن يتصور بصورة جسده صلى الله عليه وسلم ، عصمة من الله في حق الرائي) لئلا يضله الشيطان بصورة الهادي بحيث لا يمكن التميز بينهما.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولهذا من رآه بهذه الصورة يأخذ عنه جميع ما يأمره أو ينهاه عنه أو يخبره كما كان يأخذ عنه في الحياة الدنيا من الأحكام على حسب ما يكون منه اللفظ الدال عليه من نص أو ظاهر أو مجمل أو ما كان فإن أعصاه شيئا فإن ذلك الشيء هو الذي يدخله التعبير، فإن خرج في الحس كما كان في الخيال فتلك رؤيا لا تعبير لها.  وبهذا القدر وعليه اعتمد إبراهيم عليه السلام وتقي بن مخلد.) 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولما كان للرؤيا هذان الوجهان. وعلمنا الله: فيما فعل بإبراهيم وما قال له: الأدب لما يعطيه مقام النبوة، علمنا في رؤيتنا الحق تعالى في صورة يردها الدليل العقلي أن نعبر تلك الصورة بالحق المشروع إما في حق حال الرائي أو المكان الذي رآه فيه أو هما معا. وإن لم يردها الدليل العقلي أبقيناها على ما رأيناها كما نرى الحق في الآخرة سواء.)
هو الذي يدخله التعبير، فإن خرج في الحس كما كان في الخيال فتلك رؤيا لا تعبير لها، وبهذا القدر وعليه اعتمد إبراهيم الخليل التي وبقي بن مخلد، ولما كان للرؤيا هذان الوجهان، وعلمنا الله فيما فعل بإبراهيم وما قال له الأدب لما يعطيه مقام النبوة علمنا في رؤيتنا الحق تعالی في صورة يدها الدليل العقلي أن تعبر تلك الصورة بالحق المشروع، وأما في حق حال الرائي أو المكان الذي رآه فيه أو هما معا، فإن لم يردها الدليل العقلي أبقيناها على ما رأيناها، كما ترى الحق في الآخرة سواء).
(وهذا) أي: ولأجل عصمة الله تعالى الرائي من إضلال الشيطان في هذه الرؤيا (يأخذ منه جميع ما يأمره به أو ينهاه) أو غيره مما يخبره إذا ضبطه.
لكن قلما يتأتى ذلك للنائم، (كما كان يأخذ عنه صلى الله عليه وسلم  في الحياة الدنيا من) هذه الأمور (على حسب ما يكون).
أي: يصدر (منه اللفظ الدال عليه من نص أو ظاهر)، وهما ما اتضحت دلالتهما على المقصود مع قطع احتمال الغير في الأول دون الثاني (أو مجمل)، وهو ما لا تتضح دلالته على أحد الأمرين، (أو ما كان) فلا مدخل للتأويل في صورته، ولا فيما يأخذ عنه إلا فيما يقتضيه اللفظ لو صدر عنه حال الحياة.
فإن أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم (شيئا) مما يدخل تحت الحواس الظاهرة، (فإن ذلك الشيء هو الذي يدخله التعبير)؛ لأن الصور الخيالية كثيرا ما تغاير الصور المحسوسة للأشياء مع أخذ مناسبة بينهما؛ لكن لا يجب تأويله بكل حال، (فإن خرج في الحس كما كان في الخيال) لعدم تلبيس الخيال على الرائي.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 6:10 pm

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص الإسحاقي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية   الجزء الثاني
(فتلك الرؤيا لا تعبير لها)، وهذا في بعض المواطن، (وبهذا القدر) القليل من الرؤيا الغير مفتقرة إلى التعبير، (وعليه اعتمد إبراهيم الخليل عليه السلام ، وبقي بن مخلد) في رؤياهما من غير نظر إلى حالهما في وقت الرؤيا هل كانا من تلبس عليهما الخيال أم لا؟
ولما كان شرط جوابه في قوله: «علمنا في رؤيتنا» (للرؤيا هذان الوجهان) المطابقة التامة لما في الحس تارة، والمغايرة مع اعتبار مناسبة جلية لو خفية أخرى، (وعلمنا الله فيما فعل بإبراهيم) من الفداء؛ لأنه لما وقع في ذهنه الأدب إذ لم يكذب ظنه بالكلية.
(وما قال له) أي: وعلمنا فيما قال له: قد صدقت الرؤيا ، ولم يقل: لبس عليك خيالك فرأيت الكبش في صورة ابنك.
(الأدب) إذ تأدب مع جلالة قدره معه (لما يعطيه)أي: يقتضيه (مقام النبوة) من رعاية الأدب فنحن أولى برعايته مع الحق إذا رأيناه على خلاف ما يقتضيه الدليل العقلي؛ لما يقتضيه غاية جلالة قدره لمكان ربوبيته مع غاية دناءة   قدرنا فلا نردها بالكلية، فحينئذ (علمنا في رؤيتنا الحق تعالى في صورة يردها الدليل العقلي) لعدم كونه منزها ينزهه الدليل العقلي.
إنه يجب علينا (أن نعبر تلك الصورة) المرئية باسم الحق في المنام (بالحق المشروع) لاشتراكهما في الاسم، وكثيرا ما يعبر عن أحد المتشاركين في الاسم إلى الأخر.
وهذا الحق المشروع (إما في حق حال الرائي) يكون عليه لغيره، أو يكون له على غيره (أو المكان الذي رآه) أي: الحق (فيه) على الصورة المنكرة بأن يكون مغصوبا أو موقوفا، (أو هما معا) أي: في حق الرائي والمكان مقا بأن يكون متلفا لمنافع ذلك المكان على مستحقه.
(وإن لم يردها) أي: الصورة المرئية باسم الحق ( الدليل العقلي) لكونها على التنزيه التام (أبقيناها على ما رأيناها) فلانا، ولها بالحق المشروع إذ لم يلبس الخيال في ذلك علينا شيئا.
ثم قال: وهذا الاختلاف في رؤية الحق في المنام، (كما نرى الحق في الآخرة سواء) فإنه قد يرى في الآخرة على التنزيه التام تارة، وعلى الصور المنكرة أخرى، كما ورد في الحديث.
وفي قوله: "سواء" إشارة إلى أن عالم الأخرة، وإن كان محسوسا، وعالم المنام، وإن كان خياليا، فهما في الاختلاف المذكور لصور الأشياء سواء.
ولذلك يختلف صور الإنسان هناك فيحشر بعضهم على صور القردة، وبعضهم على صور الخنازير.
قال الشيخ رضي الله عنه :
فللواحد الرحمن في كل موطن ... من الصور ما يخفي وما هو ظاهر
فإن قلت هذا الحق قد تك صادقا ... وإن قلت أمرا آخرا أنت عابر
وما حكمه في موطن دون موطن ... ولكنه بالحق للخلق سافر
إذا ما تجلى للعيون ترده ... عقول ببرهان عليه تثابر
ويقبل في مجلي العقول وفي الذي ... يسمى خيالا والصحيح النواظر
وإذا كان للمحق صور مختلفة في المنام والآخرة (فللواحد الرحمن) أي: للحق مع وحدته باعتبار عموم رحمته الموجبة ظهوره في كل مظهر بحسب استعداده (في كل موطن) من مواطن الدنيا، والبرزخ، والآخرة، وغيرهما (من الصور ما يخفی) كالصور الروحانية مظاهر تنزيهه، (وما هو ظاهر) كصور العالم التي هي صور اسمه الظاهر إذا ظهر بها الإنسان.
(فإن قلت) عند رؤيته في بعض هذه الصور خفية أو ظاهرة (هذا المرئي هو (الحق قد تك صادقا) باعتبار ما لها من المناسبة مع الحق، وإن كنت كاذبا باعتبار ما بينهما من المغايرة، وإن كانت الصورة تنزيهية؛ لأنه غير مقيد بذلك.
(وإن قلت) هذا المرئي (أمرا آخر) غير الحق باعتبار المغايرة (أنت عابر) حينئذ
من الحق الظاهر بتلك الصورة التنزيهية إلى ما تحقق به مع أنه معدوم بنفسه.
فأنت مع الحق بكل حال، وإن عبرت عنه.
وإليه الإشارة بقوله: (وما حكمه في موطن دون موطن)، إذ لا يختص بالمظاهر التنزيهية أو التشبيهية؛ (ولكنه) أي كل موطن (بالحق) الظاهر فيه بالصورة التنزيهية أو التشبيهية (للخلق) أي: لتحقيق وجود الخلق (سافر) أي ظاهر، وإن كان الظهور للحق ظاهره أو باطنه فيه.
ولما اختلفت الأنظار في أن الظاهر حق في أنه كل ظاهر لم يختص بالبعض.
قال : (إذا ما تجلى للعيون) في الصور المحسوسة (ترده عقول ببرهان عليه).
أي: على ذلك البرهان، (تثابر) أي: تداوم العقول.
وإن سمعت في الأخبار الصحيحة ظهوره يوم القيامة في الصورة المنكرة، ويقبل ظهوره عند الكل (في مجلى العقول) أي: مظاهر العقول العشرة، أو الصور المعقولة، أو الروحانية لكون الصورة الظاهرة فيها تنزيهية، وتقبل عند الأكبر
(في) المجلي (الذي يسمى خيالا).
أي: الصور المتخيلة في المنام أو اليقظة، وتقبل ظهوره عند أهل الكشف في (الصحيح النواظر) أي: في القلب الذي صارت بصيرته صحيحة، فوقع الفرق بين ظهوراته في نظر هؤلاء مع أنه ظاهر في الكل مما قبلوا فيه الظهور، أو ردوه، والنواظر مرفوع على فاعلية الصحيح، وهو مجرور بالعطف على محلى العقول .
""قال عبد الرحمن الجامي: أي شهود النواظر المشار إليها في القرآن، والتي تشاهد الحق سبحانه في المحالي كلها حسية كانت، أو مثالية أو عقلية""
يقول الشيخ رضي الله عنه : -
(يقول أبو يزيد في هذا المقام لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بها.
وهذا وسع أبي يزيد في عالم الأجسام. بل أقول لو أن ما لا يتناهى وجوده يقدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بذلك في علمه.
فإنه قد ثبت أن القلب وسع الحق ومع ذلك ما اتصف بالري فلو امتلأ ارتوى.
وقد قال ذلك أبو يزيد. ولقد نبهنا على هذا المقام بقولنا:
يا خالق الأشياء في نفسه ... أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه فيه ... بك فأنت الضيق الواسع
لو أن ما قد خلق الله ما لاح ... بقلبي فجره الساطع
من وسع الحق فما ضاق عن ... خلق فكيف الأمر يا سامع؟)
ثم بين أنه متى يكون صحيح النواظر بقوله: (يقول أبو يزيد في هذا المقام) أي: مقام كون القلب صحيح النواظر (لو أن العرش وما حواه) العرش من الأجسام (مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف) قيد بذلك؛ لأن الشيء العظيم في المكان الضيق يكون أظهر في نظر الرائي مما يكون في مكان أوسع (ما أحس به) لغاية سعة تلك الزاوية فضلا عن مجموع القلب اتسع لرؤية الحق في الأشياء، فاقتصر نظره على الظاهر فيها دون المظاهر مع أنه يراه فيها؛ فهي أيضا في قلبه.
قال الشيخ رضي الله عنه (وهذا) أي: تقييد ظهور الحق للقلب في عالم الأجسام المقدرة بهذا المقدار، (وسع) قلب أبي يزيد في ظهور الحق (في عالم الأجسام) مع أنه يظهر له في عالم الأرواح والمعاني، ولا نسبة لسعته إلى عالم الأجسام، فليس هذا نهاية سعة قلب العارف ولا قلب أبي يزيد على الإطلاق، بل باعتبار حالة مخصوصة له.
(بل أقول) في بيان غاية سعة قلب العارف (لو أن ما لا يتناهی وجوده) من عالم الأرواح والمعاني (يقدر انتهاء وجوده)؛ لتمكن إحاطة العارف بذلك وحصره إياه؛ فإنه ينافي كونه غير متناه (مع العين الموجدة له)، وهو أن يراه في المظاهر كلها وفي مقر عينه أيضا (في زاوية من زوايا قلب العارف؛ ما أحس بذلك في علمه)، فإن القلب وإن كان متناهيا فما فيه من العلم غير متناه، فكذا فيما يتجلى له من الحق سواء ظهر في المحالي، أو في مقر عينه لغاية سعته؛ (فإنه قد ثبت أن القلب وسع الحق) المتجلي في المحالي، وفي مقر عينه في قوله: «ما وسعني سمائي ولا أرضي؛ ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن». ذكره المناوي في فيض القدير وزين الدين عبد الرحمن البغدادي في جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا و شمس الدين السخاوي في المقاصد الحسنة والعجلوني في ?شف الخفاء.
(ومع ذلك) أي: ومع تجلي الحق فيه باعتبار ظهوره في الحالي، وفي مقر عينه (ما اتصف بالري)؛ بل ازداد عطشا إلى تجلياته المتجددة أناء فآناء امتلائه لغاية سعته، (فلو امتلأ) بما تجلى فيه بلا نهاية (ارتوی).
إذ لا يتصور عطش الممتلئ بالماء، (وقد قال ذلك) أي: بعدم ارتواء القلب بما شرب من بحار السماوات والأرض (أبو يزيد) في حالة أخرى أتم مما ذكروا ذلك ما نقله الشيخ المحقق أبو القاسم القشيري في رسالته: كتب يحيى بن معاذ الرازي إلى أبي يزيد: سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته، فكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب بحور السماوات والأرض، وما روي بعد، ولسانه خارج، ويقول: هل من مزيد؟
وأنشدوا:
عجبت لمن يقول ذكرت ربي    ….          وهل أنسى فأذكر ما نسيت
شربت الحب كأسا بعد كأس   …..       فما نفد الشراب ولا رویت
ثم قال رضي الله عنه: (ولقد نبهنا على هذا المقام) أي: مقام اتساع القلب لما لا يتناهی من
تجليات الحق في مقر عينه، وفي المظاهر المتناهية (بقولنا: يا خالق الأشياء) أي: مقدرها (في نفسه) أي: علمه (أنت لما تخلقه) في الأبد (جامع) في الأزل (تخلق) أي: بقدر (ما لا يتناهی كونه) من عالم المعاني والأرواح والأجسام (فيك) أي: في علمك مع أنك لا تحل فيك، ولا في صفاتك الحوادث.
(فأنت الضيق) عن حلول الحوادث فيك، (الواسع) لما يتعلق علمك بها، والبيتان ليس من محل الاستشهاد، بل من مقدماته، إذ القلب من مظاهر علمه الأزلي في هذه السعة مع الضيق في نفسه، ومحله البيتان الآتيان، أعني قوله: (لو أن ما قد خلق الله) أي: حصل بقلبي، واستقر فيه؛ (ما لاح) أي: لم يظهر (بقلبي فجره الساطع). أي: نور ذلك الخلق وهو تجلي الحق فيها؛ لعدم إحاطته بالقلب، بحيث لا يكون فيه متسع لتجلي آخر، بل هو في غاية الاتساع بحيث لا يمتلئ أبدا.""فيه تقديم وتأخير ، أي لو أن ما قد خلقه الله بقلبي ما لاح بقلبي فجره من وراء حجابي""
ثم أشار إلى تعليله بقوله: (من وسع الحق) أي: تجليه في مقر عينه مع عدم تناهيه بحيث لا يمكن فرض تناهيه، (فما ضاق عن خلق) أي: عن تجليه في خلق، وإن كان غير متناه إذ يمكن تقدير تناهيه.
(فكيف الأمر) أي أمر القلب في عدم التناهي مع كونه من جملة المخلوقات التي يمكن فرض تناهيها، (يا سامع) يريد أنه لا يتم فهم هذا بالسماع، وإنما يتم بالوجدان والذوق والشهود.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها، وهذا هو الأمر العام. والعارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة و لكن لا تزال الهمة تحفظه. ولا يئودها حفظه، أي حفظ ما خلقته.
فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق، إلا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات وهو لا يغفل مطلقا، بل لا بد من حضرة يشهدها.
فإذا خلق العارف بهمته ما خلق وله هذه الإحاطة ظهر ذلك الخلق بصورته في كل حضرة، وصارت الصور يحفظ بعضها بعضا.
فإذا غفل العارف عن حضرة ما أو عن حضرات وهو شاهد حضرة ما من الحضرات، حافظ لما فيها من صورة خلقه، انحفظت جميع الصور بحفظه تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل عنها، لأن الغفلة ما تعم قط لا في العموم ولا في الخصوص.)
ثم بين علامة سعة القلب، وهي أنه يفعل أفعال الحق الذي تجلى فيه فعل المرآة في تنویر الجدار عند استنارتها من الشمس، فقدم لذلك ما يقرب فهمه، فقال (بالوهم) أي: بالقوة التي بها التحليل والتركيب بين الصورة الخيالية، والمعاني الوهمية باعتبار استعمال الوهم إياها (يخلق كل إنسان)، وإن لم يقدر على خلق شيء في الخارج (في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها) أي: في قوة خياله كجبل من ياقوت، وبحر من زئبق، (وهذا) الخلق في القوة الخيالية (هو الأمر العام) لا يختص بالعارف.
(والعارف) المتسع قلبه لتجليات الحق (يخلق بالهمة) أي: توجيه القصد عن نورانية ما تجلى فيه (ما يكون له وجود من خارج محل الهمة) أي: وراء الوجود الذهني في حضرة خاصة أو حضرات.
وهو وإن كان خارجا من محل الهمة، فإمكانه محوج إلى العلة في البقاء، ولا علة له سوى الهمة؛ فينبغي ألا يكون له بقاء لعدم من يحفظه.
(ولكن لا تزال الهمة تحفظه)، فإنها لما صلحت للإيجاد خارج محلها؛ صلحت للحفظ فيه، (ولا يئودها حفظه) وإن كان في مكان بعيد من صاحب الهمة، وتفرقت صوره في حضرات شتى، ورفع ذلك لما يوهم من هذا الكلام أن الهمة يمكنها حفظ أي شيء.
أراد صاحبها من غير مشقة دفع ذلك بقوله: (أي حفظ ما خلقته)؛ لأنها علته وليست علة لإيجاد غيره، فالظاهر أنها لا تكون علة لحفظه أيضا، فإن حفظته فعن مشقة عظيمة، وإذا كانت همته علة الحفظ ولا علة سواها في الظاهر.
(فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق) لعدم علة بقائه، (إلا أن يكون العارف) الذي خلقه بهمته (قد ضبط) عند خلقه (جميع الحضرات) من عالم المعاني والأرواح، والمثال، والأجسام بالتصرف فيها.
(وهو) أي: وذلك العارف لكونه في مقام البقاء (لا يغفل عن جميع تلك الحضرات (مطلقا) بحيث لا تبقى له همة حافظة لصورة ما خلقه في حضرة أو حضرات؛ (بل لا بد له من حضرة يشهدها) ضرورة أنه لا يغفل عن المحسوسات والمعقولات جميعا.
لأن ما يحجبه الحق عن الخلق ولا الخلق عن الحق، وشهود تلك الحضرة منه مستلزم لشهود ما فيها من صورة خلقه، فلا يئوده حفظ تلك الصورة في تلك الحضرة وبواسطتها في سائر الحضرات.
وإليه الإشارة بقوله(فإذا خلق العارف بهمته ما خلق) سواء كان مما يتعارف له تأثير في الغير أم لا (وله هذه الإحاطة) بالحضرات حال خلقه، (ظهر ذلك الخلق بصورته) أي: صورة ذلك العارف في الإحاطة بالحضرات، والتأثير في الغير (في كل حضرة)، إذ لا معنى لكونه على صورة ذلك العارف بالإحاطة بالحضرات إلا ظهوره فيها، (وصارت الصور تحفظ بعضها بعضا) لما فيها من أثر جمعية ذلك العارف عند جمعه الهمة بالتأثير.
فكانت هذه الصورة استنارت بنور فاعلها، فتفعل فعله كما تفعل صورة الشمس الظاهرة في المرآة من التأثير في الماء، وصورة الماء في الجدار، و صورة الجدار فيما يحاذيها من مرآة أخرى، وهلم جرا.
فلا تعارض تلك النورانية ظلمة الغفلة عن بعض الحضرات، (فإذا غفل العارف عن حضرة ما) أعلى أو أدنى مما لم يغفل عنها (أو حضرات، وهو شاهد حضرة من تلك الحضرات حافظ) همته (لما فيها من صورة خلقه)، قيد بذلك ليشير إلى أن مشاهدة الحضرة غير كافية في حفظ الصورة، كما يتوهم من كلامه السابق (انحفظت جميع الصور بحفظه) .
أي: العارف (تلك الصورة الواحدة) التي يحفظها (في الحضرة التي ما غفل عنها)؛ لأن الأثر النورانية التي بها شهود الحضرة لا الظلمة التي بها الغفلة؛ فلا يؤوده حفظها في جميع الحضرات باعتبار تلك الحضرة، وإنما يئوده حفظها لو غفل عن الكل؛ لكنه غير واقع.
(لأن الغفلة لا تعم ) قط جميع الحضرات (لا في العموم ولا في الخصوص) .
""أي خصوصهم فإن غاب العارف من حضرة فلا بد أن يحضر مع حضرة أخرى، فلا يغفل عن جميع الحضرات""
أي: عموم الناس وخصوصهم، وأما أرباب الفناء؛ فإنهم وإن عمت الغفلة في شأنهم، فليسوا من أهل الهمة الذين لهم الخلق.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وقد أوضحت هنا سرا لم يزل أهل الله يغارون على مثل هذا أن يظهر لما فيه من رد دعواهم أنهم الحق، فإن الحق لا يغفل والعبد لا بد له أن يغفل عن شيء دون شيء. فمن حيث الحفظ لما خلق له أن يقول «أنا الحق»، ولكن ما حفظه لها حفظ الحق: وقد بينا الفرق. )
(وقد أوضحت هنا) أي في مسألة حفظ العارف صورة ما خلقه عند غفلته عن بعض الحضرات (سرا) وهو أن العارف وإن بلغ ما بلغ في ضبط الحضرات، واتساع القلب الأنواع التجليات المؤثرة فيما سواه، يجوز أن يغفل عن بعضها ابتداء، أو دواما مع ما له من الفعل بالهمة في الحفظ (ولم يزل أهل الله يغارون على مثل هذا أن يظهر لما فيه) أي: في إظهاره (لما فيه من رد دعواهم أنهم الحق) أي: صور كاملة للحق عند خلقهم بالهمة لا يتميزون عنه إلا بالوجوب الذاتي الذي له، والافتقار إليه الذي لهم؛ (فإن الحق لم يغفل) أي: لا تجوز له الغفلة أصلا عن حضرة ما، (والعبد) وإن بلغ ما بلغ (لابد له) من جواز (أن يغفل عن شيء دون شيء)؛ فلا يكون صورة للحق تامة المطابقة معه.
وإن كان أكمل ما يمكن في حق البشر فهو ذو جهتين (فمن حيث الحفظ لما خلق) ولو باعتبار حفظه في بعض الحضرات (له أن يقول: أنا الحق) أي: صورة الحق والمظهر الكامل له، (ولكن) مع كمال مظهريته (ما حفظه) أي: حفظ ذلك العارف (لها) أي: لتلك الصورة مثل (حفظ الحق) لما خلقه بل بينهما فرق، (وقد بينا الفرق) فيما تقدم بأن حفظ الحق بذاته، وحفظ العبد بالهمة وأيضا بينهما فرق آخر.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وقد أوضحت هنا سرا لم يزل أهل الله يغارون على مثل هذا أن يظهر لما فيه من رد دعواهم أنهم الحق، فإن الحق لا يغفل والعبد لا بد له أن يغفل عن شيء دون شيء.
فمن حيث الحفظ لما خلق له أن يقول «أنا الحق»، ولكن ما حفظه لها حفظ الحق: وقد بينا الفرق. ومن حيث ما غفل عن صورة ما وحضرتها فقد تميز العبد من الحق.  ولا بد أن يتميز مع بقاء الحفظ لجميع الصور بحفظه صورة واحدة منها في الحضرة التي ما غفل عنها. فهذا حفظ بالتضمن، وحفظ الحق ما خلق ليس كذلك بل حفظه لكل صورة على التعيين.
وهذه مسألة أخبرت أنه ما سطرها أحد في كتاب لا أنا ولا غيري إلا في هذا الكتاب فهي يتيمة الدهر وفريدته فإياك أن تغفل عنها )
التعيين، وهذه مسألة أخبرت أنه ما سطرها أحد في كتاب لا أنا ولا غيري إلا في هذا الكتاب؛ فهي يتيمة الوقت وفریدثه فإياك أن تغفل عنها.
(من حيث ما غفل) أي: من حيث جواز الغفلة على العبد ووقوعها مع عدم ذلك على الحق (عن صورة ما) من صور ما خلق (وحضرتها) أيضا مع كونها كلية بعد أن تقع للكامل الغفلة عن مثلها .
(فقد تميز العبد من الحق) بما ذكرنا من الفروق (ولا بد أن يتميز) العبد من الحق بوجه آخر من حيث هو حافظ، وإن كان له أن يقول من ذلك الوجه: أنا الحق، بالمعنی المذكور؛ فهو متميز عن الحق أيضا (مع بقاء الحفظ لجميع الصور) لا من حيث هو حافظ الجميعها إذ يضعف التميز بينهما حينئذ؛ بل حفظه لجميعها (بحفظه صورة واحدة منها) أي: من الصور التي خلق في الحضرات كلها حيث كان مستحضرا لها.
فلما غفل عن بعضها فحفظ جميعها (بحفظه صورة واحدة منها في الحضرة التي ما غفل عنها، وهذا) أي: (حفظ) العبد جميعها بحفظه واحدة منها حفظ الجميع (بالتضمن وحفظ الحق ما خلق) في أي: حضرة كان، وسواء كان في حضرة أو حضرات (ليس كذلك) أي: ليس بالتضمن (بل حفظه لكل صورة) في جميع الحضرات بقصد حفظها على التعيين، وهذه المسألة التي ذكرنا في حفظ العبد صور ما خلق، وما فيه من الفروق بين الرب والعبد.
(مسألة أخبرت أنه ما يسطرها أحد في كتاب)، وإن اطلع بعضهم عليها، (لا أنا ولا غيري إلا في هذا الكتاب؛ فهي يتيمة) الفرق (والوقت وفريدته، فإياك أن تغفل عنها) إذ ها يطلع على الفرق بين العبد والرب مع الجمع بينهما في الحضرة التي ما غفل عنها، فصار كأنه لم يغفل عن حضرة ما .
""علل الشيخ الوصية بعدم الغفلة عن هذه المسألة بقوله: «فإن تلك الحضرة التي يبقي لك الحضور فيها  ..""
قال الشيخ رضي الله عنه : (فإن تلك الحضرة التي يبقي لك الحضور فيها مع الصورة، مثلها مثل الكتاب الذي قال الله فيه «ما فرطنا في الكتاب من شيء» فهو الجامع للواقع وغير ا قرآنا في نفسه فإن المتقي الله «يجعل له فرقانا»
وهو مثل ما ذكرناه في هذه المسألة فيما يتميز به العبد من الرب. وهذا الفرقان أرفع فرقان.
فوقتا يكون العبد ربا بلا شك ... ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك
فإن كان عبدا كان بالحق واسعا ... وإن كان ربا كان في عيشة ضنك
فمن كونه عبدا يرى عين نفسه ... وتتسع الآمال منه بلا شك
ومن كونه ربا يرى الخلق كله ... يطالبه من حضرة الملك و الملك
ويعجز عما طالبوه بذاته ... لذا تر بعض العارفين به يبكي
فكن عبد رب لا تكن رب عبده ... فتذهب بالتعليق في النار والسبك )
فمن كونه عبدا يرى عين نفسه وتتسع الآمال منه بلا شك ويعجزعما طالبوه بذاته لذا برى بعض العارفين به تبكي فگن عبد رب لا تكن رب عبده فتذهب بالتعليقي في النار والسبك
(فإن تلك الحضرة التي يبقى لك الحضور فيها مع الصورة) الحافظة لصور سائر الحضرات (مثلها مثل الكتاب) أي: القرآن (الذي قال الله فيه: "ما فرطنا في الكتاب من شيء إلى ربهم يحشرون" [الأنعام: 38]) مع أن بعض العلوم وجزئيتها ليس فيه بالتصريح، (فهو) أي: الكتاب هو (الجامع للواقع) أي: المصرح به صريحا (وغير الواقع) أي: غير المصرح به ضما، فكذا هذه الحضرة جامعة لما وقع فيها من الصورة بالتعيين، ولما لم يقع فيها بالتضمن، (ولا يعرف) بالذوق والمشاهدة؛ بل بالعلم في بعض الأحوال
(ما قلناه ) من الفرق بين الحق والعبد من حيث حفظه للصور كلها بحفظه صورة واحدة منها في حضرة ما غفل عنها (إلا من كان قرآنا) أي: مظهرا جامعا يرى كلا من الحق والخلق في الأخر مع أنه يتقي من رؤية حلول أحدهما في الأخر واتحاده به، (فإن المتقي الله) من رؤية الحلول والاتحاد عند اجتماعهما.
(يجعل له فرقانا) أي: يعطيه التفرقة بين الحق والخلق عند اجتماعهما، فيحصل في الفرق مع الجمع.
(وهو) أي: فرقان المتقي الذي كان قرآنا جاما، يرى كلا منهما في الأخر (مثل ما ذكرنا في هذه المسألة) أي: مسألة حفظ العبد صور ما خلق بحفظه صورة واحدة منها من الفروق بين العبد والرب، سيما باعتبار الحضرة التي ما غفل عنها (فيما يتميز به العبد من الرب وهذا الفرقان) الواقع بين العبد والرب باعتبار الحضرة التي ما غفل عنها .
(أرفع فرقان) بينهما من جملة ما ذكرنا من الفروق، إذ باعتبار هذه الحضرة التي ما غفل عنها له أن يقول: «أنا الحق» مع أن حفظه للصور باعتبار ما ليس كحفظ الحق لها .
""نقل المصنف احمد المهائمي فى كتابة مشرع الخصوص إلى معاني النصوص توجيهه لهذا نقلا عن كتاب النصوص في تحقيق الطور المخصوص للإمام صدر الدين القونوي بقوله: ثم قال في تفسير الحق، في تأويل قول الحلاج: "أنا الحق" إنا بينا بالبرهان النير، أن الموجود هو الحق سبحانه، وأن كل ما سواه فهو باطل، فهذا رجل فني ما سوى الحق في نظره، وفنيت أيضا نفسه عن نظره، ولم يبق في نظره وجود غير الله، فقال في ذلك الوقت أنا الحق، كأن الحق سبحانه أجرى هذه الكلمة على لسانه حال فنائه بالكلية من نفسه، و استغراقه في نور جلال الله تعالى.
ثم نقل عن الغزالي في سبب غلبة جريان اسم الحق على لسان الصوفية: إنهم في مقام المكاشفة، ومن كان في مقام المكاشفة رأي الله حقا وغيره باطلا، وأما المتكلمون فهم من مقام الاستدلال بغير الله على وجود الله، فلا جرم كان الغالب على ألسنتهم اسم الباري تعالی.""
(فوقتا يكون العبد) باعتبار هذه الحضرة التي ما غفل عنها، سيما إذا لم يغفل عن حضرة أصلا (بنا) أي: صورة حق على الكمال (بلا شك) إذ يحفظ الصور في جميع الحضرات كما يحفظها الحق، (ووقتا يكون العبد) باعتبار هذه الحضرة التي ما غفل عنها (عبدا بلا إفك) باعتبار أن حفظه ليس كحفظ الحق؛ بل إما بالتضمن، أو بخلافه عن الحق.
وقوله: (بلا إفك) إشارة إلى أنه لا يكذب أبدا في دعوى العبودية، فإن كان من صار مظهرا جامعا للحق يخلق بالهمة، ويحفظ الصور بالتعيين، أو التضمين (عبدا) أي: مدعيا للعبودية محترزا عن دعوى الربوبية، أي عن دعوى كونه مظهرا كاملا له (كان بالحق واسقا) يتصرف في الحضرات كلها بلا غيرة من الله عليه.
(وإن كان ربا) أي: مدعيا لكونه صورة كاملة للرب، (كان في عيشة ضنك) الظهور الغيرة الإلهية عليه في دعوى الكمال لنفسه، فلذا قال في بيان تعليله: (فمن كونه عبدا) أي: مدعيا للعبودية (يرى عين نفسه)، ولا يجعلها مظهرا جامعا كالروح، (وتتسع الآمال منه بلا شك)؛ لأنه لما نزل كل من الروح والنفس والقلب منزلته، فيحصل له كل مطلوب كان يتمناه بخلاف مدعي الكمال لنفسه.
كما قال: ومن كونه ربا، أي: مدعيا لكونه صورة كاملة للرب، يتصرف في الحضرات كلها يرى الخلق كله يطالبه أن يفيض عليهم كمالاتهم من حضرة الملك عالم الشهادة، والملك عالم الغيب، (ويعجز) هذا المدعي للربوبية.
أي: لكونه صورة كاملة للرب متصرفة كتصرفه في العالم (عما طالبوه)؛ لأن الغيرة الإلهية تمنعه عن التصرف عند دعوى الكمال لنفسه وهو عاجز عنها (بذاته)؛ لافتقاره إلى الحق في إفاضة ذلك (لذا تري) حذف الياء للضرورة (بعض العارفين به) أي: بعجزهم عما ذكرته هذه الدعوى (تبكي) لما يرون من الغيرة الإلهية عليهم.
وإذا كان كذلك (فكن عبد رب) أي: كن عندما تخلق من الصورة همتك وتحفظها عبد رب بخلقها، (لا تكن رب عبده ) أي: رب تلك الصور بربوبية الله تعالى.
(فتذهب بالتعليق) أي: بتعليق هذه الدعوى لنفسك، ما ليس لها بالأصالة ولا بالتجلي الجمعي (في النار) أي: نار الفراق بقطع التجلي بالغيرة الإلهية (والسبك) أي: القيود الظلمانية التي للنفس في الدعاوى الكاذبة؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
ولما كانت الحكمة الحقية بجعل الكل حقا توجب ظهور الكل في الكل لكون الكل مظاهر الحق.
وذلك بحسب الذات الذي علوه ذاتي مستجمع لعلو سائر الأسماء؛ أورد الحكمة العلية عقيبها؛ فقال:
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 8:04 pm

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص اليعقوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية

الفص اليعقوبي
أي: ما يتزين به ويكمل العلم اليقيني المتعلق بتدبير الروح، والمصالح الدنيوية والأخروية بمقتضى الشرع والتصوف، ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى يعقوب عليه السلام حيث قال لبنيه: "ووصى بها إبراهيم بنيه  ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" [البقرة:132]
وقال: «فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون» [يوسف: 18].
وقال: "ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" [ يوسف: 87].
وقال: "إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون" [يوسف: 94].
وقال لنبيه عليه السلام : "ولا تدخلوا من باپ واحد وادخلوا من أبواب متفرقة " [يوسف: 67].
وقال تعالى في حقه"وإنه، لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون" [يوسف: 68].
ولقد أبعد من روی بالفتح لقوله: "ولا تيأسوا من روح الله" ، وإن كان الروح مرتبا على الرضا الذي يوجبه العلو، وحاصلا لمستعمل الشريعة، والتصوف حالا ومالا.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( الدين دينان، دين عند الله وعند من عرفه الحق تعالى ومن عرف من عرفه الحق. ودين عند الحق، وقد اعتبره الله. فالدين الذي عند الله هو الذي اصطفاه الله وأعطاه الرتبة العليا على دين الخلق فقال تعالى «ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون»:
أي منقادون إليه. وجاء الدين بالألف واللام للتعريف والعهد، فهو دين معلوم معروف وهو قوله تعالى «إن الدين عند الله الإسلام» وهو الانقياد. فالدين عبارة عن انقيادك. والذي من عند الله تعالى هو الشرع الذي انقدت أنت إليه.)


قال: (الدين) أي الذي يتعبد به الإنسان (دینان) شريعة بمنزلة المسائل المنصوصة، وتصوف بمنزلة المسائل الاجتهادية، إذ هو مستنبط عن معاني الأول مؤكد له ومشتمل كل منهما على أصول وفروع، فأصول الشريعة مسائل الكلام، وفروعها الأحكام الفقهية، وأصول التصوف معرفة الحقائق، وفروعها معرفة الأحوال والمقامات والأخلاق.
والأول: (دين عند الله) ثبت بالكتاب، (وعند من عرفه الحق تعالی) من الأنبياء ثبت بالسنة، ومن عرفه الحق ثبت بالإجماع أو الاجتهاد.
والثاني : (دین عند الخلق) أخذوه من معاني الكتاب والسنة وأقوال الأئمة، وإشاراتها مع استعانة الرياضة والمجاهدة، (وقد اعتبره الله تعالی) بقوله: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" [العنكبوت: 69]، وإنما اعتبره لكونه مؤكد للغرض من وضع الشرع.
ثم بين رتبة كل منهما بقوله: (فالدين الذي عند الله)، ولم يقل: (و عند من عرفه ومن عرف من عرفه) إشعارا بأنهم مبينون لا يشرعون، وإنما الشارع هو الله تعالی (هو الذي اصطفاه الله)، حيث أنزله على الأنبياء وخصه بهم، (وأعطاه الرتبة العالية على دين الخلق) إذ جعله أصلا لا يقبل بدونه دین الخلق، وجعله كاملا مقبولا بدونه، وإن كان فيه زيادة مراتب الكمال.
( فقال: "ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" [البقرة:132]) فلو كان دين الخلق أكمل منه، لكان أولى بالتوصية من هؤلاء الكمل، وقد بالغوا فيه من تضييعه عند من رؤية المراتب الزائدة في دين الخلق، وقد رأوا كثيرا من الناس انسلخوا منه بالكلية عند رؤية تلك المراتب، فخسر وهما جميعا، والعياذ بالله من ذلك.
ثم فسره بقوله : أي منقادون إليه يعني بالقلب واللسان والأركان، لئلا يتوهم اختصاصه بالأول وحده أو مع الثاني كما يقوله البعض.
وهو لا يكفي في حق أهل الكمال، ثم فسر الدین به وإن كان مفسرا بالشرع فيما تقدم وبالجزاء والعادة فيما يأتي؛ فقال (وجاء الدين) في قوله: "إن الله اصطفى لكم الدين" [البقرة:32] . (بالألف واللام بالتعريف)، فإن حمل على تعريف الجنس أو الاستغراق كان أمرا بالإتيان بدین من الأديان أو بجميعها، وهو باطل بالضرورة، فهو تعريف .
(العهد فهو) أي: المعهود (دین معلوم) للمخاطبين؛ لأنه (معروف) فيما بين الأنبياء، (وهو) الذي دل عليه( قوله تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام " [آل عمران:19])؛ لأنه الذي أمر به جميع الأنبياء، فلو كان عنده آخر الأمر به بعض الأنبياء، فالدين الإسلام، والإسلام (هو الانقياد)، والانقياد فعل العبد، (فالدين عبارة عن انقيادك)، ولا يناقض هذا ما تقدم من قوله: دین عند الله، ويجب تفسيره بالشرع الذي هو قديم، ولا مجال لفعل العبد فيه، إذ ذلك مجاز.
وذلك لأن (الذي من عند الله هو الشرع انقدت إليه)، فسمى الشرع بالدين مجاز؛ لأنه منقاد إليه فكأنه عين انقیادك.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالدين الانقياد ، والناموس هو الشرع الذي شرعه الله تعالى. فمن اتصف بالانقياد لما شرعه الله له فذلك الذي قام بالدين وأقامه، أي أنشأه كما يقيم الصلاة. فالعبد هو المنشئ للدين والحق هو الواضع للأحكام. فالانقياد هو عين فعلك، فالدين من فعلك. فما سعدت إلا بما كان منك. )

(فالدين) من حيث سمي به الشرع أيضا (هو الانقياد) الذي هو حقيقة، أي: لو خط به هذا المعنى (والناموس) أي: الحكم الإلهي الواصل من سر الغيب إلى جملة أسراره من قلوب الأنبياء (هو الشرع الذي شرعه الله) .
أي: هو الاسم الحقيقي للشرع من حيث نسبته إلى الله، وإنما يسمى بالدين من حيث نسبته إلى العبد المنقاد إليه، واستدل عليه بأنه يقال: إنه يقيم الدين، فلو كان اسم الشرع حقيقة لم يصح ذلك.
فقال: (فمن اتصف بالانقياد لما شرعه الله فذلك الذي قام بالدين) لا بمعنى أنه قائم به قيام العرض، ولكن الباء للتعدية ومعناه (اقامه)، وليس معنى إقامة الدين مثل إقامة الشرع.
أي: العمل به، بل معناه (أي: أنشأه)؛ فإنه المعنى الحقيقي للإقامة (كما يقيم الصلاة) التي يقال عليها الدين أيضا.
(فالعبد هو المنشي للدين فكيف يكون حقيقة في الشرع، وليس قادرا على إنشائه إذ الحق هو الواضع للأحكام)، وإن كانت قد تنسب إلى العبد باعتبار انقياده إليها.
(فالانقياد) الذي سمي الشرع بسببه دين (عين فعلك فالدين) وإن أطلق على تلك الأحكام مجازا (من فعلك) .
أي: لوحظ في إطلاقه على الشرع المعنى الذي هو فعلك، فالدين منك حقيقة باعتبار معناه الحقيقي، ومجازا باعتبار معناه المجازي، وبه الكمال والسعادة للعبد.
(فما سعدت إلا بما كان منك) من الانقياد، وإنما وضعه الله من حيث ما وضعه، إذ لا يفيدك وضعه للأحكام شيئا من السعادة ما لم تنقد إليها، فإذا كانت سعادتك التي هي كمالك من أفعالك أشبهت الإله من حيث إن ظهور كماله بأفعاله.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكما أثبت للسعادة لك ما كان فعلك كذلك ما أثبت الأسماء الإلهية إلا أفعاله وهي أنت وهي المحدثات. فبآثاره سمي إلها وبآثارك سميت سعيدا. فأنزلك الله تعالى منزلته إذا أقمت الدين وانقدت إلى ما شرعه لك.
وسأبسط في ذلك إن شاء الله ما تقع به الفائدة بعد أن نبين الدين الذي عند الخلق الذي اعتبره الله. فالدين كله لله وكله منك لا منه إلا بحكم الأصالة. )

(فكما أثبت السعادة لك ما كان فعلك) من الانقياد لأحكام الشرع (كذلك ما أثبت الأسماء الإلهية) من حيث تتميز بعضها عن بعض بعد كونها عين الذات (إلا أفعاله)، إذ بها ظهور صورها وآثارها التي بها تميزها.
(وهي) أي أفعاله (أنت)، فينبغي أن تكون مثبت أسمائه أيضا، ولكن أنت وسائر الأفعال (هي المحدثات)، فلا تكون مثبتة للأسماء الإلهية القديمة من حيث عين الذات، وإنما تثبت تميز بعضها عن بعض وكانت متميزة بالقوة.
ولكن ألوهيته باعتبار هذا التميز لها بأثارها، (فبآثاره سمي إلها) بالفعل، وإن كانت له ألوهية من قبل بالقوة، إذ هي نسبة بين الذات والمحدثات، فلا تتحقق بدون المنتسبين.
(و بآثارك سميت سعيدا) فوقع الاشتراك بين الرب والعبد في تحصيل اسم الكمال بواسطة الآثار الحميدة، (فأنزلك الله منزلته) بجعلك خليفته على خلقه لمناسبتك إياه وإياهم.
(إذا أقمت الدين وانقدت) بهذه الإقامة (إلى ما شرعه لك)؛ إذ لا يتم مناسبة العبد للحق مع مخالفته للشرائع.
(و سأبسط في ذلك) أي: بحسب الانقياد، وإفادته السعادة (ما تقع به الفائدة) التامة، وذلك عند قوله: لكن الأمر يقتضي الانقياد (بعد أن تبين الدين الذي عند الخلق)، لا كل دين اعتبروه.
بل (الذي يعتبره الله)؛ لكونه مؤكد الشرع مأخودا من معانيه وإشارته، وإذا كان هذا الدين مما اعتبره الله، والأول قد اصطفاه، (فالدين كله لله) من حيث إنه واضع للأحكام، وإن كان لم يصرح ببعضها.
(وكله) من حيث المعنى الحقيقي، وهو الانقياد (منك لا منه)، إذ لا يسمی منقادا (إلا بحكم الأصالة)، وهو كونه خالقا للانقياد، واضعا لما ينقاد إليه من الأحكام الشرعية التي هي مأخذ أحكام دين الخلق.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( قال الله تعالى «ورهبانية ابتدعوها» وهي النواميس الحكمية التي لم يجيء الرسول المعلوم بها في العامة من عند الله بالطريقة الخاصة المعلومة في العرف. فلما وافقت الحكمة والمصلحة الظاهرة فيها الحكم الإلهي في المقصود بالوضع المشروع الإلهي، اعتبرها الله اعتبار ما شرعه من عنده تعالى، «و ما كتبها الله عليهم». )

ثم أشار إلى بيان ذلك الدين الذي عند الخلق واعتباره عند الله، وإنها ليست من البدع المستقبحة التي تنافي السنة بقوله: (قال الله تعالى) : (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا » [الحديد: 27] .
يعني عيسى عليه السلام ("ورهبانية ابتدعوها") أي: زادوها على ما جاء به عيسى عليه السلام بالتصريح، لكن أخذوها من إشارات ذلك.
(وهي النواميس) أي: الأحكام الحقية (الحكمية)، أي المنسوبة إلى التصوف الذي هو حكمة أهل الكشف من المسلمين، وهي المشار إليها بقوله تعالى: «يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" [البقرة: 269] (التي لم يجئ الرسول المعلوم) لغير ربه عن رسول الإلهام في الباطن (بها في) حق (العامة بالطريقة الخاصة المعلومة) أي: طريقة الاستدلال في العرف.
أي: عرف الفقهاء، وإن جاء بها في حق الخاصة بلسان الخاصة بطريق الكشف والذوق .
وذلك لكونها شاقة على العامة وراحة للخاصة.
(فلما وافقت الحكمة) وليس المراد بها الفلسفة بل (المصلحة الظاهرة فيها)، أي في تلك النواميس لأهل القلوب (الحكم الألهي) الذي ورد به الشرع (في المقصود بالوضع المشروع الإلهي)؛ لكون معانيها مستنبطة من معاني المشروع.
(اعتبرها الله اعتبار ما شرعه من عنده)، فقال: " فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" [الحديد:27] ، ولكن مع هذا (ما كتبها الله عليهم) لجريان سنته ألا يكتب على المكلفين إلا ما يطيقه الكل، "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الحج:78].
فدل هذا على أنها مع عدم كتابتها عليهم لم يجعلوها من البدع المستقبحة لعدم منافاتها الشرع.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولم فتح الله بينه وبين قلوبهم باب العناية والرحمة من حيث لا يشعرون جعل في قلوبهم تعظيم ما شرعوه يطلبون بذلك رضوان الله على غير الطريقة النبوية المعروفة بالتعريف الإلهي.
فقال: «فما رعوها»: هؤلاء الذين شرعوها وشرعت لهم: «حق رعايتها» «إلا ابتغاء رضوان الله» وكذلك اعتقدوا، «فآتينا الذين آمنوا» بها «منهم أجرهم» «وكثير منهم»: أي من هؤلاء الذين شرع فيهم هذه العبادة «فاسقون» أي خارجون عن الانقياد إليها والقيام بحقها.  ومن لم ينقد إليها لم ينقد مشرعه بما يرضيه.
لكن الأمر يقتضي الانقياد: وبيانه أن المكلف إما منقاد بالموافقة وإما مخالف، فالموافق المطيع لا كلام فيه لبيانه، وأما المخالف فإنه يطلب بخلافه الحاكم عليه من الله أحد أمرين إما التجاوز والعفو، وإما الأخذ على ذلك، ولا بد من أحدهما لأن الأمر حق في نفسه. فعلى كل حال قد صح انقياد الحق إلى عبده لأفعاله وما هو عليه من الحال. فالحال هو المؤثر.)

ثم أشار إلى أنها مع عدم كتابتها عليهم ، عظموها من حيث ما فيها من العزائم التي يقصدها الرجال، وما ينكشف به أسرار المكتوب عليهم وبواطنه.
فقال: (ولما فتح الله بينه) أي بين جنابه الرفيع (وبين قلوبهم باب العناية والرحمة) كما قال: "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة " [الحديد: 27] ("من حيث لا يشعرون») [النحل: 26]) لا لكونه بطريق الجذب الإلهي الذي جذبه منه توازي عمل الثقلين، (جعل في قلوبهم تعظيم ما
شرعوه)، لا لكونه مما شرعوه بل لكونهم (يطلبون بذلك رضوان الله)، إذ لم يبتدعوه عن هوى أنفسهم (بل لكونه على غير الطريقة النبوية المعروفة بالتعريف الإلهي).
(وقال:) هذا الطريق أيضا حاصل بتعريفه تعالى إذ قال: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين" [العنكبوت: 69].
ولكن التعريف في الطريقة النبوية مصرح به، وهنا غير مصرح به، لكنهما في إفادة الرضوان الإلهي، سواء إذا تأكد كل منهما بالأخر في بعض النسخ على غير الطريقة النبوية.
ومعناه يطلبون بذلك رضوان الله، وإن كان على غير الطريقة النبوية لكونها أيضا معرفة بالتعريف الإلهي موافقة لتلك الطريقة مؤكدة لها، وإذا وقع في قلوبهم تعظيم ما شرعوه لطلب رضوان الله تعالى (فما رعوها). "أي: الرهبانية المبتدعة"
وفسر الفاعل بقوله: (هؤلاء الذين شرعوها)؛ لئلا يتوهم أن المراد متأخر، وهم كما ذهب إليه البعض وفيه فك النظم.
وقال: (وشرعت لهم) إشعارا بأن هذا الدين إنما لم يشرع أولا لما فيها من المشقة على العامة، فلما تحملها بعضهم شرعت هم أيضا بعد ما شرعوها (حق رعايتها) مع ما فيها من المشقة العظيمة .
("إلا ابتغاء رضوان الله")، لم يجعل الشيخ رحمه الله هذا استثناء عن قوله: «كتبناها عليهم»؛ لأنها ما كتبت عليهم أصلا، ولا يصح نزع اللام عن الابتغاء على ذلك التقدير؛ لأنه ليس فعلا الفاعل الفعل، أعني الكتابة، بل جعله مقدما على قوله: " فما رعوها" [الحديد: 27] . نبأ على أن الفاء لا تمنع من تقديم المستثنى عن معمول مدخولها؛ لأنه ليس معمولا له، بل لحرف الاستثناء على ما هو مذهب البعض.
ثم قال: (ولذلك) أي: كما رعوها عملا (اعتقدوا) كمالها في إفادة الرضوان، والتقرب إلى الله، بل ربما يقع في قلوب البعض أن الشريعة العامة إنما تفيد النجاة والفوز بجنة المأكل والمشارب والمناكح وليس كذلك.
بل المفيد للقرب هو الشرع عند استنارة القلوب بما يكتسب من المعاملة والمكاشفة، فجازاهم الله على تلك الرعاية وعلى ذلك الاعتقاد.
فقال: ("فأتينا الذين آمنوا") يعني بها (منهم أجرهم) وهو الرضوان الذي طلبوه عليهما، وفيه إشارة إلى أن الأجر الكامل على الاعتقاد وحده، لكن بشرط تأكده بالعمل والرعاية، وإلى أن من آمن بطريق الصوفية نال نصيبا من الأجر.
ثم قال: ("وكثير منهم") ولما توهم أن الضمير يعود إلى المبتغين رضوان الله، ولا يتصور كوهم فاسقين، فسره بقوله: (أي من هؤلاء الذين شرع فيهم هذه العبادة "فاسقون")، ولما لم يتصور كوهم فاسقين مع رعايتهم الشرع الظاهر فسره بقوله: (أي: خارجون عن الانقياد إليها والقيام بحقها)، فأشبهوا من فسق بالخروج عن الأحكام الشرعية، بل قد يصرون منهم، كما ترى كثيرا من متصوفة الزمان خارجين عن الطريقتين خسروا الدنيا والآخرة "ذلك هو الخسران المبين" [الحج:11].
ثم بين ما يوجبه هذا الفسق فقال: (ومن لم ينقد إليها لم ينقد إليه مشرعه بما يرضيه)، بل يقع في خطر الهلاك الأبدي، كما قلنا في حق متصوفة الزمان.
ولذلك نهی صلى الله عليه وسلم أمته عن الرهبانية لئلا يخرجوا منها بعد الأخذ فيها. لا لكونها مذمومة في نفسها؛ فإنها محمودة.
إذ قال تعالى: "ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون . وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق" [المائدة: 82،
83]، وقد قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" [العنكبوت: 69].
ثم أشار إلى أنه إذا لم ينقد بما يرضيه فلا بد وأن ينقاد بما لا يرضيه، أو بالتجاوز وليسا من الكمال، فقال: (ولكن الأمر) أي: الشأن الإلهي (يقتضي الانقياد) أي: انقیاد المشرع الحق للعبد، سواء انقاد العبد لما شرعه أم لا.
(وبيانه) أي: بيان انقياد المشرع في الحالين (أن المكلف) الذي يشرع له (إما منقاد بالموافقة) بامتثال ما أمر، والانتهاء عما نهى (أو مخالف فالموافق المطيع لا كلام فيه) أي: في أن الحق منقاد له لبيان قوله عليه السلام حكاية عن الله تعالى: "من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا". رواه البخاري ومسلم وغيرهم.
(وأما المخالف، فإنه) ينقاد له المشرع الحق أيضا؛ لأنه (يطلب بخلافه) الاسم (الحاكم عليه من الله أحد الأمرين، إما التجاوز والعفو، وإما الأخذ على ذلك، ولا بد) من وقوع انقياد المشرع الحق لهذا الطلب.
لأنه لا بد من وقوع (أحدهما) أي: أحد الأمرين أي التجاوز والأخذ؛ (لأن الأمر) أي: أمر التكليف (حق في نفسه)، فمخالفته جريمة، فلا بد من ترتب أحد الأمرين عليها،
(فعلى كل حال) من موافقة المكلف ومخالفته (قد صح انقياد الحق إلى عبده لأفعاله) الظاهرة بإعطاء ما يطلبه عليها، (وما هو عليه من الحال)المقتضي لإرضائه أو التجاوز عنه أو أخذه، وإذا كان لا بد من انقياد الحق لحال العبد في الموافقة والمخالفة، (فالحال هو المؤثر) في انقياد الحق بأحد الوجوه الثلاثة، كما أنه مؤثر في أفعاله التي من جملتها الدين.



قال الشيخ رضي الله عنه : (فمن هنا كان الدين جزاء أي معاوضة بما يسر وبما لا يسر: فبما يسر «رضي الله عنهم ورضوا عنه» هذا جزاء بما يسر، «ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا» هذا جزاء بما لا يسر. «ونتجاوز عن سيئاتهم» هذا جزاء.  فصح أن الدين هو الجزاء، )

(فمن هنا) أي: تأثير حال العبد في انقياد الحق، وأفعال العبد التي من جملتها انقياده وترك انقياده، (كان الدين) الذي به انقياد العبد وترك انقياده، وانقياد الحق بأحد الوجوه (جزاء) أي: موجب جزاء، كأنه نفسه حتى فسر به قوله تعالى: "مالك يوم الدين" [ الفاتحة: 4] أي يوم الجزاء.
وفسر الجزاء بقوله: (أي: معاوضة) لئلا يتوهم أنه ابتداء من الله تعالى من غير تأثير الأعمال فيها، بل هي علامات كما ذهب إليه بعض المتكلمين.
ثم أشار إلى أنه كيف لا يكون أثر الأعمال وهو واقع (بما يسر) في الموافقة، (وبما لا يسر) في المخالفة، والمخالفة أثر في ذلك؛ لأن ترتب الشيء على الأمر يشعر بعليته، فبما يسر أي: فالمعاوضة (والجزاء بما يسر) مثل ("رضي الله عنهم ورضوا عنه" [المائدة: 119]) وإن كان الرضوان الإلهي تفضة منه إذ ليس على مقدار العمل، فإنه قد ثبت "ورضوان ، الله أكبر" [التوبة: 72] .
لكنه من حيث ترتبه على الموافقة أثر لها في الجملة، لا من حيث هو صفة قديمة بل من حيث تعلقها بهذا العبد الموافق، وأما المعارضة بما لا يسر فنحو قوله تعالى: ("ومن يظلم نقم قه عذابا كبيرا" (الفرقان:19] هذا جزاء بما لا يسر).
لأنه لما كان كل نعمة منه عدلا فتوقفه على الظلم الصادر من العبد يشعر بكونه جزاء عليه.
ثم أشار إلى أن الجزاء لا ينحصر فيما يسر وما لا يسر، كما هو المتبادر إلى أوهام العامة بل ثمة قسم آخر نحو قوله تعالى: ("وتجاوز عن سيئاتهم" [الأحقاف:16] هذا جزاء) لترتبة على السيئات وليس بما يسر وما لا يسر، فهو جزاء مطلق. (فصح أن) الكل أثر الدين الذي هو الانقياد، (فصح أن الدين هو الجزاء) تسمية للمسبب باسم سببه، ولما خفيت السببية في جزاء السيئات من التجاوز والأخذ بينها مع الإشارة إلى أن تفسيره بالإسلام لا ينافيه بقوله.

قال الشيخ رضي الله عنهم : (وكما أن الدين هو الإسلام والإسلام عين الانقياد فقد انقاد إلى ما يسر وإلى ما لا يسر وهو الجزاء. هذا لسان الظاهر في هذا الباب. وأما سره وباطنه فإنه تجلي في مرآة وجود الحق: فلا يعود على الممكنات من الحق إلا ما تعطيه ذواتهم في أحوالها، فإن لهم في كل حال صورة، فتختلف صورهم لاختلاف أحوالهم، فيختلف التجلي لاختلاف الحال، فيقع الأثر في العبد بحسب ما يكون. فما أعطاه الخير سواه ولا أعطاه ضد الخير غيره، بل هو منعم ذاته ومعذبها. فلا يذمن إلا نفسه ولا يحمدن إلا نفسه.  «فلله الحجة البالغة» في علمه بهم إذ العلم يتبع المعلوم.
ثم السر الذي فوق هذا في مثل هذه المسألة أن الممكنات على أصلها من العدم، وليس وجود إلا وجود الحق بصور أحوال ما هي عليه الممكنات في أنفسها وأعيانها. فقد علمت من يلتذ ومن يتألم وما يعقب كل حال من الأحوال وبه سمي عقوبة وعقابا )
(وكما أن الدين الإسلام والإسلام عين الانقياد) الحاصل للعبد في الجزاء، كما أنه (عين الانقياد) لما شرع (فقد انقاد) العبد بانقياده لما شرعه، وترك انقياده له (إلى ما يسر وإلى ما لا يسر وهو الجزاء)، فكان الإسلام والجزاء واحد في تفسير الدين، إلا أن الأول باعتبار انقياده لما شرع، والثاني باعتبار انقياده لما ترتب على المشروع، (هذا لسان الظاهر في هذا الباب) أي: القول بانقياد العبد إلى ما يسر وإلى ما لا يسر من الجزاء لسان أهل الظاهر، وفي الحقيقة هو المجازي نفسه بما يسرها وإلى ما لا يسرها.
كما قال(وأما سره) أي: سببه الحقيقي، (وباطنه) أي: موجبه الخفي وراء المقتضى الظاهر من الاعتقادات والأخلاق والأعمال، (فإنه) أي: الجزاء (تجل) عارض (في مرآة وجود الحق) أي: في العين الثابتة لا من حيث هي عدم، إذ لا يتصور في شأنها أمر لذ أو مؤلم إلا بعد التجلي المفيد لها الصورة الوجودية به المحققة لذواتها، والحق لا يقصد فيها التجلي إلا بحسب مقتضيات أحوالها.
و (فلا يعود على الممكنات) أي: الأعيان من حيث هي موجودة قابلة للتلذذ والتألم من الحق الذي تجليه واحد في ذاته عام للكل.
(إلا ما تعطية) من قابلية تجعل خاص (ذواتهم) أي: أعيانهم الثابتة لا بحسب أنها أعيان، إذ لا يختلف التجلي بحسبها بما يلذ تارة ويؤلم أخرى، بل بحسب ما يعطيه (في أحوالها) التي يتحول عليها من العقائد والأخلاق والأفعال، (فإن لهم في كل حال) لذة (صورة) ما يسر وإلى ما لا يسر؛ (فتختلف صورهم الاختلاف أحوالهم)، وإن كانت أعيانهم باقية في ذواتها لكن تختلف الأحوال عليها باختلاف وجود استعداداتها بحسب الأسباب الخارجية.
(فيختلف التجلي)، وإن كان واحدا في نفسه والعين أيضا واحدة (لاختلاف الحال) الذي هو سبب هذا التجلي المعارض، كما أن العين الثابتة سبب التجلي الذي أفادها الصورة الوجودية، فإذا كان الحال مؤثرا في هذا التجلي.
(فيقع الأثر في العبد بحسب ما يكون) عليه من الأحوال، وهذا الأثر هو المنقسم إلى الخير والشر، (فما أعطاه الخير سواه وما أعطاه ضد الخير غيره)، وإن كان التجلي من غيره، وأحواله أيضا من أسباب خارجية، (بل هو منعم ذاته ومعذبها) لاقتضائه من الحق أن يتجلی بالتنعيم والتعذيب، فهو وإن كان فاعلا بمعنى إرادته الإيجاد، فالفعل إنما ينسب بالحقيقة لمن قام به أو لا، (فلا يذمن) في التعذيب (إلا نفسه، ولا يحمدن) في التنعيم (إلا نفسه)، وما ورد من قوله عليه السلام : "من وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك؛ فلا يلومن إلا نفسه".رواه مسلم والترمذي.
فباعتبار آخر هو أن الخير من حيث هو كمال، لا يكون منشأه النفس، وباعتبار الإيجاد الكل من الله تعالى، كما قال تعالى: " قل كل تين عند الله قال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا" [النساء:78]، وإذا كانت الآثار المنقسمة إلى الخير والشر من مقتضيات أحوال العبد علمها الحق، فتجلى عليهم بحسبها ("فلله الحجة البالغة" [الأنعام: 149] في علمه بهم) الموجب لتجليه عليهم بحسب ما علم منهم؛ لجريان سنته على ذلك، رعاية للحكمة، ودفعا للظلم.
(إذ العلم يتبع المعلوم) من حيث مطابقته له، وإن لم ينفعل علم الحق عن المعلوم بل فعل فيه مقتضاه.
(ثم) أي: بعد بيان السر الدال على أن الكل من العبد إلى العبد (السر الذي فوق هذا في هذه المسألة) الدال على أن الكل من الحق إلى الحق، أي إلى صورته الظاهرة في المظاهر، (أن الممكنات) أي: الموجودات الممكنة وإن وجدت الآن، فهي باعتبار ذواتها
(على أصلها من العدم)، وليس لها حذف ذلك إشعارا بأنها بهذا النظر ليست بشيء، فكيف يثبت لها أمر، فكأنه (ليس) في الواقع أصلا (وجود إلا وجود الحق)، لكنه تصور. (بصور أحوال ما هي على الممكنات في أنفسها)، أي: بحسب نفس الأمر بحيث لو تحققت بأنفسها في الخارج لكانت كذلك.
(وأعيانها) الثابتة في العلم الأزلي، وإنما اعتبر في ثبوتها هذين الأمرين؛ لأنه لما جعلها معدومة بحسب الأصل، ولا أثر للعدم فلا بد من اعتبار ثبوتها؛ ليتصور تأثيرها في صور الحق بوجه أقوى من وجه ألحقها بالمعدومات مع أنه الأصل، فاعتبر فيه أمرين؛ لأن الغلبة في الأكبر للأكثر.
وإذا كانت الممكنات على أصلها من العدم وأعيانها ما شمت رائحة من الوجود، فالواقع عليه الجزاء ليس الممكنات من حيث هي ممكنات، ولا أعيانها بل صورة الوجود المحققة لذوات الأشياء هي التي وقع عليها الجزاء بما تعاقب عليها من صوره العارضة.
(فقد علمت من يلتذ ومن يتألم)، وهي صورة الحق  المحققة للذوات، وعلمت (ما يعقب) من صورة العارضة الملذة والمؤلمة.
(كل حال من الأحوال) العارضة الممكنات، فهو المنعم والمعذب صورته الأصلية بصوره العارضة المتعاقبة عليهما (وبه) أي: ويكون الجزاء صورا متعاقبة على أحوال الممكنات (سمي ) الجزاء (عقوبة وعقابا).
قال الشيخ رضي الله عنه : ( هو سائغ في الخير والشر غير أن العرف سماه في الخير ثوابا وفي الشر عقابا، وبهذا سمى أو شرح الدين بالعادة، لأنه عاد عليه ما يقتضيه ويطلبه حاله. فالدين العادة قال الشاعر: كدينك من أم الحويرث قبلها أي عادتك. )

ثم استشعر سؤالا بأن مقتضى ذلك أن يسمي جزاء الخير أيضا بالعقاب والعقوبة، فقال: (وهو) أي اسم العقوبة والعقاب (سائغ) بالمعنى المذكور (في) الجزاء (الخير والشر)، كالتواب باعتبار كونه من تاب، إذا رجع (غير أن العرف سماه في الخير ثوابا ، وفي الشر عقابا) للتفرقة بينهما مع الاختصار، (وهذا) أي: ولتحقق عود الجزاء من الشيء إلى نفسه، إما من العبد إلى العبد أو من صورة الحق إلى صورته، (سمي) الدين الذي بمعنی الجزاء بطريق النقل (أو شرح) أي: فسر من غير اعتبار نقل (الدين) المذكور (بالعادة لأنه) أي: صاحب الجزاء (عاد عليه ما يقتضيه، ويطلبه حاله) فالجزاء العادة، فإذا كان (الدين) هو الجزاء، والجزاء (العادة)، فالدين العادة من غير احتياج إلى نقل.
واستشهد على استعمال الدين بمعنى العادة بما قال الشاعر :
كدأبك من أم الحويرث قبلها
أي: عادتك إذ لا يصح فيه معنى الانقياد، ولا معنى الجزاء؛ لعدمهما فيه.
"" من معلقة امرئ القيس قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
كدأبك من أم الحويرث قبلها … وجارتها أم الرباب بمأسل
ففاضت دموع العين مني صبابة…على النحر حتى بل دمعي محملي
كدأبك: أي كعادتك، وروى أبو عبيدة قصيدة إمرئ القيس (كدينك مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا) والدين هنا بمعنى: الدأب والعادة ""  

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومعقول العادة أن يعود الأمر بعينه إلى حاله: وهذا ليس ثم فإن العادة تكرار.
لكن العادة حقيقة معقولة، والتشابه في الصور موجود: فنحن نعلم أن زيدا عين عمرو في الإنسانية وما عادت الإنسانية، إذ لو عادت تكثرت وهي حقيقة واحدة والواحد لا يتكثر في نفسه. ونعلم أن زيدا ليس عين عمرو في الشخصية: فشخص زيد ليس شخص عمرو مع تحقيق وجود الشخصية بما هي شخصية في الاثنين. فنقول في الحس عادت لهذا الشبه، ونقول في الحكم الصحيح لم تعد. فما ثم عادة بوجه وثم عادة بوجه، كما أن ثم جزاء بوجه وما ثم جزاء بوجه فإن الجزاء أيضا حال في الممكن من أحوال الممكن. وهذه مسألة أغفلها علماء هذا الشأن، أي أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي لا أنهم جهلوها فإنها من سر القدر المتحكم في الخلائق. )

ثم استشعر سؤالا، وهو أن الجزاء تجل إلهي، وهو لا يعود ولا يتكرر، فكيف حكمتم بعود الجزاء؟
فقال: (ومعقول العادة) أي: مفهومها الحقيقي، (أن يعود الأمر بعينه إلى حاله) المتقدمة، (وهذا) أي: عود الأمر بعينه إلى حاله (ليس ثمة) أي: في الواقع فضلا عن الجزاء حتى يسمى الدين الذي معناه بهذا الاعتبار عادة، فإن العادة باعتبار هذا المفهوم (تكرار) لحالة واحدة، ولا تكرار في الموجودات.


(ولكن العادة) المحققة في الموجودات هي عادة بالمعنى العدمي، يتحقق في الصور المتشابهة المتواردة على (حقيقة واحدة معقولة)، فكأن تلك الصور حقيقة معقولة واحدة عادت من أول إلى ثان.
(والتشابه في الصور) بحيث توهم كونها حقيقة واحدة معقولة (موجود)، فالعادة بالمعنى العرفي موجودة في الصور المتشابهة، وإن توجد في الحقيقة الواحدة التي هي حقيقة واحدة في نفسها.
(فنحن نعلم أن زيدا عين عمرو في الإنسانية وما عادت الإنسانية) في عمرو لا بالمعنى الحقيقي ولا بالمعنى المجازي.
(إذ لو عادت) بأحد المعنيين (لتكثرت) بأن تسمی أولا وثانيا، ولكن فرض ذلك في الإنسانية باطل، (إذ هي حقيقة واحدة) في نفسها لا صور متشابهة أوهم تشابهها كونها حقيقة واحدة، عادت من أول إلى ثان (والواحد لا يتكثر في نفسه)، فكيف يصح فرضه متكثرا.
وإن تكثرت صورة صور المرايا لزيد، لكن العادة بالمعنى العرفي ثابت في تلك الصور، باعتبار تكثرها إلى أول وثان مع تشابهها الموهم لكونها حقيقة واحدة مع أنها في نفسها ليست كذلك.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 8:05 pm

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص اليعقوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية    الجزء الثاني

وذلك أنا (نعلم أن زيدا ليس عين عمرو في الشخصية)، وهي الصورة العارضة للحقيقة الإنسانية التي بها تميز كل فرد عن آخر، فلا بد من التكثر في حقيقة الشخصية، (فشخص زید ليس شخص عمرو)، بحيث يتحد حقيقة شخصيتهما (مع تحقق وجود الشخصية بما هي شخصية في الاثنين)، فتشابهت الشخصيتان بحيث يوهم أن الشخصية حقيقة واحدة معقولة مع أنها في الواقع متعددة، إذ لا تمیز بدون ذلك الكثرة، (نقول في الحس) أي: الوهم (عادت) الشخصية (لهذا الشبه) باعتبار المفهوم الواحد للشخصية المحققة في أول وثان.
(ونقول في الحكم الصحيح لم تعد) الشخصية؛ لأن حقيقتها لما تعددت لم تكن الثانية عين الأولى.
وإذا كان كذلك (فما ثم) أي: في الصور المتشابهة لحقيقة واحدة (عادة بوجه)، وهو اعتبار تعددها، وثم عادة بوجه وهو اعتبار تشابهها، فهذا هو العادة بالمعنی العرفي في الصور المتشابهة.
(كما أن ثم) أي: في الصور الملذة والمؤلمة المتعاقبة على أحوال غير العبد (جزاء من وجه) باعتبار تشابه هذه الصور لتلك الأحوال كأنها عادت بعينها فصارت جزاء.
(وما ثم جزاء بوجه فإن الجزاء أيضا حال في الممكن) مغايرة للأولى، فليست الأولى عائدة حتى يقال: إن الثانية جزاء، فهو من جملة أحوال الممكن، فكما لا تسمی الأولى لعدم عودها جزاء، فكذا الثانية.
(وهذه) أي: (مسألة) تحقق الجزاء مسألة (أغفلها علماء هذا الشأن)، ولما أوهم أنه تجهیل لهم ، قال (أي: أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي لا أنهم جهلوها) وكيف يجهلونها، (فإنها من سر القدر المتحكم على الخلائق)، لا تتقدر ماهية بمقدار خاص من تجلي الوجود وصفاته إلا بحسب هذا السر، فلا يتحقق علم حقيقة بدون معرفتها، فكيف تجهلهما علماء الحقائق، فافهم، فإنه مزلة للقدم.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( واعلم أنه كما يقال في الطبيب إنه خادم الطبيعة كذلك يقال في الرسل والورثة إنهم خادمو الأمر الإلهي في العموم، وهم في نفس الأمر خادمو أحوال الممكنات.
وخدمتهم من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم. فانظر ما أعجب هذا! )
ثم أشار إلى أن سر المقدر هو الذي يقتضي التشريع والجزاء بواسطة خدمة الرسل والورثة للأمر الإلهي.
فقال: (واعلم أنه كما يقال في الطبيب إنه خادم الطبيعة، كذلك يقال في الرسل والورثة) أي العلماء والأولياء، الذين هم أطباء النفوس في حفظ صحتها إن كانت وردها إن زالت، (أنهم خادمو الأمر الإلهي) الذي هو بمنزلة دواء حفظ الصحة، وتحصيلها باستعماله في ذلك (في العموم) أي: حق الكل لكن ذلك بالنظر إلى التبليغ واستعمال الأدوية، وليس بالنظر إلى تحصيل الصحة وحفظها في العموم، وإلا كانوا هادين للكل شافين هم، (بل هم في نفس الأمر خادمو أحوال المم?نات)، فإن الأنبياء يوصلون المكلفين إلى ما يقتضي أعيانهم في جزاء الخير والشر المرتب على دعوتهم، والأطباء يحفظون الصحة ويحصلونها للقابلين، وتكون معالجتهم سبب لزيادة المرض ووقوفه في عين القابلين.
ثم أشار إلى أن هذه الخدمة أيضا داخلة في سير القدر، فقال: (وخدمتهم من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم، فانظر ما أعجب هذا) حيث صارت الخدمة عين المخدوم.


قال الشيخ رضي الله عنهم : ( إلا أن الخادم المطلوب هنا إنما هو واقف عند مرسوم مخدومه إما بالحال أو بالقول، فإن الطبيب إنما يصح أن يقال فيه خادم الطبيعة لو مشى بحكم المساعدة لها، فإن الطبيعة قد أعطت في جسم المريض مزاجا خاصا به سمي مريضا، فلو ساعدها الطبيب خدمة لزاد في كمية المرض بها أيضا، وإنما يردعها طلبا الصحة والصحة من الطبيعة أيضا بإنشاء مزاج آخر يخالف هذا المزاج. فإذن ليس الطبيب بخادم للطبيعة، وإنما هو خادم لها من حيث إنه لا يصلح جسم المريض ولا يغير ذلك المزاج إلا بالطبيعة أيضا.
ففي حقها يسعى من وجه خاص غير عام لأن العموم لا يصح في مثل هذه المسألة. فالطبيب خادم لا خادم أعني للطبيعة).
ثم أشار إلى أن هذه الخدمة غير مطلوبة من الأنبياء والأطباء، فقال: (إلا أن الخادم المطلوب) خدمته (هاهنا) أي: في عالم الأمر الظاهر (واقف عند رسوم مخدومه) مما يوجب حفظ الصحة الجسمانية، أو النفسانية، أو تحصيلها ووقوفه على ذلك المرسوم (إما بالحال) بأن يشتغل الطبيب بالمعالجة بالفعل، ويشتغل الرسول والوارث بالعمل الموجب اتباعه فيه.
(أو بالقول) بأن يأمر الطبيب بالدواء ويبين الرسول والوارث الأمر الإلهي ولا يخدم من حيث الطبيعة من حيث هي طبيعة، ولا الرسول والوارث الأمر الإلهي من حيث هو أمر أعم من أن يكون تكليفا أو إرادیا، فليس نظرهم في خدمتهم إلى أحوال المم?نات.
( فإذن الطبيب إنما يصح أن يقال فيه خادم الطبيعة ) على الإطلاق (لو مشى) في طبه (بحكم المساعدة لها)، إذ لا معنى للخدمة سوى مساعدة المخدوم وليس كذلك.
(فإن الطبيعة قد أعطت في جسم المريض مزاجا خاصا) غير الاعتدال الذي يتيسر معه انتظام أفعال الصحة على الكمال (به سمي مريضا، فلو ساعدها) أي: هذه الطبيعة (الطبيب خدمة) بتكميلها (لزاد) الطبيب (في كمية المرض)، أي: مقداره (بها) أي: بتلك المساعدة؛ لأن مساعدة المؤثر تزيد في أثره لا محالة (أيضا)، كما يزيده بمساعدة طبيعة الصحة بحفظها دواما لها، وليس كذلك إذ من ساعد طبيعة المرض يكون قات أو ممرضا لا طبيبا.
(وإنما) الطبيب هو الذي (يردعها) أي: الطبيعة المعطية مزاج المرض (طلبا للصحة) التي هي ضد مطلوب تلك الطبيعة الممرضة، فكيف يكون خادمها .
(ولكن الصحة) التي يطلبها هذا الطبيب (من الطبيعة أيضا)، لكن هذه الطبيعة المخدومة تخالف تلك الطبيعة الممرضة في فعلها (بإنشاء مزاج آخر يخالف مزاج المرض)، وإذا كان خادما لطبيعة دون أخرى (فإن الطبيب ليس بخادم للطبيعة) من حيث هي طبيعة مطلقا ولا الطبيعة الخاصة المفيدة للصحة من حيث هي طبيعة فقط.
(وإنما هو خادم لها من حيث إنه لا يصلح جسم المريض) بحيث يتيسر له أفعال الصحة على الكمال، (ولا يتغير ذلك المزاج) المسمى بالمرض (إلا بالطبيعة أيضا) أي: بقصد إحداث طبيعة، فهو وإن سعى في ردع طبيعة،( ففي حقها يسعى من وجه خاص غیر عام).
أي: من حيث تلك الطبيعة المفيدة للصحة طبيعة؛ (لأن العموم لا يصح في هذه المسألة) لا بالنظر إلى الطبائع المتضادة، ولا بالنظر إلى طبيعة تفيد الصحة من حيث هي طبيعة فقط، (فالطبيب) خادم للطبيعة المطلوبة من حيث إنها تصلح جسم المريض، وتغير مزاجه المسمى بالمرض.
لا (خادم أعني للطبيعة) التي يخدمها من حيث هي طبيعة فقط، وكذلك من حيث هو خادم للطبيعة من حيث هي طبيعة خاصة مفيدة للصحة أو مبقية لها، لا خادم لها من حيث هي مزيلة للصحة أو غير رادة لها.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك الرسل والورثة في خدمة الحق. والحق على وجهين في الحكم في أحوال المكلفين، فيجري الأمر من العبد بحسب ما تقتضيه إرادة الحق، وتتعلق إرادة الحق به بحسب ما يقتضي به علم الحق، ويتعلق علم الحق به على حسب ما أعطاه المعلوم من ذاته: فما ظهر إلا بصورته. فالرسول والوارث خادم الأمر الإلهي بالإرادة، لا خادم الإرادة. فهو يرد عليه به طلبا لسعادة المكلف فلو خدم الإرادة الإلهية ما نصح وما نصح إلا بها أعني بالإرادة.
فالرسول والوارث طبيب أخروي للنفوس منقاد لأمر الله حين أمره، فينظر في أمره تعالى وينظر في إرادته تعالى، فيراه قد أمره بما يخالف إرادته ولا يكون إلا ما يريد، ولهذا كان الأمر. 
فأراد الأمر فوقع، وما أراد وقوع ما أمر به بالمأمور فلم يقع من المأمور، فسمي مخالفة ومعصية. فالرسول مبلغ )
(وكذلك) أي: مثل الطبيب في خدمة الطبيعة و لخدمته (الرسل والورثة في خدمة) أمر (الحق) أعم من أن يكون تكليفيا أو إراديا فيخدمونه من حيث الأمر التكليفي والإرادي حيث أراد الموافقة لا المخالفة، وذلك أن الأمر (الحق) أي: الأمر التكليفي، (على وجهين في الحكم) أي: حكم الإرادة على المكلفين إما موافق لها أو مخالف.
وذلك أيضا مأخوذ (من أحوال المكلفين) في استعداد الموافقة والمخالفة بعد اقتضاء أحوالهم تعلق الأمر التكليفي بهم (فيجري الأمر) التكليفي (من العبد) أي: من حيث صدور المأمور به من العبد ولا من صدوره (بحسب ما تقتضيه إرادة الحق) من الموافقة والمخالفة، ولا ظلم في هذه الإرادة على خلاف الأمر التكليفي.
(إذ تتعلق إرادة الحق به بحسب ما يقتضي به علم الحق، ويتعلق علم الحق به على حسب ما أعطاه المعلوم من ذاته) من تعلق الأمر به من الموافقة أو المخالفة، (فما ظهر) أمر التكليف مع إرادة المخالفة في حق العبد (إلا بصورته)."الصورة : التي هو عليها في الحضرة العلمية."  
أي: ما علم منه الحق بلا ظلم من جهته؛ وإنما الظالم هو غير العبد حيث اقتضى أمر التكليف مع المخالفة، وإذا كان الحق في الأمر على وجهين: موافقة الإرادة ومخالفتها.
(فالرسول والوارث خادم الأمر الإلهي بالإرادة) أي: إرادة الأمر وإرادة الموافقة من المأمور (لا خادم الإرادة) من حيث هي إرادة مطلقا، كالطبيب بالنسبة إلى الطبيعة.


(فهو يرد عليه) أي: على الحق إرادته به أي: بالحق إرادته أيضا.
وإنما قال: عليه به لیشیر إلى أن الكامل وإن رأى الحق في الكل فلا يفتر عن الرد؛ لكنه يرد على الحق بالحق، كما أن الطبيب يدفع الطبيعة بالطبيعة طلبا للصحة، فهذا يفعل ذلك (طلبا لسعادة المكلف) التي هي الصحة النفسانية.
(فلو خدم الإرادة الإلهية) من حيث هي إرادة ما نصح مكلفا؛ لأن فعله على وفق إرادة ما؛ لكنه خادم للإرادة أيضا.
كيف (وما نصح إلا بها أعني الإرادة) فسرها لئلا يتوهم أن الحق لا يريد من المعاصي إلا المعصية، فأشار إلى أنها ربما لا تكون مرادة للحق في شأنه، وإن قصدها إلا عند الفراغ منها، والفراغ منها إنما يحصل لو لم يرد على الحق، وإذا كانت خدمة الرسول والوارث للإرادة من حيث تحصيل السعادة، كخدمة الطبيب من حيث تحصيل الصحة.
(فالرسول والوارث طبيب أخروي للنفوس) المريضة بمرض أسباب المخالفة باستعمال الأمر الإلهي الذي هو الدواء؛ وذلك لأنه (منقاد لأمر الله حين أمره) من غير براح منه خوفا من استحكام الداء، ولئلا تتم إرادة المعصية في حقه لو لم يرد عليه لتهيئ أسبابها.
ولما كان الرسول والوارث طبيبا؛ لم يكن له بد من النظر في الدواء وأسباب المرض والصحة، (فينظر في أمره تعالی) من حيث هو دواء، (وينظر في إرادته) تعالى من حيث هي أسباب الصحة أو المرض، (فيراه قد أمره بما يحالف إرادته)، وإن كان الأمر من الإرادة كمن يأمر عبده يريد مخالفته إظهارا لعصيانه ليكون عذر له عند من يلومه بضربه، فيداويه مداواة الطبيب المريض بمرض الموت؛ وذلك لأنه (لا يكون) من المأمور (إلا ما يريد) منه لا ما أمره؛ لأن الإرادة أصل لوقوع الحمل من الأمر والمأمور بها.
(ولهذا) أي: و لوقوع ما يريد دون ما لم يرد (كان الأمر) صفة أزلية للحق، ولا بد له من مأمور، (فأراد الأمر) أي تعليقه بكل مكلف (فوقع) تعليقه لكونه مراد للحق، (وما أراد وقوع ما أمر به) حال كونه ملتبسا بالأمور (بالمأمور) العاصي، وإن أراد وقوعه من المطيع، (فلم يقع) المأمور به منه، وإن تعلق به الأمر عن الإرادة.


لأنها تعلقت بمجرد الأمر لا مع المأمور به منه، فيسمى عدم وقوع المأمور به (من المأمور مخالفة) للحق، وإن وافق إرادته.
لأنه لما خالف الجمال الذي منه الأمر، فكأنما خالف الحلال الذي هو عاشق الجمال أيضا (ومعصية)، وإن كان طاعة للإرادة والجلال لما ذكرنا، والرسول لا يخدم الإرادة والجلال، ولا يتأتى منه تربية الأمر التكليفي هناك (فالرسول مبلغ) للأمر التكليفي في حقه وخدمته هنا التبليغ لا غير.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولهذا قال شيبتني «هود» وأخواتها لما تحوي عليه من قوله «فاستقم كما أمرت» فشيبه «كما أمرت فإنه لا يدري هل أمرت بما يوافق الإرادة فيقع، أو بما يخالف الإرادة فلا يقع. )
(وهذا) أي: ولوقع المخالفة بين إرادة الأمر، وإرادة وقوع المأمور به في حق العاصي (قال صلى الله عليه وسلم : "شيبتني هود" أي: سورة "هود وأخواتها") رواه الترمذي والحاكم
(لما تحوي) تلك السور (عليه من قوله"فاستقم كما أمرت" [هود: 112]) .
فإنه عليه السلام وإن علم أنه حصل له استقامة فوق ما حصل لسائر الكمل تردد في أنه هل حصل له بمقدار ما أمر أم لا (فشيبه) قوله: ("كما أمرت" فإنه لا يدري هل أمر بما يوافق الإرادة) أي: إرادة وقوع ما أمر به من أقصى مراتب الاستقامة، (فيقع أو بما يخالف الإرادة فلا يقع)، فيقع في المعصية، فيحجبه عن الحق ويتخلف عن أمر المحجوب، فينقطع عن محبته فشاب من هذا الخوف الحاصل له من هذا التردد.

قال الشيخ رضي الله عنه: ( ولا يعرف أحد حكم الإرادة إلا بعد وقوع المراد إلا من كشف الله عن بصيرته فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها على ما هي عليه، فيحكم عند ذلك بما يراه. وهذا قد يكون لآحاد الناس في أوقات لا يكون مستصحبا.
قال: «ما أدري ما يفعل بي ولا بكم» فصرح بالحجاب، وليس المقصود إلا أن يطلع في أمر خاص لا غير.)

ثم استشعر سؤالا بأنه عليه السلام  كيف لا يعرفه مع غاية كماله الموجب كشف الحجب عنه؛ فقال: (ولا يعرف أحد حكم الإرادة) أي: حكم تعلقها بأحد الأمرين (إلا بعد وقوع المراد) من الأمرين (إلا من كشف الله عن بصيرته) الحجب كلها عن أعيان الممكنات (فأدرك أعيان الممكنات) وإن كانت معدومة في أنفسها.
لكنها تدركها (في حال ثبوتها) في العلم الأزلي عند انكشافه له، فما ينكشف لك عن الصورة المعدومة التي في المرآة لثبوتها فيها، ولا يكفي إدراكها من حيث هي أعيان، بل لا بد من إدراكها (علی ما هي عليه) من الأحوال، (فيحكم عذد ذلك) الكشف (بما يراه) فيه قبل الوقوع.
لكن الكمال النبوي لا يستلزم رفع جميع الحجب في جميع الأوقات عن جميع تلك الأحوال، وإن كانت (هذا قد يكون لآحاد الناس) فضلا عن الأولياء، كالفلاسفة والبراهمة والزنادقة بالنسبة إلى بعض الأعيان وبعض أحوالها (في أوقات) مخصوصة (لا يكون مستصحبا) لهم  أيضا، فعلم أنه ليس من الكشوف العالية.


ولهذا قال صلى الله عليه وسلم عن أمر ربه: "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" [الأحقاف: 9] (فصرح بالحجاب) بينه وبين الأعيان وأحوالها، وذلك أنه (ليس المقصود) من كشف أهل الكمال (إلا أن يطلع) المكاشف (على أمر خاص) لا يستحق من دونه الاطلاع على مثله؛ لا أن يحيط بالمعلومات الجزئية في كل وقت؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
ولما كانت الحكمة الروحية تفيد تنوير الباطن بنور الشرع والتصوف عقبها بالحكمة النورية التي تبحث عن تنور قوة الخيال بنورهما مثل نور سائر القوى، ليصح بذلك الكشف الصوري في اليقظة والمنام، فلا يكون من قبيل ما يحصل للمحرورين ، وأرباب الماليخوليا في اليقظة، ولا من قبيل أضغاث الأحلام في المنام.
"" الماليخوليا : هو داء معروف ينشأ من السوداء، وأكثر حدوثه في شهر شباط يفسد العقل، ويقطب الوجه ويديم الحزن، ويهيم بالليل، ويخضر الوجه، وينمو العينين، وينحل البدن نقله الصاغاني.""
فقال:
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 8:23 pm

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص البوسفية على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية   الجزء الأول
الفص اليوسفي
أي: ما يتزين به ويكمل العلم اليقيني الباحث عن تنوير الخيال لصحة الكشف الصوري.
ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى يوسف عليه السلام إذ كوشف في الصغر في المنام عن حال أمره في الكبر ، ثم كوشف له عن معاني هذه الصور من غير اشتغال بتعلم علم التعبير.
"" أضاف المحقق : اعلم أن النور الحقيقي يدرك به، و نور ذات الحق سبحانه وتعالى لا يدرك؛ لأنه عين ذات الحق تعالى من حيث تجردها عن النسب والإضافات .
الحديث: "سئل ابن عباس، فقيل: يابن عباس، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟
قال: نعم. فقلت لابن عباس: أليس يقول الله: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار[الأنعام: 103] .
قال ابن عباس رضي الله عنه : لا أم لك، ذاك نوره الذي هو نوره الذي هو نوره، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء." رواه المقدسي في المختارة والبيهقي وابن خزيمة وغيرهم.""
كما قال أبوه: «وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث" [يوسف: 6]، وقد أول رؤيا الفتيان في السجن، وقال: "ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون" [يوسف: 37].
وقد أول رؤيا الملك بعدما عجز عن تعبيرها أهل زمانه وقالوا:"أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين" [يوسف: 44].

قال الشيخ رضي الله عنه : (هذه الحكمة النورية انبساط نورها على حضرة الخيال وهو أول مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية. تقول عائشة رضي الله عنها: «أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا خرجت مثل فلق الصبح «تقول لا خفاء بها. وإلى هنا بلغ علمها لا غير.
وكانت المدة له في ذلك ستة أشهر ثم جاءه الملك، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»، وكل ما يرى في حال النوم فهو من ذلك القبيل، وإن اختلفت الأحوال.
فمضى قولها ستة أشهر، بل عمره كله في الدنيا بتلك المثابة: إنما هو منام في منام. )
ثم أشار رحمه الله إلى وجه تخصیص هذه الحكمة بالنورية مع أن جميع الحكم أنوار الكمال معنى النورية فيها إذ تنكشف بها المعاني بلبسة المحسوسات.
فتتضح غاية الوضوح ويعرف بها ما وراء الصور من المعاني من غير احتياج إلى تعلم علم التعبير، ولذا لا يقال لكل من رأى رؤيا صادقة أنه أوتي الحكمة النورية.
فقال: (هذه الحكمة النورية) أي: المذكورة هاهنا دون المشار إليها في قوله: "الله نور السموات والأرض" [النور:35] 
وقوله: "واتبعوا النور الذي أنزل معه" [ الأعراف: 157].
وقوله : "الله ولي الذين قاموا يخرجهم من الظلمات إلى النور" [البقرة: 257] ونحو ذلك (انبساط نورها) أي نور الحكمة بحيث تقيد الصفاء الكلي، ولا تحوج إلى علم آخر (على حضرة الخيال) التي هي خزانة صور المحسوسات ليكشف له في البسها المعاني الغيبية من غير انحراف فيها.
(وهو) أي: انبساط نور الحكمة على حضرة الخيال (أول مبادئ الوحي الإلهي)، فإن الوحي لما كان إلقاء المعاني الغيبية على الروح، ولا تعرفها النفس المحجوبة إلا بواسطة قواها الباطنة، ولا يصفو ما فيها إلا عند تنورها بنور الحكمة، وأول ما يتنور منها قوة الخيال؛ فتصغر منها الصور المخزونة عن الالتباس والاختلاط، فيصح فيها الكشف الصوري في المنام، ثم في اليقظة.
وغاية ذلك أن تصبر النفس متنورة بنور الروح، فلا يحتاج إلى الوسائط، فللوحي مبادئ وغاية وأول مبادئه انبساط نور الحكمة الفائضة على الروح إلى حضرة الخيال في أهل العناية)، وهم الأنبياء عليهم السلام - ثم الأولياء اعتني بهم في تصحیح كشوفهم عما يعرض لأصحاب أضغاث الأحلام في اليقظة أو المنام، وفي رعاية أحوال عقولهم حتى لا تدهش بما ليس لها به ألفة إذا رأته بغتة.
واستدل على أنه أول مبادئ الوحي بأثر عائشة رضي الله عنها فقال: (تقول عائشة رضي الله عنها: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي..)
أي: إلقاء المعاني الغيبية عليه ("الرؤيا الصادقة"). رواه البخاري ، ومسلم.
المطابقة صورة المرئي فيها صورته في عالم الحس الظاهر»، فلا تحتاج إلى التعبير إذ المحتاج إليه إنما يصدق باعتبار التأويل.
ولذلك قالت: («فكان لا يرى رؤيا إلا") جاءت في الحس الظاهر ("مثل فلق الصبح»). رواه البخاري ، ومسلم.
في كشف الحجاب عن خفائها فكأنها (تقول: لا خفاء بها) فنسب إليها القصور بهذا القول.
فقال رضي الله عنه : (وإلى هاهنا) أي: القول بعدم الخفاء في الصور إذا انتهت إلى الحس الظاهر (بلغ علمها لا غير) مع أن الصور ليست مقصودة بذاتها، فلها معان خفية لا تظهر إلا عند تمام كشف الحجب في الآخرة.
ثم قالت: («وكانت المدة في ذلك ستة أشهر، ثم جاءه الوحي على لسان الملك» فغلطها أولا في تعيين المدة، ثم في مجيء الملك مخالف لحالة الرؤيا بالكلية.
فقال رضي الله عنه : (وما علمت) حين قيدت المدة بستة أشهر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الناس نيام").
يرون صورة لا يعرفون معانيها الحقيقية ("فإذا ماتوا انتبهوا") لها بكشف الحجب كلها والرسول داخل فيهم، وإن كان صاحب كشف ووحي لبقاء بعض الحجب عليه بسبب تعلق الروح بالبدن. الحديث رواه البيهقي والسيوطي في الجامع الصغير.
وكل ما يرى الرسول صلى الله عليه وسلم (في حال يقظته فهو من ذلك القبيل) أي: قبيل الرؤيا في الاحتياج إلى التعبير الذي لا يتم ظهوره إلا في عالم الآخرة.
(وإن اختلفت الأحوال) أي: أحواله صلى الله عليه وسلم في المنام واليقظة وانكشاف أمور الآخرة له والحجاب عنها.
وإذا كان كذلك (فمضى) أي: بطل بطلان الماضي بحيث لا يمكن عوده (قولها أن تلك المدة ستة أشهر بل عمره كله) سواء كان حال الكشف أم لا، لأنه في الدنيا فبعض الحجب باق عليه لا محالة (بتلك المثابة) أي: مثابة المنام.
ثم استشعر سؤالا بأنه إذا كان الكل مناما فما معنى رؤيته في المنام، وما معنی كشوفه؟؟
فقال رضي الله عنه : (إنما هو) أي: المرئي له في المنام المتعارف (منام في منام)، كمن يرى في المنام أنه كان نائما فرأى في نومه رؤيا فاستيقظ فعبرها وهو إلى الآن في المنام لم يستيقظ بعد.

قال الشيخ رضي الله عنه : (وكل ما ورد من هذا القبيل فهو المسمى عالم الخيال ولهذا يعبر، أي الأمر الذي هو في نفسه على صورة كذا ظهر في صورة غيرها، فيجوز العابر من هذه الصورة التي أبصرها النائم إلى صورة ما هو الأمر عليه إن أصاب كظهور العلم في صورة اللبن.
فعبر في التأويل من صورة اللبن إلى صورة العلم فتأول أي قال: مآل هذه الصورة اللبنية إلى صورة العلم.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه أخذ عن المحسوسات المعتادة فسجي وغاب عن الحاضرين عنده: فإذا سري عنه رد. فما أدركه إلا في حضرة الخيال، إلا أنه لا يسمى نائما.)
ثم أشار إلى الفرق بين ما يرى بالحس الظاهر، وبين ما يرى بالحس الباطن في اليقظة أو المنام في لبسه الصور، وبين المعاني المجردة عنها.
فقال رضي الله عنه : (وكل ما ورد) من المعاني (من هذا القبيل) أي: في لبسه الصور (هو المسمى عالم الخيال) لكونه مرئيا في الحس المشترك عن القوة الخيالية المقابلة لها تقابل المرايا المصقولة.
ولا تسمى الصور المحسوسة بالحس الظاهر بذلك إلا مجازا باعتبار ما لها من التأويل في الآخرة مثل تأويل هذه الصور.
واسمها الحقيقي عالم الحس الظاهر، وتسمى المعاني بالمجردة عالم العقل.
ولهذا أي لوقعها في القوة الخيالية التي من شأنها جمع الصور المتقاربة بحيث تلبس على الرائي بعضها ببعض، فلا يكاد

يتميز المقصود عن غيره تميزا تاما (يعبر)، أي: يحتاج فيه إلى التعبير غالبا سواء في المنام أو اليقظة، ومعناه ما أشار إليه بقوله، (أي: الأمر الذي هو في نفسه) .
أي: في عالم الحس الظاهر (على صورة كذا ظهر) للرائي بحضرة الخيال (في صورة غيرها) مما يناسبها مناسبة ما، فهنا تعبير وتأويل:
والأول: هو المرور من الصورة المرئية في المنام إلى الصورة المحسوسة بالحس الظاهر .
والثاني: هو الوصول إلى تلك الصورة المحسوسة .


وإليه الإشارة بقوله: (فيجوز) أي: يمر (العابر) أي: القاصد للوصول إلى الصورة المحسوسة سواء كان الرائي أو غيره .
(من هذه الصورة التي أبصرها النائم) أو من في معناه (إلى صورة ما هو الأمر) أي: أمر المرئي (عليه) من الحس الظاهر (إن أصاب) في التعبير، وإلا وصل إلى غيرها.
ثم مثل بالصورة البعيدة المناسبة بحسب إدراك العامة، فقال: (كظهور العلم في صورة اللبن) في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم (فعبر في) فضل الوصول إلى (التأويل من صورة اللبن) الذي هو غذاء الجسم إلى صورة العلم الذي هو غذاء الروح.
(فتأول) أي: وصل إلى التأويل (أي قال: مال هذه الصورة اللبنية إلى صورة العلم) فهذا صحيح كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم وإن كان بصورة العلم تأويل آخر بالنسبة إلى الآخرة.
ولهذا لم يعترض على يوسف عليه السلام بقوله:"هذا تأويل رؤياي" [يوسف: 100] كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وإنما اعترض عليه بقوله: "قد جعلها ربي حقا " .


ثم أشار رضي الله عنه : إلى رؤية الملك في اليقظة سواء في صورة لا توجد في الحيوانات أو في صورة توجد فيها من هذا القبيل ردا على ما يفهم من ظاهر قول عائشة رضي الله عنها "ثم جاءه الملك".
فقال رضي الله عنه : (ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه أخذ عن المحسوسات المعتادة) قيد بذلك؛ لأنه قد يفتح له عن المحسوسات الباطنية ليدرك بالقوة الخيالية أو الوهمية أو المفكرة.
واستدل عليه بأنه (غاب عن الحاضرين عنده)، وذلك لئلا يشغله عن عالم الغيب، (فإذا سری) أي: ذهب الوحي عنه (رد) إلى عالم المحسوسات. وإذا كان كذلك (فما أدركه) أي: الملك الذي جاء بالوحي (إلا في حضرة الخيال) لامتناع إدراكه في عالم الحس بعد أن يؤخذ عن المحسوسات.
وعدم الاحتياج إلى هذا الأخذ عند كشف المعاني المجردة عند تنور النفس غاية التنور، هذا رؤية الملك في غير صور الحيوانات.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك إذا تمثل له الملك رجلا فذلك من حضرة الخيال، فإنه ليس برجل وإنما هو ملك، فدخل في صورة إنسان.
فعبره الناظر العارف حتى وصل إلى صورته الحقيقية، فقال هذا جبريل أتاكم يعلمكم  دينكم.
و قد قال لهم ردوا علي الرجل فسماه بالرجل من أجل الصورة التي ظهر لهم فيها.
ثم قال هذا جبريل فاعتبر الصورة التي مآل هذا الرجل المتخيل إليها. فهو صادق في المقالتين:
صدق للعين في العين الحسية، وصدق في أن هذا جبريل، فإنه جبريل بلا شك. )

ثم أشار إلى رؤيته في صور الحيوانات، فقال: (وكذلك) أي: يرى الملك في حضرة الخيال (إذا تمثل له الملك رجلا فذلك) المتمثل (من حضرة الخيال) إذ لو كان من عالم الحس لكان رجلا بالحقيقة، ولكنه ليس كذلك.
(فإنه ليس برجل) ذكر من بني آدم، و(إنما هو ملك) كان مجردا (فدخل في صورة إنسان) أخذها من عالم المثال لنفسه، ليألف المخاطب، (فعبره) الناظر (العارف) لقوة معرفته بالفرق بين الصور الحسية والخيالية بحيث يميز بينهما بالبداهة .
(حتى وصل إلى صورته الحقيقية) التي ليس شأن كل واحد الوصول إليها،
(فقال: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم") أي: في صورة مألوفة لكم فلا تدهش عقولكم لرؤيته فلا تفهموا منه أمر دينكم الذي هو أهم الأمور كلها. الحديث رواه مسلم وابن أبي عاصم.


(وقد قال لهم) أولا (ردوا على الرجل) ليعلموا عند تعذر رده بعدم رؤيته بعد غيبة قليلة أنه ليس من جنس البشر فيصدقونه صلى الله عليه وسلم في أنه جبريل بلا وقفة (فسماه) أولا مجازا (بالرجل من أجل الصورة التي ظهر جبريل)عليه السلام  (لهم فيها) جريا على اعتقاد الحاضرين حتى إذا أزال اعتقادهم ذلك.
( فاعتبر) ثانيا (الصورة الملكية التي مال هذا الرجل المتخيل إليها) أي: إلى تلك الصورة الملكية.
( فهو) أي: النبي صلى الله عليه وسلم (صادق في المقالتين).
لكن قوله: ردوا على الرجل (صدق العين) أي: الصورة المحسوسة الظاهرة في العين الحسية الباطنة، كأنها عين ظاهرة .
(وصدق في أن هذا جبريل عليه السلام) باعتبار مالها، (فإنه جبريل عليه السلام  بلا شك)، وإن ظهر في صورة خيالية من شأنها كثرة الغلط فيها، لكن لا غلط فيها بعد تنورها.
ولذلك يقع الجزم بما يرى فيها حينئذ الكامل الحال تام الاعتدال كالمقامات الصادقة، كما يحصل الجزم بالمرئيات الظاهرة، وإن وقع في بعضها الغلط.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( و قال يوسف عليه السلام: «إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين»: فرأى إخوته في صورة الكواكب و رأى أباه و خالته في صورة الشمس و القمر.
هذا من جهة يوسف، ولو كان من جهة المرئي لكان ظهور إخوته في صورة الكواكب وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم.
فلما لم يكن لهم علم بما رآه يوسف كان الإدراك من يوسف في خزانة خياله، وعلم ذلك يعقوب حين قصها عليه فقال: «يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا» ثم برأ أبناءه عن ذلك الكيد وألحقه بالشيطان، وليس إلا عين الكيد.
فقال: «إن الشيطان للإنسان عدو مبين» أي ظاهر العداوة. )

ثم أشار إلى أن هذا التمثل قد يكون من جهة المرئي كما مر من قصة جبريل عليه السلام وقد يكون من جهة الرائي مثل رؤيا يوسف عليه السلام .
فقال رضي الله عنه : (وقال يوسف عليه السلام :" إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم إلى ساجدين " [يوسف: 4]) فرأى إخوته) الذين هم أولاد سماء النبوة (في صور الكواكب ورأى أباه وخالته في صورة الشمس والقمر).
لكون يعقوب عليه السلام نبي ووالد لجملة من الأنبياء عليهم السلام، فهو منبع النور التام كالشمس وخالته مستفيدة للنور منه استفادة القمر من الشمس.
(هذا التمثل للمذكورين (من جهة) تصرف نفس (يوسف عليه السلام ) في خزانة خيالية لا من جهة قصد المرئي، كما مر في تمثل جبريل عليه السلام والدليل عليه أنه (لو كان) التمثل هاهنا (من جهة المرئي) أخوة يوسف عليه السلام وأبيه وخالته، (لكان ظهور أخوته في صور الكواكب، وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم) ضرورة أن ذواتهم لا توجب هذا التصور.
فلو أرادوا ذلك الظهور في هذه الصور الجليلة لم يريدوا مع ذلك أن يسجدوا ليوسف عليه السلام مع أنه نقيض مطلوبهم بالكلية على أنهم لو أرادوا ذلك لعلموا ولو علموا لذكروه.
إذ لا يمكن في العادة نسيان مثل هذا الأمر الجليل بسرعة فلم يكن لنهي يعقوب عليه السلام عن قص الرؤيا عليهم معنی.
(فلما لم يكن لهم علم بما رآه يوسف عليه السلام كان الإدراك) لهؤلاء في هذه الصور الجليلة مع تذللهم له، وتصرف نفس (يوسف عليه السلام في خزانة خياله) رآهم مع هذه العظمة ساجدين له.
فلذلك . قال: "رأيتهم لى ساجدين" بتكرير رأيت كأنها رؤية أخرى بالكلفة.

(وعلم ذلك يعقوب عليه السلام حين قصها عليه) من حيث إن الظهور بهذه الصور الجليلة مع السجود ليوسف عليه السلام ليس مقصودا لهم البتة بل مقصود ليوسف عليه السلام (فقال: "يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا" [يوسف: 5]) عظيما لما فيها من تذللهم لك حال كمالهم.
(ثم برا أبناءه عن ذلك الكيد)، بأنه ليس مقتضى كونهم أبنائي (فألحقه بالشيطان) من حيث غلبته عليهم عن غلبة الهوى الذي هو مراعاة عليهم.
(وليس) هذا الإلحاق بالشيطان وإن كان من قبيل إسناد الفعل إلى السبب بعد إسناده إلى الفاعل (إلا عين الكيد) بيوسف عليه السلام حيث أوقع في اعتقاده من ظاهر عبارته أنه من الشيطان لا غير، لئلا يحقد يوسف عليه السلام عليهم، ومثل هذا الكيد للمصلحة بلا تضمن مفسدة مع رعاية الصدق بالتجوز في الإسناد لا يمتنع من الأنبياء، كما كاد يوسف عليه السلام.

بإخوته في إخفاء الصاع، فقال تعالى في حقه: "كذلك كدنا ليوسف" [يوسف:76] فقال: "إن الشيطان للإنسان عدو مبين" [يوسف: 5])؛ فنفي العداوة منهم لئلا يعاديهم، وألحقه بالشيطان ليعاديه دائما، فكان كذلك في آخر الأمر.

""تعقيب من الجامع : رحم الله شيخنا علاء الدين على أحمد المهائمي :
اولا : كل الرسل والأنبياء منفي عنهم الحقد والحسد والغيلة والبغي والإفتراء وغيرها من أدوات واخلاق الشيطان التى يوقع بها العداوة بين البشر.
فضلا على أنها منفيه عن الأولياء الكمل من الرجال ولكن هناك الكراهية والمقت و الحزن و الغضب فخاف نبي الله يعقوب ان يقع ابنه يوسف عليهما السلام فى الحزن والكراهية والبغض او المقت لإخوته .
ولقد وضعوه فى غيابات الجب وباعوه بثمن بخس ولم يقل الله أنه حقد عليهم وإنما حزن وغضب وهو جائز فى حق الأنبياء عليهم السلام .
ثانيا ما قاله يعقوب عليه السلام السلام للشيطان فهو الحق والصدق لا شك بهذا .
وحتى لا يلقيها الشيطان في أمنية يوسف عليه السلام السلام فـ يستجلبها بهمته من عالم الخيال والمثال إلى عالم الحس فتصيب إخوته فنبهه وعلمه يعقوب عليه السلام السلام أن يغلق هذا الباب على الشيطان بالكلية .
وقد فعل يوسف عليه السلام السلام هذا. وتركهم لله وصبر عليهم حتى أتى الله بهم جمعيا وسجدوا له تحقيقا لرؤياه.""

ولما توهم من قوله: "مبين" أنه يظهر عداوته لهم مع أنه ليس كذلك لقصده أن يتبعوه قال: (أي: ظاهر العداوة) يعني أنه وإن بالغ في قصد إخفائها، فإنها من مبالغته فيها تصير ظاهرة كأنه يقصد إظهارها.

قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم قال يوسف بعد ذلك في آخر الأمر: «هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا» أي أظهرها في الحس بعد ما كانت في صورة الخيال، فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «الناس نيام»،
فكان قول يوسف: «قد جعلها ربي حقا» بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا رآها ثم عبرها.
ولم يعلم أنه في النوم عينه ما برح، فإذا استيقظ يقول رأيت كذا ورأيت كأني استيقظت وأولها بكذا. هذا مثل ذلك.
فانظر كم بين إدراك محمد صلى الله عليه وسلم و بين إدراك يوسف عليه السلام في آخر أمره حين قال: «هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا». معناه حسا أي محسوسا، و ما كان إلا محسوسا، فإن الخيال لا يعطي أبدا إلا المحسوسات، غير ذلك ليس له.)
ثم أشار إلى أن منتهی علم يوسف عليه السلام يشبه علم عائشة رضي الله عنها في هذا المقام ليتدارك ما قال في شأنها أولا مع إظهار فضل نبينا الكلي.
فقال رضي الله عنه : (ثم قال يوسف عليه السلام بعد ذلك في آخر الأمر عند انتهاء حالة في الكمال: (" هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا" [يوسف: 100])، ولما لم يمكن تفسيره بمعنى: الثابت لكونه أمرا زائدا من أمور الدنيا، فيبعد من يوسف عليه السلام القول بثبوته.
قال رضي الله عنه : (أي: أظهرها في الحس بعد ما كانت في صورة الخيال) جعله حقا من حيث إنه لا يحتاج إلى العبور عنه إلى ما هو تأويله.
فقال له: أي لأجل احتياج كل محسوس إلى تأويل في القسمة (النبي) أي: الذي نبئ بالأسرار الخفية حتى فضل على من تقدمه من الأنبياء (محمد صلى الله عليه وسلم : «الناس نيام» فلكل ما رأوه في الدنيا تأويل «فإذا ماتوا انتبهوا» لتأويله .
فإذا كان كل تأويل يحصل في اليقظة بمنزلة المرئي في المنام، (فكان قول يوسف عليه السلام "قد جعلها ربي حقا" بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا رآها ثم عبرها، ولم يعلم أنه في النوم عينه ما برح) نائما إلى الآن.
فإذا استيقظ بالحقيقة (يقول: رأيت في النوم كذا، ورأيت في ذلك النوم عينه


(كأني استيقظت وأولتها بكذا، هذا) أي: قول يوسف عليه السلام : قد جعلها ربي حقا (مثل ذلك) القول في النوم عينه.
(فانظر كم بين إدراك محمد صلى الله عليه وسلم ، وبين إدراك يوسف عليه السلام في آخر أمره حين قال: "هذا تأويل رؤیای من قبل قد جعلها ربي حقا")، فأوقفه على الحس، ولم يخرجه إلى التأويل.
فإن حقا (معناه حسا) مع أنه ليس بحس، كأنه مشعر وما رآه ليس بمشعر بل مدرك به فلذلك فسره بقوله (أي: محسوسا).
وهو بهذه التأويلات البعيدة أيضا باطل، و لبيان بطلانه إعادة.
فقال: وما كان حين رآه في المنام إلا محسوسا (فإن الخيال) لكونه خزانة الصور دون المعاني (لا يعطي أبدا إلا المحسوسات ليس له غير ذلك) لاختصاص كل حاسه بنوع من الإدراك.
فلا بد من تأويله محسوسا بالحواس الظاهرة بعد كونه محسوسا بالحواس الباطنة.
لكن لا ينبغي للكمل أن يقتصروا على المحسوسات، ويتركوا النظر إلى تأويلات القسمة، وقد نظر إليها من دونهم من ورثة محمد صلى الله عليه وسلم ببركة متابعته، وإن لم يشتغلوا بذلك.

قال الشيخ رضي الله عنه : (فانظر ما أشرف علم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم. و سأبسط من القول اعلم أن المقول عليه «سوى الحق» أو مسمى العالم هو بالنسبة إلى الحق كالظل للشخص، وهو ظل الله ، وهو عين نسبة الوجود إلى العالم لأن الظل موجود بلا شك في الحس ، ولكن إذا كان ثم من يظهر فيه ذلك الظل: حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل: كان الظل معقولا غير موجود في الحس، بل يكون بالقوة في ذات الشخص المنسوب إليه الظل.
فمحل ظهور هذا الظل الإلهي المسمى بالعالم إنما هو أعيان الممكنات: عليها امتد هذا الظل، فتدرك من هذا الظل بحسب ما امتد عليه من وجود هذه الذات.
ولكن باسمه النور وقع الإدراك و امتد هذا الظل على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول . )
فقال: (فانظر ما أشرف علم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم ) حيث أدركوا فضله من قوله: «الناس نيام» على يوسف عليه السلام في قوله:"قد جعلها ربي حقا" (وسأبسط من القول) في هذه الحضرة أي: حضرة الخيال بلسان يوسف المحمدي.
أي بلسان من له كشف يوسف في هذه الحضرة مع كونه من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم مستكملا ذلك الكشف بنور متابعته عليه السلام ما يقف عليه بدل من القول إن شاء الله تعالی.
فأشار إلى بيان كون المحسوسات؛ بل العالم كل من عالم الخيال لها تأويلات في القسمة.
(فقال رضي الله عنه: اعلم أن المقول عليه) أي: الموجود الصادق عليه أنه (سوى الحق، أو أنه مسمى العالم) .
يعني: سواء اعتبر فيه جهة الغيرية أم لا؛ فإن العالم اسم كل موجود من حيث دلالته على الحق والدليل لا بد وأن يتحد بالمدلول من وجه، واعتبر في الصدق مسمى العالم.
لأن الصادق على الموضوعات المستعملة في العلوم مفهوم المحمول لا لفظه،
(هو بالنسبة إلى الحق كالظل للشخص) إذ لا يحقق له بذاته لا مكانة؛ فلا بد له مما يتحقق به، ويكون تحققه بنفسه وهو الحق فكأنه الشخص المحقق للظل.
(فهو): أي: تلك المقول عليه سوى الحق (ظل الله) متحقق به.

"" أضاف المحقق : أي ظل هذا الاسم الجامع "الله"، فإن كل جزء من أجزاء العالم ظل لا اسم من الأسماء الداخلة في ذلك الاسم الجامع، فمجموع العالم ظل بمجموعه .أهـ الجامي ""

وما به التحقيق هو: الوجود (فهو) أي : كونه ظل الله (عين نسبة الوجود إلى العالم)، وإنما كان كونه ظل الله عين نسبة الوجود إليه.
مع أن الظل عند بعضهم عبارة عن عدم استنارة المحل بنور الشمس لحجب الشخص، ومنعه عن وصول النور إليه، (لأن الظل موجود بلا شك في الحس) فالقول بكونه معدوما مطلقا يكون سفسطة، فلا عبرة بما قاله البعض، (ولكن) وجوده لا يكون عين الشخص؛
لأنه إنما يوجد (إذا كان ثمة) أي: في مقابلة الشخص (من يظهر فيه ذلك الظل) وهو المحل القابل له، (حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل) في مقابلة ذلك الشخص
كان الظل) للشخص (معقولا غير موجود في الحس)، وإن كان الشخص موجودا في الحس، والموجود في الحس غير ما ليس بموجود فيه.
(بل) غايته في الاتحاد حينئذ أنه (يكون) الظل (بالقوة في ذات الشخص المنسوب إليه الظل)، لكن هذا الكون بالقوة غير كونه بالفعل في الحس فكما لا بد للظل المتعارف من المحل قابل له في مقابلة الشخص، فكذا لا بد للظل الوجودي من قابل في مقابلة الحق .
(فمحل ظهور هذا الظل الإلهي المسمى بالعالم) من حيث إنه علامة على ذي الظل الحق، (إنما هو أعيان الممكنات) وإنما كانت محل ظهور هذا الظل والظل فيها دليلا على ذي الظل.
إذ (عليها امتد هذا الظل فتدرك من) إدراك (هذا الظل) الكائن امتداده متصورا، وإن لم يكن ذا صورة في نفسه (بحسب ما امتد عليه السلام) بشيء (من وجود هذه الذات) الذي به تحقق الظلالات الوجودية، وإن لم يكن بحسب ما امتد عليه بل ميزها عن ذلك.
ولكن هذا الإدراك لشيء من وجود الذات لم يقع من الظل نفسه، وإن كان دليلا عليه بل (باسم النور) المتعلق بالظل المشرق على الروح والعقل والقلب والنفس والحواس، (وقع هذا الإدراك) لاقتضائه الظهور والإظهار وكيف يقع من الظل نفس.
وقد (امتد هذا الظل على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول) ضرورة أن الظل إنما تصور بصور الأعيان بعد الامتداد عليها فيكون قبلها في صورة الغيب المجهول، والأعيان ليست ظاهرة؛

فكيف يقع بها إدراك الشيء من وجود الذات و صورة الغيب المحمول التي هي أصل هذا الظل الوجودي ليست مدركة فكيف يدرك بها شيء من وجود الذات.
وهو الظل إنما صار دليلا على شيء من وجود الذات لا من حيث أصله.
بل من حيث تعلق اسم النور بذلك الظل بعد إشراقه على ما ذكرنا من المدركات.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا ترى الظلال تضرب إلى السواد تشير إلى ما فيها من الخفاء لبعد المناسبة بينها و بين أشخاص من هي ظل له؟. وإن كان الشخص أبيض فظله بهذه المثابة.
ألا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سوداء وقد تكون في أعيانها على غير ما يدركها الحس من اللونية، و ليس ثم علة إلا البعد؟. وكزرقة السماء.
فهذا ما أنتجه البعد في الحس في الأجسام غير النيرة. )

ثم استدل على أن أصل هذه الظلال الوجودية صورة الغيب المجهول بأن الظلال المتعارفة أمثلة لذلك الظل، وهي مائلة إلى السواد الذي هو مثال الغيب المجهول.
فقال رضي الله عنه : (ألا ترى الظلال) المتعارفة (تضرب إلى السواد)، وهي بذلك (تشير إلى ما فيها من الخفاء) باعتبارات أصلها الظل الوجودي الذي أصله صورة الغيب المجهول.
والسواد باعتبار أنه لون قابض للبصر موجب للخفاء، فالظلال المتعارفة تخفى، وإن كانت أشخاصها جلية (لبعد المناسبة بينها وبين أشخاص من هي ظل له)، فلا تستفيد الظلال من الأشخاص الجلاء ولا غيره من صفاتها.
ولذلك (أن كان الشخص أبيض فظله بهذه المثابة) من الميل إلى السواد؛ بل البعد سواء كان بعد المسافة، أو بعد المناسبة يوجب السواد إما حقيقة، وإما في
النظر.
(ألا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سوداء)؛ لأن البعد أوجب فيها الخفاء؛ ولكن لا يلزم أن يكون سوادا حقيقيا.
لأنه (قد تكون) تلك الجبال (في أعيانها): أي: نفسها (على غير ما يدركها الحس من اللونية)، والدليل على أن ذلك أثر البعد أنه (ليس ثمة).
أي: في ظهورها سوداء من غير أن يكون فيها سواد (علة إلا البعد)، وقد تأكد هذا المعنى من عليه البعد، حيث أثر في غير هذا الموضع (كزرقة السماء) مع أنها لا لون لها، وإلا كان حاجبا عن رؤية ما وراءها من الكواكب.
إذن الألوان حاجبة عن الأبصار بدليل أن الزجاجات الملونة لا يرى ما في باطنها بخلاف غير الملونة، وعدم اللون فيها يوجب الصفاء الموجب للبياض في النظر، والبعد السواد، فصارت في النظر على الزرقة.
(فهذا ما أنتجه البعد) الذي هو بعد (في الحس) من السواد والزرقة (في الأجسام غير النيرة)، إذ لم يعارض فيها ما يوجب الجلاء فكذا بعد المناسبة، أوجب الخفاء في الظلال المتعارفة، وقد أوجبه أيضا فيها كون أصلها الظل الوجودي الذي أصله الغيب المجهول.
فهو خفي بهذا الاعتبار ولم تعارضه في تأثيره بالإخفاء الأعيان الثابتة؛ بل أثرت بالإخفاء.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( و كذلك أعيان الممكنات ليست نيرة لأنها معدومة و إن اتصفت بالثبوت لكن لم تتصف بالوجود إذ الوجود نور . غير أن الأجسام النيرة يعطي فيها البعد في الحس صغرا ، فهذا تأثير آخر للبعد.
فلا يدركها الحس إلا صغيرة الحجم وهي في أعيانها كبيرة عن ذلك القدر وأكثر كميات، كما يعلم بالدليل أن الشمس مثل الأرض في الجرم مائة وستين مرة، و هي في الحس على قدر جرم الترس مثلا. فهذا أثر البعد أيضا.)

كما قال رضي الله عنه : (وكذلك) أي: مثل البعد بالتأثير في الإخفاء (أعيان الممكنات) فإنها في غاية انخفاء، وإن ظهر فيها الوجود؛ لأنها (ليست نيرة) لا بذاتها ولا بالوجد؛ (لأنها معدومة) والعدم محض ظلمة.
(وإن اتصفت بالثبوت) في العلم الأزلي الذي هو نور، وكذا في الخارج عند تجلى الوجود عليها؛ ولكن لم تتصف بالوجود والإلزام انصاف أحد الضدين بالأخر؛ (إذ الوجود نور)، فلا تتصف به الأعيان التي هي ظلمة من حيث هي معدومة.
وظهور الوجود فيها كظهور الصورة في المرآة لا يجعلها من جنسها، فللأعيان تأثير بالإخفاء كما للبعد في كل جسم نيرا وغیر نیر .
(غير أن الأجسام النيرة) لما تعذر تأثير البعد فيها بالتسويد والزرقة لاقتضاء النور فيها الجلاء، وهو معارض قوي في ذواتها، (يعطي فيها البعد في الحس صغرا) في حجمها فيوجب الإخفاء في مقدارها في النظر.
(وهذا تأثير آخر) غير التسويد والزرقة (للبعد) لا للعين الثابتة؛ لكنه في الحس فقط؛ (فلا يدركها الحس إلا صغيرة الحجم، وهي في أعيانها كبيرة) فوق قدرها المحسوس.
(وذلك لأنها أكبر كميات) في نفسها والبعد لم يؤثر في نقص تلك الكميات؛ لأنه إنما يؤثر في الإخفاء، وهذه الكثرة في الكمية قد تعلم بالحس إذا قرب من ذلك الجسم، وقد تعلم بالدليل (كما يعلم بالدليل) الهندسي (أن الشمس مثل الأرض في الجرم): أي المقدار مائة وستة وستين وربعا وثمن مرة وهي في الحس على قدر جرم الترس) أو أقل.
(فهذا أثر البعد أيضا) في إخفاء المقدار، كما أن أثره فيما مر في إخفاء الذات بالتسويد والزرقة مع الصغر أيضا، وإذا عرفت هذا فالظل الوجودي، وإن دل على شيء من وجود الحق؛ فلا بد وأن يوجب إخفاء ذاته وإخفاء مقدار عظمته لخفاء الظل في نفسه.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال، و يجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي عنه كان ذلك الظل.
فمن حيث هو ظل له يعلم، و من حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظل من صورة شخص من امتد عنه بجهل من الحق.
فلذلك نقول إن الحق معلوم لنا من وجه مجهول لنا من وجه: «أ لم تر إلى ربك و لو شاء لجعله ساكنا» أي يكون فيه بالقوة.
يقول ما كان الحق ليتجلى للممكنات حتى يظهر الظل فيكون كما بقي من الممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود. «ثم جعلنا الشمس عليه دليلا» وهو اسمه النور الذي قلناه، و يشهد له الحس: فإن الظلال لا يكون لها عين بعدم النور.
«ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا»: و إنما قبضه إليه لأنه ظله، فمنه ظهر و إليه يرجع الأمر كله. فهو هو لا غيره.  فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات.
فمن حيث هوية الحق هو وجوده، و من حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات.
فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل،. )

(فما يعلم) شيء (من) حقائق (العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال) الوجودية الدالة على تلك الحقائق؛ ولذلك صعب على العقول تحديد الأشياء غاية الصعوبة مع أن هذه الظلال ممتدة على تلك الأعيان قريبة منها.
(ويجهل من الحق) بالنظر في هذه الظلال الوجودية البعيدة المناسبة للحق أكثر مما يجهل من حقائق العالم، إذ ذلك (على قدر ما يجهل) عند النظر في الظلال المتعارفة (من الشخص الذي عنه كان ذلك الظل) لجامع بعد المناسبة الموجبة للخفاء، وهو مع ذلك دال على موجب للجلاء (فمن حيث هو) : أي (هذا) الظل (ظل له) واجب النسبة إليه.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالخميس يوليو 25, 2019 8:24 pm

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص البوسفية على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية   الجزء الثاني

الفص اليوسفي
(يعلم) الحق لتوقف معرفة النسبة على معرفة المنتسبين (ومن حيث ما يجهل ما خفي في ذات ذلك الظل) أي: نفس الظل العرفي (من صورة شخص من امتد عنه) الظل، فإن كل ظل وإن كان متشك بوجه ما تشكل شخصه؛ لكن يخفي فيه تمام صورته، بحيث لا يتم تميزه عن غيره بمجرد النظر إليه.
(يجهل من الحق) عند النظر في الظل الوجودي، (فلذلك) أي: فلأجل أن النظر في الظل لا يفيد تمیز صورة الشخص على التمام، مع أنه يفيد تميزه بوجه ما (تقول: إن الحق) بالنظر في العالم وإلا نفس (معلوم لنا من وجه، ومجهول لنا من وجه)، وإن بلغنا من مراتب المعرفة غايتها، وحصل لنا من تفاصيل الظلال ما قصرت عنه أنظار أكبر الفحول البزل من النظار.
ثم استدل بالقرآن على أن العالم ظل الحق، وأنه دال عليه، وأنه إنما يدل عليه بنوره لا بذاته.
فقال رضي الله عنه : ("ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء" [الفرقان : 45]) أي: ظل الوجود على أعيان الكائنات، إذ الحمل على هذا المعنى أبلغ من الحمل على مد الظل المتعارف على الأرض، فهو أولى بالقرآن وأنسب بنظم الآية، ولذلك أورد ما فيها مع ما فيه من الدلالة على ما ذكرنا.
فقال : "ولو شاء لجعله، ساكنا" لا يتحرك منه إلى الأعيان .
ولما توهم منه أنه موجود فيه قابل للتحرك، وهو فاسد لاستلزامه التركب فيه، والانضمام إليه في الحيز.
قال رضي الله عنه : (أي: يكون فيه بالقوة) إذ لا ظل بالفعل بدون وقوعه على المحل القابل له.كما مر
فلو شاء لم يجعل له محلا قابل فيبقى الأن في ذاته بالقوة كما كان في الأزل، فكأنه تعالى (يقول): لو شاء (ما كان الحق ليتجلى للمم?نات حتى يظهر الظل) الوجودي فيها؛ (فيكون) كل مم?ن وجد (كما بقي من الممكنات) في العدم وهي (التي ما ظهر لها عين في الوجود)؛ لعدم وقوع الظل الوجودي عليها؛ فعلم بذلك أن الأعيان من حيث هي أعيان لا توجب تجلية عليها؛ بل هو بمشيئته تعالی.
ثم استدل على أن إدراك هذا الظل الوجودي لكونه على صورة الغيب المجهول في الأصل، إنما هو باسمه النور فدلالته على الحق أيضا بذلك بقوله: (ثم جعلنا الشمس عليه دليلا).
وهو: أي الدليل الذي (هو) الشمس (اسمه النور الذي) به إدراك الظل. ودلالته على الشخص، (ويشهد له): أي لكون اسم النور دليلا على الظل، وعلى دلالته على الشخص (الحس) في الظلال المتعارفة التي هي أمثلة الظل الوجودي، (فإن الظلال) المتعارفة (لا تكون لها عين) .
أي: تعين في نفسها بحيث يمكن إدراكها ودلالتها على الشخص، لو لم تطلع الشمس (لعدم النور) المفيد تعينها الدال على الشخص، بل يكون حينئذ على صورة الغيب المجهول.
واستدل على أنها في الأصل بتلك الصورة بقوله تعالى: ("ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا" [الفرقان : 46]) أي: إلى غيبنا الذي كان عليه حين كان بالقوة فينا قبضا يسيرا، لأنه رجع الشيء إلى أصله وما ثم حركة ولا ضم شيء.
وإليه الإشارة بقوله: (وإنما قبضه إليه؛ لأنه ظله)، وكان فيه بالقوة فمنه (ظهر) حتى صار بالفعل، وإليه يرجع حتى قبض فيصير بالقوة ثانيا، ولذلك (وإليه يرجع الأمر
له. [هود: 123])؛ لأن الكل ظله، ولا بد لكل ظل أن يرجع إلى من ظهر منه بحكم "ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا".
وإذا صار الظل مقبوضا من الكل (فهو هو): أي فالموجود حينئذ هو الحق (لا غيره) .
كما قال: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار" [غافر:16]، وإذا كان الظل حين كونه بالقوة عين الحق، وهو المدرك في أعيان الموجودات حين كونه بالفعل.
(وكل ما ندركه فهو وجود الحق) أي: ظل وجوده، وقد تصور بصور الأعيان، وإن لم يكن لوجوده صورة في نفسه، ولا لظله حين كان بالقوة فيه؛ لكن حصل لظله صورة حين ظهر (في أعيان الممكنات).
فالموجودات الممكنة لها ظل من الحق، وصورة من الأعيان، (فمن حيث هوية الحق)، وهي الظل الذي كان عين الحق حين كان بالقوة (هو وجوده) أي: وجود ذلك الموجود الممكن.
ومن حيث اختلاف الصور الكائنة في ذلك الموجود الممكن من الذات والأعراض (هو أعيان الممكنات) أي: حقائق تلك الموجودات من الذات والأعراض الموجودة في كل موجود مم?ن، اجتمع فيه الذات والأعراض.
فل?ل موجود وجهان:  وجه إلى الحق، ووجه إلى الأعيان الثابتة.
لا يرتفع أحدهما بالأخر فهما لازمان له دائما (فكذا لا يزول عنه): أي عن كل موجود ممكن، وإن كان (باختلاف الصور) الذي به تلي الأعيان (اسم الظل) الذي به يلي الحق.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كذلك لا يزول باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق. فمن حيث أحدية كونه ظلا هو الحق، لأنه الواحد الأحد.
و من حيث كثرة الصور هو العالم، فتفطن و تحقق ما أوضحته لك.
و إذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي، و هذا معنى الخيال . أي خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق وليس كذلك في نفس الأمر. )
(كذلك لا يزول عنه باختلاف الصور): أي بموجب اختلافها، وإن بلغ ذلك الوجود ما بلغ من المراتب العالية من الفناء في الحق والبقاء به (اسم العالم، أو اسم سوی الحق)؛ فلا يجوز له أن يدعي لنفسه الربوبية أصلا، وكيف يدعي الربوبية بنفسه من جهة الوجوه، وهي جهة متحدة في كل موجود، والجهة الخاصة بكل موجود جهة الصور التي هو بها من العالم المربرب.
وإليه الإشارة بقوله: (فمن حيث أحدية كونه ظلا) في جميع الموجودات (هو الحق)، أي: تجليه؛ (لأنه الواحد الأحد) فلا تختلف تجلياته، فهو الظل الواحد الممتد منه على الكل، (ومن حيث كثرة الصور هو العالم) إذا الكثرة من خواصه (فتفطن وتحقق ما أوضحته لك) فقد اشتبه على كثير ادعوا الربوبية لأنفسهم.
(وإذا كان الأمر) أي: أمر العالم (على ما ذكرته لك) من كونه من الظل والأعيان الثابتة التي هي معدومة، (فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي) لا باعتبار الظل ولا باعتبار الأعيان الثابتة.
(وهذا) أي: كون الشيء متوهما هو معنى الخيال الواقع في السن القوم إن العالم خيال.
ولما لم يستقم المعنى الحقيقي للخيال هاهنا، وهو القوة الخازنة صور المحسوسات أوله بالمخزون فيها.
فقال رضي الله عنه : (أي خيل لك) أي: صور في قوة خيالك (أنه) أي: وجود العالم (أمر) زائد على وجود الحق من كل وجه حتى أنه (قائم بنفسه)، لما كان المشهود
عندهم أنه عرض عام للأشياء، فلا يكون قائما بنفسه، فسره بقوله: (خارج عن الحق) أي: عن قيامه به، (وليس كذلك في نفس الأمر) بل وجود الحق هو اللائح فيه، وهو قائم به قيام الظل بالشخص.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا تراه في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه، ويستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال لأنه يستحيل على الشي ء الانفكاك عن ذاته؟
فاعرف عينك ومن أنت و ما هويتك و ما نسبتك إلى الحق، و بما أنت حق و بما أنت عالم و سوى و غير و ما شاكل هذه الألفاظ. )
واستدل على قيامه بالحق بقيام الظل المتعارف، الذي هو مثال الظل الوجودي بذات الشخص، فقال: (ألا تراه) أي: الظل المتعارف (في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه)، وإن كان قائما بمحل أخر قيام العرض بالجوهر، لكنه قائم بالشخص قيام الاتصال.
فيستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال، وكأنه متصل به اتصال الصورة بالمادة، بل اتصال الصفة بالموصوف فيستحيل عليه الانفكاك عن الشخص الذي هو كالذات الموصوفة.
(لأنه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته) فكذا الظل الوجودي يستحيل عليه الانفكاك عن الاتصال بالحق الذي به تحققه تحقق الصفة بالموصوف، وتتحقق النور بالشمس، فهو وإن وصل إلى أسفل سافلين، لا ينفك عن اتصال الشمس في رابعة السماء.
وإذا عرفت أنك ظل قائم بالحق متصل به واقع على العين الذاتية؛ (فاعرف) :
أولا: (عينك) التي هي محل الظل الإلهي الذي لولاه لم يتحقق الظل بالفعل.
وثانيا: (من أنت) فإنك بعد إذ صرت ظلال بالفعل مجموع من الظل والعين الثابتة .
وثالثا: (ما هويتك) أي: وجودك باعتبار ظلك لا باعتبار عينك، وأن توقف تحققه بالفعل على عينك؛ لأنها معدومة دائما باعتبار ذاتها.
ورابعا: (ما نسبتك إلى الحق) حتى صرت به متحققا لا بعينك مع توقف تحقق ظلك على عينك، وهي نسبة اتصال الظل المتعارف إلى الشخص لا يتحقق بدون الشخص، وإن توقف على وجود الأرض الممتد عليها هو.
""أضاف المحقق أي: نسبة الظل "الحق" إلى الشخص "الممكن" و المقيد "الممكن" إلى المطلق "الحق" .""
وخامسا: (بما أنت محقق) أي: صورته وهو أحدية الظل؛ فإنها صورة أحدية الحق، فأنت مع كونك أمرا متوهما صرت به متحققا لا كما يزعم السوفسطائية.
وسادسا: (فبما أنت عالم وسوى) وهو اختلاف الصور، فليس لك بكونك على صورة الحق دعوى الربوبية؛ فإن صورتك من الصور المختلفة التي أنت بها عالم، وسوی للحق (وما شاكل ) كل (هذه الألفاظ) من كونك ربا وعبدا وظاهر الحق ومظهره.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وفي هذا يتفاضل العلماء، فعالم وأعلم. فالحق بالنسبة إلى ظل خاص صغير وكبير، وصاف وأصفى، كالنور بالنسبة إلى حجابه عن الناظر في الزجاج يتلون بلونه، وفي نفس الأمر لا لون له. ولكن هكذا تراه.
ضرب مثال لحقيقتك بربك. فإن قلت: إن النور أخضر لخضرة الزجاج صدقت وشاهدك الحس، وإن قلت إنه ليس بأخضر ولا ذي لون لما أعطاه لك الدليل، صدقت وشاهدك النظر العقلي الصحيح.
فهذا نور ممتد عن ظل وهو عين الزجاج فهو ظل نوري لصفائه.
كذلك المتحقق منا بالحق تظهر صورة الحق فيه أكثر مما تظهر في غيره. فمنا من يكون الحق سمعه وبصره وجميع قوة وجوارحه بعلامات قد أعطاها الشرع الذي يخبر عن الحق. )
ثم عظم هذه المعرفة، فقال: (وفي هذا) العرفان الجامع للحقائق الكلية من الحق، والعالم (تتفاضل العلماء) لا في سواه من العلوم، فإنها ليست علوما مقصودة لذواتها إن كانت مقدمات لهذا العلم، وإلا فليست بشيء أصلا.
(فعالم وأعلم) في هذا العلم لا غير، وإن وقع التفاضل هناك أيضا بحسب المتعارف، فهم وإن كانوا ظلال الحق فالتفاوت واقع فيهم بتفاوت الأعيان الثابتة، فيقع ذلك في ظهور الحق بهذه الظلال.
(فالحق) باعتبار ظهوره (بالنسبة إلى ظل خاص)، وإن لم يقع في ظهوره تفاوت بالنسبة إلى أحدية الظل في الكل (صغير وكبير) كالمفضول والفاضل، (وصاف) ?العالم والأعلم.
إذ ظهوره فيها نور ظهر في هذه الظلالات التي هي على صورة الغيب المجهول، فأظهرها على حسب محال تلك الظلال من الأعيان الثابتة، فتصور بصورها، وتلون بألوانها، فكأنما تصور الحق بصورها، و تلون بألوانها.
(?النور) أي: نور الشمس الممتد في ظل الزجاج المتلون، ذلك الظل بلون الزجاج يرى (بالنسبة إلى حجابه) الذي هو الزجاج (عن الناظر إلى الزجاج) الذي لا يعرف ما وراءه من نور الشمس المجرد عن الألوان، (يتلون) هذا النور في نظره (بلونه) أي: بلون الزجاج الظاهر في ظله.
(وفي نفس الأمر لا لون له) أي: لنور الشمس، ولو باعتبار كونه ممتدا على ظلال الزجاج، بل هو لون الظل، ظهر في هذا النور (ولكنه) أي: النور لامتداده على ذلك الظل
(هكذا نراه)، فجعل هذا النور الشمسي الممتد في الظل النوري للزجاج في تلونه بلون الزجاج في الحس مع عدم تلونه بذلك في نفس الأمر (ضرب مثال تحققه).
أي: هذا الظل النوري المتلون بلون عينك الثابتة مع عدم تلونه بذلك باعتبار اتصاله (بربك)، لكنه يرى نور الحق الممتد عليه متلوئا بلون ظلك المتلون بلون عينك مع عدم تلونه في نفس الأمر، فيصدق في حق الحق الأمران، كما يصدق في حق نور الشمس.
(فإن قلت) أيها الناظر في حجاب الزجاج (أن النور) الممتد على ظله (أخضر لحضرة الزجاج) المؤثر في ظله بالخضرة (صدقت وشاهدك الحس) الظاهر الذي لا يمكن تكذيبه وتصديق العقل المتفرع عليه السلام.
(وإن قلت: إنه ليس بأخضر ولا ذي لون) فضة عن الخضرة (لما أعطاه) أي: نفي اللون (الدليل) الدال على تنزهه في نفس الأمر، وإنما هو للظل الذي امتد هذا النور عليه (صدقت وشاهدك النظر العقلي الصحيح) بحيث يمكن جعله في مقابلة الحس، فيجمع بينهما باعتبار الجهات المختلفة.
فإذا نظرت إليه بنظر العقل الصحيح، (فهذا) الظاهر تحت الزجاج (نور ممتد ) يرى له تلون (عن ظل) امتد عليه (هو) أي: لون ذلك الظل.(عين) لون (الزجاج فهو).
أي: المرئي تلونه بلون الزجاج في الحقيقة (ظل) لم يسود كسائر الظلال؛ لأنه (نوري) وقع عليه أثر النور من وراء الزجاج (لصفائه) أي: صفاء الزجاج الموجب تنور الظل (كذلك) أي مثل هذا الظل النوري لصفاء ما امتد عليه (المتحقق منا بالحق)، وهو المتخلق بأسمائه كلها أولا حتى صار بحيث يؤثر بها في الغير لكماله.
(تظهر فيه صورة الحق) الذي هو بمنزلة نور الشمس المظهر للظل (أكثر مما تظهر في غيره)؛ لصفاء محله، فيصير ظله نورانیا كما تصير صورة الشمس في المرأة نورانية تنير من محاذاتها من الماء والجدار، وتنتهي هذه الصورة إلى مراتب جليلة.
(فمنا من يكون الحق سمعه وبصره وجميع قواه) المدركة والمحركة، وجميع (جوارحه) بأن تتم مناسبتها لصفات الحق التي لا تغایر ذاته، فكأنها عين ذاته يعرف ذلك (بعلامات) من الاشتغال بالنوافل حتى يغلب عليه حب الحق، فيتم صفاؤه، فلا يحتجب عن مدار ?ه، ولا يلتبس عليه فعل، وهذا لا ينكر شرعا.
فإن (الشرع) هو (الذي يخبر عن الحق) بذلك إذ تجلى صلى الله عليه وسلم عن ربه: «ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجليه التي يمشي بها)).

قال الشيخ رضي الله عنه : ( مع هذا عين الظل موجود، فإن الضمير من سمعه يعود عليه: وغيره من العبيد ليس كذلك. فنسبة هذا العبد أقرب إلى وجود الحق من نسبة غيره من العبيد. .)
وإذا كان الأمر على ما قررناه فاعلم أنك خيال وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس أنا خيال.
فالوجود كله خيال في خيال، والوجود الحق إنما هو الله خاصة من حيث ذاته و عينه لا من حيث أسماؤه، لأن أسماءه لها مدلولان: المدلول الواحد عينه و هو عين المسمى، و المدلول الآخر ما يدل عليه مما ينفصل الاسم به من هذا الاسم الآخر و يتميز. فأين الغفور
من القاهر ؟ وأين الظاهر من الباطن، وأين الأول من الآخر.؟
فقد بان لك بما هو كل اسم عين الاسم الآخر وبما هو غير الاسم الآخر.
فبما هو عينه هو الحق، وبما هو غيره هو الحق المتخيل الذي كنا بصدده.
فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه ولا ثبت كونه إلا بعينه.  
فما في الكون إلا ما دلت عليه الأحدية. وما في الخيال إلا ما دلت عليه الكثرة. فمن وقف مع الكثرة كان مع العالم ومع الأسماء الإلهية وأسماء العالم.
ومن وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمين. لا من حيث صورته .)

ثم أشار إلى أنه، وإن بلغ ما بلغ لا يصيرا لها، فقال: (ومع هذا عين الظل موجود) غايته أنه نوراني، (فإن الضمير من سمعه) وبصره ويده ورجله (يعود إليه) أي: إلى الظل الذي هو العبد.
(وغيره) أي: غير المتحقق منا بالحق (من العبيد)،وإن بالغ في العبادة (ليس كذلك).
أي: لا يكون ظله نورانيا بحيث يصير الحق سمعه و بصره، وإن اكتسب شيئا من النور (فنسبة هذا العبد) المتحقق بالحق (أقرب إلى وجود الحق) لغلبة نوره على ظله فيه .
(من نسبة غيره من العبيد) الذين ظلمة الظل فيهم غالبة على النور، وإن كانت ظلالهم لا تخلو عن نور العبادة، (وإذا كان الأمر) أي: أمر الموجودات (علی ما قررناه) من كونه ظلا، وإن غلب على بعضها النور والظل لا وجود له حقيقي.
(فاعلم أنك خيال) أي: متخيل (وجميع ما تدركه) من كمالاتك النورانية (مما تقول فيه) ليس أنا، بل هي صفات الحق أو نوره أيضا.
(خیال) فإن النور الغالب على الظل ليس عين الحق لامتناع حلوله في الحوادث، (فالوجود كله) الذي يقال فيه: إنه نور الحق المنبسط على الموجودات (خیال) وكيف لا، وقد ظهر (في خيال) هو الظل (والوجود الحق).
أي: الثابت بكل حال سواء وجدت الخيالات أم لا، (هو الله خاصة) باعتبار (ذاته) وأسمائه باعتبار عینیتها (لا من حيث أسماؤه) باعتبار انتسابها إلينا.
وهذا (لأن الأسماء لها مدلولان المدلول الواحد) كل اسم (عينه) أي: عين كل اسم آخر.
(وهو) أي: الاسم بهذا الاعتبار، أي باعتبار عينيته لجميع الأسماء (عين المسمى) أي: الذات.
(والمدلول الآخر ما يدل عليه كل اسم بخصوصه (مما ينفصل به) ذلك (الاسم عن هذا الاسم الآخر) في المفهوم، (ويتميز) في النسبة إلى ما في العالم، وهذا الانفصال والتميز ثابتان ثبوت الاتحاد لا كما يقوله نفاة الصفات.
(فأين الغفور من الظاهر والباطن)؛ فإنه يباينهما، وإن لم يقابلهما (وأين الأول من الآخر)، فإن بينهما تقابل التضاد، فإذا كان بين الأسماء اتحاد من وجه وتباين مع التقابل أو بدونه من وجه .

(فقد بان لك ) أمر الأسماء (بما هو كل اسم عين الاسم الآخر، وبما هو غير الاسم الآخر) فكونها نفس الوجود الحق أو المتخيل مبني على ذلك (فبما هو عينه) أي: بما يكون كل اسم عين الاسم الأخر (هو الحق) أي: الوجود الحقيقي.
لأنه بهذا الاعتبار عين المسمى الذي هو الله، وأن أخذنا فيه اعتبار الأسماء بوجه، لكن لم يعتبر فيه تميزها فيما بينها لم يكن لها تميز عن الله، الذي همه الوجود الحقيقي.
(وبما هو غيره هو الحق)، أي: الوجود (المتخيل) إذ بهذا الاعتبار تعنی الذات ويكون وجودها، كوجود سائر الموجودات، وهو المتخيل (الذي كنا بصورة).
فظهر الفرق بين العالم وبين الأسماء الإلهية، إذ كان لها الوجود الحق باعتبار، ولم يكن ذلك للعلم أصلا، وإذا لم يكن لأسمائه تعالى باعتبار تغایرها وجود حقيقي، لم تكن دالة على الوجود الحقيقي دلالة تامة.
(فسبحان من لم يكن عليه دلیل) تام (سوى تعينه) إذ الدال على وجوده الذي هو عينه؛ وذلك لأنه (لا يثبت كونه) أي: تحققه (إلا بعينه) أي: بالوجود الذي هو عينه، بل هو الدال على الماهيات المختفية في كم العدم دلالة نور الشمس على الموجودات المختفية في الظلمة المتعارفة.
وهذه الدلالة باعتبار أحدية الظل التي دل عليها أحدية الذات التي لها الوجود الحقيقي من حيث هي أحدية، (فما في الكون) الذي هو الظل الأحدية (إلا ما دلت عليه الأحدية) أي: أحدية الذات.
(وما في الخيال) من تكثير صور الظل أو تكثير الأسماء، إلا ما دلت عليه الكثرة من المعاني المخصوصة بالأسماء أو الأعيان الثابتة للعالم .
فمن وقف مع الكثرة كان مع العالم ومع الأسماء الإلهية، وأسماء العالم، ومن وقف مع الأحدية)، وإن كان لها دلالة على ما في الكون في الجملة، (كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمين) بخلاف من وقف مع الأسماء، فإنه وإن كان مع الحق (لا) يكون معه (من حيث) أغناه عن العالمين.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإذا كانت غنية عن العالمين فهو عين غنائها عن نسبة الأسماء لها، لأن الأسماء لها كما تدل عليها تدل على مسميات أخر يحقق ذلك أثرها.
«قل هو الله أحد» من حيث عينه: «الله الصمد» من حيث استنادنا إليه: «لم يلد» من حيث هويته ونحن، «ولم يولد» كذلك، «ولم يكن له كفوا أحد» كذلك.
فهذا نعته فأفرد ذاته بقوله: «الله أحد» وظهرت الكثرة بنعوته المعلومة عندنا.
فنحن نلد ونولد ونحن نستند إليه ونحن أكفاء بعضنا لبعض.
وهذا الواحد منزه عن هذه النعوت فهو غني عنها كما هو غني عنا.
وما للحق نسب إلا هذه السورة، سورة الإخلاص، وفي ذلك نزلت.)

ثم استشعر سؤالا بأن الذات ملزومة للأسماء الملزمة لنسبة الآثار، فكيف تكون غنية عن العالمين؟؟
فأجاب عنه بقوله رضي الله عنه : (وإن كانت غنية عن العالمين، فهو) أي: غناها عن العالمين (عين غنائها عن نسبة الأسماء) من حيث نسبة الآثار إلى تلك الأسماء إليها، وإن كانت الأسماء ازمة (لها) باعتبار اتحادها، ولا يلزم من ذلك لزومها إياها باعتبار تغايرها؛ وذلك (لأن الأسماء كما تدل عليها).
وهي جهة اتحادها التي بها اللزوم، (تدل على مسميات) أي: مفهومات (أخر لتحقق ذلك) المدلول (أثرها)، وهي جهة المغايرة، فلو كانت ملزومة لها هذا الاعتبار لزم افتقار الواجب بالذات إلى هذه الآثار، وهو ظاهر الاستحالة.
ثم أشار إلى أن تكرار لفظة الله في سورة الإخلاص للإشارة إلى هاتين الجهتين فقال: ( "قل هو الله أحد" [الإخلاص: 1])؛ فأثبت الأحدية الاسم الله الدال على الذات، والأسماء باعتبار تميزها (من حيث) هي (عينة).
ثم قال: ("الله الصمد" [الإخلاص:2]) بتكرار لفظة الله الدال على الذات والأسماء باعتبار تميزها بأثارها، فأثبت له الصمدية، وهي الحاجة إليه.
(من حيث استنادنا إليه) إذ ليس في ذاته ما يحتاج إليه، فلا يكون صمدا بذلك الاعتبار، فهذه الصفة له باعتبار الآثار فقط.
ثم قال: ("لم يلد" [الإخلاص: 3]) فوصفه بهذه الصفة السلبية (من حيث هويته ونحن) معا؛ لأن الولادة إضافة فلا يتصور بدون الطرفين.
("ولم يولد" كذلك ("ولم يكن له كفوا أحد" [الإخلاص:4] كذلك فهذا) أي: قول: والله الضمة إلى آخره (نعته) الذي ينسب إلى الآثار، فهذا الاعتبار عين اعتبار عينية الأسماء، (فأفرد ذاته) مع الأسماء باعتبار العينية (بقوله: "قل هو الله أحد") إذ لو اعتبر معها الأسماء باعتبار التغاير لم يكن أحدا.
وذلك لأنه (ظهرت الكثرة بنعوته) التي تضمنتها الأسماء باعتبار مغایرتها ليتوقف تصورها على آثارها.
ولذلك كانت هذه الصفات من الصفات (المعلومة لنا) بظهورها فينا، (فنحن نلد ونولد ونستند إليه ونحن أكفاء بعضنا لبعض) يتوهم أنها أيضا موجودة فيه.
ولكن هذا الواحد الحق (منزه) باعتبار أحديته (عن هذه النعوت) من حيث توقفها على الآثار، (فهو غني عنها) في الجملة، وإن كانت لازمة لألوهيته وربوبيته، (كما هو غني عنا) أي: عن آثارها التي اعتبرت هذه النعوت بسببها، فالوقوف مع الكثرة العالم، والوقوف مع الأحدية وقوف مع الحق باعتبار غناه عن العالمين، وعن السماء المتضمنة هذه النعوت. .
ثم أشار إلى أن الاستدلال بهذه السورة تام من حيث هي جامعة للصفات مسبوقة لهذا المعنى.
فقال رضي الله عنه : (وما للحق نسب) أي: صفات ها انتسابه إلى العالم (إلا هذه السورة)

أي: المذكور فيها (سورة الإخلاص) أخلصت ذكر الحق عن سائر ما ذكر معه في سائر السور، وأخلصت أحديته عن الصفات بتكرار لفظه الله، (وفي ذلك نزلت).
"" أضاف المحقق : فإن بيان نسبه تعالی ليس إلا تنزيهه عن النسب.""

قال الشيخ رضي الله عنه : (فأحدية الله من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا أحدية الكثرة، و أحدية الله من حيث الغنى عنا و عن الأسماء أحدية العين، و كلاهما يطلق عليه الاسم الأحد، فاعلم ذلك. فما أوجد الحق الظلال وجعلها ساجدة متفيئة عن اليمين والشمال إلا دلائل لك عليك وعليه لتعرف من أنت وما نسبتك إليه وما نسبته إليك حتى تعلم من أين أو من أي حقيقة إلهية اتصف ما سوى الله بالفقر الكلي إلى الله، وبالفقر النسبي بافتقار بعضه إلى بعض ، وحتى تعلم من أين أو من أي حقيقة اتصف الحق بالغناء عن الناس والغناء عن العالمين، واتصف العالم بالغناء أي بغناء بعضه عن بعض من وجه ما هو عين ما افتقر إلى بعضه به.)

ثم استشعر سؤالا بأنها أثبتت الأحدية أولا والكثرة ثانيا وبينهما تناقض؟؟
فأجاب رضي الله عنه : بأن الأحدية لا تناقض الكثرة؛ لأنها قد تكون أحدية الكثرة، وإنما ينافيها أحدية الذات .
(فأحدية الله من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا) أي: باعتبار غيريتها وتميزها (أحدية الكثرة) كأحدية الإنسان مع كثرة أعضائه، وقواه .
(وأحدية الله من حيث الغني عنا، وعن الأسماء) باعتبار غيريتها وتميزها (أحدية العين وكلاهما يطلق عليه اسم الأحد)، لكن السورة فرقت بين الأحدتيين بتكرار لفظه الله (فاعلم ذلك).
وإذا كان للحق أحدية الكثرة باعتبار الأسماء المتضمنة للنعوت، وظهرت هذه الأحدية في الظلال، (فما أوجد الحق الظلال) المتعارفة، وما (جعلها ساجدة متفيئة عن الشمال واليمين إلا) لتكون (دلائل لك) تستدل بها (عليك) أي: على كونك ظلا دليلا لأسماء الحق المتقابلة.
(وعليه) من حيث أن له هذه الأسماء المتقابلة، فهذه الظلال تدل على تلك الأسماء الدالة على الذات من وجه (لتعرف من أنت).
فإنك باعتبار عينك أمر متوهم وباعتبار ظلك صورة متخيلة، (وما نسبتك إليه) نسبته الظل إلى الشخص في أن تحققه به وإن كان متخيلا في نفسه.
(وما نسبته إليك) نسبة الشخص إلى ظل يظهر له صورا مختلفة بحسب موافقة المستقيمة والمعوجة، فيحصل له بحسب تلك الصور أسماء مختلفة مع أنه غني من الظلال والصور والأسماء (حتى تعلم من أين) أي: من جهة أحدية الكثيرة التي هي منشاة الظل المفتقر إلى الشخص.
(ومن أي حقيقة إلهية ) من الأسماء المتقابلة الظاهرة في بعض الأشياء بالتأثير، وفي البعض الأخر بالتأثر (اتصف ما سوى الله بالفقر الكلي إلى الله) هذا من جهة أحدية
الكثرة (وبالفقر النسبي) أي: بوجه دون وجه (بافتقار بعضه إلى بعض) هذا من جهة اسماء المتقابلة، باعتبار ظهورها المذكور ففيه لف و نشر.
(وحتى تعلم من أين) أي: من جهة أحدية الذات (ومن أي حقيقة) إلهية وهي جهة الأسماء الخاصة التي لم يتعلق بها بعض جزاء العالم أصلا، فلم يؤثر بها ولم يتأثر عنها، ولا عن المؤثر.
(اتصف الحق بالغني عن الناس) هذا من جهة أحدية الذات، وإن افتقر إليه في ظهوره من جهة أحدية الكثرة؛ فإنها من حيث هي أحدية جامع لا يظهر إلا في هذا المظهر الجامع (والغني عن العالمين) وإن فتقر إليهم في ظهوره هم باعتبار أسمائه من حيث تميز بعضها عن بعض.
(واتصف العالم بالغني) مع أن من شأنه الافتقار لا مكانه، ولما توهم أنه غنى عن الله وهو باطل فسره بقوله: (أي بغني بعضه عن بعض) باعتبار ما يخص بعض أجزائه من الأسماء الإلهية المتميزة تأثيرا أو تأثرا بحيث لا يتعداه إلى غيره.
لكنه غنی (من وجه) وهو أن تحققه لا يتوقف عليه (ما هو عين ما افتقر إلى بعضه به)، وهو أن التميز التام لكل واحد منهما غير البواقي يفتقر إلى تصور الكل، وإن لم يفتقر إلى ذلك في التميز الذاتي.

قال الشيخ رضي الله عنه : (  فإن العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شك افتقارا ذاتيا.
وأعظم الأسباب له سببية الحق: ولا سببية للحق يفتقر العالم إليها سوى الأسماء الإلهية. والأسماء الإلهية كل اسم يفتقر العالم إليه من عالم مثله أو عين الحق.
فهو الله لا غيره ولذلك قال: «يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد». ومعلوم أن لنا افتقارا من بعضنا لبعضنا.
فأسماؤنا أسماء الله تعالى إذ إليه الافتقار بلا شك، وأعياننا في نفس الأمر ظله لا غيره. فهو هويتنا لا هويتنا، و قد مهدنا لك السبيل فانظر. )

ثم علل افتقار العالم على الوجه الكلي إلى الله، وافتقار بعضه إلى بعض على الوجه الجزئي بقوله: (فإن العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شك افتقارا ذاتا) لكونه ممكنا في ذاته يستوي بالنظر إليه طرفا وجوده وعدمه، وإن كان يكفي في العلة عدم المرجح، فلا بد له في وجوده من مرجح موجود.
(وأعظم الأسباب له سببية الحق)؛ لأن سائر الأسباب لما كانت ممكنة كانت مفتقرة إلى واجب الوجود، فلم تتم سببیتها بدونه وهو تام في السببية، فهو مفتقر إليه افتقارا كليا، ولكن هذا الافتقار إليه باعتبار أحدية الكثرة.
لأنه (لا سببية للحق يفتقر العالم إليها سوى الأسماء الإلهية) التي بها أحدية الكثيرة لتضمنها المعاني التي بها انتساب الحق إلى العالم، وانتساب العالم إلى الحق، وليس ذلك في أحدية الذات ودلالتها على الظل ليست باعتبار أنها أحدية الذات بل من حيث هي أحدية فقط.
فكان افتقار العالم إلى الله تعالى باعتبار أحدية الكثرة افتقارا كليا، ويدخل في هذا الافتقار افتقار بعض أجزاء العالم إلى أسماء خاصة أو إلى البعض منه إذ (الأسماء الإلهية)، وإن اعتبر تميزها المنافي الأحدية الذات، فلا ينافي أحدية الكثرة بل (كل اسم يفتقر) العالم .
أي: بعض أجزائه (إليه من) جهة ظهوره بصورة التأثير في (عالم مثله أو) يفتقر إليه من (عين الحق) أي: من جهة كونه أسماء إلها أثر فيه أو ظهر فيه بالتأثير، فهو أي ذلك الاسم المفتقر إليه (هو الله) باعتبار أحدية الكثرة (لا غيره).
وإن كان تغایره باعتبار أحدية الذات فالافتقار إلى ذلك الاسم سواء كان باعتبار ظهوره بالتأثير في بعض أجزاء العالم أو لا باعتبار ذلك افتقار إلى الله تعالی بماله من أحدية الكثرة.
(ولذلك) أي: ولأجل افتقار العالم إلى الله بالكلية بحيث يدخل فيه افتقارنا إلى بعض الأسماء الخاصة أو البعض الآخر من العالم و لغنى الحق باعتبار أحدية الذات عنا وعن أسمائه باعتبار مغایرتها (قال:" يا أيها الناس أن الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد " [فاطر: 15]).
فدل ذلك على انحصار فقرهم في أنه إلى الله، والله هو الغنى الحيريده يعني لو لم يكن غنيا لم يكن كاملا واجبا بالذات، فلا يستحق الحمد على الكمالات.
ثم أشار إلى صحة الحصر مع افتقار بعضنا إلى بعض، فقال: (ومعلوم أن لنا افتقارا من بعضنا إلى بعضنا) لا من جهة أعياننا المعدومة بل من حيث ما تجلى في بعضنا بعض أسمائه بصورة التأثير.
(فأسماؤنا) أي: المعاني الموجبة لتأثير بعضنا في البعض الموجب افتقار البعض منا إلى البعض (أسماء الله تعالی) أي: صور أسمائه، (إذ إليه الافتقار) بالبعض.
ودليل العقل على سبيل الحصر، وكيف ونحن إنما تؤثر بتأثير ظهر فينا منه إذا ليس لنا من أعياننا) باعتبار عدميتها شيء من الأوصاف فضلا عن التأثير.
ولكن أعياننا (في نفس الأمر ظله) أي: محل ظله، فتؤثر أعياننا بتأثيره لا بأنفسها، كتأثير المرأة بما انطبع فيها من صورة الشمس بتنوير ما يحاذيها من الجدار.
(فهو) أي: المفتقر إليه منا لبعضنا (هويتنا) باعتبار أن لنا دخلا في التأثير (لا هويتنا) باعتبار أن تأثيرها ليس من أعيانها، بل من الاسم الإلهي الظاهر بصورة التأثير فيها، فهو المؤثر بالحقيقة.
ثم قال رضي الله عنه : (وقد مهدنا لك السبيل) إلى أحدية المفتقر إليه من الكل، فهو الفاعل الواحد في الكل، (فانظر) منه إلى أحدية الصفات، ثم إلى أحدية الذات؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم.
ولما كانت الحكمة النورية باحثة عن الكشف الصوري المستعقب للكشف المعنوي الذي أوله الكشف عن وحدة الأفعال التي بها أحدية الربوبية، ثم أحدية الصفات، ثم أحدية الذات عقبها بالحكمة الأحدية، وقد انساق الكلام في الحكمة النورية إليها؛ فقال:

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالثلاثاء أغسطس 20, 2019 1:26 pm

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الفص الهودي

10 - الفص الهودي فص حكمة أحدية في كلمة هودية      الجزء الأول
قال الشيخ رضي الله عنه :
(إن لله الصراط المستقيم ... ظاهر غير خفي في العموم
في كبير وصغير عينه ... وجهول بأمور وعليم
ولهذا وسعت رحمته ... كل شيء من حقير وعظيم
"ما من دابة إلا هو الجد بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" [هود: 56].
 فكل ماش فعلى صراط الرب المستقيم.
فهو غير مغضوب عليهم من هذا الوجه ولا ضالون. فكما كان الضلال عارضا كذلك الغضب الإلهي عارض، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي السابقة. )
أي: ما يتزين به ويكمل العلم اليقيني المتعلق بأحدية الربوبية والألوهية والذات ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى هود التي لغلبة أحدية الربوبية عليه في دعوته لقومه إذ قال لهم: "ما من دابة إلا هو الجد بناصيتها".
 أي: بدواعيها و خواطرها التي هي كالرقائق بينها وبينه؛ فهي مقبوضة له في حركاتها الاختيارية بحيث لا نختار شيئا إلا باختياره.
"" أضاف المحقق : أعلم أن الحكمة الهودية موصوفة بالأحدية الفعلية. شرح الجامي""
فأفعالها الاختيارية أفعاله تعالى فهو الفاعل الواحد في الكل ولا ظلم في ذلك، إذا عاقبها في أفعالها القبيحة لاستقامته في إفاضته عليها تلك الأفعال والدواعي؛ لأنها مقتضيات أعيانها الثابتة "إن ربي على صراط مستقيم" [هود:56].
فلا يقبح منه شيء من حيث الإيجاد، وإن أضر بالمحل، أو يغيره كما لا يقبح من الأمر قطع السارق وإن ضربه.
وهذه الأحدية في الأفعال تسوق إلى سائر وجوهها وقد فعله الشيخ رحمه الله؛ فلذا أطلق لسان هذه الاستقامة لتصح نسبة الكل إليه مع أنه لا ينسب إليه القبيح أصلا، فقال: (إن الله الصراط المستقيم) في مشيه على مقتضيات الأعيان (ظاهر) علينا بطريق الكشف (غير خفي في العموم) أي: عامة علمنا السنة بالكلية.
 إذ يقولون: لا يقبح نسبة الكفر والمعاصي بالإيجاد إليه، وإن كانت قبيحة بالنظر إلى محالها.
ثم أشار إلى تعليل ذلك بقوله: (في كبير وصغير عينه) أي: عين تجليه الواحد الصادر عن الواحد (وجهول بأمور وعليم)؛ فإن الصغر والجهل ليس من التجلي؛ بل من صغر المرآة وكدورتها بل هو نور غير متناه جامع للكمالات.
(وهذا) أي: ولكون عينه في الكل وهو نور غير متناه جامع للكمالات، (وسعت رحمته) فيضان وجوده الذي هو خير محض حاصل من ذلك النور الجامع مع الغير المتناهي.
(كل شيء من حقير وعظيم) والحقارة من نفس الشيء لا من التجلي؛ ولذا صدق في حقه: (ما من دابة إلا هو ، ایم بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) أي: لا ظلم من جهته، ولا تحل ولا قبح لإستقامة في مشيه على مقتضياتها بحسب نواصيها التي هي الرقائق الناشئة منها الواصلة إليه.
ثم استشعر سؤالا؛ فإنه كيف يحسن فيضان شیء على عين بحسب مقتضاها إذا كان من مقتضاها جهة القبح في ذلك المفاض من الضلال، الموجب للغضب عليه والعقاب، وهل هو إلا كبيع السيف من قاطع الطريق، وإعطاء المال للمسرف القمار المنفق في المعاصي.
بل أشد منه فأجاب بأنه لما كانت ناصيته بيد من هو على الصراط المستقيم في الإفاضة؛ كان هذا القابل على الصراط المستقيم؛ (فكل ماش) من مطيع أو عاص (فعلی صراط الرب المستقيم) في القبول من حيث يقبل عطاء ربه بعد اقتضائه منه، (فهو غير المغضوب عليهم من هذا الوجه) أي: قبول ذلك من الله تعالى.
(ولا ضالون) في هذا القبول، وإنما ضلوا باعتبار اتباعهم أهوائهم المفوتة عليهم ما لنوعهم من استعداد الجهة الحسنة النافعة لهم.
لو حصلت لهم وهي التي خلق ذلك النوع لأجلها لما فيها من كمال الحكمة، فكان الضلال عارضا لهؤلاء الأفراد من ذلك النوع بالنظر إلى الأفراد المتصفة بتلك الجهة الحسنة.
(فكما كان الضلال عارضا كذلك الغضب الإلهي عارض) من توقفه على ذلك الضلال، بحيث لولاه لم يتحقق أصلا ومع ذلك (المآل) أي: مرجع الغضب في أصل وجوده (إلى الرحمة)؛ لأنها (التي وسعت كل شيء) حتى نفس الغضب والعذاب فوجدا بالرحمة بهما، وإن لم يكونا رحمة على المغضوب عليه المعذب، وهي: أي: الرحمة (هي السابقة) على الغضب في قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «إن رحمتي سبقت غضبي» .رواه البخاري ومسلم واحمد وغيرهم.
هي الأصل اللاحق كل شيء ما لم يلحق به الغضب، فإن ألحق به وعارضه موجب الرحمة غلبت الرحمة أيضا، ولذلك يخرج من النار كل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فإذا ألحق الغضب، ولم يعارض موجب الرحمة، كان الغضب كالسابق حينئذ.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكل ما سوى الحق دابة فإنه ذو روح. وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره. فهو يدب بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم، فإنه لا يكون صراطا إلا بالمشي عليه.
إذا دان لك الخلق ... فقد دان لك الحق
و إن دان لك الحق ... فقد لا يتبع الخلق
فحقق قولنا فيه ... فقولي كله الحق
فما في الكون موجود ... تراه ما له نطق
وما خلق تراه العين ... إلا عينه حق
ولكن مودع فيه ... لهذا صوره حق )
ثم استشعر سؤالا بأن وحدة الفاعل لو صحت في الأفعال، فلا تصح في الحركات الطبيعية والقسرية من النباتات والجمادات وغيرهما.
فقال: (وكل ما سوى الحق) ذاته له اختیار في فعله، (فإنه ذو روح) إذ له قوة تختار الحركة إلى جهة خاصة.
ولا يقال: إن تلك الحركات من أنفسها بلا شعور؛ لأنه (ما ثمة) أي: في الحيوانات (من يدب بنفسه) عندكم مع ظهور الاختيار فيه؛ فكيف يتصور ذلك في عين المختار بزعمكم، (وإنما يدب) كل حيوان (بغيره)؛ لأن اختياره من الداعية التي هي من غيره دفعا للتسلسل فليست هذه الحركة من نفس المختار، بل من غيره مع بقاء اختياره.
و (فهو) أي: المختار (يدب بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم)؛ فهو کمشي الشخص خلف آخر.
كما قيل في معنى القدر : إنه كوضع التلميذ الصبغ على ما رسمه الأستاذ بالأسرة، والحق تعالى، وإن لم يكن متحركا بالحركة الأينية لتنزهه عن المكان، فهو لكونه على الصراط المستقيم لا بد له من حركة، (فإنه لا يكون صراطا إلا بالمشي
عليه)؛ فإذا تعذر المشي المتعارف فلا بد من مشي معنوي.
هو الجري على مقتضيات الأعيان، فإذا كانت الحركات الاختيارية منه تعالی فغير الاختيارية، وهي الطبيعية والقسرية أولى بذلك.
أما الطبيعة فظاهر؛ لأن القوة المحركة له ناصية مقبوضة لله تعالى، وأما القسرية؛ فلأن الله تعالى هو الذي ظهر في ذلك المتحرك بصفة القبول.
فلذلك قيل: (إذا دان) أي: انقاد بالحركة القسرية (لك الخلق فقد دان لك الحق)؛ لأن حركته القسرية أيضا بتبعيته له حيث ظهر فيه بصفة القبول، وله هذه الصفة في غير المظاهر، كما قيل: (وإن دان لك الحق فقد لا يتبع الخلق).
 كما قال تعالى: "هو الذي يقبل التوبة عن عباده" [الشورى:25] وكذا قبول الطاعات وإجابة الدعوات والله تعالى فاعل مختار، فالكل حركة اختيارية له.
وكذا للمحل على ما تبين أنها فصدق أن الكل دابة ذو روح، فإذا تعارضت عليك أقوال المحجوبين، (فحقق قولنا فيه) أي: في أمرين كل ما سواه ذو روح، وإن حركاتها الطبيعية والقسرية عن اختيار وشعور.
(فقولي كله) أي م جميع وجوهه (الحق)؛ لأنه الموافق للكشف والظاهر القرآن.
 "وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم" [الإسراء:44] "قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ" [فصلت: 21].|
والحديث: "لا يسمع صوت المؤذن حجر، ولا شجر، ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة".
ومن جهة أدلة العقل، وهو أنه إنما خلق ما خلق ليعرف وإلا كان خلقه عبثا، فالكل عارف على ما تقرر في الفص الإسحاقي.
وقول المحجوب: إنما يوافق الحس الظاهر، وإذا كان كذلك، (فما في الكون موجود تراه ما له نطق) كما نطق به القرآن، فحركاتهم اختيارية عن شعور، إن كانت بتبعية الحق.
ثم أشار إلى أنه كيف لا يكون له نطق وله في الباطن جميع صفات الحق؛ وذلك لأنه (ما خلق) ما (تراه العين) الناظرة (إلا عينه) أي: ما يعاين منه (حق) أي: صورة حق فمقتضاه أن يظهر فيه جميع صفات الحق.
(لكن) الحق (مودع) أي: مختف (فيه هذا) أي: لأجل اختفاء الحق في صورة صح أن يقال له صورة.
 أي: (صورة حق) حق بضم الحاء جمع حقه لا يظهر للناظر إلى تلك الصور صفات الحق إلا بقدر استعدادات أعيانها، فتلك الصور الحقة الساترة لما جعل فيها؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( اعلم أن العلوم الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة.
فإن الله تعالى يقول : «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يسعى بها.
فذكر أن هويته هي عين الجوارح التي هي عين العبد. فالهوية واحدة والجوارح مختلفة.
ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها من عين واحدة تختلف باختلاف الجوارح، كالماء حقيقة واحدة مختلف في الطعم باختلاف البقاع، فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج، وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغير عن حقيقته وإن اختلفت طعومه.
وهذه الحكمة من علم الأرجل وهو قوله تعالى في الأكل لمن أقام كتبه: «ومن تحت أرجلهم». فإن الطريق الذي هو الصراط هو للسلوك عليه والمشي فيه، والسعي لا يكون إلا بالأرجل.
فلا ينتج هذا الشهود في أخذ النواصي بيد من هو على صراط
مستقيم إلا هذا الفن الخاص من علوم الأذواق.
«فيسوق المجرمين» وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم بها، فهو يأخذ بنواصيهم والريح تسوقهم- وهو عين الأهواء التي كانوا عليها- إلى جهنم، وهي البعد الذي كانوا يتوهمونه.
فلما ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب فزال البعد فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق لأنهم مجرمون.
فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة، وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة.
فما مشوا بنفوسهم وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب.)
ثم أشار إلى أنه كما يختفي عند تجليه في الصور يختفي عند تجليه في المشاعر ولو من الكل الذين يقال لمشاعرهم كأنها عين الحق.
 فقال: (واعلم أن العلوم الإلهية) أي: المتعلقة بذاته وصفاته وأفعاله (الذوقية) فضلا عن علم الكلام (الحاصلة لأهل الله) فضلا عما يحصل للمرتاضين من غير أهل الملة كالإشراقين .
(مختلفة باختلاف القوى الحاصلة) تلك العلوم (منها مع كونها) أي: كون تلك العلوم (ترجع إلى) تجلي (عين واحدة) على تلك القوى بحيث صارت كأنها هي تلك العين.
فإن الله تعالى يقول فيما حکی عنه النبي : (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)، (فذكر) للإشارة إلى رجوعها إلى عين واحدة .
(أن هويته) باعتبار تجلي أحدية الأفعال، كأنها (هي عين الجوارح التي هي عين العبد فالهوية) أي: هوية العبد (واحدة والجوارح مختلفة) كذلك هوية الحق واحدة وتجلياته للمتجلي له الواحد بل للكل واحدة، ولكن (لكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها).
وإن كان علم الأذواق كلها ليس من مقتضى الجارحة من حيث هي جارحة بل حصل له (من عين واحدة) تنورت تلك الجارحة بها لكنه (تختلف باختلاف الجوارح) مثل اختلاف العلوم الجزئية الحاصلة لتلك الجوارح إذ غاية ما أفاد التنور بنور الحق استعدادها للكليات.
ولم يرفع حقائقها المقتضية للاختلافات بالكلية، ولا يتعد هذا الاختلاف في العلم الذوقي الكشفي الواجب مطابقته للواقع؛ فإنه (کالماء حقيقة واحدة يختلف في الطعم باختلاف البقاع فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج، وهو ما في جميع الأحوال لا يتغير عن حقيقة) التي هو بها ماء.
وإن اختلفت أسماؤه بالعذب الفرات تارة والملح الأجاج أخرى، حيث (اختلفت طعومه) لا عن اختلاف في الحقيقة بل باختلاف البقاع والعلم الكشفي، وإن وجب مطابقته لما في الواقع، فلا يخلو عن اختلاف فيه بحسب محل الكشف من قوى المكاشفين، واستعداداتهم مع مطابقة الكلي لما في الواقع.
ثم قال: (وهذه الحكمة) أي: الأحدية مطلقا، (من علم الأرجل) أي: المشار إليه بقوله: «ورجله التي يمشي بها»؛ لأنها تحصل بعد السير في سائر الأحوال والمقامات، وبها معرفة مشي الحق والخلق على الصراط، وعلم السمع والبصر واليد يتعلق بالمسموعات والمبصرات والتصرفات في العالم.
ثم استدل على أن المراد بالرجل العلم المذكور بما أشار إليه في التنزيل، (وهو قوله تعالی): "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم ټن تهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" [المائدة: 66].
فالإشارة في الأكل الموعود (لمن أقام كتبه) وهي موجبة لكشف العلوم وحصول الأطعمة الظاهرة، لا يتوقف عليها بقوله: (ومن تحت أرجلهم) إلى حصول علم الأحدية من حيث (إن) ما تحت الرجل إلا رجل، هو (الطريق الذي هو الصراط) المستقيم في قوله: "إن ربي على صراط مستقيم" [هود: 56].
وهذا الكل إنما يحصل بعد المشي والسعي فيه، فإن الطريق الذي هو الصراط المستقيم (هو للسلوك عليه) لقطع الأحوال والمقامات، والسلوك لا يكون إلا بالمشي أو السعي فيه، (والمشي فيه والسعي لا يكون إلا بالأرجل).
فهذا العلم لا يحصل إلا بالمشي والسعي فيه بالأرجل، والمشي الكسب والسعي الجذب، فمي هذا العلم علم الرجل الأرجل، وأشير إلى حصوله بالأكل من تحت الأرجل من حيث إنه غدا روحاني يحصل بالمشي والسعي في الأحوال والمقامات بأرجل الكسب أو الجذب.
وإذا كان هذا علم الأرجل وهي من الجوارح المخصوصة التي لا يكون لها إلا علم خاص، (فلا ينتج هذا الشهود) أي: شهود الأحدية ليتجددوا فيه (في) موطن (أخذ النواصي) أي: رقائق كل الخلائق بحيث تصير مقبوضة (بيد من هو على صراط مستقيم إلا هذا الفن الخاص) من وصول الكل إلى موطن قرب الحاصل.
علم ذلك القرب من علوم الأذواق، وإن لم يكن قربا في العقل ولا في الحس والخيال في حق المجرمين، فهو
قرب في الذوق من حيث إن الصراط إنما هو للوصول إلى غاية والاستقامة تشعر بالقرب؛ لأن الخط المستقيم هو أقرب الخطوط المتواصلة بين النقطتين، ("ونسوق") هذا الشهود ("المجرمين") أي: أهل المعاصي من المؤمنين والكفار إلى مقام القرب من الحق باعتبار الصفة الهلالية التامة التجلي في جهنم بمقتضى قوله تعالى: "ومن الناس من يتخذ دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذا يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب" [البقرة: 165].  
إنما ساقهم إلى هذا المقام؛ لأنهم (هم الذين استحقوا المقام) أي: مقام القرب من الحق باعتبار التجلي الجلالي القهري بمقتضى أعيانهم الثابتة الطالبة للقرب من الحق كيف ما كان، فخص المحرمون بهذا المقام؛ لأنه (الذي ساقهم) استحقاقهم (إليه بريح الدبور التي أهلكهم ) كما أشار إليه النبي : بقوله: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور». رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وإنما أهلكهم بها؛ لأنها نشأت (عن نفوسهم)، فأهلكهم (بها) أي: باقتضائها الإهلاك بتلك الريح المناسبة لأهوائهم التي بها يدبرون مطلع الحق ومشرق أنواره الجمالية وإن كانوا على الصراط المستقيم بطلب أعيانهم القرب من الحق باعتبار الصفة الجلالية الحاجبة عن نور الجمال.
(فهو يأخذ بنواصيهم) لتذهب بهم إلى ما يناسبهم من قرب الحق من الصفة القهرية الهلالية، (والريح) تساعده في ذلك الإيصال تعجيلا فيه، فهي (تسوقهم) من حيث مناسبتها لصفاتهم.
(وهي الأهواء التي كانوا عليها)، وكانت شاغله هم عن التوجه إلى مشرق أنوار الجمال الإلهي، فهي تسوقهم (إلى جهنم)؛ ذلك لأنها هي البعد الذي يقتضيه التباعد عن الحق، لكنها ليست ببعد مطلقا.
وإن (كانوا يتوهمونه) بعدا مطلقا، وإنما هي بعد عن الصفات الجمالية، وهي عين القرب من الصفات الجلالية.
فلما ساقهم إلى ذلك الموطن (من جهنم مع كونه على الصراط المستقيم حصلوا في عين القرب) الذي هو مقصد السير على الصراط المستقيم، لكنه قرب من تجلي الجلال الموجب العذاب لا من الذات؛ فإنه مستصحب أبدا، فهو كقرب العبد الأبق الجاني إذا ورد إلى مولاه مقيدا مشدودا ما بين كتفيه من ورائه.
(فزال) في نظر هذا الشهود من حيث هو مقصد السير على الصراط المستقیم (البعد) على الإطلاق، وإن كان بعدا عن تجلي الصفات الجمالية بحسب ما غلب عليهم من الأهوية، (فزال مسمی جهنم) إذ مسماها الحقيقي هو البعد المطلق عن الحق فيما يتوهم، وقد زال ذلك وإن بقى اسمها
 
الموجب للآلام الحسية والعقلية، (ففازوا بنعيم القرب)، إذ هو ملة كيفما كان عند أهل المحبة والشهود، لكن هؤلاء المجرمون من أهل الحجاب بمقتضى قوله: "كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ " [المطففين : 15].
لكن هذا العذاب لا يعارض تلك اللذة لو حصلا جميعا في حق أهل المحبة على أنه نعیم أيضا (من جهة الاستحقاق) لمناسبة أعمالهم؛ (لأنهم مجرمون) فكان أعمالهم مستلذة بها كما يستلذ أعيانهم الثابتة من حيث طلبها القرب الإلهي، وإن لم تستلذ بذلك أجسامهم ونفوسهم وقلوبهم وأرواحهم .
(فما أعطاهم هذا المقام) أي: مقام القرب في جهنم (الذوقي) أي: الذي لا يعرف كونه قربا إلا بالذوق المحض (اللذيذ) عند أهل الذوق من حيث ما فيه من القرب والمناسبة (من جهة المئة) حتى يلتذ بذلك منهم ما ذكرنا، بل حجبوا عن ذلك، كما قال تعالى: "فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب" [الحديد: 13].
(وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من) حيث اقتضاؤها اكتساب (أعمالهم التي كانوا عليها) الموجبة للوصول إلى جهنم، وإن كان فيها مقام القرب من الحق باعتبار تجلي الجلال والقهر؛ وذلك لأنهم (كانوا في السعي في أعمالهم) الموجبة لجهنم من حيث ما فيها من الآلام الحسية والعقلية (على صراط الرب المستقيم) الموجب لتربية العبيد بالتقريب، ولو من الحضرة الهلالية القهرية.
(لأن نواصيهم) أي: رقائقهم المكتسبة من هذه الأعمال (كانت بيد من له هذه الصفة) أي: الاستقامة الموجبة للتقريب كيفما كان، وإذا كان وصولهم إلى جهنم من جهة اشتمالها على الآلام بالأهواء، وإلى ما فيها من القرب من الحضرة الجلالية بكونهم على صراط الرب المستقيم.
و (فما مشوا بنفوسهم) إلى جهة القرب من الحضرة الهلالية فيها، (وإنما مشوا بحكم الجبر) كما كانوا على صراط الرب بحكم الخير، ومن حيث الأهواء بحكم الاختيار (إلى وإن وصلوا إلى عين القرب) مع وصولهم من جهة اختيارهم الأهواء إلى عين البعد؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.

قال الشيخ رضي الله عنه : ("ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون" [الواقعة: 85] وإنما هو يصر قائله مكشوف الغطاء قصيره حديد، وما خص ما من ميت أي ما خص سعيدا في القرب من شقي، "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" [ق:16]، وما خص إنسانا من إنسان، فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الأخبار الإلهي، فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عين أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى فهو حق مشهود في خلق متوهم.
فالخلق معقول والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود.
وما عدا هذين الصنفين فالحق عندهم معقول والخلق مشهود. فهم بمنزلة الماء الملح الأجاج، والطائفة الأولى بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه.
فالناس على قسمين: من الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها، فهي في حقه صراط مستقيم.
ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر.
فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة، وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة.
فهذا علم خاص يأتي من أسفل سافلين، لأن الأرجل هي السفل من الشخص، وأسفل منها ما تحتها وليس إلا الطريق. فمن عرف أن الحق عين الطريق عرف الأمر على ما هو عليه، فإن فيه جل وعلا تسلك وتسافر إذ لا معلوم إلا هو، وهو عين الوجود والسالك والمسافر. فلا عالم إلا هو
فمن أنت؟ فاعرف حقيقتك وطريقتك، فقد بان لك الأمر على لسان الترجمان إن فهمت.
وهو لسان حق فلا يفهمه إلا من فهمه حق، فإن للحق نسبا كثيرة و وجوها مختلفة.)
 ثم أشار إلى حصول القرب لكل ميت قبل الوصول إلى جنة أو نار بقوله تعالى: "ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون " [الواقعة: 85] لاحتجابكم بأجسامكم وقواها. 
قال رضي الله عنه : (وإنما هو يبصر؛ فإنه مکشوف الغطاء) أي: الحجاب المذكور، وإن كان قد يبقى على البعض حجب الغينات الظلمانية من الاعتقادات الفاسدة، والأخلاق الردية، والهيئات المظلمة من المعاصي الظاهرة، لكنه لا يمنعه عن رؤية الحق، (فبصره حدید)، كما قال تعالى: «و لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" [ق: 22] .
لكنه إن كان في ظلمات الاعتقادات أو الأعمال الصالحة رجع أعمى كمن حبس في ظلمة مدة مديدة، وفتح له عنها فجأة عمي بصره.
فلذلك قال تعالى: "ومن كان في هذه أعمى هو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا" [الإسراء: 72]، وقال: "نحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا" [طه:124، 125] .
أي: عند كشف الغطاء بالموت الطبيعي بصيرا، قال : "قال كذلك أتتك" [طه: 126] وهي الأنوار المنيرة سلوك طريقنا فنسيتها أي: وقعتها في ظلمة النسيان أو ظلمة الأهواء المنسية لها، فكذلك اليوم تنسی. 
قال رضي الله عنه : (وما خص) في العرف وكشف الغطاء (ميتا عن ميت) في اللفظ، ولم يدل عليه أيضا عقل إذ السعادة العرفية لا توجب التمييز المذكور.
وإليه الإشارة بقوله: (أي :ما خص سعيدا في القرب من شقي)، إذ رجوع الشقي إلى العمى بعد كشف الغطاء، وكون قربه من الحضرة الجلالية كان في التمييز .
 
وقيل: السعيد بالعرفي؛ لأن الشقي أيضا سعید بما يحصل له من القرب والرؤية، وإن لم تنتفع بهما روحه وقلبه ونفسه وجسمه، ولكن ينتفع به عينه الثانية وسره لو كان من أهل الأسرار.
ثم أشار إلى أن القرب حاصل لكل أحد حيا أو ميتا، سعيدا أو شقا بقوله: ("ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" [ق:16] وما خص إنسانا من إنسان) أي: ما خص ما أو سعيدا من حي أو شقي، لكن قرب أهل الجنان من الحضرة الجمالية، وقرب أهل النار من الحضرة الجلالية.
 
وقرب الميت من رؤية الحق، وقرب كل أحد بالذات، كقرب الشمس بإشراقها على الكل، (فالقرب الإلهي) هذه الوجوه (لا خفاء في الأخبار الإلهي)، وإن اشتهر بين الخلق اختصاصه بالسعداء يوم القيامة.
قد قال تعالى: "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده، فوفاه حسابه، والله سريع الحساب " [النور: 39].
وقال: "ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق" [الأنعام: 63]، وقال:"إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم" [الغاشية 25، 26] إلى غير ذلك.
 
وإذا كان أقرب من حبل الوريد؛ فليس ذلك قرب الزمان والمكان والرتبة بل قرب الذات، (فلا قرب أقرب من أن تكون هويته) أي: إشراق نور وجوده (عين أعضاء العبد وقواه) بل عين العبد؛ وذلك لأنه (ليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى)، وهذا وإن ظهر في حق البعض ممن كملت محبته وصفاؤه لا بد، وأن يكون كامنا في حق الكل سواء كان فيه استعداد ظهوره أم لا، لوحدة التجلى على الكل، وإذا كان الحق في هذا القرب عين البعد.
 
قال رضي الله عنه : (فهو) أي: البعد (حق مشهود) أي: صورة حق يشهد (في خلق متوهم) باعتبار عينه الثابتة الباقية على عدمها.
(فالخلق) من حيث المجموع من الصورة المتجلية والعين المتوهمة (معقول والحق) أي: صورته المتجلية في العين الثابتة (محسوس)؛ لأنه (مشهود) منها شهود الصور المتجلية عند انطباعها في الحس المشترك، فالفرق من الحق لهذه الصورة من حيث كونها من إشراق نور الحق.
 
والعذاب لها من حيث انطباعها في العين الثابتة لا للوجود من حيث هو لعدم قبوله التغير بالتلذذ والتألم وغيرها، ولا للعين الثابتة من حيث عدميتها.
هذا (عند المؤمنين) بطريق الصوفية، (وأهل الكشف) وهم أهل (الوجود) الذين تم ظهوره فيهم فکوشف به
لهم عن الحقائق على ما هي عليه، (وما عدا هذين الصنفين) من المتكلمين والفلاسفة (فالحق عندهم معقول) لا يعرف إلا بالعقل، ولا ظهور له في شيء، وهم وإن كانوا مظاهر الحق إلا أن الظاهر منه فيهم قد يغير عما هو عليه في نفسه.
 قال رضي الله عنه : (فهم بمنزلة الماء الملح الأجاج) لا يشفي كلامهم غليل عطش طلاب الحق؛ لأن أنظارهم مشوبة بالأوهام المالحة.
(والطائفة الأولى) لبقائهم على أصل الفطرة (بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ شرابه) في شربه شفاء، ولا يفتقر إلى تطویل مقدمات وهذا الاختلاف كما أنه في الماء باختلاف البقاع، وهاهنا باختلاف الطرق الموصلة لهم إلى المعارف.
(فالناس) وإن كانوا جميعا مظاهر الحق (على قسمين من الناس) أظهر للإشعار بأنهم الذين يستحقون أن يسموا بهذا الاسم (من يمشي على طريق يعرفها) لكونه مکاشفا ذا بصيرة، هي أتم المشاعر وأوضحها، (ويعرف غايتها) وهي الأحدية المستصحبة؛ (فهي في حقه طريق مستقيم) لقرب مطلوبها باستصحابه فأوجبت العذوبة.
(ومن الناس) أظهر إشعار بأنهم مغایرون للأولين من كل وجه، وإن اشتركوا في اسم الإنسانية (من يمشي على طريق يجهلها) لكونه من أرباب النظر المشوب بالأوهام، (ولا يعرف غايتها) فيزعم أنه قد قطعها، وهي مستصحبة معه، (وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر) لكنها بعدت عليهم لجهلهم، وهو الموجب للملوحة.
قال رضي الله عنه : (فالعارف) إنما كان بمنزلة العذب الفرات؛ لأنه (يدعو إلى الله على بصيرة) فيبصر المدعو أنه، وإن كان في الطريق قلة تجليات لا إلى نهاية . 
قال رضي الله عنه : (وغير العارف) إنما كان بمنزلة الملح الأجاج؛ لأنه (يدعوا إلى الله على التقليد والجهالة) فيزعم أنه مقصود في الطريق فيحصل منه له، وللمدعو ظلمة في الطريق فينقطع في الطريق.
لولا أنه مأخوذ بنواصيه على صراط الرب المستقيم، وإذا كانت ملوحة إحدى الطريقين، وعذوبة الأخرى مع اتحادهما في الإيصال إلى الغاية، إنما علمت من المثنى في طريق التركية والتصفية.
(فهذا علم خاص يأتي من أسفل السافلين) أي: من الطريقة التي هي أسفل مراتب ظهور الحق، وإن كانت أعلى الطرق وأجلاها وأقومها.
قال رضي الله عنه : (لأن الأرجل) التي بها المثنى في الطريق (هي السفل من الشخص وأسفل منها ما تحتها وليس إلا الطريق)، وقد شبه بهما أرجل الكسب وطریق التركية والتصفية، فهما مثلهما وهما مع ذلك من صور الحق باعتبار ظهوره في مراتبه العذبة منوطة بهذه المعرفة. 
"وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)"سورة المائدة
قال رضي الله عنه : (فمن عرف الحق عين الطريق) مثل عينية ما يقع على الأرض من نور الشمس لها،
قال رضي الله عنه : (عرف الأمر) أي: أمر السلوك (على ما هو عليه فإن فيه جل وعلا يسلك ويسافر) : لأنه عين الطريق (فهو) أيضا (عين السالك والمسافر) فيسلك في الله بالله كالفطرة الواقعة في البحر تسافر فيه به من إحدى جانبيه إلى الآخر، فتتم الأحدية لهذا العارف.
قال رضي الله عنه : (لا عالم) بالطريق والمقصد (إلا هو) بهذا الاعتبار.
قال رضي الله عنه : (فمن أنت؟) من حيث إنك عارف لست غیر الحق، أي: غير صورته الظاهرة في عينك.
قال رضي الله عنه : (فاعرف حقيقتك) التي هي مقصدك من السلوك وبها تحققك (وطريقتك) فإنهما عين الحق، أي: من صوره الظاهرة في مراتبه، فقد علم أن السالك والعارف والطريق والمقصد عين الحق بهذا الاعتياد.
قال رضي الله عنه : (فقد بان لك الأمر) أي: أمر الأشياء المذكورة (على لسان الترجمان)، وهو قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها».
ولسان الرحمن أولى بذلك (فهو لسان حق) ولا يفهم من الحق كلامه سواه، (فلا يفهمه إلا من فهمه حق)، وإنما صح في حقه أن يكون الطريق والسالك والمقصد والعالم والرحمن واللسان والفهم لكثرة نسبه واختلاف وجوهه.
قال رضي الله عنه : (فإن للحق نسبا كثيرة) أدلة إلى كل موجود نسبة وحدتها (ووجوها مختلفة) ظهرت له في مراياها، وتختلف وجوهه باختلاف ظنون عبيده به، بل قد يظهر له وجوه مختلفة في أمر واحد كما في عذاب قوم هود له لطف خفي بحسب ظنونهم به، وإن لم يظهر لهم أصلا.

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالثلاثاء أغسطس 20, 2019 1:28 pm

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - الفص الهودي فص حكمة أحدية في كلمة هودية  الجزء الثاني
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا ترى عادا قوم هود كيف «قالوا هذا عارض ممطرنا» فظنوا خيرا بالله تعالى وهو عند ظن عبده به.
فأضرب لهم الحق عن هذا القول فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب، فإنه إذا أمطرهم فذلك حظ الأرض وسقى الحبة فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد فقال لهم: «بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم»: فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة فإن بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدف المدلهمة،
  و في هذه الريح عذاب أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه، إلا أنه يوجعهم لفرقة المألوف. فباشرهم العذاب فكان الأمر إليهم أقرب مما تخيلوه فدمرت كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» وهي جثتهم التي عمرتها أرواحهم الحقية.
فزالت حقية هذه النسبة الخاصة وبقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق التي تنطق بها الجلود والأيدي والأرجل وعذبات الأسواط والأفخاذ. وقد ورد النص الإلهي بهذا كله)
وإليه الإشارة بقوله: (ألا ترى عادا قوم هود) احترز به عن عاد أرم ذات العماد كيف قالوا: "فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم" [الأحقاف: 24] أي: سحابا متوجها إلى أوديتهم، قالو هذا عارض ممطرنا (فظنوا خيرا بالله) أنه يمطرهم.
وينبت لهم زروعهم، ويسقي بساتينهم، فيحصل لهم بذلك غذاؤهم (وهو عند ظن عبده به) كما ورد في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي» ؛ فعمل معهم من لطف التقريب من الحضرة الجلالية من غير إظهاره لهم، إذ كان في صورة العذاب أجل مما توقعوه منه بعد مدة.
 
قال رضي الله عنه : (فأضرب لهم الحق عن هذا القول) بقوله: "بل هو ما استعجلتم به" [الأحقاف: 24] (فأخبرهم) بطريق الإشارة من قوله: "ما استعجلتم به" (بما هو أتم وأعلى في القرب)، أما كونه أتم فلما فيه من رفع الحجب الجسمانية المظهرة لقرب الحق من كل أحد بأنه أقرب من حبل الوريد، وأما كونه أعلى فلكونه من قبيل التجليات ولو جلالية موحية للعمى بعد کشف الغطاء، وما توقعوه موجب لإرخاء الحجب وزيادتها، وما فيه من التجليات المطلوبة لا يحصل إلا بعد مدة مديدة.

قال رضي الله عنه : (فإنه إذا أمطرهم فذلك حظ الأرض وسقي الحبة) أولا ثم يحصل بعد مدة مديدة من ذلك الرفع، (فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد) فضلا عما تنتجه تلك النتيجة من قرب الحق بوجه ما من الجمال في الظاهر مع أنه عني الهلال في الباطن .
(فقال لهم : بل هو ما استعجلتم به)، وهو وإن كان عذابا في الظاهر إلا أن أعيانهم إنما طلبوا بذلك أن يتقربوا من حضرة الحق ولو من حيث الجلال ريح فيها عذاب أليم، فجعل ظاهره ريا معذبة.
 
وأشار إلى ما فيه من لطف التقريب من حضرته الجلالية بما يفهم من الريح والعذاب بطريق الاشتقاق البعيد، ولكنه أشار لأهل الأسرار لا للأشرار من طغاة الكفار.
قال رضي الله عنه : (فجعل الريح)، وإن كانت مدمرة لكل شيء بأمر ربها (إشارة) باعتبار ما تضمنت من لطن التقريب من الحضرة الجلالية (إلى ما فيها من الراحة لهم) عن الحجب الظلمانية، وإن رجعت عليهم حجب الأعمال والاعتقادات الفاسدة، (فإن بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة) المانعة عن رؤية الحق من كل وجه.
 
قال رضي الله عنه : (والمسالك الوعرة) التي بها يتعوقون عن الوصول إلى مطالب أصلية لأعيانهم من التقريب إلى الحق بأي وجه كان.
(والسدف) أي: الحجب (المدلهمة) أي: المسودة للقلوب والأرواح بحيث لو سد عنهم العذاب لازدادوا ظلمة، فكان العذاب أزيد عليهم بما يكون على الحالة التي (جاءهم العذاب) فيها وهذا عين اللطف.
قال رضي الله عنه : (وفي هذه الريح عذاب) في الظاهر وهو لطف في الباطن، يشير إليه اشتقاقه البعيد من العذاب، (أي: أمر يستعذبونه إذا ذاقوه) بأسرارهم لو كانوا من أهل الأسرار، لكنهم محجوبون فإن فرض أنهم ذاقوه فهو أيضا عذاب في حقهم، كما أشار إليه بقوله.
قال رضي الله عنه : (إلا أنه يوجعهم لفرقة المألوفات) أي : المشتهيات، إذ حيل بينهم وما يشتهون، ولا يذوقه حق الذوق إلا من فارق المألوفات في الدنيا، وبالجملة لما كان قريبا من التجلي الجلالي، وإن خفي عليهم أبدا، فكان الأمر أقرب إليهم في الوصول إلى مطالب أعيانهم الثابتة مما يخيلوه من لطف الفناء لهم.
ولما كان الوصول إلى الحق سواء كان من حيث تجلي الحلال أو الجمال لا يصير إلا بتدمير ما سواه في الريح يقتضيه من جهة كونها لطفا كما يقتضيه من جهة كونها عذابا،("تدمر كل شيء بأمر ربها") [الأحقاف:25]
 بقطع علامة البعض عن البعض لئلا يحجبه عن الحق، ("فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم") أي: أبدانهم التي كانت مساكن أرواحهم ساكنة بلا روح.
وذلك لأنها حية (جثثهم التي عمرتها أرواحهم الحقية) أي: الفائضة من الحق بلا واسطة مادة عمرتها بانتسابها إليها، وفيضان الحياة عليها، فادعت الحقية لأنفسها، وحجبت عن الحق (فزالت) بهذا التدمير (حقية هذه النسب الخاصة) ليرتفع حاجبها عن الحق.
وإن كان قد (بعثت على هياكلهم الخاصة بهم) لا بواسطة انتساب أرواحهم إلى أبدانهم، وهي الحياة الفائضة على كل موجود (من الحق) وهي (التي تنطق بها الجلود والأيدي والأرجل وعذابات الأسواط والأفخاذ وقد ورد النص الإلهي بهذا كله).
كما قال تعالى: "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء" [فصلت: 21]، وقال: "وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم" [يس: 65].
وقال صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم الساعة حتى يكلم الرجل فخذه بما عمل أهله بعده، وحتى تکلمه عذبة سوطه".رواه الحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة في المصنف.
أو قال: ما يقرب من هذا، فجعل ذلك بمنزلة النص الإلهي؛ لأنه "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" [النجم: 3، 4]. 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة، ومن غيرته «حرم الفواحش» وليس الفحش إلا ما ظهر.  وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له.
 فلما حرم الفواحش أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء، فسترها بالغيرة وهو أنت من الغير.
فالغير يقول السمع سمع زيد، والعارف يقول السمع عين الحق، وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء. فما كل أحد عرف الحق: فتفاضل الناس وتميزت المراتب فبان الفاضل والمفضول. )
ثم أشار إلى أن هذا العذاب، وإن كان لطفا في الباطن في نظر أهل الأسرار والكشف، إلا أنه لم يظهره تعالى على المعذبين.
فقال: (إلا أنه تعالی) استثناء من قوله: فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب .
أي: أنه تعالى وإن أخبرهم بطريق الإشارة فلم يفهمهم تلك الإشارة، ولم يظهر لهم ذلك اللطف من غيرته عليهم، حيث آثروا محبة الغير عليه السلام.
وذلك لأنه تعالى (وصف نفسه) على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم  (بالغيرة) إذ قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله يغار، ومن غيرته حرم الفواحش»رواه البيهقي و ابن أبي شيبة في المصنف.
لأنها شغل بالغير بالكلية بحيث يحتجب ذلك العبد عن الحق بالكلية، فيحجبه الحق عن لطفه الكائن في تجليه الجلالي.
ثم استشعر سؤالا :
بأنه كيف يتصور الفواحش في نفس الأمر مع أن الكل من تجليات الحق؟
وكيف يتصور المنع من التجليات؟
وكيف يمنع المحب من طلب تجلي المحبوب؟

فأجاب بقوله: (وليس الفحش إلا ما ظهر) أي: لا فحش في نفس التجلي، وإنما هو فيما ظهر بالتجلي من الصورة المعوجة بحسب اعوجاج الصورة الحاصل منها تسوية المرآة، والمحبوب لا يمنع من تجلي المحب، بل ينتقل من تجلي إلى تجلي آخر.

ثم استشعر سؤالا بأن هذا ينفي الفحش في الباطن، وقد قال تعالى: "قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن " [الأعراف: 33].
فأجاب بقوله: (وأما فحش ما بطن فهو لمن يظهر) بالألطاف المخفية في الفواحش الظاهرة بأن يقول الواقف عليها القاصري الأفهام: الكل من تجليات الحق أو عين الحق أو لطف الحق كامن فيها.
فيوهم جواز دعوى الربوبية لهم أو إباحة الكل من غير تفرقة بين الفواحش الظاهرة وغيرها، فتحريم تلك الفواحش الظاهرة يستلزم إظهار ذلك للقاصرين.

(فلما حرم الفواحش) الظاهرة حرم هذه الفواحش الباطنة، فالجزاء محذوف بقرينة تفسيره (أي منع أن تعرف) أحد من قاصري الأفهام (حقيقة ما ذكرنا، وهي) أي: وتلك الحقيقة أي: (عين الأشياء)، وأن الكل تجلياته لما في ذلك من الإيهام المذكور المؤدي إلى الخروج عن ربقة الإسلام بالكلية (فسترها) . 
أي: تلك الحقيقة بالغيرة التي فيه كما ستر ألطافه عن المعذبين (بالغيرة) عليهم إذ لا تظهر الأسرار للأغيار.
(وهو) أي: الساتر في الأصل بالغيرة (أنت)؛ لأن الأصل في الحق أن يظهر باللطف لسبق رحمته غضبه، فالموجب

لستر اللطف والأسرار إنما تشاء من النظر في العين (من) حيث هو (الغير) وكل شيء لا يخلو مما هو عين الحق، أي: عين إشراق نوره، ومما هو غيره.

(فالغير) منكر، (يقول: السمع سمع زيد) لا ترى الذي يرى الأعيان، (والعارف) منكر، وهو عين إشراق نور الحق عليك.
(يقول: السمع عين الحق) أي: من تجلياته، (وهكذا ما بقي من القوى) يختلف فيه الغير والعارف، (فما كل أحد) من وجوهك (عرف الحق) وإنما يعرفه ما أشرق عليك من نوره، إذ لا يحمل عطاياهم إلأ مطاياهم فالعارف يعرف اللطف، والقرب في الكل والغير يرى القهر والعذاب في البعض، وهذان الوجهان متفاوتان في كل أحد.
(فتفاضل الناس) في غلبة ظهور وجه الحق على ظهور وجه الخلق، وبالعكس في نظر العارف، وإن صار نظره أحدا إذ (تميزت المراتب) أي: مراتب الحق الواحد باعتبار ظهوره في كل واحد .
(فبان) في نطق (الفاضل) الذي غلب فيه ظهور الحق، (والمفضول) الذي غلب فيه ظهور الخلق، وهكذا يتميز عنده الفحش من غيره، بأنه من تجلي الجلال.
وما ليس بفحش بأنه من تجلي الجمال، ويتأئی منه الإنكار بالحق على الحق باعتبار مراتب تجلياته، ولا يتصور من الكامل أن يظهر فيه الفحش؛ لأن مرآته مستوية صافية؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( واعلم أنه لما أطلعني الحق وأشهدني أعيان رسله عليهم السلام وأنبيائه كلهم البشريين من آدم إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين في مشهد أقمت فيه بقرطبة سنة ست وثمانين و خمسمائة، ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلا هود عليه السلام فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم، و رأيته رجلا ضخما في الرجال حسن الصورة لطيف المحاورة عارفا بالأمور كاشفا لها.
ودليلي على كشفه لها قوله: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم». وأي بشارة للخلق أعظم من هذه؟
ثم من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن، ثم تمها الجامع للكل محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن الحق بأنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان: أي هو عين الحواس. والقوى الروحانية أقرب من الحواس. فاكتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحد.
فترجم الحق لنا عن نبيه هود مقالته لقومه بشرى لنا، وترجم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله مقالته بشرى: فكمل العلم في صدور الذين أوتوا العلم «و ما يجحد بآياتنا إلا الكافرون» فإنهم يسترونها وإن عرفوها حسدا منهم و نفاسة و ظلما.
وما رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أو صله إلينا فيما يرجع إليه إلا بالتحديد تنزيها كان أو غير تنزيه. أوله العماء )

ثم أشار إلى أن هود عليه السلام قد غلب فيه ظهور لاحق جدا فرآه أقرب من كل شيء حتى صارت حكمته أحدية، فقال: (واعلم أنه لما أطلعنى الحق) أي: أطلع روحي وقلبي بالبصيرة، وجواب الشرط «ما كلمني».
قال رضي الله عنه : (وأشهدني) أي: أشهد نفسي بطريق التمثيل في الحس المشترك عن الخيال .

"" إضافة المحقق : إن الشهود يتضمن الاطلاع، لكن الاطلاع ينقسم إلى اطلاع متمكن وغير متمكن، فالشهود المكرر في قوله: (أشهدني) هو ذو التمكين، والشهود المألوف الدائم هو العاري عن التمكين، لا كل حي شاهد في الظاهر، فإذا كرر الحي الشاهد قوله: (أشهدني) عن الشهود المتمكن اليقيني، لكن لا يطلق الشهود والمتمكن إلا عند تمكين المعرفة فليس قوله له: (أشهدني) مثل قول القائل : «أوقفني» و«أطلعني» لأن الاطلاع يطلق على تحصر البصر في قريب والدليل على ذلك أن كلما بعد عن البصر، فإن البصر لا يحكم عليه بحصر أي: لا يحيط به.  ""


قال رضي الله عنه : (أعيان) أي: أرواح (رسله وأنبيائه) عبر عن أرواحهم بالأعيان؛ لأنها لكليتها كالحقائق الصادقة على كثيرين، وذكر الأنبياء بعد الرسل إشعار بأن الأولين لعظمة نورهم راهم قبل تمام الكشف.
فلما تم رأى الباقين (كلهم) بسطوع نور الكشف (البشريين) لكونهم أكمل من رسل الملائكة والجن على قول من يزعم أن فيهم رس منهم مع بعد المناسبة معهم، فلا يكون وارا لهم (من) لدن (آدم إلى محمد صلوات الله عليهم أجمعين) .
احتراز بذلك عن علماء هذه الأمة الذين هم كأنبياء بني إسرائيل، وهم الأولياء الذين يشبه کشفهم کشف الأنبياء، فسماهم الشيخ أنبياء الأولياء مجازا (في مشهد) أي: عظیم واسع لظهور كلامهم (أقمت فيه) أي: لم يكن ذلك عن كشف، وإخبار مني بـ (قرطبة) مدينة بالمغرب.

أشار بذلك إلى كونه بعد کمال إشراق نور شمس الأحدية عليه، فإن الشمس إنما تغرب إلى المغرب بعد كمال إشراقها (سنة ست وثمانين وخمسمائة) أشار بذلك إلى أن تصنيف الكتاب كان بعد ذلك بمدة مديدة ازددت فيها كل يوم كما"، فاجتمعت تلك الكمالات فيه.
قال رضي الله عنه : (ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلأ هود عليه السلام ) لمزيد مناسبته للشيخ : (فإنه) الذي (أخبرني بسبب جمعيتهم)، ولعله بيان كونه وارثا لأسرار علومهم وأحواله (ورأيته رجلا ضخما) لعظم شأنه (في) العلم والأحوال من كمل (الرجال حسن الصورة) لكمال ظهور جمال الحق فيه.

قال رضي الله عنه : (لطيف المجاوبة) لكونه ناطقا بالحق عن الحق، (جازها بالأمور) الحقيقية في نفسه، (كاشفا لها) لقومه، ودليلي الذي استدل به (على) إثبات (كشفه لها قوله) فيما حكاه سبحانه عنه: ("ما من دابة") [هود: 56] أي: متحركة تخرج من القوة إلى الفعل.
 ("إلا هو آخذ") قابض ("بناصيتها") رفائقها ("إن ربي على صراط مستقيم") [هود:56]. فيوصلها إلى قربه في صفة الجلال أو الجمال كشف عنه لأمته ليشعرهم بأنه مع غاية قربه لا يتلذذون به لما حجتهم اعتقاداتهم الفاسدة وأعمالهم الباطلة.
(وأي بشارة أعظم للخلق من هذه؟) بأنهم يصلون إلى ثمرات اعتقاداتهم وأعمالهم، (ثم) أي: بشارة أعظم (من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه).

أي: عن هود الله كامل المعرفة في القرآن الجامع لأسرار المعارف، (ثم تممها) أي: البشارة (الجامع للكل) أي: لمعارف كل نبي مع ما خص به (محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن الحق) من قوله: «كنت سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه».
فبين غاية قربه (بأنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان أي: هو عين الحواس) بل عين الأعضاء مع عدم تجردها الموجب للبعد.
قال رضي الله عنه : (والقوى الروحانية) لتجردها (أقرب) إلى الحق (من الحواس) فضلا عن الأعضاء، (فاكتفي) في بيان غاية القرب بذكر بـ (الأبعد المحدود) مع أن الحق غير محدود في نفسه (عن الأقرب المجهول الحد).

لأنها وإن حدث بالتجرد فالتجرد عدمي، فلا يعرف به حدها فكأنه صلى الله عليه وسلم بين قربه من كل شيء بأنه عينه، ولم يوقفه على الوصول إلى غاية الصراط المستقيم كما فعله هود عليه السلام فكان قوله أتم.
قال رضي الله عنه : (فترجم الحق لنا) أهل الكمال (عن نبيه هود عليه السلام مقالته) تکميلا لها إذ كانت قاصرة حيث قالها لقومه القاصرين.
قال رضي الله عنه : (بشرى لنا) بأنها إذا كانت في حقهم على قصورهم فأنتم مع كمالكم أولى بذلك، (وترجم رسول الله )صلى الله عليه وسلم لغاية كماله وقيامه مقام ربه (عن الله مقالته) «كنت سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه» .
قال رضي الله عنه : (بشرى) لكل شيء يقرب الحق منه، وإن كان منعه في التلذذ به حجبه، (فكمل العلم) بغاية قرب الحق بتوارد الأدلة (في صدور الذين أوتوا العلم) الكشف بالوهب لا الكسب، فلا يتزلزل بشبهة ("وما يجحد بآياتنا")، أي ما ثبت من الكتاب والسنة على هذا القرب ("إلا الكافرون") [العنكبوت: 47] الساترون لظواهرها بالكلية بتأويلات بعيدة وظواهرها قريبة لتأويلاتها.

قال رضي الله عنه : (فإنهم يسترونها وإن عرفوها) ببياننا أن تأويلاتها صحيحة قريبة من الظواهر، ولا حاجة إلى البعد عنها (حسدا منهم) أن يكون لنا السبق، (ونفاسة) أي: رغبة في تأييد ما سبقوا إليه.
قال رضي الله عنه : (وظلما) بإقامة التأويل البعيد الذي يأباه اللفظ من غير دليل قطعي على بطلان تأويلاتنا، بل غايته الفرار من تحديد الحق باعتبار ظهوره بالمحدودات وتلونه بألوانها، وقد شاهدوا من نور الشمس أنه غير محدود، ولا ملون في نفسه، ولا يتحدد ويتلون وراء الزجاجات المتلونة المحدودة.
ولا شك أن هذه الشبهة الواهية لا يمكن أن تتحمل تلك التأويلات البعيدة في النصوص الكثيرة بلا تعارض بينها.
وذلك أنه (ما رأينا قط) فيما وصل إلينا (من عند الله في حقه) باعتباراته وظهوراته الكثيرة سواء كان (في آية أنزلها أو إخبار عنه أوصله ) على لسان نبيه (إلينا).
وفيه إشارة إلى أن إظهار هذه الأسرار لأهلها غير ممنوع بل فيه متابعة النصوص کائنا تلك الآيات والأخبار .
قال رضي الله عنه : (فيما يرجع إليه باعتبار ذاته أو صفاته إلا بالتحديد)، وإن كان منزلها عنه باعتبار استقراره في مقر غيره سواء كان الوارد (تنزيها)، كقوله تعالى: "ليس كمثله شئ" [الشورى:11] على ما يأتي بيانه (أو غير تنزیه).

وفيه إشارة إلى أنه إذا لم تخل عنه آية التنزيه فغيرها أولى .
قال رضي الله عنه : (أوله) أي: أول ما يتصور في حقه من التحديد (العماء)، وهو: السحاب الرقيق والمراد حجاب الأسماء والصفات الساتر نور الأحدية .

"" أضاف المحقق : قال القاشاني: العماء هو الحضرة العمائية التي عرفت بأنها هي النفس الرحماني، والتعين الثاني.
وأنها هي البرزخية الهائلة بكثرتها النسبية بين الوحدة والكثرة الحقيقتين، كما عرفت ذلك فيما مر من كونها محل تفصيل الحقائق التي كانت في المرتبة الأولى شؤونة محملة في الوحدة، فسميت بهذا الاعتبار بالعماء، وهو الغيم الرقيق.
وذلك لكون هذه الحضرة برزخا حائلا بين إضافة ما في هذه الحضرة من الحقائق إلى الحق، وإلى الخلق، كما يحول العماء الذي هو الغيم الرقيق بين الناظر وبين نور الشمس. أهـ ""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء. فكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق. ثم ذكر أنه استوى على العرش، فهذا أيضا تحديد.
ثم ذكر أنه ينزل إلى السماء الدنيا فهذا تحديد. ثم ذكر أنه في السماء وأنه في الأرض وأنه معنا أينما كنا إلى أن أخبرنا أنه عيننا.
ونحن محدودون، فما وصف نفسه إلا بالحد. وقوله ليس كمثله شيء حد أيضا إن أخذنا الكف زائدة لغير الصفة.
ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود. فالإطلاق عن التقيد تقييد، والمطلق مقيد بالإطلاق لمن فهم.
وإن جعلنا الكاف للصفة فقد حددناه، وإن أخذنا «ليس كمثله شيء» على نفي المثل تحققنا بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء، والأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها. فهو محدود بحد كل محدود.
فما يحد شيء إلا وهو الحق. فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود. فهو عين الوجود، «وهو على كل شيء حفيظ» بذاته، «ولا يؤده» حفظ شيء. فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشي ء غير صورته.
ولا يصح إلا هذا، فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود.
فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير.
فهو الكون كله ... وهو الواحد الذي
قام كوني بكونه ... ولذا قلت يغتذي
فوجودي غذاؤه ... وبه نحن نحتذي
فبه منه إن نظرت ... بوجه تعوذي
ولهذا الكرب تنفس، فنسب النفس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صور العالم التي قلنا هي ظاهر الحق إذ هو الظاهر، وهو باطنها إذ هو الباطن، و هو الأول إذ كان و لا هي، و هو الآخر إذ كان عينها عند ظهورها.
فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول، « وهو بكل شيء عليم» لأنه بنفسه عليم.
فلما أوجد الصور في النفس وظهر سلطان النسب المعبر عنها بالأسماء صح النسب الإلهي للعالم فانتسبوا إليه تعالى . )

ووصفه بقوله: (الذي ما فوقه هواء، ولا تحته هواء) للإشعار بأنه ليس السحاب المتعارف، وأنه لم يكن للحق حينئذ تعلق بالعالم العلوي الروحاني، والسفلى الجسماني.
ولذلك (كان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق)، وذلك أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟" قال: «كان في عماء ما فوقه، وما تحته هواء ". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
ففيه تحديد للحق أو تقييد له بالأسماء والصفات قبل التقييد في ظهوره في سائر الكائنات.
(ثم ذكر أنه استوى على العرش)، قال تعالى: "الرحمن على العرش استوى" [طه: 5]، (وهذا تحديد أيضا) بظهور رحمانیته في الجسم المحيط بعد تحديده بعالم الأسماء والصفات، وهذان التحديدان كلیان.
(ثم ذكر) على لسان نبيه الذي لا ينطق عن الهوى "إن هو إلا وحي يوحى" [النجم: 3 ،4] .

(أنه ينزل إلى السماء الدنيا) قال صلى الله عليه وسلم : "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا ، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه" . رواه أحمد والدارمي والطبراني في الكبير .
وهذا تحديد جزئي بظهوره في أقرب الأفلاك منا، والأفلاك هى الأسباب القريبة في عالم الكون والفساد.
فيظهر في أقربها لتقريب هذه الأمور في حق قائم الليل، وذكر تحدید آخر بظهوره في عالم الكون والفساد، وهو (أنه معنا أينما كنا) إذ قال : " وهو معكم أين ما كنتم" [الحديد: 4].
وانتهى في ذلك (إلى أن أخبرنا) على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم (أنه عيننا) حيث قال صلى الله عليه وسلم مخبرا عنه سبحانه وتعالى: "كنت سمعه وبصره ويده ولسانه".
(ونحن محدودون)، وإن بلغنا من المراتب العالية ما بلغنا، فما يكون عيننا يكون محدود بالجملة فما وصف نفسه في هذه الآيات والأخبار (إلا بالحد).
فلو قيل: إنها من المشابهات؛ فلا تجري على ظواهرها، فنقول: اتفقتم على أن (قوله: "ليس کمثله شئ") [الشورى:11]  محكم وهو دال على ما ذكرنا .
إذ قوله: "ليس کمثله شئ" (حد أيضا) على كل تقدير.
لأنه (إن أخذنا الكاف زائدة) فيكون (لغير الصفة)، أي: لغير المثلية التي منشأها الاشتراك في أخص أوصاف النفس، وعبر عن النفي بلفظ الغير إشعارا بأنها لا ينبغي بحسب الظهور، بل غايتها أن يكون فيها مغايرة ما لمن منه الظهور.
وزيادة الكاف لهذا المعنى للإشعار بأنها وإن ظهرت؛ فليست بشيء في المعنى، كالحروف الزائدة، وإنما هي مشابهة للأمور الموجودة في الحس والخيال، فهو يفيد التمييز عن كل ما عدا، ويدخل فيه المحدود فيتميز عنه.

قال رضي الله عنه : (ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين المحدود هذا)؛ لأنه تقيد بكونه ليس هذا المقيد، والتحديد ذكر القيود المميزة من الفصل والخاصة؛ (فالإطلاق عن التقييد) وإن كان نفيا للتقييد (تقييد) للإطلاق، (والمطلق) وإن أطلق عن قيد الإطلاق والتقييد (مقيد بالإطلاق) عن الضدين (لمن فهم).
(وإن جعلنا الكاف للصفة)، أي: لإثبات المثل له مع نفي المثل عن مثله، بناء على أن صور تجلياته أمثاله ولا مثل الصورة منها من كل وجه لئلا يلزم تکرر التجلي (فقد حددناه) محدود ما أثبتنا له من الأمثال.

قال رضي الله عنه : (وإن أخذنا) الكاف للصفة لا لإثبات المثل بالاعتبار المذكور، بل قلنا: ("ليس كمثله شئ") يدل (على نفي المثل) بطريق الكناية (تحققنا بالمفهوم)، فإن مفهوم نفي مثل المثل إنما يتحقق بنفي المثل.
إذ على تقدير إثبات المثل يكون نفسه مثلا لمثله، فلا يبقى مثل المثل مع ثبوت المثل.
فيقوم نفي مثل المثل مقام نفي المثل، فيدل عليه بطريقة الكناية، ونفي المثل إما بنفي الظهور أو بنفي الغير من كل وجه
والأول باطل (بالإخبار الصحيح) الدال على (أنه عين الأشياء) مثل قوله: "كنت سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه»، "ومرضت فلم تعدني، و جعت فلم تطعمني ".
ومعلوم أنه لا عينية له إلا بالظهور فتعين أن يحمل نفي المثل على نفي الغير من كل وجه؛ لأنها لا تتصور إلا بين اثنين.
وإذا كان عين (الأشياء) بالظهور فيها (فهو محدود بحد كل) ذي باعتبار ظهوره في كل ذي حد، وإن تنزه عن الحدود في نفسه، وإلا لم يجتمع في شأنه الحدود المختلفة بخلاف (المحدودین) في أنفسهم.

قال رضي الله عنه : (فما يحد بشيء إلا وهو حد للحق) باعتبار، وصورة من صوره يميزها عما عداها، وإن لم يتميز الحق بها في ذاته، وإذا كان نفي المثل يقتضي تحديده بحدود الأشياء بدلالة الأخبار الصحيحة.
(فهو الساري) بصورته سريان الشمس بصورها في المرآة في مسمى المخلوقات المادية الكثيفة بعوارضها. وإن كان في ذاته مجردا عن المادة بريئا عن عوارضها.
(والمبدعات) المجردة عن المواد وعوارضها، وإن كان منها عن الحلول فيها والاتحاد بها من كل وجه، وكيف لا يكون ساريا.
قال رضي الله عنه : (ولو لم يكن الأمر) أي: أمر الحق (كذلك) أي: السريان بالصورة في الأشياء (ما صح الوجود) لها، إذ لا وجود لها في أنفسها لإمكانها فهو من سريان صورته مما له الوجود بذاته، ولا وجود بالذات إلا لعين الوجود، إذ غيره مفتقر إليه، فلا يجب بذاته.

قال رضي الله عنه : (فهو عين الوجود) لكن تسري صورته على الأشياء لتحفظها عن العدم، (فهو "على كل شيء حفيظ" [سبأ: 21] بذاته، ولا يؤوده حفظ) كل (شيء)، وإن لم يكن له فائدة في حفظه بالنظر إلى كمالاته الأصلية، لكن تحصل له بهذا الحفظ كمال الظهور ومنع عن غلبة العدم على الأشياء.
قال رضي الله عنه : (فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظ لصورته) التي يعشقها باعتبار ما يحصل لظهور كمال بها.
ويغار مع ذلك (أن يكون الشيء غير صورته) لكونه عاشقا لذاته غيور عن الأغيار، فيحفظ صوره بدفع صور الأغيار.
(ولا يصح) في بيان الحكمة في الحفظ (إلا هذا)، وإلا لزم أن يكون ناقصا في ذاته مستكملا بالغير فهو عين الكل، إما بذاته أو بصورته.
قال رضي الله عنه : (فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود)، وإذا كان الوجود منحصرا في ذاته وصورته، (فالعالم صورته) إذ لو كان ذاته لم تحتج إلى مدبر لكنه يحتاج إليه لإمكانه.
ولذلك (هو روح العالم المدبر له)، وإذا اجتمع في وجوده الذات التي هي الروح والصورة التي هي العالم.

قال رضي الله عنه : (فهو الإنسان الكبير) أشبه الصغير في جمعه بينهما، وإذا كان الوجود الشمول على الروح والصورة مع وحدته في ذاته؛ (فهو الكون كله) باعتبار الشمول، (وهو الواحد) باعتبار الذات (الذي قام كوني بكونه) لا بحيث يصير المجموع ذاتا واحد.
قال رضي الله عنه : (وإذا قلت: يغتذي) أن يستكمل وجوده بوجودي، فليس المراد أنه ينضم في ذاته وجودي إلى وجوده حتى يصير ذاتا واحدة.
بل ..... فيحصل له صورة فيها، (فوجودي غذاؤه) لا بطريق الانضمام إليه في ذاته، ولذلك لا يضاف إليه بل إلي، ويكمل به ظهوره بالفعل إذا (به نحن نحتذي) .
بعد أن كان في ذاته بالقوة، فظهوره بهذا الاعتبار عينه، فكل ما ظهر في الوجود كان فيه كامنا قال رضي الله عنه : (فيه منه، إن نظرت بوجه) وهو كون كل ما ظهر عينه باعتبار ما كان كامنا في ذاته.
(تعوذي) أي: استعاذتي؛ فلذلك قال صلى الله عليه وسلم : "أعوذ بك منك".رواه الطبراني في الكبير وابن أبي شيبة في المصنف .

وإذا كان كل ما ظهر عنه كان فيه بالقوة قابلا للخروج عنه بالفعل، وفي خروجه ظهور للحق وأسمائه وراء ما له في ذاته، كان ذلك كالكرب.

قال رضي الله عنه : (وهذا الكرب) أي: الأمر الذي يشبه الكرب (تنفس) أي: أخرج ما فيه ليصير كالمستريح منه إخراج النفس هو للاستراحة عن حرارة اجتمعت في الباطن.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالثلاثاء أغسطس 20, 2019 1:28 pm

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - الفص الهودي فص حكمة أحدية في كلمة هودية  الجزء الثالث
قال صلى الله عليه وسلم : «إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن» أي: أجد النفس في حقي من جهة اليمن والقوة.رواه أحمد في المسند والطبراني في الأوسط .
قال رضي الله عنه : (فنسب النفس إلى الرحمن؛ لأنه) أي: الله تعالى (رحم به) أي: بإخراج النفس (ما طلبته النسب الإلهية) أي: الأسماء التي بها الحقيقة الموجبة لانتسابه إلى العالم مع غناه في ذاته عنه، فكان ذلك الطلب كالكرب (من إيجاد صور العالم) لا من حيث هي صور العالم المستغني عنه بل إنما طلبته.
لأنها (التي قلنا هي ظاهر الحق) أي: صور ظهوره فكأنها مطلوبة للحق أيضا إذ لظهوره يحصل به كمال وراء كمال ظهوره في ذاته، (إذ هو الظاهر) لا الأعيان، إذ لا ظهور لها من حيث هي عدم، ومع ذلك هو مستغن عن الظهور.
ولذلك قال رضي الله عنه :  (هو باطنها إذ هو الباطن)، إذ لا بطون للعدم، وكيف لا يستغني، (وهو الأول إذ كان، ولا هي) شيء فلولا غناه لم يكن له السبق.
ومع استغنائه عنها ظهر فيها إذ
قال رضي الله عنه : (هو الآخر، إذ كان) عند كونها فيه بالقوة (عينها) لكن آخريته (عند ظهورها)، إذ بذلك له يتم له الظهور من كل وجه، والآخرية تشعر بالنهاية، ولما كانت آخريته باعتبار ظهوره.

قال رضي الله عنه : (فالآخر عين الظاهر)، باعتبار مقابلة الأخر للأول، و الباطن للظاهر، (والباطن عين الأول) فتدبيره للعالم باعتبار أوليته التي بها التأثير والتدبير إنما يكون للباطن؛ لأنه بمنزلة الروح، وظهوره باعتبار آخريته لاقتضائه كما لم يكن من قبل، وهو أثر لحدوثه فيكون ظاهر کالبدن.
وقد تقدم أن ما ظهر كان عينه حال كونه فيه بالقوة فكان الأخر حينئذ عين الأول، والظاهر عين الباطن، فكان الكل واحد كما قال: ("وهو بكل شيء عليم ") [البقرة: 29]، وعلمه واحد، ولا مجال للكثرة فيه، والعالم الواحد إنما يعلم به معلوم
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقال: «اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي» أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم وأردكم إلى انتسابكم إلى.  أين المتقون؟
أي الذين اتخذوا الله وقاية فكان الحق ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة، وهو أعظم الناس وأحقه وأقواه عند الجميع.
وقد يكون المتقي من جعل نفسه وقاية للحق بصورته إذ هوية الحق قوى العبد. فجعل مسمى العبد وقاية لمسمى الحق على الشهود حتى يتميز العالم من غير العالم.
«قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب» وهم الناظرون في لب الشيء الذي هو المطلوب من الشيء. فما سبق مقصر مجدا كذلك لا يماثل أجير عبدا.
وإذا كان الحق وقاية للحق بوجه والعبد وقاية للحق بوجه.
فقل في الكون ما شئت: إن شئت قلت هو الخلق.
وإن شئت قلت هو الحق.
 وإن شئت قلت هو الحق الخلق.
وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه.
وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك فقد بانت المطالب بتعيينك المراتب.
ولو لا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه.
فلا تنظر العين إلا إليه ... و لا يقع الحكم إلا عليه
فنحن له وبه في يديه ... و في كل حال فإنا لديه
لهذا ينكر ويعرف وينزه ويوصف.
فمن رأى الحق منه فيه بعينه فذلك العارف.
ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف.
ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل.
وبالجملة فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه يرجع بها إليه ويطلبه فيها :
فإذا تجلى له الحق فيها عرفه و أقر به، و إن تجلى له في غيرها أنكره وتعوذ منه وأساء الأدب عليه في نفس الأمر، وهو عند نفسه أنه قد تأدب معه ) 
(فقال) تعالى للأسماء: («اليوم أضع نسبكم») إلى الأعيان («وأرفع نسبي»).

""أضاف الجامع : ورد الحديث : عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه تلا قول الله عز وجل "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فقال: " إن الله يقول يوم القيامة: يا أيها الناس، إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان أكرم من فلان بن فلان، وإني اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم أين المتقون؟ أين المتقون؟. رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان وابن حجر العسقلاني في إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة والسيوطي فى جمع الجوامع المعروف بـ «الجامع الكبير»""

"" كما وورد الحديث : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: إني جعلت نسبا (وجعلتم نسبا) ، فجعلت أكرمكم أتقاكم، وأنتم تقولون: يا فلان بن فلان وأنا أكرم منك. وأنا اليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتقون؟.

أورده الطبراني فى الكبير والأوسط وابن حجر العسقلاني في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية والسيوطي فى جامع الأحاديث وابن أبي اسامة فى بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث وأبو العباس شهاب الدين أحمد فى إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة. ""  
أي: أظهر انتسابكم إلى صوري وفسره بقوله: (أي: أخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم) أي: معانیکم الخاصة بكم باعتبار نسبكم إلى الأعيان.
قال رضي الله عنه : (وأردكم إلى انتسابكم إلى) أي كان لكم نسبتان: نسبة إلى ونسبة إلى الأعيان فجعلتها واحدة إحداهما باعتبار باطني، والأخرى باعتبار ظاهري لئلا يتوهم أن المراد بوضع النسب إهانته وبرفعه تعزیزه.
لأن نسبة الأسماء إلى الحق عزيزة دائما، والأخرى ذليلة دائما؛ فلا معنى لذكر ذلك.
ثم قال الشيخ رحمه الله: (أين المتقون؟) أي: الذين يعرفون انتساب الأسماء إلى الحق باعتبار انتسابها إلى صور الموجودات، إذ هم الذين رأوه ظاهر الأشياء.
وإليه الإشارة بقوله: (أي: الذين اتخذوا الله وقاية) بحيث يخفى فيه عندهم جهة الخلق بالكلية، (فكان الله ظاهرهم).
ولما أوهم أن ظهوره فيهم كظهوره في سائر الأشياء رفعه بقوله: (أي: عين صورهم الظاهرة) بحيث لا تطابق صورهم الحق بقدر الطاقة البشرية وبذلك صاروا متقين عن الشرك الخفي أيضا، وهذا أعني قوله اليوم: أضع نسبكم إلى قوله: أين المتقون اقتباس لطيف موهم مأخوذ مما يروى في الأخبار في تفسير قوله تعالى: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" [المؤمنون:101]، ومعناه: اليوم أبطل افتخارکم بانتساب بعضكم إلى بعض، وأرفع افتخار من كان منتسبا إلى طاقته، وهم المتقون.
ولكمال ظهور الحق فيه (هو أعظم الناس) قدما أي: سبقا إلى مراتب القرب (وأحقه) أي: أتم في ظهور صفات الحق (وأقواه) في التصرف بالحق (عند الجميع) أي: عند جميع من علمه وعلم حاله، وهذا المعنى منسوب إلى الحق، ويعرف كون أسماء الحق منسوبة إليه باعتبار انتسابها إلينا أيضا.
قال رضي الله عنه : (وقد يكون المتقي من جعل نفسه وقاية للحق) بأن صار ظاهر الحق، وصار الحق باطنه فينسب إليه الحق، وهو لا ينسب إلى الحق، كما في قوله: «كنت سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه».
قال رضي الله عنه : (وهوية الحق قوى العبد) فكان سمع العبد وبصره وسائر قواه ظهرت في مرآة الحق، وصورة المرأة متحدة بالمرأة سيما إذا كانت عين صورة تلك المرآة لكنها مضافة إلى ذي الصورة.
قال رضي الله عنه : (فجعل مسمى العبد)، وهو المجموع من الصورة، والعين الثابتة (وقاية لمسمی الحق)، وهو الوجود الحقيقي؛ لأن صورة المرآة تستر المرآة، والساتر وقاية على المستور، وإنما صار المسمى الحق.
لأنه (على الشهود) أي: شهود الحق غير؛ فإن فيه فلابد وأن ينعكس وقاية صورته في مرآة الحق عند مشاهدته الحق، ويصير سمعه وبصره عين الحق يشاهد الكل، ويسمع كلماتهم في مرآة الحق.
قال رضي الله عنه : (حتى يتميز) في شهوده (العالم عن غير العالم) فإن غير العالم وإن ظهرت صورته في مرآة الحق لم يصر عالما إذ الصورة لا تصير من جنس المرآة.  
وإنما جعلت قوى هذا المنفي من جنس المرأة؛ لأنها اكتسبت أولا صورة كاملة استعدت بها رؤية الحق؛ فكانت الصورة الظاهرة في مرآة الحق كأنها عين المرآة بخلاف صورة غيره.
ويدل على هذا قوله تعالى: ("قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون") [الزمر: 9]  فإنهما وإن كانا في مرآة الحق لكن ("إنما يتذكر أولوا الألباب"
[الزمر: 9] وهم الناظرون في لب الشيء)، فهؤلاء إنما صاروا متقين مشاهدين.
لأنهم لا ينظرون إلى صورهم، ولو في مرآة الحق بل إلى لب الصور، وهو الحق لأن لب الشيء عبارة عن الأمر (الذي هو المطلوب من الشيء)، فكانوا طالبين مشاهدة الحق الذي هو لب الكل، فانعكست صورهم إلى مرآة الحق، فصار نظرهم إلى صورهم بالضرورة.
قال رضي الله عنه : (فما سبق مقصر مجدا)، وإن استويا في عدم رؤية اللب لكن هذا المنفى المجد عالم باللب، والمقصر غير عالم به فلا يستويان.
قال رضي الله عنه : (كذلك لا يماثل أجير عبدا) أي: هذا المنفي المحد لما كان طالبا لرؤية اللب كان أجيرا، والمنفي الأول لما لم يكن طالبا لشيء إذ لم يبقي شيئا حتى يبقى له طلب كان عبدا، وكما لا يستوي المقصر مع المجد كذلك لا يماثل أجير عبدا.
قال رضي الله عنه : (وإذا كان الحق وقاية للعبد بوجه)، وهو كون الحق ظاهرا في مرآة العبد.(والعبد وقاية للحق بوجه) "كون الحق" باطنا.
(فقل: في الكون) أي: الموجودات الظاهرة (ما شئت) بالاعتبارات المختلفة :
(إن شئت قلت: هو الخلق، وإن شئت قلت: هو الحق) أي: صورته ظهرت في مرأة الخلق باعتبار كون الحق وقاية.
قال رضي الله عنه : (وإن شئت قلت: هو الحق الخلق) باعتبار ظهور كل في مرآة الأخر مع عدم تميز المرأتين، فإن الأعيان إنما تثبت في علم الحق الذي لا يغايره من كل وجه.
(وإن شئت قلت: لا حق من كل وجه، ولا خلق من كل وجه) باعتبار تتميز المرآتين من وجه، وهو وجه تمایز العلم عن الذات.
قال رضي الله عنه : (وإن شئت قلت بالحيرة) بأن تقول: لا يعلم ما الظاهر، وما الباطن إذ الظاهر في مرآة صار باطنا باعتبار كونه نفس المرأة بنظر آخر.
إذا عرفت هذا (فقد بانت المطالب)، أي: مطالب كل واحد من المعنيين (بتعيينك المراتب) أي: مراتب الثبوت باعتبار ذاته وظهوراته، وأن التعيين مستلزم للتحديد، فلا بأس بذلك.
والدليل عليه أنه (لولا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور، ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه)، وهو ما ورد أن الله تعالى يتجلى يوم القيامة للخلق في صورة تنكر، فيقول: "أنا ربكم الأعلى" [النازعات:24] .
فيقولون: أعوذ بالله منك ثم يتجلى في صورة عقائدهم فيسجدون له، وإذا كان الكل من مراتب الحق مع أن له التحول في الصور ولا صورة للأعيان من حيث هي عدم.
قال رضي الله عنه : (فلا تنظر العين) في مرآة الحق والخلق (إلا إليه)، ولا يختص ذلك بالرؤية بل (لا يقع الحكم إلا عليه)، سواء كان الحكم بالرؤية أو غيرها، إذ المعدوم من حيث هو معدوم لا يثبت له حكم.
فلا حكم على الأعيان بالرؤية وغيرها، إذ المعدوم من حيث هو المعدوم لا يثبت له حكم.
فلا حكم على الأعيان بالمراتب وغيرها، إلا باعتبار ثبوتها في علمه الذي لا يغايره من كل وجه.

قال رضي الله عنه : (فنحن) أي: الأعيان ثابتون (له)، وقائمون (به)؛ الأن كثبوت العرض للجوهر وقيامه به، وذلك لأنا (في يديه) و محل تصرفه، ومتى كان من صفاته ليس محل تصرفه، و (في كل حال فإنا لدية) كما قال: "وهو معكم أين ما كنتم" [الحديد: 4] .
فكأننا ملتبسون به التباس الصفة بالموصوف، (وهذا) أي: ولكوننا لديه التبس أمره التباس الخمر بالزجاج، فتارة (ينكر)؛ فيقال: المرئي هو الحق.
وتارة (يعرف) فيقال: الوجود، إما ذاته أو صوره القائمة به الأن الكائنة فيه بالقوة قبل الآن.
قال رضي الله عنه : (وینزه) إذا أنكر فيقال: لا صورة له في ذاته، فكيف يظهر بهذه الصور، (ويوصف) الظهور إذا عرف أنه، وإن تنزه عن الصور في ذاته فله أن يتصور بأي صورة شاء كما تصور جبريل بصورة دحية الكلبي. 
وقد ورد تحول الحق في الصور، وورد أيضا: "مرضت؛ فلم تعدني، وجعت؛ فلم تطعمني"، "وكنت سمعه وبصره" .
ولا بأس بما يلزمه من شبه التماثل؛ فإنه لازم لاتصافه بصفاته من الحياة والعلم والإرادة والقدرة وغيرها، وإذا كان لا ينظر العين إلا إليه ولا يقع الحكم إلا عليه، (فمن رأى الحق منه) فيه قال رضي الله عنه : (بعينه) بأن يكون هو الرائي والمرئي وقوة البصر، (فذلك العارف) الذي عرف أن ما عداه عدم صرف لا يصلح لشيء من ذلك.

قال رضي الله عنه : (ومن رأى الحق منه) فيه (بعين نفسه فذلك غير العارف)؛ لأنه وإن كان جعله الرائي والمرئي لكن أثبت قوة البصر لنفسه، ظنا منه أنها لو كانت أيضا للحق، فهو رأي نفسه بنفسه في الأزل.
فتقول: عينه في الأول صفته، وهذا العين مظهرها كالرائي مظهر الرائي الحق، فلذلك تتفاوت الرؤيتان لا محالة.
قال رضي الله عنه : (ومن لم ير الحق منه) ولا فيه، فلم يجعله الرائي ولا المرئي الآن، (وانتظر أن يراه)
في القيامة (بعين نفسه، فذلك الجاهل) الذي منع القول بظهوره في المظاهر، وانتظر الرؤية من غير مثال في التنزيه المحض ولو حصل انعكست صورة الرائي فيحجبه، ولذلك قال تعالى:"لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" [الأنعام: 103].
قال رضي الله عنه : (وبالجملة) أي: سواء كان الشخص عارفا أو غير عارف، أو جاهلا (فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه) يأخذها من العقل والنقل من الكتاب أو السنة أو الكشف : عن هواه، ولا عن تقليده الجهال.
إذ قصده من ذلك أنه (يرجع بها إليه) في عبادته (ويطلبه فيها) في دعواته، فلا ينبغي أن يتقيد من ذلك بعقد مخصوص مع ورود الشرع والكشف بالجميع.
(فإذا تجلى له الحق فيها) ، أي: في صورة عقيدته (عرفه) بقلبه (وأقر به بلسانه، فاستبشر) وإن تجلى له في غيرها أنكره بقلبه (وتعوذ منه) بلسانه.
وهو بهذا الإنكار والتعوذ (أساء الأدب عليه في نفس الأمر)؛ لأنها صورة نسبها إلی نفسه ، وقد خالفه هذا المنکر .

قال رضي الله عنه : (وهو عند نفسه)، أي: في اعتقاده (أنه قد تأدب معه) إذ نزهه عن الصور التشبيهية ، وليس من هذا القبيل الإنكار على الإنسان والشيطان في دعوت الربوبية؛ لأنهما يدعيان الربوبية لأنفسهما، والصورة المتجلي فيها إنما تدعي الربوبية لربها لا لنفسها.
فإن ادعت فهي دعوی ربها كما في شجرة موسى عليه السلام .
وكذا الإنكار على الشيطان إذا سول للإنسان في خياله صورة وزعم أنها هي الحق؛ لأن الإنكار عليه من حيث إن الحق لم يتجلى عليه في تلك الصورة بنسبتها إليه.

"" أضاف الجامع : جاء في  ذيل طبقات الحنابلة ابن رجب الحنبلي :
عن موسى ابن الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه قال: سمعت والدي يقول: خرجت في بعض سياحاتي إلى البرية ومكثت أياما لا أجد ماء، فاشتد بي العطش فأظلتني سحابة، ونزل عليِّ منها شيء يشبه الندى. فترويت به.
ثم رأيت نورا أضاء به الأفق، وبدت لي صورة، و نوديت منها: يا عبد القادر أنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات . أو قَالَ: ما حرمت على غيرك.
 فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. اخسأ يا لعين. فإذا ذلك النور ظلام، وتلك الصورة دخان.
 ثم خاطبني وقال: يا عبد القادر، نجوت مني بعلمك بحكم ربك وفقهك في أحوال منازلاتك. ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق.
 فقلت: لربي الفضل والمنة.
قَالَ: فقيل له: كيف علمت أنه شيطان. قَالَ: بقوله: وقد أحللت لك المحرمات.أهـ ""

إذ لو تجلى "الحق" فيها كذلك لحصل في ذلك التجلي خواص من سماع كلامه من كل جهة، وبكل حاسة، ورؤيته المتكلم والمجيب جميعا. كما حكي في قصة موسى عليه السلام ؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلا يعتقد معتقد إلها إلا بما جعل في نفسه، فالإله في الاعتقادات بالجعل، فما رأوا إلا نفوسهم و ما جعلوا فيها.
فانظر: مراتب الناس في العلم بالله تعالى هو عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة.
وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك . فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه. فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول «فأينما تولوا فثم وجه الله» وما ذكر أينا من أين.
وذكر أن ثم وجه الله، ووجه الشيء حقيقته.
فنبه بذلك قلوب العارفين لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا فإنه لا يدري العبد في أي نفس يقبض، فقد يقبض في وقت غفلة فلا يستوي مع من قبض على حضور. )

ثم أشار إلى أنه لا وجه للإنكار على تلك الصورة من حيث هي مجعولة، (فلا يعتقد معتقد) من أهل الحق أو الباطل (إلها إلا بما جعل في نفسه) أي: أحدث صورته في نفسه، سلمنا أنه لا يحدث تلك الصورة.

ولكن (الإله) من حيث هو (في الاعتقادات) لا يكون إلا من عوارض النفس أو الروح أو القلب، فلا يكون إلا (با لجعل)؛ لأن معرضه مجعول، فالعارض أولی.
(فما رأوا) عند تجلي الحق في صورة معروفة أو منكرة (إلأ نفوسهم وما جعلوا فيها) .
كيف ولو كوشف لهم عن الحق الصریح انعكست صورهم إلى مرآته فما يرون إلا صورهم عند رؤيتهم الحق، فعلم أن التجلي لكل شخص على مقدار علمه.

قال رضي الله عنه : (فانظر مراتب الناس في العلم بالله) هو أي: ذلك العلم بحسب مراتبه (عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة)، وكيف لا (وقد أعلمتك بالسبب الموجب) لكون الرؤية على مقدار العلم.
وهو أن نفسه يتصف (لذلك) العلم ويتصور به، وتلك الصورة تنعكس إلى مرآة الحق فتراها عند رؤية الحق، وإذا كانت الرؤية يوم القيامة التي هي أقصى المطالب للكمل على مقدار العلم و صورة الاعتقاد.

"" أضاف الجامع : في ظهور الحق تعالى يوم القيامة :
أخرج الترمذي بإسناده عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال:  "يجمع الله تعالى الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب العالمين
فيقول: ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ، ولصاحب التصاویر تصاویره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون .
ويبقى المسلمون، فيطلع عليهم رب العالمين فيقولألا تتبعون الناس.
فيقولون: نعوذ بالله منك الله ربنا وهذا مكاننا حتى نری ربنا، وهو يأمرهم ويثبتهم، ثم يتوارى.
ثم يطلع فيقول: ألا تتبعون الناس
فيقولون: نعوذ بالله منك، الله ربنا وهذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم  ويثبتهم، ثم يتوارى .
ثم يطلع فيقول : ألا تتبعون الناس
فيقولون: نعوذ بالله منك نعوذ بالله منك نعوذ بالله منك الله ربنا، وهذا مكاننا حتى نرى ربنا، وهو يأمرهم ويثبتهم إلى آخر الحديث الطويل .ورواه البخاري ومسلم وغيرهما.""
"" وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم والنسائي بإسنادهم إلى أبي سعيد الخدري إلى أن قال: حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله عز وجل من بر وفاجر .
أتاهم الله عز وجل في أدنى صورة من التي رأوه فيها .
قال : فما تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد
قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما کنا إليهم ولم نصاحبهم
فيقول: وأنا ربكم
فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثة حتى أن بعضهم ليكاد ينقلب .
فيقول : هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها .
فيقولون: نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله عز وجل من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود.
ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله تعالی ظهره طبقة واحدة كما أراد أن يسجد على قفاه .
ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة.
قال: فيقول: "أنا ربكم "
فيقولون : أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة.
ويقولون: اللهم سلم، سلم .
" قيليا رسول الله، وما الجسر؟ إلى آخر الحديث.
وهناك روايات أخرى غير هذا في كتب الحديث النبوي . . أهـ ""

قال رضي الله عنه : (فإياك أن تتقيد) في اعتقادك (بعقد مخصوص) من الاعتقادات التي دل عليها الشرع أو الكشف أو العقل، (وتكفر بما سواه) مع ثبوته بأحد ما ذكر .
(فيفوتك خير كثير) من فوائد التجليات المختلفة، ومن التجلي الجامع ومن التطبيق بين دلائل العقل والشرع والكشف.
قال رضي الله عنه : ( بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه)؛ لأن هذه الدلائل كلها صادقة فمخالفة واحد منها توجب الجهل الموجب للحجاب الموجب للعذاب، والعياذ بالله من ذلك.
(فکن) معتقدا اعتقادا منطبقا (في نفسك هيولي) قبول (لصور المعتقدات) .

"" أضاف الجامع :
الـ هيول : هباء منبث وهو ما تراه في البيت من ضوء الشمس يدخل من الكوة .
و الهيولي : مادة الشيء التي يصنع منها كالخشب للكرسي وكالحديد للمسمار . كذلك الجوهر القابل لما يعرض للجسم من أشكال.
قال الشيح رضي الله عنه الهيولي : هو العنصر الأعظم ، الذي هو أصل السموات والأرض وما
بينهما ، وأصل أركانها ومادتها.
يقول الشيخ شهاب الدين السهروردي الهيولي : عبارة عن جسم يلبس تارة الصورة النارية ، وتارة الصورة الهوائية ، وتارة الصورة المائية ، وتارة الصورة الترابية.
يقول الشيخ عبد الحق بن سبعين الهيولي : هو جوهر بسيط قابل للصورة.
يقول الشيخ عبد الغني النابلسي الهيولي : هو المادة الكلية التي هي ممدة للأجسام الفلكية والعنصرية. ""
أي: معتقدات أهل الأدلة العقلية أو الشرعية أو الكشفية (كلها) دائما.
قيدنا الاعتقاد بإحدى الدلائل؛ لأن ما خالفها ليس من الاعتقادات التي فيها عقد القلب وجزمه لتزلزله بأدنى شيء، إذ لا تستند إلى دليل.
 فإن حصل فيه الجزم فهو کلا جزم، وذلك بأن يعتقد أنه في ذاته منزه عن الصور كلها، وفي الظهور يتصور بكل صورة مخصوصة.
فهذا الاعتقاد لغاية سعته أليق بالحق، فإن الإله تبارك وتعالى أوسع في التجلي (وأعظم أن يحصره عقد دون عقد)، فإن العقود بحسب علم المعتقدين وإفهامهم "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" [الإسراء: 85].
وهذا ما أشار إليه الإمام حجة الإسلام الغزالي في كتاب "التوبة في بيان وجوب التوبة وفضلها" أن جماعة من العميان سمعوا أنه قد حمل إلى البلد حيوان عجيب يسمى الفيل، وما كانوا قد شاهدوا صورته، فقالوا: لا بد من معرفته باللمس الذي نقدر عليه، فيما لمسوه وقع يد بعضهم على رجله، ويد بعضهم على نابه، وبعضهم على أذنه، فقالوا: قد عرفناه !.
فلما انصرفوا سألهم بقية العميان فاختلفت أجوبتهم.
 فقال الذي لمس الرجل: إنه مثل أسطوانة خشنة الظاهر إلا أنه ألين منها.
 وقال الذي لمس الناب: بل هو صلب لا لين فيه وأملس لا خشونة فيه، وليس في غلظ الأسطوانة أصلا بل هو عمود.
 وقال الذي لمس الأذن هو لين وفيه خشونة، ولكن ما هو مثل عمود ولا مثل أسطوانة، وإنما هو مثل جلد غلية عريض.
فكل واحد أخبر عما أصابه من معرفة الفيل، ولم يخرج واحد في خبره عن وصف الفيل.
فاستبصر بهذا المثال، واعتبر به؛ فإنه مثال أكثر ما اختلفت فيه آراء الناس.

وهذا المعنى منصوص في الكتاب العزيز الإلهي، (فإنه تعالى يقول: "فأينما تولوا قم وجه الله") [البقرة: 115] .
وجه الاستدلال أنه (ما ذكر) للتولي إليه (اينا) متميز (من أين)، فيصح التولي والتوجه إليه في كل أين.
أي: في كل معتقد دل عليه العقل أو الشرع أو الكشف، وإنما قلنا: المراد التوجه إليه لا إلى القبلة.
لأنه (ذكر أن ثم وجه الله ووجه الشيء هو حقيقته)، فالتوجه إلى كل أين توجه إلى حقيقة الحق، فينبغي أن يقصد في التوجه إلى كل أين حقيقة الحق الظاهرة في ذلك الأين، ولكن لا يعبد الأين، ولا ما يظهر من الأرواح الشيطانية أو غيرها.
ولا يعتقد في ذلك رؤية الحق الصريح إلا بالخواص المذكورة؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
وإذا كان في كل أين وجه، والناس لا يخلون عن التوجه إلى أين، (فنبه بهذا قلوب العارفين) أن يتوجهوا إليه في كل ما يتوجهون إليه من أشغالهم.
قال رضي الله عنه : (لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا)، فيكونوا غافلين عن الحق، وربما يفاجئهم الموت على هذه الحالة.
(فإنه لا يدري العبد في أي نفس يقبض، فربما يقع القبض في وقت غفلة)، فيقع الحجاب بينه وبين ربه.
وبالجملة (فلا يستوي مع من يقبض على حضور)، وقد ورد كما يموتون يبعثون؛ فيكون الحاضر كالمتوجه إلى الحق وغيره كالمستدبر عنه، وفيما ذكره من التنبيه.
إشارة إلى ما ذكرنا أي: أنه ليس ليعبده أهل الحق في جميع تلك الصور.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم إن العبد الكامل مع علمه بهذا يلزم في الصورة الظاهرة والحال المقيدة التوجه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ويعتقد أن الله في قبلته حال صلاته، و هو بعض مراتب وجه لحق من «فأينما تولوا فثم وجه الله». فشطر المسجد الحرام منها، ففيه وجه الله.
ولكن لا تقل هو هنا فقط، بل قف عند ما أدركت و الزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام و الزم الأدب في عدم حصر
حصر الوجه في تلك الأبنية الخاصة، بل هي من جملة أينيات ما تولى متول إليها. فقد بان لك عن الله تعالى أنه في أينية كل وجهة، و ما ثم إلا الاعتقادات.
فالكل مصيب، وكل مصيب مأجور وكل مأجور سعيد وكل سعيد مرضي عنه وإن شقي زمانا ما في الدار الآخرة.
فقد مرض وتألم أهل العناية- مع علمنا بأنهم سعداء أهل حق- في الحياة الدنيا. فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى جهنم، و مع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاص بهم، إما بفقد ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم، أو يكون نعيم مستقل زائد كنعيم أهل الجنان في الجنان و الله أعلم .)

قال رضي الله عنه : (ثم إن العبد الكامل) الذي اعتقاده هیولی صور المعتقدات (مع علمه بهذا) أي: بكونه في كل أين لا يكفيه ذلك بحسب الأحوال كلها.
 بل (يلزمه في الصورة الظاهرة) وإن كان في الباطن متوجها إلى ما هو هيولى، صور المعتقدات كلها.

"" قال القاشاني الهيولى: عندهم اسم الشيء بنسبته إلى ما يظهر فيه صورة، فكل باطن يظهر فيه صورة يسمونه هيولى."
قال رضي الله عنه : (والحال المقيدة) وهي حال الصلاة في الأمن غير النافلة، حالة السير في السفر إلى مقصد معين.
قال رضي الله عنه : (التوجه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام) لكونه أول بيت وضع للناس، أي: لعبادتهم التي خلقوا لها، وقد كان مبدأهم الترابي من تلك الجهة.
فأشبه المبدأ الروحاني، ولذلك يلزمه أن (يعتقد أن الله) ظهر (في قبلته)
ظهورا یوجب التوجه إليها في عبادة الحق، ولكن لا نعبد القبلة نفسها، ولا نعتقد ألوهيتها.
وإلا لم يختص وجوب هذا الاعتقاد (حال صلاته)، ولكن النص خصصه بها.
قال صلى الله عليه وسلم : "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يبصقن قبل قبلته فإن الله في قبلته ".
وفي رواية«إن أحدكم إذا قام في الصلاة، فإنما يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزق أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره أو يمينه" . رواه البخاري ومصنف ابن أبي شيبة و عوالي الحارث بن أبي أسامة ومسند الشاميين للطبراني و ورى مثله الحاكم.

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الرابع .كتاب خصوص النعم أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالثلاثاء أغسطس 20, 2019 1:29 pm

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الرابع .كتاب خصوص النعم أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي رضي الله عنه

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - الفص الهودي فص حكمة أحدية في كلمة هودية  الجزء الرابع
""وفي رواية مسلم : "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا، وفي يده عرجون ابن طاب، فرأى في قبلة المسجد نخامة فحكها بالعرجون، ثم أقبل علينا فقال: «أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟» قال فخشعنا، ثم قال: «أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟» قال: فخشعنا، ثم قال: «أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟» قلنا: لا أينا، يا رسول الله قال: «فإن أحدكم إذا قام يصلي، فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا الى آخر الحديث » ورواه أحمد وابو داود وغيرهم.""

قال رضي الله عنه : (وهي) وإن كان موجبا للتوجه إليه والإيمان به (بعض مراتب وجه الحق) كسائر مراتبه الكاملة من الأنبياء والملائكة واليوم الأخر وغير ذلك مما يجب الإيمان به، ولا تكفي الاعتقادات بدونها.
لأنها داخلة (في) قوله تعالى: "فأينما تولوا فثم وجه الله "  [البقرة: 115] .
لكن هذه وجوه خاصة، (فشطر المسجد الحرام منها ففيه وجه الله) بنهج خاص يمنع التوجه إلى ما سواه.
قال رضي الله عنه : (ولكن لا تقل هو هاهنا فقط)، أي: في شطر المسجد الحرام، وكذا لا تقل في تلك المظاهر الملائكة والنبوة كما قالت النصارى في المسيح والصابئون في الملائكة (بل قف عند ما أدركت) من كونه وجها خاصا يوجب التوجه.

قال رضي الله عنه : (والزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام)، فلا تجعل المسجد نفس المعبود، ولا يكن كونه مظهرا خاصا موجبا للتوجه إليه لشبهة المبدأ خلاف ما يتوجه إليه عبدة الأصنام مثلا.
قال رضي الله عنه : (والزم الأدب في عدم حصر الوجه) الإلهي (في تلك الأبنية الخاصة)، أي: وإن كان له نوع اختصاص يوجب التوجه إليها في العبادة.
قال رضي الله عنه : (بل هي) أي: أبنية المسجد الحرام (من جملة أينيات ما تولى متول إليها) في طلب الحق، لكن خصت بالجذب إلى الحق دون سائر الجهات .
فإن عبادة الأصنام وغيرها من العنصريات والفلكيات إنما تجذب إلى الشياطين وإنكار النبوة و الأمور الأخروية.

وإذا ورد في القرآن: "فأينما تولوا فثم وجه الله " ؛ (فقد بان لك عن الله أنه في أينيته كل وجهة)، ومعلوم أنه منزه عن المكان والجهة. "قال تعالى : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ" [الأسرار : 23 ]".
فتعين أنه (ما ثم) أي: في الأينيات أي: (الاعتقادات)، أي: الصور المعتقدة وقد علمت أن المعتقد إما يصير معتقدا عندما يوجب الجزم به من الدليل عقلي أو شرعي أو كشفي.
فالكل من المعتقدين المتولين إلى الصور قاصدين بذلك التوجه إلى الحق نفسه لا إلى الصور ولا إلى ما يظهر فيها من أرواح الشياطين وغيرها (مصيب)، وإن أخطأ بعضهم في حصر الحق في بعض الصور وهم البراهمة، أو بنفي الصفات عنه أو إثبات ما ليس من صفاته له.

قال رضي الله عنه : (وكل مصيب مأجور) بقدر إصابته إن لم يحيط أجر إصابته باعتقاد إلهية الصور، أو أرواحها أو الإخلال بالإيمان لما يجب به الإيمان فيؤجر لا محالة، وإن عوقب بما أخطأ أو باشر من الكبائر أو الصغائر.
قال رضي الله عنه : (وكل مأجور سعيد)، كيف لا (وكل سعيد مرضي عنه)، والألم يعطي الأجر، والرضا غاية السعادة، فلا تبطل سعادته الباقية بعد تعلق الرضا به.
قال رضي الله عنه : (وإن شقي زمانا) قبله (في الدار الآخرة) بما فاته من نور الاعتقاد الجامع الذي هو هیولی صور الاعتقادات كلها، وكيف تنافي هذه الشقاوة سعادته.

قال رضي الله عنه : (فقد مرض وتألم أهل العناية) وهم الأنبياء والأولياء (مع علمنا بأنهم سعداء)، وكيف لا هم (أهل الحق في الحياة الدنيا) حال ما باشرهم المرض والألم، فكيف تنافي الشقاوة السابقة السعادة اللاحقة.
فمن عباد الله المعتقدين فيه الاعتقادات المخصوصة التي دل عليها إحدى الأدلة المذكورة (من تدركهم تلك الآلام ) المسماة عذابا لما فاتهم من الاعتقاد الكامل (في دار تسمى جهنم) وراء شدائد القيامة والقبر.
وأشار بهذه العبارة إلى أنها بالنظر إلى ما يحصل لهم من السعادة الكاملة بسبب التصفية الحاصلة لهم منها، كأنها اسم لا مسمى في حقها.

قال رضي الله عنه : (فلا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه)، وإن اختلف المتكلمون فيه تكفيرهم بعضهم أيضا مع كون الكل من أهل القبلة (أنه لا يكون لهم في تلك الدار) فضلا عما يحصل لهم بغير
الخروج عنها (نعيم خاص بهم، إما بفقد ألم كانوا يجدونه، فارتفع عنهم) بأن يصيروا کالأموات قبيل الإخراج من النار.

قال رضي الله عنه : (فیکون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم)، وإن كان هذا كالعدم (أو يكون نعيم مستقل زائد) على دفع الألم عندما أعلموا بقرب الخروج من النار، فإنه يكون (کنعيم أهل الجنان في الجنان والله أعلم).
وليس هذا في حق المشركين والجاحدين له، أو لشيء مما يجب الإيمان به إذ كلامنا في المعتقدين في الله اعتقادا دل على إحدى الأدلة المذكورة.
والمشرك لما اعتقد ألوهية الغير؛ فإن كان من الأمور الموهمة؛ فقد اعتقد في الله هو ما اعتقده مما ليس بشيء، فكأنه لم يعتقده أصلا، وإن كان من الأمور الموجودة، ولا شك أنه حادث.
فقد اعتقد جواز كون الإله حادثا، وليس بإله فكأنه لم يعتقد إلوهيته أصلا.
والجاحد له أمره ظاهر في عدم الاعتقاد، وأما الجاحد لما يجب الإيمان به فجاحد اليوم الأخر جاحد لدوام وإلهيته عليه السلام.
وجاحد الأنبياء جاحد اليوم الأخر إذ لا يعرفه بدونهم، وجاحد الملائكة والكتب الإلهية، جاحد للنبوة وجاحد القدر جاحد للعلم الإلهي الذي به وإلهيته.

فإن سلم صحة اعتقاد الجاحد لشيء يجب الإيمان به مع ما يعارضه مما ذكرنا؛ فنقول: المراد أنهم تنحدر جلودهم حالة النضج والتبديل؛ فلا يجدون الآلام في تلك الحالة، وربما يجد بعضهم في تلك الحالة نعيما خياليا كما يراه النائم، حتى إذا بدلت جلودهم عادت الألام عليهم.
وقد صرح بذلك في «الفتوحات المكية في الباب الثاني والستين في مراتب أهل النار، وإليه يشير قوله تعالى: "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب" [النساء: 56] .
فلو حصل لهم العذاب حالة النضج لم يحتج إلى التبديل، وربما يشير إليه قوله تعالى: "إلا ما شاء ربك" [هود: 107] في سورة هود عليه السلام بعد قوله:
"فأما الذين شقوا في النار هم فيها زفير وشهيق خلين فيها ما دامت الشموت والأرض" [هود: 106، 107].
وربما يشير إليه أيضا قوله تعالى: "فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا" [النبأ:30].
فإنه لا بد للزائد من المزيد عليه، وهو النعيم الواقع في الأزمنة القليلة المتحللة بين أزمنة العذاب الكثيرة التي لا يعقل معها أزمنة النعيم لغاية قلبها؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
ولما فرغ عن بيان الحكمة الأحدية والواصل إليها، فتح ما اختزنته من الكثرة التي فيها بالقوة کالعدد في الواحد.
شرع في الحكمة الفاتحية المخرجة لما فيها بالقوة إلى الفعل؛ فقال:
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 11- فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالثلاثاء أغسطس 20, 2019 1:30 pm

11- فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الصالحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفص الصالحي
11- فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية     الجزء الأول
قال الشيخ رضي الله عنه : (
من الآيات آيات الركائب ... و ذلك لاختلاف في المذاهب
فمنهم قائمون بها بحق ... و منهم قاطعون بها السباسب
فأما القائمون فأهل عين ... و أما القاطعون هم الجنائب
و كل منهم يأتيه منه ...   فتوح غيوبه من كل جانب
اعلم وفقك الله أن الأمر مبني في نفسه على الفردية و لها التثليث، فهي من الثلاثة فصاعدا. فالثلاثة أول الأفراد.
و عن هذه الحضرة الإلهية وجد العالم ، فقال تعالى «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون» و هذه ذات ذات إرادة و قول.
فلولا هذه الذات و إرادتها و هي نسبة التوجه بالتخصيص لتكوين أمر ما، ثم لو لا قوله عند هذا التوجه كن لذلك الشيء ما كان ذلك الشيء. )
أي: ما يتزين به، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بفتح خزانة الغيب لإخراج ما فيها بالقوة إلى الفعل، ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى صالح عليه السلام  إذا أخرج الناقة من الصخرة، وأخرج منها الفصيل، ومن الماء الذي يشربه اللبن بقدره في الحال.
""أضاف المحقق : لما كان الفتوح عبارة عن حصول شيء مما لم يتوقع ذلك منه، نسب الشيخ حكمته إلى كلمة صالح عليه السلام ، لخروج الناقة التي هي معجزته من الجبل؛ وهو مما لم يتوقع خروجها منه .. ""
كما أخرج الحق آدم عليه السلام  بلا أبوان وحواء بدون أحدهما.
ولذا نسبت إلى الله تعالی في قوله: "هذه ناقة الله لكم آية" [الأعراف: 73]، وجعل قاتلها أشقى أمته كإبليس إذ أبي عن سجود آدم، وأشبه أيضا في إتيان العذاب بعد ثلاثة أيام الحق في أن إيجاده لا يخلو عن التثليث.
فأشار رحمه الله أولا إلى بيان سر کون الناقة أية؛ فقال: (من الآيات) أي: معجزات الأنبياء عليهم السلام الدالة على صدقهم (آیات الركائب) أي: آیات الركائب جمع رکيبة ما تركب عليها كناقة صالح، وفرس إلياس، و براق محمد صلى الله عليه وسلم  .
(وذلك) أيكون بعض الآيات الركائب وبعضها غيرها (لاختلاف في المذاهب) أيلاختلاف الأنبياء في طرق الدعوة إلى الله تعالى، وإن اتفقوا في أصل الدين، فآياتهم كما تدل على صدقهم تدل على طرق دعوتهم، وذلك لاختلاف استعدادات أممهم في السير.
(فمنهم) أي: فمن الذين وضعت لهم تلك المذاهب (قائمون بها) أي: بمذاهبهم (بحق) يسيرون بالله في الله بالأعمال الظاهرة والباطنة، فلا يحتاجون إلى الركائب من البدن والنفس الحيوانية والناطقة، التي هي بمنزلة الناقة والفرس الناري والبراق.
(ومنهم قاطعون بها السباسب) جمع سبسب، وهو البيداء.
والمراد أعمال البدن وأخلاق النفس، ومقامات القلب، أي: يقطع بها مسافة البعد بينه وبين الحق برفع الحجب الظلمانية والنورية.
ثم أشار إلى عدم احتياج الأولين إلى الركائب، وأنه إنما يحتاج إليها الآخرون.
 فقال : (فأما القائمون) يعني بمذاهبهم بحق (فأهل عين) لا يحتاجون إلى رفع الحجب، فلا مسافة بينهم وبين الحق ولا بعد، وإن كان لهم الأعمال والأخلاق والمقامات؛ فهم لا يلتفتون إليها، فلا يحتاجون إلى الركائب لكن عصمهم الله عن النقائص التي هي أضدادها لقربهم من منبع الكمالات، فتفيض عليهم أنواره من غير توجه وقصد منهم.
(وأما القاطعون) يعني بها السباسب (هم) أي: فهم حذف الفاء للضرورة (الجنائب) الأباعد، لرؤيتهم أعمالهم وأحوالهم و مقاماتهم واسطة للوصول إلى الحق، وبينهم وبين الحق حجب ظلمانية ونورانية.
ثم أشار إلى أن لكل طريق أثرا في الوصول إلى الحق، فقال: (وكل منهم) أي: من أهل العين (يأتيه منه) أي: من مذهبه (فتوح غيابه من كل جانب)؛ فأهل العين تأتيه العلوم اللدنية والتصرفات في خزانة الدنيا والآخرة، زيادة القرب والمحبة والكرامة، والجنائب يرفع عنهم الحجب شيئا فشيئا؛ فيحصل لهم النجاة والفوز بالجنة، والأحوال السنية الموجبة للحذر بعد الكسب، إلى أن يصيروا من أهل العين، فيحصل لهم ما يحصل لأهل العين.
وبالجملة لما استحقا خزانة الغيب لم يكن لهم يد من الفتوح للحديث القدسي"من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة". رواه البخاري ومسلم
ولما فرغ عن بيان السر في كون الناقة أية شرع في بيان سر التثليث في العذاب الذي أصاب بسبب قتلها.
فقال: (اعلم وفقك الله أن الأمر) أي: أمر فتح الغيب (مبني في نفسه) وإن لم تعلم به أكثر الخلائق (على الفردية) وهي عدم انقسام العدد إلى متساويين.
إذ لا بد في ظهور الكثرة عن شيء من وجودها فيه، فلا بد من واحد، ومن عدد وأقله اثنان، وبهذا تحصل الفردية (إذ لها) في أول مراتبها (التثليث) إذ الواحد، وإن لم ينقسم؛ فليس من العدد والفردية والزوجية من خواص العدد.
(فهي من الثلاثة فصاعداكالخمسة والسبعة، ولكن أخذنا بالثلاثة إذ لا بد لنا من واحد واثنين، فأما الواحد فـ لإمتناع العدد القلة ، وأما الاثنان وراءه؛ فلأن الواحد ليس من العدد، فلو اعتبر في الواحد الأول واحد آخر كان كضرب الواحد في الواحد، ولا يكون إلا واحدا.
وإذا كان وجود الكثرة عن هذه الفردية، وما يكون منه وجود شيء أولى بالوجود في نفسه.
(فالثلاثة أول الأفراد) أي: أفراد الموجودات التي منها وجود كل كثرة.
ولذلك ورد النص الإلهي أنه (عن هذه الحضرة الإلهية) التي اعتبر فيها التثليث (وجد العالم).
( فقال تعالى: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له، كن فيكون" النحل: 40])؛ (فهذه) الفردية عن الحضرة الإلهية مع وحدة الذات أمور ثلاثة (ذات ذات إرادة، وقول).
ثم أشار إلى أنه لا بد من هذه الثلاثة في الدليل العقلي أيضا كما دل عليه النص. فقال: (فلولا هذه الذات) الواجبة بالذات التي إليها انتهاء الممکنات دفعا للتسلسل. (وإرادتها) التي لولاها لكانت نسبة الذات والقدرة إلى طرفي الوجود والعدم والأعراض المتضادة بالسوية، فلا بد من نسبة مرجحة لبعضها على بعض، (وهي نسبة التوجه)، أي: توجه الذات (في التخصيص) أي: تخصيص البعض بطرف الوجود والبعض بطرف العدم. وتخصيص كل عرض بموضوع (لتكوين أمر ما) مفعول لقوله: وإرادتها، (ثم) عطف على الذات أو على إرادتها على اختلاف الرائين (قوله عند ذلك التوجه) أشار بذلك إلى أنه نزله منزلة مباشرة العمل منا عند الإرادة (كن) أمرا (لذلك الشيء)، أشار بذلك إلى أن أمره تعالى.
وإن كان واحدا، فلا بد من إفراد تعلقه بكل موجود، ولم يجعل القدرة فيها الدخولها تحت الإرادة إذ لا يتصور تخصيص أمر بأمر بدون القدرة عليه (ما كان ذلك الشيء) لما ذكرنا.
فافهم أن التكوين ليس بداخل في البداية، وإن كان الماتريدي يرى دخوله فيها، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالی.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم ظهرت الفردية الثلاثية أيضا في ذلك الشيء، و بها من جهته صح تكوينه و اتصافه بالوجود، و هي شيئيته و سماعه و امتثاله أمر مكونه بالإيجاد.
فقابل ثلاثة بثلاثة:
ذاته الثابتة في حال عدمها في موازنة ذات موجدها، وسماعه في موازنة إرادة موجده،
وقبوله بالامتثال لما أمر به من التكوين في موازنة قوله كن، فكان هو فنسب التكوين إليه فلو لا أنه من- قوته التكوين من نفسه عند هذا القول ما تكون.
فما أوجد هذا الشيء بعد أن لم يكن عند الأمر بالتكوين إلا نفسه.
فأثبت الحق تعالى أن التكوين للشيء نفسه لا للحق، والذي للحق فيه أمره خاصة.
وكذلك أخبر عن نفسه في قوله «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون» فنسب التكوين لنفس الشيء عن أمر الله وهو الصادق في قوله.
وهذا هو المعقول في نفس الأمر.
كما يقول الآمر الذي يخاف فلا يعصى لعبده قم فيقوم العبد امتثالا لأمر سيده.
فليس للسيد في قيام هذا العبد سوى أمره له بالقيام، والقيام من فعل العبد لا من فعل السيد.
فقام أصل التكوين على التثليث أي من الثلاثة من الجانبين، من جانب الحق )
(ثم ظهرت الفردية الثلاثية في ذلك الشيء) أي: العين الثابتة له أيضا، لتتم مناسبته الحضرة الإلهية التي منها وجد، وكيف لا؟
ولذلك الشيء فاعلية في نفسه، فلذلك نقول (بها) أي: بتلك الفردية الظاهرة (من جهته) أي: جهة ذلك الشيء (صح تكوينه) أي: تكوين ذلك الشيء وهو أي: ذلك التكوين لا بمعنى إعطاء الوجود (بل اتصافه بالوجود) وذلك لأن التكوين لو أريد به إعطاء الوجود فقد حصل ذلك بالإرادة والأمر، وما بقي إلا كون ذلك الشيء يأخذ وصف الوجود ويقتله بالفعل.
ثم أشار إلى أجزاء هذه الفردية لمغايرتها أجزاء الفردية الأولى.
فقال: (وهي) أي: الفردية الظاهرة من جهة ذلك الشيء (شيئيته)، وهو ثبوته في العلم (وسماعه) لأمر ربه، (وامتثاله أمر مكونه بالإيجاد) أي: بأن يوجد نفسه ويصفها به، وفيه إشارة إلى أنه مكون بالأمر والإرادة لا بأنه موصوف بالتكوين، وهو مذهب الأشعري وسنصرح به.
ثم أشار إلى مناسبة أجزاء هذه الفردية لأجزاء تلك الفردية بعد تناسبها بالثلاثية، فقال: (فقابل) ذلك الشيء (ثلاثة) من جهته (بثلاثة) من جهة الحضرة الإلهية (ذاته)، أي: عينه (الثابتة) في العلم الأزلي، جعلها الذات باعتبار كون الوجود صفتها.
وإن كانت (في حال عدمها في موازنة)، أي: مقابلة (ذات موجدها) من حيث إن لها أيضا صفات، وإن تفاوتا بما لا يحصى، (وسماعه) من حيث إنه منشأ الامتثال كالإرادة منشأ الأمر (في موازنة إرادة موجوده)، وإن كان يسبق إلى الأوهام جعل السماع في مقابلة الأمر إلا أن مقابلة الأمر بالامتثال.
ولذلك قابل (قبوله) ما أعطاه من تكوين نفسه (بالامتثال لما أمره به من التكوين في موازنة قوله: "كن") .
"" أضاف المحقق : قال الشيخ في الفتوحات في الباب 310 :
و"كن" حرف وجودي، فإنه لو أنه كائن ما قيل له "كن".
 وهذه الممکنات في هذا البرزخ بما هي عليه، وما يكون إذا كانت مما يتصف به من الأحوال، والأعراض، والصفات.
 والكون والعجب من الأشاعرة كيف تنكر على من يقول: إن المعدوم شيء في حالة عدمه وله عين ثابتة، ثم بطر على تلك العين الوجود، ومن هذه الحضرة علم الحق نفسه، فعلم العالم وعلمه له بنفسه أزلا.
 فإن التجلي أزلا وتعلق علمه بالعالم أزلا على ما يكون العالم عليه أبدا مهما لبس حالة الوجود لا يزيد الحق علما، ولا يستفيد رؤية  تعالی الله عن الزيادة في نفسه والاستفادة، انتهى. ""
 لأنه من جانب الحق بمنزلة مباشرة العمل بعد الإرادة منا، والامتثال لأمر التكوين مباشرة من المأمور للتكوين، فلما امتثل أمر مكونه بالتكوين.

(فكان هو) أي: اتصف بالوجود وتعين به (فنسب التكوين إليه)، بأن جعل صفة له : للحق كما هو مذهب الأشعري خلاف ما يتوهمه الماتريدي زعما منه، بأنه لو كان صفة للحادث لكان حادثا، وكل حادث إنما يحدث بالتكوين، فالتكوين إنما يحدث بالتكوين.
ويتسلسل أو ينتهي إلى تكوين قديم هو صفة للحق وهو المطلوب.  
وأجاب الشيخ من جهة الأشعري بأن هذا إنما يقال في الأمور الموجودة، وهذا التكوين من صفات الأعيان الثابتة التي هي معدومة في الخارج، ثابتة في العلم الإلهي.
فکان قابل لها أيضا، فهذا الوصف أيضا ثابت لها في العلم الأزلي كأنه موجود بالقوة غير محتاج إلى تكوين آخر القول.
(فلولا أنه من قوته التكوين من نفسه عند هذا القول ما تكون.)
فلولا أنه وإن لم يستقبل بذلك قيد بذلك؛ لأن ما بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بأمر منفصل، إذ لو كفي نفس ما فيه بالقوة في الإخراج لم يكن فيه بالقوة أصلا، بل كان بالفعل من أول الأمر ما يكون.
أي: ما اتصف بالوجود؛ لأن غاية ما يتصور من الحق إرادته وأمره لا مباشرة العمل لافتقارها إلى الحركة، ولا يتصور من الحق.
فالمباشرة إنما حصلت من المأمور بامتثال أمر سيده بالخروج من القوة إلى الفعل.
(فما أوجد) أي: أخرج إلى الفعل (هذا الشيء بعد أن لم يكن بالفعل)، فيه إشارة إلى أن التكوين، وإن كان فيه بالقوة دائما فلا يلزم وجوده في الأزل؛ لأنه لم يخرج إلى الفعل إلا بالأمر.
ولذلك قال: (عند الأمر بالتكوين إلا) هو (نفسه)، وإن لم تكن نفسه المعدومة علة لوجوده ولا تكوينه؛ لأنهما عدمیان بل هو الأمر الإلهي الموجود والتكوين من الإضافات التي هي غير موجودة، فلا يجعل من صفات الحق كما يقوله المعتزلة في العالمية والقادرية؛ لأن صفاته تعالی موجودة قديمة قائمة بذاته.
(فأثبت الحق تعالى التكوين للشيء نفسه)؛ لأنه معدوم ثابت للشيء (لا للحق) الذي هو بذاته وصفاته موجود قديم.
(والذي للحق فيه) أي: في التكوين حيث قيل فيه أنه مكون الأشياء وخالقها (أمره خاصة)؛ لأنه من الموجودات التي صح كونها من صفات الحق.
(وكذا) أي: كما قلنا بأن صفة الحق إرادته وأمره لا التكوين، (أخبر الحق عن نفسه في قوله: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" [يس: 82]) .
فأثبت الإرادة والقول لنفسه والتكوين للشيء.
فإن الضمير في قوله: "فيكون" إنما يعود إلى الشيء هو نفسه، ولكن ذلك ليس علة وجوده بل هي (أمر الله) فهو إنما تكون عن أمر الله لا بتكوين نفسه.
ثم قال الشيخ رحمه الله: (وهو) أي: الله تعالى (الصادق) فيما أخبر عن نفسه، فلا يصدق في مقابلة إخباره قول الماتريدي، وكيف لا يصدق، (وهذا هو المعقول في نفس الأمر) في امتثال جميع الأوامر، فإنه لا يصدر المأمور به من الأمر، وإن كان قاهرا.

وإليه الإشارة بقوله: (كما يقول الأمر الذي يخاف فلا يعصی) لكونه قاهرا (لعبده قم، فيقوم العبد امتثالا لأمر سيده، فليس للسيد في قيام هذا العبد سوى أمره له بالقيام)، إذ لا يتصور منه مباشرة قيام عبده.
وذلك للعلم الضروري أن (القيام من فعل العبد)، وإن كان مقهورا (لا من فعل السيد) فكذا التكوين لكونه من الأمور الإضافية العدمية، لا تتصور إلا الأمر معدوم ثابت في العلم لا يتصور كونه من الصفات القديمة الموجودة.
وإن سلم فلا معنى لامتثال الأمر إذ لا يتصور مع كون المأمور به من فعل الأمر من كل وجه، وهذا التمثيل مبني على أن هذا الامتثال بالكره لكن النص الأخر دل على أنه بالطوع، وهو قوله تعالى: "ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " [فصلت: 11]
وكيف لا وهو الكمال المطلوب إذ هو خير محض، وفيه خروج عما هو أصل الشر وهو العدم، وإذا ثبت أن (التكوين) من صفات المكون لا الحق ثبت الفردية (الثلاثة في الجانبين)، وإلا كان (في جانب الحق) أربعة: ذاته وإرادته، وقوله، وتكوينه، (ومن جانب الخلق) شيئيته وسماعه، فيكون الثابت في الجانبين الزوجية، فقام أصل التكوين وراء تكوين المعاني على التثليث.
ولما توهم أنه أربعة من جانب، واثنان من آخر بالنظر إلى مجرد هذا لا مع ما تقدم رفعه بقوله: أي: من الثلاثة من الجانبين من جانب الحق ذاته، وإرادته، وقوله، ومن جانب الخلق شيئيته، وسماعه، وامتثاله، وإما بين الجانبين لئلا ينتقض مثل النار والحطب، وفيه إشارة إلى أن التكوين، وإن يكن صفة للحق فالأمر منه قائم مقامه .
ولذا استدل الماتريدي على أن التكوين صفة الحق بقوله"إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" [يس: 82]؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.  
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم سرى ذلك في إيجاد المعاني بالأدلة:
فلا بد من الدليل أن يكون مركبا من ثلاثة على نظام مخصوص وشرط مخصوص، وحينئذ ينتج لا بد من ذلك، وهو أن يركب الناظر دليله من مقدمتين كل مقدمة تحوي على مفردين فتكون أربعة واحد من هذه الأربعة يتكرر في المقدمتين لتربط إحداهما بالأخرى كالنكاح فتكون ثلاثة لا غير لتكرار الواحد فيهما.
فيكون المطلوب إذا وقع هذا الترتيب على الوجه المخصوص وهو ربط إحدى المقدمتين بالأخرى بتكرار ذلك الواحد المفرد الذي به يصح التثليث.
والشرط المخصوص أن يكون الحكم أعم من العلة أو مساويا لها، وحينئذ يصدق، وإن لم يكن كذلك فإنه ينتج نتيجة غير صادقة.
وهذا موجود في العالم مثل إضافة الأفعال إلى العبد معراة عن نسبتها إلى الله أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى الله مطلقا.
والحق ما أضافه الا إلى الشيء الذي قيل له كن.
ومثاله إذا أردنا أن ندل أن وجود العالم عن سبب فنقول كل حادث فله سبب فمعنا الحادث والسبب.
ثم نقول في المقدمة الأخرى والعالم حادث فتكرر الحادث في المقدمتين.
والثالث قولنا العالم، فأنتج أن العالم له سبب، وظهر في النتيجة ما ذكر في المقدمة الواحدة وهو السبب.
فالوجه الخاص هو تكرار الحادث، والشرط الخاص عموم العلة لأن العلة في وجود الحادث السبب، وهو عام في حدوث العالم عن الله أعني الحكم.
فنحكم على كل حادث أن له سببا سواء كان ذلك السبب مساويا للحكم أو يكون الحكم أعم منه فيدخل تحت حكمه، فتصدق النتيجة.  )

ثم أشار إلى عموم الفردية الثلاثية في كل إيجاد؛ فقال: (ثم سرى ذلك) التثليث من أصل الإيجاد وهو إيجاد الموجودات في الخارج (في إيجاد المعاني) أي: التصديقات في الذهن خصها لأن التصورات لا تحصل عنده إلا بالكشف لتصور نظر المنطق عن الوفاء بتمييز الذاتيات عن العرضيات.
وقد اعترف بذلك الشيخ الرئيس في رسالة الحدود (بالأدلة) أي: الأقيسة؛ (فلا بد في الدليل الذي هو موجد المعاني (أن يكون مركبا من ثلاثة)؛ لأنه إن كان استثنائيا، فلا بد من مقدمة شرطية هي في الأصل قصتان، ومقدمة استثنائية هي حملية، وإن كان اقترانی . فلا بد من أصغر وأوسط وأكبر، والأصغر موضوع المطلوب أو مقدمة، والأكبر محمول المطلوب أو تاليه، والأوسط هو الرابط المکرر بينهما (على نظام مخصوص)، وهو تقديم الشرطية على الاستثنائية في الاستثنائي، وتقديم الصغرى على الكبرى في الاقتراني، (وشرط مخصوص) ذكر تفصيله في كتاب (المنطق)، وسيأتي ما يدل بالإجمال عليه.
(وحينئذ ينتج لا بد من ذلك) أي: تلزمه النتيجة، وإن كانت قد تحصل بالاستقراء والتمثيل لكنها ليست بلا ذمة.
(وهو) أي: تركب الدليل من ثلاثة في الاقتراني لم يذكر الاستثنائي لوضوحه (أن يركب الناظر دليله) الاقتراني (من مقدمتين، كل مقدمة تحتوي على مفردین)؛ فالأولين على الأصغر والأوسط، والأخرى على الأكبر والأوسط، (فتكون) أجزاء الدليل في الظاهر (أربعة) لكن (واحد من هذه الأربعة) وهو الأوسط (يتكرر في المقدمتين ليربط إحداهما بالآخر)، لحصول المشاركة بينهما بتكرار ذلك الواحد فيهما (کالنکاح) الموجب تكرر المني من الرجل والمرأة الموجب للنتيجة التي هي الولد،

(فتكون) أجزاء الدليل بالحقيقة (ثلاثة لا غير لتكرار الواحد فيهما)، فهو وإن كان اثنين في اللفظ واحد في الحقيقة.
(فيكون) أي: يوجد (المطلوب) من بينهما بحذف المكرر (إذا وقع هذا الترتيب)، وهو تقديم الصغرى على الكبرى إذ بدونه قد يلتبس المطلوب بعكسه أو تحتل الشروط المنتجة؛ فلا يحصل أصلا (على هذا الوجه المخصوص).
(وهو) أي: الوجه المخصوص (ربط إحدى المقدمتين بالأخرى) بحيث يسري عين الحكم من أحدهما إلى الأخرى أو نقيضه إذ بدونه السراية.
وهذا الربط إنما هو (بتكرار ذلك الواحد المفرد الذي) هو جزء من المقدمتين، وبه شركتهما الموجبة لسراية الحكم أو نقيضه من أحدهما إلى الأخرى، وهذه السراية هي النتيجة.
فذلك الواحد كأنه هو المنتج إذ هو الذي (صح به التثليث) الذي هو سبب الإيجاد بالحقيقة أو (الشرط الخصوص) المحمل الجامع للشرائط المفصلة في كتب المنطق (أن يكون الحكم)، وهو الأكبر المحكوم فيه، وذلك في الشكل الأول والثالث.
فيجوز أن يكون أخص في الثاني والرابع نحو لا شيء من الحجر بحيوان، وكل إنسان حیوان، ونحو كل إنسان حیوان، وكل زنجي إنسان، وكذا الأصغر المحكوم فيه في الثالث أو الرابع يجب أن يكون أعم من الأوسط أو مساويا له.
(أعم من العلة)، وهي الأوسط إذ هو علة ثبوت الأكبر لأصغر أو سلبه عنه أو علة ثبوت الأكبر على تقدير الأصغر، أو سلبه على تقديره (أو مساويا لها)، وهذا في الموجة الكلية، وفي الجزئية تعتبر المساواة والعموم بالنسبة إلى الأفراد المأخوذة، وفي السالبة إن كان الحكم في الكبرى مسلوبا عن الأوسط، وغيره فهو كعموم الحكم، والآن كالمساواة
(وحينئذ يصدق) في الحكم بالأكبر على الأصغر، أو سلبه عنه أو بالأكبر على تقدير الأصغر، أو سلبه على تقديره؛ وذلك لأن الكبرى إن كانت موجبة؛ فالوسط أمام علة للثبوت، وذلك عند كون الصغرى موجبة أيضا.
ففي الشكل الأول لما ثبت الأوسط للأصغر كله أو بعضه ثبت له ما يساويه أو ما يعمه لوجوب تحقق أحد المتساويين عند تحقق الأخر.
ووجوب الأعم عند تحقیق الأخص، وفي الشكل الثالث لما ثبت الأكبر للأوسط الذي ثبت له الأصغر، وكان ثبوت أحدهما أو كليهما له كليا لزم اجتماع الأكبر، والأصغر في الأوسط، بحيث يصدق أحدهما على الأخر ضرورة مساواة الأكبر أو عمومه للأوسط كله أو بعضه الذي ثبت الأصغر لكله أو بعضه، والمجتمع مع أحد المتساويين والأخص منه مجتمع مع المساوي الأخر أو أعم منه.
وفي الشكل الرابع لما ثبت الأوسط للأكبر كله أو بعضه وينعكس إلى ثبوت الأكبر، وقد ثبت الأصغر لكل الأوسط، ثبت الأصغر للأكبر كله أو بعضه، وينعكس إلى ثبوت الأكبر للأصغر، وهو النتيجة المطلوبة.
فهو كالأول مع العكس في النتيجة، فالتعليل المذكور هناك أتى هاهنا، إلا أن الأصغر هناك، ولا يتأتى كون الوسط علة للثبوت في

الشكل الثاني لوجوب اختلاف مقدمتيه بالإيجاب والسلب مع وجوب اتباع النتيجة للمقدمة الحسية في السالبة أو الجزئية.
وأما علة النفي وذلك عند كون الصغرى سالبة؛ فلا يتأتي في الشكل الأول والثالث بل في الثاني والرابع.
ففي الثاني لما ثبت الأوسط لكل الأكبر مع مساواة الأكبر له أو أخص منه ضرورة كون الأكبر موضوعا، وقد سلب الأوسط عن كل الأصغر أو بعضه لزم سلب الأكبر عن كل الأصغر أو بعضه؛ لأن سلب أحد المتساويين يستلزم سلب الأخر، وسلب الأخص منه.
وفي الرابع لما ثبت الأوسط لكل الأكبر أو بعضه مع مساواة الأكبر للأوسط أو كونه أخص منه لكون الأكبر موضوعا، وقد سلب الأصغر عن الأوسط كله أو بعضه مع كلية إحدى المقدمتين لزم سلب الأصغر عن الأكبر، وينعكس إلى سلب الأكبر عن الأصغر حيث تكون السالبة منعكسة بأن تكون مشروطة خاصة أو عرفية خاصة، وإن كانت الكبرى سالبة؛ فهي علة للنفي لا غير، ولا بد من مساواة الأكبر فيها للأوسط لوجوب انعکاس السالبة الكلية كنفسها.
وإن كانت جزئية فلا بد وأن تكون من إحدى الخاصتين، وذلك في الشكل الثالث والرابع، ولا بد حينئذ من كون الصغرى موجبة لامتناع إنتاج السالبتين؛ فالمنافي للأوسط منافاة متساوية مناف لما ثبت له الأوسط أو ثبت للأوسط على حسب المنافاة والثبوت في الكلية والجزئية؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
وإن لم يكن كذلك أي: لم يكن الأكبر المحكوم به في الشكل الأول والثاني أعم من العلة ولا مساويا لها، ولا في حكمها بل كان أخص من العلة في الموجبة الكلية أو مبایئا لها في إحدى الموجبتين نحو كل إنسان حيوان، وكل حيوان فرس أو حجر، ونحو كل إنسان حيوان، وبعض الإنسان فرس أو حجر، أو يكون السلب في مكان الإيجاب نحو كل إنسان حيوان، ولا شيء من الحيوانات بحساس أو جسم.
أو لم يكن الأصغر أعم من الأوسط أو مساويا له في الثالث والرابع نحو كل حيوان إنسان، وبعض الحيوانات فرس، ونحو كل حيوان إنسان، وكل فرس حيوان، أو لم يكن الأوسط علة بأن لم يتكرر أو اختلت شروط الأشكال من إيجاب الصغرى في الأول والثالث.
وكلية الكبرى في الأول والثاني، واختلاف المقدمتين بالكيف في الثاني، وكلية أحدهما في الثالث، وإيجابهما مع كلية الصغرى أو اختلافهما بالكيف مع كلية أحدهما في الرابع.
(فإنه ينتج نتيجة غير صادقة) إما لكذب الكبرى أو الصغرى فيما تقدم؛ فلا يستلزم نتيجة صادقة، وإن كانت قد تصدق اتفاقا كقولنا: كل إنسان حجر، وكل حجر
حيوان، وإما لعدم العلة عند عدم التكرار، واختلال الشروط إذ لو كان علة لكان للإيجاب وحده أو السلب وحده؛ فلا يتخلف بالاختلاف لكنه واقع كما بين في كتب المنطق.
ثم قال: (وهذا) أي: النتيجة الغير الصادقة (موجود في العالم) أي: يعتبر بعض من يدعي الفطانة في الصناعة كالمعتزلة، والشيعة، وسائر المتكلمين.
فلا بد من التنبيه على خطئهم (مثل إضافة الأفعال إلى العبد معراة نسبتها إلى الله) على ما هو مذهب المعتزلة والشيعة.
وذلك إما بأن يقال: 
فعل العبد منسوب إلى العبد، وكل ما ينسب إلى العبد لا ينسب إلى الله، فالكبرى السالبة كاذبة؛ لأن المنسوب إلى العبد لا يستقل به العبد لحدوثه، فلا بد من انتهائه إلى القديم دفعا للتسلسل.
أو بأن يقال: 
فعل العبد حادث، وبعض الحوادث يستند إلى العبد لفتحها، ففعل العبد مستند إلى العبد حسنا أو قبيحا.
وقد اختل فيه شرط إيجابية الكبرى في الشكل الأول، والقبح فيها بالنسبة إلى العبد لا يستلزم القبح بالنسبة إلى الله تعالى كما يقبح قطع يد السارق بالنسبة إليه لا بالنسبة إلى الأمير والرعية.
 بأن يقال: 
الله تعالی ليس بعابد ولا زان ولا سارق وفاعل الصلاة والزنا والسرقة وعابد وزان وسارق؛ فالله تعالی ليس بفاعل لها.
فيقول العابد والزاني والسارق من تقوم به الصلاة، والزنا والسرقة لا من يوجد ما كان موجد السواد في الثوب ليس بأسود، وإنما هو الثوب الذي قام به السواد؛ فالكبرى الموجبة كاذبة
أو بأن يقال:
الطاعة والمعصية فعل العبد، والطاعة والمعصية ليس مضافا إلى الحق، ففعل العبد ليس مضافا إلى الحق
أو الطاعة والمعصية فعل العبد، والمضاف إلى الحق ليس بطاعة ولا معصية.
فنقول: إن أريد بالفعل الإيجاد فالصغرى كاذبة.
ومثل (إضافة التكوين الذي نحن بصدده) احتراز عن المعتزلة بقول: "كن" (إلى الله مطلقا) لإعتبار حصول بقول:"كن"
 بل كأنه وراء ما قال: "كن" باشر التكوين أيضا.
وذلك بأن يقال: التكوين بأمر "كن"، وأمر "كن" مضاف إلى الله مطلقافالتکوین مضاف إلى الله مطلقا.
 والغلط فيه توهم أن أمر"كن" هو الوسط المكرر مع أنه ليس محمول الصغرى، وإنما هو العامل فيه فلا وسط فلا ربط بين المقدمتين.
وليس هذا استدلالا ينفي الدليل المعين على نفي المدلول، (بل الحق ما أضافه إلا إلى الشيء الذي قيل له: "كن" ) حيث قال بعده: "فيكون"؛ فالنص القطعي دل على عدم إضافته إلى الحق.
ثم أشار إلى مثال النتيجة الصادقة التي هي أشرف النتائج، أعني الموجبة الكلية، وهما شرف المطالب من حيث أن أول الواجبات النظر في الصانع مع التنبيه على تعليل كليته حيث يوجد منه تعليل كلية السالبة.
بل تعليل الجزئيتين أيضا، وهو صالح للتمثيل بالأعم والمساوي باعتبار عينية الأسماء الإلهية للذات ومغایرتها، فقال: (ومثاله إذا أردنا أن ندل) على (أن وجود العالم عن سبب).
فيه إشارة إلى أن الفكر هو الانتقال من المطالب إلى المبادئ، ثم الرجوع منها إلى المطالب.
(فنقول) في كبرى الشكل الأول: والكبرى مقدمة في أول الفكر لصعوبة ضم الأوسط إلى الأكبر، فهي أهم بالتحصيل.
فإذا حصلت سهل حصول الصغرى، وبه صریح في اللوامع (کل حادث فله سبب فمعنا) في هذه المقدمة مفرد أن (الحادث والسبب) أي: له سبب لكنه لما قام مقام المفرد عبر عنه بعبارته (ثم) بعد حصول الكبرى الصعبة (نقول في المقدمة الأخرى)، وهي الصغرى السهلة.
(والعالم حادث، فتكرر الحادث)؛ فهو جزء واحد، وليس بتكراره يصير ثالثا، بل (والثالث) في الصغرى (قولنا: العالم فأنتج) بعد تقديم الصغرى، وتأخير الكبرى، وحذف المكرر عند الرجوع إلى المطلوب .
(العالم له سبب فظهر) بالفعل بعد كونه بالقوة (في النتيجة ما ذكر في المقدمة الواحدة) من الأصغر والأكبر، مضمر ما أحدهما إلى الأخر،
(والوجه الخاص) الموجب لهذا الظهور بعد الخفاء (هو تكرار الحادث) الموجب للربط بينهما، (والشرط الخاص) الموجب لكون النتيجة موجبة كلية.
(هو عموم العلة) أي: قولنا له سبب؛ فإنه يستوعب إفراد الحادث الذي هو الأوسط، وسمي السبب علة لهذا، وقد سمي بها الأوسط فيما تقدم؛ (لأن العلة) المؤثرة (في وجود الحادث) الذي هو الأوسط هو (السبب)، فهو علة في الخارج.
والوسط علة في الذهن، (وهو) أي: السبب (عام في حدوث) إفراد (العالم عن الله) فهو علة النتيجة بحسب الخارج.
 وذلك لأن كل حادث لا بد له من محدث؛ فإن كان أيضا حادثا افتقر إلى آخر، فإما أن يلزم التسلسل المحال أو ينتهي إلى الله تعالی.
"" أضاف المحقق : يقول الشيخ ابن العربي في الباب الثامن والتسعون ومائة :
ومن علم الاتساع الإلهي علم أنه لا يتكرر شيء في الوجود وإنما وجود الأمثال في الصور يتخيل أنها أعيان ما مضى وهي أمثالها لا أعيانها ومثل الشيء ما هو عينه...
فالقديم لا يصح أن يكون محلا للحوادث، ولا يوصف بالقدم لأن الحادث يقبل الاتصاف به.
والحادث لا يوصف بالقدم ولا يصح أن يكون القديم حالا في المحدث لا قديم ولا حادث .
فإذا اتصف به الحادث يسمي حادثا ، وإذا اتصف به القديم فيسمى قديما
وهو قديم في القديم حقيقة و حادث في المحدث حقيقة.
 لأنه بذاته يقابل كل صفة متصف به:
كالعلم يتصف به الحق والخلق فيقال في علم الحق أنه قديم فإن الموصوف به قديم فعلمه بالمعلومات قديم لا أول له. ... يتبع ""
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 11- فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالثلاثاء أغسطس 20, 2019 1:31 pm

11- فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الصالحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
11- فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية     الجزء الثاني
""  تابع ما قاله المحقق :  
لأنه بذاته يقابل كل صفة متصف به:
كالعلم يتصف به الحق والخلق فيقال في علم الحق أنه قديم فإن الموصوف به قديم فعلمه بالمعلومات قديم لا أول له.
ويقال في علم الخلق محدث؛ فإن الموصوف به لم يكن ثم كان كصفته مثله إذا ما ظهر حكمها فيه إلا بعد وجودها فيه عينه فهو حادث مثله. والعلم في نفسه لا يتغير عن حقيقته بالنسبة إلى نفسه وهو في كل ذات حقيقية عينه، وما له عين وجودية سوى عين الموصوف .أهـ  ""
ولما أطلق العلة على الأوسط أو توهم أن المراد هنا، فرفعه بقوله: (أعني الحكم) أي: المحكوم به في الكبرى لا الأوسط، فإذا عم الحكم الذي هو قولنا له سبب كل حادث؛
(فنحكم على كل حادث) سواء اعتبر کلا إفرادا أو مجموعا (أن له سببا) حتى يقال على تقدير جواز التسلسل أن مجموع العالم لا يفتقر إلى السبب.
ثم ذكر ما يشير إلى أن المراد بعموم السبب استيعابه إفراد الحادث لا كونه صاد فاعلية، وعلى غيره بخلاف ما مر.
فقال: (سواء كان السبب مساويا للحكم) أي: المحكوم به في الصغرى، وهو الأوسط
أعني قولنا: الحادث أطلق عليه الحكم ليشير إلى أن المراد بعموم الحكم ومساواته فيما نقدم ما وقع محكوما به سواء كان أصغر أو وسط أو أكبر.
(أو يكون الحكم) أي: المحكوم به في الكبرى، وهو قولنا له سبب (أعم منه) أي: من الحكم أي: المحكوم به في الصغرى .
أعني: الأوسط فإن قولنا له سبب يمكن أن يجعل لغير الحادث كأسماء الله تعالى على تقدير مغایرتها، والمساواة على تقدير عینیتها، (فيدخل) العالم (تحت حكمه) أي: حكم ما له سبب مما يفتقر إليه.
(فتصدق النتيجة) الموجبة الكلية على التقديرين تقدير العموم، وتقدير المساواة.
وهذا صار المثال صالحا للعموم والمساواة، وعلم موجب النتيجة الموجبة الكلية بحيث ينقاس عليه السالبة الكلية، بل الجزئيات أيضا.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهذا أيضا قد ظهر حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتنص بالأدلة.
فأصل الكون التثليث، ولهذا كانت حكمة صالح عليه السلام التي أظهر الله في تأخير أخذ قومه ثلاثة أيام وعدا غير مكذوب، فأنتج صدقا وهو الصحيحة التي أهلكهم الله بها فأصبحوا في ديارهم جاثمين. )

(فهذا) أي: ظهور النتيجة بعد اعتبار التثليث في الدليل "الله" الذات المحض الغني والمستغني عن كل شيء ولا يحتاج لشيء ، الأسماء والصفات الإلهية التي تطلب الخلق لتكون سارية ونافذة لتحقق الغرض منها  ، المخلوقات التى تطلب وتحتاج للأسماء والصفات الإلهية لتحيا وتتعلم وترزق " .
(أيضا) دل على أنه (قد ظهر حكم التثليث) من أصل الإيجاد الخارجي (في إيجاد المعاني) في الذهن.
لأن الأمور الذهنية تابعة للأمور الخارجية سيما إذا كانت من الأمور (التي تقتنص بالأدلة فأصل التكون التثليث) إذ لولاه لم يظهر في إيجاد المعاني.
(ولهذا) أي: ولأجل أن أصل الكون التثليث (كانت حكمة صالح عليه السلام ) مدة حكمته العملية (التي أظهر الله) فيها سر إيجاده "الناقة" .إذ لم يلدها والداها، بل انفلق عنها الجبل (ثلاثة أيام) ليجعلها متضمنة سرا لتثليث .
كـ الأصغر والأوسط والأكبر في إنتاج العذاب.
(وعدا) نصب على أنه حال من الأخذ، ورفع على حذف المبتدأ (غير مكذوب) في لزومه کالنتيجة للدليل، (فأنتج) سر التثليث في الأيام وعدا (صدقا، وهي) أي: تلك النتيجة (الصيحة التي أهلكهم بها) مثل ما كان للناقة عند إهلاكها ("فأصبحوا في ډيرهم جاثمين" [هود:67]) ميتين كما ماتت عند قتلها.
ولما كانت هذه الأيام متضمنة سر التثليث الموجد للعذاب كان كل يوم حامل سر من الأسرار الموجبة للشقاوة كأجزاء الدليل.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( فأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم، وفي الثاني احمرت وفي الثالث اسودت.
فلما كملت الثلاثة صح الاستعداد فظهر كون الفساد فيهم فسمى ذلك الظهور هلاكا، فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة إسفار وجوه السعداء في قوله
تعالى «وجوه يومئذ مسفرة» من السفور وهو الظهور، كما كان الاصفرار في أول يوم ظهور علامة الشقاء في قوم صالح.
ثم جاء في موازنة الاحمرار القائم بهم قوله تعالى في السعداء «ضاحكة»، فإن الضحك من الأسباب المولدة لاحمرار الوجوه، فهي في السعداء احمرار الوجنات.
ثم جعل في موازنة تغير بشرة الأشقياء بالسواد قوله تعالى «مستبشرة» وهو ما أثره السرور في بشرتهم كما أثر السواد في بشرة الأشقياء.
ولهذا قال في الفريقين بالبشرى، أي يقول لهم قولا يؤثر في بشرتهم فيعدل بها إلى لون لم تكن البشرة تتصف به قبل هذا.
فقال في حق السعداء «يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان» وقال في حق الأشقياء «فبشرهم بعذاب أليم» .
فأثر في بشرة كل طائفة ما حصل في نفوسهم من أثر هذا الكلام.
فما ظهر عليهم في ظاهرهم إلا حكم ما استقر في بواطنهم من المفهوم.
فما أثر فيهم سواهم كما لم يكن التكوين إلا منهم. فلله الحجة البالغة. )

(فأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم) تقليلا للبياض الدال على السعادة؛ فهو كالأصفر.
(وفي اليوم الثاني احمرت) توسيطا بين البياض والسواد، فهو كالأوسط.
(وفي الثالث اسودت) كلها لغاية البعد عن البياض إلى ضده، فهو كالأكبر.
(فلما كملت الأيام الثلاثة) بهذه الأسرار الموجبة للشقاوة كالأجزاء الدليل، (صح الاستعداد) لإيجاد الشقاوة الفيضان النتيجة بعد كمال الدليل.
(فطهر كون) أي: وجود (الفساد فيهم) بعد کمونه في الأيام باعتبار تضمنها أسراره ککمون النتيجة في الدليل الاقتراني الذي هو الأصل.
(فسمي ذلك الظهور هلاكا)، وإن كان إيجاد الشقاوة لما هلك به ما كان يتوهم فيهم من استعداد السعادة بالنظر إلى أن نفس الإنسان قابلة للأمرين كليهما السعادة والشقاوة في نظر العقل؛ فلذلك كان كل تكوين من تكوينات الشقاوة في مقابلة تكوينات السعادة التي تبدلت بها.
(فكان اصفرار وجوه الأشقياء) من قوم صالح بنقص البياض (في موازنة) أي: مقابلة (إسفار وجوه السعداء) بزيادة البياض وهو المذكور (في قوله تعالى: "يومئذ مسفرة" [عبس: 38]) من حيث اشتراك الأسفار والاصفرار في إظهار أمر لم يكن ظاهرا أصلا .
إذ الأسفار (من السفور وهو الظهور)، لكن الأسفار ظهور علامة السعادة بزيادة البياض في وجوه السعداء، وهي أول علاماتها (كما كان الاصفرار في أول يوم ظهور علامة الشقاء) بنقص البياض (في قوم صالح).
(ثم جاء في موازنة الاحمرار القائم بهم) أي: بقوم صالح في اليوم الثاني، (قوله تعالى في) حق (السعداء "ضاحكة") للملازمة

بين الضحك والاحمرار، (فإن الضحك من الأسباب الموجبة لاحمرار الوجوه) لكن بين الاحمرارین فرق، وهي (في السعداء احمرار الوجنات) تزینا لوجوههم، وفي الأشقياء حمرة فاحشة مشوهة للوجوه.
ثم جعل سبحانه وتعالى (في موازنة تغيير بشرة الأشقياء بالسواد) المذهب للإشراق، والبياض بالكلية الاستبشار الموجب لمزيد الإشراق والبياض في وجوه السعداء، حيث أنزل في شأنهم (قوله تعالى: "مستبشرة" [عبس: 39]) من حيث اشتراكهما في تغيير البشرة الوجه إلى غاية خلاف ما كان عليه السلام.
وذلك أن الاستبشار (هو ما أثره السرور في بشرهم) من غاية الإشراق والبياض، (كما أثر السواد في بشرة الأشقياء) بإذهاب ما كان فيها من البياض والإشراق بالكلية هو.
(ولهذا) أي ولاشتراك ما يحصل للسعداء والأشقياء في تغيير بشرة الوجه.
(قال) تعالى (في) حق (الفريقين بالبشرى) من اختصاصها في الفرق بالخبر الصادق المسر؛ فلا بد من تأويلها بما ذكرنا .
(أي: يقول لهم) أي لكل واحد من أفراد الفريقين (قوة يؤثر في بشرتهم فيعدل بها) أي: بالبشرة بتغيرها (إلى لون) جدید (لم تكن البشرة تتصف به).
أي: بذلك اللون (قبل هذا) القول، فكأنه أخذ البشري من البشرة باعتبار تأثيرها فيه، (فقال تعالى في حق السعداء :
"يبشرهم ربهم برحمة منه" [التوبة:22]) هي رؤية وجهه الكريم ("ورضوان") هي الطاقة المعنوية وقت الرؤية وغيرها وجنات هي إنعاماته الحسية.
(وقال في حق الأشقياء:
 "فبشرهم بعذاب أليم") ولا شك أن القول إنما يؤثر في الباطن الذي هو النفس الحيوانية والناطقة والإلهية المعبر عنها في اصطلاح القوم بالنفس والقلب والروح ويسرى منه إلى الظاهر.
(فأثر في بشرة كل طائفة ما حصل في نفوسهم) الحيوانية والناطقة والإلهية (من أثر هذا الكلام)، ولا شك أن هذه النفوس أيضا ظواهر الأعيان الثابتة كالأجسام وقواها لهذه النفوس.
(فما ظهر عليهم في ظواهرهم) أي: النفوس المذكورة والأجسام والقوى (إلا حكم ما استقر في بواطنهم) التي هي الأعيان الثابتة .
وفسر ذلك المستقر في البواطن بقوله: (من المفهوم) أي: المفهومات التي كانت في استعداداتها من حيث هي ثابتة في العلم على نهج المفهومية المحضة يؤثر في ظواهرهم تأثیر مفهوم الكلام في الباطن والظاهر.
وإذا كان كذلك (فما أثر فيهم) بالسعادة والشقاوة، وسائر الأعراض المسرة والمؤلمة وغيرها (سواهم، كما لم يكن التكوين إلآ منهم) من جهة امتثالهم أمر ربهم (فلله الحجة البالغة) عليهم إذا عاقبهم بكفرهم ومعاصيهم.
إذا كان الكفر والمعاصي والعقاب عليهما من تأثيرات أعيانهم وتكويناتها.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن فهم هذه الحكمة وقررها في نفسه وجعلها مشهودة له أراح نفسه من التعلق بغيره وعلم أنه لا يؤتى عليه بخير ولا بشر إلا منه.
وأعني بالخير ما يوافق غرضه ويلائم طبعه ومزاجه، وأعني بالشر ما لا يوافق غرضه ولا يلائم طبعه ولا مزاجه.
ويقيم صاحب هذا الشهود معاذير الموجودات كلها عنهم وإن لم يعتذروا، ويعلم أنه منه كان كل ما هو فيه كما ذكرناه أولا في أن العلم تابع للمعلوم، فيقول لنفسه إذا جاءه ما لا يوافق غرضهيداك أوكتا وفوك نفخ.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. )
(فمن فهم هذه الحكمة) أي: حكمة تكوين الشيء نفسه، وتأثير عينه الثابتة فيه، وإن كان بأمر ربه .
(وقرها في نفسه) بحيث لا يزول عنه بعارض من العوارض، إذ لو زالت لم تسترح.
وذلك إذا (جعلها مشهودة له) بحيث يدركها بالذوق (أراح نفسه من التعلق بغيره)؛ فلا يقول: لو فعلت كذا لكان كذا، أو أن الله تعالى أو الشيطان أو فلانا فعل في كذا.
وذلك لأنه (علم) ذوقا يقينا (أنه لا يؤتى عليه بخير، ولا بشر إلا منه) أي: من باطنه من حيث الاقتضاء والتكوين، ولست أعني بالخير ما هو كمال الشيء ومطلوبه.
إذا لكل من كمالات الأعيان ومطالبها؛ فلا يتصور الشر في مقابلته، بل (أعني بالخير ما يوافق غرضه، وما يلائم طبعه ومزاجه وأعني بالشر ما لا يوافق غرضه، ولا يلائم طبعه ولا مزاجه) .
وإن كان خيرا بالنظر إلى كونه كما في نفسه، ومطلوبا للأعيان الثابتة ويفهم منه أن ما يوافق البعض منها دون البعض؛ فهو خير من وجه، وشر من وجه.
(ويقيم صاحب هذا الشهود معاذير الموجودات كلها عنهم) بأن تلك المقتضيات ذاتية اللهم لا يمكنهم تغييرها.
(وإن لم يعتذروا) أي: وإن لم يقبل عذرهم هذا في رد العذاب عنهم، وذلك أنه (يعلم أنه منه كان) بالاقتضاء والتكوين .
(كل ما هو فيه) من العذاب والكفر والمعاصي؛ فلا يكون هذا حجة له بل عليه (كما ذكرناه أولا) أن الحكم الإلهي وأمره بالتكوين تابع للعلم، (وأن العلم تابع للمعلوم)، فالحكم والأمر تابعان له.
(فيقول) صاحب هذا الشهود (لنفسه إذا جاءه ما لا يوافق غرضه) فيه إشارة إلى أن ما يوافق الغرض، وإن لم يوافق الطبع والمزاج يسمي خيرا وضده شرا بذلك الظاهرة والباطنة .
(يداك أوكتا)، أي: شدتا الفيض بتقديره بمقدار عينك الثابتة، وتكوينه بذلك المقدار فيك.
(وفوك) أي: لسان حال عينك الثابتة (نفخ) في التجلي الإلهي لتشتعل به عينك الثابتة بمقتضاها ("والله يقول الحق وهو يهدي السبيل" [الأحزاب: 4]).
ولما كانت الحكمة الفتوحية تفتح عن الكثرة الكائنة في الوحدة، وكان القلب مع وحدته قابلا لظهور كل كثرة فيه عقبها بالحكمة القلبية:
فقال: عن فص الحكمة القلبية فى الكلمة الشعيبية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 8:41 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشعيبي 
12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية
قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أن القلب أعني قلب العارف بالله هو من رحمة الله، وهو أوسع منها، فإنه وسع الحق جل جلاله ورحمته لا تسعه:
هذا لسان العموم من باب الإشارة، فإن الحق راحم ليس بمرحوم فلا حكم للرحمة فيه.
وأما الإشارة من لسان الخصوص فإن الله وصف نفسه بالنفس وهو من التنفيس:
وأن الأسماء الإلهية عين المسمى وليس إلا هو، وأنها طالبة ما تعطيه من الحقائق وليس الحقائق التي تطلبها الأسماء إلا العالم. فالألوهية تطلب المألوه، و الربوبية تطلب المربوب ، وإلا فلا عين لها إلا به وجودا أو تقديرا. )
أي: ما يتزين به، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بالقلب من حيث إنه مع وحدته واسع الظهور كل كثرة فيه، ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى شعيب عليه السلام لتشعب دعوته الواحدة.
أي: تسوية الميزان بقوله: " أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين " [هود: 85].
إلى شعيب كثيرة في الاعتقادات والاختلاف والأعمال إذ لكل شيء منها میزان خاص يستقیم به إذا روعي، ويميل إلى طرفي الإفراط والتفريط إذ أخل به على ما سيشير الشيخ رحمه الله، وهي من أعمال القلب أو القوة المستمدة منه و مشابهة له في التوسط لتوه بين الروح والنفس.
فبين أولا سعته لما لا بتناهي من صور الكثرة حتى أنه أوسع من أصله ليتيسر تصور سعة الكثرة الحاصلة عن ضيق الوحدة في أوهام العامة.
فقال رضي الله عنه  : (اعلم أن القلب أي: قلب العارف بالله) إذ قلب غيره، وإن أحاط بالعلوم الرسمية العقلية والنقلية ضيق عن الأمور الغير المتناهية، والمقصود بیان سعته، وهو المسمى بالقلب في قوله تعالى: "لمن كان له قلب" [ق:37] (هو من رحمة الله) ضرورة أن الموجودات كلها من رحمته، ولكن (هو أوسع) في إيجاد الصور كلها (منها فإنه وسع الحق) أي: صورة في الذهن الذي له إيجاد الصور فيه.
(ورحمته لا تسعة) إذ لا تصوره في الخارج الذي لها إيجاد الصور فيه، ولا في الذهن الذي ليس لها إيجاد شيء منها فيه.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم عن ربه: «ما وسعني أرضي، ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي»، فكذا الكثرة أوسع من الوحدة فيما يتوهم.
ثم قال: (وهذا) أي: كون الرحمة لا تسع الحق والقلب بسعة؛ فهو أوسع منها (لسان العموم) أي: قول عامة الصوفية إذ أهل الظاهر لا يجترئون على القول بسعة القلب للحق؛ لأنها إما بالحلول المحال أو بالتمثيل، وهو باطل عندهم لقوله تعالى: "لیس كمثله شيء" [الشورى:11].
وقد ذهلوا عن حديث رؤية يوم القيامة في الصور المختلفة، وفي المنامات، وعن الفرق بين المثل والمثال (من باب الإشارة)، أي: مأخوذ من كلامهم بطريق الإشارة إذ لم يصرحوا بذلك.
وإنما قال عوام الصوفية بأن القلب أوسع من الرحمة لسعته بالحق دون الرحمة وإلا كان الحق مرحوما وهو باطل.
قال رضي الله عنه : (فإن الحق راحم وليس بمرحوم) بوجه من الوجوه، (فلا حكم للرحمة فيه) لا بإيجاده في الخارج ولا في الذهن، (وأما الإشارة) المأخوذة (من لسان الخصوص) أي كلام خواص الصوفية، فالرحمة أوسع من القلب أو مساوية له في السعة، وإن لم يصرحوا بذلك أيضا، فإن المفهوم من كلامهم أنه تعالى يرحم ذاته وأسماؤه بتصويرها في أعيان المكونات في الخارج.
فإن الله تعالى وصف نفسه على لسان نبيه الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى (بالنفس)، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : «إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن»..
وهو رحمة من المتنفس على نفسه بإخراج الهواء الحارة، وإدخال الباردة، كيف (وهو) مشتق (من التنفيس)؛ وذلك لأن الأسماء من حيث انتسابها إلى الأشياء تطلب ظهورها بصورها وآثارها فيها، وذلك الطلب فيها كالكرب، والظهور كالتنفس فكأنها مرحومة.
قال رضي الله عنه : (والأسماء الإلهية عين المسمى) الذي صدقت عليه، (وليس) المسمى (إلا هو)، أي: الذات فكأنها أيضا مرحومة، وكيف لا تكون الذات مرحومة؟ 
(وأنها طالبة ما تعطيه) الأسماء باعتبار تضمنها معانيها الخاصة من (الحقائق) التي انتسبت تلك الأسماء إليها، باعتبار معانيها الخاصة الموجودة في الذات بواسطة عينية تلك الأسماء لها، وكيف لا تكون مرحومة باعتبار ظهورها في تلك الحقائق؟ وليست صورها الظاهرة فيها قديمة مانعة من التأثير إذ
قال رضي الله عنه : (ليست الحقائق التي طلبتها الأسماء) احتراز عن الحقائق المطلوبة للذات من معاني الأسماء؛ فإنها قديمة غير قابلة للتأثير أصلا إلا العالم القابل للتأثيرات، فالصور الظاهرة فيها حادثة، وبظهورها تحصل مطالب الأسماء؛ فالرحمة عليه رحمة على الأسماء وعلى الذات باعتبار ظهورها فيه، وكيف لا تطلب الأسماء تلك الحقائق، ولا تتصور باعتبار تضمنها للنسب
المقتضية للمنتسبين إلا بها (فالألوهية تطلب المألوه) وإن ورد أن الله غني عن العالمين.
قال رضي الله عنه : (والربوبية تطلب المربرب وإلا) أي: وإن لم يوجد المألوه والمربوب حقيقة ولا تقديرا؛ (فلا عين لها) أي: لا تعين لهذه النسب أي: الألوهية والربوبية إلا (به وجودا أو تقديرا)، فإن الألوهية والربوبية بالفعل عند وجود المألوه والمربوب وبالقوة عند تقديره وإلا فلا تتصور أصلا.
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والحق من حيث ذاته غني عن العالمين.
والربوبية ما لها هذا الحكم.
فبقي الأمر بين ما تطلبه الربوبية وبين ما تستحقه الذات من الغنى عن العالم.
وليست الربوبية على الحقيقة والاتصاف إلا عين هذه الذات.
فلما تعارض الأمر بحكم النسب ورد في الخبر ما وصف الحق به نفسه من الشفقة على عباده.
فأول ما نفس عن الربوبية بنفسه المنسوب إلى الرحمن بإيجاده العالم الذي تطلبه الربوبية بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهية.
فيثبت من هذا الوجه أن رحمته وسعت كل شيء فوسعت الحق، فهي أوسع من القلب أو مساوية له في السعة.  هذا مضی ).
 
ثم أشار إلى الجواب عن قوله: "فإن الله غني عن العالمين " [آل عمران: 97] الدال على غني الذات والأسماء كيف والقديم ذاتا وصفة ليس محلا للحوادث، ولا حالا فيها.
فقال رضي الله عنه: (والحق من حيث ذاته) لا من حيث تضمنها لمعاني أسمائه المنتسبة إلى الأشياء، وكذا الأسماء من حيث انتسابها إلى الذات القديمة (غني عن العالمين) فلا کرب لها أصلا، فلا تكون مرحومة بهذا الاعتبار، ولكن (الربوبية) التي بها انتساب الأسماء إلى الأشياء.
وانتساب الذات إليها بواسطة تضمنها معاني الأسماء (ما لها هذا الحكم)، أي: الغني لاقتضاء النسبة المنتسبين، فلها ما يشبه الكرب بهذا الاعتبار، (فبقي الأمر) أي: أمر الرحمة في تعلقها بأسماء الحق وذاته مترددا (بين ما تطلبه الربوبية) من الظهور في الأشياء، ففيها ما يشبه الكرب.
فقال رضي الله عنه: (وبين ما تستحقه الذات) والأسماء باعتبار انتسابها إليها (من الغني عن العالم) الموجب لعدم الظهور فيه؛ فليس فيها ما يشبه الكرب، لكن كرب الربوبية لاحق بالذات؛ وذلك لأنها (ليست الربوبية على الحقيقة والاتصاف إلا عين هذه الذات)، إذا الربوبية نسبة، والنسب عدمية فلا تحقق إلا للذات المتضمنة للربوبية.
فقال رضي الله عنه: (فلما تعارض الأمر) أي: (الأمر) تعلق الرحمة بالذات والأسماء (بحكم النسب) أي: بحكم انتساب الذات إلى نفسها من حيث هي، وانتساب الأسماء إلى الذات، وبحكم انتساب الذات إلى الأشياء بتضمنها معاني الأسماء المنتسبة إلى الأشياء، وانتساب الأسماء إلى تلك الأشياء.
(ورد في الخبر ما وصف به الحق نفسه من الشفقة) المشعرة بما يشبه الكرب بطريق الإشارة لا التصريح (على عباده) صريحا، فلم يصرح بتعلقها في مكان المعارضة،
وصرح في مكان لا معارضة فيه، ولكن هذه الشفقة المشعرة بما يشبه الكرب لا تتعلق بالذات والأسماء بالنظر إلى العباد من حيث هم عباد .
بل من حيث هم مظاهر الأسماء والذات، باعتبار ما فيها من طلب الظهور بهم، لكن الربوبية سابقة في هذا الطلب على الذات والأسماء باعتبار انتسابها إلى الذات، ولكن الأسماء الإلهية باعتبار انتسابها إلى الأشياء كالربوبية في سبقها في هذا الطلب.
فقال رضي الله عنه: (فأول ما نفس عن الربوبية بنفسه المنسوب إلى الرحمن) الشامل الأسماء الربوبية، فنفس عما يشبه الكرب فيها (بإيجاده العالم الذي تطلبه الربوبية بحقيقتها) التي هي نسبة الأسماء والذات إلى الأشياء، وعن (جميع الأسماء الإلهية) التي هي كالربوبية باعتبار سبق انتسابها إلى الأشياء على انتساب الذات إليها بواسطة تضمنها معاني الأسماء.
فقال رضي الله عنه: (فثبت من هذا الوجه) أي: طلب الأسماء بأنفسها والذات بواسطتها للأشياء، وكونه كالكرب فيها (أن رحمته) بإيجاد العالم (وسعت كل شيء)، حتی وسعت الربوبية والأسماء الإلهية.
فهي أي: رحمة في (فوسعت الحق) باعتبار تضمنه معاني تلك الأسماء، ومعنى الربوبية؛ (في) أي: الرحمة في إيجاد صور الأشياء في الخارج (أوسع من القلب)؛ لأنها وسعت الحق والربوبية، ولكل ما في الخارج من الجزئيات، والقلب لا يتسع للجزئيات كلها في الذهن بقدر واجتماعها في الخارج (أو مساوية له في السعة)، إذ للقلب تصوير الكليات في الذهن، وليس ذلك للرحمة المصورة للأشياء في الخارج فقط.
ويمكن أن يقال في معنى المساواة: إن للرحمة أيضا تصوير الأمور في الذهن، وللقلب أيضا التصوير في الخارج فيما يخلقه العارف همته، (هذا) أي: بحيث أن القلب أوسع أم الرحمة أو هما متساويان (مضی) أي: تم وفي معناهما الوحدة والكثرة، إذ لكل كثرة باعتبار مجموعتها وحدة، والوحدة تظهر بكل وحدة للكثرة، مع أن الوحدة محملة والمحمل من حيث هو محمل أضيق من المفصل، فافهم، فإنه مزلة للقدم.


قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم لتعلم أن الحق تعالى كما ثبت في الصحيح يتحول في الصور عند التجلي، وأن الحق تعالى إذا وسعه القلب لا يسع معه غيره من المخلوقات فكأنه يملؤه.
ومعنى هذا أنه إذا نظر إلى الحق عند تجليه له لا يمكن أن ينظر معه إلى غيره.
وقلب العارف من السعة كما قال أبو يزيد البسطامي «لو أن العرش و ما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به».
وقال الجنيد في هذا المعنى: إن المحدث إذا قرن بالقديم لم يبق له أثر، وقلب يسع القديم كيف يحس بالمحدث موجودا. )
 
ثم أشار إلى أن القلب مع غاية سعته هل تجتمع فيه التجليات المختلفة للحق أم لا؟
وهل يتسع معه للخلق أم لا؟ 
فقال: (ثم) أي: بعد معرفة اتساع القلب (لتعلم أن الحق تعالی کما ثبت في الصحيح يتحول في الصور عند التجلي) في القيامة، فيتجلى في صورة
تنكرها الخلق، ويقولون: نعوذ بالله منك لست ربنا، ثم يتجلى في صورة يعرفونها؛ فيقولون: أنت ربنا، ويسجدون له، هذا حاصل ما في صحيح مسلم.
فدل على أنه لا يتسع لجميع تجلياته كما لا يتسع للخلق مع الحق، (وأن الحق تعالی إذا وسعه القلب لا يسع معه غيره من المخلوقات)، ولو في حق الكامل الذي لا يحجبه الحق عن الخلق و بالعکس.
(فكأنه) أي: ما تجلى فيه من صورة الحق (يملؤه)، وإن كان في نفسه واسعا لا تنقاس جميع تجلياته ولا تنقاس صور الخلق معه، بحيث يمكنه الالتفات إلى ذلك في الجملة . 
وعلى هذا الوجه (معنى هذا) أي: عدم اتساعه للخلق مع الحق، (أنه إذا نظر) أي: التفت إلى الحق عند تجليه له لا يمكن أن ينظر معه إلى غيره من المخلوقات، وإن كانت صورهم منتقشة فيه؛ لأنه لبساطته وجد أن الفعل.
فلا يمكنه الالتفات إلى صورة للخلق مع الالتفات إلى غيرها من صور الخلق، وإن كان الكل منتقشا فيه، بحيث لا يحتاج في تحصيلها إلى تعمل وتذكر.
ولذلك قلنا: (قلب العارف من السعة) لصور الخلق والحق، (كما قال أبو يزيد البسطامي: لو أن العرش وما حواه) العرش من الكرسي إلى العرش (مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به)، وهذا يدل على انتقاش الكل فيه مع أنه لا يمكنه الالتفات إليه مع التفاته إلى الحق.
ولذلك (قال الجنيد في هذا المعنىإن المحدث إذا قرن مع القديم لم يبق له أثر)، كما لا يبقى لصور المسرح والكواكب أثر عند إشراق الشمس، ولفظ «قرن» دل على أنه منتقش، لكنه غير ملتفت إليه.
وبينه الشيخ رحمه الله بقوله: (وقلب يسع القديم) الذي لا يتناهى لا يضيق عن شيء، لكنه (كيف يحس بالمحدث موجودا) مع أن وجود المحدث ظل لوجود القديم ولا ظل مع إشراق الشمس بلا حجاب.
ولذلك ورد "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
"" الحديث : قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"  إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - وفي رواية أبي بكر: النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» رواه مسلم و رواه ابن ماجة ومسند أحمد  ومسند أبي داود الطيالسي الأسماء والصفات البيهقي ومسند البزار وابن منده ، التوحيد لابن خزيمة والشريعة للآجري وغيرهم   ""
قال الشيخ رضي الله عنه : (وإذا كان الحق يتنوع تجليه في الصور فبالضرورة يتسع القلب ويضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلي الإلهي، فإنه لا يفضل شيء عن صورة ما يقع فيها التجلي.
فإن القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محل فص الخاتم من الخاتم لا يفضل بل يكون على قدرة وشكله من الاستدارة إن كان الفص مستديرا أو من التربيع والتسديس والتثمين وغير ذلك من الأشكال إن كان الفص مربعا أو مسدسا أو مثمنا أو ما كان من الأشكال، فإن محله من الخاتم يكون مثله لا غير. )
ولما لم يتم هذا المعنى في منع رؤية صور الحق بعضها مع بعض أشار إلى منع اجتماعها؛ فقال: (وإذا كان الحق يتنوع تجليه في الصور) على ما ثبت في الصحيح، ولا حاجة إلى ذلك لو اتسع القلب لجميعها، (فبالضرورة يتسع القلب) عند تجلية في صورة غير متناهية أو بعيدة الأطراف جدا.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ويضيق) عند تجليه في غيرهما؛ فعلی هذا لا يكون معنى اتساع القلب لتجليات الحق اتساعه لجميعها مقابل على التعاقب، بل لا يبقى متسه في جميع الحالات إذ يكون (بحسب الصورة التي يقع فيها التجلي الإلهي).
وإن كان له اتساع انتقاش كثير من صور المخلوقات مع صورة الحق وبدونها (فإنة لا يفضل من القلب شيء عن صورة ما يقع فيها التجلي) الإلهي، وإن فضل الصورة مخلوق .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن القلب من العارف) الذي يحجبه الحق عن الخلق (أو الإنسان الكامل) الذي لا يحجبه الحق عن الخلق (بمنزلة محل فص الخاتم من الخاتم لا يفضل) ذلك المحل عن مقدار الفص، والكامل لا يرى الخلق منفصلا عن الحق، بل يرى كل واحد كأنه في الأخر، مع أن له قوة التمييز بين المرتبتين.
بل يكون المحل (على قدره) أي: مقدرا الفص طولا وعرضا وعمقا، (وشكله من الاستدارة إن كان الفص مستديرا)، وشكله (من التربيع والتسديس والتثمين وغير ذلك من الأشكال، إن كان الفص مربعا أو مسدسا أو مثمنا أو ما كان من الأشكال، فإن محله من الخاتم يكون مثله) حين تعلقه به (لا غير)، وإن كان قلبه واسعا للجميع، وكذا بعد فصله عنه فكأنه متسع للجميع، في نفسه ضيق عند ذكر الواحد عما سواه.
ولذلك استوعب ذكر الأشكال؛ وذلك لأنه لا يمكن اجتماع صورتين لشخص واحد في مرآة واحدة إلا إذا ظهرت في المرأة مرآة أخرى حاملة لصورة أخرى لذلك الشخص، فكأنه مرآتان حينئذ والقلب مرأة واحدة أبدا بخلاف صور الأسماء المختلفة يمكن اجتماعها في المرأة الواحدة من حيث هي مرآة واحدة.
لكنها لا يمكن التفات إليها مع الحق لما ذكرنا، فكان كمحل الفص من الخاتم بالنسبة إلى الفص؛ لأنه لا مقدار له في نفسه لتجرده، فمقداره مقدار ما ظهر فيه.


قال الشيخ رضي الله عنه: (وهذا عكس ما يشير إليه الطائفة من أن الحق يتجلى على قدر استعداد العبد.
وهذا ليس كذلك، فإن العبد يظهر للحق على قدر الصورة التي يتجلى له فيها الحق.
وتحرير هذه المسألة أن لله تجليين.
تجلي غيب وتجلي شهادة، فمن تجلي الغيب يعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب، وهو التجلي الذاتي الذي الغيب حقيقته، وهو الهوية التي يستحقها بقوله عن نفسه «هو».
فلا يزال «هو» له دائما أبدا.)
قال الشيخ رضي الله عنه: (وهذا) المذكور الدال على أن المحل بقدر التجلي (عكس ما تشير إليه الطائفة من) التجلي بقدر المحل، إذ قالوا: (أن الحق يتجلى على قدر استعداد العبد) (وهذا) التجلي الذي يكون قلب العبد فيه على قدر التجلي (ليس كذلك، فإن العبد) في هذا التجلي (يظهر) قلبه موافقا (للحق على قدر الصورة التي تجلى له فيها الحق) . فيكون العبد تابعا للتجلي.
ولما لم يكن بد من التوفيق بين كلامهم الذي قال به أولا.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وتحرير هذه المسألة) أي: مسألة أن التجلي بقدر المتجلي له، أو المتجلي له بقدر التجلي (أن الله تجليين) أي: نوعين من التجلي قال الشيخ رضي الله عنه :  (تجلي غيب) يفيد الوجود للأعيان الثابتة الحاصلة عن غيب الهوية، وهو يعم الكل، (وتجلي شهادة) يفيد الرؤية برفع الحجب عن القلب بعد تحققه في عالم الشهادة بالوجود، تخص بعض أهل القرب .
قال الشارح:" قال المحققون، ومنهم أبو طالب المكي وأتباعه إن الحق سبحانه وتعالى ما تجلى في صورة واحدة لشخص واحد مرتين، وإلا لتعدد الفيض ضرورة ظهوره ظهورين في مرآة واحدة في حالة واحدة.
والشيء الواحد لا يتعدد ظهوره في مرآة واحدة في حالة واحدة، ولا لشخصين أيضا في صورة واحدة، ولما كانت الممکنات متناهية على نهج الجواز، لكن عدم تناهيها واجب.

وذلك لأنه يجوز حينئذ أن يكون الشخص الثاني تكرار الشخص الأول، وهكذا بالنسبة إلى الممکنات، وما لم يظهر ليس بممكن أن يظهر بالنسبة إلى العلم القديم، فتكون الممکنات متناهية، لكن هذا الدليل إقناعي كما هو دأب المشايخ، وإذا كان كذلك فلابد من فارق بين التجليين من وجه، وأقله التعدد، أو وجوه باختلاف الذاتيات أو القوارض أو المجموع، وإذ امتنع التكرار بالنسبة إلى الممکنات بعضها إلى بعض.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 8:42 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الجزء الثاني
الفص الشعيبي 
12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية
(فهؤلاء الذين قلدوا الرسل عليهم السلام) في أقوالهم الصوفية؛ فلم يتأولوا حديث التحول في الصور يوم القيامة وآيات التشبيه، وإخباره بالتأويلات البعيدة عن ظواهرها (هم المرادون بقوله تعالى :"أو ألقى السمع") من يغر بتأويل بعيد (لما وردت به الأخبار الإلهية على ألسنة الرسل عليهم السلام) سواء رفعوها إلى الله تعالى إذ لا يلقون إلى العوام الذين لا يطلعون على التأويلات البعيدة ما يضلونهم به عن الحق الضلال البعيد.
ثم أشار إلى أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم : "وهو شهيد" هو استحضار الحق بصورة متخيلة، وهو ولما توهم رجوعه إلى صاحب القلب لكونه المشاهد بالحقيقة، وهو مخل لورود النص في حق ملقي السمع، (وهو) مقلد ليس بصاحب مشاهدة حقيقية.

فسره بقوله: (يعني هذا الذي ألقى السمع شهید)، لم يرد به المشاهدة الحقيقة لاختصاصها بصاحب القلب، بل (ينبه على) مشاهدة (حضرة الخيال)، وهي استحضارها للحق بصورة متخيلة، وعلى (استعمالها) أي: طلب العمل من هذه الحضرة أي: جواز ذلك لئلا يعجز العامي عن استحضار معبوده في العبادة، مع أنه لا بد منه لكن بشرط ألا يتقيد بها بل يقول لها هي بالله، ويلتزم ذكر ليس كمثله شيء باعتبار ذاته وصفاته في نفس الأمر لنا تقليد الرسل وإلا معوذ منه.

(وهو) أي: الدليل على جواز استعمال هذه الحضرة (قوله صلى الله عليه وسلم في الإحسان) الذي هو من أعلى درجات أهل الإيمان بالتقليد المذكور ("أن تعبد الله كأنك تراه") رواه البخاري ومسلم.
إذ قوله: "كأنك" تدل على التمثيل الذي لا يكون بدون التخيل، وكذلك قوله الة لمن اتصف بالصلاة إلى القبلة، (والله في قبلة المصلي)، وليس في القبلة إلا بحسب التحيل وإلا فهو منزه عن الجهات.
(فلذلك) أي: فلجواز التخيل بالشرط المذكور (هو) أي: التحيل (شهید) أي: نازل منزلة من شاهد الحق بقلبه عند تجليه الشهود كما يشير إليه قوله: كأنك تراه وجعله إحسانا.

ثم أشار إلى أن مقلد أرباب النظر العقلي لا يكون ما في السمع، وإن كان من تقلد به قد قبل الأخبار الإلهية بالتأويلات البعيدة عن ظواهرها.
فقال رضي الله عنه : (ومن قلد صاحب نظر فكري) كالفلاسفة وسائر المتكلمين المانعين من الشهود التخيلي، ومن الظهور في الصور المختلفة، (وتقيد به) فيه أشار إلى أن من لا يتقيد لا يخرج من تقليد الأنبياء.
(فليس هو الذي) أريد بقوله: أو ألقى السمع، وإن كان (ألقى السمع) إلى الأخبار الإلهية بالتأويلات المذكورة.

فقال رضي الله عنه : (فإن هذا الذي ألقى السمع لا بد وأن يكون شهيدا لما ذكرناه) من الصورة المتخيلة بالشرط المذكور؛ وذلك لأن قوله: "وهو شهيد" وقع حالا وهو قيد، فدل بطريق المفهوم أن من (لم يكن شهيدا لما ذكرناه)، وإن كان حاضر القلب في زعمه مع الحق، ولكنه لا يتأتی بدون المشاهدة الحقيقية أو التخيلية.
فقال رضي الله عنه : (فما هو المراد بهذه الآية؟)، وإن كان المطلق داخلا في المقيد لكن القيد مانع من دخول ما ليس بمقيد بذلك القيد فيه، فتقليدهم فاسد خارج عن تقليد الأنبياء.
(فهؤلاء) المقلدون لأرباب النظر العقلي (هم الذين قال الله تعالى فيهم: "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) [البقرة: 166]؛ لأن الاتباع ينحصر في اتباع الأنبياء واتباع أرباب النظر العقلي إذ لا يتبع من له أدنی عقل غيرهما.
ولكن (الرسل لا يتبرأون من أتباعهم الذين اتبعوهم ) على ما جاءوا به لا الذين اتبعوهم في زعمهم بتأويلات أهل النظر؛ فإنهم متبعوا أهل النظر لا غير.
وإذ علمت أن فيما ذكرت في الحكمة القلبية متابعة الأنبياء الموجبة للنجاة، بل للفوز بالدرجات، وفي خلافه متابعة العقلاء المتبرين عن اتباعهم هلاكهم، وهلاك أتباعهم جميعا.

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فحقق يا وليي) أي: بالغ یا من يريد الولاية النفسية في تحقيق (ما ذكرته لك في الحكمة القلبية) من تنوع تجليات الحق، مع وحدته ونزاهته عن الصور، لتفوز بفوائد تلك التجليات من النجاة عن تقوي المتبوعين، والوقوع في دركات أهل الحجاب، ومن نیل الدرجات التي نالها الأنبياء ثم الأولياء بمتابعتهم تلك التجليات؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
ثم قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما اختصاصها بشعيب) مع أنه ليس في دعوته بحيث تقلبات القلب بحسب التجليات؛ فهو (لما فيها من التشعيب) أي: من اعتبار شعب كثيرة مع وحدته . 
فأشبهت دعوة شعيب إذ كانت کاسمه ذات شعب كثيرة؛ لأن قوله: "أوفوا المكيال والميزان بالقسط" [هود: 85] بتأول اعتدالات كل شيء وحدوده، إذ لكل شيء من الاعتقادات والأخلاق والأعمال میزان من اعتداله ومكيال في حده وأجلها الأمور الاعتقادية التي أصل الدعوة موضوعة لأجلها هي من أعمال القلب خاصة ومشبهة به في التشعب.

فلذا قال الشيخ رضي الله عنه : (أي: شعبها لا تنحصر) وإن كان أصلها راجعا إلى اعتقاد التوحيد الكلي، وهو أمر واحد ذو شعب كثيرة.
(لأن كل اعتقاد) من الاعتقادات التفصيلية (شعبة) من شعب اعتقاد التوحيد الكلي، ولا بد لكل شخص من اعتقاد تفصيلي؛ (فهي) بحسب تعلقها بالأشخاص (شعب كلها)، وإن كان الأصل واحدا كليا.
ولما توهم عود الضمير إلى الحكمة القلبية، وهو مخل، إذ هي كلية ذات شعب لا نفس الشعب، فسره بقوله: (أعني الاعتقادات)، ولما كانت الاعتقادات صفات القلب، ولا بد لها من التمثل عند کشف حجاب البدن.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا انكشف الغطاء انكشف لكل أحد بحسب معتقده، وقد ينكشف بخلاف معتقده في الحكم، وهو قوله «وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون».
فأكثرها في الحكم كالمعتزلي يعتقد في الله نفوذ الوعيد في العاصي إذا مات على غير توبة.
فإذا مات وكان مرحوما عند الله قد سبقت له عناية بأنه لا يعاقب، وجد الله غفورا رحيما، فبدا له من الله ما لم يكن يحتسبه، وأما في الهوية، فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده غفورا رحيما، فبدا له من الله ما لم يكن يحتسبه.
وأما في الهوية فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده أن الله كذا وكذا، فإذا انكشف الغطاء رأى صورة معتقده وهي حق فاعتقدها.
وانحلت العقدة فزال الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة.
وبعد احتداد البصر لا يرجع كليل النظر، فيبدو لبعض العبيد باختلاف التجلي في الصور عند الرؤية خلاف معتقده لأنه لا يتكرر، فيصدق عليه في الهوية «وبدا لهم من الله» في هويته «ما لم يكونوا يحتسبون» فيها قبل كشف الغطاء.
وقد ذكرنا صورة الترقي بعد الموت في المعارف الإلهية في كتاب التجليات لنا عند ذكرنا من اجتمعنا به من الطائفة في الكشف وما أفدناهم في هذه المسألة بما لم يكن عندهم. )

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإذا انكشف الغطاء انكشف لكل أحد بحسب معتقده) لا محالة ما دام الاعتقاد باقيا، وإن جاز مع بقائه أن ينكشف فيما هو أدنى من معتقده، ولكن هذا بحب الهوية أي: التعين بالصور الذي يجوز التلبس بكل منها، لا بحسب الحكم الذي هو وجداني في نفسه.

ولذلك قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقد يكشف بخلاف معتقده في الحكم) المتعلق بالتكليف، أو الجزاء؛ لأن اعتقاده غير مطابق للواقع بوجه من الوجوه بخلافه في الهوية.
أي: التعين بالصور.
(وهو) أي: الدليل عليه (قوله: "وبدا هم من الله ما لم يكونوا يحتسبون" [الزمر:47] فأكثرها)، أي: أكثر الانكشافات على اختلاف الاعتقاد مع بقائه إنما هو (في الحكم)، وإن وقع نادرا في الهوية بصورة أدني مما في الاعتقاد مع بقائه، فلذلك يقع فيه الإنكار، وهذا (كالمعتزلي يعتقد في الله) أي: في حكمه (نفوذ الوعيد في العاصي) إذ يجب عنده تعذيبه على الكبائر (إذا مات على غير توبة)، بل تخليه في النار، (فإذا مات) ذلك المعتزلي، (وكان مرحوما عند الله)؛ لأنه قد سبقت له عناية من الله بسبب بقاء إيمانه أو بأعماله الصالحة الماحية بأنوارها ظلمة الكبيرة.

قال الشيخ رضي الله عنه :  (بأنه لا يعاقبه) الله أصلا أو بالتخليد (وجد الله غفورا رحيما) ابتداء وانتهاء، (فبدا له من الله، ما لم يكن يحتسبه) من عفوه ورحمته على أهل الكبيرة ابتداء وانتهاء، إذ كان يخصبها بالتائب، وبصاحب الصغيرة.

"" أضاف المحقق : فإن المعتزلي يعتقد في الله نفوذ الوعيد في العاصي إذا مات على غير توبة، فإذا مات وكان مرحوما عند الله تعالى قد سبقت له عناية بأنه لا يعاقب وجد الله غفورا رحيما فبدا له من الله ما لم يكن يحتسبه. ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما في الهوية) الإلهية أي: تعينه بالصور؛ فلا يظهر له فيها ما لم يكن يحتسبه مما هو أكمل من معتقده إلا بعد زوال الاعتقاد لحصول الرؤية في صورة الاعتقاد، (فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده)، قید به إذ لا يكون اعتقادا بدونه، فإن سلم فلا تكون هيئته راسخة في قلبه، بحيث يجب تمثلها عند کشف الغطاء بصورة تناسبها (أن الله كذا وكذا ) في ذاته وصفاته.
(فإذا انكشف الغطاء)؛ لأنه يحتسب (صورة معتقده) ابتداء أو انتهاء، وكيف لا؟ 
(وهي) أي: صورة معتقده (حق) تعدد الحقيقة في التعينات الإلهية بخلاف الحكم، فإن الحق فيه واحد لا غير.
(فاعتقدها) أي: صحة عقيدته بحيث يبقى بعد کشف الغطاء بخلاف الفاسدة في الحكم، فإنها تزول عند الربح قبل تمام کشف الغطاء، فلذا يبقى الكافر محجوبا عند کشف الغطاء، وإن رأى الحق أولا على خلاف معتقده بحيث يصير أعمى بغلبة نور ما يرى منه . ولكن إذا رآه في تلك الصورة؛ (انحلت العقدة ) عن القلب، (فزال الاعتقاد) أي: اتصاف القلب بتلك الهيئة.


قال الشيخ رضي الله عنه :  (وعاد) صار (علما بالمشاهدة)، فليس من صفات القلب بحيث يتصور القلب به؛ بل ينطبع في الحواس فیدرکه القلب بواسطتها، ولا يعود الاعتقاد الموجب للتمثيل بصورته بعده؛ لأنه (بعد احتداد البصر) الموجب لانطباع الصورة المحسوسة فيه (لا يرجع كليل النظر) المانع من انطباعه فيه؛ لأنه ليس على خلاف معتقده
حتى يغلبه نوره فيوجب عماه، فلا يفتقر إلى الاعتقاد الموجب للتمثيل بحسبه.

قال الشيخ رضي الله عنه : (فيبدو لبعض العبيد) ممن له استعداد الترقي (باختلاف التجلي) عند زوال المانع منه، وهو الاعتقاد الموجب لتعين الصورة بحسبه (خلاف معتقده عند رؤيته) في صورة الاعتقاد. 
وإنما يختلف التجلي؛ (لأنه لا يتكرر) أصلا، وعدم تكرره إما يظهر في الصور الغير المتشابهة، فوجب مقتضى ذلك عند ارتفاع المانع وهو الاعتقاد الموجب لتشابه الصور.

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فيصدق عليه) أي: على ذلك العبد (في ) شأن (الهوية) أي: التعين الإلهي بالصور، ("وبدا لهم من الله" [الزمر:4]، في هويته "ما لم يكونوا يتحتسبون" فيها قبل کشف الغطاء) قيد بذلك.
ليشير إلى أنهم لو لم يكن لهم عقيدة خاصة قبل ذلك؛ لم تبد لهم ما لم يكونوا يحتسبون؛ لأنهم لما كانوا مؤمنين غير مقيدين بعقيدة فلا بد أن تكون عقيدتهم مطلقة.
فكانوا يحتسبون ظهوره في أي صورة شاءوا، كان كل ما ظهر لهم من صورة كانوا يحتسبون ظهوره فيها، وهذا في ظهور الصورة.
ثانيا: أكمل مما في الاعتقاد بالترقي في المعارف الإلهية، وإلا فقد يظهر للمعتقد في أدنى من معتقده ليتكرر.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (قد ذكرنا صورة الترقي بعد الموت في المعارف الإلهية في کتاب «التجليات» لنا عند ذكرنا بعض من اجتمعنا به من الطائفة في الكشف) أي: في وقت کشف أرواحهم في تلك التجليات التي كانوا فيها، وذكرنا فيه .
(ما أفدناهم في هذه المسألة مما لم يكن عندهم)، 
فذكر ما جرى بينه وبين الحلاج في تجلي العلة،
وبين ذي النون المصري في تجلي سريان التوحيد، وبين الجنيد في تجلي التوحيد.

وبين يوسف بن الحسين في تجلي ذي التوحيد.
وبين ابن عطاء في تجلي من تجليات المعرفة.
وبين سهل بن عبد الله التستري في تجلي نور الغيب.
وبين المرتعش في تجلي من تجليات التوحيد.وأفاد هؤلاء ما لم يكن عندهم.
وذكر ما جرى بينه وبين علي بن أبي طالب في تجلي النور الأحمر.
وبين أبي بكر الصديق في تجلي النور الأبيض خلف سرادق الغيب.
وبين عمر في تجلي النور الأخضر خلف سرادق الحق.
واستعاذ من هؤلاء ولم أورد تفصيل ذلك التطويل.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومن أعجب الأمور أنه في الترقي دائما ولا يشعر بذلك للطافة الحجاب ورقته وتشابه الصور  مثل قوله تعالى «وأتوا به متشابها».
وليس هو الواحد عين الآخر فإن الشبيهين عند العارف أنهما شبيهان، غيران ، و صاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية، و إن اختلفت حقائقها و كثرت، أنها عين واحدة.
فهذه كثرة معقولة في واحد العين.
فتكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحدة، كما أن الهيولى تؤخذ في حد كل صورة، وهي مع كثرة الصور واختلافها ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد هو هيولاها.
فمن عرف نفسه بهذه المعرفة فقد عرف ربه فإنه على صورته خلقه، بل هو عين هويته وحقيقته.
ولهذا ما عثر أحد من العلماء على معرفة النفس وحقيقتها إلا الإلهيون من الرسل والصوفية.
وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين في كلامهم في النفس وماهيتها، فما منهم من عثر على حقيقتها، ولا يعطيها النظر الفكري أبدا. )

 
ثم أشار إلى أن الترقي في المعارف الإلهية ليس بطريق الكسب المحتاج إلى الآلات حتى ينقطع بالموت، بل بطريق الوهب، وامتناع تكرر المتجلي يمنع بقائه زمانين؛ بل غايته أنها تجليات متشابهة في الظاهر وبعضها أرفع من بعض؛ فقال: (ومن أعجب الأمر) أي: أمر التجلي الشهودي (أنه في الترقي دائما) حال اختلافه واتفاقه ضرورة أن كل تجلي ترق من أدنى إلى أعلى إذ إلى الأدنى يكون حجبا، وإلى المساوي منعا للفضل الإلهي مع وجوب تحققه في التجلي الشهودي؛ ولكنه قد (لا يشعر بذلك للطافة الحجاب) الكائن أو" المرتفع .
ثانيا، وليست هذه اللطافة بمعنى أنه لطف بالمتجلی له؛ لئلا تحرقه سبحات وجه المتجلي؛ بل بمعنی (رقته)؛ لأنه لم يرتفع بذلك المعني.

(وتشابه الصور) أي: الصور التجليات بحيث لا يعرف أن الثاني غير الأول؛ فهذا التشابه في صور التجليات (مثل) التشابه في ثمار الجنة التي مبدؤها هذه التجليات، وهو المذكور في (قوله تعالى: "وآتوا ببيع مشيها " [البقرة:25]، وليس هو).
أي: المتشابه (الواحد) بدل من هو (عين الآخر)، وإن توهم عينيته، فكذا في التجلي (فإن الشبيهين عند العارف)، وإن اتحدا بحسب العين (من حيث إنهما شبيهان غیران) لامتناع تشبيه الشيء بنفسه ولا ينافي هذا مذهبه في التوحيد.
إذ (صاحب التحقيق) لا ينفي الكثرة بالكلية كصاحب الغناء؛ بل (يرى الكثرة في الواحد) 

""أضاف المحقق :  قد يعني بجمع الجمع شهود الوحدة في الكثرة، وشهود الكثرة في الوحدة، وهذا يسمى بالفرق الثاني.""


 فله أن يرى هذه التجليات المتعددة في التجلي الواحد بحسب الصورة في بداهة النظر، (كما) يرى كثرة الإيمان في الحق الواحد إذ (يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية) من حيث دلالتها على الذات.
(وإن اختلفت) باعتبار آخر (حقائقها) أي: معانيها التي بها تحققها من حيث هي أسماء، (وكثرت) تلك الحقائق حتى وجب تکثر الأسماء المعنوية مع وحدة الذات (أنها). أي: مدلولها أنث الضمير باعتبار أن المراد بالمدلول الذات .
(عين واحدة متضمنة لهذه الحقائق المتعددة المختلفة؛ فهذه) أي: كثرة الأسماء في الذات الواحدة (كثرة معقولة في واحد العين)، والكثرة المشهودة مثل المعقولة، (فتكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحدة)، وليس هذا مجرد قياس للأمور المشهودة على الأمور المعقولة؛ بل له نظر في الأمور المشهودة أيضا.
(كما أن الهيولى ) أي: الجنس (تؤخذ في حد كل صورة) أي: ماهية تصورت بالفصول المميزة أي: قوام الماهية بالجنس والفصل.

""اضاف المحقق :  فائدة: قال سيدنا الشعراني: أن الحق لما أحب الظهور من ذاته لذاته بمقتضى ذاته قسم صفات ذاته قسمين من غير تعدد في العين.
فسمي أحد القسمين بالواجب والقديم والرب والفاعل.
وسمی القسم الثاني بالممكن والمحدث والعبد والمنفعل.
فأول ما ظهر من ذلك القسم الثاني محل حكمي سماه بالهيولى والقبولي.""

(وهي) أي: الهيولى مع كثرة الصور التي أخذت الهيولى في حدودها (واختلافها؛ ترجع في الحقيقة)، وإن تعددت بالأنواع (إلى جوهر واحد وهو هيوها) أي: والحال أنه هيولى الجميع فضلا عن حال كونها قبل ذلك، مع أن الصور أيضا جواهر.
فإذا تصور ذلك للجوهر الواحد بالنسبة إلى جواهر أخر؛ ففي الصور الفرضية أو القلبية أولى، هذا على القول بجوهريتها لكونها جزئي الجواهر، وعلى القول بكون الصورة عرضا؛ فهو عين النظر.

(فـ "من عرف نفسه" بهذه المعرفة) أي: أنها هيولى الصور («فقد عرف ربه»). رواه أبو نعيم في الحلية 
 بأنه هيولى التجليات، (فإنه) أي: الرب (على صورته) الكلية الجامعة بين التنزيه والتشبيه (خلقه) أي: النفس يعني القلب؛ (بل هو) أي: النفس عند التجلي الشهودي (عين هويته وحقيقته) أي: عين تعين الحق منه بالصورة وتحققه فيه إذ لا يجتمع صورتان متماثلتان فيه، ولا بد من تمثل القلب بما يتجلى فيه كالمرأة.

(ولهذا) أي: ولأجل أن النفس مخلوقة على صورة الحق الجامعة بين التنزيه والتشبيه؛ بل عين هويته وحقيقته (ما عثر أحد من) الطوائف على حد النفس وحقيقتها (إلا) الغرقة (الإلهيون) أي: المطلعون على الصورة الإلهية الجامعة، وعلى تجلياته الشهود به (من الرسل والأكابر من الصوفية) لاختصاصهم بالإطلاع المذكور.
وأما أصحاب النظر في المعقولات المحضة، (وأرباب الفكر) الجامعين بين المعقولات والأدلة النقلية (من القدماء) أي: الفلاسفة القابلين بتنزيه الحق والنفس، المانعين من تصورهما بصورة، (والمتكلمين) القابلين بجسميتها من ظواهر النصوص.

فهم في كلامهم في حد (النفس) وحقيقتها (فما منهم من عثر على حقيقتها) الجامعة، كيف (ولا يعطيه النظر الفكري) لمنعه من الجمع بين المتقابلين (أبدا)، حتى منعوا في المجردات التصور بصورة لاختصاصها عندهم بالماديات.


قال الشيخ رضي الله عنه : (فمن طلب العلم بها من طريق النظر الفكري فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم.
لا جرم أنهم من «الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا».
فمن طلب الأمر من غير طريقه فما ظفر بتحقيقه، وما أحسن ما قال الله تعالى في حق العالم وتبدله مع الأنفاس.
«في خلق جديد» في عين واحدة، فقال في حق طائفة، بل أكثر العالم، «بل هم في لبس من خلق جديد». فلا يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس.
لكن قد عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات وهي الأعراض، وعثرت عليه الحسبانية  في العالم كله.
وجهلهم أهل النظر بأجمعهم.
ولكن أخطأ الفريقان: أما خطأ الحسبانية فبكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدل في العالم بأسره على أحدية عين الجوهر الذي قبل هذه الصورة ولا يوجد إلا بها كما لا تعقل إلا به.
فلو قالوا بذلك فازوا بدرجة التحقيق في الأمر.

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فمن طلب العلم بها) أي: بحقيقة النفس (من طريق النظر الفكري، فقد) غلط غلطا شبيها بالصواب كمن (استسمن ذا ورم) إذ الدليل العقلي، وإن استوعب التقسيمات فلا يخلوا عن نقص أو مناقضة أو معارضة غالبا أي: أورام ويظن أنها سمن؛ بل أفحش منه وهو كمن (نفخ في غير ضرم)، إذ يظن أنه بتدقيق النظر يحصل اليقين وترتفع الشبهات، ولا يحصل ولا ترتفع إلا بنور البصيرة التي هي بمنزلة النار في المصباح، (لا جرم أنهم من "من الذين ضل سعيهم")  [الكهف:14] .
في ترتيب المقدمات، وتكثيرها، وتحريرها، وتقرير الشبهات وحلها في الحياة الدنيا قبل الوصول إلى كشف الغطاء، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا بتحرير المقدمات وتکثيرها، وإيراد الشبهات ورفعها، وتدقيق النظر في ذلك، نعم إنما يقع ذلك فيما يدرك بالعقل، ولا يتوقف على الكشف.

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فمن طلب الأمر من غير طريقه) كطلب الألوان باللمس، ولذة الجماع بالقياس على لذة السكر (فما ظفر بتحقيقه)، ولا طريق إلى معرفة النفس سوى الكشف.
لقوله تعالى: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" [الإسراء: 85]، عقيب السؤال عن الروح وكأنه
أراد العلم الحاصل عن النظر، فإن اليقين فيه قليل؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
ثم أشار إلى أن تبدل الصور لا يختص بالرب والنفس وسائر المحردات؛ بل يعم الأجسام والأعراض، فقال: (وما أحسن ما قال الله تعالى في حق) جميع (العالم) الذي يرى أجسامه، و بعض أعراضها مستقرة، والكل في تبدله مع (تبدله مع الأنفاس) أي: الآيات فتكون كل صورة من صوره ("لفي خلق جديد") مع كونه (في عين واحدة).

 كما يقال : زيد شابا هو زيد طفلا وشيكا، ولونه اليوم هو لونه أمس وغدا، (فقال: في حق طائفة) بالقصد الأول وهم منكرو البعث.
من أجل أن الأمر الجديد كيف يكون عين ما فني (بل أكثر العالم) بطريق الإشارة؛ لقولهم: تبقى الأجسام وبعض الأعراض .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 8:44 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الجزء الثالث
الفص الشعيبي 
12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ("بل هم في لبس من خلق جديد" [ق:15]، فلا يعرفون تجديد الأمر) أي: فيض الوجود عليها (مع الأنفاس) إذ الأصل في الممکنات العدم، فلو انقطع عنها الفيض لحظة؛ عادت إلى أصلها؛ لكن التبس عليهم الأمر لعدم تخلل زمان العدم بين الفيضين فلم يغيروا عليه.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولكن قد عثرت عليه الأشاعرة) أصحاب أبي الحسن الأشعري أول من قرر دلائل السنة بعد غلبة البدعة (في بعض الموجودات، وهي الأعراض)، فمنعوا بقائها زمانين، وجعلوا بقاء ما يتوهم بقاؤه بتجدد الأمثال.

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وعثرت عليه الحسبانية) أي: السفسطائية (في العالم كله)، حيث جعلوا لكل صورا خیالية، فكأنها عندهم أعراض قائمة بالخيال.
فلو قالوا: بتبدل الأعراض لزمهم القول بتبدل الكل، (وجهلهم أصحاب النظر بأجمعهم) لإنكارهم ما يجزم القول العقل بثبوته من الضروريات والمحسوسات، ولا يتشكك فيها بالتشکیکات.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولكن أخطأ الفريقان: أما خطأ الحسبانية) قدمهم في الخطأ وآخرهم في الإصابة (فبكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدل) أي: مع ما لزمهم من القول بتبدل الصور (في العالم بأسره على أحدية عين الجوهر الذي قبل هذه الصور) المعقولة أي: المتخيلة، وجعلهم إياها قائمة بالخيال لا يفيدهم.

إذ (لا يوجد) تلك الصور الخيالية، وذلك الخيال الذي وهموا قيامهما به (إلا بها) أي: بتلك العين الواحدة.
لأن الكل ممكن لا وجود له في نفسه، وإنما هو من إشراق نور الوجود الحق عليه، (كما لا تعقل) العين الواحدة (إلا به) أي: بالعالم إذ لا بد أولا من الاستدلال بالعالم عليه كما مر.
فلو قالوا أي: الحسبانية (بذلك) أي: بكون الكل صورا خيالية قائمة بالعين الواحدة (فازوا بدرجة التحقيق)، إذ هو مذهب الصوفية بعينه، ولا يلزمهم إنكار ما يجزم العقل بثبوته بالضرورة؛ لأنهم يقولون بثبوتها، لكن لا بأنفسها بل بالعين الواحدة.
ولا يتأتى ذلك للحسبانية فغرقوا في هوة الضلال بإنكارهم العين الواحدة فصاروا أخس الطوائف وأجهلهم.
قال الشيخ رضي الله عنه : وأما الأشاعرة فما علموا أن العالم كله مجموع أعراض فهو يتبدل في كل زمان إذ العرض لا يبقى زمانين.
ويظهر ذلك في الحدود للأشياء، فإنهم إذا حدوا الشيء تبين في حدهم كونه الأعراض، وأن هذه الأعراض المذكورة في حده عين هذا الجوهر وحقيقته القائم بنفسه.
ومن حيث هو عرض لا يقوم بنفسه.
فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه من يقوم بنفسه كالتحيز في حد الجوهر القائم بنفسه الذاتي وقبوله للأعراض حد له ذاتي.
ولا شك أن القبول عرض إذ لا يكون إلا في قابل لأنه لا يقوم بنفسه: وهو ذاتي للجوهر.
والتحيز عرض لا يكون إلا في متحيز، فلا يقوم بنفسه.
وليس التحيز عرض لا يكون إلا في متحيز، فلا يقوم بنفسه.
وليس التحيز والقبول بأمر زائد على عين الجوهر المحدود لأن الحدود الذاتية هي عين المحدود و هويته.
 فقد صار ما لا يبقى زمانين ، يبقى زمانين ، وأزمنة وعاد ما لا يقوم بنفسه يقوم بنفسه.
ولا يشعرون لما هم عليه، وهؤلاء هم في لبس من خلق جديد. )
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما الأشاعرة) فإنهم وإن أصابوا في القول بعدم بقاء الأعراض (فما علموا أن العالم) جواهره أيضا (مجموع أعراض) من حيث هي قائمة بالعين الواحدة، وإن لم تكن حالة فيها إذ لا وجود له من نفسه.
(فهو) أي: العالم بجواهره وأعراضه (يتبدل في كل زمان) على مقتضى قولهم في العرض، إذ العرض لا يبقى زمانين) فما حصل منه أولی بذلك.
(ويظهر ذلك) أي: كون جواهر العالم من الأعراض في الحدود التي ذكروها (للأشياء) التي جعلوها قائمة بأنفسها؛ فهي من الجواهر عندهم.


قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإنهم إذ حدوا الشيء تبين في حدهم تلك الأعراض)، فإنهم يذكرون فيها الجنس والفضل، ولا بد عندهم من أحد الأمرين، أما كون الجنس عرضا عاما للفصل، أو كون الفصل خاصة للجنس، وإلا لم يقم أحدهما بالآخر؛ لامتناع قيام الجوهر بالجوهر عندهم.

فلا يتركب منهما ماهية، إذ يكونان كحجر بجنب إنسان، وتبين أن هذه الأعراض المذكورة في حده عين هذا الشيء الذي هو (الجوهر) أي: ليس بزائد عليه، وهو تناقض إذ (حقيقته) أي:
حقيقة الجوهر هو (القائم بنفسه)، وقد أخذ في حقيقته أي: حقيقة الجوهر هو القائم بنفسه، وقد أخذ في حقيقته أمران أحدهما عرض لا محالة عندهم، وهو (من حيث هو عرض لا يقوم بنفسه)؛ فقالوا: بقيامه بنفسه من حيث هو جزء ما يقوم بنفسه.


قال الشيخ رضي الله عنه :  (فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه)، وما يقوم بنفسه (من يقوم بنفسه) على زعمهم؛ فإن قالوا: ليس شيء من الجنس والفصل بعرض؛ بل هما جوهران يقوم أحدهما بالآخر كما تقوم الفلاسفة في الهيولى، والصورة الجسمية، والنوعية.

فقد حدوا نفس الجوهر بما هو عرض إذ حدوه تارة بأنه القائم بنفسه، وفسروا القيام بنفسه بالاستقلال في التحيز، وتارة بأنه القابل للأعراض.
وإليه الإشارة بقوله: (كالتحيز في حد الجوهر القائم بنفسه)، إذ فسر القيام بنفسه بالاستقلال في التحيز فالتحيز جزء مفهوم المتحيز (الذاتي) للجوهر على هذا القول، وأيضا (قبوله للأعراض حد له ذاتی) عندهم .
"" أضاف المحقق :
قال الشارح قال أكثر أهل النظر: إن الوجود صار متعددا بالذوات ،أنه صار متقيدا بهذه المظاهر بعد إطلاقه، ولا يعلمون أن ذلك أثر في صورة المنطبع لا في حقيقته، والصورة عرض وكثرة الأعراض وتغيراتها لا يستلزم كثرة الذات وتغيرها، على أن الصورة ليست للذات بل لظهورها في هذه المرايا عرضت لما لا ذات له سوى ذات من انطبعت الصورة في هذه المرايا بمقابلته وإلى ذلك أشار بما.""

ثم أشار إلى وجه التناقض في ذلك؛ فقال رضي الله عنه  : (ولا شك أن القبول) للأعراض ولغيرها (عرض إذ لا يكون إلا في محل قابلي)؛ لأنه علم بالضرورة (لأنه يقوم بنفسه وهو) أي: القبول (ذاتي للجوهر) عند من حده به ضرورة أن القابل ذاتي، والقبول جزء مفهومه وجزء الجزء جزء. مع أن الجوهر قائم بنفسه.
وهكذا التحيز الذي أخذه بعضهم في حد الجوهر بأنه القائم بنفسه باعتبار تفسيره القيام بالاستقلال في (التحيز عرض)؛ لأنه (لا يكون إلا في متحيز فلا يقوم بنفسه) فكيف جعلوهما ذاتيين للجوهر.

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وليس التحيز والقبول) على تقدير كونهما ذاتيين للجوهر (بأمر زائد على عين الجوهر المحدود) بأحدهما، كيف (والحدود الذاتية هي عين المحدود) مفهوما وإن اختلفا إجمالا وتفصيلا.
وعين (هويته) صدقا فكيف يكون أجزاؤها زائدة على نفس المحدود (فقد) عاد أي: (صار ما لا يبقى زمانين) من الأعراض جوهرا (يبقي زمانين وأزمنة).
وأيضا (عاد) أي: صار (ما لا يقوم بنفسه يقوم بنفسه) فهو تناقض من وجهين، وإذا كان كذلك قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولا يشعرون) في تحديدهم الجواهر وإبقائها (لما هم عليه) من التناقض في جعلها عين الأعراض التي لا تنفي ولا تقوم بذاتها، (وهؤلاء) لجعلهم الأعراض غير باقية مع أخذها في حد الجوهر وحدود الأشياء التي هي جواهر باقية قائمة بأنفسها عندهم
قال الشيخ رضي الله عنه :  ("بل هم في لبس من خلق جديد") مع دعوتهم الفطانة فيكون جهلهم مركبا، فلا عبرة بلبس غيرهم في مقابلتهم، ولما كان الكلام معهم على طريقة أهل النظر مبنيا على مقدمات جدلية، إذ لو جعلوا أحد الجوهر رسما لم يلزمهم شيء مما ألزمهم.

قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما أهل الكشف فإنهم يرون أن الله يتجلى في كل نفس ولا يكرر التجلي، و يرون أيضا شهودا أن كل تجل يعطي خلقا جديدا و يذهب بخلق.
فذهابه هو عين الفناء عند التجلي و البقاء لما يعطيه التجلي الآخر فافهم.)
أشار إلى ما هو التحقيق فقال: (وأما أهل الكشف فإنهم) قالوا بتجدد ما في العالم من الجواهر والأعراض إذ لا وجود لهم من ذواتهم، وإنما هو من إشراق نور وجود الحق عليهم وهو متجدد عليهم وإن كان ثابتا في نفسه من الأزل إلى الأبد.

إذ (يرون أن الله تعالى يتجلى في كل نفس) على كل موجود حق لو غاب عنه لحظة عاد إلى عدمه الأصلي؛ لعدم علة وجوده وهو التجلي الإلهي عليه (ولا يتكرر التجلي) إظهار الغاية سعته بحيث لا يتناهی (ویرون أيضا شهودا)، وإن لم يطلع بعضهم على برهان نظري .

(أن كل تجل) غيبيا أو شهودیا (يعطي خلقا جديدا)، إذ تجدد العلة الشخصية يقتضي تجدد معلول شخصی
(ويذهب بخلق) كان عند التجلي الأول؛ لأنه إن كان معلول مثل الأول، فالمثلان لا يجتمعان وإلا كان بينهما تقابل على أن ذهاب العلة الشخصية يقتضي ذهاب معلولها الشخصي (فذهابه هو الفناء) لما كان حاصلا (عند التجلي) الأخر؛ لأنه إنما بقي لذهاب الأول الذي كان يماثله أو يقابله لما ذكرنا.
(فالبقاء) هاهنا بمعنی عدم تخلل زمان العدم بين زماني وجود مقتضي التجليين إذا كانا مثلين، وأما البقاء بمعني استمرار الوجود الواحد؛ فإنما يتصور عندنا في حق العين الواحدة التي هي ذات الحق تعالی؛ زفافهم) فقد عثرت فيه الأكابر أهل النظر القدم.


ولما فرغ عن بيان الحكمة القلبية الباحثة عن تقلب الحق في التجليات المختلفة التي تو جب بعضها شدة في التأثير بها والتأثير؛ عقبها بالحكمة الملكية المشعرة بتلك للشدة؛ فقال: فص حكمة ملكية في كلمة لوطية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 8:46 pm

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصّ اللوطي
الجزء الأول
13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية
قال الشيخ رضي الله عنه :  (الملك الشدّة والمليك الشّديد : يقال ملكت العجين إذا شددت عجنه قال قيس بن الخطيم يصف طعنة ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها أي : شددت بها كفّي يعني الطّعنة ، فهو قول اللّه تعالى عن لوط :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود80: ] ؛ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : يرحم اللّه أخي لوطا : لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، فنبّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه كان مع اللّه من كونه شديدا ،والّذي قصد لوط عليه السّلام القبيلة بالرّكن الشّديد ؛ والمقاومة بقوله :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ،وهي الهمّة هنا للبشر خاصّة ).
أي : ما يتزين به ويكمل العلم اليقيني الباحث عن الشدة الحاصلة عن بعض التجليات في التأثير بها والتأثر ، ظهر ذلك العلم بزينتها وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى لوط عليه السّلام إذ قاسى الشدائد عند بعض المظاهر حتى قال :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ[هود : 80] ، ثم أثر بها فجعل قريتهم عاليها سافلها لجعلهم الرجال العاليين كالنساء السافلات ، وأمطر عليها حجارة من سجيل رجمهم بها إقامة لحد اللواط عليهم .
ولما كان لفظ ( الملك ) بفتح الميم وسكون اللام غير مشهود بمعنى ( الشدة ) في العامة بينه بقوله : الملك الشدة ( والمليك ) في قوله تعالى :عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[ القمر : 55 ] ، و ( الشديد ) ؛ لأن المتقين شددوا على أنفسهم واقتدروا عليها ، وعلى رفع العوائق والعوارض والقوادح ، وليس بمعنى المالك والملك كما يتوهم ومنه ( يقال : ملكت العجين ) ، وإن لم تملكه بالشراء والإرث والإيهاب ونحوها ( إذا شددت عجنه ) .
واستدل عليه بقول شاعر جاهلي يعتمد على لغته فقال : ( قال قيس ابن الخطيم يصف ) خلفته بالشدة : ( ملكت ) بالضم ( بها كفى فانهرت ) أي : وسعت ، ( فتقها ) أي : ما فتقته طعنة بحيث ( يرى قائم من دونها ) أي : من مكان أدنى منها في جانب ( ما وراءها ) في جانب آخر ، فقوله : ملكت ( أي شددت ) إذ لا يصح فيه معنى الملك والملك .
وقوله :
( بها كفي يعني ) بالضمير في بها ( الطعنة ) فسره ؛ لأنه لم يذكر المفسر .
"" أضاف المحقق : فائدة : قد قرن الشيخ هذه الحكمة بالصفة الملكية مراعاة للأمر الغالب على حال لوط عليه السّلام وأمته وما عالم الحق به قومه من شدة العقوبة في مقابلة الشدة التي قاساها نبي اللّه لوط منهم .""


ثم أشار رحمه اللّه تعالى إلى أنك لو شككت في كون هذا الملك حكمة لوط عليه السّلام ؛ ( فهو ) ما دلّ عليه ( قول اللّه تعالى ) حاكيّا ( عن لوط لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [ هود : 80 ] ) أي :
همة روحانية مؤثرة أفاديكم بها ،( أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) أي : مظهر الاسم الشديد الإلهي ناظر إلى أصله الظاهر فيه ، وهو الذي به قوامه يؤثر بشدته على من خالف أمره لئلا يخالف من بعده أمره .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « يرحم اللّه أخي لوطا " . رواه عبد الرزاق في المصنف.
وإن طلب الشدة على قومه ليرحم من بعدهم بتخليصهم عن فعلهم فكان أخي في الرحمة » سيما من جهة كونه ناظرا إلى الذات الإلهية التي تجدد فيها الأسماء المختلفة ، ( لقد كان يأوي إلى ركن شديد ).
أي : أصل مقوم للاسم الشديد جامع لسائر الأسماء ، ( فنبه صلّى اللّه عليه وسلّم ) بقوله : " يرحم اللّه "  في موضع يستحق الشدة في مقابلة الشدة ، لو كانت من نفسه ونسب ذلك إلى الاسم الجامع من حيث ( إنه كان مع اللّه ) ، وإن كان ( من ) جهة ( كونه شديدا ) إذ كانت شدته عين الرحمة بالنظر إلى الذات ، وبالنظر إلى من بعدهم ، وهذا بطريق الإشارة المخصوصة بالخاصة ( والذي قصد لوط ) عليه السّلام بطريق العبادة لتفهيم قومه ، ( القبيلة ) التي بهم قوام البشرية ( بالركن الشديد ) ، وقصد ( المقاومة ) معهم بنفسه ( بقوله :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أي :
لمجموع هذا القول ، وهي أي القوة التي بها المقاومة ( هي الهمة هنا ) ، أي : فيما قصده لوط عليه السّلام بطريق العبارة لتفهيم قومه ، وليس المراد بها الهمة الروحانية هاهنا لبعدها عن فهمهم ، بل من ( للبشر خاصة ) ، إذ قد شاهدوها وسمعوا بها من قصص الأبطال ، وهي الهمة النفسانية الحاصلة من النفس الحيوانية .
وإنما قال ذلك حين رأى ضعف الهمة من جهة البشرية والروحانية جميعا ، وهذا هو الغالب في الأنبياء ؛ لأن بعثهم إنما يكون بعد كمال المعرفة المانعة من تأثير الهمة الروحانية ، وبعد الأربعين ، وهو سن الانحطاط المضعف للهمة البشرية على أنه لو كان لهم إحدى الهمتين ، لقيل : إنهم سحرة أو أبطال غلبوا بسحرهم أو شجاعتهم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فمن ذلك الوقت ، يعني من الزّمن الذي قال فيه لوط عليه السّلام :أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍما بعث نبيّ بعد ذلك إلّا في منعة من قومه ، فكان تحميه قبيلته كأبي طالب مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقوله :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [هود : 80 ] لكونه عليه السّلام سمع اللّه يقول :اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍبالأصالة ،ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّفعرضت القوّة بالجعل ؛ فهي قوّة عرضيّةثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً فالجعل تعلّق بالشّيبة ، وأمّا الضّعف فهو رجوع إلى أصل خلقه وهو قوله :خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ[ الروم : 54 ] ، فردّه لما خلقه منه قال تعالى :وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً [ الحج : 5 ] .
فذكر أنّه ردّ إلى الضّعف الأوّل فحكم الشّيخ حكم الطّفل في الضّعف ، وما بعث نبيّ إلّا بعد تمام الأربعين وهو زمان أخذه في النّقص والضعف فلهذا قال :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً[ هود : 80 ] مع كون ذلك يطلب همّة مؤثّرة ، فإن قلت : وما يمنعه من الهمّة المؤثّرة وهي موجودة في السّالكين من الأتباع ، والرّسل أولى بها قلنا صدقت ، ولكن نقصك علم آخر ، وذلك أنّ المعرفة لا تترك للهمّة تصرّفا فكلّما علت معرفته نقص تصرّفه بالهمّة ، وذلك لوجهين : الوجه الواحد لتحقّقه بمقام العبوديّة ونظره إلى أصل خلقه الطّبيعيّ ) .
( فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فمن ذلك الوقت ) ولما توهم في بداهة النظر كونه إشارة إلى زمن ضعف الهمة ، وهو مخل .
فسره بقوله : ( يعني من الزمن الذي قال فيه لوط عليه السّلام :أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍما بعث نبي إلا في منعة من قومه ) يمنعونه من شرّ أعدائه ، ولا يتأتى ذلك إلا من قبيلة عظيمة أو من رئيسها ، ( فكان تحميه قبيلته ) أو رئيسها ( كأبي طالب ) ، فإنه وإن لم يسلم  كان ( مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ) ، والذب عنه ؛ وذلك لإظهار منعة في الأصل ، وإن إظهار المعجزات من فعل اللّه تعالى للدلالة على صدقه ، وإنما كانت هذه الهمة البشرية متمناه له ؛ لأنه رأى حصولها في سن الانحطاط بعد ذهابها بذهاب سن النمو محالا بمقتضى الوعد الإلهي وسنته المستمرة.
( بقوله ) :أَوْ آوِي" لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " بصيغة التمني المعلق بالمحال كثيرا ( لكونه عليه السّلام سمع اللّه يقول ) في الكتب السالفة أو فيما أوحي إليه ما عبارته بالعربية : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ) ،فلم يورد فيه لفظ الجعل ولم يعلق الخلق به بذاته بل بواسطة من التي لابتداء الغاية ؛ لتدل على أنه ( بالأصالة ) كأنه مبدؤه .
( ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ ) بإيراد لفظ الجعل وكونه بعد الضعف ، ( فعرضت القوة ) أي : فدل على أنه عرضت القوة على الضعف الأصلي ( بالجعل ) الطارئ ، ( فهي قوة عرضية ) من شأنها الزوال بالكلية عن محلها عند رجوعه إلى أصله بحيث لا يرجى عودها بعده .

ثم استشعر سؤالا بأن مقتضى ما ذكرتم ألا يورد الجعل على الضعف الثاني في قوله :
( ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [ الروم : 54] ) .
فأجاب عنه بقوله : ( فالجعل متعلق بالشيبة ) بالقصد الأول وبالضعف باعتبار اقترانه بها أو للمشاكلة ؛ أو لأنه لما وقع بعد القوة أشبه العارض ، ( وأما الضعف ) من غير نظر إلى هذه الاعتبارات ، ( فهو رجوع إلى أصل خلقه ) ، يكفي فيه عدم العلة الموجبة للأمر العارض ، فلا يحتاج إلى جعل ( وهو ) أي : الدليل على أصالة الضعف ( قوله :خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ) فلم يعلق الخلق بالضعف في أول الأمر بل جعل الضعف من مبادئه ، وإذا كان هو الأصل ، فليس فيه من حيث هو جعل بل غايته الرد إليه ، ( فرده لما خلقه ) .
أي : إلى ما خلقه ( منه ) ، فالأصل فيه لفظ الرد كما ( قال تعالى :يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً [ النحل : 70 ] فذكر أنه رد إلى الضعف الأول ) على ما هو الأصل لكنه ذكر الجعل في الآية السابقة لما ذكرنا ، وإنما جعل الرد إلى الضعف الأول أرذل العمر ؛ لأنه ضد القوة الفائضة من اللّه الموجبة للعلم من حيث إنه ، إنما يحصل من القوة المدركة الحاصلة من القوة الفائضة على النفس من اللّه تعالى .
فلما ذهبت ذهب العلم الذي هو فائدة الحياة ، فصارت أرذل العمر ، وإذا كان الرد إلى أرذل العمر رد إلى الضعف الأول ، ( فحكم الشيخ حكم الأطفال في الضعف ) من حيث إنه أصلي ، وإن عرض بعد القوة .

فيلزم الشيخ ما يلزم الأطفال من الجهل وعدم الهمة البشرية والروحانية جميعا ، هذا إذا رد ويجوز ألا يرد وإن يرد في باب المعرفة والهمة فقط ، ثم يعود إليها وهذا الضعف لازم للأنبياء حين نبوتهم ؛ لأنه ( ما بعث نبي إلا بعد تمام الأربعين وهو زمان أخذه في النقص ) في قواه الجاذبة إلى عالم السفل ( والضعف ) في مزاجه الموجب ضعف تصرف الروح في بدنه بواسطة قواه.
وهو يوجب ذهاب الهمة البشرية ؛ لأنها عن قوة تصرف الروح في البدن بواسطة قواه ؛ (فلهذا) أي فلأجل تحقق لوط ضعفه الموجب ذهاب الهمة البشرية ، بحيث لا يرجى عودها بمقتضى الوعد الإلهي والنسبة المستمرة .
( قال : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) بلسان التمني وهو طلب المتمني ، ويبعد من النبي عليه السّلام طلب المحال باعتبار قصده الخاص ، وإن أمكن باعتبار قصده تفهيم العامة ، فهو يطلب بلسان الخصوص ( همة مؤثرة ) روحانية يؤثر بها في العالم بواسطة القوى البدنية .
( فإن قلت : وما يمنعه من الهمة المؤثرة ) الروحانية حتى يطلبها وهي موجودة فيه لا محالة ، وطلب الحاصل محال ، وكيف لا تكون فيه ( وهي موجودة في السالكين من الأتباع فالرسل ) المتبعون ( أولى بها ) أي : بتلك الهمة المؤثرة أن توجد فيهم ، وضعف القوى البدنية وضعف
تصرف الروح بواسطتها في البدن لا يستلزم ضعفها ، وضعف تصرف الروح بها كما في المساكين المرتاضين .
( قلنا : صدقت ) في أن لهم همة كما للأتباع ، ( ولكن نقصك علم آخر ) ، وهو أن الأتباع يتمكنون من إرسالها فأما الرسول فلا يتمكن من ذلك وإذا لم يتمكن من إرسالها فكأنه لا همة له مؤثرة أصلا فطلبها وليس ذلك لنقص معرفتهم عن معرفة الأتباع ، بل لكونها أكمل من معرفة الأتباع ، ( وذلك أن المعرفة لا تترك للهمة ) ، وإن وجدت فيصاحبها ( تصرفا ) ، وإن كان التصرف مختصا بأهل المعرفة أيضا ، لكنها إنما تتمكن من التصرف ما دامت معرفتهم قاصرة ، ( فكلما علت معرفته نقص تصرفه بالهمة ) ، وهذا كما أن الظل حجاب ما نفي من كمال إشراقها عليه ، فإذا رفع الحجاب بينهما لم يبق شيء من الظل أصلا .
( وذلك ) أي : منع كمال المعرفة من تصرف الهمة ، إنما يكون ممن يظهر بسر الربوبية بدعوى كونه على صورة ربه لانطباعها بمرآة قلبه عند التجلي الشهودي ، يؤثر بها تأثير المرآة في تنوير ما يقابلها من الجدار بما فيها من صورة الشمس والكامل لا يظهر بذلك ( لتحققه بمقام العبودية ) ؛ لأنه لما لم يحجبه الحق عن الخلق ظهر بما أصله لا بما ظهر في مرآة قلبه ، وعند هذا لا يتأتى له التصرف بالهمة لكون ( نظره إلى ) ضعفه الطبيعي الذي هو مقتضى ( أصله ) لا إلى ما عرض له من القوة عن تصور قلبه بصورة ربه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والوجه الآخر أحديّة المتصرّف والمتصرّف فيه : فلا يرى على من يرسل همّته فيمنعه ذلك ، وفي هذا المشهد يرى أنّ المنازع له ما عدل عن الحقيقة الّتي هو عليها في حال ثبوت عينه وحال عدمه ، فما ظهر في الوجود إلّا ما كان له في حال العدم في الثّبوت ، فما تعدّى حقيقته ولا أخلّ بطريقته ، فتسمية ذلك نزاعا إنّما هو أمر عرضيّ أظهره الحجاب الّذي على أعين النّاس كما قال اللّه تعالى فيهم :وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَيَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [ الروم7:، 6 ] وهو من المقلوب فإنّه من قولهمقُلُوبُنا غُلْفٌ [النساء: 155] أي في غلاف وهو الكنّ الّذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه ، فهذا وأمثاله يمنع العارف من التّصرّف في العالم ) .
( والوجه الآخر ) أنه وإن ظهر بسر الربوبية ؛ فلا يرى نفسه مختصة بذلك ، بل يرى ظهوره في الكل فتغلب على نظره ( أحدية المتصرف والمتصرف فيه ) ؛ لكون كشفه عن عين الجمع بحيث يصير محجوبا عن رؤية الخلق بالكلية ، ( فلا يرى على من يرسل همته ) لامتناع إرسالها على الحق مع عدم رؤيته الخلق ، ( فيمنعه ذلك ) النظر من التصرف بالهمة ، وإن
أمكنه ذلك لو لم يصر محجوبا عن الخلق ، وإن رأى الفرق مع الجمع ( في هذا المشهد ) .
"" أضاف المحقق : أي مقام شهود الأحدية والمعرفة التامة ""


 الذي هو رؤية أحدية المتصرف والمتصرف فيه ، فقد يمنعه من التصرف بالهمة عدم رؤيته من ينازعه إذ لا معنى للتصرف بها فيمن ينقاد لقوله من غير همة مؤثرة ؛ لأنه لما رأى الكل حقّا مع اندرج الخلق فيه ، فلابدّ وأن يرى الحق ساريا بصوره في أعيان الأشياء مع كونها معدومة في الخارج ثابتة في العلم الإلهي .
وهي باعتبار هذا الثبوت قبلت الصور الإلهية كقبول صورة المرآة الثابتة بمرآة موجودة صورة شخص في الصور الظاهرة في هذه الأعيان ؛ لأنه ( يرى أن المنازع له ) بحسب عرف العامة ( ما عدل ) في قبول الصورة الإلهية ( عن ) مقدار مقتضى ( حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه ) في العلم الإلهي.
الذي لا يمكن تغييره ولا تغيير ما فيه ( وحال عدمه ) في الخارج ، فإنه وإن أمكن تغييره إلى الوجود فلا يكون على خلاف ما هو عليه في العلم ، ( فما ظهر في الوجود ) عند الانتقال إليه من العدم ( إلا ما كان له في حال العدم ) لا من حيث هو عدم بل من جهة ( الثبوت ) العلمي ، لئلا ينقلب علمه الأزلي جهلا.

( فما تعدى ) فيما تسميه العامة نزاعا ( حقيقته ) ، لو تم له الأمر المنازع فيه حتى جعل راجعا إليها بالهمة ، ( ولا أخل بطريقته ) لو لم يقع له ، ولم يتم بعد حتى يجعل بالهمة سالكها .
وبالجملة فلا ( فتسمية ) العارف ( ذلك نزاعا ) حتى يتصرف بالهمة إلى ترك النزاع ، لكون نظره إلى الحقائق دون العوارض ، فتسمية ذلك من العامة نزاعا ( أمر عرضي ) بالنظر إلى ما يعرض لهم من الأعراض ، والنظر إلى العوارض مانع عن رؤية الحقائق ؛ لأنه ( أظهره الحجاب الذي على أعين الناس ) من العامة وإن بلغ بعضهم بعض طبقات المعرفة بخلاف أهل المعرفة الكاملة .
( كما قال تعالى :وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ [ الروم : 6 ] ) وهم غير كمّل أهل المعرفة ( لا يَعْلَمُونَ ) الحقائق المكشوفة الخاصة أهل المعرفة في الدنيا ، وللكل في الآخرة وإن كانوا( يَعْلَمُونَ ظاهِراً [ الروم : 7 ] من دقائق حقائق الأشياء وخواصها لكونه ( مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) ،أي : مما يتم به أمر المعاش ، فإنه أمر ظاهر ، وإن احتاجوا فيه إلى تدقيق النظر بالنسبة إلى ما يظهر لأهل الآخرة من غوامض الحقائق ، وكيف يظهر للأكثر ذلك " وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ " لعدم التفاتهم إليها لكونها غيبا عليهم ، فصارت غفلتهم حجابا لهم عنها ،.
وكان لفظ الغفلة ( هو من القلوب ) من الغفلة التي هي الحجاب ، ( فإنه ) أي قوله "غافِلُونَ" كأنه مأخوذ بطريق القلب ( من قولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ [ النساء : 155 ]


أي : في غلاف ) كأنها عين الغلاف ، وكيف لا يكون غلفا بمعنى في غلاف ، وهو أي الغلاف ( هو الكن ) المذكور في قولهم :قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ[ فصلت : 5 ] وكيف يكون الغلاف حجابا ، وهو بمعنى الكن ( الذي ستره ) أي : القلب وحجبه ( عن إدراك الأمر على ما هو عليه ) ، وإن أدرك بعض خواصه الدقيقة ، فمثل هذا المحجوب وأن صار عارفا ببعض الأمور يسميه نزاعا بالنظر إلى ما يعرض له من الأعراض ، فيتصرف بالهمة لرفع ذلك النزاع ، ولا يتأتى ذلك في العارف الكامل .
( وهذا وأمثاله يمنع العارف ) الكامل ( من التصرف ) بالهمة المؤثرة ( في العالم ) ، وإن وجدت فيه هذه الهمة بحيث يمكنه التصرف بها في جميع العالم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال الشّيخ أبو عبد اللّه بن قائد للشّيخ أبي السّعود بن الشّبل : لم لا تتصرّف ؟  فقال أبو السّعود: تركت الحقّ يتصرّف لي كما يشاء.
يريد قوله تعالى آمرا: "فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا" [ المزمل : 9 ] فالوكيل هو المتصرّف ، ولا سيّما وقد سمع اللّه يقول :وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[ الحديد : 7 ] فعلم أبو السّعود والعارفون أنّ الأمر الّذي بيده ليس له وأنّه مستخلف فيه .
ثمّ قال له الحقّ هذا الأمر الّذي استخلفتك فيه وملّكتك إيّاه اجعلني واتّخذني فيه وكيلا ، فامتثل أبو السّعود أمر اللّه فاتّخذه وكيلا . فكيف تبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر همّة يتصرّف بها ، والهمّة لا تفعل إلّا بالجمعيّة الّتي لا متّسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه ؟
وهذه المعرفة تفرّقه عن هذه الجمعيّة . فيظهر العارف التّامّ المعرفة بغاية العجز والضّعف) .
ثم أورد مثالا لقوله وأمثاله فقال : ( قال الشيخ أبو عبد اللّه بن قائد للشيخ أبي السعود بن الشبل)
"" أضاف المحقق :  
الشيخ أبو عبد اللّه بن قائد : عرف بابن قائد من قرية تسمى آونة من أعمال بغداد ، كان ذا معان تضاعف مددها ورتبة علا في أفق السلوك فرقدها .
وتربية نفذ سهمها في الأمصار ومواعظ لها في القلوب إجلال وإكبار ، وهو من أصحاب الإمام عبد القادر الجيلاني رضي اللّه عنه .
قال الشيخ ابن العربي رضي اللّه عنه : وكان ابن القائد هذا يقول فيه عبد القادر رضي اللّه عنه : معربد الحضرة ، وكان يشهد له العارف عبد القادر - الحاكم في هذه الطريقة المرجوع إليه في الرجال - : أنه من المفردين ، وهم رجال خارجون عن دائرة القطب والخضر عليه السّلام منهم ونظيرهم من الملائكة الأرواح المهيمة في جلال اللّه وهم الكروبيون معتكفون في حضرة الحق سبحانه لا يعرفون سواه ، ليس لهم بذواتهم علم عند نفوسهم ، لهم مقام بين الصديقية والنبوة الشرعية . قال : هو مقام جليل جهله أكثر الناس من أهل طريقنا كأبي حامد رضي اللّه عنه وأمثاله فإن ذوقه عزيز . [ الكواكب الدرية 442 ] .
فهو من أتباع الشيخ عبد القادر الكيلاني قال عنه ابن العربي الطائي الحاتمي: حال الصدق يناقض مقامه ومقامه أعلى من حاله في الخصوص وحاله أشهد وأعلى في العموم.
وقال عنه السهروردي: كان أبو السعود من أرباب الأحول السنية والواقفين مع فعل الله في حاله تاركا الأختيار، سبق كثير من المتقدمين في تحقيق ترك الاختيار، شاهدنا منه أحوالا صحيحة عن قوة وتمكين.
ومن كراماته إنه قال: كنت بشاطئ دجلة بغداد فخطر في نفسي هل لله عباد يعبدونه في الماء فما تم الخاطر إلا بالنهر قد أنفلق عن رجل فسلم علي وقال:
نعم يا أبا السعود لله عبادا يعبدون في الماء وأنا منهم أنا رجل من تكريت خرجت منها لأنه بعد كذا كذا يوما يقع كذا كذا فيها فذكر أمور تحدث ثم غاب فما أنقضت خمسة عشر يوما حتى وقع ذلك.
الشيخ أبي السعود بن الشبل : العارف الأفخم والصوفي الأعظم ، إمام كملت باللّه أدواته ، وصفت في مشاهد الحق ذاته ، وعرفت العارف الأفخم والصوفي الأعظم ، إمام كملت باللّه أدواته ، وصفت في مشاهد الحق ذاته ، وعرفت  في مسالك العرفان خلواته وجلواته ، أجل أتباع الشيخ العارف باللّه عبد القادر الجيلاني رضي اللّه عنه الذي قال في حقه العارف ابن عربي رضي اللّه عنه : إنه أعلى مقاما من شيخه - كما سيجيء عنه في ترجمته - وقال في موضع آخر من الفتوحات : كان إمام وقته في الطريق . [ الكواكب 404 ]  ""


 : ثم ( لم تتصرف ) أي : بالهمة المؤثرة أو بغيرها مع أنك أعطيت التصرف كما يأتي التصريح به .
( فقال أبو السعود : تركت الحق يتصرف لي ) وكيلا عني لكمال علمه ، وقدرته ، ورعايته مصالح من وكله بحسب سنته ، وإن لم يجب عليه بل ( كما يشاء ) ، فإن لم يكن شيء من ذلك ، فلابدّ من امتثال أمره ، ( يريد قوله تعالى أمرا ) لنبيه عليه السّلام مع كونه أعلم الخلق وأقواهم وكمال حاله الموجب وهب التصرف له ( " فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا " [ المزمل : 9 ] فإني أولى بذلك مع أنه يجب على متابعته صلّى اللّه عليه وسلّم ).
""  أضاف المحقق :  وذكر الشيخ اليافعي في خلاصة المفاخر : جاءوا جماعة من المشايخ عند شيخنا محيي الدين عبد القادر رضي اللّه عنه بمدرسته فقال : ليطلب كل واحد منكم حاجته أعطيها له .
فقال الشيخ أبو السعود : أريد ترك الاختيار. وقال الشيخ ابن قائد : أريد القوة على المجاهدة. ""
 
وإذا اتخذ الحق وكيلا ؛ ( فالوكيل هو المتصرف ) لامتناع اجتماع العلتين على معلول واحد ، فإن لم يكن فعل العبد علة فلا أقل من مشابهته إياها وكيف يكون للعبد التصرف ولا ملك له في التصرف فيه إلا بإذن المالك واستخلافه ، وإليه الإشارة بقوله : ( ولا سيما وقد سمع اللّه تعالى يقول :وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [ الحديد : 7 ] فعلم أبو السعود ) خاصة ( والعارفون ) عامة ( أن الأمر الذي بيده ليس ) ملكا ( له ) ، وإن ثبت ( أنه مستخلف فيه ) أذن له بالتصرف بقوله : "وَأَنْفِقُوا" في حق العامة .

( ثم قال له ) أي : للعارف الكامل كالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وخواص متابعيه ( هذا الأمر الذي استخلفتك فيه ) بالإذن بالتصرف ( وملكتك إياه ) وإن كنت عبد ، والعبد لا يملك وإن ملكه السيد ( اجعلني ) فيه وكيلا ، وإن كنت أنا مالكا عند ملكك إياه لا تصرف لك عن علم كامل ، وقدرة تامة راع مصالحك على أتم الوجوه ، ولا تخص ذلك بأمر دون أمر ، ووقت دون وقت ، بل ( اتخذني فيه ) أي : في كل ما استخلفتك فيه ، وملكتك إياه في كل وقت ( وكيلا ) ، ليكون التصرف على أحسن الوجوه وأتمها ، ولكن العارف الكامل لا ينظر إلى حسنه وتمامه ، وإنما ينظر إلى أمر ربه تحققا بمقام العبودية ، لا بالنظر إلى أنها أصله ، ولا إلى الضعف الطبيعي اللازم لها ( فامتثل أبو السعود أمر اللّه ) وهو قوله : ( فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) كيف وهو أمر خاص بخواص العارفين يختل بتركه أمرهم بالكلية .
( فكيف تبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر ) الذي أختل بتركه أمره بالكلية فيتصرف بها ، ( والهمة لا تفعل ) أي : لا تؤثر ( إلا بالجمعية ) ، وليس المراد بها رؤية الحق بدون الخلق ؛ فإنها مانعة من التصرف كما مر ، بل المراد الجمعية ( التي لا تتسع لصاحبها ) خاطر بنظر ( إلى غير ما اجتمع ) همة ( عليه ) حتى يحصل ذلك الأمر ، ( وهذه المعرفة ) أي : معرفة أن الإخلال بالأمر الخاص الإلهي موجب لإخلال أمر العارف ، وهذه بالكلية ( تفرقه عن هذه الجمعية ) باتساع خاطر اختلال أمره بالكلية عند إخلاله بهذا الأمر الخاص الإلهي ، بل هو ينافي هذه الجمعية ، ( فيظهر العارف التام المعرفة ) بما له ، وعليه في هذا التصرف ( بغاية العجز والضعف ) ، وإن كان له مقام التصرف بالهمة لكونه في مقام الفرق بعد الجمع لكن له مراتب كبيرة ، ومقام التصرف بالهمة أدناها ، وإن كان صاحبها يظن أنه من أعلاها .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 8:48 pm

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصّ اللوطي
الجزء الثاني
13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال بعض الأبدال للشّيخ عبد الرزّاق قل للشّيخ أبي مدين بعد السّلام عليه : يا أبا مدين لم لا يعتاص علينا شيء وأنت تعتاص عليك الأشياء ونحن نرغب في مقامك وأنت لا ترغب في مقامنا ؟ وكذلك كان مع كون أبي مدين رضي اللّه عنه كان عنده ذلك المقام وغيره ، ونحن أتمّ في مقام العجز والضّعف منه ، ومع هذا قال له هذا البدل ما قال وهذا من ذلك القبيل أيضا ، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في هذا المقام عن أمر اللّه له بذلك :  "ما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتّبع إلّا ما يوحى إليّ » فالرّسول بحكم ما يوحى إليه ما عنده غير ذلك ، فإن أوحي إليه بالتّصرّف فيه بجزم تصرّف وإن منع امتنع ، وإن خيّر اختار ترك التّصرّف ، إلّا أن يكون ناقص المعرفة ، قال أبو السّعود لأصحابه المؤمنين به إنّ اللّه أعطاني التّصرّف منذ خمس عشرة سنة وتركناه تظرّفا هذا لسان إدلال ).
ولذلك ( قال بعض الأبدال ) ممن بلغ مقام الفرق بعد الجمع وكان له التصرف بالهمة ( للشيخ عبد الرزاق رضي اللّه عنه قل للشيخ أبي مدين رضي اللّه عنه بعد السلام عليه : يا أبا مدين لم لا يعتاص علينا شيء ).

""أضاف المحقق : الشيخ عبد الرزاق رضي اللّه عنه :  هو سيدي عبد الرزاق الإسكندري شيخ الأقصرائي ، وتلميذ أبي مدين . كان له أحوال وكرامات .  ""

 إذا قصدناه بهمتنا بعد الوصول إلى مقام الفرق بعد الجمع ، ( وأنت تعتاص عليك الأشياء ) مع أنك أكمل في هذا المقام ؛ وذلك لأننا ( نحن نرغب في مقامك ) لعلوه ، ( وأنت لا ترغب في مقامنا ) لدنوه .
ثم أشار - رحمه اللّه - بأن هذا الكلام لم يكن من ذلك البدل على سبيل التواضع مع علم قصوره لقصور تأثيره بالهمة ، ولكن ( كذلك ) أي : قاصر التأثير مع كمال الحال ( كان مع كون أبي مدين رضي اللّه عنه كان عنده ذلك المقام ) .
 "" أضاف المحقق :  أبي مدين رضي اللّه عنه: المعروف بالغوث أبي مدين قدس سره فهو الأستاذ الأعظم العارف الأفخم ، عظيم الإكبار ، رأس الصوفية في وقته ، ورئيسهم المشهور ، علم نعته زاهر ، زاهد مراقب مشاهد ، يقصد ويزار من جميع الأقطار ، وببنان العرفان إليه يشار ، يوصل ويقطع ويخفض ويرفع .  ""

أي : مقام التصرف بالهمة ( وغيره ) مما يمنعه من التصرف مع كونه في مقام الفرق بعد الجمع ، ( ونحن ) مع كوننا أتم في هذا المقام ، وسائر مقامات المعرفة ( أتم في مقام الضعف والعجز ) .
ثم تعجب من قول البدل فقال : ( ومع هذا ) أي مع قوله : نحن نرغب في مقامك ، وأنت لا ترغب في مقامنا ، ( فقال له : هذا البدل ما قال ) مما يشعر بقصوره عند عدم التصرف ، ولم يعرف أن ( هذا ) العجز من أبي مدين وغيره ( من ذلك القبيل ) أي : كمال مقامهم ومعرفتهم بمعارضات التصرف بالهمة مما لم يطلع عليه هذا البدل .
ثم أشار إلى أن كمال المعرفة لا تمنع من التصرف بالهمة بالكلية ، بل فيه تفصيل ، وهو أنه ( قال صلّى اللّه عليه وسلّم في هذا المقام ) : أي مقام التصرف بالهمة عند الكمال كمال المعرفة ( عن أمر اللّه بذلك ) لا عن نفسه، ("وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ"[ الأحقاف : 9 ] )"" رواه الحاكم في المستدرك والطبراني في الكبير ""

أي : لا فعل لي أصلا ، ولو كان في فعل لكان في بذلك شعور ، فالتصرف في للمحقق وكذا في خواص عباده ، وإن كانوا في مقام الفرق بعد الجمع .

ثم قال : ( "إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ " [ الأنعام : 50] ):أي : في أمر التصرف وتركه ( فالرسول ) وكذا خواص تابعيه ( بحكم ما يوحى إليه ) به في التصرف ، وتركه ( ما عنده ) أي :

ليس عنده ( غير ذلك ) أي : خلاف ما يوحى به إليه ( فإن أوحى إليه بالتصرف بجزم تصرف ) امتثالا لأمر سيده ، وإن أمره بالتوكل فذلك عام مخصوص بهذا الأمر الخاص ، ( وإن منع ) من التصرف بجزم ( امتنع ) لهذا الأمر الخاص مع ذلك الأمر العام ، ( وإن خيّر ) بين التصرف وتركه ؛ ( اختار ترك التصرف ) رعاية للأمر العام ( إلا أن يكون ) المأمور ( ناقص المعرفة ) يرى أن ذلك الأمر العام قد خص بهذا التخيير الخاص ؛ فتجوز مخالفته وقد نقص في معرفته أن رعايته عند عدم الجزم بخلافه أولى ، كيف وتصرفه قاصر عن تصرف الحق لا محالة .

ولذلك ( قال أبو السعود لأصحابه المؤمنين ) : أورد ذلك ؛ لأن من يؤمن ( به ) لا يصدقه في إعطاء الحق التصرف إياه هذه المدة المديدة ، مع عدم ظهوره به في وقت من الأوقات ، ( إن اللّه أعطاني التصرف منذ خمس عشرة سنة وتركناه تظرفا ) أي : طلبا لما هو طرفه وكماله ، إذ هو للحق ذاتي فهو في فعله أتم .
قال الشيخ - رحمه اللّه : ( وهذا ) القول من أبي السعود ( لسان إدلال ) لنفسه ، فإنها وإن بلغت إلى حد وهب اللّه لها التصرف ، ففي تصرفها قصور ، وليس هذا من المعرفة لما - ولد ببجاية ونشأ بها واشتهر حتى ملأ الآفاق وصار إمام الصديقين في وقته بلا شقاق ، وأخذ عنه الكبراء كالعارف ابن عربي رضي اللّه عنه وقال : كان سلطان الوارثين .  فيه من توسط الحق في أكمال التصرف المطلوب بالذات .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا نحن فما تركناه تظرّفا وهو تركه إيثارا وإنّما تركناه لكمال المعرفة ، فإنّ المعرفة لا تقتضيه بحكم الاختيار . فمتى تصرّف العارف بالهمّة في العالم فعن أمر إلهيّ وجبر لا باختيار ، ولا نشكّ أنّ مقام الرّسالة يطلب التّصرّف لقبول الرّسالة الّتي جاء بها ، فيظهر عليه ما يصدّقه عند أمّته وقومه ليظهر دين اللّه ، والوليّ ليس كذلك ، ومع هذا فلا يطلبه الرّسول في الظّاهر لأنّ للرّسول الشّفقة على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجّة عليهم ، فإنّ في ذلك هلاكهم فيبقي عليهم ، وقد علم الرّسول أيضا أنّ الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة فمنهم من يؤمن عند ذلك ومنهم من يعرفه ويجحده ولا يظهر التّصديق به ظلما وعلوا وحسدا ومنهم من يلحق ذلك بالسّحر والإيهام ، فلمّا رأت الرّسل ذلك وأنّه لا يؤمن إلّا من أنار اللّه قلبه بنور الإيمان ، ومتى لم ينظر الشّخص بذلك النّور المسمّى إيمانا فلا ينفع في حقّه الأمر المعجز فقصرت الهمم عن طلب الأمور المعجزة لما لم يعمّ أثرها في النّاظرين ولا في قلوبهم )

ولذا قال الشيخ رضي الله عنه:  ( وأما نحن فما تركناه تظرفا ) كيف ( وهو ) أي : ترك التصرف تطرفا ( تركه إيثارا ) لما هو أكمل على ما هو قاصر ، ففيه توسيط الحق ، وليس ذلك من شأن العارف ، ( وإنما تركناه لكمال المعرفة فإن المعرفة لا تقتضيه ) بل تمنع ( بحكم الاختيار ) على ما مر في حق الرسول أنه لا يتصرف إلا أن يوحي إليه بالتصرف بجزم ، ( فمتى تصرف العارف ) من حيث هو عارف ، واحترزنا بذلك عن تصرف أبي السعود تطرفا ( بالهمة في العالم فعن أمر إلهي ) خاص ناسخ للأمر العام في حق الخواص بتوكيل الحق ، كما نسخ في حق الرسول ( وجبر لا باختيار ) ، وإن خير رعاية للأمر العام بالتوكيل ، ولا بدّ من نسخ ذلك الأمر في حق الرسول لتحصيل المعجزة إذ ( لا شك أن مقام الرسالة يطلب التصرف ) بالهمة في العام لتحصيل أمر خارق للعادة موجب ( لقبول الرسالة ) منه ( التي جاء بها ) من الغيب ، فلابد مما يدل عليه ، (فيظهر عليه ) بتصرفه بالهمة في العالم ( ما يصدقه ) بالضرورة ( عند أمته ) التي أجابته ( وقومه ) الذين دعاهم ( ليظهر دين اللّه ) الذي بعث لإظهاره ليجتمعوا عليه ولا يتفرقوا فيه .

 
قال رضي الله عنه :  ( والولي ليس كذلك ) أي : لا يطلب مقامه التصرف بالهمة لتقبل منه الولاية ، إذ ليس من شأنه عموم الدعوة ، وإظهار الدين للعامة ، فلابدّ له من مزيد الاحتياط في التصرف بالهمة إذ مر ذلك بجزم كيف لا ، ( ومع هذا ) أي : كون مقام الرسالة يطلب التصرف ، ( فلا يطلبه الرسول في ) الأمر ( الظاهر ) إعجازه بحيث يلجئ العقول إلى التصديق ؛ ( لأن للرسول الشفقة على قومه )  لكونه خيرا في ذاته ، ( فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجة عليهم ) بإظهار المعجزات القاهرة .

قال رضي الله عنه :  ( فإن في ذلك هلاكهم ) في الحال ، إذا أخروا الإيمان به ، ( فيبقى عليهم ) وجودهم بإبقاء نوع من الخفاء في المعجزة لعلهم يعاملون ، فيؤمنون في ثاني الحال ، كيف ( وقد علم الرسول أيضا ) أي : مع علمه بهلاكهم في الحال لو لم يؤمنوا على الفور ، ( أن الأمر المعجز ) وإن بلغ حد الإلجاء ( إذا ظهر للجماعة ) المتفاوتة العقول والأخلاق ، ( فمنهم من يؤمن عند ذلك ) من غير تأخير فيفوز ، ( ومنهم من يعرفه ) بقلبه ( ويجحده ) بلسانه ، ( ولا يظهر التصديق ) الواقع في قلبه بالضرورة ( به ) ، فلا يكون لسانه ترجمان القلب ، وقد خلق لذلك فينزل إنكاره منزلة تكذيب القلب ، فلا ينفع التصديق القلبي أبدا ، إذا لم يكن الجحود عن إكراه بل ( ظلما ) بتكذيب ما دلت المعجزة على صدقه وتصديق ما لم ينزل به من اللّه سلطان من وسواس الشيطان ، ( وعلوا ) أي استكبار على آيات اللّه وأنبيائه ، ( وحسدا ) على ما أتاهم اللّه النبوة دونهم .

قال رضي الله عنه :  ( ومنهم من يلحق ذلك ) المعجز ( بالسحر والإيهام ) أي : الشعوذة مع أنه يتحدى بذلك بالمعجزة مهرة العارفين بما هو من جنسها على العموم ولا يتحدى بهما كذلك ، ومع أن المعجزة مخصوصة بالنفس الخيرة اللاحقة بالملائكة الداعية إلى الخير في العموم ، وهما إنما يصدران من النفس الخبيثة اللاحقة بالشياطين ، ولا لبس في المعجزة القولية بهما أصلا ، ( فلما رأت الرسل ذلك ) الهلاك على الفور لمن آخر الإيمان عند رؤية المعجزة الملجئة ، ورأت ( أنه لا يؤمن ) عند ظهور المعجزة ، ولو ملجئه ( إلا من أنار اللّه قلبه بنور الإيمان ) وهو نور البصيرة الفارقة بين المعجزة وبين السحر والشعوذة عند خلو القلب من ظلمات الظلم والعلو والحسد وغيرها .


قال رضي الله عنه :  ( ومتى لم ينظر الشخص ) في المعجزة ، وإن نظر ببعض المقدمات الجدلية المشوبة بالأوهام الفاسدة عن الاحتمالات التي لا يتشكك العقل معها في دلالة المعجزة لعدم وقوعها أصلا بحسب العادة ، كما أنه يحتمل صيرورة البحر عسلا ، ومع ذلك فإنا جازمون ببقائه ما عند غيبتنا عنه ، والعادة لا تنخرق إلا لأمور مخصوصة جرت السنة الإلهية بخرقها لأجلها ( بذلك النور ) المزيل لهذه الأوهام ( المسمى ) على سبيل الاستعارة ( إيمانا ) ، كأنه عينه لإزالته الشبهات بالكلية ، فيلجئ إلى الإيمان بالضرورة لم يؤمن ذلك الشخص ، وإن كانت المعجزة ملجئة كما قال تعالى :" وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً " [ الرعد : 31 ] ، وقال :" وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا " [ الأنعام : 111 ] ؛ فاختاروا معجزات غير ملجئة ؛ لأن من أنار اللّه قلبه بنور الإيمان أمن بعد التأمل فيها ولو بعد حين ولا أي ، وإن لم ينور اللّه قلبه بنور الإيمان .

قال رضي الله عنه :  ( فلا ينفع في حقه الأمر المعجز ) تأمل فيها الشخص بالدلائل المشوبة بالأوهام أم لا ،وبلغ ذلك الأمر حد الإلجاء أم لا.
وإذا كان كذلك ( فقصرت الهمم ) أي همم الرسل ، وإن لم يكن لهم عنها بد في الجملة ( عن طلب الأمور المعجزة لما لم يعم أثرها ) الكل ، وإن أثرت في الأكثر ( في الناظرين ) فضلا عن المعرضين ، فإن إلجائهم إلى الإقرار في الظاهر ، ( ولا ) يؤثر ( في قلوبهم ) كما في المنافقين ، وهذا القصور في تأثير الهمم لا يختص بالقاصرين بل يعم الكل أيضا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (كما قال في حقّ أكمل الرّسل وأعلم الخلق وأصدقهم في الحال " إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ" [ القصص : 56 ] ولو كان للهمّة أثر ولا بد ، لم يكن أحد أكمل من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولا أعلى وأقوى همّة منه ، وما أثّرت في إسلام أبي طالب عمّه ، وفيه نزلت الآية الّتي ذكرناها ولذلك قال في الرّسول إنّه ما عليه إلّا البلاغ ، وقال تعالى :لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ[ البقرة : 272 ] ، وزاد في سورة القصص :وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[ القصص : 56 ] أي بالّذين أعطوه العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة فأثبت أنّ العلم تابع للمعلوم .
فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ظهر بتلك الصّورة في حال وجوده ، وقد علم اللّه ذلك منه أنّه هكذا يكون ، فلذلك قال : وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فلمّا قال مثل هذا قال أيضا :ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ لأنّ قولي على حدّ علمي في خلقيوَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ ق : 29 ] أي ما قدّرت عليهم الكفر الّذي يشقيهم ثمّ طلبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به ، بل ما عاملناهم إلّا بحسب ما علمناهم ، وما علمناهم إلّا بما أعطونا من نفوسهم ممّا هم عليه ، فإن كان ظلما فهم الظّالمون . ولذلك قال : وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[ الأعراف : 160 ] فما ظلمهم اللّه ) .

( كما قال تعالى في حق أكمل الرسل ) في أمر الرسالة الغالية لتصرف بها لإظهار المعجزات ، ( واعلم الخلق ) بكيفية تصرفات الهمم وموضعها ( وأصدقهم في الحال ) الموجبة تأثيرها على أكمل الوجوه ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) فصرفت همتك إلى هدايته ( وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ[ القصص : 56 ] ) بإفاضة نور الإيمان عليه ، ( ولو كان الهمة ) من الكمّل ( أثر ) في الكل ، ( ولا بدّ ) من تأثيرها ، ولو فيمن ينور اللّه قلبه بنور الإيمان ، ( لم يكن أحد أكمل من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ) ، ولا أعلى همة من حيث أثرت همته في إيمان أكثر سكان العالم ، ( ولا أعلى ) همة من حيث أثرت همته في شق القمر ، ( وأقوى همة منه ) حيث أثرت همته في إظهار دينه على الأديان كلها ، واستنزال معجزة باقية إلى الأبد  منتشرة في المشارق والمغارب ، جامعة بين الإعجاز والهداية المطلوبة منه وهي القرآن .

قال رضي الله عنه :  ( وما أثرت ) همته ( في إسلام ) أحب الناس إليه ، وأمنهم عليه في التربية والحماية ( أبي طالب عمه ) من الأبوين بخلاف حمزة والعباس ، فإنهما عماه من الأب ، ( وفيه ) لا في غيره ، كما زعمت الشيعة القائلون بإيمان أبي طالب ، ( نزلت الآية التي ذكرناها ) على الخصوص ، وآيات أخر على العموم ؛ ( ولذلك ) أي : ولعدم تأثير همته في حق من خلا عن نور الإيمان لعدم مناسبته إياه ، مع أنه لا بدّ منها بين الفاعل والقابل ، ( قال في ) حق ( الرسول : ما عليه إلا البلاغ ) ؛ فإنه ينزل منه منزلة هدايته إياهم .>


قال رضي الله عنه :  ( وقال تعالى :لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ[ البقرة : 272 ] ) إذ ليس إليك إفاضة نور الإيمان ،"وَلكِنَّ اللَّهَ " بعد بيانك للهدى لهم" يَهْدِي مَنْ يَشاءُ " بإفاضة ذلك النور عليه ، فكأنك هديته بتأثير همتك فيه ، ( وزاد في سورة القصص ) لبيان أن إفاضة نور الإيمان على البعض دون الباقين ليس على سبيل التحكم بل هو تابع لعلم الحق التابع لما عليه الأعيان في أنفسها ؛ فقال :(" وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" [ القصص : 56 ] )

أي :  للمستعدين للهداية ، يفيض عليهم نور الإيمان لما أعطوه العلم بهدايتهم ، وإليه الإشارة بقوله : ( أي : بالذين أعطوه العلم بهدايتهم ) أي : استعدادهم لها ، وإن كانوا ( في حال عدمهم ) في الخارج ، فلا يتوقف على حدوثهم وعدمهم في الإعطاء ، إذا أعطوه ( بأعيانهم الثابتة ) في العلم الأزلي ( فأثبت ) بقوله :وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَمن حيث جعله دليلا على رفع التحكم المتوهم من الآية السابقة ، ( أن العلم تابع للمعلوم ) لا باعتبار انفعاله ، بل إدراكه على ما هو عليه في نفسه ، ( فمن كان مؤمنا ) أي : مستعد للإيمان ( في ) حال ( ثبوت عينه ) في العلم الأزلي ، وإن لم يكن موجودا حتى يلزم القول بتعدد القدماء ، بل كان في ( حال عدمه ) في الخارج ( ظهر بتلك الصورة ) الإيمانية العلمية ( في حال وجوده ) في الخارج ، وكيف لا يظهر بتلك الصورة .


قال رضي الله عنه :  ( وقد علم اللّه ) بالعلم الأزلي ( ذلك ) الظهور ( منه أنه هكذا يكون ) ، ولا يمكن الخلف فيه ؛ ( فلذلك ) أي : فلامتناع الخلف في العلم الأزلي ( قال :وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) بصفة اسم التفضيل الدال على أنه في إدراك الخفيات على ما هي عليه كما لاستعدادات وغيرها ، زاد على ذلك من سواه ، ( فلما قال مثل هذا ) وهو قوله :"وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " الدال على أنه لا يمكن تبديله لكونه على وفق مقتضيات الأعيان الثابتة واستعداداتها .

( قال أيضا :"ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ" [ ق : 29 ] ) أي : التكليفي "لَدَيَّ" بحيث يمكن أن  يغير إلى ما هو الواقع من صورهم ؛ ( لأن قولي على حد علمي في خلقي ) ، وقد علمت منهم اقتضاء التكليف بما كلفتهم ، وإن لم يظهروا بما كلفوا به .
فلذلك قال بعده :( وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ )إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وليس ذلك في تقدير الكفر والمعاصي والعذاب عليهما ، ولا في تكليف الإيمان والطاعات من حيث اقتضاء أعيانهم ذلك ، ولا من حيث فيض ذلك منا .

أما الأول ؛ فهو المشار إليه بقوله : ( أي : ما قدرت عليهم الكفر الذي يشقيهم ) من غير أن يستحقوه باستعداداتهم .
( ثم طلبتهم بما ليس في وسعهم ) من مخالفة التقدير الإلهي ( أن يأتوا به ) من غير أن تقتضي أعيانهم ذلك الطلب مني ، ( بل ما عاملناهم ) في تقدير الكفر والشقاوة والتكليف بالإيمان ، وبموجبات السعادة ، ( إلا بحسب ما علمناهم ) يقتضون ذلك التقدير والتكليف ، ( وما علمناهم إلا بما أعطونا من نفوسهم ).
أي : لا يجعلنا فيهم بل ( بما هم عليه فإن كان ) تقدير الكفر والشقاوة والتكليف بالإيمان وأسباب السعادة ( ظلما ) منا عليهم ، بل منهم على أنفسهم ؛ ( فهم الظالمون ، ولذلك قال :"وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ "[ النحل : 118 ] ) ، وإذا كان التكليف والتقدير باقتضاء أعيانهم ، ( فما ظلمهم اللّه ) باتحاد ذلك فيهم كما لا يظلم بتقديره ، وإن كان مساعدهم على ظلمهم أنفسهم .

قال رضي الله عنه :  ( كذلك ما قلنا لهم إلّا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم ؛ وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ، ولا نقول كذا ، فما قلنا إلّا ما علمنا أنّا نقول فلنا القول منّا ، ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السّماع منهم .
فالكلّ منّا ومنهم  ..... والأخذ عنّا وعنهم
إن لا يكونوا منا  ..... فنحن لا شكّ منهم
فتحقّق يا وليّ هذه الحكمة الملكيّة من الكلمة اللّوطيّة فإنّها لباب المعرفة .
فقد بان لك السّرّ  ..... وقد اتّضح الأمر
وقد أدرج في الشّفع  ..... الّذي قيل هو الوتر
وأما الثاني ؛ فهو المشار إليه بقوله : ( كذلك ) أي كما لم تظلمهم فيما ذكرنا باعتبار كونه مقتضى أعيانهم لم نظلمهم باعتبار قولنا التكويني والتكليفي من حيث كونه مقتضى ذاتيا أيضا ، لأننا ( ما قلنا لهم ) في التكوين والتكليف ( إلا ما أعطته ) أي اقتضته ( ذاتنا ) من حيث الربوبية ( أن نقول لهم ) ، وهو أيضا تابع لعلمنا بذاتنا ومقتضياتها إذ ( ذاتنا معلومة لنا من ) حيث اقتضاؤها باعتبار الربوبية .

( أن نقول ) في أحد الأمرين أو كليهما ( كذا ولا  نقول كذا ) في الآخر أو كليهما ، ( فما قلنا ) في الأمرين ( إلا ما علمنا أنّا نقول ) ، فلا يمكن تغييره لكونه تابعا للعلم الأزلي ، ولا ظلم فيما يتعين فيه أحد الأمرين بالضرورة على أنه ليس الأمر أن أي : التكوين والتكليف منا بطريق المباشرة .
( فلنا القول ) التكويني والتكليفي ( ولهم الامتثال ) الجازم في التكويني ، وغير الجازم في التكليفي ، ( وعدم الامتثال ) في بعض الأقوال التكليفية ، فالمباشرة لهم والظلم منوط بالمباشرة دون القول المجرد . "" عدم الإمتثال  إن كان الأمر أمرا إيجابيّا اقتضت أعيانهم امتثاله ""

وإن كان ( مع السماع منهم ) القاهر المقتدر ، ( فالكل منّا ) التكوين والتكليف ، وتقديرهما منا باعتبار القول والعلم والحكم ، ( ومنهم ) باعتبار اقتضاء الأعيان والامتثال وعدمه ، ( والأخذ عنا ) باعتبار مخالفة القول التكليفي والتكويني ، واقتضاء الربوبية الظهور بالقهر على بعض المظاهر ، (وعنهم ) باعتبار اقتضاء أعيانهم ، وعدم امتثالهم الأمر التكليفي ، هذا كله على تقدير التمييز في الظاهر بين الحق والخلق .
ثم قال : ( إلا يكونوا ) بإثبات النون للضرورة ( منا ) في ظهور أعيانهم على تقدير أن لها الظهور بتميز ظهور كل عين من ظهور الأخرى ، بما اختصت به من العوارض والأحوال .
( فنحن لا شكّ ) في الظهور الوجودي ( منهم ) ، إذ لا يتميز ظهورنا عن ظهورهم بالوجود ، إذ لا تميز في الوجود باعتبار ظهوره .
فالإثم واللذة على الصور الوجودية لا على الأعيان ، فلا ظلم عليهم من حيثهم ، ( فتحقق يا وليّ هذه الحكمة الملكية ) الدالة على شدة أمر التقدير والتكليف ، بأنهما لا يقبلان التغيير مع وقوع المخالفة بينهما .
وشدة أمر الهمة من حيث اتحاد ظهور الوجود ( من الكلمة اللوطية ) أي قوله : "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ " [ هود : 80 ] ؛ فإن قوله : "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " يدل على شدة أمر الهمة حتى تمناها .

وقوله :" أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ " يدل على شدة أمر التكليف المقتضى شدة العذاب على مخالفه من القوي الشديد ، الذي قوته وشدته ذاتيتان ، وعلى شدة الأمرين باعتبار الاتحاد ، فإنه مقدم الكل فلابدّ له من الظهور بكل ذلك ؛ ( فإنها لباب المعرفة ) وكيف لا ، ( فقد بان لك السر ) أي : سر القدر والتكليف ، ( وقد اتضح الأمر ) الإلهي بالتكوين والتكليف ، ( ولقد أدرج ) باعتبار الصور الوجودية ( في الشفع الذي ) هو ظهور الخلق بناء على أنه للأعيان أيضا ، ظهور الخلق الذي ( قيل هو الوتر ) في الظهور .
وأيضا ولما كانت الحكمة الملكية باحثة عن شدة أمر القدر سيما مع اعتبار التكليف على خلافه في الواقع مع أنه منه باعتبار اقتضاء الأعيان ، وعن شدة أمر الهمة في حق العارف الناظر إلى سرّه عقبها بالحكمة القدرية .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 1:22 pm

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي
الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ العزيري
14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية      الجزء الأول
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلم اللّه في الأشياء على ما أعطته المعلومات ممّا هي عليه في نفسها ، والقدر توقيت ما عليه الأشياء في عينها من غير مزيد ، فما حكم القضاء على الأشياء إلّا بها ، وهذا هو عين سرّ القدر الذي يظهر " لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ " [ ق : 37 ] ،فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) الأنعام : 149 ] .
فالحاكم في التّحقيق تابع لعين المسألة الّتي يحكم فيها بما تقتضيه ذاتها ، فالمحكوم عليه بما هو فيه حاكم على الحاكم أن يحكم عليه بذلك فكلّ حاكم محكوم عليه بما حكم به وفيه ، كان الحاكم من كان ، فتحقّق هذه المسألة فإنّ القدر ما جهل إلّا لشدّة ظهوره فلم يعرف وكثر فيه الطّلب والإلحاح ) .
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بسرّ القدر ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى عزير عليه السّلام ؛ لانبعاث همته إلى معرفة سره بمشاهدة ترتيب الأمور الشهادية على الأسباب الغيبية حين استبعد حياء الفقرية الخربة ، فأماته اللّه مائة عام ليشاهد الأسباب في عالم الغيب ، ثم بعثه ليشاهد ترتب الأمور الشهادية عليها ، فشهد ذلك في نفسه ، وحماره ، وطعامه ، وشرابه على أتم الوجوه .
ولما كثر اقتران ذكر القضاء بالقدر ، والتباسه به أورده ؛ فقال : اعلم أن القضاء الإلهي حكم اللّه في الأزل على الأشياء التي ستوجد بما لها من الوجود والصفات والأحوال على حدّ علمه بها أي : بحقائقها المقتضية للوجود الصفات اللازمة ما دامت موجودة ، وبما فيها من الاستعدادات المتعاقبة المقتضية لاختلافات الأحوال ، والعوارض المفارقة ، إذ لم يكن الحكم على حدّ العلم لكان جهلا ، وليست تلك الحقائق والاستعدادات أثرا للعلم ، وإن كان مؤثرا في وجوداتها ، بل ( علم اللّه في الأشياء ) ، ( على ما أعطته المعلومات ) ، وإن لم تكن محدثة للعلم فيه بل ظهرت له ( بما هي عليه في أنفسها ) ، إذ لا معنى للعلم بالشيء سوى ظهوره للعالم على ما هو عليه ، فلو كان بما هو عليه أثرا للعلم لزم الدور ، فالقضاء
إنما اختصت الكلمة العزيرية بالحكمة القدرية لانبعاثه على طلب معرفة سر القدر ، وتعلق القدرة بما يقتضيه العلم من صورة القدر المقدور ؛ فإن القدرة لا تتعلق إلا بمعلومات ممكنة هي الأعيان وأحوالها المعلومة عند اللّه ، والقدر هو العلم المفصل بالأعيان وأحوالها الثابتة في الأزل الخارجة عليها عند وجودها إلى الأبد ( القاشاني ص 195 ) .
حكم كلي بأن يحكم على كل عين على حد علمه بها ، وفيها بما أعطته من نفسه ، فلابدّ له من تفصيل هو القدر .
وإليه الإشارة بقوله : ( والقدر توقيت ) أي : تفصيل ( ما هي عليه الأشياء ) من استعداداتها للوجود والصفات والأحوال ( في عينها ) بحيث تستوعب الأعيان والصفات والأحوال من غير مزيد للاستعداد على ما يقع ، ولا لما يقع على الاستعداد ، وإذا كان الحكم على حدّ العلم ، والعلم على ما أعطيه المعلوم ، ( فما حكم القضاء على الأشياء إلا بها ) ، ولا ظلم في تقدير القبائح والمعاقبة عليها .
( وهذا هو عين ) أي : شهود ( سر القدر ) ما خفي منه على العامة ، فعجزوا عن تطبيق التكليف به ، لكنه ( شهودا لمن كان له قلب ) أدرك بنور بصيرته أن حقائق الأشياء واستعداداتها غير مجعولة من حيث هي معلومة بالعلم الأزلي ؛ لأن الجعل للموجود ، وهي معدومة في الخارج حينئذ ، وإن ما يفيض من الحق لا يخالف ذلك أبدا .
"أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ"[ ق : 37 ] ، إلى أهل الكشف ،وَهُوَ شَهِيدٌ[ ق : 37 ] ، حاضر بذوقه في فهم كلماتهم ، وفيه تعريض بمن يتمسك بالمقدمات الجدلية ،"فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ"[ الأنعام : 149 ] ، لا للمتمسك بالقدر على نفي العذاب ، ولا لنا فيه بإثبات العذاب ، وإذا كان حكم اللّه على حد علمه ، وعلمه على ما أعطته المعلومات .
( فالحكم ) عليها بالقبائح والمعاقبة عليها ( في التحقيق ) ، وإن توهم ابتداءه بذلك ( تابع لعين المسألة ) أي : جاز عليها لا على ما ورائها ، وإن كان أصلح ، فلا يكون ظلما إذ تلك المسألة غير مجعولة ، بل هي ( التي يحكم فيها بما تقتضيه ذاتها ) ، والجريان بمقتضى الذات لا يكون ظلما ، وإذا كان الحكم تابعا لعين المسألة .
( فالمحكوم عليه ) لكونه حكم عليه ( بما فيه ) ، كأنه حاكم بلسان الاستعداد على ( الحاكم ) الإلهي أن يحكم عليه بمقتضى الجود والحكمة ، وإن لم يلجئه إلى ذلك ؛ ولهذا صار مكتسبا مستوجبا للعقاب ، وإذا كان الحق حاكما على الأعيان بإفاضة مقتضياتها ، فالأعيان حاكم عليه باستفاضة ( ذلك ، فكل حاكم محكوم عليه بما حكم به ) على الآخر .
( وبما حكم فيه ) أي : في نفسه ، فالحق محكوم عليه من جهة الأعيان أن يفيض بمقتضياتها ، وأن يستفيض علم مقتضياتها ، والأعيان محكوم عليها بإفاضة علم مقتضياتها ، واستفاضة مقتضياتها ؛ ولهذا صار الحق خالقا ، والأعيان كاسبة كان الحاكم من كان ، فإن الحق وإن لم يحكم عليه الخلق في ذاته وصفاته يحكمون في صور تجلياته ثم إياهم . " كان الحاكم مّن كان ".
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فتحقّق هذه المسألة فإنّ القدر ما جهل إلّا لشدّة ظهوره فلم يعرف وكثر فيه الطّلب والإلحاح ).
 ( فتحقق هذه المسألة ) أي : اعتقد حقيقتها لوضوح مقدماتها من أن الفعل تابع للعلم ، والعلم للمعلوم ، والمعلوم الأزلي غير مجعول ؛ لامتناع حلول الحوادث في العلم الأزلي .
ولا يلزم تعدد القدر ما لكونه معدوما في الخارج ، فمسألة القدر أيضا جلية وإن خفيت على أهل الخبر والاعتزال ، ( فإن القدر ما جهل إلا من شدة الظهور ) ، فإن الشيء إذا جاوز حده أورث ضده ، ( فلم يعرف ، فكثر فيه الطلب )  بالمقدمات الكثيرة الطويلة العريضة العميقة ، (والإلحاح ) في إيراد الشبهات وحلها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم أنّ الرّسل صلوات اللّه عليهم من حيث هم رسل لا من حيث هم أولياء وعارفون على مراتب ما هي عليه أممهم فما عندهم من العلم الّذي أرسلوا به إلّا قدر ما تحتاج إليه أمّة ذلك الرّسول ، لا زائد ولا ناقص ، والأمم متفاضلة يزيد بعضها على بعض فيتفاضل الرّسل في علم الإرسال بتفاضل أممها ، وهو قوله تعالى :"تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ "[ البقرة : 253 ] .
كما هم أيضا فيما يرجع إلى ذواتهم - عليهم السّلام - من العلوم والمعارف والأحكام الإلهيّة متفاضلون بحسب استعداداتهم ، وهو في قوله :وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ" [ الإسراء : 55 ] .
وقال تعالى في حقّ الخلق :"وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ"[ النحل : 71 ] .
والرّزق منه ما هو روحانيّ كالعلوم ، وحسّيّ كالأغذية وما ينزّله الحقّ إلّا بقدر معلوم ، وهو الاستحقاق الّذي يطلبه الخلق ، فإنّ اللّه "أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ "[ طه  : 50].
فينزّل بقدر ما يشاء وما يشاء إلّا ما علم فحكم به ، وما علم كما قلناه إلّا بما أعطاه المعلوم من نفسه ، فالتّوقيت في الأصل للمعلوم والقضاء والعلم والإرادة والمشيّة تبع للقدر .
فسرّ القدر من أجلّ العلوم وما يفهّمه اللّه تعالى إلّا لمن اختصّه بالمعرفة التّامّة ، فالعلم به يعطي الرّاحة الكلّيّة للعالم به ، ويعطي العذاب الأليم للعالم به أيضا ؛ فهو يعطي النّقيضين ، وبه وصف الحقّ نفسه بالغضب والرّضا وبه تقابلت الأسماء الإلهيّة ، فحقيقته تحكم في الوجود المطلق والوجود المقيّد لا يمكن أن يكون شيء أتمّ منها ولا أقوى ولا أعظم لعموم حكمها المتعدّي وغير المتعدّي) .
ثم أشار إلى فضيلة علم القدر بأن فضائل الأنبياء والخلائق وتفاوت درجاتهم ، إنما تعرف به ، وأنه إنما يعرف به تقابل أسماء اللّه وصفاته ، وإن علمه وإرادته وقضاءه تابعة له .
فقال : ( واعلم أن الرسل صلوات اللّه عليهم من حيث هم رسل ) أرسلوا إلى أممهم ( لا من حيث هم أولياء وعارفون ) ، فإنهم وإن تفاوتوا بتلك الحيثية أيضا ، لكنه ليس بمقدار استعدادت الأمم .
وكذا من حيث هم أنبياء على ما يصرح به عن قريب ، ولكن لم يذكرهم آنفا ؛ فلهم منزلة الأولياء أو العارفين بهذا الاعتبار ( على مراتب ما هي عليه أممهم ) من الاستعدادات العملية والعلمية ، ( فعندهم من العلم الذي أرسلوا به ) إلى الأمم سواء في العقائد أو الأحكام .
( إلا قدر ما تحتاج إليه أمة ذلك الرسول ) في الاعتقاد أو العمل ( لا زائد ) ؛ لأنه في باب الاعتقاد مضل مثير للشبهات ، وفي باب العمل مشتق ، ( ولا ناقص ) يفوت به الكمال الممكن الذي بعثوا لتحصيله لهم .
وهذا وإن لم يمكن رعايته بالنسبة إلى الأشخاص يمكن بالنسبة إلى الأمم ، إذ ( الأمم متفاضلة يزيد بعضها على بعض ) في درك الدقائق من الأدلة والحقائق ، وفي تحمل أعباء التكليف .
 
( فتفاضل الرسل في علم الإرسال ) وراء تفاضلهم في أنفسهم ( بتفاضل أممهم ) ، وإن لم يكن تفاضلهم بتفاضل آحاد الأمم ، وهو أي : دليل تفاضل الرسل في علم الإرسال .
قوله تعالى :" تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ "[ البقرة : 253 ] رتب التفضل على وصف الرسالة ، وهي حقيقة واحدة لا تقبل التفاوت في نفسها ، وإنما هو في علم الإرسال .
ثم أشار إلى تفاضلهم باعتبار النبوة والولاية والمعرفة .
"" أضاف المحقق :  الولايات هي أحد الأقسام العشرة ذات المنازل المائة التي ينزلها السائرون إلى اللّه تعالى ، بعد ترقيهم في الأحوال العشرة ، التي عرفت تحولهم فيها بإزالة القيود والتعينات عن سير السائر في تلك الأطوار التي توجب لمن تحقق بها زيادة قوة كلية في ذاته وصفاته وإدراكاته ، وقربه من مدارج نهاياته ، فذلك التقوى بالقرب هو المسمى في اصطلاحهم بقسم الولايات العشرة ، وهي : اللحظ ، والوقت ، والصفاء ، والسرور ، والسر ، والنفس ، والغربة ، والغرق ، والغيبة ، والتمكن . ( لطائف الإعلام ( 375  .أهـ ""
 
بقوله : ( كما هم أيضا فيما ) متعلق بالخبر ، وهم متفاضلون ( يرجع إلى ذواتهم ) أي : من غير نظر إلى الأمم ( من العلوم ) الاعتقادية ، ( والأحكام العلمية ) ، كوجوب الضحى والأضحى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ( متفاضلون بحسب استعداداتهم ) في أمر النبوة والولاية والمعرفة ، وهو أي : دليل تفاضلهم فيما يرجع إلى ذواتهم .
قوله تعالى :" وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ" [ الإسراء : 55 ] هذا في النبوة ، وأما في الولاية والمعرفة .
فهو ما ( قال تعالى في حق الخلق ) الداخل فيهم مخصوصا بالأغذية كما يتوهم العامة ، بل منه فيه إشارة إلى أن منه ما هو قلبي كالأحوال ، ونفسي كالأخلاق ( ما هو روحاني كالعلوم ) للعارفين وكالتجليات للأولياء .
إذ العارف تصقل الأرواح فتتصل بالملأ الأعلى ، وتتقوى بالتجليات في التصرف بالهمم والعروج إلى المراتب العالية ، ( وحسي كالأغذية ) ، والكل ( بالقدر ) ؛ لأنهوَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ[ الحجر : 21 ].
 كما قال في كتابه الكريم ، وهو أي : ( المعلوم الاستحقاق ) ؛ لأنه ( الذي يطلبه الحق ) فيعطيهم الحق الجواد ، فإن اللّه :"أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ"[ طه : 50 ] كما نصّ عليه في كتابه المجيد ، ولا جبر في ذلك بل هو بالمشيئة ، ( فينزل بقدر ما يشاء ) ، ولا يتنافى بين القدر والمشيئة ؛ لأنه ( ما يشاء إلا ما علم ) أولا ؛ ( فحكم به ) ثانيا قضاء ، فالحكم تابع للعلم والعلم تابع للمعلوم ؛ لأنه ( ما علم كما قلنا إلا ما أعطاه المعلوم من نفسه ) ، وما أعطاه المعلوم هو التوقيت المعبر عنه بالقدر .
( فالتوقيت في الأصل للمعلوم ) وإن نسب إلى اللّه تعالى باعتبار أنه الحاكم به في الإفاضة بمشيئته وإرادته ، والقضاء التابع للمعلوم التابع للتوقيت ، والإرادة والمشيئة التابعتان للقضاء تبع للقدر ؛ لأن تابع التابع تابع.
فسر القدر علمه بالكشف من أجل العلوم يوجب الاطلاع على علم اللّه وقضائه وإرادته ومشيئته وعلمه بالتلقي من المشايخ .
 
قال رضي الله عنه :  ( فسرّ القدر من أجلّ العلوم ، وما يفهّمه اللّه تعالى إلا لمن اختصه بالمعرفة التامة ) ، وإذا كانت هذه المعرفة لوازمها ونتائجها كذلك ، ( فالعلم به يعطي الراحة الكلية ) عن تعب الطلب ( للعالم به ) إذا علم في بعض المطالب أنه لم يقدر وجوده ، فلا يفيد فيه الطلب ، ( ويعطي العذاب الأليم للعالم به أيضا ) إذا اطلع على أمر مهم لم يقدر وجوده ؛ ( فهو يعطي النقيضين ) ، وهذا لا يختص بعالم دون عالم ، بل يعم الكل حتى أنه لو لم يكن له الاتصاف بالراحة والعذاب اتصف بما يناسبها كالحق تعالى كما قال ، ( وبه وصف الحق نفسه بالغضب ) على أعيان تقتضي ستر جماله المحبوب لوقتها ، ( وبه تقابلت الأسماء ) ؛ لأن الأعيان لما اختلفت بذواتها لم تخل عن اقتضاء لأمور المسألة التي لكل منها من الأسماء ( الإلهية ) رب خاص .
وإذا علم أن القدر يفيد الرضا والغضب ، ويقابل الأسماء في الحق والراحة والألم في الخلق ، ( فحقيقته تحكم في الوجود المطلق ) الحق باختلاف التجليات ، وفي ( الموجود المقيد ) الخلق باختلاف الصفات والأحوال ؛ ولذلك ( لا يمكن أن يكون شيء أتم منها ) إذ حقيقتها كأنها شاملة للحقائق كلها ، ( ولا أقوى ) لتأثيرها في تجليات الحق القديم والأعيان الثابتة في علمه الأزلي ، ( ولا أعظم العموم حكمها المتعدي ) من الأسماء الإلهية وسائر الأسباب ، ( وغير المتعدي ) من الأشياء سيما المسببات .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا كانت الأنبياء صلوات اللّه عليهم لا تأخذ علومها إلّا من الوحي الخاصّ الإلهي ؛ فقلوبهم ساذجة من النّظر العقليّ لعلمهم بقصور العقل من حيث نظره الفكري ، عن إدراك الأمور على ما هي عليه ، والإخبار أيضا يقصر عن إدراك ما لا ينال إلّا بالذّوق فلم يبق العلم الكامل إلّا في التّجلّي الإلهي ، وما يكشف الحقّ عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية فتدرك الأمور قديمها وحديثها وعدمها ووجودها ومحالها وواجبها وجائزها على ما هي عليه في حقائقها وأعيانها ) .
ثم أشار إلى أن العلم به لا يحصل بطريق النظر ولا بطريق الوحي ، وساق الكلام إلى سبب وقوع العتب على عزير عليه السّلام في طلبه ؛ فقال : ( ولما كانت الأنبياء عليهم السّلام لا تأخذ علومها إلا من الوحي الخاص ) ، وهو كشف عالم الملكوت له فتخاطبه الملائكة بإذن اللّه تعالى وقد يأخذون باعتبار ، ولا يتهم عما فوق ذلك من التجلي ( الإلهي ) ، ومن كشف الأغطية عن أعين البصائر والأبصار فيما لا يسعهم فيه ملك ، لكن لا يأخذون عما دونها من النظر العقلي.
واحترز بالخاص عن الإلهام ، كما أوحى إلى أم موسى عليه السّلام ، وبقوله الإلهي عن وحي الشياطين إلى أوليائهم من الزنادقة والفلاسفة ، ( فقلوبهم ساذجة من النظر العقلي ) ؛ لأنه مانع من كمال التصفية الواجبة في أنواع الكشف ، فتركوا قلوبهم ساذجة عنه .
قال رضي الله عنه ( لعلمهم بقصور العقل من حيث نظره الفكري عن إدراك الأمور على ما هي عليه ) ؛ لأنه تنور منه غبار الشبهات وظلماتها .
ولذلك لا يكاد يرتفع اختلاف أرباب النظر ، فلابدّ لإدراك العقل لها من تصفية القلب ، إذ يكون لنظره كنوز الشمس ، فاقتصروا في تحصيل العلم بالوحي وبما فوقه ، ولكن ( الإخبار ) الحاصل بالوحي ( يقصر عن إدراك ما لا ينال إلا بالذوق ) المخصوص بالكشف الأعلى .
"" أضافة المحقق : الذوق يراد به أول مبادئ التجليات ، والشرب أوسطها ، والرّيّ نهايتها ، وهو الذوق الإيماني ، تشبيها له بالتذوق في المحسوسات ، فالأذواق التي يشير القوم إليها ، هي علوم لا تنال إلا لمن كان خالي القلب عن جميع العلائق والعوائق كلها ( انظر : التعريفات للجرجاني ص 12 ، ولطائف الإعلام ص ( 470 ) . ""
 
قال رضي الله عنه ( فلم يبق العلم الكامل ) المحصل للمعلوم في العالم بطريق الذوق ( إلا في التجلي الإلهي ) بشهوده بالروح أو القلب أو النفس عند تنورهما بنوره ، ( وما يكشف الحق عن أعين البصائر ) الباطنة ، ( والأبصار ) الظاهرة ( من الأعطية ) التي هي حجب المعقولات والمحسوسات .
( فتدرك ) البصائر والأبصار ( الأمور كلها قديمها وحديثها ) ، وإن لم يكن البصر يدرك القديم من قبل ( وعدمها ووجودها ) ، وإن لم يكن العدم مدركا للبصر والبصيرة ، ولا يختص هذا بالعدم الممكن إذ ( محالها ، وواجبها ، وجائزها ) ، وليس المراد الإدراك بوجه ما ، فإنه غير مشروط بالتجلي والكشف ، بل ( ما هي عليه في حقائقها ) أي : الماهيات المتحققة بإشراق نور الوجود عليها ( وأعيانها ) أي : الماهيات من حيث ثبوتها في العلم الأزلي حال عدمها في الخارج .
فعلم مما ذكرنا أن طريقة الكشف والتجلي عامة كطريق الوحي بخلاف طريقة النظر العقلي ، فإنها مخصوصة بإدراك بعض الأشياء دون بعض ، ومخصوصة بالمقدمات الخاصة ، ويقع الغلط كثيرا في رعاية مناسبها للمطالب وشرائطها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما كان مطلب العزير على الطّريقة الخاصّة لذلك وقع العتب عليه كما ورد في الخبر ولو طلب الكشف الّذي ذكرناه ربّما كان لا يقع عتب في ذلك ، والدّليل على سذاجة قلبه قوله في بعض الوجوه : " أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها" [ البقرة : 259]
وأمّا عندنا فصورته عليه السّلام في قوله هذا كصورة إبراهيم عليه السّلام في قوله :"رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى"[البقرة : 260 ] ، ويقتضي ذلك الجواب بالفعل الّذي أظهره الحقّ فيه في قوله تعالى :فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ؛فقال له :"وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً"[ البقرة : 259 ] ؛ فعاين كيف تنبت الأجسام معاينة تحقيق فأراه الكيفيّة ، فسأل عن القدر الّذي لا يدرك إلّا بالكشف للأشياء في حال ثبوتها في عدمها فما أعطي ذلك ، فإنّ ذلك من خصائص الإطّلاع الإلهي ، فمن المحال أن يعلمه إلّا هو فإنّها المفاتح الأول أعني مفاتح الغيب الّتي لا يعلمها إلّا هو وقد يطلع اللّه من شاء من عباده على بعض الأمور من ذلك ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( فلما كان مطلب عزير ) معرفة سر القدر في إحياء الموتى ( على الطريقة الخاصة ) عن طريقة النظر ؛ ( لذلك وقع العتب عليه ، كما ورد في الخبر ) : " أنه لم يزل يسأل عن القدر ، فزجر فلم ينزجر ، فمحي عن النبوة " ، ومعناه أنه لم يجب ، وقطع عليه الوحي ، وإلا فالأنبياء معصومون عن الانعزال بالإجماع ؛ فلهذا عبّر الشيخ رضي اللّه عنه بالعتب ، وليس المراد به قوله تعالى فيما أوحى اللّه : « لئن لم تنته لأمحونّ اسمك عن ديوان النبوة » ، فإنه بالوحي إليه ولا قطع للنبوة معه ، بل هو عناية في حقّه عليه السّلام لا عتاب على ما يأتي بيانه ، ( فلو طلب الكشف الذي ذكرناه ) أي : الكشف عن أعين البصائر والأبصار .
قال رضي الله عنه :  ( ربما كان لا يقع عليه عتب في ذلك ) ؛ لأنه أعلى من الوحي الذي كان يأخذ منه بنبوته ؛ لأن ولايته أعلى من نبوته ، وإن كانت ليس ولاية من ليس بنبي أعلى من نبوة نبي ، ولا كشفه أعلى من الوحي على ما يأتي في كلام الشيخ - رحمه اللّه - ولفظه ربما يشير أنه لو كان مطلوبه كشف ما لا يمكن كشفه لغير الحق كان العتاب بحاله .
قال رضي الله عنه :  ( والدليل على سذاجة قلبه ) عن المقدمات النظرية ، وطلبها لتقوية ما علم بالوحي ، ونشر تعزيره على أهل النظر قوله : ( في بعض الوجوه أني ) ليس للاستبعاد بمعنى : من أين بل معنى كيف فاندفع شبهة من زعم أن القائل كان كافرا مستبعدا لإحياء من اللّه تعالى ورد بأنه لا يليق به جعله آية للناس بطريق الإكرام له ، ولا يمكنه التشبث في عطف قصته على قصة إبراهيم ، إنها إنما عطفت عليها للتزويد في أن أي : القصتين أعجب قصة من بالغ التلبيس في أمر الإحياء ، وهو إبراهيم المخرج من النور إلى الظلمات ، أم قصة من بالغ في رفع التلبيس فيه وهو عزير المخرج من الظلمات إلى النور .
 
وقد أشار بإدخال الكاف على قصة دون قصة نمرود أن قصته أعجب ، إذ لا نظير له سابق في دعوى الربوبية ، اضطر لتصحيحها إلى مثل هذه التلبيسات.
قال رضي الله عنه : ( وقصة عزير لها نظير سابق هو قصة إبراهيم عليه السّلام ) ؛ ولذلك أوردها عزّ وجل بعدها بقوله :"وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ " [ الزخرف : 26 ]
فعلم من ذلك أن قوله :"أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها"[ البقرة : 259 ] ليس سؤالا عن القدر بل هو متأخر عنه ، فإنه لما تحقق بهذا الجواب وجود الإحياء أخذ يسأل عن أسبابه ؛ ( فسأل عن القدر الذي ) به يعرف ترتب المسببات على أسبابها بمقتضى ذوات كل من الأسباب والمسببات من التأثير والتأثر ؛ فلذلك ( لا يدرك إلا بالكشف للأشياء ) أي :
أعيانها على ما هي عليه تأثيرا وتأثرا ، ولا يتأتى ذلك إلا بالاطلاع على العلم الإلهي ، إذ لا يمكن الكشف عنها إلا ( في حال ثبوتها ) ، ولا ثبوت لها فيما سوى العلم الإلهي ؛ لكونها ( في حال عدمها ) في الخارج فلا مقر لها هناك ولا ثبوت ، ولا معنى للاطلاع على الشيء إلا إدراكه على ما هو عليه والاطلاع على العلم الإلهي ، وإن أمكن في الجملة .
قال رضي الله عنه : ( فما أعطى ) عزير عليه السّلام ( ذلك ) في هذا السؤال ، فإن ذلك ( من خصائص الاطلاع الإلهي ) ، فإنه إنما اطلع عليها لحضور ذاته مع لوازمها لذاته المحررة ، ومن لوازمها ظهوره ، وهو متنوع على ظهوره في ذاته ، وهو بالفعل دائما وإلى ظهوره في المظاهر ، وهو بالقوة في الأزل .
وهو إنما يكمل عند الخروج إلى الفعل وهو فتح ، فلابدّ له من خزانة هي الأسماء الإلهية ، ومن فاتح هو الاسم الأعظم الإلهي ، ومن مفتاح ، وهو نوعان : ثوان هي الأسباب الروحانية والجسمانية ، وأول وهي الأعيان الثابتة ، فإنها مفاتيح الأول إذ لا يتصور سبق شيء عليها .
وإليه الإشارة بقوله : ( أعني : مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو ) كما نص عليه في كتابه ، وإذ قد نص على ذلك .
قال رضي الله عنه  : ( فمن المحال أن يعلمه إلا هو ) من جهة مفاتيحها ، وإن كان ( قد يطلع اللّه من يشاء من عباده ) ، فاطلاعه على علمه ( على بعض الأمور من ذلك ) لا على كلها لعدم تناهيها ؛ فلا يسعها علم العبد المتناهي ، ومع ذلك فلا يكون ذلك الاطلاع من حيث مفاتيحها الأولية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم أنّها لا تسمّى مفاتح إلّا في حال الفتح ، وحال الفتح هو حال تعلّق التّكوين بالأشياء ؛ أو قل إن شئت : حال تعلّق القدرة بالمقدور ولا ذوق لغير اللّه في ذلك ، فلا يقع فيها تجلّ ولا كشف ، إذ لا قدرة ولا فعل إلّا للّه خاصّة ، إذ له الوجود المطلق الّذي لا يتقيّد ، فلمّا رأينا عتب الحقّ له عليه السّلام في سؤاله في القدر علمنا أنّه طلب هذا الاطّلاع ، فطلب أن تكون له قدرة تتعلّق بالمقدور ، وما يقتضي ذلك إلّا من له الوجود المطلق ، فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق ذوقا ، فإنّ الكيفيّات لا تدرك إلّا بالأذواق ).
وإليه الإشارة بقوله ( واعلم أنها لا تسمى الأعيان الثابتة بالحقيقة مفاتيح إلا في حال الفتح ) لما تقرر أن شرط صدق المشتق استصحاب أصله في الأصح ، ( وحال الفتح هو حال تعلق التكوين بالأشياء ) عند القائلين به ، وهو الشيخ أبو منصور الماتريدي وأتباعه ، أو قل على مذهب منكريه كالأشعري ، وكذا على مذهب الماتريدي .
قال رضي الله عنه : ( إن ثبت حال تعلق القدرة بالمقدور ) ، والاطلاع على الحقائق في إحدى هاتين الحالتين بالطريق الذوقي لغير اللّه محال ؛ وذلك لأنه ( لا ذوق لغير اللّه في ذلك ) ، والاطلاع على الشيء إما بالمشاعر أو العقل أو الكشف ، لكن لا دخل للأولين في إدراك الحقائق ؛ لعجز أرباب العقول عن ذلك فضلا عن أرباب الحس ، فما بقي إلا الكشف ، وهو بطريق الذوق ، ولا يمكن حصوله لغير اللّه تعالى .
قال رضي الله عنه : ( فلا يقع فيها تجلّ ولا كشف ) ، وإنما امتنع حصول ذلك الذوق لغير اللّه تعالى ( إذ لا قدرة ولا فعل ) حقيقين يتم بهما الفتح ( إلا للّه خاصة ) ؛ لامتناع قيام الصفة الحقيقية بغير الموجود ، وليس إلا اللّه تعالى ( إذ له الوجود المطلق الذي لا يتقيد ) ، وإن ظهر فيها قيد ، وإلا لم يكن ظهوره في نقيضه ، ولا في نظيره ، إذ المقيد عدم عند عدم قيده ولو فرضا ، فيجوز نفيه والحقيقي لا يجوز نفيه ، فلا حقيقي إلا المطلق دون المقيد ؛ فلا تقوم الصفة الحقيقية به ، فغاية ما يمكن أن يحصل للعبد من ذلك دون تعلق التكوين والقدرة غير الحقيقيين ، ولكن لا مفتاحية بذلك ، وهذا معنى قول أهل السنة : إنه لا تأثير للوسائط في الأشياء ، بل المؤثر ابتدأ فيها ، وهو اللّه تعالى ، وإن جرت سنته أن يفعل المسببات عند وجود أسبابها .
ولما كان الاطلاع على سرّ القدر متنوعا إلى ممكن في حق المخلوق ، وهو الاطلاع على الأعيان من حيث هي أعيان ، وإلى ممتنع في حقّه ، وهو الاطلاع عليها من حيث مفتاحيتها ، والأول لا يوجب طلبه العتاب ، وإنما يوجبه الثاني .
"" أضاف المحقق : يشيرون به إلى أن حكم اللّه تعالى في الأشياء ، وعليها ، إنما هو بها ، وتقرير ذلك : هو أنه لما كان القضاء عبارة عن حكم اللّه في الأشياء على ما أعطته من المعلومات ، مما هي عليه في نفسها ، والقدر توقيت ما هي عليه الأشياء في عينها من غير مزيد ، فما حكم القضاء على الأشياء إلا بها ، وهذا هو عين سر القدر ؛ فسرّ القدر من أجلّ العلوم ، وما يفهّمه اللّه إلا لمن اختصه بالمعرفة التامة ؛ فالعلم به يعطي الراحة الكلية للعالم به ، ويعطي العذاب الأليم للعالم به أيضا ، إلا لمن أشهده اللّه عينه الثابتة ؛ لأنه من أكابر السعداء ؛ فهذا الشخص يسميه شيخنا صفاء خلاصة خاصة الخاصة ، كما ذكر ذلك في « الفص الشيثي » ( لطائف الإعلام ص 745 )  ""
 
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 1:43 pm

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي
الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ العزيري
14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية      الجزء الثاني
قال رضي الله عنه : ( فلما رأينا عتب الحق له عليه السّلام في سؤاله في القدر ) ، واحترز به عن سؤاله كيفية الإحياء الذي لا عتاب فيه ( علمنا أنه )  ما طلب الاطلاع عليها من حيث هي أعيان .
بل إنما ( طلب هذا الاطلاع ) المخصوص بالحق ، وهو الاطلاع عليها من حيث هي مفاتيح ، فطلب ( أن يكون له قدرة ) حقيقية ( تتعلق بالمقدور ) أي : بإخراجه عن القوة إلى الفعل والتأثير فيه بخلاف غير الحقيقية اقتصر على ذكرها لعمومها المذهبين ، وما علم أنه محال في حقّه ، وإن فني في الحق وبقي به ، إذ ( لا يقتضي ذلك ) أي : الاتصاف بالقدرة الحقيقية .
قال رضي الله عنه : ( إلا من له الوجود المطلق ) ، والباقي بالحق ليس له ذلك ، وإن تنور بنور خاص من الحق ؛ لأنه معلل ببقائه بالحق فلا يكون مطلقا موجودا لذاته .
قال رضي الله عنه : ( فطلب ما لا يمكن وجوده ) من القدرة الحقيقية في حق المخلوق ، وإن بقي بالحق واتصف بصفاته ، لكنه ليس ذلك اتصافا بعين صفاته لامتناع قيام صفة واحدة بموصوفين ، بل غاية ما يمكن من ذلك حصوله بطريق العلم في حق من لم يفن عن نفسه ، ولم يبق بالحق وهو طلب حصوله ( ذوقا ) لا علما ؛ لأن الأنبياء لا يخلون عن علم ذلك .
وقد سأل عن الكيفية في سؤاله المذكور في القرآن ، فالظاهر أنه سأل هنا أيضا عن الكيفية ، فكان سؤاله حصولها له ( ذوقا ، فإن الكيفيات لا تدرك إلا بالأذواق ) إذا لم تكن محسوسة ، ولا معقولة ، والشيء لا يحصل بالذوق لمن ليس فيه دلالة استعداده ، فوقع العتب عليه بقطع الوحي ، وعدم الإجابة إلى سؤاله بعد ما قال له أولا: ( لئن لم تنته لأمحونّ اسمك عن ديوان النبوة ).

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا ما رويناه ممّا أوحى اللّه به إليه لئن لم تنته لأمحونّ اسمك من ديوان النبوّة ، أي أرفع عنك طريق الخبر وأعطيك الأمور على التّجلّي ، والتّجلّي لا يكون إلّا بما أنت عليه من الاستعداد الّذي به يقع الإدراك الذّوقي ، فتعلم أنّك ما أدركت إلّا بحسب استعدادك فتنظر في هذا الأمر الّذي طلبت ، فلمّا لم تره تعلم أنّه ليس عندك الاستعداد الّذي تطلبه وأنّ ذلك من خصائص الذّات الإلهيّة ، وقد علمت أنّ اللّه أعطى كلّ شيء خلقه ؛ فإن لم يعطك هذا الاستعداد الخاصّ ، فما هو خلقك ، ولو كان خلقك لأعطاكه الحقّ الّذي أخبر "أنّه أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ" [ طه : 50 ] ، فتكون أنت الّذي تنتهي عن مثل هذا السّؤال من نفسك ، لا تحتاج فيه إلى نهي إلهي وهذه عناية من اللّه بالعزير عليه السّلام علم ذلك من علمه وجهله من جهله ) .

وأشار إلى أن ذلك العتاب ليس هو قوله : " لئن تنته . . . إلى آخره " ، بل هو عتابه يتبين به استحالة حصول مسئوله بطريق الكشف .

فقال : ( وأما ما رويناه فيما أوحى اللّه به إليه ) فيه إشارة إلى أنه كيف يكون عتابا يقطع الوحي ، وهو عين الوحي ( لئن لم تنته لأمحون اسمك عن ديوان النبوة ) ، كيف وليس إشارة إلى عزل عن النبوة ، فإن الأنبياء - عليهم السّلام - معصومون عن ذلك بالإجماع .

 
فمعناه ما ذكره الشيخ - رحمه اللّه - ( أي : أرفع عنك طريق الخبر ) أي : الوحي في بيان استحالة حصول هذا المسؤول لقصوره عن إفادة الظمآنية .
( وأعطيك الأمور ) أي : حقائق الأشياء ( على التجلي ) أي : تجلي العلم الإلهي الشامل ما عليها المفيد للظمآنية لكمال ما فيه .
وحينئذ يتبيّن لك استحالة حصول مسئولك إذ ( التجلي لا يكون إلا بما أنت عليه من الاستعداد ) ، وإنما كان هذا التجلي مفيدا للظمآنية إذ هو ( الذي يقع به الإدراك الذوقي ) ، وهو فوق الإدراك بالحس والعقل ، وإنما تبيّن استحالته مع أنه لا ثبات للأمر المحال أصلا ؛ لأن الاطلاع على هذا العلم الإلهي .
وإن لم يفد للعبد الاطلاع على جميع ما فيه يفيده الاطلاع على جميع ما في استعداده ، ( فتعلم أنك ما أدركت ) شيئا مما أدركته ( إلا بحسب استعدادك ) الذي اطلعت فيه على كله ، ( فتنظر ) أي : تتأمل ( في هذا الأمر الذي طلبته ) على ظن عدم استحالته ، ( فلما لم تره ) مع رؤية كل ما كان في استعدادك ( تعلم أنه ليس عندك الاستعداد الذي يطلبه ) لحصول مسئولك ، فينكشف لك استحالة هذا الأمر في حق المخلوق بطريق الذوق .
قال رضي الله عنه : ( وأنه من خصائص الذات الإلهية ) بحيث لا يمكن أن يحصل لغيره تعالى ، وإن اطلع على علمه ؛ فهو إنما ثبت في العلم الإلهي لا مكانة في حقه ، ولا ثبات له من حيث الاستحالة في موضع أصلا ، فهو إنما يعرف ذوقا بهذا الطريق ، وكيف لا تعلم ذوقا أنه محال في حقّك.
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقد علمت أن اللّه أعطى كل شيء خلقه ، ولم يعطك هذا الاستعداد الخاص ؛ فما هو خلقك ) ؛ وذلك لأنه ( لو كان ذوقك لأعطاكه الحق ) ، وإن لم يجب عليه شيء بالنظر إلى علو رتبته ، فلا ينافي ذلك وجوب شيء عليه بحسب سنته وحكمته ، ومقتضى خبره الصدق ووعده الحق ؛ فإنه ( الذي أخبر أنه "أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ" )[ طه : 50 ] .

وإذا علمت استحالة ذلك بهذا الكشف  فتكون أنت الذي تنتهي عن مثل هذا السؤال من نفسك لا تحتاج فيه إلى نهي الإلهي ) ، وإن أمكن في حق مخلوق إذا رأيت استحالته في حقك ، فكيف إذا علمت استحالته في حق الكل .
وهذا الخبر على هذا التأويل ليس عتابا ولا زجرا سابقا عليه ، بل هو ( عناية من اللّه بعزير عليه السّلام في بيان استحالة مسئوله ) بحيث يفيده الطمأنينة الكلية فيه ( علم ذلك من علمه ) ، فأوله بما ذكرنا ، ( وجهل ذلك من جهله ) ، فظنه عتابا أو زجرا سابقا عليه .
ثم استشعر سؤالا بأنه كيف يكون قوله : « لأمحونّ اسمك عن ديوان النبوة » رواه ابن قتيبة في المعارف وكذلك الغزالي في الإحياء وغيرهما.
عناية مع أنه وعيد بمحو رتبة النبوة التي كانت له مع الولاية إذ غاية العناية على ما ذكر ؟ ثم إنه نقله إلى محض الولاية .
فأجاب بأن المحو لا بدّ من وقوعه في حقّ الأنبياء بعد الموت ، فمرجعهم إلى محض الولاية مع أنها لا تنزل لهم عن حالهم ، فذلك بتكميل ولايتهم ، وجعلها أتم مما كانت لهم مع النبوة ، وإن كانت ولاية النبيّ حال نبوته أكمل من ولاية كل ولي غير نبي ، إذ لا نهاية لمراتب القرب من اللّه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم أنّ الولاية هي الفلك المحيط العامّ ، ولهذا لم تنقطع ، وله الإنباء العامّ ، وأمّا نبوّة التّشريع والرّسالة فمنقطعة ، وفي محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم قد انقطعت ، فلا نبيّ بعده مشرّعا أو مشرّعا له ولا رسول وهو المشرّع ، وهذا الحديث قصم ظهور أولياء اللّه ؛ لأنّه يتضمّن انقطاع ذوق العبوديّة الكاملة التّامّة ، فلا ينطلق عليه اسمها الخاصّ بها ؛ فإنّ العبد يريد ألا يشارك سيّده وهو اللّه في اسم ؛ واللّه لم يتسمّ بنبيّ ولا رسول ، وتسمّى بالوليّ واتّصف بهذا الاسم ؛ فقال :"اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا"[ البقرة : 257 ] ، وقال :"وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ"[ الشورى : 28 ] ، وهذا الاسم باق جار على عباد اللّه دنيا وآخرة .
فلم يبق اسم يختصّ به العبد دون الحقّ بانقطاع النّبوّة والرّسالة ، إلّا أنّ اللّه لطيف بعباده ، فأبقى لهم النّبوّة العامّة الّتي لا تشريع فيها ، وأبقى لهم التّشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام ، وأبقى لهم الوراثة في التّشريع ؛ فقال : « العلماء ورثة الأنبياء »  ، وما ثمّة ميراث في ذلك إلّا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام فشرعوه .
فإذا رأيت النّبيّ يتكلّم بكلام خارج عن التّشريع ؛ فمن حيث هو وليّ عارف ، ولهذا ، مقامه من حيث هو عالم ووليّ أتمّ وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع ) .

وقدّم لبيان ذلك مقدمة ؛ فقال : ( واعلم أن الولاية هي الفلك المحيط ) بالكمالات ( العامة ) للموجودات الكاملة ، حتى أن كل مؤمن ولى من وجه ، وإن لم يسم بذلك عرفا لدنو رتبة في ذلك إن كان من العوام ، وكذا كل نبي ورسول وولي ، وإن لم يسم بذلك لعدم ظهوره به في العموم ، واللّه تعالى قد يسمى بذلك ؛ ( ولهذا ) أي : ولإحاطتها بالكمالات ( لا تنقطع ) لعدم تناهي الكمالات ، وانقطاع ما لا نهاية له محال ولعمومها الأنبياء الأولياء ( لها الإنباء العام ) للأنبياء الأولياء عن حقائق الموجودات ، وإن اختص بعضهم ببعض الحقائق  والمراتب كالرسل.

قال رضي الله عنه : ( أما نبوة التشريع ) التي بها أنباء الأحكام العلمية ، ( والرسالة ) تبلغها إلى العامة ، ( فمنقطعة ) بجوار انقطاع بعض أفراد غير المتناهي ، وإن لم يكن انقطاعه بكليته ، وقد وقع ذلك في حقّ الأنبياء - عليهم السّلام - فكيف ( وفي حق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ) مع عدم تناهي كمالاته ، ( فقد انقطعت ) له هذه الرتبة الخاصة.
وإن زادت مراتب قوية من ربه ، (فلا نبي بعده مشرعا ) أي : أتيا بشرع خاص ، ( ومشرعا له ) أي : مجعولا شرع من تقدمه شرعا له يتكلم في تأويله بالوحي بحيث يكون تأويله حجة بخلاف تأويل المجتهد ، ولو وليّا من العامة ، فربما لا يكاشفون بأسرار الشريعة ، وإن كوشفوا فلا يكون كشفهم حجة على غير .

ولهذا اختلفت الصحابة مع أن بعضهم أولياء ( ولا رسول ، وهو المشرع ) ، فهو أخص من النبي ، وإن كان أخص من الولي ، ( وهذا الحديث ) أي : شأن انقطاع النبوة التشريعية والرسالة ( قصم ) أي : كسر ( ظهور أولياء اللّه ) التي بها قوة ولايتهم ، وهي كمال العبودية.
قال رضي الله عنه :  ( لأنه يتضمن انقطاع ذوق العبودية الكاملة ) حقيقة ، ومعنى العامة صورة ولفظا ، ( فلا ينطلق عليه ) أي : على الولي ( اسمها ) بالحقيقة ؛ لاختصاص الاسم المطلق بالمسمى الكامل ، وكمال الولي في عبوديته التي هي أصله ، وكمال كل شيء فيما يتميز به عما عداه لا فيما يشاركه .
قال رضي الله عنه : ( فإن العبد يريد ) أي : يقتضي حاله ( ألا يشارك ) سيده ، وهو أي : ( سيده هو اللّه في اسم ) ، وإن شاركه في اسم آخر ليتميز به عنه ، كما أن سيده اختص باسم هو اللّه لا يشاركه العبد فيه قال تعالى :"هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا"[ مريم : 65 ] .
والمراد اسم يدل على كمال المعنى ، وتمام الصورة ، وإلا فلفظ العبد مختص بالعبد ، فذلك الاسم إما الرسول أو النبي أو الولي ، لكن الأخير غير مختص بالعبد الأولان يختصان به ؛ وذلك لأن ( اللّه تعالى لم يتسم بنبي ، ولا رسول ، ويسمى بالولي ) إذ ذكر في أسمائه ، واتصف بهذا الاسم في كتابه ، فقال :"اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا" [ البقرة : 257] .
بالإضافة ، وقال أيضا بدون الإضافة :"وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ" [ الشورى : 28 ] .
ثم رجع إلى المقصود من بقاء الاسم غير المخصوص مع عدم بقاء الاسم المخصوص.

فقال : ( وهذا الاسم ) أي : الولي ( باق ) يعني ( جار ) لفظا فيه إشارة أنه لا غيره بلفظ العارف والمصلي والمزكي والصائم ، فإن العارف في المعنى قريب من العالم ، فهو كالباقي في حق اللّه ، وإن لم يجر عليه ، والألفاظ الباقية كالجارية عليه لفظا ، وإن لم تبق في حقّه معنى ، كما في قوله تعالى : "هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ" [ الأحزاب : 43].

وقوله : "وَلا يُزَكِّيهِمْ" ، فإنه يدل على أنه يزكي غيرهم ، وقوله :" وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ " [ الأنعام : 14 ] ، فإنه يقرب من معنى الصائم ( على عباد اللّه ) الأنبياء الأولياء ( دنيا وأخرى ) قبل دخول الجنة والنار وبعدها .
وقد شاركهم فيه مولاهم ، ( ولم يبق اسم يختص به العبد دون الحق بانقطاع النبوة والرسالة ) بعد دخول الجنة أو النار على ما يأتي بالكلية ، وكذا بموت الأنبياء والرسل الذين بعثوا في الدنيا ، فلم يبق في حقهم وحق الأولياء من أمتهم اسم يدل على العبودية الكاملة التامة ، فانقطع ذوقها فقصم ذلك ظهورهم ( إلا أن اللّه لطيف بعباده ) الأولياء التابعين للأنبياء ترك لهم نصيبا من هذا الاسم جبرا لخواطرهم ، ( فأبقى لهم النبوة العامة ) الأنبياء الأولياء ، وهي الإنباء عن اللّه تعالى ، وعن حقائق الموجودات ( التي لا تشريع فيها ) ، وهو اسم خاص العباد باق فيهم معنى ، وإن لم يجر عليهم لفظا ، وهذا في حق الأولياء وأيضا ( أبقى لهم التشريع ) من غير إنباء عن اللّه ( في الاجتهاد في ثبوت الأحكام ) غير المنصوصة في حق المجتهدين من العلماء ، وأيضا ( أبقى لهم الوراثة في التشريع ) ، وهذا في حق جملة العلماء .
 

( فقال : العلماء ورثة الأنبياء ) والوراثة في الأحكام المنصوصة ظاهر ( وما ثمة ) أي : في المسائل غير المنصوصة ميراث ( في ذلك ) أي : نبوة التشريع ( إلا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام ، فشرعوه ) أي : في جعلهم تلك الأحكام لاحقة بالأحكام المنصوصة باجتهادهم ، فإن المجتهد إذا ظن الحكم وجب عليه الفتوى والعمل به عليه ؛ فعلم مما ذكرنا أن الأنبياء جامعون بين النبوة التشريعية والرسالة والولاية .

قال رضي الله عنه : ( فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع ) ، فالتكلم في أحوال الصوفية ومقاماتهم ، وفي الحقائق التي لا يصح كشفها للعامة ، وبالجملة ما وراء الأحكام الفرعية والأصلية التي يجب على العامة اعتقادها ، ( فمن حيث هو ولي عارف ) أوردهما ؛ ليشير أن نبوتهم العامة باقية من هذين الوجهين فيهم ، وفي أتباعهم الذين هم في حكمهم ؛ ( ولهذا ) أي : ولبقاء اسم الولي والعارف عليهم بعد انقطاع النبوة التشريعية والرسالة عنهم مع أنهم لا ينزلون عن درجتهم العالية بالإجماع ( مقامه من حيث هو عالم ) بالحقائق .

قال رضي الله عنه : ( وولي ) عامل بمقتضى علمه يحصل علمه بالكشف ( أتم وأكمل ) منه ( من حيث هو رسول ) مبعوث إلى الخلق أو ( ذو تشريع ) أي : ( شرع ) متسابق أو شرع سابق ، ولكنه مخصوص بولاية النبي لاستقلالها ، وعدم توقفها على أعمال ظاهرة يتابع فيها النبي السابق بخلاف ولاية الولي .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا سمعت أحدا من أهل اللّه يقول أو ينقل إليك عنه أنّه قال : الولاية أعلى من النّبوّة ، فليس يريد ذلك القائل إلّا ما ذكرناه ، أو يقول : إنّ الوليّ فوق النّبيّ والرّسول ، فإنّه يعني بذلك في شخص واحد ، وهو أنّ الرّسول من حيث إنّه وليّ أتمّ منه من حيث إنّه نبيّ ورسول ، لا أنّ الوليّ التّابع له أعلى منه ؛ فإنّ التّابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه ، إذ لو أدركه لم يكن تابعا ؛ فافهم .
فمرجع الرّسول والنّبيّ المشرّع إلى الولاية والعلم ) .

قال رضي الله عنه : ( فإذا سمعت أحدا من أهل اللّه يقول ) بخلاف ما يسمع من الكرامية القائلين بتفضيل الولي عن النبي ، ومن ملحدة المتصوفة ، ( أو ينقل إليك عنه أنه قال : الولاية أعلى من النبوة ، فليس يريد ذلك القائل ) من أهل اللّه ( إلا ما ذكرناه ) من تفضيل ولاية النبي على نبوته التشريعية ورسالته ، أو ينقل إليك بعبارة توهم المغايرة بين صاحبيهما ( بأن يقول : إن الولي فوق النبي والرسول ؛ فإنه يعني ذلك في شخص واحد ) .
فإن لفظه عام خص عند صورة المغايرة ، ( وهو ) أي : معناه في شخص ( أن الرسول ) الجامع بين النبوة والرسالة والولاية ( من حيث هو ولي ) ( أتم منه من حيث هو نبي ورسول) ، فإنه يجوز تفضيل الشيء على نفسه إذا تغايرت فيه الجهات .
كما يقال : الإنسان من حيث ناطقيته أفضل منه من حيث حيوانيته ، فإنه بالناطقية يشارك الملائكة ، وبالحيوانية الدواب ؛ وذلك لأن ولايته باقية غير متوقفة على أمور غير باقية ، وهي الأعمال الظاهرة في الابتداء والانتهاء ( لا أن الولاية الولي التابع له ) في الأعمال الظاهرة التي بها تفارق ولايته الاستدراج لو أعطى خوارق العادة بدونها ( أعلى منه ) أي : من النبي ، ولو من حيث النبوة ، ( فإن التابع لا يدرك المتبوع فيما هو تابع له فيه ) ، وهو في ولايته تابع لنبوة النبي لما ذكرنا ، فلا تكون ولايته أفضل من نبوة نبي .

قال رضي الله عنه : ( إذ لو أدركه لم يكن تابعا ) ؛ لأنهما إن تساويا ، فليس أحدهما بالتبعية أولى من الآخر ، وإن كان التابع زائدا ؛ فهو بالمتبوعية أولى من التابعية ؛ ( فافهم ) ولا تتوهم أن الولي تابع في الأعمال الظاهرة دون الأحوال والمقامات التي هي ثمرات ذلك ، فإن لم تكن ثمرات بل وهبية ، فلابدّ من توقفها على تلك الأعمال تميزا لها عن الاستدراج ، وإذا كانت النبوة التشريعية والرسالة منقطعتين .

قال رضي الله عنه : ( فمرجع الرسول والنبي المشرع ) بعد انقطاع الرسالة والنبوة التشريعية ، وقيّد النبي بالمشرع احترازا عن صاحب النبوة العامة ، وهم الأولياء وإن لم يطلق عليهم اسم النبي ( إلى الولاية ) المتمحضة ، وهي أكمل من ولايتهم التي كانت لهم مع النبوة ؛ لارتفاع الحجب عنهم بالكلية علو الناطقية التي للإنسان عند لحوقه بالملائكة من ناطقيته التي كانت له مع الحيوانية ، وهو الرجوع إلى العلم باللّه وبالحقائق ، وهو لا ينتهي إلى حد لعدم تناهي علوم

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا ترى أنّ اللّه أمره بطلب الزيادة من العلم لا من غيره فقال له آمرا : بقوله :وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً[ طه : 114 ] ، وذلك أنّك تعلم أنّ الشّرع تكليف بأعمال مخصوصة أو نهي عن أعمال مخصوصة ومحلّها هذه الدّار فهي منقطعة ، والولاية ليست كذلك إذ لو انقطعت لانقطعت من حيث هي كما انقطعت الرّسالة من حيث هي ، وإذا انقطعت من حيث هي لم يبق لها اسم ، والوليّ اسم باق للّه تعالى ، فهو لعبيده تخلّقا وتحقّقا وتعلّقا .
فقوله للعزير : لئن لم تنته عن السّؤال عن ماهيّة القدر لأمحونّ اسمك من ديوان النّبوّة  ، فيأتيك الأمر على الكشف بالتّجلّي ، ويزول عنك اسم النّبيّ والرّسول ، وتبقى له ولايته ، إلا أنّه لمّا دلّت قرينة الحال أنّ هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد علم من اقترنت عنده هذه الحالة مع الخطاب أنّه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية في هذه الدّار ، إذ النّبوّة والرّسالة خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تجري عليه الولاية من المراتب ، فيعلم أنّه أعلى من الوليّ الّذي لا نبوّة تشريع عنده ولا رسالة ).

قال رضي الله عنه : ( ألا ترى أنّ اللّه أمره بطلب الزيادة من العلم لا من غيره ) كالرسالة والنبوة إذ الأولى في الزائل المنقطع الاقتصار على قدر الحاجة ، وإن كان من المراتب العالية المفيدة في الآخرة.
( فقال له ) أي : لأكمل أنبيائه عليه السّلام علما به ( آمرا ) عناية "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" [طه : 114 ] .
لأنه زيادة في المراتب الباقية والزيادة في مراتب الرسالة ، وإن قلنا : إنها لم تتناه إلى حدّ أيضا ليس زيادة إلا في المراتب التي تنفي فينفي عند مفارقتها .
( وذلك أنك تعلم أن الشرع تكليف ) أي : أمر ( بأعمال مخصوصة ) واجبة ومندوبة ، أو مباحة ، ( أو نهي عن أعمال مخصوصة ) محبوبة أو مكروهة ، ( ومحلها هذه الدار ) المنقطعة فينقطع ما فيها ، وإن فرض غير متناه ، ونبوة التشريع والرسالة من أجل هذه الأعمال ، ( فهي منقطعة ) بانقطاع هذه الأعمال المخصوصة بهذه الدار في حق المبعوثين الأنبياء في الدنيا ، وأممهم المكلفين .
قال رضي الله عنه : ( والولاية ليست كذلك ) أي : منقطعة بانقطاع هذه الدار ، ولو في حق الأولياء المتمحضين ، إذ ولايتهم ، وإن كانت ثمرات الأعمال ؛ فلا يلزم من تلف الشجر تلف ثمراتها ، فليست تابعة للأعمال في النهاية ؛ فلا تنقطع ، ( إذ لو انقطعت ) مع عدم تبعيتها لشيء منقطع ( لانقطعت من حيث هي ) ، ( كما انقطعت الرسالة من حيث هي ) ، إذ لا تتصور فيها التبعية لاختصاصها بصاحب الشرع المستقل ؛ لكنه يتصور الانقطاع في  الرسالة ، إذ لا يبقى اسمها صادقا على الولي أصلا ، وعلى الرسول إلا مجازا باعتبار ما كان عليه ، لكن لا يجوز نفي الرسالة عنه لإيهامه التكذيب كنفي القرآن عن هذه الكلمات لإيهام ذلك نفي دلالتها على الكلام الأزلي .
وإن صحّ القول بأن القرآن حقيقة في الألفاظ أيضا فافرض البحث في عدم جواز نفي كلام اللّه تعالى ، فقد وقع الإجماع على أن ما بين دفتي المصحف كلام اللّه ، وكذا المقروء والمحفوظ مع أن الكلام الحقيقي هو القائم بذات اللّه تعالى ، وكذلك لا يجوز نفي المؤمن عن النائم لإيهامه كفره مع أنه لا تصديق له بالفعل حالة النوم ، بل غايته أن يجعل في حكم الباقي .

( فإذا انقطعت الولاية لم يبق لها اسم ) يصدق حقيقة على أحد ، ولكنه باطل ، فإن ( الولي اسم باق للّه ) ، وإذا كان له بقاء في الجملة مع أنه ليس تابعا في النهاية للأعمال في حق الأولياء في البداية أيضا في حق الأنبياء ، وهي الأسماء الجميلة التي تقتضي الظهور ، ( فهو لعبيده ) الأنبياء الأولياء ( تخلقا ) يؤثر بها العبد في نفسه ، ( وتحققا ) يؤثر بها في حق غيره ، ( وتعلقا ) يتأثر بها عن ربه .
ثم رجع إلى المقصود بعد بيان المقدمة ، فقال : ( قوله عزّ وجل للعزير (، وإذا كانت الولاية مرجعا للرسل والأنبياء بعد انقطاع الرسالة والنبوة ، وهذا القول ( لئن لم تنته ) يا عزير (عن السؤال عن ماهية القدر لأمحونّ اسمك من ديوان النبوة ) .

وهو عين السؤال عن الاطلاع على أعيان الممكنات من حيث مفتاحيتها الموجب للعتب لاستحالة حصول المسؤول عنه فيه بخلاف هذا السؤال .
فمعناه : إني أقطع عنك طريق الخير الذي لا يتم فيه الذوق ، (فيأتيك الأمر على الكشف بالتجلي) أي : الكشف عن أعيان الموجودات واستعدادتها لا من حيث مفاتيحها بتجلي العلم الإلهي من جهة ولايتك ، والولاية وإن اجتمعت مع النبوة والرسالة ، ولكن ( يزول عنك اسم النبي والرسول ) قبل أوان زواله.
وهو الموت أو دخول الجنة والنار إذ لا فائدة في الإخبار بالوحي لمن تجلي له هذا العلم الإلهي بما فيه على أتم الوجوه بخلاف تجليه للأولياء من العامة ؛ لأن رؤيتهم الأشياء في هذا العلم أقصر مما يحصل بالوحي للنبي عليه السّلام ، فإن من رأى الشيء من بعد يحتاج إلى إخبار من رآه عن قرب وحقق ما فيه .
ولهذا يحتاج الولي من العامة في صحة كشفه إلى شواهد الكتاب والسنة وإجماع الأمة بخلاف الأنبياء ، ويدل على هذا قوله تعالى :”عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ”[ الجن : 26 ] أي : إظهارا تامّا ( على غيبه ) أي : على ما في الغيب ( أحدا إلا من ارتضى ) ممن كملت ولايته من رسول ، وأما سائر الرسل ، والأنبياء ، وعامة الأولياء ، فيقصرون عن كمال هذه الرتبة ، ( وتبقى له ) أي : للمتجلى له عالم الغيب من الرسل.
 (ولايته ) أي : ولاية الرسول ، ولا تصير كولايته من تمحض وليّا من أول الأمر ؛ فإنها تقصر عن كمال هذه الرتبة ، والرسل أهل العناية ، وكذا الأنبياء لا تقصر رتبتهم بعد كمالها .

"" أضاف المحقق : اعلم أنه لما كان للنبي جهتان : جهة ولاية ولها شرف حال ، وجهة نبوة ولها فضيلة وكمال ، فعند كشف سر القدر بالتجلي يقوم مقام الولاية ويضمحل مقام النبوة والرسالة لقوة الاختصاص والتوغل في التأله ، فالإخبار بمحو النبوة وإزالتها باعتبار أن فيه فوات فضيلة وكمال وعيد ، وباعتبار أن فيه شرفا حال وعد ( شرح الجامي ص 322 ) . ""

 
وهذا التأويل مستقر عندنا إلا أنه خالفنا فيه البعض ؛ ( لأنه لما دلت قرينة الحال ) أي : حال سؤاله عليه السّلام إذ نهى عنه ورتب عليه محو النبوة على ( أن هذا الخطاب ).
أي : لئن لم تنته لأمحون اسمك عن ديوان النبوة ( جرى مجرى الوعيد ) ، وإن كان وعدا بالكشف عن التجلي المذكور ، إذ ( علم من اقترنت عنده هذه الحالة ) أي : ترتب محو النبوة على النهي عن السؤال ( مع الخطاب أنه وعيد ) ، وإن نفيت ولايته التي كانت له حال النبوة والرسالة تامة في حقّ التجلي المذكور ( بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية ) فلا يكون تمامها كتمام ولاية النبي والرسول .

وإن كان من شأن تلك الرتبة الانقطاع بالموت أو دخول الجنة والنار لكنها كمال لهم ما داموا في الدنيا ، وقد أوعده اللّه تعالى بانقطاعها ( في هذه الدار ) ، وإنما قلنا : إنه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية ، ( إذ النبوة والرسالة ) ، وإن تميزتا عن الولاية فهما (خصوص رتبة في الولاية ) ، إذ لها مزية (على بعض ما تجري عليه الولاية من المراتب) ؛ فإنها أعلى من مراتب سائر الأنبياء من الفناء في اللّه ، والبقاء به ، والجمع والتوحيد والتفريد ، (فيعلم) هذا المخالف ( أنه ) أي : الباقي على رتبة نبوته ورسالته ( أعلى من الولي الذي لا نبوة تشريع ، ولا رسالة عنده ) سواء بمحوهما عنه أو لا بمحوهما عنه ؛ إلا أن من انقطعت عنه الرسالة أو دخول الجنة والنار ، ولا تنزل رتبته لا حاجة إلى ذلك ، ولا تبقى رتبته في الولاية بخلاف الآن ، فحين كونها رتبة خاصة فيها إذا أشير بمحوها يكون وعيدا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ومن اقترنت عنده حالة أخرى تقتضيها أيضا مرتبة النّبوّة يثبت عنده أن هذا وعد لا وعيد ؛ فإنّ سؤاله عليه السّلام مقبول إذ النّبيّ هو الوليّ الخاصّ ، ويعرف بقرينة الحال أنّ النّبيّ من حيث له في الولاية هذا الاختصاص محال أن يقدم على ما يعلم أنّ اللّه يكرهه منه أو يقدم على ما يعلم أنّ حصوله محال ، فإذا اقترنت هذه الأحوال عند من اقترنت عنده وتقرّرت أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده في قوله : « لأمحونّ اسمك من ديوان النّبوّة » مخرج الوعد ، وصار خبرا يدلّ على علوّ مرتبة باقية ، وهي المرتبة  الباقية على الأنبياء والرّسل في الدّار الآخرة الّتي ليست بمحلّ لشرع يكون عليه أحد من خلق اللّه في جنّة ولا نار بعد الدّخول فيهما ).

ثم أشار إلى التقصي عن هذه الشبهة ؛ فقال : ( ومن اقترنت عنده ) فحال سؤاله المقتضية نقص رتبة خاصة من الولاية هي نبوة التشريع ، والرسالة ( حالة أخرى ) تقتضي زيادة مرتبة أخص من الولاية بدل تلك المرتبة تكمل بها ولايتهم أكبر من كمالها حال النبوة المقتضية كمالها بالنسبة إلى ولاية العامة من الأولياء ( تقتضيها ) أي : تلك الحالة ( أيضا مرتبة النبوة ) ، وإن انقطعت من حصول تلك الحالة من حيث أن هذه الرتبة مانعة من التنزل من أعلى إلى أدنى ، وهذه الرتبة هي رتبة كمال الاصطفاء للمخصوصة بهم اقتضت أولا رتبة النبوة ، ورتبة خاصة من الولاية ، ثم أخص منها عوضا عنها .
قال رضي الله عنه :  ( يثبت عنده ) أشار بصيغة المضارع إلى استمرار هذا الثبوت من الحال إلى الاستقبال (أن هذا) أي : قوله : " لأمحون اسمك عن ديوان النبوة " .

.
يتبع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 1:43 pm

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي
الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ العزيري
14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية      الجزء الثالث
وإن تضمن زوال هذه الرتبة الخاصة ؛ فهو ( وعد ) بتعويض رتبة أخص بجعل ولايته أكمل مما كانت حال النبوة ( لا وعيد ) ، وإن زالت جمعيته بين النبوة والولاية تكن كملت ناطقيته بإلحاقه بالملائكة ، وسلبت جمعيته منها وبين الحيوانية ، وكيف يكون وعيدا ، وهو إنما يتصور عند ردّ وسؤاله غير مردود كان ( سؤاله عليه السّلام مقبول ) ، وكيف يرد سؤال الولي من العوام ، وهذا من خواصهم .
قال رضي الله عنه :  ( إذ النبي هو الولي الخاص ) ، وإن سلم رد سؤال الولي من العوام ؛ لأنه لقصوره يجوز أن يسأل ما يكرهه أو يقدم على ما يعلم أن حصوله محال ، إذ ( يعرف بقرينة الحال ) أي : حال هذا السائل الذي هو النبي الكامل الولاية ( أن النبي من حيث أن له في الولاية هذا الاختصاص ) بحيث لا ينزل من أعلى إلى أدنى أصلا ، وإن انقطعت نبوته .

قال رضي الله عنه :  ( محال أن يقدم على ) سؤال (ما يعلم أن اللّه يكرهه منه أو يقدم على ما يعلم أنّ حصوله محال ) هو كما توهم ذلك القائل في سؤال عزير عليه السّلام عن ماهية القدر أو يقدم على ما يعلم أن حصوله محال .
وإنما سأل عن الاطلاع على أعيان الموجودات من حيث مفتاحيتها لعدم علمه باستحالته ثم علم ذلك ، وعلم من بعده بما جرى عليه ، وبقوله تعالى :"عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ"[ الأنعام : 59 ] .
قال رضي الله عنه :  ( فإن اقترنت هذه الأحوال ) وهو عدم تنزل النبي عن درجة أعلى إلى أدنى ، وأنه لا يقدم في سؤاله على المكروه والمحال مع علمه بذلك ، وإن سؤاله مقبول لا محالة لكمال ولايته بسؤاله عن ماهية القدر التي لا تستحيل معرفتها لعامة الأولياء فضلا عن الأنبياء.


( عند من اقترنت عنده ) أي : من يعتبر اقترانها ، ( وتقررت ) بحيث لا تزيلها شبهة [ ظاهرة ] تكون كالجامع بين النبوة والولاية .
قال رضي الله عنه :  ( أخرج هذا الخطاب الإلهي ) أي : الذي خاطب اللّه به عبده ، وهو لا يشأ بخطأ له من ليس من أهل اصطفائه ، وإنما خاطب إبليس بواسطة الملائكة عنده أي : عند سؤاله عن أو غير مكروه ولا محال ، وإن كان هذا الخطاب مصبوبا في قالب الزجر والعنف جاريا مجرى الوعيد ( في قوله : لأمحونّ اسمك عن ديوان النبوة مخرج الوعد ) بتفويض رتبة أخص من المسلوبة ، فصار ما هو إنشاء وعيد في الصورة خبرا يدل على حصوله علو رتبة في ولايته أخص من رتبة النبوة ، ومع ذلك هذه الرتبة باقية ، ورتبة الولاية العامة ، وإن بقيت لا تبلغ هذه الرتبة .
إذ ( هي الرتبة الباقية على الأنبياء والرسل ) الذين لا ينزلون عن رتبة أعلى إلى أدنى سيما إذا انتقلوا إلى الدار الآخرة ، فيؤتون هذه الرتبة من الولاية ( في الدار الآخرة ) عوضا عن نبوتهم ورسالتهم لانقطاعهما بالكلية ؛ لأنها الدار .

قال رضي الله عنه :  ( التي ليست بمحل لشرع يكون على أحد من خلق اللّه ) لا نبي مشرع ، ولا مشرع له ، ولا مجتهد ، ولا عامي بعمل شيء من ذلك ( في جنة أو نار ) ، وهما دار الجزاء المترتب على ذلك العمل ، فلو كان ثم عمل لكان لأهلها دار جزاء أخرى ، فلا يتصور شرع يعمل به أحد ( بعد الدخول فيهما ) بخلاف ما قبله ؛ فإنه ليس بدار جزاء ، فيتصور فيه التكليف بل هو واقع.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنّما قيّدناه بالدّخول في الدّارين الجنّة والنّار لما شرّع يوم القيامة لأصحاب الفترات والأطفال الصّغار والمجانين ، فيحشر هؤلاء في صعيد واحد لإقامة العدل والمؤاخذة بالجريمة والثّواب العملي في أصحاب الجنّة ، فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل عن النّاس بعث فيهم نبيّ من أفضلهم ، وتمثّل لهم نار يأتي بها هذا النّبيّ المبعوث في ذلك اليوم ؛ فيقول لهم : أنا رسول اللّه إليكم ، فيقع عندهم التّصديق به ويقع التّكذيب عند بعضهم ، ويقول لهم : اقتحموا هذه النّار بأنفسكم ، فمن أطاعني نجا ودخل الجنّة ، ومن عصاني وخالف أمري هلك ، وكان من أهل النّار ؛ فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها سعد ونال الثّواب العملي ، ووجد تلك النّار بردا وسلاما ، ومن عصاه استحقّ العقوبة فدخل النّار ، ونزل فيها بعمله المخالف ليقوم العدل من اللّه تعالى في عباده ) .

كما أشار إليه بقوله : ( وإنما قيدناه ) أي : انقطاع الشرع والتكليف المستلزم به انقطاع النبوة التشريعية والرسالة ( بالدخول في الدارين الجنة والنار ) بيّن لئلا يتوهم أن المراد البرزخ والقيامة ( لما شرع يوم القيامة )، وهو من وقت النفخة الأولى الثانية إلى دخول الكل الجنة والنار ( لأصحاب الفترات ) أي : الذين كانوا في وقت فترة النبوة ومحو شرائع الأنبياء لم تبلغهم دعوتهم ولا شرائعهم .

قال رضي الله عنه :  (والأطفال الصغار ) الذين لا يعقلون التكليف ، فإن من عقله من غير البالغين في حكم المكلفين يوم القيامة ، فإن التكليف حقيقة منوط به ، وإنما نيط بالسن والاحتلام للضبط في حقّ الدنيا ، ( والمجانين ) الذين كانوا من حين وقت التعقل من الصبا إلى الموت على الجنون لم يعقلوا التكليف أصلا ، أنه لا بدّ من دخول إحدى داري الجزاء المترتب على التكليف الذي لم يتحقق لهم في الدنيا ، فلابدّ من تحققه في حقهم بعد الخروج عنها .

قال رضي الله عنه :  ( فيحشر هؤلاء ) الذين لم يتحقق تكليفهم في الدنيا لعدم تعقلهم إياه ( في صعيد واحد ) ؛ لئلا يقول بعضهم : إنه لم يبلغه دعوة هذا النبي ، ولا يحتاج إلى تعديده في مدة قريبة اقتصارا على قدر الحاجة ؛ ( لإقامة العدل ، والمؤاخذة بالجريمة ) في حق المعذب منهم لم يقل في أصحاب النار اكتفاء بما يقول في ضده ، وإقامة ( الثواب العملي في أصحاب الجنة ) والثواب الفعلي ، وإن كان أيضا في الجنة ؛ فليس من حيث إنها دار الجزاء وذا خلاف وضعها .

قال رضي الله عنه :  ( فإذا حشروا في صعيد واحد ) ليكون أقرب إلى اجتماع كلمتهم على التصديق به ( بمعزل عن الناس ) ؛ لئلا يدعوا متابعة آبائهم الناجين ، ولا يقلدوا من روا فيه النجاة من غيرهم ( بعث فيهم نبي ) لعقلهم التكليف حينئذ ( من أفضلهم ) ؛ لأن أهل الفصل أبعد من تهمة الكذب ، ( ويمثل لهم نارا ) ، أي : يأتي بها من عالم المثال ابتلاءهم وإيهام إخراقها من دخلها من غير أن تكون محرقة بالحقيقة .

قال رضي الله عنه :  ( يأتي بها هذا النبي ) لا ملك ؛ إذ يقع التصديق به حينئذ ضروريّا ( للمبعوث في ذلك اليوم ) لا المشهور بالنبوة قبله ، إذ يكون تصديقه ضروريّا إذا بلغهم الخبر من يحشر المكلفين إذا علموا بذلك ، ( فيقول لهم : أنا رسول الحق إليكم ) لم يذكر معجزته ؛ لأن كونه من أهل الفضل كاف من أن يكذب على الحق سيما في ذلك اليوم ، ( فيقع عندهم ) أي : في قلوب جميعهم (التصديق) القلبي ( به ) ، أي : بكونه رسول الحق إليهم ، ولكن لا يذعن بعضهم لهذا التصديق ، وحينئذ (يقع التكذيب عند بعضهم ،ويقول لهم: ) هذا النبي في التكليف العملي ( اقتحموا هذه النار بأنفسكم ) أي : باختياركم .

قال رضي الله عنه :  ( فمن أطاعني ) بالتصديق والعمل ( نجا ) من حرقة هذه النار ونار جهنم ، ( ودخل الجنة ) ، فإن صدقه ولم يعمل به لم ينج ، ولكن سيدخل الجنة بعد حين ، ( ومن عصاني ) بالتكذيب ، (وخالف أمري هلك) بالكفر والمعصية العملية جميعا ، ( وكان من أهل النار ) أبدا ، وإن لم يكن مكلفا في الدنيا ، ( فمن امتثل أمره منهم ) لإطاعته بالتصديق والعمل ، ( ورمى بنفسه فيها ) من غير أن يشير إلى غيره بجذب أو دفع وذلك لقوة إيمانه وتصديقه ، ( سعد ) بالنجاة عن نار جهنم ، ( ونال الثواب العملي ) بدخول الجنة ، وزيد له فيها ما زيد تفضلا مع قصور عمله ، ( ووجد تلك النار بردا وسلاما ) إذ كانت من عالم المثال لا محرقة بالحقيقة ، ( ومن عصاه ) بالتكذيب وترك العمل ( استحق العقوبة ) عليهما ، ( فدخل النار) أي : نار جهنم ، وليس ذلك بظلم في شأنه لقصور مدة عمله .
إذ ( نزل فيها بعمله المخالف ) لمقتضى التكليف ، فهو ينزل منزلة من أنكر أمر الملوك يستحق القتل ؛ ليقوم العدل من اللّه في عباده ، ولا يكون متحكما بالإثابة والانتقام ، وإن كان متفضلا في حق من أثاب ، لكن الحكمة تقتضي ألا يدخل دار وضعت للجزاء لا للجزاء بالقصد الأول
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك قوله تعالى :يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ[ القلم : 42 ] ، أي : أمر عظيم من أمور الآخرة " وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ" [ القلم : 42 ] ، تكليف وتشريع فيهم ، فمنهم من يستطيع ، ومنهم من لا يستطيع ، وهم الّذين قال اللّه تعالى فيهم :" وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ" [ القلم : 42 ] ، وهذا كما لم يستطع في الدّنيا امتثال أمر اللّه بعض العباد كأبي جهل وغيره ؛ فهذا قدر من الشّرع في الآخرة يوم القيامة قبل دخول الجنّة والنّار ، فلذا قيّدناه ، والحمد للّه ربّ العالمين .)


ثم أشار إلى تكليف آخر يوم القيامة ؛ فقال رضي الله عنه  : ( وكذلك ) أي : ومثل تكليف أصحاب الفترات والأطفال الصغار والمجانين بما ذكرنا يوم القيامة فيه تكليف آخر يدل عليه السلام .

قال رضي الله عنه :  ( قوله تعالى :"يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ" [ القلم: 42 ] أي : عن أمر عظيم من أمور الآخرة ) يكشف عن ساق من وقع في الدنيا في مثله عند السعي فيه ، إذ تظهر فيه الهيئات الحاصلة للأرواح على الأعمال "وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ" [ القلم : 42 ] ؛ لتظهر تلك الهيئات فيهم ، فيفتضحوا برذائلها ويبتهجوا بفضائلها ، فهذا الدعاء إلى السجود ( تكليف ) ، وكل تكليف (تشريع ) ، فهو بقاء للنبوة في الجملة ، وإن لم يكن بقاء لشرع من كان نبيّا في الدنيا ، ( فمنهم من يستطيع ) لحصول هيئة الانقياد لأمر من اللّه لروحه ، ولم يذكره في القرآن اكتفى بالشق الآخر الذي فيه يظهر الافتضاح برذائل تلك الهيئات .

قال رضي الله عنه :  (ومنهم من لا يستطيع ، وهم الذين قال اللّه فيهم :وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ[ القلم : 42 ] ) ، وإن كان المدعو إليه الكل ( فلا يستطيعون ) ، إذ صار عدم امتثالهم أمر اللّه هيئة ظلمانية مانعة لهم من السجود ، وإن اضطروا إليه ، وافتضحوا بتركه ، ( كما لم يستطع في الدنيا امتثال أمر اللّه بعض العباد ) لغلبة الصفات النفسانية التي هي مبادئ هذه الهيئات إلا أنه كان القلع لتلك الصفات هناك ممكنا ، ولو اضطروا هناك هذا الاضطرار لم تمنعهم تلك الصفات من السجود ، وهنا قد امتنع بالكلية ( كأبي جهل ) غلب عليه هيئة الكبر والجهل ، ( وغيره ) كأبي لهب .

قال رضي الله عنه :  ( فهذا ) المذكور من تكليف أصحاب الفترات والأطفال والمجانين والتكليف بالسجود قدر ما يبقى ( من الشرع في الآخرة ) يلزمها بقاء النبوة التشريعية في الجملة ، لكنه إنما يكون ( يوم القيامة ) ؛ لاختصاصه ببيان ما تستحقه الناس من الجزاء .

قال رضي الله عنه :  ( قبل دخول الجنة والنار ) ، إذ لو بين الجزاء فيهما لكان إعطاء الجزاء على سبيل التحكم في أول الأمر.
قال رضي الله عنه :  ( فلهذا ) أي : فلاختصاص انقطاع الشرع والتكليف قيدناه ، أي : الانقطاع بالدخول فيهما ، ( والحمد للّه رب العالمين ) بما جعل لكل شيء دارا مخصوصة ، وقوما مخصوصين عن علم كامل وحكمة بالغة ، ولما فرغ عن بحث سر القدر بالاطلاع على أعيان الموجودات .
وهي رتبة خاصة في الولاية أخذ يبحث في رتبة خاصة في النبوة ، وهي الظهور بها في بطن الأم والمهد والكهولة ؛ فقال : فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:49 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ العيسوي
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
أي : ما يتزين به ويكمل العلم اليقيني الباحث عن رتبة خاصة في النبوة ظهر بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى عيسى بن مريم - عليهما السلام ، إذ ظهر بها في بطن أمه "أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا" [ مريم : 24 ] ، وفي المهد قال :" إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا " [ مريم : 30 ] ، وفي حال الكهولة :" أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ"[ آل عمران : 49 ] إلى قوله :" وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ " [ آل عمران : 49 ] .
"" أضاف المحقق : لفظة النبي التي وردت بالهمز وبدونه ، فبالهمز مشتق من النبأ بمعنى الإخبار فنسب الشيخ حكمته إليه ؛ لأنه أنبأ عن نبوته في المهد بقوله :آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا[ مريم : 30 ] .
وفي بطن أمه بقوله :أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا[ مريم : 24 ] أي : سيدا على القوم بالنبوة ، فله زيادة خصوصية بها ، وبدون الهمز من نبا ينبو بمعنى ارتفع لارتفاعه إلى السماء ، قال تعالى :بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ[ النساء : 158 ] ( شرح الجامي ص  325 ) .""


قال الشيخ رضي الله عنه : 
عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين   .... في صورة البشر الموجود من طين
تكوّن الرّوح في ذات مطهّرة    .... من الطّبيعة تدعوها بسجّين
لأجل ذلك قد طالت إقامته    .... فيها فزاد على ألف بتعيين
روح من اللّه لا من غيره فلذا    .... أحيا الموات وأنشأ الطّير من طين
حتّى يصحّ له من ربّه نسب    .... به يؤثّر في العالي ، وفي الدّون
اللّه طهّره جسما ونزّهه    .... روحا وصيّره مثلا بتكوين
قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أنّ من خصائص الأرواح أنّها لا تطأ شيئا إلّا حيي ذلك الشّيء وسرت الحياة فيه ، ولهذا قبض السّامري قبضة من أثر الرسول الّذي هو جبرائيل عليه السّلام ، وهو الرّوح ، وكان السّامريّ عالما بهذا الأمر ، فلما عرف أنّه جبرائيل ، عرف أنّ الحياة قد مرت فيما وطئ عليه ، فقبض قبضة من أثر الرّسول بالضّاد أو بالصّاد أي بملء يده أو بأطراف أصابعه ، فنبذها في العجل فخار العجل ، إذ صوت البقر إنّما هو خوار ، ولو أقامه صورة أخرى لنسب إليه اسم الصّوت الّذي لتلك الصّورة كالرّغاء للإبل والثّؤاج للكباش واليعار للشياه والصّوت للإنسان أو النّطق أو الكلام ) .
ولما كانت له هذه الرتبة لطهارة فطرته ، واتصاله بالأرواح العلوية ؛ ولذلك رفع إلى السماء أخذ يبحث عنها ؛ فقال ( عن ) متعلق يتكون ، وهمزة الاستفهام محذوفة والمنفصلة حقيقية أي : بل عنهما جميعا يكون ( ماء مريم ) عن سريان الشهوة فيها ، إذ قال لها جبريل عليه السّلام : " إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا "[ مريم : 19 ] ، وقد تمثل لَها" بَشَراً سَوِيًّا" [ مريم : 17 ] ، إذ لا بدّ منه لفيضان الروح على الجسم الإنساني ، فإنه من ماء المرأة ، ومن ماء الرجل بحسب السنة الإلهية التي لم تجد لها تبديلا وتحويلا .
 فلذا قال : ( وعن نفخ جبرين ) أي : جبريل ، فإنه من حيث تضمنه النفس المشبه بالنفس الحيواني حامل رطوبة متوهمة ، وذلك لظهوره ( في صورة البشر ) ( الموجود من طين ) ، وهو تراب مبلول بالماء ، فلا يخلو نفسه عن رطوبة محققة ، فما تمثل به يوجب نفخة رطوبة متوهمة يفيد اجتماعهما تركيب جسم إنساني معتدل ( تكون ) أي : فاض ( الروح ) العيسوي ( في ذات ) .
أي : جسم إنساني هو ذاته المعروضة لحيوانه من الروح ( مطهرة ) ( من الطبيعة ) الحيوانية من حيث تركيبها من المختلفات المحققة المستدعية انحلالها عند بطلان اعتدالها المبطل تدبير الروح عنها ، وإن كان ذلك التركيب بعينه عند اعتدال أجزائه يستدعي تدبيره في جسمه ؛ لذلك ( يدعوها ) أي : تلك الطبيعة ( بسجين ) بحبس الروح العلوي .
 
ثم تخليه عند بطلان اعتداله ( لأجل ذلك ) أي : لتطهر ذاته عن تلك الطبيعة المستدعية تدبير الروح تارة وإخلاؤه تارة ( قد طالت إقامته ) أي : إقامة روحه ( فيها ) أي : في ذاته ، ( فزاد ) قدر إقامته فيها ( على ألف ) من السنين ( بتعيين ) في هذا الألف المزيد عليه ، إذ لا تتصور زيادة على شيء بدون تعيين ذلك الشيء ؛ وذلك لأنه عليه السّلام ولد قبل نبيّنا عليه السّلام بخمسمائة وخمس وخمسين سنة ، وقد بقي بعد ، وقد مضى بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أكثر من خمسمائة سنة .
وإذا كانت الذات العيسوية منزهة عن الطبيعة ، فالروح المتكون فيها (روح من اللّه لا من غيره) من العقول والنفوس والأفلاك والعناصر ؛ لأن فيضانه يختلف باختلاف المحل نزاهة وتعلقا.
( فلذا ) أي : فلكونه من اللّه الحي القادر العليم في الأرواح ( قبض السامري ) من بني إسرائيل ( قبضة من أثر الرسول ) ، وهو التراب الذي أثر فيه قدم قرينته الأنثى ، وهو من عالم الأرواح ؛ لأنه فرس الرسول ( الذي هو جبريل ) في قول المفسرين لقوله تعالى حكاية عن ( فقبضت قبضة من أثر الرسول ) ، وجبريل ( هو الروح ) .
كما فسّر به قوله تعالى :( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ( 193 ) عَلى قَلْبِكَ [ الشعراء : 194 ، 193 ] ) ، ففرسه لا بدّ وأن يكون من عالم الأرواح أيضا ، وإذا كان لفرسه هذا الأثر ، فأن يكون لنفسه أولى كيف ، وفرسه أثر في التراب الذي هو أبعد من قبول الحياة مما هو معتدل المزاج ، فلما أثر فيه الضعيف التأثير فقوى التأثير في الكامل القبول أولى .
 
( وكان السامري ) مع جهله باللّه الموجب لتجريه عليه ( عالما بهذا الأمر ) لما سمع من موسى أو من علماء بني إسرائيل ، وقد عرف أن الراكب على الفرس الأنثى قدام فرس فرعون هو إنما هو جبريل يريد أن يدخل البحر بفرسه الأنثى لتتبعها فرس فرعون ، ( فلما عرف أنه جبريل عرف أن الحياة قد سرت فيما وطئ فيه ) ولو بواسطة الفرس ، وفيما ضعف قبول أثر الحياة فيه ( فقبض قبضة من أثر الرسول ) كما ورد به القرآن ، لكن شكّ في مقدار المأخوذ إذ قرئ ( بالضاد ) المعجمة ( أو بالصاد ) المهملة ( أي : بملء يده ) .
يعني :  ملء كفه على الأولى ، ( أو بأطراف أصابعه ) على الثانية ، ( فنبذها ) أي : القبضة أو القبضة ( في ) صورة ( العجل ) المعمولة من حلي قوم فرعون ، فصار عجلا ذا حياة ، (فخار العجل).
 
والحياة البقرية لم تتعين له من وطئ جبريل بل من الصورة التي أقامها له السامري ، ( إذ صوت البقر إنما هو خوار ) ، والفائض على كل صورة من الحياة ما يناسبها ، والصوت إنما يكون مما يناسب تلك الحياة ، وإن كانت الصورة معمولة للبشر غير فائضة من الأرواح العلوية ، ( ولو أقامه صورة أخرى لنسب إليه اسم الصوت الذي الصّورة كالرّغاء للإبل والثّؤاج للكباش واليعار للشياه والصّوت للإنسان أو النّطق أو الكلام ) فصل هذا التفصيل ؛ ليشير إلى أن تلك الصور ، وإن اتحدت في الجنس القريب أو البعيد ، فلابدّ وأن يختلف اسم الصوت باختلاف في النوع صدقا ، ولا يختلف اسم الصوت عند اتحاد النوع صدقا ، وإن تعددت أسماؤه المترادفة أو المتواصلة ، وهذا مبالغة في مبالغة مناسبة الصوت للحياة الدالة على مبالغة مناسبة الحياة للصورة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فذلك القدر من الحياة السّارية في الأشياء يسمّى لاهوتا ، والنّاسوت هو المحلّ القائم به ذلك الرّوح فسمّي النّاسوت روحا بما قام به ، فلمّا تمثّل الرّوحالْأَمِينُ [ الشعراء : 193 ] الّذي هو جبرائيل لمريم - عليها السّلام -بَشَراً سَوِيًّا [ مريم : 17 ] تخيّلت أنّه بشر يريد مواقعتها ، فاستعاذت باللّه منه استعاذة بجمعيّة منها ليخلّصها اللّه منه لما تعلم أنّ ذلك ممّا لا يجوز ، فحصل لها حضور تامّ مع اللّه ، وهو الرّوح المعنويّ ، فلو نفخ فيها في ذلك الوقت على هذه الحالة لخرج عيسى عليه السّلام لا يطيقه أحد لشكاسة خلقه لحال أمّه ) .
وإذا كانت هذه الحياة للأشياء قابضة من الأرواح الفائضة عن اللّه تعالى ، (فذلك القدر من الحياة) قل أو كثر ( السارية في الأشياء ) من إشراق الأرواح عليها ، وقد أشرق عليها الذات الإلهية باسمها الحي ( يسمى : لاهوتا ) من غير اختصاص ذلك بالكمّل كعيسى وغيره لمناسبتها الصفة الإلهية التي هي الحياة نوع مناسبة ، لكن الكامل فيها أولى ( والناسوت هو المحل ) أي : البدن لا من حيث هو بدن فقط ، بل من حيث هو .
 
( القائم به ذلك الروح )  المشرق بنور الاسم الحي الإلهي ، ولو بواسطة إشراق الأرواح العلوية عليها ، وهي الحاملة لنور ذلك الاسم بالذات ، فلا تبطل هذه الناسوتية بهذه اللاهوتية ، كما يتوهم ذلك من القول نفي الناسوت وبقاء اللاهوت ، بل غايته أن يسمي هذا البدن من حيث كونه محل ذلك الروح هو روحا كما قال رحمه اللّه .
 
""أضاف المحقق :  بل صفاته السارية منه فيه ، فإن الروح ليس قائما بالمحل بل القائم بها هو الصفات السارية من الروح إليه ، والناسوت وإن كان مأخوذا من الناس ليس مخصوصا به بل يطلق عليه وعلى غيره باعتبار محليته لصفات الروح وقيامها به .شرح القاشاني ص210)""
 
( فسمى الناسوت روحا بما قام به ) ، فأطلقوا على أنه فنا بمعنى أنه صار مغلوبا بذلك الروح ، فنال أنوار الكواكب عند غلبة نور الشمس عليها ، وهذه إشارة إلى تأويل ما ورد في الإنجيل من لفظ اللاهوت والناسوت ، فتوهم منه الحلول والاتحاد فوقع من وقع بذلك في الضلال والإلحاد ، ولما كان للروح مع الواسطة بهذا الأثر فيما ضعف قابليته للحياة مما لم يقض منه ، فكيف إذا أثر بلا واسطة فيما قويت قابليته وفاض منه.
وما كان في ذلك المحل مما لم يقض منه حاملا معنى فيه كالحضور مع اللّه تعالى الذي كان من مريم حين استعاذتها باللّه بجمعية منها ، وكان الروح المنفوخ من اللّه تعالى جاء به هذا الروح الذي له هذا التأثير ، فكيف لا يقوى أثر فيه حتى يصير محييا للموتى ، متصرفا في أبدان الناس ، باقيا إلى الدهور .
( فلما تمثل الروح الأمين ) احترز به عن الشيطان ، فإنه وإن لم يكن من المجردات يسمى روحا للطافته ، لكن ليس بأمين إذ يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ( الذي هو جبريل ) المخبر عنه بالروح في القرآن ؛ ليشير إلى أن الروح العيسوي إنما وصل إلى مريم بواسطة الروح الأمين ؛ لتتم له قوة التصرف في العوالم وقوة تحمل أعباء الرسالة ، وفسّره المفسرون بجبريل بدليل أن النازل بالقرآن على النبي عليه السّلام هو جبريل بالإجماع .
 
وقد قال تعالى : " نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ " [ الشعراء : 193 ، 194 ].
( لمريم - عليها السّلام ) ؛ لتستعيذ باللّه منه أولا ، فيحصل لها حضور تام مع اللّه ، وهو الروح المعنوي ، ثم يحصل لها نشاط وانشراح يوجب سريان الشهوة فيها لحصول ما يحقق ( بشرا ) ؛ ليتوهم من نفخه رطوبة يفيد طينها اعتدالا ، ويفيض عليه الصورة البشرية ( سويّا ) ، إذ لا نشاط يوجب سريان الشهوة بدون ذلك ( تخيلت أنه بشر يريد مواقعتها ) ؛ لظهوره في مكان خلوتها التي كانت تغتسل فيه غير الحيض ، ( فاستعاذت باللّه منه استعاذة بجمعية منها ) أي : جمعت في التوجه بهذه الاستعاذة إلى اللّه تعالى نفسها وقلبها وروحها وسرها وخفيها ، وجميع حواسها وقواها .
( ليخلصها اللّه منه ) أي : من مراده الذي توهمته منه ، ولا يحصل غالبا بالاستعاذة بأي وجه كان ، بل لا بدّ لحصوله على القطع من الاستعاذة بالجمعية ، ( لما تعلم أن ذلك ) المراد ( مما لا يجوز ) للمرأة بغير زوجها وسيدها ، وإن أكرهت وجب عليها الدفع بما أمكنها ، ولم يمكنها حينئذ سوى الاستعاذة المذكورة .
ولما استعاذت بجمعية فيها ، ( فحصل لها حضور تام مع اللّه ، وهو الروح المعنوي ) صار معينا في دفع الطبيعة الرديئة عن بابها للروح الأمين المفيد رطوبة متوهمة بدفع الطبيعة من حيث كونها من الملائكة ، والنفخ في هذه الحالة ، وإن كان أتم في استفاضة الروح الأكمل إلا أنه يفيد المشكاسة في الصورة الظاهرة لعيسى عليه السّلام ، ( فلو نفخ فيها في ذلك الوقت ) .
أي : وقت الجمعية ( على هذه الحالة ) أي : حالة الاستعاذة ( يخرج عيسى ) في الصورة الظاهرة ( لا يطيقه ) أي : لا يطيق رؤيته ( أحد لشكاسة خلقه ) مع تمام روحانيته من حيث الروح المعنوي من الاستعاذة ، ومن حيث نفخ جبريل عليه السّلام إذ الصورة لا تتبع الروح بل ( لحال أمه ) ، فإن صورة الولد تتبع الوالدين في الحال الغالبة عليها وقت المعلوق ، وحالة الاستعاذة حالة قبض وشكاسة ، فلابدّ من إذهاب ذلك بالبشارة المفيدة نشاطها المفيد صاحبتها التي هي ضد الشكاسة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلمّا قال لها :إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [ مريم : 19 ] ، جئت لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا[ مريم : 19 ] ، انبسطت عن ذلك القبض وانشرح صدرها فنفخ فيها في ذلك الحين فخرج عيسى ، وكان جبرائيل ناقلا كلمة اللّه لمريم كما ينقل الرّسول كلام اللّه لأمّته ، وهو قوله :وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [ النساء : 171 ] ، فسرت الشّهوة في مريم ، فخلق جسم عيسى من ماء محقّق من مريم ، ومن ماء متوهّم من جبرئيل ، سرى في رطوبة ذلك النّفخ ؛ لأنّ النّفخ من الجسم الحيواني رطب لما فيه من ركن الماء ، فتكوّن جسم عيسى من ماء متوهّم ، ومن ماء محقّق ، وخرج على صورة البشر من أجل أمّه ، ومن أجل تمثّل جبرائيل على صورة البشر حتّى لا يقع التّكوين في هذا النّوع الإنساني إلّا على الحكم المعتاد ، فخرج عيسى يحيي الموتى لأنّه روح إلهيّ ، وكان الإحياء للّه ، والنّفخ لعيسى كما كان النّفخ لجبرائيل والكلمة للّه .)
قال رضي الله عنه :  ( فلما قال لها :إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) [ مريم : 19 ] ، وعرفت وصدقت بالانشراح ، وذهاب القبض منه مع بقائه هناك ، ولم يدفعه عنها كمال حضورها الكامل للتأثير ؛ لكونه من كامل الحال ؛ ولعلمه كشف عن باطنها حجاب المثال الذي كان فيه التخيل حيث حذف ؛ لأنه دلّ على لفظ الرسول "لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا" [ مريم : 19 ] تنمو فضائله بكمال روحانيته ، وتتطهر عن الرذائل الطبيعية لما ذكرنا ( انبسطت عن ذلك القبض ) الذي كان لها عن خوف المواقعة المحرمة ، (وانشرح صدرها) بالبشارة الإلهية على لسان الرسول ،(فنفخ فيها في ذلك الحين).
 
أي : حين انبساطها وانشراحها عيسى روحه والأمر المتوهم من مادته ، بل من البشارة والنفخ حصلت مادته الحقيقية ، إذ سرى فيها الشهوة عنهما مع رؤية صورة بشر سوي مأمون عن الفعل المحرم في وقت انقطاع الحيض لم يكن اللّه تعالى ، ولا جبريل أبا له .
 
إذ ( كان جبريل ناقلا كلمة اللّه لمريم ) من غير إفادة رطوبة ، ولا نقلها عن اللّه تعالى ، بل ( نقل الرّسول كلام اللّه لأمّته ) من غير نقل مادة حرف وصوت منه ، وإن حصلت عند النقل للأمة ، فهذه الرطوبة في نفخة لم تكن من اللّه ، ولا من جبريل .
إذ لم يتحقق ذلك لكونه ملكا في الحقيقة ، وإنما توهمت ذلك منه مريم كما يتوهم بعض الأمم الحرف والصوت لكلام اللّه تعالى ، وهو أي : الدليل على أن جبريل إنما هو ناقل كلمة اللّه لمريم لا مفيد لروحانية عيسى وإلا لمادته ، ولا أنه ناقل لها عن اللّه ( قوله تعالى :وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ[ النساء : 171 ] ) ، وليس ذلك إلقاء لكلامه الذي هو صفته بل الملقي ( روح منه ) أي : حاصل من كل أمه الذي هو صفته .
ولما انبسطت وانشرحت ، وقد رأت "بَشَراً سَوِيًّا" [ مريم : 17 ] مبشرا وقت انقطاع الحيض.


قال رضي الله عنه :  ( فسرت الشهوة في مريم ، فحصل ) فيها مادة ( جسم عيسى ) ماء محققا مع رطوبة متوهمة من نفخ جبريل ، فخلق جسم عيسى الذي هو محل روحه ( من ماء محقق من مريم ) عن سريان الشهوة فيها ( وماء متوهم من نفخ جبريل ) ، وهو بهذا التوهم أفاد ماءها البارد غير القابل للروح اعتدالا أوجب قبوله إياه ( سرى ) أي : حصل ذلك الماء ضمنا ( في رطوبة ذلك النفخ ) ، فإنها وإن كانت متوهمة فهي من حيث هي عرض لا تتصور بدون المحل ، والأصل في محلها الماء ، وإنما كانت لهذا النفخ رطوبة مع كونه من الملك ؛ لأنه لا تمثل لصورة البشر الذي هو حيوان فلا نفخة عن رطوبة ؛ ( لأن النفخ من الجسم الحيواني رطب لما فيه ) أي : في الجسم الحيواني ( من ركن الماء ) .
فنفخه ، وإن كان إخراجا للهواء من باطنه ، فهواؤه لا يخلو من اختلاط الماء ، وهو وإن كان متوهما ؛ فهو في حكم المحقق ، ( فيكون جسم عيسى من ماء متوهم ) من نفخ جبريل ، ( وماء محقق ) من سريان الشهوة في مريم ، وكان مقتضى هذا خروج عيسى في صورة مركبة من البشرية والملكية ، ولكنه ( خرج على صورة البشر ) متمحضة ( من أجل أمه ، ومن أجل ) عيسى عليه السّلام ( تمثل جبريل ) في صورة البشر ، فإنه كما أثر توهم الماء اعتدالا في مادته أثر توهم الصورة البشرية تمحض الصورة البشرية في صورته اقتضت الحكمة الإلهية ذلك ؛ ( لئلا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني ) ، وإن كان على خرق العادة في إيجاد الولد بلا أب ( إلا على الحكم المعتاد ) من الجمع بين مائين ، ولو على وجه التوهم رعاية للحكمة بقدر الإمكان ، فكأنه جامع للعادة ولخرقها فهو أعظم من خرق العادة وحده ، وإذا كان روح عيسى من اللّه ، وإن نقله جبريل .
( فخرج عيسى عليه السّلام يحيي الموتى ؛ لأنه روح ) من خواصه الإحياء سيما أنه ( إلهي ) ، ويختص به الإحياء الحقيقي ، والحاصل من الأرواح ظهور الحياة البشرية عليها من اللّه ، فكان ( الإحياء ) العيسوي في الواقع ( للّه والنفخ ) الموجب لإشراقها في الموتى هو الواقع ( لعيسى ) ، فاجتمع في الإحياء العيسوي الذي أسند إليه حقيقة باعتبار الظهور منه ، وإن كان مسندا إلى اللّه باعتبار الإيجاد منه حقيقة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان إحياء عيسى عليه السّلام للأموات إحياء محقّقا من حيث ما ظهر عن نفخه كما ظهر هو عن صورة أمّه ، وكان إحياؤه أيضا متوهّما أنّه منه ، وإنّما كان للّه ، فجمع لحقيقته الّتي خلق عليها كما قلناه : إنّه مخلوق من ماء متوهّم وماء محقّق ينسب إليه الإحياء بطريق التّحقيق من وجه ، وبطريق التّوهّم من وجه ، فقيل فيه من طريق التّحقيق وَأُحْيِ الْمَوْتى [ آل عمران : 49 ] ، وقيل فيه من طريق التّوهّم فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ [ آل عمران : 49 ] ؛ فالعامل في المجرور فيكون ، لا أنفخ ، ويحتمل أن يكون العامل فيه أنفخ فيكون طيرا ، من حيث صورته الحسّيّة الجسميّة .
وكذلك :وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ [ المائدة 110 ] وجميع ما ينسب إليه ، وإلى إذن اللّه ، وإذن الكناية في مثل قوله :بِإِذْنِي ،وبإذن اللّه فإذا تعلّق المجرور ب « تنفخ » ، فيكون النّافخ مأذونا له في النّفخ ، ويكون الطّائر عن النّافخ بإذن اللّه ، وإذا كان النّافخ نافخا لا عن الإذن ، فيكون التّكوّن للطّائر ، فيكون العامل عند ذلك فيكون فلو لا أنّ في الأمر توهّما وتحقّقا ما قبلت هذه الصّورة هذين الوجهين ، بل لها هذان الوجهان ؛ لأنّ النّشأة العيسويّة تعطي ذلك ) .
 
(فكان إحياء عيسى عليه السّلام الأموات إحياء محققا ) أي : مسند إليه حقيقة ( من حيث ما ظهر عن نفخه ) المسند إليه حقيقة ، إذ حقيقة النفخ ، وهو إخراج الهواء عن جوف النافخ لا يتصور في حق اللّه تعالى ، ولا منع في إسناد الظهور الحقيقي إلى غير اللّه تعالى .
( كما ظهر هو عن صورة أمه ) ، وإن كان عن صورة جبريل أيضا ؛ فهو أيضا باعتبار توهم أمه أنها صورته لتمثله لها بتلك الصورة ، ( وكان إحياؤه أيضا ) مستندا إليه حقيقة باعتبار أنه كان ( متوهما أنه منه ) فيسنده الجاهل إليه حقيقة ، فإن الإسناد الحقيقي هو إسناد أمر إلى ما له عند المتكلم في الظاهر .
( وإنما كان ) في الواقع باعتبار الإيجاد ( للّه ، فجمع ) في إسناد الإحياء إليه حقيقة بين الأمر المحقق الذي هو الظهور والمتوهم الذي هو توهم أنه منه ( بحقيقته التي خلق عليها ) ، باعتبار أن روحه في الواقع للّه ، ويتوهم أنه من جبريل ( كما قلنا ) في بدئه ( أنه مخلوق من ماء متوهم ) من نفخ جبريل ، ( وماء محقق ) من مريم .
"" أضاف المحقق : فيه إشارة إلى أن النفخ لا يفيد إلا حياة الجسم المنفوخ فيه ، وأما خصوصية كونه طائرا لا من حيث الحقيقة ، وفيه نظر ؛ فإنه إذا تعلقت الحياة بالصورية الطيرية يكون طيرا بالحقيقة لا محالة ، وقيل : هو بيان المناسبة بين المكوّن الذي هو عيسى وبين المكوّن الذي هو الطير لا بدّ منها في التكوين كما في التوليد فيه بعد ( شرح الجامي ص 331 ) . ""
 
فلو لا أن حقيقته جامعة لم تحصل هذه الجمعية في روحه وبدنه ، فالفعل الصادر من الحقيقة الجامعة ينبغي أن يكون جامعا ؛ فلذلك ( ننسب إليه الإحياء ) بالإسناد الحقيقي ( بطريق التحقيق من وجه ) ، وهو أنه ظهر من نفخة ( وبطريق التوهم من وجه ) ، وهو أنه بتوهم أنه منه ، وليس له في الواقع ؛ ( فقيل فيه ) في الكتاب الإلهي الجامع بين الطرق كلها ( من طريق التحقيق) ، وأحي الْمَوْتى[ آل عمران : 49 ] .
بإسناد الإحياء إليه باعتبار ظهوره منه ، والأصل فيه الحقيقة ، ولم يشعر بكونه من اللّه ، ( وقيل فيه من طريق التّوهم ،فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ [ آل عمران : 49 ] ) ، فنفى فيه تارة إسناد تكوين الإحياء إلى عيسى ، وأسنده إلى إذن اللّه ، وأسند التكوين إليه تارة باعتبار تعلقه بالصورة الحسية الجسمية للطير ، وهما باعتبار الواقع ، وأسند فيه تكوين الإحياء إلى عيسى تارة باعتبار التوهم .
 فالعامل في المجرور ) أي : قوله : « بإذن اللّه » هو قوله : يكون من ( فيكون ) فأسند تكوين الطير إلى إذن اللّه ( لا ) قوله : " ينفخ " حتى يستند تكوينه إلى نفخه ، ( ويحتمل أن يكون العامل فيه ) أي : في المجرور ، أعني بإذن اللّه « ينفخ » ، فلا يستند تكوين الطير إلى إذن اللّه ، وليس له في الطائر مستند إليه مع أنه لا بدّ منه ، ولا يستند الإحياء إلى عيسى في الواقع ؛ فهو محمول على تكوين صورته الحسية .
 
( فيكون طائرا ) عن تكوين عيسى عليه السّلام في الواقع ( من حيث صورته الحسية الجسمية ) لا من حيث اتحاد الحياة فيه لا باعتبار الظهور ، وقد ذكر مرة ؛ فلا يعاد أو باعتبار التوهم ، وسيذكره مع الإشارة إلى عموم طريق التحقيق ، وطريق التوهم كل ما نسب إلى نفخ عيسى ، وإلى إذن اللّه .
فقال : ( وكذلك ) أي : مثل قوله : فينفخ فيه ، فيكون طيرا بإذن اللّه ، ( أبرئ الأكمه والأبرص ) مسند حقيقة إلى اللّه تعالى بطريق التحقيق ، وإلى عيسى بطريق التوهم ، ولا يختص هذا بآية دون أخرى ، بل ( وجميع ما ينسب إليه ) أي :
إلى فعل عيسى كنفخه ، ( وإلى إذن اللّه ) أي : المضاف إلى اسم اللّه الجامع للظاهر والباطن .
( وإذن الكناية ) أي : المضاف إلى ياء المتكلم المختص بالباطن ، فالمضاف إلى الكناية ( في مثل قوله : بإذني ) وإلى اسم اللّه في مثل قوله : ( بإذن اللّه ) ، فإن الإسناد التكويني إلى الإذن المضاف إلى أحدهما بطريق التحقيق ، وإلى عيسى عليه السّلام بطريق التوهم .
وإن قلنا : إن إسناده باعتبار الظهور إلى عيسى عليه السّلام بطريق الحقيقة ، فذاك في نفس ظهور الحياة لا ظهور تكوينها ؛ إذ لا فعل في تكوينها لغير اللّه تعالى ؛ فغاية ما يتصور في حقّ عيسى عليه السّلام أنه فعل الظاهر فيه دون المظهر ، فإسناده باعتبار الظهور إلى المظهر نوع من التوهم .
 
( فإذا تعلق المجرور ) أي : بإذن اللّه أو بإذني ، ( فينفخ ) أي : بما هو فعل عيسى عليه السّلام حقيقة ، ( فيكون النافخ مأذونا له في النفخ ) فيتوهم ما ترتب على نفخه من فعل اللّه أنه فعل النافخ ، ( فيكون الطائر عن النافخ ) فيما يتوهم كما قالت المعتزلة في الأفعال المتولدة ، فيسند تكوينه إلى عيسى بطريق الحقيقة جهلا ، ( وإذا كان النافخ نافخا ، لا عن الإذن ) بألا ( يكون ينفخ عاملا ) في المجرور .
( فيكون التكون للطائر ) طيرا ( بإذن اللّه ) أي : مسند إلى اللّه حقيقة ، وهو طريق التحقيق ، إما باعتبار نفس التكوين ؛ فلا يشك فيه ، وإما باعتبار ظهوره ؛ فلأن الفعل إنما للظاهر لا للمظهر ، ( فيكون العامل ) في المجرور أي : بإذن اللّه أو بإذني ( عند ذلك ) .
أي : عند جعل التكوين للّه كما هو الواقع لفظة يكون ، فاجتمع في عيسى عليه السّلام باعتبار ظهور الفعل منه تحقيقا وتوهما باعتبارين ، فالتحقيق باعتبار الفعل المترتب عليه وهو النفخ والتوهم باعتبار المترتب وهو التكوين .
( فلو لا أن في الأمر ) أي : في حقيقة عيسى عليه السّلام ( توهما وتحققا ) في روحه وبدنه وظهوره وأفعاله ( ما قبلت هذه الصورة ) أي : صورة إسناد الفعل إلى عيسى عليه السّلام باعتبار الظهور منه ( هذين الوجهين ) من التحقيق باعتبار الفعل الأول ، وهو النفخ والتوهم باعتبار الفعل الثاني .
وهو التكوين ( بل لها ) أي : لهذه الصورة ( هذان الوجهان ) في الواقع ، وإن لم يصرّح بإسناد فعله إليه ، وإلى إذن اللّه ، وإذن الكناية ؛ ( لأن النشأة العيسوية تقتضي ذلك ) ، ومقتضى النشأة لا يتغير بالتصريح وتركه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وخرج عيسى من التّواضع إلى أن شرّع لأمّته أنيُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [ التوبة : 29 ] ، وأنّ أحدهم إذا لطم في خدّه وضع الخدّ الآخر لمن لطمه ، ولا يرتفع عليه ، ولا يطلب القصاص منه ، هذا له من جهة أمّه إذ المرأة لها السّفل ، فلها التّواضع لأنّها تحت الرّجل حكما وحسّا ، وما كان فيه من قوّة الإحياء والإبراء فمن جهة نفخ جبرائيل في صورة البشر ،فكان عيسى يحيي الموتى بصورة البشر.
ولو لم يأت جبرائيل في صورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصريّة من حيوان أو نبات أو جماد لكان عيسى عليه السّلام لا يحيي الموتى إلّا حين يتلبّس بتلك الصّورة ويظهر فيها ، ولو أتى جبرائيل بصورته النّوريّة الخارجة عن العناصر والأركان إذ لا يخرج عن طبيعته لكان عيسى لا يحيي الموتى إلّا حين يظهر في تلك الصّورة الطّبيعيّة النّوريّة لا العنصريّة مع الصّورة البشريّة من جهة أمّه .
فكان يقال فيه عند إحيائه الموتى هو لا هو ، وتقع الحيرة في النّظر إليه كما وقعت في العاقل عند النّظر الفكريّ إذا رأى شخصا بشريّا من البشر يحيي الموتى ، وهو من الخصائص الإلهيّة ، إحياء النّطق لا إحياء الحيوان بقي النّاظر حائرا ، إذ يرى الصّورة بشرا بالأثر الإلهي ) .
 
ثم أشار إلى أن ظهور التكوين كيف يكون في الواقع من مظهره ، وقد ذكرنا أن ظهوره من أمه ، ومقتضى ذلك العجز ، ومقتضى هذه الأفعال كمال القدرة ، بل عام منشأ هذا الإظهار ظهوره عن صورة جبريل ؛ فقال : ( وخرج عيسى عليه السّلام من التواضع ) جدّا ( إلى أن أشرع لأمته ) إذا عجزوا عن إقامة دينهم قبل نسخه إلا بالقتال أو إعطاء الجزية ( أنيُعْطُوا الْجِزْيَةَ[ التوبة : 29 ] ) .
وإن قدروا على القتال بلا ذلة وصغار"عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ" [ التوبة : 29 ] ، وإلى أن شرع لهم ( أن أحدهم إذا لطم في خده وضع الخد الآخر لمن يلطمه ، ولا يرتفع عليه ) بابا فضلا عن طلب الجزاء ، وشرع لهم ( ألا يطلب أحدهم القصاص منه ) أي : من قاتل مورثه ( هذا ) الذي شرع لأمته ثابت ( له ) أولا ( من جهة أمه ) ، وإنما شرع لأتباعه لاكتسابهم استعداد ذلك بمتابعته ، فأنى يكون له من هذه الجهة قوة الإحياء والإبراء .
( إذ المرأة لها ) بالطبع ( السّفل ) الموجب للعجز والتذلل ؛ ( لأنها تحت الرجل حكما ) أي : في الحكم الشرعي ، إذ له الولاية عليها شرعا ( وحسّا ) ؛ لافتقادها إليه في تحصيل المصالح ودفع المضار ، وعلى هذا ( ما كان فيه من قوة ) إظهار ( الإحياء ) أي :
إحياء الطير والموتى ، ( والإبراء ) أي : قوة إظهار وإبراء الأكمه والأبرص الكائنين عن نفخه
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:50 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ العيسوي
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية    الجزء الثاني
ونفسه ، ( فمن جهة نفخ جبريل ) روحه ، وإن كان من اللّه ، فإنما يناسب تكوين ذلك لا ظهوره ، لكن نسبة التكوين إليه أمر متوهم نعم حصول قوة الإحياء له من غير نظر إلى تكوينه أو ظهوره يناسب كونه من اللّه ، وهو المراد بما سبق ، وكان مقتضى هذا أن يكون عند إظهار الإحياء والإبراء على أي صورة تلبس بها جبريل من غير اختصاص بالصورة البشرية إلا أنه اختص بها .
لأن جبريل كان عند النفخ ( في صورة البشر ، فكان عيسى يحيي الموتى بصورة البشر ) ؛ لأن نفخه ونفسه صريح نفخ جبريل ، وهذه الصورة ، وإن كانت له باعتبار التخيل والتوهم ؛ فهذا القدر كاف في التأثير المذكور ، وإن كانت لم تتم باعتبار التحقيق ، فليس لها باعتبار كونها امرأة بل لها من حيث كونها إنسانا دلائل منها العجز والذلة من هذه الجهة .
( ولو لم يأت جبريل في صورة البشر وأتى في صورة ) غيرها ، فلو أتى في صورة ( الأكوان العنصرية من حيوان أو نبات أو جماد ) أشار باستيفاء هذه الصور إلى أن نفخه لم يكن باعتبار الصورة ، إذ لا يأتي من الجماد والنبات ، بل من الجهة الملكية إلا أنه خص بالصورة البشرية لهذه النكتة التي هو بضدها أعني قوله : ( لكان عيسى عليه السّلام لا يحيي الموتى ) ، ولا يبرئ الأكمه والأبرص ( إلا حين يتلبس بتلك الصورة في نفسه ويظهر فيها ) لعين غيره اعتبرهما جميعا ؛ ليخالف ظهور العبد بصورة غير في نظر العين من غير تلبس بها ، لكنه يلزم بهذا التلبس اجتماع صورتين مختلفتين فيه .
إذ ظهوره بصورة البشر من جهة أمه ، وهو أمر محقق لا يمكن زواله بالأمر المتوهم الذي هو تصور جبريل بصورة البشر ( ولو أتى جبريل بصورته النورية ) ، وتسمى صورة وإن لم تكن شكلا ولا صورة جسمية ولا نوعية لما في ذلك من تقيد مطلق الطبيعة النورية بقيد خاص ؛ ليقيد الجسم بشكل خاص أو جسمية أو نوعية ، فغاية ذلك أنه يقيد بالصورة ( الخارجة عن ) صور ( العناصر والأركان ) ، لكنها صورة طبيعية نورية .
 
( إذ لا يخرج عن طبيعته ) النورية ، وإن تقيدت هذه الطبيعة ، فليست ظلمانية مخرجة له عما كان عليه بخلاف الصورة الجسمانية والنوعية والشكل ، فإنها ظلمانية مخرجة للأصل عن طبيعته التي تكون عليها لو فرض مجردا عنها ، فيبقى جبريل في هذه الصورة على تجرده بخلاف الأجسام ، ( لكان عيسى عليه السّلام لا يحيي الموتى إلا حين يظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية لا العنصرية ) لم يذكر التلبس هاهنا ؛ لامتناع أن يتلبس العنصري بصورة نورية من حيث هو عنصري ، وإن جاز أن يظهر بذلك بغلبة الروحانية على جسمانيته ، ولا يتأتى ذلك لأهل الشعبذة "الشعوذة"؛ فلا حاجة إلى الفرق باعتبار هذه الصورة ، ولكن لا بدّ له
الظهور بهذه الصورة أن يكون مقرونا ( مع الصورة البشرية من جهة أمه ) ؛ لأنه لزمه من أمر محقق ، فإن أمكن الظهور بهما مع امتناع التلبس بهما معا .
 
( فكان يقال عند إحيائه الموتى : ) ظاهرا بالصورة النورية مع الصورة البشرية ( هو ) عيسى مع أنه يقال أيضا : ( لا هو ) ، ( وتقع الحيرة في النظر إليه ) حيرة يصعب رفعها ؛ لأنها من الأمر المحسوس ( كما وقعت ) الحيرة في إحيائه من غير ظهوره بالصورة النورية ( في العاقل عند النظر الفكري ) حيرة يسهل رفعها ؛ لكثرة المعارضة والمناقضة فيه بخلاف الأمر المحسوس ، فلم نعبأ بوقوع هذه الحيرة .
 
وذلك أنه يتحير العاقل ( إذا رأى شخصا بشريّا ) أي : في صورة البشر مع أنه في الواقع أيضا ( من البشر يحيي الموتى ) من الناطقين ، ( وهو ) أي : الأمر والشأن من ( الخصائص الإلهية إحياء الناطق لا إحياء الحيوان ) ، فإنه قد يظهر به المشعبذ مع أنه لا يظهر بإحياء الناطق أصلا ( بقي الناظر حائرا ) في هذه الحيرة السهلة رفعها ، مع أن هذه السهولة تقتضي عدم بقاء هذه الحيرة ، ( إذ يرى الصورة ) أي :
صورة المحيي ( بشرا ) مضروبا ( بالأثر الإلهي ) المخصوص وهو دون الظهور بالصورة النورية في إفادة هذه الحيرة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فأدى بعضهم فيه إلى القول بالحلول ، وأنّه هو اللّه بما أحيا به الموتى ، ولذلك نسبوا إلى الكفر وهو السّتر لأنّهم ستروا اللّه الّذي أحيا الموتى بصورة بشريّة عيسى ، فقال تعالى :لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [ المائدة : 17 ] ، فجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام كلّه لا بقولهم هو اللّه ولا بقولهم ابن مريم ، فعدلوا بالتّضمين من اللّه من حيث أحيا الموتى إلى الصّورة النّاسوتيّة البشريّة بقولهم ابن مريم ، وهو ابن مريم بلا شكّ ، فتخيّل السّامع أنّهم نسبوا الألوهيّة للصّورة ، وجعلوها عين الصّورة ، وما فعلوا بل جعلوا الهويّة الإلهيّة ابتداء في صورة بشريّة هي ابن مريم ، ففصلوا بين الصّورة والحكم ، لا أنّهم جعلوا الصّورة عين الحكم ) .
( فأدى بعضهم فيه ) أي : في حق عيسى أو في هذا التحير السهل رفعه ( إلى القول بالحلول ) أي : حلول ذات اللّه القائم بها هذا الأثر وبالاتحاد ، وهو ( أنه هو اللّه ) مع أنه لا شكّ في استجماعه الكمالات كلها ، ولم يروا ذلك في عيسى عليه السّلام ، وإنما رأوا فيه إحياء بعض الموتى ، فقالوا : هو اللّه ( بما أحيا به ) أي : بإحيائه من ( الموتى ) أي : بعضهم ، وفيه
""شعبذ يشعبذ ، وقال الثعالبي : لا أصل لقولهم مشعبذ ، وإنما هو بالواو ، وقد أثبته الزمخشريّ وغيره ، وتقول العامة : الشّعبثة ، ( انظر : تاج العروس )"" .
 
إشارة إلى أنه لو كان اللّه حالا فيه أو متحدا لكان إحياء الجميع منسوبا إليه مع أنه لا ينسب إليه إحياء الجميع بالاتفاق .
( ولذلك نسبوا ) فنسبوا أي : القائلون بالحلول والاتحاد ( إلى الكفر ) بهذا القول لا يجعله مظهرا إلهيّا كما يقوله الصوفية ؛ وذلك لأن الكفر ( هو الستر ) الذي هو نقيض الظهور ، فلا يتأتى في القول به ؛ ( لأنهم ستروا اللّه الذي أحيا الموتى ) ظاهرا في المظهر العيسوي ( بصورة بشرية عيسى عليه السّلام ) ، إذ جعلوا هذه الصورة محلا لذاته ، وليس محليتها للذات كمحلية الجوهر للعرض ، إذ يبعد القول بجعل ذات الحق عرضا لذات غيره بحيث لا يوجد بدونها ، ولا هي كمحلية المكان للمتمكن .
ولا شكّ أن المكان سائر للمتمكن غالبا ، وكذا إذا جعلوا ذات الحق متحدة بذات عيسى مع أنهم يرون عيسى في صورة بشريته ، وهذا المعنى في الاتحاد أتم وأعم .
فقال تعالى :" لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " [ المائدة : 17 ] ، فكفرهم في جعلهم جهة الربوبية متحدة بجهة البشرية .
وإليه الإشارة بقوله : ( فجمعوا بين الخطأ ) في جعل الجهتين المختلفتين متحدة ، ( والكفر ) اللغوي يجعل الذات الإلهية الظاهرة في صورة بشرية عيسى مستورة فيها ، وهو نقيض مقتضى الظهور ( في تمام الكلام ) ، وهو قوله :إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ[ المائدة : 17 ] .
 
ثم قال : ( كله ) ؛ دفعا لتوهم تمامه عند قوله : هو المسيح ، ولو فرض منقطعا عنده يشعر باتحاد الجهتين الموجب للخطأ والكفر ؛ لأن ذكر المسيح يحتمل أن يكون لبيان المظهر ، فكأنهم قالوا : إن اللّه هو الظاهر في هذا المظهر كأنه عينه ، فإذا قيل : ابن مريم ؛ فهذا الوصف ليس لبيان المظهرية بل بيان لجهة البشرية .
فهو مشعر باتحاد الجهتين لدلالته على أنه من جهة كونه ابن مريم هو اللّه ، إذ لا دخل لكونه ابن مريم في المظهرية ، حتى يفهم منه المبالغة في كونه كأنه هو الظاهر فافهم ؛ لأنه ( لا بقولهم : هو اللّه ) المشعر بانفراد جهة الإلهية وإن فرض ظهورها في المسيح ، ( ولا بقولهم : ابن مريم ) المشعر بانفراد جهة العبودية .
 
والكناية تعود إلى الموجود والقضية مهملة في قوة الجزئية ، أي : بعض الموجودات اللّه وهو الموجود المطلق ، وبعض الموجودات ابن مريم وهو من الموجودات المقيدة ، ويحتمل أن تعود الكناية إلى المحيي أي : المحيي حقيقة هو اللّه ، والمحيي تسببا هو المسيح ؛ لأنه أتى بالنفخ والدعاء سببين له وهو وإن لم يجر له ذكر لكن الإحياء موجب لهذه الحيرة ، فكأنه مذكورا ، فإذا جمعوا بين الكلامين صار المعنى أن اللّه الموجود المطلق هو المسيح من الموجودات المقيدة ، أو أن اللّه المحيي هو المسيح المحيي من حيث كونه ابن مريم.
 
 فجعلوا جهة العبودية التي يشعر بها كونه ابن مريم عين جهة الربوبية التي بها الإحياء ، ولا يتصور الاتحاد مع فناء الأمرين ؛ لأن الباقي أمر ثالث حدث بعد فنائهما ، ولا مع فناء أحدهما ؛ لأن الباقي لا يتحد مع الفاني ، ولا مع بقائهما بحالهما ، بل إنما يتصور ذلك بجعل أحدهما متضمنا للآخر ، ( فعدلوا بالتضمين ) أي : تضمين جهة الألوهية جهة البشرية عند القول باتحادهما ( من اللّه ).
أي : من القول بظهوره في مظهر المسيح ( من حيث أحيا الموتى ) في هذا المظهر مع أنه لم يظهر فيه بجميع أسمائه وصفاته التي إلهيته بمجموعها لا بعضها ( إلى الصورة الناسوتية ) التي هي عين ( البشرية ) لا تنقلب إلى الألوهية أصلا ، والمظهرية ليست باعتبار هذه الصورة ، بل باعتبار الروح الذي منه ( بقولهم : ابن مريم ) إذ جعلوه وصفا للمسيح من حيث مظهريته ، وهو يشعر بغلبة هذا الوصف لهذه المظهرية على تقدير أن تفعل المظهرية ، لكن لا دخل لكونه ابن مريم في علية هذه المظهرية ، فذكره يشعر باتحاد الجهتين الموجب ستر الذات الإلهية في هذه الصورة الناسوتية البشرية ، وهو الكفر والغلط ، وكيف لا يكون قولا بتضمين جهة الإلهية في جهة البشرية ، ( وهو ابن مريم بلا شكّ ) .
 
ولو كان التضمين لجهة البشرية في جهة الألوهية ، لكانت جهة الإلهية ظاهرة باختفاء جهة البشرية ، واختفاؤها يوجب الشك في كونه ابن مريم ، لكن لم يشك في ذلك أصلا ، ولا شكّ أن متأخريهم إنما قالوا ذلك بسماعهم إياه من قدمائهم ، ويبعد من قدمائهم القول بالاتحاد ، بل غايته أنهم قالوا هذا القول على قصد الظهور.
 
أي : أنه تعالى من حيث إحياؤه ظهر في هذا المظهر الذي نقول فيه : إنه ابن مريم ، ( فتخيل السامع أنهم نسبوا الألوهية للصورة ) البشرية لعيسى عليه السّلام ؛ وذلك لأنهم ( جعلوها ) أي : الألوهية ( عين الصورة ) لفظا من غير إشعار بحرف التشبيه المحذوف ، بل جعلوا قولهم : ابن مريم مانعا لتقديره لإشعاره باتحاد الجهتين بلا تشبيه ، ولكنهم ( ما فعلوا ) أي : ما قصدوا نسبة الألوهية إلى المسيح ، وما جعلوها عين صورته البشرية .
 
( بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء ) أي : في أول الكلام ظاهرة ( في صورة بشرية ) بظهوره في الروح المتعلق بهذه الصورة ، فكأنه ظاهر فيها وجعلوا آخر الكلام دالا على أن هذه الصورة ، وإن ظهرت فيها الهوية الإلهية ( هي ابن مريم ، ففصلوا ) أي : قصدوا الفصل والفرق ( بين الصورة والحكم ) بالإلهية .
وجعلوا لكل واحدة جهة منفصلة عن الأخرى ( لا أنهم جعلوا الصورة عين الحكم ) بالإلهية ، وإن أتوا بلفظ ستشعر بذلك مانع من تقدير حرف التشبيه ، وكيف يقصدون ذلك ولا شك أن هذه الألوهية بالإحياء ، وقد كانت هذه الصورة البشرية مدة بلا إحياء ، ثم ثبت له الإحياء والمتأخر لا يكون غير المتقدم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (كما كان جبرائيل في صورة البشر ولا نفخ ، ثمّ نفخ ، ففصل بين الصّورة والنّفخ وكان النّفخ من الصّورة ، فقد كانت ولا نفخ ، فما هو النفخ من حدّها الذّاتي ؟
فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى ما هو ؟
فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانيّة البشريّة فيقول : هو ابن مريم ،
ومن ناظر فيه من حيث الصّورة الممثّلة البشريّة فينسبه لجبرائيل عليه السّلام ؛
ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى فينسبه إلى اللّه بالرّوحيّة فيقول : روح اللّه ، أي : به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه ، فتارة يكون الحقّ فيه متوهّما اسم مفعول ، وتارة يكون الملك فيه متوهّما .
وتارة تكون البشريّة الإنسانيّة فيه متوهّمة : فيكون عند كلّ ناظر بحسب ما يغلب عليه ، فهو كلمة اللّه ، وهو روح اللّه ، وهو عبد اللّه ، وليس ذلك في الصّورة الحسّيّة لغيره ، بل كلّ شخص منسوب إلى أبيه الصّوري لا إلى النّافخ روحه في الصّورة البشريّة).
( كما كان جبريل في صورة البشر ولا نفخ ، ثم نفخ ففصل ) تأخر النفخ عن صورة بشريته ( بين الصورة والنفخ ) ، فلم تكن جهة صورة البشرية في جبريل عين النفخ ، وإن تقرر أنه ( كان النفخ من الصورة ) البشرية لا تتصور بدونها ، ومع ذلك لا يكون النفخ عنها لتأخره عنها ، ( فقد كانت ) الصورة البشرية لجبريل لما تمثل لها بشرا سويّا ( ولا نفخ ) .
"قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، فقالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا"[ مريم : 18 ، 19 ] ، فخلف مدة هذه المقالة عن النفخ مع تحقق الصورة البشرية له هذه المدة .
 
( ثم نفخ ) وهو في هذه الصورة ، فلو كانت الصورة البشرية عين النفخ أو عين بعضها لكان النفخ ذاتيّا لها ، فلا توجد بدونه لكنه وجدت الصورة بدونه ، ( فما هو ) أي : الأمر والشأن ( النفخ من حدها الذاتي ) لامتناع المقارنة فيه في الأحوال والأزمنة كلها ، فكذلك يحكم بالتغاير بين جهة بشرية عيسى عليه السّلام ، والإحياء الذي به تتوهم إلهيته ، وكيف يحكم على هيئته بالإلهية التي هذا الإحياء بعض صفاتها لا كلها ، وأنه ليس له من الإحياء سوى هذا النفخ الذي يشبه نفخ جبريل ، وكما لم يكن هذا النفخ عن جهة البشرية ، فكذا عيسى عليه السّلام للإحياء ليس عين جهة البشرية ؛ فافهم .
 
وقد وقعت الحيرة فيه من حيث كونه بشرا يحيي الموتى لا بشريته الإنسانية الحقيقية التي في أمه ، والصورة الممثلة التي كانت في جبريل حين نفخ روحه في أمه إحيائه أنه من كون روحه من اللّه ، وكونه من جبريل ، .
(فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى ) صورته الإنسانية البشرية ، ( فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانية ) الحقيقية لا باعتبار جمعيتها في ظاهره الجسماني وباطنه الروحاني ، بل من حيث ( البشرية ) فقط ، .
( فيقول : هو ابن مريم ) ويقتصر على وهم اليهود ، ( ومن ناظر فيه من حيث الصورة البشرية ) التي ظهر بها جبريل عند النفخ ، وقيد البشرية ؛ ليشعر بأن نظره أيضا باعتبار الظاهر.
( فينسبه لجبريل ) باعتبار بشريته ، وهم المتكلمون ، فقالوا : إنه بشر بلغ رتبة الملك ، ففعل فعله من الإحياء الذي هو من خصائص الأرواح .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر فيه من إحياء الموتى ، فينسبه إلى اللّه ) باعتبار كون روحه من اللّه ، وكون جسمه في حكم روحه ، كما قال ( بالروحية ، فيقول : ) هو باعتبار جسمه وروحه ( روح اللّه ) يحيى بإحيائه لا بمعنى أنه يوجد الحياة في المنفوخ فيه ، بل بالمعنى الذي قاله ( أي : به ) .
يعني : بعيسى من حيث كونه من اللّه بلا واسطة ( ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه ) ، وهذا يقرب من قول المحققين من الصوفية ، ولكنهم خرجوا عن الحيرة فلم يجعلوا جسمه متحدا بروحه كما لم يفعل هو لا روحه متحدا بالحق ، بل أضافوه إليه ، ولكن وقع في الحيرة من وقع بسبب هذا الإحياء ، فجعله بعضهم بروحه وجسمه متحدا بالحق ، وبعضهم بالملك ، وبعضهم اقتصروا في ذلك على البشرية .
( فتارة يكون الحق فيه متوهما ) ، فيقال : إحياؤه حقيقي تكويني هو عين إحياء الحق ، فهو عين الحق فيكون الحق فيه متوهما ( اسم المفعول ) تتوهمه الطائفة القابلة باتحاده ، وليس في الواقع حتى يكون الحق متوهما اسم الفاعل كونه فيه باتحاده به ، ( وتارة يكون الملك فيه متوهما ) ، فيقال : إن إحياءه بملكيته الممثلة بالصورة البشرية ، فهو الملك عنه .
( وتارة تكون البشرية الإنسانية فيه متوهمة ) ، فيقال : إن إحياءه كان تكوينيّا مع كونه بشرا ، وهو غلط لاستوائه مع سائر الأشخاص الإنسانية في هذا المعنى إلا أنهم يقولون : إن النفوس الإنسانية مختلفة الحقائق يتأتى من بعضها من الأفعال ما لا يتأتى من غيره ، ( فيكون ) عيسى باعتبار صورته الحسية ( عند كل ناظر بحسب ما يغلب نظره عليه ) ، ولكنه يتحير في جعل ذلك له باعتبار صورته الحسية ، وله ذلك باعتبار المجموع من روحه وجسمه من غير أن يكون إلها ، ولا ملكا ، ولا مكونا للحياة أصلا ، ولا مظهرا إلهيا باعتبار بشريته .
( فهو ) باعتبار كون روحه من اللّه ( كلمة اللّه ) لوجوده بكلمة « كن » ، ( وهو ) باعتبار كونه مظهرا للحياة ( روح اللّه وهو ) باعتبار كل جزء من أجزائه ، وحال من أحواله ( عبد اللّه ) من البشر لا يتعداه إلى الألوهية ، ولا إلى الملكية .
( وليس ذلك ) التوهم ( في الصورة الحسية لغيره ) ، وإن كان روحه كلمة اللّه حاصلا فيه بنفخة أو نفخ الملك ؛ فإنه لا ينسب باعتبار صورته الحسية إلى اللّه ، ولا إلى الملك فضلا عن أن تتوهم فيه الإلهية أو الملكية بكل شيء ، ( بل كل شخص ) باعتبار صورته الحسية ( منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى النافخ روحه في الصورة البشرية ) .
سواء قلنا : هو اللّه أو الملك لسبق صورته الحسية منسوبة إلى مزاج جسمه على نفخ ذلك الروح المنسوب إلى اللّه في حقّ الغير ؛ فلا يكون الروح المتأخر عين الصورة الحسية المتقدمة أو عين الجسم المتقدم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإنّ اللّه إذا سوّى الجسم الإنسانيّ كما قال :فَإِذا سَوَّيْتُهُ [ الحجر: 29  ] نفخ فيه هو تعالى من روحه ، فنسب الرّوح في كونه وعينه إليه تعالى ، وعيسى ليس كذلك ، فإنّه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشريّة بالنّفخ الرّوحيّ ، وغيره كما ذكرناه لم يكن مثله ، فالموجودات كلّها كلمات اللّه الّتي لا تنفذ .
فإنّها عن « كُنْ »وكن كلمة اللّه ، فهل تنسب الكلمة إليه بحسب ما هو عليه فلا تعلم ماهيّتها أو ينزل هو تعالى إلى صورة من يقول: " كُنْ فَيَكُونُ" [ مريم : 35 ] قول كن لتلك الصّورة الّتي نزل إليها وظهر فيها ؟ فبعض العارفين يذهب إلى الطّرف الواحد ، وبعضهم إلى الطّرف الآخر ، وبعضهم يحار في الأمر ولا يدري ) .
( فإن اللّه إذا سوى الجسم الإنساني ، كما قال : فَإِذا سَوَّيْتُهُ [ الحجر : 29 ] ) ( نفخ فيه هو تعالى من روحه ) كما قال :وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ الحجر : 29 ] ، وفي عينه أي : في ثبوته في علمه إليه تعالى إذ لا واسطة بينهما بخلاف الجسم المسوى ؛ فإنه تتوقف تسويته على وسائط كثيرة فلا ينسب ( إليه تعالى ) باعتبار كونه ، ( وعيسى ليس كذلك ) أي : لم يتوقف نفخ الروح فيه على التسوية ، ولا على حصول الصورة الحسية ، ( فإنه اندرجت تسوية جسمه ) أي : اعتدال مزاجه ( وصورته الحسية ) التابعة لهذه التسوية ( بالنفخ الروحي ) ، فتوهم أن صورته الحسية وجسميته عين روحانيته ، وإن روحانيته لكونها فاعلة فعل الحق أو الملك عين الحق أو الملك ، فهو بصورته الحسية عين أحدهما ، ( وغيره كما ذكرناه لم يكن مثله ) في هذه الجسمية والصورة الحسية ، فلم يتوهم فيها ذلك ، وإن صح فيها أنها كلمة اللّه كما صح في الأرواح كلها ذلك .
( فالموجودات كلها كلمات اللّه ) بدليل أن اللّه تعالى وصفها بأنها التي ( لا تنفذ ) ، مع أن كلامه تعالى واحد لا ينفصل إلا بحسب تعلقه بالموجودات ، فلا تكون الكلمات التي لا تنفد سوى الموجودات التي لا تتناهى لا بمعنى أنها عين كلمته تعالى حتى تكون عين ذاته من وجه ، كما نقول في صفاته تعالى : إنها عين الذات من وجه ، بل بمعنى أنها حصلت عن كلماته .
 
( فإنها عن قول :" كُنْ " وكن كلمة اللّه ) إذ هي الكلمة الموجدة للموجودات كلها سواء صدرت عن اللّه أو عن مظهر من مظاهره ، فإذا صدرت عن بعض المظاهر ( فهل تنسب الكلمة إليه ) أي : إلى اللّه تعالى على أنها المعنى القائم بذاته ، وهو ( بحسب ما هو ) أي : الحق ( عليه ) من التنزيه ؛ لأنه إنما اعتبرت من حيث هي كلمة موجدة ، ولا تعلق للإيجاد باللفظ من حيث هو لفظ ، فتكون الكلمة صفة للحق تعالى .
( فلا تعلم ماهيتها ) كما لا تعلم ماهية صفات اللّه تعالى ، وهو سبب التحير المتوهم كون صفته تعالى قائمة بالمظهر العيسوي ، إذ هو توهم كون ذلك المظهر غير الحق الموصوف بها ؛ لامتناع قيام الصفة الواحدة بموصوفين ، أو أن هذه الكلمة من جملة الألفاظ ، وإن كان كلامه تعالى منزها عنها ، فإن ذلك التنزه إنما هو باعتبار استقراره في مقر غيره ، وهو غير اعتبار ظهوره في هذه المظاهر ، فلا تكون كلمة باعتبار صدورها من بعض المظاهر منزهة ( أو ) بفرض أنه تعالى ( نزل هو تعالى ) عن مستقر غيره ( إلى صورة من يقول كن ) من المظاهر ، ( فيكون ) على هذا الوجه ( قول : كن ) حقيقة ( لتلك الصورة ) ، إذ الألفاظ لا تسند إلى اللّه تعالى حقيقة ، وإنما تسند إلى المحدثات ، ويكون إسنادها إلى اللّه تعالى مجازا .
لأنها نسبت إلى الصورة ( التي نزل ) الحق عن مستقر غيره ( إليها وظهر فيها ) ، فتكلم المظهر بكلمة تناسب المظهر في اللفظ والظاهر باعتبار المعنى ، فتكون نسبة اللفظ إليه مجازا.
 
( فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد ) ، وهو اعتبار المعنى حيث تصير صفة ، فإنه بذات اللّه تعالى ومنسوبا إليه حقيقة ، ( وبعضهم إلى الطرف الآخر ) ، وهو اعتبار اللفظ ، حتى يجعله مستندا إلى المظهر حقيقة ، وإن قام معناه بالحق تعالى ، ( وبعضهم يحار في الأمر ) ؛ لأنه لو اعتبر اللفظ ؛ فلا تعلق الإيجاد به أصلا ، وإن اعتبر المعنى وحده ، فهو قائم بذاته تعالى لا تعلق له بهذا المظهر ، وإنما يتعلق باعتبار اللفظ مع أنه ينسب إليه الإحياء مجازا ، ( ولا يدري ) وجه هذا المجاز .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهذه مسألة لا يمكن أن تعرف إلّا ذوقا كأبي يزيد حين نفخ في النّملة الّتي قتلها فحييت فعلم عند ذلك بمن ينفخ فنفخ فكان عيسوي المشهد ، وأمّا الإحياء المعنويّ بالعلم فتلك الحياة الإلهيّة الذّاتيّة العليّة النّوريّة الّتي قال اللّه فيها :أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ [ الأنعام : 122 ] ، فكلّ من يحيي نفسا ميتة بحياة علميّة في مسألة خاصّة متعلّقة بالعلم باللّه ، فقد أحياه بها فكانت له نورا يمشي به في النّاس أي : بين أشكاله في الصّورة ) .
ثم قال : ( وهذه مسألة ) أي : مسألة نسبة الإحياء إلى المظهر بكلمة « كن » باعتبار المعنى مع أنه قائم بذات اللّه تعالى لا بالمظهر ( لا يمكن أن تعرف إلا ذوقا ، كأبي يزيد ) أي : كمعرفة أبي يزيد إياها ( حين نفخ في النملة التي قتلها ) ، وهذا النفخ مظهر للمعنى القائم بذات اللّه تعالى قام بهذا المظهر ، ( فحييت ) تلك النملة بالمعنى القائم بذات اللّه الظاهر في النفخ القائم بهذا المظهر ، ( فعلم ) أبو يزيد ذوقا ( عند ذلك ) أي : وجه نسبة الإحياء إلى المظهر أنه من نفخه ، إذ علم أنه ( بمن ينفخ ) أي : يراه الذي هذا النفخ مظهر المعنى القائم به ، إذ لا يقوم معنى الإحياء إلا به ، (فنفخ ) عن شهود هذا المعنى حتى أثر في أعيانها ، ( فكان عيسوي المشهد ) ، فحصل ذلك في بعض الأتباع المحمديين ، فعلم تنزل درجة هذا الإحياء عن الإحياء المحمدي ، بل إحياء العلماء من أمته ، كيف وهذه الحياة الحاصلة من ذلك حياة فانية موجبة للخلق حيرة مذمومة ؟ !
وأما الإحياء المعنوي الذي اختص كماله محمد صلّى اللّه عليه وسلّم هو المقصود من إرسال الرسل ، وإظهار المعجزات ، وهو الذي يصير عيسى عليه السّلام تابعا له بل يقتدي ببعض أمته ، وهو المهدي من أجله ، وهو الإحياء ( بالعلم ) الذي هو صفة باقية .
( فتلك الحياة الإلهية ) الدائمة دوام الأرواح الحية بها ( العلية ) ؛ لكونها صفة الأرواح التي لها العلو على الأجسام النورية التي تنير لها طريق الحق بخلاف الحياة الحيوانية ؛ فإنها تفنى بفناء أجسامها ، وهي سفلية جاذبة إلى الأمور المحسوسة السافلة بظلمة حاجبة عن اللّه تعالى ( التي قال اللّه فيها :أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً [ الأنعام : 122 ] .
أي : لجهله باللّه ، وبالنبوة ، وبالملائكة ، وبالكتب ، وبالأمور الأخروية ،( " فَأَحْيَيْناهُ " [ الأنعام : 122 ] ) بالعلم بها فنسبت فيه الحياة إلى اللّه تعالى ؛ فهي حياة إلهية دائمة عليه ،( وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً )[ الأنعام : 112 ]
يكشف له عن الأحوال والمقامات ، وعن سائر الأمور الغيبية يمشي ( به في الناس ) يحييهم بهذه الحياة ، ويفيدهم العلوم اللدنية التي يستفيدها من هذه الحياة ، ومن هذه الأمور ( فكل من أحيا ) من الأنبياء أو الأولياء أو العلماء ( نفسا ميتة ) بجهل الأمور المذكورة ( بحياة علمية ) أي : بنوع منها ، ولو ( في مسألة خاصة ) دون جميع ما اطلع عليه ( متعلقة بالعلم باللّه ) الباقي ببقاء الروح لا الفاني بفناء البدن مما يتعلق بالأمور الدنيوية ؛ ( فقد أحياه ) أي : ذلك الشخص بجميع أجزائه من النفس والروح ، والقلب ، والسر الخفي ، والبدن ، والقوى ( بها ) أي : بتلك الحياة الإلهية الدائمة العلية .
( وكانت له نورا ) إلى اللّه تعالى وإلى مقامات الأنبياء والملائكة والكمّل من الناس ، وإلى الأمور الأخروية ( يمشي به في الناس أي : ) ينشره ( بين أشكاله في الصورة ) ، فيكلمهم بواسطة مناسبتهم الصورية التي هي أعم وجوه المناسبة إلى المراتب العالية هذا في حق من أحيا نفسا واحدة بمسألة واحدة ، فكيف من أحيا الدنيا بنور العلم الإلهي الذي لا تتناهى مسائله ؟
 
فظهرت فضيلة هذه الحياة والإحياء بها على الحياة التي أتى بها عيسى عليه السّلام ، وأحيا نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم العالمين بهذه العلوم الجليلة الرفيعة التي لم تتيسر لأرباب الرياضة والنظر مدى الدهور مع مخالفة بعضها لما كانوا جازمين بها ، فبيّن لهم غلطهم في ذلك مع أنه عليه السّلام لم يكن له بأكثر ذلك شعور إلى أربعين سنة ، ولم يستفد شيئا منها من إنسان أصلا أشد إعجازا من إحياء عيسى عليه السّلام ، وأكمل فائدة منه ، وكيف لا وهو المقصود بالذات من خلق العالم .
( فلولاه ولولانا   ..... لما كان الّذي كانا )
فإنا أعبد حقا ...    وإن الله مولانا
وإنا عينه فاعلم ...    إذا ما قلت إنسانا
فلا تحجب بإنسان ...  فقد أعطاك برهانا
فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا
وغذ خلقه منه ...    تكن روحا وريحانا
فأعطيناه ما يبدو ...    به فينا وأعطانا
فصار الأمر مقسوما   ... بإياه وإيانا
فأحياه الذي يدري  ... بقلبي حين أحيانا
فكنا فيه أكوانا    ... وأعيانا وأزمانا
وليس بدائم فينا   ... ولكن ذاك أحيانا
وممّا يدلّ على ما ذكرناه من أمر النّفخ الرّوحاني مع صورة البشر العنصريّ هو أنّ الحقّ وصف نفسه بالنّفس الرّحماني ، ولا بدّ لكلّ موصوف بصفة أن يتبع جميع ما تستلزمه تلك الصّفة ، وقد عرفت أنّ النّفس في المتنفّس ما يستلزمه فلذلك قبل النّفس الإلهيّ صور العالم ؛ فهو لها كالجوهر الهيولانيّ ، وليس إلّا عين الطّبيعة .)
كما قال : ( فلولاه ولولانا ) أي : فلو لا العلم الذي به الحياة الإلهية النورية الدائمة العلية والعلماء به ، ( لما كان الذي كان ) من المخلوقات كما قال : « كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن أعرف » .
ولا شكّ أن الحكمة في إيجاد الخلق إظهار نسبة الربوبية بالعبودية ، كما قال :وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[ الذاريات : 56 ] ، ولا يتم إلا ممن كمل في ذلك العلم .
( فأنا أعبد ) عبادة ( حقّا ) ، وذلك ( أن اللّه مولانا ) تدلى بذاته ، وجميع أسمائه المنفصل ظهورها في العالمين فيّ ، وأنا بكمال هذا التجلي في ( كأني عينه ؛ فاعلم إذا ما قلت إنسانا ) كاملا ، فإن كماله بظهور صور الحق والخلق فيه ، ( فلا يحجب بإنسان ) حادث ذليل عن ظهور رب قديم جليل فيه بذاته وأسمائه ، ( فقد أعطاك برهانا ) على ذلك مثل قوله على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها » . رواه البخاري وابن حبان

وإذا لم يحجب ، ( فكن حقّا ) أي : متحققا بما تجلى فيك تؤثر به في غيرك كأنك الحق ، ( وكن ) مع ذلك ( خلقا ) ؛ لأنه أصلك فلا تتوهم انقلابك إلى الحق ، ولا إنصافك بعين صفاته ، فلا تدع الربوبية لنفسك ( تكن باللّه رحمانا ) تفيض على الخلق فيضا عامّا تستفيضه منه بمناسبتك الطرفين ، وإن لم تسم بالرحمن على الإطلاق ؛ لامتناع ذلك في حق عين اللّه تعالى .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:51 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ العيسوي
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية    الجزء الثالث
ولا يتجوز في ذلك لإيهامه المعنى الحقيقي كمثل ما يترك استعمال اللفظ في معناه الحقيقي فرارا من التوهم ، فكيف في المعنى المجازي ، وإنما استعمله الشيخ - رحمه اللّه - لتصريحه بالقرينة الرافعة للإيهام ، وفي قوله : « باللّه » أي : باللّه الذي هو الرحمن بالذات .
ثم قال : ولا يقتصر على إفاضة الفيض الرحماني ، بل ( غذّ ) أي : أكمل ( خلقه منه ) أي : من تجليه الخفي ، وهو الفيض الرحيمي ( تكن روحا ) أي : مفيد راحة عظيمة بتكليمهم في العلم الحقيقي ، والمقامات العلية ، والأحوال السنية ، ( وريحانا ) أي : مفيدا روائح السير في اللّه ، وباللّه ومن اللّه .
وإذا كان لنا عموم الفيض الرحماني ، وخصوص الفيض الرحيمي ، وهي التغذية باعتبار حقيقتنا وخلقيتنا ، ( فأعطيناه ) أي : الخلق بحقيتنا ( ما يبدو به ) الحق ( فينا ) من صور تجلياته ، وباعتبار خلقيتنا ما ( أعطانا ) من آثارها ، ( فصار الأمر ) أي : أمر فيضنا مقسوما بإياه ، وإيانا بعضه من صور الحق ، وبعضه من صور الخلق .
وإذا كان كذلك ( فأحياه ) أي : الخلق الذي يحييه بالحياة الإلهية بالعلم مثال علمه ونوره ( الذي يدري بقلبي ) لكنه نسب إلينا ؛ لأنه إنما أحياه فترتب إحياؤه على ( إحيائنا فكنا ) سبب ذلك ، وكان المحيي حقيقة هو العلم الإلهي الذي كما ( فيه أكوانا ) محدثة ، ( وأزمانا ) متغيرة ، ( وأعيانا ) ثابتة فلا تغير فيه ، وإنما هو في إفاضته وتعلقه بنا وكذا في تجليه علينا.
ولذلك ( ليس بدائم ) ثم ( فينا ) وإن كان الأصل في تجليه ، ( ولكن ذلك ) المتجلي يكون (أحيانا) حين ارتفاع الحجب ، وهي ترتفع بالموت فيدوم بدوامه في نفسه ، فلا حجاب إلا أن يعود حجاب الكفر أو المعاصي والعياذ باللّه من ذلك .
 
فلذلك تسمى هذه الحياة الإلهية عليه نورية بخلاف الحياة الحيوانية ، فإنها ليست من صور أسمائه ؛ فلذلك لا يلزمها العلم الكامل ، بل هي من الآثار الحاصلة من نفسه الرحماني الذي النفخ العيسوي من مظاهره .
( ومما يدل على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني ) أي : المفيد حصول الروح في المنفوخ فيه من كونه مظهر الآحاد الذي هو من آثار الاسم الحي ، ومظهر معنى قول : كن القائم بذات الحق من حيث ما فيه من قول : كن ، لكن هذا النفخ ( مع صورة البشر العنصري ) الذي يجوز كون نفخه متكيف بالحروف اللفظية بخلاف النفخ الصادر من سائر الحيوانات ، وإنما ذكر الصورة ليشير إلى أن النفخ الجبريلي كان في حكمه إلا أنه لم يكن عنصريّا بل كان مثاليّا ، فيكون الروح المنفوخ من جهته وإن كان من جملة الآثار مشابها للصور الإلهية ، بخلاف الروح المنفوخ من جهة عيسى عليه السّلام .


ولذلك أسرع إليه الفساد بمقارنة البدن ؛ لكون العناصر قابله له ومعنى الأثر فيها أظهر بخلاف روح عيسى عليه السّلام ، فإنه كان قابلا للفساد إلا أنه لا يسرع إليه أن الحق ( وصف نفسه ) أي : ذاته على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بالنفس الرحماني ، إذ قال عليه السّلام : « إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن » . رواه أحمد وابن حبان  .


فيخرج هذا النفس ما استعدت له الأعيان الثابتة من القوة إلى الفعل ، وهذا النفس المشابهته النفس الإنساني حامل لصورة الحياة التي هي من جملة الحروف الكونية حمل النفس الإنساني صور الحروف اللفظية ، إذ ( لا بدّ لكل موصوف بصفة أن يتبع ) الصفة ، أي : يوجد بتبعيتها ( جميع ما تستلزمه تلك الصفة ) ، فإن كانت حقيقية يلزم أن يوجد معها جميع لوازمها الحقيقية ، وإن كانت مجازية لزم جميع اللوازم المشابهة بالمشابهة لتلك اللوازم لامتناع وجود اللزوم بدون اللازم .
 
( وقد عرفت أن النفس في المتنفس ) الإنساني ( ما يستلزمه ) من صور الحروف اللفظية فيجب أن يستلزم هذا النفس الإلهي صور الحروف الكونية ؛ ( فلذلك قبل النفس الإلهي ) عند ظهوره من باطن الحق ( صور العالم ) التي من جملتها صورة الحياة ، فحملها النفخ الجبريلي والعيسوي عند نزول الحق إلى صورتهما للمتكلم بكلمة « كن » في ضمن النفخ ، فسرت بسريانه إلى المنفوخ فيه .


وإنما قلنا : إنه من جملة الآثار لا من صور الأسماء ؛ لأنها بمثابة صور المرايا ، وهذه من الصورة الجسمانية والنوعية القائمة بالهيولى ؛ وذلك لأنه قبل النفس الإلهي صور العالم ، وهي لا تقوم إلا بالهيولى .
 
( فهو ) أي : النفس الرحماني ( لها ) أي : لصور العالم ( كالجوهر الهيولاني ) ، لكن الصفة لا تكون جوهر ؛ ولذلك لا بدّ من جواهر أخرى تقوم به هذه الصورة الكونية ، ( وليس ) في الظاهر ما يقبلها ( إلا عين الطبيعة ) ، إذ هي عبارة عن مبدأ الفعل والانفعال الذاتيين ، وقبول كل شيء صورته من جملة الانفعالات ؛ فهي القابلة للصور بالفعل بعد ما حملها النفس بالقوة ، ولا شكّ أن الفعل والانفعال من جملة الآثار ، فصور الطبيعة من جملة الآثار ، والكل داخل فيها ، وإن كان أكثرها مرايا صور لأسماء الإلهية أيضا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالعناصر صورة من صور الطّبيعة ، وما فوق العناصر ، وما تولّد عنها ؛ فهو أيضا من صور الطّبيعة ، وهي الأرواح العلويّة الّتي فوق السّماوات السّبع ، وأمّا أرواح السّموات السبع وأعيانها ؛ فهي عنصريّة ، فإنّها من دخان العناصر المتولّد عنها ، وما تكوّن من كلّ سماء من الملائكة فهو منها ، فهم عنصريّون ومن فوقهم طبيعيّون ، ولهذا وصفهم اللّه بالاختصام أعني الملأ الأعلى ؛ لأنّ الطّبيعة متقابلة ، والتّقابل الّذي في الأسماء الإلهيّة الّتي هي النّسب إنّما أعطاه النّفس).
 
( فالعناصر ) أي : النار والهواء والماء والتراب ( صورة من صور الطبيعة ) ؛ لأنها من عالم الكون والفساد ، فالفعل والانفعال فيها أظهر وما فوق العناصر ، وفوق ما تولد عنها من المركبات منها ، ومن أرواحها وقواها ، إذ هي في حكم العناصر ، وإن تجردت في ذواتها ، فهو أيضا من صور الطبيعة إذ اختلاف أفعالها من صورها ، فهي صور الطبيعة ، وإن كان المشهور انحصار الطبيعة في أعراض العناصر والمركبات منها ، ( وهي ) أي : ما فوق العناصر ( الأرواح العلوية ) ، وليس المراد منها أرواح السماوات السبع كما تقوله العامة ، بل هي ( التي فوق السماوات السبع ) البعيدة عن العنصرية ؛ فلذلك لا تفارق أجرامها ، ولا تحترق تلك الأجرام ، وتلك الأجرام ، وإن لم تكن عنصرية ؛ فهي مناسبة لها بخلاف أرواحها ؛ فلذلك لم يذكرها ، ( وأما أرواح السماوات السبع وأعيانها ) أي : أفلاكها ، ( فهي عنصرية ) ، وإن أجمع أكثر الفلاسفة على أن هذه الأفلاك ليست عنصرية فضلا عن أرواحها .
 
واستدل على كون السماوات السبع عنصرية بقوله : ( فإنها من دخان العناصر ) على ما هو مذهب المسلمين ، وقدماء الإشراقيين بموجب قوله تعالى :ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ[ فصلت : 11 ] ، وهي دخان الآية ، والدخان ، وإن لم يكن إحدى العناصر الأربعة ، فلا شكّ في تولده منها كما قال ( المتولد عنها ).
وقد روي أنه تعالى خلق جوهرا ؛ فنظر إليه بعين الهيبة ، فذاب فصار نصفه ماء ونصفه نارا ، فتموج الماء بالنار ، فارتفع منه دخان صار منه السماء ، وتلطفه بعضه ، فصار منه الهواء .
ثم أشار إلى عنصرية أرواحها بقوله : ( وما تكون عن كل سماء من الملائكة ) ، وإن لم تكن أجسامها ، ( فهو منها ) كالقوى الجسمانية والأرواح الحيوانية ، ( فهم عنصريون ) حاملون طبائعها ؛ فلذلك تفارق أجرامها ، وتحترق كما ورد به الشرع ، فالأثر به فيها أظهر ( ومن فوقهم ) من الأرواح العلوية ( طبيعيون ) ، وإن أنكر جمهور الفلاسفة ، ولم يظهر لها معنى الأثر بمفارقة أجرامها ؛ فقد ظهر فيها اختلاف الأفعال .
 
ثم استدل على طبيعتها لكونها خلاف المشهور بقوله : ( ولهذا وصفهم اللّه بالاختصام ) ، وهو إما فيما بينهم باعتبار التقابل الذي في أفعالهم ، أو في اعتراضهم على اللّه في خلق آدم ، وذلك قوله تعالى : ( ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ )[ ص : 69 ] ، وهم الأرواح العلوية ؛ ولذلك بيّن الضمير في قوله : « وصفهم » بقوله : ( أعني :بِالْمَلَإِ الْأَعْلى[ ص : 69 ] )، وهذا الاختصام لا بدّ له من مبدأ فيهم ، فهو إما الطبيعة وإما الأسماء الإلهية لكن الأول أظهر.
 
( لأن الطبيعة متقابلة ) بالذات إذ بها اختلاف ، فالأفعال والانفعالات الذاتية ، ( والتقابل الذي في الأسماء الإلهية ) ليس من ذواتها ؛ لأنها عبارة من المعاني المتضمنة للأمور ( التي هي النسب ) بين الذات الإلهية وسائر الكائنات التي هي صور الطبيعة التي تضمنها النفس ، فالتقابل فيها ليس من ذواتها إذ النسب لا يقتضي شيئا إلا باعتبار طرفيها .
إما من الذات أو النفس أو الطبيعة ، لكن الأسماء الإلهية من حيث تقدمها لا تقبل شيئا من الطبيعة الحادثة ، فهو إما من الذات أو من النفس الذي هو مبدأ الطبيعة ، لكن الذات ليس فيها اختلاف الجهات ، فهذا التقابل في الأسماء ( إنما أعطاه النفس ) إياها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ألا ترى الذّات الخارجة عن هذا الحكم كيف جاء فيها الغنى عن العالمين ؟
فلهذا خرج العالم على صورة من أوجدهم ، وليس إلّا النّفس الإلهيّ ، فبما فيه من الحرارة علا ، وبما فيه من البرودة والرّطوبة سفل ، وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل ، فالرّسوب للبرودة والرّطوبة ؛ ألا ترى الطّبيب إذا أراد سقي دواء لأحد ينظر في قارورة مائه ، فإذا رآه راسبا علم أنّ النّضج قد كمل فيسقيه الدّواء ليسرع في النّجح ، وإنّما يرسب لرطوبته وبرودته الطّبيعيّة ، ثمّ إنّ هذا الشّخص الإنساني عجن طينته بيديه وهما متقابلتان ، وإن كانت كلتا يديه يمينا فلا خفاء بما بينهما من الفرقان ، ولو لم يكن إلّا كونهما اثنين أعني يدين ، لأنّه لا يؤثّر في الطّبيعة إلّا ما يناسبها وهي متقابلة ، فجاء باليدين .)
واستدل على أنه ليس من إعطاء الذات بقوله : ( ألا ترى الذات الخارجة عن هذا الحكم ) أي : حكم النفس والإيجاد ( كيف جاء فيها الغنى عن العالمين ) ، فلو كان التقابل في الأسماء من الذات الإلهية كان فيها الاختلاف أولا ، ويكون فيها مجملا لوحدتها ؛ فلا بدّ لذلك من تفصيل ، وحينئذ فيما فيه هو الموجب بالذات اختلاف الصور الكونية كإيجاب النفس الإنساني اختلاف صور الحروف اللفظية .
( فلهذا ) أي : فلأجل غنى الذات عن العالمين لم يخرج العالم على صورتها ليس فيه شيء من التقابل ، كما أنه ليس في الذات بل ( خرج العالم على صورة من أوجدهم ) أي : أفراده المتقابلة علوّا وسفلا ، وحركة وسكونا ، وهو إما الطبيعة أو الأسماء الإلهية أو النفس ، لكن الطبيعة قابلة فلا تكون فاعلة والأسماء قديمة فلا تكون فاعلة للأمر الحادث بلا واسطة ، فتعين أنه ( ليس ) موجدهم لقريب ( إلا النفس ) ، فهو حامل للمعاني المناسبة لما في العالم من مبدأ الفعل والانفعال .
وكما أن النفس الإنساني حامل للطبائع الأربعة من : الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة التي هي مبادئ الفعل والانفعال ، فكذلك النفس ( الإلهي ) حامل لما يوجب أفعالها وانفعالاتها ،
( فبما فيه ) أي : في النفس الإلهي ( من الحرارة ) أي : من المعنى المناسب لها ( علا ) بعض العالم ، كالنار والهواء ، ( وبما فيه من البرودة والرطوبة سفل ) بعضه كالماء والتراب ، ( وبما فيه من اليبوسة رسب) بعضه كالتراب ، و ( لم يتزلزل ) إذ ليس فيه ما يوجب الحركة من الحرارة والرطوبة ؛ ولهذا كان الماء فوق الأرض ، وإن اجتمع فيه سبب الرسوب لما فيه من موجب الحركة - أعني : الرطوبة - ولا يتأتى مع لزوم السكون فيما تحت الأرض إذ منع من التزلزل للأرض ، فكيف لا يمنع ما تحتها ؟ !
 
( فالرسوب للبرودة والرطوبة ) لا لليبوسة في الأرض ، وإلا كان للنار رسوب لكن لها العلو المطلق ، ولو لم يكن للرطوبة ذلك لم يكن للهواء رسوب بالنسبة إلى النار ؛ لأن حرارته توجب العلو ، ولو لم يكن للبرودة رسوب لم يكن للأرض أصلا ، ولا للماء بالنسبة إليها لاجتماع سببه فيه ، وإنما تحركت النار مع اليبوسة لمعارضة الحرارة إياها فتبعت فلك القمر في حركته .
ولما كان المذكور في الكتاب من أن العلو من الحرارة ، والسكون من اليبوسة ، والرسوب من البرودة والرطوبة ، وهو خلاف المشهور من أن العلو للخفة ، والرسوب للسفل ، والحركة من الرطوبة ، والسكون من اليبوسة استدل على ما ذكره بأمر تجريبي لا يفيد الدليل العقلي على خلافه .
فقال : ( ألا ترى الطبيب إذا أراد سقي دواء لأحد ينظر في قارورة مائه ، فإذا رآه راسبا ) علم أن النضج ، وهو تهيؤ المادة للاندفاع ( قد كمل ، فيسقيه الدواء ؛ ليسرع في النّجح ) بالاندفاع بالسيلان الحاصل على التفرق والرسوب ، ( وإنما يرسب ) عند النضج المفيد للخفة ( لرطوبته وبرودته الطبيعية ) ؛ قيد بذلك للإشارة إلى أن الرطوبة والبرودة العارضة لا توجب الرسوب ، كما في بعض أجزاء الهواء ، فهذا تأثر النفس الإلهي في العناصر .
ثم أشار إلى إثارة في الأسماء الإلهية باعتبار ظهورها الكامل الذي في الإنسان ، فقال :
( ثم ) إن هذا الشخص الإنساني ، يعني : آدم عليه السّلام الجامع لأسرار أولاده ( عجن طينته ) الشاملة على الطبائع المذكورة ( بيديه ) أي : أسماؤه المتقابلة ليظهر منها آثارها التي تقتضيها طبائعها التي أخذتها من النفس الإلهي ، وإنما فسرناهما بالأسماء المتقابلة إذ ( هما ) أي : اليدان بالمعنى المتعارف ( متقابلتان ).
 
فينبغي أن يعتبر ما يناسب هذا التقابل في يدي اللّه تعالى ، ( وإن كانت كلتا يديه يمينا ) ، كما صحّ في الخبر : « أنه يوضع للمقسطين منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين . رواه ابن بطة والبيهقي .
وذلك للإشارة إلى أنه لا تفاوت في تأثير يديه مثل التفاوت في تأثير يدي الإنسان ؛ فإن يمينه أقوى من شماله غالبا ، ( فلا خفاء بما بينهما من الفرقان ) في حق اللّه تعالى ، ( وإن لم يكن ) ذلك الفرقان ( إلا كونهما اثنين ) ؛ لأنه موجب للتغاير الذي هو عين الفرقان ، لكن حملنا هذا الفرقان على التقابل المفهوم من اليدين المتعارفتين ؛ فلذلك قال : ( أعني يدين ) سيما إذا فرضنا مباشرين لطينة آدم الشاملة على الطبائع المتقابلة .
 
 ( لأنه لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها ) لما قرر من وجوب التناسب بين الفاعل والقابل ، ( وهي ) أي : الطبيعة ( متقابلة ) ضرورة تقابل الحرارة للبرودة ، وتقابل الرطوبة لليبوسة ، والأولان مبدأ الفعل ، والآخران مبدأ الانفعال ؛ فبيّن مجموعهما تقابل آخر .
( فجاء باليدين ) للتأثير فيهما ؛ ليؤثر كل اسم بحسب طبيعته في عصر يناسب طبيعته ، ويؤثر مجموعهما باعتبار ما فيها من التقابل في مجموع طبائعه المتقابلة لإكمال هذا المعنى فيه ؛ فلذلك كان من عنايته بهذا النوع الإنساني .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولمّا أوجده باليدين سمّاه بشرا للمباشرة اللائقة بذلك الجناب باليدين المضافتين إليه ، وجعل ذلك من عنايته بهذا النّوع الإنسانيّ ؛ فقال لمن أبى عن السّجود له :ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ [ ص : 75 ] ، على من هو مثلك يعني عنصريّاأَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [ ص : 75 ] ، عن العنصر ، ولست كذلك ، ويعنى بالعالين من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النّوريّة عنصريّا ، وإن كان طبيعيّا ، فما فضل الإنسان غيره من الأنواع العنصريّة إلّا بكونه بشرا من طين ؛ فهو أفضل نوع من كلّ ما خلق من العناصر من غير مباشرة ، فالإنسان في الرّتبة فوق الملائكة الأرضيّة والسّماويّة والملائكة العالون خير من هذا النّوع الإنساني بالنّص الإلهيّ ؛ فمن أراد أن يعرف النّفس الإلهيّ فليعرف العالم ) .
كما أشار إليه بقوله : ( ولما أوجده باليدين سماه بشرا ) لا لما يتوهم من كونه من ظاهر الأرض وبشرته بل ( للمباشرة اللائقة بذلك الجناب ) من التأثير بلا واسطة الأسباب السماوية التي هي متوسطة بينه تعالى وبين الحوادث الزمانية ( باليدين المضافين إليه ) ؛ فلا يكونان من الجوارح ، ولا مباشرتهما مباشرة الأجسام ؛ ولذلك ( جعل ذلك ) الإيجاد لكونه  بلا واسطة ذلك ( من عنايته ) تعالى ( بهذا النوع الإنساني ) حيث باشر أول أفراده بيديه ، فجعله بذلك مستحقا للسجود ممن ليس له ذلك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فقال لمن أبى عن السجود له :ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ [ ص : 75 ] على من هو مثلك ) لم يرد به المثلية في مباشرة اليدين مع كونه عنصريّا ، بل ( يعني ) مثلا ( عنصريّا ) ، وإن اختلف العنصران الغالبان عليهما مكانا علوّا وسفلا ، يعني لو تجردت عنصريته عن مباشرة اليدين ، وكان عنصره أدنى مكانا من عنصرك لم يكن لك أن تتكبر عليه ، فكيف وقد فاق عليك بشرف مباشرة اليدين المضافين لطينته " أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ" [ ص : 75 ] .
"" أضاف المحقق : العالون : هم الملائكة المهيمون والملائكة المقربون ، كجبريل وغيره من ملائكة العرش والكرسي ، قال المحققون : رسل الملائكة أفضل من عامة البشر ، فكل واحد من الإنسان والملائكة العالين فاضل ومفضول ؛ فالإنسان أفضل من الملائكة العالين من ذلك الوجه ، والعالون أفضل من الإنسان من حيث إنه لم تكن نشأتهم النورية عنصرية ( شرح القاشاني ص 223 ) . ""
 
(عن العنصر ) الموجب للدنو المعارض لعلو مباشرة اليدين ، ( وليست ) ، فليعرف العالم الذي هو له النفس الإنسانية الذي للرب تعالى من حيث إن معرفة ظهورها فيه توجب معرفته تعالى .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنّه « من عرف نفسه ؛ فقد عرف ربّه » الّذي ظهر فيه أي العالم ظهر في نفس الرّحمن الّذي نفّس اللّه تعالى به عن الأسماء الإلهيّة ما تجده من عدم ظهور آثارها ، فامتنّ على نفسه بما أوجده في نفسه ، فأوّل أثر للنّفس الرحماني إنّما كان في ذلك الجناب ثمّ لم يزل الأمر ينزل بتنفيس العموم إلى آخر ما وجد .
فالكل في عين النفس ... كالضوء في ذات الغلس
والعلم بالبرهان في ... سلخ النهار لمن نعس
فيرى الذي قد قلته ... رؤيا تدل على النفس
فيريحه من كل غم ... في تلاوته «عبس»
ولقد تجلى للذي ... قد جاء في طلب القبس
فرآه نارا وهو نور ... في الملوك و في العسس
فإذا فهمت مقالتي ... تعلم بأنك مبتئس
لو كان يطلب غير ذا ... لرآه فيه وما نكس
وأمّا هذه الكلمة العيسويّة لمّا قام لها الحقّ في مقام « حتّى نعلم ويعلم » استفهم عمّا نسب إليها هل هو حقّ أم لا مع علمه الأوّل بهل وقع ذلك الأمر أم لا ، فقال له :أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ المائدة : 116 ] .
فلا بدّ في الأدب من الجواب للمستفهم ؛ لأنّه لمّا تجلّى له في هذا المقام ، وهذه الصّورة اقتضت الحكمة الجواب في التّفرقة بعين الجمع ، فقال وقدّم التّنزيه :سُبْحانَكَ ،فحدّد بالكاف الّتي تقتضي المواجهة والخطاب ،ما يَكُونُ لِي أَنْمن حيث أنا لنفسي دونكأَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّأي : ما تقتضيه هويّتي ولا ذاتي ،إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [ المائدة : 116 ] ؛ لأنك أنت القائل في صورتي ، ومن قال أمرا فقد علم ما قال ، وأنت اللّسان الّذي أتكلّم به كما أخبرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ربّه في الخبر الإلهي ؛ فقال : « كنت لسانه الّذي يتكلّم به » ، فجعل هويّته عين لسان المتكلّم ، ونسب الكلام إلى عبده ، ثمّ تمّم العبد الصّالح الجواب بقوله :تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ،والمتكلّم الحقّ ، ولا أعلم ما فيها فنفى العلم عن هويّة عيسى عليه السّلام من حيث هويّته لا من حيث إنّه قائل وذو أثر ،وَلا أَعْلَمُ[ المائدة : 116 ] ، فجاء بالفصل والعماد تأكيدا للبيان واعتمادا عليه ، إذ لا يعلم الغيب إلّا اللّه ، ففرّق وجمّع ووحّد وكثّر ، ووسّع وضيّق ).
فانظر إلى هذه التّنبئة الرّوحيّة الإلهيّة ما ألطفها وأدقّها أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [ المائدة : 117 ] ، فجاء بالاسم « اللّه » لاختلاف العبّاد في العبادات واختلاف الشّرائع ؛ ولم يخصّ اسما خاصا دون اسم ، بل جاء بالاسم الجامع للكلّ  .
 
قال رضي الله عنه :  ( فإنه « من عرف نفسه ؛ فقد عرف ربه » الذي ظهر نفسه فيه ) ؛ لأنه إنما يعرف الحق من حيث ما فيه مما يناسب صفاته من الحياة ، والعلم ، والإرداة ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والكلام ، فيظهر له أن هذه الصفات موجودة في ربه ، فيعرف بذلك ربه والعالم مع النفس الرحماني ( كذلك ) ، أي : العالم ظهر في ( النفس الرحماني ) بعد كمونة في أسماء الحق كونا موجبا فيها ما يشبه الكرب ، فأزاله الحق عنها بهذا النفس ( الذي نفس اللّه به عن الأسماء الإلهية ) ( ما ) كانت ( تجده ) مما يشبه الكرب الحاصل لها ( عن عدم ظهور آثارها ) ، فنفس عنها ( بظهور آثارها ) التي هي الصورة الروحانية والجسمانية
 .
ثم أشار إلى فائدة هذه المعرفة بأنها مزيلة لأنواع الكرب كلها ، فقال : ( فامتن على نفسه ) أي : ذاته باعتبار أسمائه التي كانت هذه الذات غالبة عليها قبل ظهور هذه الآثار بما ( أوجده في نفسه ) من آثار أسمائه بأن جعل النفس محل ظهور هذه الآثار الموجب كونها ما يشبه الكرب في الأسماء بل في الذات باعتبار عينيتها .
 
قال رضي الله عنه :  ( فأول أثر كان للنفس الرحماني ) بإزالة الغموم ، ( إنما كان في ذلك الجناب ) ، وإن جل عن قبول الآثار ؛ لتنزهه عن أن يكون محلا للحوادث ، لكن هذا يشبه الأثر بإزالة ما يشبه الكرب الذي في الأسماء ، باعتبار نسبتها إلى هذه الآثار ، فكأنه كان هذا الكرب في الأسماء ، وهي كأنها عين الذات حينئذ ، فكأنه كان الكرب هناك فأزيل عنها .
 
قال رضي الله عنه :  ( ثم لم يزل الأمر ) أي : أمر النفس الإلهي ( ينزل ) إلى سائر المراتب بتنفيس ( الغموم إلى آخر ما وجد ) ؛ فمنه تأثير نفخ عيسى عليه السّلام من حيث مظهريته لذلك النفس في إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، ومنه بقيات أهل الدعوات والرقى ، ومنه نفس الإنسان المنفس له عما يجد من الحرارة الروحانية في باطنه بإخراجه ، وإدخال الهواء البارد من الخارج ، وإذا كان ظهور ( الكل في النفس كضوء ) الكواكب ، وغيرها الظاهر ( في ) الهواء ( ذات الغلس ) ، وهو ظلمة آخر الليل تظهر فيه عدم قيامها به ، وهذا الأمر واضح لأهل الكشف ، ( والعلم ) بهذا الظهور ، مع عدم قيام الظاهر بالمظهر ( بالبرهان ) ، مع كون هذا المعلوم في الموضوح ( في سلخ النهار ) لدى أهل الكشف إنما يحتاج إليه ( لمن نعس ) أي :
نام ، فإنه لا يرى شيئا في سلخ النهار ؛ فإذا برهن لتمثله ( فيرى الذي قد قلته رؤيا تدل على النفس ) دلالة صور المنام على ما تعبر هي به .
لكن هذه الرؤيا البرهانية إذا رآها ( فيريحه عن كل كرب ) كان يجده في الشدائد ، فيراها من حيث كونها من صور النفس المنفس لها بنفسه من وجه آخر ، فتزول عنه عبوسته التي يقال فيها لأجله : إنه ( في تلاوته عبس ) .
ثم أشار إلى ذلك البرهان ، وهو القياس على ظهور النار لموسى عليه السّلام في جناب الحق مع أنه ليس محلا لصور الحوادث ، بل إنها رؤيت فيه ؛ فهي محررة كصورة الشخص في المرآة ، فقال : ( ولقد تجلى ) أي : الحق بلا خلاف ( الذي ) ( قد جاء في طلب القبس ) ، وهو موسى عليه السّلام ، فرآه أي : الحق نارا بظهور صورة النار فيه ، وهو نور ليس بمحل الصورة شيء ، وهذا المعنى معروف في الملوك أهل الكشف ، وفي العسس علماء الظاهر .
( فإذا فهمت مقالتي ) ، وعرفت أن الصورة الظاهرة في الحق غير حالة فيه ، بل هي كصور الشخص في المرآة ( تعلم بأنك مبتئس ) فقير ، وإن ظهرت في الحق أو ظهر فيك الحق ، بل غايته أنه قائم بخيال الرأي بتبدل هذه الصور بحسب ذلك حتى أنه ( لو كان ) موسى عليه السّلام ( يطلب غيرنا ) لقبس ( لرآه ) أي : ذلك غير الحق ( فيه ) ، أي : فالحق صورته ، ( وما نكس ) عن الحق عن عدم رؤية المطلوب ، فهو إنما رأى النار لكونها صورة مطلوبة ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
ولما فرغ عن بيان ما يتعلق بالنفس الإلهي من حيث ظهور الآثار رؤية ، وإن كان بعضها صورا للأسماء الإلهية ، لكن من حيث هي آثاره ؛ شرع في بيانه من حيث هو صورته .
 
فقال رضي الله عنه  : ( وأما هذه الكلمة العيسوية ) التي هي صورة النفس الإلهي القائمة بفعله كالأحياء والأموات ( لما قام لها الحق في مقام حتى نعلم ) ، وهو يعلم مقام يشبه الفرق مع الحمى ، وهو أنه ( يعلم ) الحوادث الزمانية بالعلم الأول مع تغير نسبته بأن علم بأنها حصلت في أوقاتها لا قبل ذلك ، فكأنه يتجدد له ذلك العلم مع ثبوت علمه الأول ؛ وذلك لأن للنفس هذا المقام ؛ فإن له التفرقة مثل الآثار مع اجتماعها بالقوة في أسمائها .
( استفهم عما نسب إليها ) من القول بالتفرقة المحضة مع إبهام تصويرها بصورة الجمع ( هل هو حق ) واقع صدوره منه ( أم لا ) ، وهو الاستفهام ناظر إلى الفرق في المستفهم ( مع علمه الأول ) باعتبار جمعيته ( هل وقع ذلك الأمر أم لا ) ، ( فقال له :أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ المائدة : 116 ] ، فاستفهم بطريق التفرقة مع كونه في مقام الجمع ، ( فلا بدّ في ) مقتضى ( الأدب ) الواجب رعايته في هذا المقام ( من الجواب المستفهم ) من غير أن يقتصر المجيب على قوله : أنت السائل والمجيب ، ولا أن يسكت عنه بالكلية بخلاف مقام الجمع ، فإنه لا أدب فيه ، ولا جواب لعدم تميز العبد هناك ، وأما هنا فلابدّ منهما .
( لأنه لما تجلى في هذا المقام ) المثبت للعبد وجودا ، وهو الحق ، وفي ( هذه الصورة ) التي هي صورة السائل الطالب للجواب ( اقتضت الحكمة ) الموجبة رعاية مقتضى المقام ( الجواب ) الكامل ( في التفرقة ) قائمة ( بعين الجمع ) ؛ ليناسب الجواب المقام الذي أقام فيه السائل الذي هو الحق ، ( فقال : ) في الجواب المشعر بالتفرقة المحضة في الظاهر مع مقارنتها للجمع في الباطن ، ( وقدّم التّفرقة ) المشعرة بالجمع ؛ ليقارنها به ( سبحانك ) ، ( فحدد ) المنزه في مقام الجمع ( بالكاف ) المشعرة بالتفرقة ؛ لأنها ( التي تقتضي ) التفرقة ؛ لاقتضائها ( المواجهة والخطاب ) ، ولا يتصور أنه من الأمر الواحد من حيث هو واحد ، بل لا بدّ من مغايرة « ما » ، ولو اعتبارية كاعتبار القائلية والسامعية ، فيكون الجمع مقرونا بالتفرقة ؛ ليدل بطريق الانعكاس على أن الفرق المذكور بعده مقرون بالجمع .
 
وهو قوله :ما يَكُونُ لِيإذ ظاهره التفرقة ، ولكنه متضمن للجمع ؛ فلذلك حسن في تفسيره أن يقال : ( من حيث أنا لنفسي دونك ) أي : باعتبار التفرقة المحضة ، وإن تضمنت في الواقع الجمعأَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [ المائدة : 116 ] أي : ثابت .
 
ولما عم الثابت بالذات وبغير وهو ثابت له بغير ، لكنه إنما يتأتى باعتبار الجمع ، وهو نفاه هاهنا فسره بقوله : ( أي : ما تقتضيه هويتي ) أي : شخصيتي ( ولا ذاتي ) التي هي الإنسانية ، فإنهما من حيث هما من التفرقة الصرفة المانعة ثبوت ذلك لهما ، فهو إنما يتصور باعتبار الجمع ، فقال : ( إن كنت قلته ) أي : باعتبار الجمع ، ( فقد علمته ) حتى أنه لو فرض عدم علمك بالحوادث الزمانية ، لوجب أن تعلم هذا ؛ ( لأنك أنت القائل : في صورتي ) بهذا الاعتبار .
( ومن قال أمرا ؛ فقد علم ما قال ) ، وإن جاز أن يكون من خلق شيئا لا يعلمه لو خلقه بالواسطة على زعم الفلاسفة في الحوادث الزمانية أنها مستندة إلى الحركات السماوية ؛ وذلك لأنه ليس هذا القول الإيجاد الكلام في غير كما تقوله المعتزلة أنه تعالى متكلم بكلام يوجده في جسم آخر .
.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الرابع .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:53 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الرابع .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ العيسوي
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية    الجزء الرابع
بل ( أنت اللسان الذي أتكلم به ) بالنظر إلى هذا الجمع ، وإن قورن بالفرق من حيث نسبة اللسان والكلام إليّ ( كما أخبرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ربه ) لا بلسان الحال بل ( في الخبر الإلهي ) الذي سمعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الحضرة الجامعة .
( فقال : " كنت لسانه الذي يتكلم به "  ، فجعل هويته باعتبار الجمع عين لسان المتكلم ) ، ويلزمه كون كلامه عينية صورة المرآة لصور الشخص المحاذي لها ، وإن قارن هذا الجمع بالتفرقة إذ ( نسب الكلام إلى عبده ) ، ولكن باعتبار الجمعية لا يكون من قبيل خلق الكلام في محل مغاير أو بواسطة ؛ فيلزمه العلم لا محالة ، فلا وجه لاستفهامه بالنظر إليها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثم تمم العبد الصالح يعني : عيسى عليه السّلام الجواب )
 بإلحاق ما يفيد فوائد زائدة من إثبات العلم للّه ، باعتبار استقراره في مقر غيره ، وباعتبار ظهوره في الظهر الجامع ، ونفيه عن عيسى باعتبار هويته المشيرة إلى الفرق ، وإن أخذ مع الجمع ، بل إنه يعلمه باعتبار الجمع فقط ، ولكنه لا يكون علما محيطا بالغيوب ، بقوله :تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي[ المائدة : 116 ] ، فبتعلم ما فيها من صورة كلامك كيف ( والمتكلم ) باعتبار الجمع سيما في الكلام النفسي ( الحق ولا أعلم ما فيها ) أي : ما في نفسي باعتبار الفرق ، وإن قورن بالجمع حتى صح فيها أنها نفس الحق فأصغت إليه تعالى ، وإنما هي لعيسى نسبت إليه نسبة يد العبد ولسانه إليه .
 
( فنفى العلم عن هوية عيسى عليه السّلام ) المشيرة إلى الفرق لا من حيث إنه قائل بذلك القول باعتبار الجمع ، ولا ( من حيث إنه ذو أثر ) بهذا القول في الإحياء والإبراء ، فإنه ليس باعتبار الهوية بل باعتبار الجمع ، إذ لا بدّ للتأثير من كونه صورة الحق ، فلا يمكن نفي العلم من تلك الجهة .
ثم قال :إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ[ المائدة : 116 ] ، ( فجاء بالفصل والعماد ) أي : بالضمير المسمى ضمير الفصل عند نحاة البصرة ، وبالعماد عند نحاة الكوفة تأكيدا للبيان ؛ ليدل على أن الإحاطة بالمغيبات في اللّه على سبيل الجزم ، فلا يكون للعبد ، وإن بلغ مقام الجمع أصلا ، وإنما يكون له شيء منه بعد انقشاع التجلي الجمعي ، واعتمادا عليه لا على ما يتوهم من صيرورة العبد حينئذ في حكم الرب في العلم كما صار في التأثير ، وليس كذلك .
 
( إذ لا يعلم الغيب ) المطلق ( إلا اللّه ) إذ لو علمه العبد ، فإما في حال الجمع ولا بقاء له حينئذ أو بعد ذهابه ، فلا يبقى عنده إلا قدر استعداده ، وإذا فهمت هذا ( ففرق ) عيسى عليه السّلام قوله :ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ[ المائدة : 116 ].
( وجمع ) بقوله :إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ[ المائدة : 116 ] ، ( ووحد ) بقوله :تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي[ المائدة : 116 ] .
( وكثر ) بقوله :وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ[ المائدة : 116 ] ، (ووسع) بجعله علام الغيوب ، (وضيق) بحصر علم الغيب فيه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثمّ قال متمّما للجواب :ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ[ المائدة : 117 ] ، فنفى أوّلا مشيرا إلى أنّه ما هو ثمّة ، ثمّ أوجب القول أدبا مع المستفهم ، ولو لم يفعل كذلك لاتّصف بعدم علم الحقائق وحاشاه من ذلك ، فقال :إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ[ المائدة : 117 ] ، وأنت المتكلّم على لساني وأنت لساني ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( ثم قال ) عيسى عليه السّلام ( متمما للجواب ) بإلحاق زيادة تفيد أنه كما لا علم له باعتبار هويته المشعرة بالتفرقة ، فلا قول له أيضا ، وإنما هو للحق وهو به أمر ، والعبد وإن ظهر بصورته يكون به مأمورا( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ [ المائدة : 117 ] ، فنفى أولا ) القول باعتبار نسبته إلى هويته ، ( مشيرا ) بذلك النفي ( إلى أنه ) أي : القول ( ما هو ثمة ) أي :
في هويته من حيث هو هويته ، ( ثم أوجب القول ) أي : المستفهم ( أدبا مع المستفهم ) بأن المستفهم منه ، وإن اعتبر منسوبا في نظر التفرقة المتضمنة للجمع ( لا تصف بعدم علم الحقائق ) ؛ لإشعاره بتصور نظره على التفرقة مع تضمنها للجمعية ، ( وحاشاه من ذلك ) .
ولما كان عالما بالحقائق غلب عليه نظر الجمع الذي كان في ضمن التفرقة ، ( فقال :
إلّاما أَمَرْتَنِي بِهِ [ المائدة : 117 ] ) ، فإنه وإن كان على لساني في نظر التفرقة إلا أنه لا أمر سواك ، ( وأنت المتكلم على لساني ) ، وإن ظهرت التفرقة ، ولكن نظري الجمعية ، فكيف أكون متكلما بلسانك ، وهو أبعد من أن أكلمك بلساني .
 
قال رضي الله عنه :  ( فانظر إلى هذه التثنية الروحية الإلهية ما ألطفها وأدقها ) في قوله :إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ[ المائدة : 117 ] ، في جعله القول لربه في نظر التفرقة ، باعتبار تضمنها الجمعية مع نفيها عن التفرقة من حيث هي تفرقة ، ومع اعتبار الجمعية جعل الحق المتكلم على لسانه أمرا ، وجعله مع ذلك مأمورا مع ظهوره بصورة الأمر في حق من دونه ، بقوله :" أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ " [ المائدة : 117 ] ، وإنما ذكر التثنية للإشارة إلى أن هذه اللطيفة الدقيقة لا تكاد تنكشف على الأولياء إلا بواسطة الأنبياء وتبينهم ، بل لا تنكشف لكل نبي إلا لمن غلبت عليه الروحية الإلهية .
 
قال رضي الله عنه :  ( فجاء ) في بيان المعبود ( بالاسم ) الجامع ( اللّه ) ؛ ليشير إلى أنه يأمر كل عابد أن يعبد من الأسماء الإلهية ما تتأتى له عبادته في استعداده مع أنه لا يمكن التنصيص على تلك الأسماء بأعيانها ، فاقتصر على ذكر الاسم الجامع لها ؛ وذلك ( لاختلاف العبادة ) من العباد من حيث استنادهم إلى الأسماء الخاصة الطالبة للعبادة المخصوصة ، ( واختلاف الشرائع ) الموجبة لاختلاف العبادات ، وهو عليه السّلام ، وإن خص شريعته ؛ لكنه علم أنها تنسخ بشريعة نبينا عليه السّلام ، وأنه سينزل في أمته ، فلابدّ من أمرهم بإقامة هذه الشريعة حينئذ ، وقد بشر عليه السّلام قومه بمجيء نبينا عليه السّلام بعده ، فكأنه أمرهم أيضا بمتابعته عند مجيئه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولم يعين لبيان المعبود ( اسما خاصّا ) ، وإن وقعت عبادة كل عابد للاسم الخاص ، بل جاء ( بالاسم الجامع للكل ) من الأسماء .
"" أضاف المحقق : الاسم الجامع : هو اسمه تعالى ؛ لأنه اسم الذات المسماة بجميع الأسماء الموصوفة بجميع الصفات ( لطائف الإعلام ص 21 ) .""
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثمّ قال :رَبِّي وَرَبَّكُمْ[ المائدة : 117 ] ، ومعلوم أنّ نسبته إلى موجود ما بالرّبوبيّة ليست عين نسبته إلى موجود آخر ، فلذلك فصّل بقوله :رَبِّي وَرَبَّكُمْ [ المائدة : 117 ] ، بالكنايتين كناية المتكلّم وكناية المخاطب ،إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ،[ المائدة : 117 ] ، فأثبت نفسه مأمورا وليست سوى عبوديّته ، إذ لا يؤمر إلّا من يتصوّر منه الامتثال وإن لم يفعل ، ولمّا كان الأمر يتنزّل بحكم المراتب ؛ لذلك ينصبغ كلّ من ظهر في مرتبة ما بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة . فمرتبة المأمور لها حكم يظهر في كلّ مأمور . ومرتبة الآمر لها حكم يبدو في كلّ آمر ) .
وإن لم تتأت عبادته إلا من الإنسان الكامل مع أنه أمر للعامة ؛ لأنه علم بالقرينة أنه ليس المراد عبادة هذا الاسم من حيث جمعه ، بل من حيث الأسماء الداخلة تحته .
وإليه الإشارة بقوله : ( ثم قال :رَبِّي وَرَبَّكُمْ [ المائدة : 117 ] ) ؛ وذلك لأنه ( معلوم أن نسبته إلى موجود ما بالربوبية ليست عين نسبته إلى آخر ) ، وكل نسبة تقتضي اسما خاصّا ، فلا يعبد أحدا عند الأمر بعبادة هذا الاسم الجامع سوى الاسم الخاص الداخل فيه .
قال رضي الله عنه :  ( فلذلك فصل ) تلك الأسماء نوع تفصيل ، ( بقوله :رَبِّي وَرَبَّكُمْ [ المائدة : 117 ]
 
(بالكنايتين )  المضاف إليهما اسم الرب ( كناية المتكلم ) ، وإن لم تتأت عبادة ذلك الرب إلا من الكمّل لا من كل كامل ، بل ممن كان عيسوي القلب من الأولياء ، فأمرهم أولا لسبقهم نسبه إليهم ، وامتثالا لأوامره ، ( وكناية المخاطب ) وهو يشمل الأسماء الجزئية التي لا تنحصر ؛ لكونها بعدد عابديها ، فلا يمكن التنصيص على كل منها لمخصوصها ، كما لا يمكن التنصيص على كل واحد منهم ، وإنما كان للاسم الجامع هذا التفصيل ؛ لأن ظهوره في المظاهر إنما يكون بحسبه ؛ فلذلك لما قال الحق في مظهره :اعْبُدُوا اللَّهَ[ المائدة : 117 ] ، أمرا .
 
قال عيسى عليه السّلام : (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ [ المائدة : 117 ] ، فأثبت نفسه مأمورا ) ، إذ ليس لنفسه في أمر التكليف سوى المأمورية . ثم فسّر مأموريته بعبوديته ، وإن لم تكن مطلق المأمورية عبودية ؛ وذلك لأن مأموريته ( ليست سوى عبوديته ) ؛ لأنها امتثال أمر التكليف ، ومطلق الأمر يقتضي مطلق الامتثال ( إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال ) فيقصد منه ذلك ، ( وإن لم يفعل ) فإن كان الأمر للتكليف كان الامتثال عبوديته وإلا كانت إجابة دعاء .
 
وذلك لأن الأمر يكون بحسب الأمر والمأمور كالتجلي الإلهي بحسب المحل ، كما أشار إليه بقوله : ( ولما كان الأمر ينزل بحكم المراتب ) ؛ لكونه من صفات الحق ، فيكون في الظهور مثل سائر صفاته ؛ ( لذلك يتصف كل من ظهر ) من صفات الحق ( من مرتبة ما ) من المراتب الحقيّة أو الخلقية ( بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة ) من الكمال والنقص والحدوث والقدم ، فكذلك الأمر يظهر في مرتبة الأمر والمأمور بحسبهما بعد أن يكون لكلّ واحدة من هاتين المرتبتين حكم عام يعم الحق والخلق .
( فمرتبة المأمور ) حقّا أو عبدا لها حكم عام هو كونه مطلوب الامتثال منه ( يظهر في كل مأمور ) بحسبه ، فإن كان عبدا ظهر بالعبودية ، وإن كان ربّا بإجابة الدعاء ، ( ومرتبة الآمر ) حقّا أو عبدا ( لها حكم ) عام هو كونه طالبا للامتثال ( يبدو في كل آمر ) بحسبه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فيقول الحقّ "وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ "[ البقرة : 43 ] فهو الآمر ، والمكلّف المأمور ، ويقول العبدرَبِّ اغْفِرْ لِي [ الأعراف : 151 ] ؛ فهو الآمر والحقّ المأمور ، فما يطلب الحقّ من العبد بأمره هو بعينه يطلبه العبد من الحقّ بأمره ، ولهذا كان كلّ دعاء مجابا ، ولا بدّ وإن تأخّر كما يتأخّر بعض المكلّفين ممّن أقيم مخاطبا بإقامة الصّلاة فلا يصلّي في وقت فيؤخّر الامتثال ويصلّي في وقت آخر إن كان متمكّنا من ذلك ؛ فلابدّ من الإجابة ولو بالقصد .
ثمّ قال :وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ [ المائدة : 117 ] ، ولم يقل على نفسي معهم كما قال ربّي وربّكم شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [ المائدة : 117 ] ؛ لأنّ الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم ،فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي [ المائدة : 117 ] ، أي : رفعتني إليك وحجبتهم عنّي وحجبتني عنهم كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [ المائدة : 117 ] ، في غير مادتي ، بل في موادّهم ، إذ كنت بصرهم الّذي يقتضي المراقبة ؛ فشهود الإنسان نفسه شهود الحقّ إيّاه ، وجعله بالاسم الرّقيب لأنّه جعل الشّهود له ، فأراد أن يفصّل بينه وبين ربّه حتّى يعلم أنّه هو لكونه عبدا في الواقع وأنّ الحقّ هو الحقّ لكونه ربّا له ، فجاء لنفسه بأنّه شهيد ، وفي الحقّ بأنّه رقيب ).
 
(فيقول الحق) :وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [ البقرة : 110 ] ، ( فهو الآمر المكلف ) اسم الفاعل سواء قاله في مستقر غيره أو في مظهر العبد ، ( والمكلف المأمور ) هو العبد ، وإن كان مظهرا لهذا القول ، ويقول العبد :رَبِّ اغْفِرْ لِي[ الأعراف : 151 ] ، ( فهو الآمر ) الداعي ( والحق المأمور ) بالإجابة ، فهذا التفصيل باعتبار المحل لا باعتبار الأمرية والمأمورية ، ولا باعتبار الأمر نفسه ( فما يطلب الحق من العبد بأمره ) من الامتثال ( هو بعينه ) ما ( يطلبه العبد من الحق بأمره ) ، وإن صار أحد الامتثالين بحسب المحل عبودية والآخر إجابة ، كما كان أحد الأمرين تكليفا والآخر دعاء .
( ولهذا ) أي : ولكون مطلوب كل أمر امتثال المأمور ( كان كل دعاء مجابا ) أي : مقصود إجابته ، ويحتمل أن يقال ؛ ولهذا أي : ولكون مطلوب العبد بالدعاء من الحق مثل مطلوب الحق بالتكليف من العبد ، كان كل دعاء من العبد الممتثل مجابا ، كما يجيب ذلك العبد أمر ربه .
( ولا بدّ ) من إجابة الحق للعبد الممتثل أوامره ، ( وإن تأخر ) زمان وقوعها ، ( كما يتأخر بعض المكلفين ممن أقيم مخاطبا بإقامة الصلاة ) أي : زمان امتثاله ، ( فلا يصلي في وقت ) هو من أوائل أوقات توجه الأمر ، ولكن يقصد فعله آخرا ، ( فيؤخر الامتثال ) قصدا ، ( فيصلي في وقت آخر ) ، فيصير ممتثلا بالفعل ( إن كان متمكنا من ذلك ) الامتثال في ذلك الوقت بعد ما تركه للمطلوب منه مطلقا ، ( فلابدّ من الإجابة ) في حق هذا العبد ( ولو بالقصد ) أي : بقصد فعلها في زمان آخر ، فيأتي بالمطلوب حينئذ ، وأما من لا يمتثل لأمر الحق ولا يقصد ذلك أصلا ، فليس ممن لا بدّ من إجابته ؛ فافهم .
(ثم قال :وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً )[ المائدة : 117 ] أخذ مقام الجمع لنفسه ومقام الفرق لهم ؛ لأنه لما أقام له الحق في مقام الفرق المقرون بالجمع غلب على كل منهم ما تقتضيه حقيقته من الجمع والتفرقة ، ( ولم يقل : كنت على نفسي معهم ) شهيدا باعتبار التفرقة في الكل مقرونة بالجمعية ، ( كما قال :رَبِّي وَرَبِّكُمْ )[ هود : 56 ] .
فأخذ التفرقة في الاسم الجامع الإلهي على مقتضى ما أقام له الحق في مقام التفرقة مقرونة بالجمع ؛ لأن هذا الاقتران كان في الكل أولا ، ثم غلب على كل ما تقتضيه حقيقته ، ثم قيد شهادته عليهم بدوامه فيهم ، فقال : شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [ المائدة : 117 ] .
 
وإن كان مقتضى الجمع الغالب عليه ألا تنقطع شهادته أبدا ؛ لأن شهادته عليهم ليس باعتبار هذه الجمعية بل باعتبار كونه بينهم ، فتقيد شهادته عليهم بمدة نبوته لهم ؛ ( لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم ) ؛ لأن نبوتهم مقيدة بتلك المدة ، ولا تمكن الشهادة بعد ذلك منهم كما أشار إليه بقوله :فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي[ المائدة : 117 ] .
ولما كان المشهور في معناه الإماتة ، وهو عليه السّلام حي فسره ، بقوله : ( أي : رفعتني إليك ) ، كما قال عزّ وجل إذ قال اللّه :يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ[ آل عمران : 55 ] ، وهذا الرفع وإن قربه من علام الغيوب لا يبقي له شهادة عليهم ، أي : يحجبون عنه عند مزيد استغراقه في الحق ، كما يحجبون عنه مع غاية إشراق نور الحق عليه .
 
وإليه الإشارة بقوله : ( وحجبتهم عني ) ، فلم يمكنهم مراجعتي في موضع الشبهات ، (وحجبتني عنهم ) ، فلم يمكنني الاطلاع على أفعالهم القبيحة لأمنعهم عنها ، (كنت أنت الرقيب عليهم ) .
ولما كان ظاهره الحصر مع أن كل واحد مراقب لنفسه قيده بقوله : ( في غير مادتي ) ، فلم أكن رقيبا عليهم ، ولا شهيدا لا بنفسي ولا بك .
ثم قال : ( بل في موادهم ) مع أن شهود الحق للأشياء لا يتوقف على كونه ظاهرا في مادة شخص ؛ لأن المراقبة تقتضي ذلك إذ لا يكون إلا بالبصر الظاهر ، فكأنه قال : كنت أنت الرقيب عليهم في موادهم ، ( إذ كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة ) ، وإن لم يصر بصرهم عين الحق لاختصاص ذلك بالكمّل وهم أهل القصور.
( فشهود الإنسان نفسه ) كاملا أو قاصرا ( شهود الحق إياه ) ، فإنه لما لم يكن وجوده من ذاته كان من ظهور الحق فيه فهو من جملة مظاهره ، ولكن لقصوره لا القصور يتجوز فيه بأنه هو لإشعاره بتناسي التشبيه ، ولا يتأتى في المظاهر القاصرة ، وهذا الشهود وإن كان أعم من المراقبة ؛ لتوقفها على البصر الظاهر دونه لم يستعمله في حق اللّه تعالى مع عموم شهوده باعتبار كونه في مقر غيره ، واعتبار ظهوره في الماديات ، بل ( جعله ) أي :
شهود الحق ( بالاسم الرقيب ) المقيد بظهوره في الماديات ، أي : عيسى عليه السّلام ( جعل الشهود ) له أولا ؛ ليشعر بأن كونه شهيدا عليهم لا يتقيد بكونه في مادته أو مادتهم ، بل يشاهدهم في شهود الحق إياهم ، باعتبار التفرقة التي أقام الحق فيها لعيسى عليه السّلام مع الجمعية ، فلو أتى بهذا اللفظ في حق اللّه لالتبس بالحق .
 
( فأراد أن يفصل بينه وبين ربه ) بتميز اللفظين المستعملين فيهما ؛ لأنه يدل على أنه إنما يميز بينهما لتمييزهما في الواقع ، ( حتى يعلم أنه هو ) وإن بلغ ما بلغ عند تجلي الحق في مادته ، فإنه يتميز عنه ( بكونه عبدا ) ، وإن الحق وإن ظهر في مظهره ( هو الحق ) تميز عنه ( بكونه ربّا ) ، فلابد مما يشعر بهذا التميز وأقله تميز الألفاظ ، ( فجاء لنفسه بأنه شهيد ، وفي الحق بأنه رقيب ) ؛ ليشعر بأنه باعتبار ظهور الحق فيه ، صار شهوده عامّا بالنظر إلى سابق حاله ، والحق باعتبار ظهوره في مادته ، صار شهوده خاصّا بقدر ما تقتضيه حقيقة عيسى عليه السّلام .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقدّمهم في حقّ نفسه فقال :عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [ المائدة : 117 ] ، إيثارا لهم في التّقدّم وأدبا ، وأخّرهم في جانب الحقّ عن الحقّ في قوله :الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ )[ المائدة : 117 ] ، لما يستحقّه الرّبّ من التّقدّم بالرّتبة ، ثمّ أعلم أنّ للحقّ الرّقيب الاسم الّذي جعله عيسى لنفسه وهو الشّهيد في قوله عَلَيْهِمْ شَهِيداً [ المائدة : 117 ] ، فقال :وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[ المائدة : 117 ] ، فجاء بكُلِّ [ المائدة : 117 ] للعموم ، وبشَيْءٍ [ المائدة : 117 ] لكونه أنكر النكرات وجاء بالاسم الشّهيد ، فهو الشّهيد على كلّ مشهود بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود ، فنبّه على أنّه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى عليه السّلام حين قال :عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [ المائدة : 117 ] ، فهي شهادة الحقّ في مادّة عيسويّة كما ثبت أنّه لسانه وسمعه وبصره ) .
ثم أشار إلى مبالغة عيسى عليه السّلام في هذه العبودية بغاية التذلل ؛ فقال : ( وقدمهم ) أي :
اللفظ الدال عليهم على اللفظ الدال عليه ( في حق نفسه ، فقال :عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ )[ المائدة : 117 ] ، وإنما ذكره ؛ ليشير بأن تقدمه في كنت ودمت ؛ لضرورة اتصال الضمير ( إيثارا لهم في التقدم ) الذي أعطيه ، فتعاظم به ، وهو خلاف التواضع اللازم للعبودية ، ( وأدبا ) ؛ لئلا يتكبر على عباد اللّه ، ولو فيهم كافر ، ( وآخرهم في جانب الحق عن الحق ) وإن اعتبر ظهوره فيهم في المراقبة وهو متأخر عنهم في ( قوله :كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ )[ المائدة : 117 ] ، كما ( في قوله :وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) [ المائدة : 117]
( لما يستحقه الرب من التقديم بالرتبة ) ، فلابدّ من اعتباره مع اعتبار ظهوره فيهم .
( ثم أعلم ) عيسى عليه السّلام ( أن للحق الرقيب ) أي : الذي خصه عيسى عليه السّلام بهذا الاسم المقيد بكونه عند ظهوره في المادة ، ( الاسم الذي جعله عيسى عليه السّلام لنفسه ) العام ، فهو أولى بالحق من عيسى عليه السّلام ، ( وهو ) أي : في ذلك الاسم ( الشهيد ) ، فقال :وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [ المائدة : 117 ] .
فجاء للدلالة على معنى العموم الذي فيه بكل للعموم ، وبشيء لكونه أنكر النكرات ؛ لنفي توهم الاختصاص من لفظ الرقيب ؛ ولذلك لم يذكر هذا الاسم هاهنا ، بل جاء بالاسم الشهيد الدال بالتصريح على العموم مع عموم متعلقه دفعا لما توهم من الاختصاص بالكلية ، ( فهو الشهيد على كل مشهود ) من الماديات وغيرها ، ( بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود ) ، فإن كانت حقيقته مادته احتاج شهودها بوجه إلى البصر ، فيشاهد ذلك باعتبار ظهوره في الماديات ، وإلا شهده في مستقر غيره مع أنه يشاهد الكل في مستقر غيره بوجه آخر غير هذا البصر الظاهر المختص بنوع إدراك ولا يلزم حدوثه فيه ؛ لأنه أيضا بواسطة بصره الذي قوة إدراك ذلك ، لكن بواسطة هذا البصر الظاهر ، كما توقف إدراك بصره بالفعل على وجود البصر .
 
ولما دل هذا على أن شهود الماديات بالبصر الظاهر شهود الحق فيه ( على أنه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى ) بشهوده ، ( حين قال :وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً )[ المائدة : 117]
 
وإن قيده بقوله :ما دُمْتُ فِيهِمْ[ المائدة : 117 ] ، مع أن شهادة الحق أبدية غير منقطعة ، ( فهي شهادة الحق إياهم في مادة عيسوية ) تنقطع بانقطاعها ، والتي لا تنقطع مع شهادته عليهم هي شهادته باعتبار استقراره في مقر غيره ، ولا تتعدى كون شهادة الحق في مادة عيسوية مع تنزه الحق عن المادة ، ( كما ثبت أنه لسانه وسمعه وبصره ) ، وإن تنزه عن الجسمية والقوى الجسمانية ، ولكنه يجوز أن يظهر فيها ظهور الشمس التي في السماء الرابعة في المرآة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثمّ قال كلمة عيسويّة ومحمّديّة : أمّا كونها عيسويّة فإنّها قول عيسى بإخبار اللّه تعالى عنه في كتابه ؛ وأمّا كونها محمّديّة فلموقعها من محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم بالمكان الّذي وقعت منه ، فقام بها ليلة كاملة يرددها لم يعدل إلى غيرها حتى مطلع الفجرإِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة : 118 ] ، « وهم » ضمير الغائب كما أنّ « هو » ضمير الغائب .
كما قال : "هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا" [ الفتح : 25 ] بضمير الغائب ، فكان الغيب سترا لهم عمّا يراد بالمشهود الحاضر .
فقال : "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ " [ المائدة : 118 ] ، بضمير الغائب ، وهو عين الحجاب الّذي هم فيه عن الحقّ ، فذكّرهم اللّه قبل حضورهم حتّى إذا حضروا تكون الخميرة قد تحكّمت في العجين فصيّرته مثلها ،فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ [ المائدة : 118 ] فأفرد الخطاب للتّوحيد الّذي كانوا عليه .
ولا ذلّة أعظم من ذلّة العبيد ، لأنّهم لا تصرّف لهم في أنفسهم فهم بحكم ما يريده بهم سيّدهم ولا شريك له فيهم فإنّه قال : عِبادُكَ [ المائدة : 118 ] ، فأفرد .
والمراد بالعذاب إذلالهم ولا أذلّ منهم لكونهم عبادا ؛ فذواتهم تقتضي أنّهم أذلّاء فلا تذلّهم فإنّك لا تذلّهم بأدون ممّا هم فيه من كونهم عبيدا .وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ أي :  تسترهم عن إيقاع العذاب الّذي يستحقّونه بمخالفتهم أي تجعل لهم غفرا يسترهم عن ذلك ويمنعهم منه ،فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة : 118 ] ، أي : المنيع الحمى ، وهذا الاسم إذا أعطاه الحقّ لمن أعطاه من عباده يسمّى الحقّ بالمعزّ ، والمعطى له هذا الاسم بالعزيز ، فيكون منيع الحمى عمّا يريد به المنتقم والمعذّب من الانتقام والعذاب ).
 
( ثم قال ) عيسى عليه السّلام في منتهى أمره ( كلمة عيسوية ومحمدية ) ، وهو قوله :إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة : 118 ] ، ( أما كونها عيسوية ، فإنها قول عيسى عليه السّلام ) ابتداء بإخبار اللّه ( عنه في كتابه ) ، وما أخبر عنه إلا لكونه مبتديا لها ، وإن كان غاية كمالها لغيره ، كما أشار إليه بقوله ، ( وأما كونها محمدية ؛ فلوقوعها من محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ) ( بالمكان ) العظيم ( الذي وقعت فيه ، فقام بها ) أي : بتلاوتها وتدبرها ( ليلة كاملة يرددها ) .
لما انكشف له من فوائدها في مراتب ترديدها ( لم يعدل إلى غيرها ) لاستيفاء تلك الفوائد ( حتى طلع الفجر ) ، فحصل له الكشف التام من فوائدها ، وهو يقول :إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ المائدة : 118 ] .
ولما كان المقصود منها التعريض للعفو عنهم مع تفويض الأمر إليه تعالى ، أخذ في بيان عذرهم مع بيان الحكمة في تعذيبهم ، فقال : وهم ، أي : لفظة هم في قوله :إِنْ تُعَذِّبْهُمْ ،وقوله :فَإِنَّهُمْ [ المائدة : 118 ] ، وقوله :وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ [ المائدة : 118 ] ، ( لهم ضمير الغائب ) يدل على غيبتهم عن الحق .
( كما أن هو ضمير الغائب ) يدل على غيبة الحق عنهم ، فإنهم إنما غابوا عنه ؛ لغيبته عنهم ، فاقتصر نظرهم على الأمور الظاهرة ، فلما ظهر لبعضهم إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص من عيسى ، نسبوا الألوهية إليه ، ( كما قال ) في حق غيرهم :هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا[ الفتح : 25 ] ، أي : لغفلتهم عن الحق الظاهر فيهم وفي غيرهم ستروه ، ( فكان الغيب ) أي : غيب الحق عنهم عند ظهوره فيهم لغفلتهم عنه ، ( سترا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر ) من جعله سببا لمعرفته بما ظهر من إرادتك بتغليب بعض تجليات الأسماء على بعض ؛ ولذلك فسره بقوله ، ( أي : منيع الحمى ) .
"" يعني أن ذاتك بحسب الاسم العزيز والغفور ويقتضي مظهرا يظهر بها كمال الظهور ولا أكمل مظهرا ممن جعل لك شريكا .""
بحيث لا يكون لبعض أسمائك غلبة على البعض بدون إرادتك ، حتى أنه إذا تجليت بهذا الاسم على بعض عبيدك ، صار عزيزا منيع الحمى من تصرف بعض أسمائك فيه ، وإليه الإشارة بقوله ، ( وهذا الاسم ) العزيز ( إذا أعطاه الحق ) فيه إشارة إلى أنه لا مدخل للكشف في حصوله للعبد ، ولا يكون له سبب من العالم إذ أصلهم الذلة والعجز ، فلا يحصل منهم ضد ذلك ( لمن أعطاه ) فيه إشارة إلى أنه ليس يعطي الآحاد والأفراد منهم إلا على خلاف مقتضى طبعهم من الذلة ، ( يسمى الحق بالمعز ) أي : معطي الاسم العزيز ؛ ليتميز عن العبد المسمى بالعزيز ؛ وذلك لأنه يسمى العبد ( المعطى له هذا الاسم بالعزيز ) ، وإن لم يقع مثل هذا التميز في سائر الأسماء التي تشارك فيها الحق والعبد ؛ وذلك لمزيد اختصاص هذا الاسم بالحق ، فيكون هذا العبد من أخص العباد ، ( فيكون ) ذلك العبد ( منيع الحمى مما يريد به المنتقم والمعذب ) من أسماء اللّه تعالى ( من الانتقام والعذاب ) فضلا عن تصرف العالم فيه .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الخامس .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:54 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الخامس .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ العيسوي
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية    الجزء الخامس
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ولتكون الآية على مساق واحد في قوله : إنّكأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ[ المائدة 
: 116 ] ، وقوله :كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ[ المائدة : 117 ] فجاء أيضا :فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ المائدة : 118 ] ، فكان سؤالا من النّبيّ وإلحاحا منه على ربّه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر يرددها طلبا للإجابة فلو سمع الإجابة في أوّل سؤال ما كرّر ، فكان الحقّ يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب عرضا مفصّلا فيقول له في كلّ عرض عرض وعين عينإِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ المائدة : 118 ] ، فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحقّ وإيثار جنابه لدعا عليهم لا لهم ، فما عرض عليه إلّا ما استحقّوا به ما تعطيه هذه الآية من التّسليم للّه والتّعريض لعفوه ).


وعلى هذا ( جاء بالفصل والعماد أيضا ) مع أن المقصود ليس بيان الحصر ( تأكيدا للبيان ) أي : لسان كونه عزيزا بالذات وغيره ، إنما صار عزيزا بجعله إياه عزيزا على خلاف طبعه ، ( ولتكون الآية على مساق واحد ) ، ففيه التناسب المقصود لهم ، فإنه لما جاء به ( في قوله :إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[ المائدة : 109 ] .
وقوله : كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ[ المائدة : 117 ] ، ( فجاء أيضا :فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[ المائدة : 118 ] ؛ إلحاقا للأقل بالأكثر ، وإن اختلفا في إفادة الحصر وعدمها رعاية للتناسب ، ولما كانت هذه الآية تتضمن هذه الأسرار في سؤال العفو على نهج التعريض مع التفويض ، ( فكان ) مفهومها بجميع تلك الوجوه ( سؤالا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ) ، والذي كان من عيسى وجه من وجوهها ؛ ولذلك كان إلحاحا منه على ربه الجامع للتصرفات بخلاف رب عيسى ، فإنه ليس له جمعية رب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم
 
( في المسألة ) أي : الدعاء ( ليلته الكاملة ) ؛ لتفصيل السؤال بما فيه ( إلى طلوع الفجر ) ، وهو إشارة إلى إشراق نور التفصيل ( يرددها طلبا للإجابة ) المفصلة التي كانت لم تشرع له في السؤال الإجمالي .
( فلو سمع الإجابة ) الإجمالية الشاملة التفاصيل في ( أول سؤال ) إجمالي ( ما كرر ) لتضمنه التفصيل ، ولكنه عزّ وجل أخر في شأنه الإجابة ؛ لتفصيل السؤال ، ( فكان الحق يعرض عليه فصول ) أي : وجوه ( ما استوجبوا به ) ( العذاب عرضا مفصلا ، فيقول له ) النبي صلّى اللّه عليه وسلّم :
( في كل عرض عرض ) من أنواع المعاصي ( وعين عين ) من أفراد العصاة : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة : 118 ] من غير أن يزيد عليه باعتبار تلك التفاصيل ، إذ إجمالها كاف في سؤال العفو عن أهل الإسلام في معاصيهم ، إذ ليس فيها ما يوجب الخلود في العذاب ، بخلاف الكفر فهو عليه السّلام ما سأل في حقهم ، وإنما كان ذلك في سؤال عيسى عليه السّلام ولم تتوقع الإجابة .


فلم تكرر ( فلو رأى ) صلّى اللّه عليه وسلّم ( في ذلك العرض ) الإلهي جنابة في رعاية الحكمة في إهلاك أعدائه بالكلية ؛ لدعا عليهم لا لهم ، ولكنه ما دعا عليهم بل لهم .
( فما عرض ) الحق ( عليه ) إلا ما استحقوا به ما تعطيه هذه الآية ( من التسليم للّه ) من العذاب ، وتركه لشمول الحكمة إياها ، ( والتعريض لعفوه ) الراجح في موضع المعارضة ، فسبب تأخير الإجابة إلى الفجر ؛ ليكون سؤاله عليه السّلام مفصلا في حق عصاة أمته ؛ ليزيل بكل سؤال ظلمة خاصة من ظلمات معاصيهم ، ويفيد كل واحد منهم نورا خاصّا يليق به ؛ ولتأخير الإجابة في حق الكمّل سبب آخر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقد ورد أنّ الحقّ إذا أحبّ صوت عبده في دعائه إيّاه أخّر الإجابة عنه حتى يتكرّر ذلك حبّا فيه لا إعراضا عنه ، ولذلك جاء بالاسم الحكيم ؛ والحكيم هو الّذي يضع الأشياء في مواضعها ، ولا يعدل بها عمّا تقتضيه وتطلبه حقائقها بصفاتها ، فالحكيم هو العليم بالتّرتيب ؛ فكان صلّى اللّه عليه وسلّم بترداده هذه الآية على علم عظيم من اللّه تعالى ، فمن تلا هذه الآية فهكذا يتلو ، وإلّا فالسّكوت أولى به ، وإذا وفّق اللّه عبدا إلى النّطق بأمر ما فما وفّقه إليه إلّا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته فلا يستبطئ أحد ما يتضمّنه ما وفّق له ، وليثابر مثابرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على هذه الآية في جميع أحواله ، حتّى يسمع بأذنه أو بسمعه ، كيف شئت أو كيف أسمعك اللّه الإجابة ، فإن جازاك بسؤال اللّسان أسمعك بأذنك ، وإن جازاك بالمعنى أسمعك بسمعك ) .


وهو أنه ( قد ورد أن الحق إذا أحب صوت عبده ) وإن لم يكن له حسن ؛ بل لكونه ( في دعائه إياه ) ، وهو مخ العبادة ( أخر الإجابة عنه حتى يتكرر ذلك ) الدعاء منه ( حبّا فيه ) أي : في دعائه ؛ ليزداد به عبده عبادة وتوبة إليه ، ( لا إعراضا عنه ) أي : عن دعائه ؛ لكونه من كامل ؛ فلا ينبغي أن يتوهم فيه ذلك ، فإن الحكيم لا يفعل بدعاء الكامل الإعراض .
 
( ولذلك جاء بالاسم الحكيم ) في آخر هذه الآية ، وكيف يفعل الحكيم الإعراض عن دعاء الكامل ، ( والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها ) ، وليس دعاء الكامل موضعا للإعراض ، وهو إما يعذب أو يعفو بمقتضى الحكمة ، ( إذ لا يعدل بها ) أي : بالأشياء ( عما تقتضيه ) بلا واسطة ، ( وتطلبه ) بالواسطة ( حقائقها ) لا باعتبار كليتها فقط ، بل باعتبار اتصافها (بصفاتها ) المفيدة لها الشخصية أيضا ، فتفعل ما ترتب على كل صفة منها .


( فالحكيم العليم بالترتيب ) أي : بما ترتب على كل صفة من الأفعال العامل بمقتضى ذلك ، فلما كان في السؤال بهذه الآية ، وتأخير الإجابة لهذه الأسرار ، ( فكان صلّى اللّه عليه وسلّم يردد هذه الآية على علم عظيم من اللّه ) لا من عيسى عليه السّلام ، وإن كان قد بدأ بها ، ( فمن تلا فهكذا يتلو ) متأملا في أسرارها ملحّا بها على ربه ، ( وإلا فالسكوت أولى به ) ؛ لئلا يدخل تحت قوله تعالى :وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ[ يوسف : 15 ] ، سيما من يتأتى منه التأمل والعمل فترك تكاسلا .
 
ثم أشار إلى أنه لا ينبغي ترك الدعاء عند استبطاء الإجابة ؛ فقال : ( وإذا وفق اللّه عبدا إلى نطق ) أي : دعاء صادر عن قلبه الذي هو النفس الناطقة ( بأمر ما ) من الأمور العظام أو الصغار ، ( فما وفقه إليه إلا وقد أراد إجابته ) بنحو لبيك عبدي ، ( وقضاء حاجته ) التي طلبها بالدعاء في وقت ما ؛ لأن الدعاء مخ العبادة ، وكل عبادة لها جزاء ، وجزاء الدعاء الإجابة وقضاء الحاجة ، ( فلا يستبطئ أحد ما يتضمنه ما وفق له ) ، إذ أمر بتضمنه دعاء وفق له من عباد اللّه بتكميل نفسه الناطقة ، فإنه لا بدّ من وقوعه ، وإن تأخر ولا يتوهم في ذلك نقصا .


 بل ( ليثابر ) أي : ليواظب ( مثابرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ) مع جلالة شأنه ، فإنه ثابر ليلة كاملة على هذه الآية ؛ ( ليثابر ) أحدنا على الدعاء ( في جميع أحواله ) سواء كان قلبه صافيا أو غير صاف ، فإنه ربما يحصل له الصفاء بالمثابرة على الدعاء ( حتى يسمع ) الإجابة ( بأذنه ) الظاهرة إن حصل له كشف صوري ( أو بسمعه ) القلبي إن حصل له كشف معنوي ( كيف شئت ) أي : بقي لك اختيار في هذه التصفية الحاصلة عن المثابرة في الدعاء .


( أو كيف أسمعك اللّه الإجابة ) إن لم يبق لك اختيار ؛ لاستغراقك في الدعاء أو المدعو ، وهذا التفصيل فيما بقي فيه الاختيار ظاهر ؛ لأنه إجابة لمراد هذا العبد في دعائه ، وأما فيما لم يبق فيه الاختيار ( فإن جازاك بسؤال اللسان ) " أي اللسان الذي هو من مقولة الحرف والصوت الصادر من اللسان الجسماني . [ جامي ص 359 ]"
 
لجريان الألفاظ عليه مع  استغراق القلب بالمدعو أسمعك بأذنك الظاهرة لمناسبتها اللسان في أنها ظاهرة مثله ، وإن جازاك بالمعنى القائم بالقلب عند سلب الألفاظ عن اللسان ( أسمعك بسمعك ) القلبي ، ولما كانت الحكمة النبوية متضمنة للرحمة العامة ؛لانتظام أمر معاش الكل ومعادهم بها على أتم الوجوه أردفها بالحكمة الرحمانية ؛ فقال:
عن فص الحكمة الرحمانية في الكلمة السليمانية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:14 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي 

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
 الفص السليماني
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الأول
قال الشيخ رضي الله عنه :  (إِنَّهُ[ النمل : 30 ] ، يعني الكتاب مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ النمل : 30 ] ، أي : مضمونه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ النمل : 30 ] ، فأخذ بعض النّاس في تقديم اسم سليمان على اسم اللّه ولم يكن كذلك ، وتكلّموا في ذلك بما لا ينبغي ممّا لا يليق بمعرفة سليمان بربّه ، وكيف يليق ما قالوه وبلقيس تقول فيه :إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [ النمل : 29 ] أي : مكرّم عليها وإنّما حملهم على ذلك ربّما تمزيق كسرى كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ؛ وما مزّقه حتّى قرأه كلّه وعرف مضمونه ؛ فكذلك كانت تفعل بلقيس لو لم توفّق لما وفّقت له فلم يكن يحمي الكتاب عن الإحراق لحرمة صاحبه تقديم اسمه عليه السّلام على اسم اللّه تعالى ولا تأخيره ) .
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بعموم الرحمة الإلهية التي هي الرحمانية المتضمنة للرحيمية ، ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى سليمان عليه السّلام ، إذ خصه اللّه بالملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، فجمع له بين النبوة والولاية ، وتسخير الجن والإنس والطير والريح والماء ، ومعرفة جميع الأشياء حتى منطق الطير ، والتصرف في الكل بمناسبته إياهم .
فظهر بالرحمتين اللتين رحم بهما أولا ، ثم تصرف بهما وبالأسماء الداخلة تحتهما ثانيا ، فيما كتب إلى بلقيس معرفا لها فضله بحيث لا ترى نسبته لما أوتيت إلى ما أوتي مطمعا لها في حصول نصيب منهما لها عند انقيادها له ومتابعتها إياه ، حتى تنقاد له سريعا فكان ذكرهما لها كرما في حقها .
 
فلذلك وصفت كتابه بالكرم ، ثم بينت ذلك بأنه من المشهور بالكرم سليمان ، وهو عين الكرم لافتتاحه بالرحمتين مع إطماعها في النصيب منهما ، فقالت :إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [ النمل : 29 ] ، ( إنه يعني الكتاب ) فسر الضمير ؛ لئلا يتوهم أن للشأن ، فيكون مفتح كتاب سليمان ، فيكون عليه السّلام قدم اسمه على اسم اللّه تعالى وهو جهل ، وإنما هو من قول بلقيس ؛ ولذلك أورد لفظته يعني بتاء التأنيث ( من سليمان ، وإنه أي : مضمونه ) فسره ؛ لئلا يعود إلى البيان أو الكتاب .
فيتوهم أنه تم بقوله :بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ النمل : 30 ] ؛ لأنها خبران ، وليس كذلك بل هو مفتتحه وتتمته :أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ[ النمل : 31 ] ، وإن يفسر به فكأنه عليه السّلام يقول : إذا كنت صاحب الرحمة العامة بما أوتيت من الملك الجامع والرحمة الخاصة بما أوتيت من النبوة والولاية ، فلي العلو في الأمور الدنيوية والدينية ،"أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ"[ النمل : 31 ] ، من جهة الملك ،"وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" [ النمل : 31 ]
 من جهة الدين ، يحصل لكم نصيب من هاتين الفضيلتين بمتابعتكم إياي وانقيادكم لي ، وإلا فاتكم أمر الدارين ،ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ[ الزمر : 15 ] .
 
فلما وقع قولها أنه من سليمان بعد ذكر الكتاب ، توهم بعض الناس أنه حكاية مضمونة ، ( فأخذ بعض الناس ) يطعن على الكتاب ( في تقديم اسم سليمان على اسم اللّه ) وهو جهل صرف ،
( ولم يكن ) كتابه ( كذلك ) أي : مقدما فيه اسم سليمان على اسم اللّه ، وإنما وقع ذلك في كلام بلقيس ؛ لجريان العادة بذكر الكاتب قبل تفصيل مضمون الكتاب ، ( وتكلموا في ذلك ) الأخذ ( بما لا ينبغي لهم ) أن يتوهموا في حق سليمان عليه السّلام ؛ لأنه ( مما لا يليق بمعرفة سليمان عليه السّلام بربه ) ، إذ عرفوا أنه قد أحل بأسراره ما لم تحط به أكثر الأنبياء عليهم السّلام فضلا عن غيرهم حتى سخر له العالم دونهم .
 
( وكيف يليق ) به ( ما قالوه ) من تقديم اسم سليمان على اسم اللّه ، وهو سفه يعرفه أهل البلاهة ، ( وبلقيس ) مع كمال عقلها وفطانتها بحيث مدحها اللّه تعالى على ذلك ( تقول فيه :إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ[ النمل : 29 ] ) ، وليس ذلك إلا لتفضيل كلامه عليها ( أي :
تكرم عليها ) ؛ لانتمائه في الإحاطة بوجوه البلاغة والحسن بحيث تنهز له عقول العقلاء ، وتعقد دون الوصول إلى إدراك ما فيه فضلا عن مجاوبته ومعارضته ، فكيف يتصور أن يكون فيه تقديم اسمه على اسم ربه .
( وإنما حملهم ) أي : القائلين بكونه من جملة الكتاب ( على ذلك ) أي : تقديم سليمان اسمه على اسم اللّه ( ربما ) هذه الشبهة الواهية التي لا يتشبث بمثلها آحاد العقلاء فضلا عن كبار الأنبياء عليهم السّلام ( تمزيق كسرى كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ) ، وزعموا أنه إنما مزقه ؛ لأنه عليه السّلام ما قدم اسمه فيه.
فلم يقع في قلبه له ولا هيبة ، وتفطن سليمان عليه السّلام لهذه النكتة ، فقدم اسمه على اسم اللّه إظهارا لهيبته وعظمته ، فانقادت له وما مزقت كتابه ، وهذا غلط في المقيس والمقيس عليه ونفس القياس .
 
 وذلك لأنه ( ما مزقه ) كسرى لعدم تقديمه عليه السّلام اسمه ، وإلا لمزقه أول ما رآه قبل استكمال قراءته وفهم مضمونه ، ولكن لم يفعل ( حتى قرأه كله وعرف مضمونه ) ، بل إنما مزقه لعدم انقياده له فيما تضمنه الكتاب .
 ومن لا ينقاد لأحد فهو سواء قدم اسمه أو لم يقدم لا ينقاد له أصلا ، ( فكذلك كانت تفعل بلقيس ) بكتاب سليمان كانت تمزقه بعد قراءته وفهم مضمونه ، ( لو لم توفق لما وفقت له ) من الإيمان ، ( فلم تكن تحمي الكتاب عن الإحراق لحرمة صاحبه ) الحاصلة في قلبها عن ( تقديم اسمه ) لدلالته على تجبره وعظمته .
 
أو عن تأخيره لدلالته على كمال رعايته حق ربه الدال على كمال عقله وفطانته ، وهو من أسباب تربية المهابة تقديم اسمه ( على اسم اللّه ولا تأخيره ) عنه ، ولا وجه آخر لهذا التقديم أصلا ، فلا ينبغي لأحد أن يتوهمه أصلا ، بل يجب أن يعتقد أن مفتتح بيان سليمان هو قوله : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ النمل : 30 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأتى سليمان بالرّحمتين : رحمة الامتنان  ورحمة الوجوب اللّتان هما الرّحمن الرّحيم ، فامتنّ بالرّحمن وأوجب بالرّحيم ، وهذا الوجوب من الامتنان ، فدخل الرّحيم في الرّحمن دخول تضمّن ، فإنّه كتب على نفسه الرّحمة سبحانه ليكون ذلك للعبد بما ذكره الحقّ من الأعمال الّتي يأتي بها هذا العبد ، حقّا على اللّه أوجبه له على نفسه يستحقّ بها هذه الرّحمة أعني رحمة الوجوب ، ومن كان من العبيد بهذه المثابة فإنّه يعلم من هو العامل منه ، والعمل منقسم على ثمانية أعضاء من الإنسان ).
 ""إضافة المحقق : الرحمة الامتنانية : هي السابقة ، سميت بذلك لأن اللّه تعالى امتن بها على الخلائق قبل استحقاقها ، لأنها سابقة على ما يصدر منهم من الأفعال التي توجب لهم استحقاقا ، والرحمة الامتنانية الخاصة : يعني بها رحمة اللّه تعالى لعبده ، حيث وفقه للقيام بما يوجب له من الأفعال استحقاق الثواب عليها ( لطائف الإعلام ص 161 ) .""
 
( فأتى سليمان بالرحمتين ) في كتابه لتجليهما عليه ؛ ليطمع من تابعه في نصيب منهما ( رحمة الامتنان ) لا في مقابلة عمل ( ورحمة الوجوب ) في مقابلته بحسب الوعد الإلهي مع أنه لا يجب عليه شيء .
( اللتين هما الرحمن الرحيم ) أي : مفهوم هذين الاسمين لا بطريق الترادف ، وإلا كان تكرارا بلا فائدة ، بل لا بدّ من التباين مع التواصل ( فامتن بالرحمن ) الدال بكثرة حروفه على كثرة أفراد مدلوله ، وهي الرحمة العامة التي لا تتصور أن تكون جميع أفرادها في مقابلة العمل ، سيما وقد دخلت فيه رحمة الإيجاد السابق على العمل .
( وأوجب بالرحيم ) الدال بقلة حروفه على قلة أفراد مدلوله ، وهي أفراد خاصة لا بد لها من تخصيص وهو العمل ، ( وهذا الوجوب ) ليس ما يقوله المعتزلة أنه يجب على اللّه تعالى إثابة المطيع والانتقام للعاصي بل هو( من الامتنان ) .
 
فإن الإثابة فضل كما أن الانتقام عدل ، ولكنه في حكم الواجب بوعده الصادق ، ( فدخل الرحيم في الرحمن دخول تضمن ) ، وإن كان شأن العام أن يدخل تحت مفهوم اللفظ الدال على الخاص بطريق التضمن ، وذلك باعتبار أن خصوصيته ليست أمرا زائدا على الامتنان كما تقوله المعتزلة ،
فهو داخل دخول أفراد الخاص تحت العام ، وهو مشبه دلالة التضمن من حيث أنه بعض ما صدق عليه العام ، كما أن المدلول التضمني بعض المفهوم الخطابي .
وكيف تجب هذه الرحمة على اللّه ولا موجب سواه ولا يوجب أخذ شيئا على نفسه ما لم يكن فيه جر نفع أو دفع الضر عنه ما لم يتعلق به شيء منهما ، بل غاية ما فيه أنه تعالى وعد المطيعين الإثابة فإنه :" كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ "الأنعام : 12 ] .
( سبحانه ) أن يكتب عليه أحد سواه ومن أن يصل إليه نفع أو ضر ، وإنما كتبه ؛ ( ليكون ذلك ) المكتوب  (للعبد ) لا بحيث يذم الرب لو لم يفعل به ذلك لولا وعده السابق .
 
فهو إنما يكون له ( بما ذكره الحق ) ، وخبره صدق ، ووعده حق لا محالة ، وكيف يجب على اللّه ذلك الثواب الأبدي بحيث يذم بتركه ( من الأعمال التي يأتي بها هذا العبد ) ، وقد سبق عليه إنعامات من الحق يستحق الشكر عليها ، وهي لا تفي بشكره ، وإن وفت كفت لما مضى ، ولا يستوجب جزاء فضلا عن الأبدي الشامل على وجوه الإنعام والإكرام.
بل غايته أن يكون ( حقّا ) ثابتا ( على اللّه ) ؛ لأنه ( أوجبه له ) بوعده إذا أتى على وجه الاكتساب على بقية يستحق بها هذه الرحمة مفعول يستحق ، وبينها بقوله : ( أعني رحمة الوجوب ) ؛ لئلا يتوهم أنها رحمة الامتنان العامة ؛ لأنه نفى الوجوب عنها على وجه المبالغة .
 
وكيف تكون واجبة على اللّه الوجوب الحقيقي مع أنه إنما يستحقها إذا أتى بها على وجه يعتد به من الاعتقاد الصحيح والأركان والشرائط والآداب .
ومن جملة ما يجب أن يعتقد فيها أنه ليس يعامل بها على الحقيقة ، فكيف يجب له ثواب على اللّه بما ليس من عمله ، بل هو من أعمال الحق .
وإليه الإشارة بقوله : ( ومن كان من العبيد بهذه المثابة ) أي : بحيث يستحق على أعماله هذه الرحمة الوجوبية ، ( فإنه يعلم ) لإيمانه بالقدر ( من هو العامل فيه ) بالإيجاد ، وهل الأثر لقدرة الموجد أو المكتسب ، وكيف لا يكون الحق عاملا بالحقيقة فيه .
( والعمل ) المستند إلى العبد ( ينقسم على ثمانية أعضاء من الإنسان ) اليد والرجل والفم واللسان والأذن والعين والبطن والفرج .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقد أخبر الحقّ أنّه تعالى هويّة كلّ عضو منها ، فلم يكن العامل غير الحقّ ، والصّورة للعبد ، والهويّة مندرجة فيه ، أي في اسمه لا غير ، لأنّه تعالى عين ما ظهر وسمّي خلقا وبه كان الاسم الظّاهر والآخر للعبد ؛ وبكونه لم يكن ثمّ كان ، وبتوقّف ظهوره عليه وصدور العمل منه كان الاسم الباطن والأوّل ، فإذا رأيت الخلق رأيت الأوّل والآخر والظّاهر والباطن ، وهذه معرفة لا يغيب عنها سليمان عليه السّلام ، بل هي من الملك الّذي لا ينبغي لأحد من بعده ، يعني الظّهور به في عالم الشّهادة ، فقد أوتي محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم ما أوتيه سليمان ، وما ظهر به ؛ فمكنه اللّه تعالى تمكين قهر من العفريت الّذي جاءه باللّيل ليفتك به فهمّ بأخذه وربطه بسارية من سواري المسجد حتّى يصبح فتلعب به ولدان المدينة ، فذكر دعوة سليمان فردّه اللّه خاسئا ، فلم يظهر عليه السّلام بما أقدر عليه وظهر بذلك سليمان ، ثمّ قوله :مُلْكاً[ النساء : 54 ] ، فلم يعمّ ، فعلمنا أنّه يريد ملكا ما ، ورأيناه قد شورك في كلّ جزء من الملك الّذي أعطاه اللّه ، فعلمنا أنّه ما اختصّ إلّا بالمجموع من ذلك ، وبحديث العفريت ، أنّه ما اختصّ إلّا بالظّهور ، وقد يختصّ بالمجموع والظّهور ) .


(وقد أخبر ) الحق بقوله عزّ وجل : « كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولسانه الذي يتكلم به » .
 ( أنه هوية كل عضو منها ) أي : ما به تحقق وجودها مثل تحقق الصورة المنطبعة في المرآة بالشخص المحاذي لها ، ولا شكّ أنه لا تتحرك تلك الصورة إلا بحركة الشخص ، ( فلم يكن العامل ) في هذه الأعضاء التي كالمرايا ( غير الحق ) الذي هو كالشخص المحاذي لها .
ولكن ( الصورة ) فيما نحن فيه ( للعبد ) فقط ؛ لتنزه الحق عن الصورة في ذاته ، وإنما ظهرت له الصورة في المرآة ، ولم تجر العادة بنسبة هذه الصورة إلى الحق بخلاف صورة الشخص منا في المرآة .
فإنها تنسب إليه ( والهوية ) أي : تحقق هذه الصورة العاملة في مرايا الأعضاء الثمانية ( مندرجة فيه ) أي : في الحق ، أي : ( في اسمه ) ، فسمعه مندرج في سمعه ، وبصره في بصره ، وبطشه ومشيه في قدرته ( لا غير ) أي : لا في ذاته لامتناع تجزئته وانقسامه إلى الانفراد ، وكونه محلا للحوادث .
 
وبالجملة فالحق بجميع وجوهه مندرج في الأسماء الكلية للحق ، فإن أسماءه تعالى وإن كثرت فكلياتها الشاملة على جميعها منحصرة في هذه الأربع : الأول والآخر والظاهر والباطن ، وقد تحققت في الخلق .
( لأنه تعالى عين ما ظهر ) من الصور الوجودية في مرايا الخلق عينية الشخص لصورته في المرآة ، وإن ( سمي خلقا ) إذ لا لفرق بينهما لا يخل بهذه العينية ، فإن الشخص ثابت في الخارج وصورة المرآة متجلية ، ( وبه ) أي : وبظهور الحق في مرآة الخلق بعد بطونه عنها ، وإن كان معا باعتبار آخر.
 
( كان الاسم الظاهر والآخر ) من أسماء الحق ( للعبد ) ، إذ ظهوره تابع لظهوره وبطونه تابع لبطونه ، بل مندرجات في ظهوره وبطونه تعالى ، ( وبكونه ) أي : العبد ( لم يكن ) وهو اختفاء في ظلمة العدم ، ( ثم كان ) وهو موجب لسبق الاختفاء.
وأيضا ( بتوقف ظهوره ) أي : ظهور العبد ( عليه ) أي : على ظهور الحق في مظهره ، وهذا التوقف يوجب للعبد بطونا ، وكون بطونه سابقا على ظهوره ، إذ لا معنى للتوقف المذكور سواه ، ويتوقف ( صدور العمل منه ) على علمه ، وهو أن يوجده ويقدره عليه وهو باطن سابق على العمل الظاهر ، ( كان الاسم الباطن والأول ) من أسماء الحق للعبد بطريق التبعية والاندراج المذكورين .
 
( فإذا رأيت الخلق ) ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم ( رأيت ) الحق بأسمائه الكلية الشاملة على جميع جزئياته ( الأول والآخر والظاهر والباطن ) في كل واحد منها ( وهذه ) أي :
معرفة أولية كل شيء وآخريته وظاهريته وباطنيته مندرجة في هذه الأسماء الإلهية الشاملة سائر أسمائه ، ( معرفة لا يغيب عنها سليمان ) في جميع أحواله ، فكان يرى الحق بكليته في كل شيء مع الخصوصيات التي له باعتبار تفاصيل الأشياء من حيث اندراجها في كليته ؛ فلذلك كان مجلي الرحمانية المتضمنة للرحيمية ، ( بل هو ) أي : دوام هذه المعرفة له .
 
( من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ) ، إذ به ناسب الحق والخلق مناسبة كلية مندرجة فيها المناسبات الخاصة للأشياء من غير اختلال فيها بالغيبة عنها الموجبة للحجاب عن الحق والخلق بمقدار ما غاب عنه من هذه المعرفة ، فكان يتصرف في الكل بالتصرف الكلي مندرجة فيها الجزئيات .
ولما أوهم ذلك فضيلة على نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ، أزال ذلك بقوله : ( يعني الظهور به في عالم الشهادة ) ؛ لأنه لم يكن لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم في الدنيا ولا أنه لا يظهر به في عالم الغيب أبدا ( فقد أوتي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ) في عالم الشهادة ( ما أوتيه سليمان عليه السّلام ) من هذا الملك الذي به تصرفه في الجن والإنس والطير والوحش ، ( وما ظهر به ) في عالم الشهادة ، وسيظهر به يوم القيامة ، فيجعل من آمن به من أهل الجنة ومن كفر به من أهل النار .
 
والدليل على أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أوتيه ما روي عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : « أن عفريتا من الجن تغلب عليّ البارحة ؛ ليقطع عليّ صلاتي ، فأمكنني اللّه منه ، فأخذته فأردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد ، حتى ينظر إليه كلكم ، فذكرت دعوة أخي سليمانقالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[ ص : 35 ] ، فرددته خاسئا » رواه ابن حبان والبيهقي.
( فمكنه اللّه تمكين قهر ) ، وهو غاية التصرف ( من العفريت الذي جاءه بالليل ) خصّ مجيئه بالليل ؛ لأنه أهول ( ليفتك به ) ، وفي نسخة :
" ليضل به " ، والتمكين من مثل هذا العفريت الذي يقصد مثل هذا النبي تمكين من كل عفريت ( فهم بأخذه وربطه ) ، وهذا لا ينافي ما سبق من أخذه ؛ لتعلق هذا بالمجموع من الأخذ والربط ( بسارية من سواري المسجد ) خصه لإفادته غاية الشهرة ؛ لأن المسجد من شأنه أن يدخله كل أحد بخلاف البيت ( حتى يصبح فتلعب به ولدان المدينة ) .
 
وهذا غاية القهران يصير من يقصد أشد الناس بالفتك ملعبا لصبيان البلد قويهم وضعيفهم ، وإن يصير من يعتاد الاختفاء عن نظر أهل العلم والفضل عاجزا عن الاختفاء عن الصبيان ، ( فذكر دعوة سليمان ) ، وهي قوله : "وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" [ ص : 35 ] ، فرده صلّى اللّه عليه وسلّم خاسئا ، فلم يظهر عليه السّلام بما أقدر عليه من قهره وربطه وجعله ملعبا للصبيان ، وظهر بذلك سليمان ، فاستعملهم إجمالا ساقه من الغوص في البحر ، ومن بناء البلدان وغير ذلك ، وقتل بعضهم وحبس بعضهم في نحو قمقمة .
 
ثم إنه عليه السّلام لو ظهر به لم يكن فعله منافيا لمقتضى دعوة سليمان ، ولكن لم يظهر به ؛ لأنه وإن كان في معنى التصرف الكلي إلا أنه في صورة الجزئي ، فلم ير الظهور به لائقا بكماله ، إذ ( قوله ملكا ) نكرة في سياق الأبيات ( فلم يعم ) كل فرد ونوع من الملك .
 
( فعلمنا أنه يريد ) بهذه الدعوة ( ملكا ما ) أي : نوعا أو فردا خاصّا منه ، ولكن ليس المراد أي نوع وفرد ؛ لأنّا ( رأيناه قد شورك في كل جزء ) جزء أي : فرد فرد ، ونوع نوع ؛ لأنه جزء من مجموع الأفراد والأنواع ( من الملك الذي أعطاه اللّه ) .
ولا شكّ أنه استجابة لهذا الدعاء لا زائد على ما دعاه ، وهو مجموع أنواعه وأفراده ، ( فعلمنا أنه ما اختص إلا بالمجموع من ذلك ) الملك الكلي الشامل على الملك المجموع ، والذي هو جزء منه والمجموع أيضا ليس من خواصه على الإطلاق ، إذ علمنا ( تحديث العفريت ) الذي التمكين منه تمكين كلي ( أنه ما اختص إلا بالظهور بالمجموع ) .
وإنما حصل الظهور ببعض أجزائه ، وإن شاركه في الكل لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ؛ ولذلك يقول :
( قد يختص ) غيره بالمجموع من غير ظهور به كنبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم والظهور من غير جمع كسائر الملوك ، وبعض من يسمع تسخيره للجن ، وبعض الشيوخ المسخرين للطيور والوحوش ، ولكن لا يفهم هذا من القرآن والحس إنما علم به الظهور من غير جمع .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولو لم يقل صلّى اللّه عليه وسلّم في حديث العفريت : « فأمكنني اللّه منه » .  لقلنا : إنّه لمّا هم بأخذه ذكّره اللّه دعوة سليمان ليعلم أنّه لا يقدره اللّه على أخذه ، فردّه اللّه خاسئا ، فلمّا قال فأمكنني اللّه منه علمنا أنّ اللّه تعالى قد وهبه التّصرّف فيه ، ثمّ إنّ اللّه ذكّره فتذكّر دعوة سليمان فتأدّب معه ، فعلمنا من هذا أنّ الّذي لا ينبغي لأحد من الخلق بعد سليمان الظّهور بذلك في العموم ، وليس غرضنا من هذه المسألة إلّا الكلام والتّنبيه على الرّحمتين اللّتين ذكرهما سليمان في الاسمين اللّذين تفسيرهما بلسان العرب الرّحمن الرّحيم ، فقيّد رحمة الوجوب وأطلق رحمة الامتنان في قوله :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ الأعراف : 156 ] حتّى الأسماء الإلهيّة ، أعني حقائق النّسب ، فأمتنّ عليها بنا ، فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهيّة والنّسب الرّبانيّة ) .


فلذلك قال : ( ولو لم يقل صلّى اللّه عليه وسلّم في حديث العفريت : « فأمكنني اللّه منه » ؛ لقلنا أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لما هم يأخذه لربطه ذكره اللّه دعوة سليمان ؛ ليعلم أنه لا يقدره اللّه على أخذه ) ، وإن كان هذا الأخذ جزء من المجموع إلا أنه قد حصل له الجزء الآخر ، فلو حصل هذا معه  لحصل له المجموع ، ولا يدل على هذا كونه مردودا خاسئا ، إذ نقول على ذلك التقدير لم يجعل اللّه له سلطانا عليه ، كما لم يجعله على عباده المصطفين.
 
( فرده اللّه خاسئا ، فلما قال :  " فأمكنني اللّه منه » ) ؛ لئلا يكون عدم تسلط الشيطان مثل عدم تسلطه صلّى اللّه عليه وسلّم فيتكافآن ، ويلزم تفضيل سليمان عليه السّلام عليه ( علمنا أن اللّه قد وهبه التصرف فيه ) تكميلا لملكه الذي هو من جملة فضائله وكمالاته .
( ثم إن اللّه ذكره ) دعوة سليمان ، فتذكر دعوة سليمان ، فعلم أنه لو ظهر به لكان رادّا لدعوة سليمان وأمكنه ردّا لدعوة ، لكن فيه إساءة الأدب ( معه ، فتأدب ) سليمان عليه السّلام معه ، ( فعلمنا من هذا ) التقرير أن : مراد سليمان عليه السّلام بالملك ( الذي لا ينبغي لأحد من الخلق ) احترز به عن ملك الحق ، فإنه أشمل من ملك سليمان بكل حال من الأزل إلى الأبد ، ( بعد سليمان الظهور بذلك في العموم ) ، إذ علمنا من الحديث أن المراد من الاختصاص الظهور ، ومن الحس الاختصاص بالمجموع .
 
ثم أشار - رحمه اللّه - إلى أنه ليس غرضه بيان ما اختص به سليمان عليه السّلام من هذا الملك ، ولا بيان فضيلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في أنه أوتي مثل ما أوتي سليمان عليه السّلام ؛ فقال : ( وليس غرضنا في هذه المسألة ) أي : بيان الملك المخصوص بسليمان عليه السّلام ( إلا الكلام والتنبيه ) أوردهما ؛ ليشعر بأنه بين بعضه بالكلام الطويل الذيل الشامل على البراهين ، وتارة اكتفى بالتنبيه .
( على الرحمتين اللتين ذكرهما سليمان ) كيف يرتبطان بملكه حتى جعلهما مفتتح مكتوبه المتعلق بأمر المملكة التي كان يتصرف فيها بالأسماء الإلهية ، وعقبهما قوله :أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ[ النمل : 31 ] .
 
فذكرهما ( في ) ضمن ( الاسمين اللذين ) هما المعينان القائمان بالذات الإلهية ، وكان ( تفسيرهما بلسان العرب : الرحمن الرحيم ) ، فكتب هذين اللفظين في مكتوبه إليها لكونها عربية ، ويحتمل أنه كتب الاسمين الدالين عليهما بلسانه إليها وهي عربية ؛ ليعلم اطلاعها على سائر اللغات ، ويحتمل ألا تكون هي عربية ، فكتب إليها باللسان الذي تعرفه هي .
( فقيد ) سليمان ( رحمة الوجوب ) بجعله إياها صفة للّه بعد اتصافه بالرحمن ؛ لأن مفهوما مفهوم الرحمة مع زيادة اعتبار وجوبها .
""أضاف المحقق :-  عن رحمة الوجوب يعني أن العبد من حيث إنه يجب عليه إتيان أوامر مولاه ، فلا تجب الرحمة على المولى في مقابلة شيء ، فإذا قدر المولى وأوجب على نفسه لعبده شيئا في مقابلة عمله يستحق العبد بذلك الشيء بسبب عمله ، فوصول ذلك الشيء للعبد من المولى في مقابلة عمله امتنان وعطاء محض ، ولذا قالوا : الجنة فضل إلهي فلا يستحقها العبد إلا بفضل اللّه ؛ فكان وجوب الرحمة من وجوب الامتنان . شرح القاشاني ""
 
( وأطلق رحمة الامتنان ) بجعلها صفة للّه الجامع لأسمائه لعمومها ( في قوله : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ )[ الأعراف : 156 ] .
ومن جملتها الأسماء الإلهية فتضمن كل شيء ( حتى الأسماء الإلهية ) لا من حيث هي أسماؤه ، بل من حيث هي حقائق بها انتساب الموجودات إلى الحق .
وإليه الإشارة بقوله : ( أعني حقائق النسب ) ، فلما تعلقت الرحمة الامتنانية بأسمائه تعالى باعتبار انتسابها إلينا ( فامتن عليها بنا ) يجعلنا ظهور آثارها الكائنة فيها ، إذ كانت بالقوة وهو كالكرب لها ، ( فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهية والنسب الربانية ) ؛ لأن الأسماء الإلهية قديمة والنسب عدمية ، فلا يكون شيء منها قابلا للتأثير ، فكانت امتنانية مطلقة على العالم والأسماء الإلهية لا في مقابلة علم ولا عمل .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثمّ أوجبها على نفسه بظهورنا لنا وأعلمنا أنّه هويّتنا لنعلم أنّه ما أوجبها على نفسه إلّا لنفسه ، فما خرجت الرّحمة عنه ، فعلى من امتنّ وما ثمّ إلّا هو ؟ إلّا أنّه لا بدّ من حكم لسان التّفضيل لما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم ؛ حتّى يقال : إنّ هذا أعلم من هذا مع أحديّة العين ، ومعناه معنى نقص تعلّق الإرادة عن تعلّق العلم ، فهذه مفاضلة في الصّفات الإلهيّة ؛ وكمال تعلّق الإرادة وفضلها وزيادتها على تعلّق القدرة ، وكذلك السّمع الإلهيّ والبصر وجميع الأسماء الإلهيّة على درجات في تفاضل بعضها على بعض ، كذلك تفاضل ما ظهر في الخلق من أن يقال : هذا أعلم من هذا مع أحديّة العين ).
  
ثم أشار إلى وجه تقيد الرحمة الوجوبية ، بقوله : ( ثم ) أي : بعد أن رحم العالم والأسماء الإلهية بالرحمة الامتنانية ( أوجبها على نفسه ، فظهورها لنا ) عند كمال التزكية والتصفية بالعلم والعمل ، ( وأعلمنا أنه هويتنا ) ؛ لأن عند هذه التصفية والتزكية يكمل ظهوره فينا بحيث نصبر كأننا هو ، فنعرفه معرفة كاملة بمعرفة أنفسنا ؛ ( لنعلم أنه ما أؤجبها على نفسه إلا لنفسه ) أي : لظهورها بكمالاتها فينا بعد ظهورها بها في ذاتها ، كما امتن بالامتنانية على أسمائها التي ليست غير نفسه .
( فما خرجت الرحمة ) الامتنانية والوجوبية ( عنه ) إلى من هو غيره من كل وجه ، فالوجوبية اختصت بصورة كاملة ، والامتنانية عمت آثار الأسماء وصورها الكاملة والقاصرة جميعا ، ( فعلى من امتن ) بالرحمة الامتنانية عندما رحم بها الآثار .
 
( وما ثم ) أي : في الواقع ( إلا هو ) ، فإن الآثار إنما تحققت بتصورها بصورة النور الوجودي عند إشراقه عليها ، وهو المتحقق في الكل وما سواه أمر اعتباري فيه ، فإذا لم يكن المرحوم من الآثار غيره من كل وجه ، فالراحم من صوره الكاملة أبعد من الغيرية وأقرب إلى العينية.
أي : التصور بصورته الكاملة ؛ فلذلك جعل سليمان عليه السّلام بتعلق ملكه هذين الاسمين ، ورتب عليه قوله :أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ[ النمل : 31] .
ولكن امتناع تحقق غيره يقتضي ألا يقع التفاضل في الموجودات ، فلا يكون بعضها مالكا متصرفا عاليا والبعض بخلاف ذلك ، ( إلا أنه لا بدّ من حكم لسان التفصيل ) بحيث يكون البعض مالكا متصرفا عاليا ، والبعض مملوكا متصرفا فيه سافلا .
 
( ولما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم ) ، والفاضل منها أقرب إلى الحق المالك المتصرف العالي ، فهو متصف بصفته بخلاف البعيد عنه ، ولا شكّ في ظهور ذلك ، ( حتى يقال : إن هذا أعلم من هذا مع أحدية العين ) الإنسانية التي هي المظهر أو الصفة العلمية التي هي الظاهر ، فهذا التفاضل ليس باعتبار أحدية العين لا في المظهر ولا في الظاهر ، بل باعتبار الصفات اللاحقة بها إما في الخلق الظاهر ، وإما في الحق ، فليس لنقص بعض صفاتها وكمال البعض الآخر .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:15 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي 

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
 الفص السليماني
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثاني
فإن محال في الصفات القديمة إذ النقص من سمات الحادث ، ولكن ( معناه ) في صفاته تعالى ( معنى نقص تعلق الإرادة عن تعلق العلم ) ، فإن العلم متعلق بالواجب والممتنع والممكن موجودا أو معدوما ، والإرادة إنما تتعلق بالممكن ؛ لتخصيصه بالوجود أو العدم المتجدد أو المستمر ؛ ( فهذه مفاضلة في الصفات الإلهية ) مع كونها ليست غير الذات باتفاق .

( وكمال ) عطف على نقص ( تعلق الإرادة ) بالنسبة إلى تعلق القدرة ؛ لتوقف تعلق القدرة على تعلق الإرادة ، ( وفضلها ) على تعلق القدرة ؛ لأن تعلق القدرة الإرادة في الأزل ، وتعلق القدرة عند الإيجاد المقدور ، ( وزيادتها على تعلق القدرة ) ؛ لأن الإرادة تتعلق بالعدم المستمر ليبقى الممكن فيه ، ولا تتعلق القدرة به لعدم كونه أثرا .
( وكذلك ) أي : مثل هذه الصفات في نسبة التفاضل ( السمع الإلهي والبصر ) ؛ لتعلق الأول بالأصوات والحروف ، وما يدل عليه بها من التمايز ، وتعلق الثاني بالمبصرات من الألوان والأضواء والمقادير والأشكال والحركات والسكون .
( وجميع الأسماء الإلهية على درجات في تفاضل بعضها على بعض ) ، فالحياة متقدمة على العلم بدرجة ، وعلى الإرادة بدرجتين ، وعلى القدرة بثلاث درجات ، وعلى السمع والبصر من جزئيات العلم .

( كذلك ) أي : مثل التفاضل في الصفات الإلهية بعضها بالنسبة إلى بعض ( تفاضل ما ظهر في الخلق ) من كل صفة ( من أن يقال : هذا أعلم من هذا مع أحدية العين ) أي : عين العلم الظاهر فيهما ، وعين الإنسانية التي هي المظهر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وكما أن كلّ اسم إلهيّ إذا قدّمته سمّيته بجميع الأسماء ونعتّه بها ، كذلك فيما ظهر من الخلق فيه أهليّة كلّ ما فوضل به ، فكلّ جزء من العالم مجموع العالم ، أي هو قابل لحقائق متفرّقات العالم كلّه ؛ فلا يقدح قولنا إنّ زيدا دون عمرو في العلم أن تكون هويّة الحقّ عين زيد وعمرو ، ويكون في عمرو أكمل وأعلم منه في زيد ، كما تفاضلت الأسماء الإلهيّة وليست غير الحقّ ) .

ثم أشار إلى رؤية الكمّل كمال ظهور الحق في كل شيء ، إما بالفعل أو بالقوة مع رؤية أوليته وآخريته وظاهريته وباطنيته في الكل ؛ لأن المظاهر ، وإن كان بعضها قاصرا بالفعل فهو كامل بالقوة ، فقال : ( وكما أن كل اسم إلهي إذا قدمته سميته بجميع الأسماء ) ،
كما تقول الحي هو القيوم ، والرحمن هو الرحيم ( ونعته بها ) ، كما تقول : هو الحي القيوم ، وهو الرحمن الرحيم مع أن حقيقته الاسمية ، إنما تقتضي التسمية به لا كونه مسمى ، وتقتضي كونه نعتا لا منعوتا ( كذلك ) أي : كما وقع في الأسماء خلاف مقتضى حقائقها وقع .

( فيما ظهر من الخلق فيه ) أي : في ظهور الحق من التفاضل ( أهلية كل ما فوضل به ) هذا الظهور بالنظر إلى الظهور في مظهر آخر ، فإن الظهور من حيث هو ظهور قابل للفاضلية ، وإن لم تكن حقيقة المظهر قابلة لظهور أكمل من الحاصل لها يجوز أن ينضم إلى هذه الحقيقة القابلة للمفضول الحقيقة القابلة للفاضل ، وذلك أن ( كل جزء من العالم مجموع العالم).
ولما أوهم ذلك أنه مجموع بالفعل أزال ذلك بقوله : ( أي : قابل ) الحقيقة ( لحقائق متفرقات العالم ) أي : فيه قوة اجتماعها إذ لا تزدحم الحقائق في محل واحد ( كله ) فيه إشارة إلى أن التقابل بين الحقيقتين لا يمنع من اجتماعهما بالجملة ؛ فلذلك يجتمعان في الذهن ، وإذا كان كل جزء من العالم مجموع أجزائه بالقوة ؛ ( فلا يقدح قولنا أن زيدا دون عمرو في العلم في أن تكون هوية الحق ) أي : ظهور نور وجوده ( عين زيد وعمرو ) .
فإن زيدا مثل عمرو بالقوة ، ( فيكون ) ظهور الحق في زيد بالقوة مثله ( في عمرو ) ، ولكنه يكون في عمرو بالفعل ( كما تفاضلت الأسماء الإلهية ) ، وهي متساوية من حيث إنها ليست غير الحق ؛ فلذلك يصح أن يتقدم كل اسم ، فيتسمى بالأسماء الباقية وينعت بها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فهو تعالى من حيث هو عالم أعمّ في التّعلّق من حيث ما هو مريد وقادر ، وهو هو ليس غيره ؛ فلا تعلمه يا وليّي هنا وتجهله هنا وتثبته هنا وتنفيه هنا ، إلّا أن أثبّته بالوجه الّذي أثبت نفسه ، ونفيته عن كذا بالوجه الّذي نفى نفسه كالآية الجامعة للنّفي والإثبات في حقّه ، حين قال :لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ،فنفىوَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[ الشورى : 11 ] فأثبت بصفة تعمّ كلّ سامع بصير من حيوان ، وما ثمّ إلّا حيوان إلّا أنّه بطن في الدّنيا عن إدراك بعض النّاس ، وظهر في الآخرة لكلّ النّاس ، فإنّها الدّار الحيوان .
وكذلك الدّنيا إلّا أنّ حياتها مستورة عن بعض العباد ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد اللّه بما يدركونه من حقائق العالم ، فمن عمّ إدراكه كان الحقّ فيه أظهر في الحكم ممّن ليس له ذلك العموم ، فلا تحجب بالتّفاضل وتقول لا يصحّ كلام من يقول إنّ الخلق هويّة الحقّ بعد ما أريتك التّفاضل في الأسماء الإلهيّة الّتي لا تشكّ أنت أنّها هي الحقّ ومدلولها المسمّى بها وليس إلّا اللّه تعالى ، ثمّ إنّه كيف يقدّم سليمان اسمه على اسم اللّه كما زعموا وهو من جملة من أوجدته الرّحمة ، فلابدّ أن يتقدّم الرّحمن الرّحيم ليصحّ استناد المرحوم ، هذا عكس الحقائق : تقديم من يستحقّ التّأخير وتأخير من يستحقّ التّقديم في الموضع الذي يستحقّه ) .

قال رضي الله عنه :  ( فهو تعالى من حيث هو عالم أعم في التعلق من حيث ما هو مريد وقادر ) ، والحال أن كل اسم من هذه الأسماء ( هو ليس غيره ) ، فيصح أن يتعلق كل اسم بما تعلق به الآخر من حيث يتسمى به أو ينعت به ، وهذا التعلق وإن لم يظهر له بالفعل فهو له بالقوة ، وإذا كان ظهوره في الكل بالتساوي بالقوة مع التفاضل بالفعل.
( فلا تعلمه يا وليّ هاهنا ) أي : فيما ظهر فيه على الكمال بالفعل ، ( وتجهله هاهنا ) أي : فيما لم يظهر فيه على الكمال بالفعل لكمال ظهوره فيه بالقوة ، فسبحه عند رؤية كل شيء ولا تقتصر على التسبيح في رؤية المظاهر الكاملة بالفعل ، كما قال :فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ[ الروم : 17 ] .

( وتنفيه هاهنا ) أي : فيما لم يظهر فيه بالفعل على الكمال ( وتثبته هاهنا ) أي : فيما ظهر فيه بالفعل على الكمال ، فإنه من فعل عبدة الأصنام جعلوا بعض المظاهر الكاملة في زعمهم مستحقة للعبادة ( إلا أن أثبته ) في كذا أي : الأمور المتصفة بالصفات المعينة من الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام ( بالوجه الذي أثبت نفسه ) بالظهور فيه .
( ونفيته عن كذا بالوجه الذي نفي نفسه ) ، وهو المستلزم لحدوثه كالحلول والاتحاد ، فتجمع بين إثباته ونفيه في هذه المظاهر ( كالآية الجامعة للنفي والإثبات ) .
أي : لنفي التشبيه وإثباته ( في حقه ، حين قال :لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ الشورى : 11 ] ، فنفي ) التشبيه باعتبار استقراره في مقر غيره ، والظهور بالإلهية في المظاهر( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )[ الشورى : 11 ] .

( فأثبت ) التشبيه باعتبار ظهوره في المظاهر ( بصفة ) هي السمع والبصر ( تعم كل سامع وبصير من حيوان ) ، وإن استبعد ظهوره في مثل : الكلب والخنزير ، فلا نقص في إشراق الشمس عليهما .
ثم أشار إلى ظهوره بجميع الصفات في جميع المظاهر، وإن كان في بعضها بالقوة فهو بمنزلة الفعل عند الكمّل، فقال : ( وما ثم ) أي : في الواقع ( إلا حيوان ) ، وإن كان بعض الأشياء لا يسمى به ، بل يسمى بالنبات والجماد .
ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا يسمع صوت المؤذن حجر ، ولا شجر ، ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة » .
وقال تعالى :وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ[ الإسراء : 44 ] ، ( إلا أنه ) أي : كونه حيوان متصفا بالسمع والبصر ( بطن في الدنيا عن إدراك بعض الناس ) ؛ لقصور إدراكهم عن الأمور الكائنة بالقوة ، ( وظهر في الآخرة لكل الناس ) حتى تشهد لهم أو عليهم الأرض أو جدران أهل البيت بعملهم .
كما قال تعالى :" يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها . بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها " [ الزلزلة : 4 ، 5 ] ، ( فإنها الدار الحيوان ) تغلب فيها الأرواح حتى التي كانت فيها بالقوة على الأشباح ؛ فلذلك يكون لهم قوة المشي على الصراط الذي هو أرق من الشعر وأحد من السيف .

( وكذلك الدنيا ) في الحيوانية ؛ لأن ما في الآخرة نتيجة ما في الدنيا ، فلابد أن يوجد فيها بالقوة أو الفعل ، كالنتيجة في المقدمتين ( إلا أن حياتها ) أي : حياة الدنيا لبعض الأشياء ( مستورة عن بعض العباد ) الذين لا يدركون كل ما يكون بالقوة ؛ ( ليظهر الاختصاص ) أي : اختصاص غيرهم بهذا الإدراك ؛ لقربهم من الحق حتى رأوه ظاهرا في الكل على الكمال بالقوة ( والمفاضلة بين عباد اللّه ) ، وإن كمل ظهور الحق في الكل بالقوة ، لكن لا بد من المفاضلة في الظهور الفعلي .

فتختص الكمّل بذلك ( بما يدركونه من حقائق العالم ) ، فيعلمون روحانية كل شيء متصفة بالسمع والبصر وغيره من صفات الحق في كل شيء ، ( فمن عم إدراكه ) من العباد ( كان الحق فيه أظهر ) بالفعل ، فيقوم مقامه ( في الحكم ) كسليمان عليه السّلام وسائر الكمّل ، ( فمن ليس له ذلك العموم ) ، فإنه تنقص رتبته بمقدار ما نقص إدراكه ، وإذا كان للحق تفاضل في الظهور بالفعل مع التساوي في الظهور بالقوة .

( فلا تحجب بالتفاضل ) الفعلي في ظهور الحق عن ظهوره ، فتنكره بالكلية ( وتقول لا يصح كلام من يقول إن الخلق هوية الحق ) أي : ظهوره إذ لا كمال له فيما يتفاوت فيه وهو المطلوب في زعمكم ، فتقول : ليس المطلوب في كل مظهر جزئي الكمال بالفعل من كل وجه ، بل يكفي الكمال فيه بالقوة ( بعد ما رؤيتك التفاضل في الأسماء الإلهية ) .
 "" إضافة المحقق :  وتسمى أمهات الأسماء ، وأئمة الأسماء ، والأئمة السبعة ، والحقائق السبعة الكلية ، والأسماء الكلية الأصلية وهي سبعة هي : الحي ، والعالم ، والمريد ، والقائل ، والقادر ، والجواد ، والمقسط ( لطائف الإعلام ص 26 ) .""

بالفعل في تعلقها مع أنها ( التي لا تشك أنت أنها هي الحق ) كيف ، ( ومدلولها المسمى بها ) أي : بدلالة المطابقة أو التضمن ( ليس إلا اللّه ) ، ولكنها إذا كانت جميع الأسماء بالقوة اكتفى بذلك الكمال هناك ، فكيف لا يكتفي هاهنا ، بل هو واجب ؛ ليتميز هذا الكمال عن كماله الذي له في ذاته ، إذ هو بالفعل من كل وجه فافهم ، فإنه مزلة للقدم .

( ثم ) أي : بعد ما عرفت اعتبار التفاضل بالفعل في نظر الكمال فيما بين المظاهر الخلقية بعضها بالنظر إلى بعض ، فكيف لا يقع اعتبار التفاضل فيما بين أسماء الحق وبين الخلائق ( أنه كيف يقدم سليمان اسمه على اسم اللّه كما زعموا ) ، فإنه وإن صار أكمل المظاهر بالفعل ، وصار ثابتا عن الحق ، فرتبته نازلة عن رتبة الرحمة النازلة عن رتبة الإلهية كيف ( وهو من جملة من أوجدته الرحمة ).

أي : التي هي المدلول التضمني للرحمن الرحيم ، ( فلابدّ أن يتقدم ) في الواقع ( الرحمن الرحيم ) على سليمان المرحوم ؛ ( ليصح إسناد المرحوم ) المعلول إلى علته الرحمن الرحيم ، فيجب تأخر اسم سليمان في الذكر عن الرحمن الرحيم المتأخرين عن اسم اللّه ، فلو قدم اسمه عليهما كان خطأ ،

وإليه الإشارة بقوله : ( هذا ) أي : تقديم سليمان اسمه على هذه الأسماء الإلهية ، ( عكس الحقائق ) أي : عكس مقتضاها ( تقديم من يستحق التأخير ) ، وهو المعلول ( وتأخير من يستحق التقديم ) ، وهو العلة ( في الموضع الذي يستحقه ) ؛ لإشعاره بالعلية والمعلولية ، فهو وإن حسن في موضع باعتبار آخر ، ولا يحسن في مثل هذا الموضع أصلا ؛ لأنه أشعر بأنه مرحوم بهما أولا ، وراحم بتجليهما والتحقق بهما ثانيا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن حكمة بلقيس وعلوّ علمها كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب ؛ وما عملت ذلك إلّا لتعلم أصحابها أنّ لها اتّصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها ، وهذا من التّدبير الإلهيّ في الملك ، لأنّه إذا جهل طريق الإخبار الواصل للملك خاف أهل الدّولة على أنفسهم في تصرّفاتهم ، فلا يتصرّفون إلّا في أمر إذا وصل إلى سلطانهم عنهم يأمنون غائلة ذلك التّصرّف ، فلو تعيّن لهم على يدي من تصل الأخبار إلى ملكهم لصانعوه وأعطوا له الرّشا حتّى يفعلوا ما يريدون ، ولا يصل ذلك إلى ملكهم ، فكان قولها :أُلْقِيَ إِلَيَّ[ النمل : 29 ] ولم تسمّ من ألقاه سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواصّ مدبّريها وبهذا استحقّت التّقدّم عليهم ) .

ثم أشار إلى بقية ما يتعلق بالآية مع الإشارة إلى كمال عقل بلقيس ؛ ليتم بذلك تمسكه على منع تقديم سليمان اسمه على اسم اللّه في الكتاب ، بقوله : إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [ النمل : 29 ] ؛ وليشير بذلك إلى ما أثر فيها كتابه من إعطاء نصيب من الرحمتين في تدبير المملكة .
فقال : ( ومن حكمة بلقيس ) أي : علمها الذي استحكمت به أمر المملكة ، ( وعلو علمها ) على العلوم أكبر ولاة الأمر ( كونها لم تذكر من ألقي إليها الكتاب ) ، وهو الطير مع أنه أمر عجيب ، وفيه تعظيم شأن من أرسله بعموم تصرفه في أجناس العالم وأنواعه مع أن المشورة تتعلق ببيان حاله ، ( وما علمت ذلك ) للاختصار.
إذ لا يبالي به مع هذه الفوائد ، ولا بجهلها بالملقي ، إذ ثبت في الأخبار أن الطير لما ألقي الكتاب على صدرها وهي نائمة حك عليه برجله ، حتى تنبهت فعلمت به ، فما عملت ذلك ( إلا ليعلم أصحابها أن لها اتصالا إلى أمور ) من مملكتها ومملكة غيرها ( لا يعلمون طريقها ) الذي تسلكه لتحصلها وتصل به أخبارها إليها .
( وهذا ) إن لم يكن له فائدة متوقعة في المستقبل ، فهو في الحال شبيه بالآلة ، إذ هو( من التدبير الإلهي في الملك ).

لأن انتظام أمور أكثر الخلائق في جهلهم بما يفعله إلا له بهم ، فكيف إذا كانت له مع ذلك فائدة متوقعة في المستقبل ، ( فإن إذا جهل طريق الإخبار الواصل للملك ) من مملكته أو مملكة غيره ( خاف أهل الدولة على أنفسهم في تصرفاتهم ) .
فإنها المتعلقة بالمملكة أو بخاصة أنفسهم من وصول أخبار ظلمهم وإفسادهم فيها من حيث لا يشعرون ، فإذا خافوا .

(فلا يتصرفون إلا في أمر إذا وصل ذلك الأمر إلى سلطانهم خبر عنهم يؤمنون غائلة ذلك التصرف ) ؛ لسلامته عن الظلم والإفساد ، وهم إنما يخافون هذا الخوف الموجب لصلاح تصرفاتهم كلها عن عدم تعين طريق الإخبار الواصل إلى ملكهم ، ( فلو تعين لهم ) طريق الإخبار ، وعلموا ( على يدي من يصل الإخبار إلى ملكهم ، لصانعوه ) بأنواع المودة .
( وأعظموا له الرّشا ) ليخفي عليهم مظالمهم ومفاسدهم ، وينهي عنهم ما يريد ملكهم رضا عنهم وتقريبا لهم .

( حتى يفعلوا ما يريدون ) من أنواع الظلم والفساد ، كما نرى من أهل زماننا ، ( ولا يصل ذلك إلى ملكهم ) ؛ لأنه عين للإيصال طريقا وعرفه الناس ، وهو لا توصل إليه الأمور على ما هي عليه إذ لا يصل إليه شيء حينئذ ، فإن أوصله غيره أجمعوا على تكذيبه بواسطته ؛ فإن تم كلامه عنده ، فربما لا يوصل إلا بعد مدة لا يمكن تداركهم إلا بصعوبة ( فكان قولها إني ألقي إليّ ) بصيغة المبني للمفعول .
( ولم تسم من ألقاه ) مع كونه طيرا من غير مملكتها ، ولا يمكن معه مصانعتهم ، وإعظام رشا له لو أوصله أخبارهم إليها مع أنه لا يمكنه ذلك ( سياسة فيها ) أي : تدبيرا في مملكتها ( أورثت الحذر منها في أهل مملكتها ) أي : عامة من يسكنها ، ( وخواص مدبريها ) وهم العمال المتصرفون في مملكتها من معرفتهم وصول أمور إلى ملكهم بطريق لا يعلمونه ، ففيه سد مسالك الفساد بالكلية ؛ لأن إخفاء هذا الطريق في غاية الصعوبة يحتاج إلى علم عظيم ، وتدبير حكيم ، ( وبهذا ) أي :
باختصاصها بزيادة العلم والسياسة ( استحقت التقديم ) برتبة السلطنة ( عليهم ) مع كونهم رجالا من شأنهم التقديم للسلطنة ، وغيرها من الأمور العظام .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأمّا فضل العالم من الصّنف الإنسانيّ على العالم من الجنّ بأسرار التّصريف وخواصّ الأشياء ، فمعلوم بالقدر الزّمانيّ : فإنّ رجوع الطّرف إلى النّاظر به أسرع من قيام القائم من مجلسه ؛ لأنّ حركة البصر في الإدراك إلى ما يدركه أسرع من حركة الجسم فيما يتحرّك منه ، فإنّ الزّمان الّذي يتحرّك فيه البصر عين الزّمان الّذي يتعلّق بمبصره مع بعد المسافة بين النّاظر والمنظور ، فإنّ زمان فتح البصر زمان تعلّقه بفلك الكواكب الثّابتة وزمان رجوع طرفه إليه عين زمان عدم إدراكه ، والقيام من مقام الإنسان ليس كذلك ، أي ليس له هذه السّرعة ، فكان آصف بن برخيا أتمّ في العمل من الجنّ ، فكان عين قول آصف بن برخيا عين الفعل في الزّمن الواحد ، فرأى في ذلك الزّمان بعينه سليمان عليه السّلام عرش بلقيس مستقرّا عنده لئلا يتخيّل أنّه أدركه وهو في مكانه من غير انتقال ، ولم يكن عندنا باتّحاد الزّمان انتقال ، وإنّما كان إعدام وإيجاد من حيث لا يشعر بذلك إلّا من عرفه ، وهو قوله تعالى :" بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ " [ ق : 15 ] .
ولا يمضي عليهم وقت لا يرون فيه ما هم راءون له ، وإذا كان هذا كما ذكرناه ، فكان زمان عدمه أعني عدم العرش من مكانه عين وجوده عند سليمان من تجديد الخلق مع الأنفاس ، ولا علم لأحد بهذا القدر بل الإنسان لا يشعر به من نفسه أنّه في كلّ نفس لا يكون ثمّ يكون ، ولا تقّل « ثمّ » تقتضي المهلة ، فليس ذلك بصحيح ، وإنّما « ثمّ » تقتضي تقدّم الرّتبة العلّيّة عند العرب في مواضع مخصوصة كقول الشّاعر :كهزّ الرّديني . . . ثمّ اضطرب
وزمان الهزّ عين زمان اضطراب المهزوز بلا شكّ ، وقد جاء بثمّ ولا مهلة ، كذلك تجديد الخلق مع الأنفاس : زمان العدم زمان وجود المثل كتجديد الأعراض في دليل الأشاعرة ).

 "" أضافة المحقق :  كهزّ الرّديني جزء بيت من المتقارب ، وهو لأبي داود الآيادي في « الأنور ومحاسن الأشعار » للشماطي ص (231) ، و « التشبيهات » لابن أبي عون ص ( 52 ) ، يروى البيت بتمامه :  كهزّ الرّدينيّ بين الأكفّ جرى في الأنابيب ثم اضطرب "".

ولما فرغ عن بيان تعلق الرحمتين بالكاتب ، وهو سليمان عليه السّلام ، والمكتوب إليها ، وهي بلقيس أشار إلى تعلقها ببعض أصحاب سليمان عليه السّلام في الإتيان بعرشها عنده من جملة هذه القصة ، مع بيان فضله عن أصحابه من الجن في ذلك .
فقال : ( وأما فضل العالم من الصّنف الإنساني ) ، وهو آصف بن برخيا وزير سليمان عليه السّلام المشار إليه بقوله عزّ وجل قال :الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ[ النمل : 40 ] .

وفي قوله : من الصنف الإنساني إشارة إلى كمال مناسبته لسليمان بحيث صار من صنف الكمّل من الإنسان حتى اطلع على اللوح المحفوظ ، فعلم ما فيه من أسرار التصريف ( على العالم من الجن ) المشار إليه بقوله عزّ وجل : قالعِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ[ النمل : 39 ] .
وكان عالما بخواص الأشياء ( بأسرار التصريف ) ، وهو الإيجاد والإعدام ( وخواص الأشياء ) التي بها التأثير فيها ، والأول يتعلق بالأول والثاني بالثاني ، ( فمعلوم بالقدر الزماني ) ، فإن الفعل الواحد بالشخص إذا حصل من فاعل في زمان أقصر .

ومن آخر في زمان أطول يدل على مزية الأول فيه ، وهذه المزية تدل على فضل علمه به ، فكيف إذا حصل الفعل المفتقر إلى مدة مديدة من واحد في زمان واحد ، ومن آخر في زمانين فصاعدا ، فإنه يدل على أن الأول ما حصله عن تحريك ، وإنما حصله من اطلاعه على أسرار التصريف .
وعلى أن الثاني حصله عن تحريك في غاية السرعة عن اطلاعه على خواص الأشياء ، فعلم بذلك فضل علم آصف القائل : ( "أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ"[ النمل : 40 ] ) على فضل علم العفريت القائل :"أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ" [ النمل : 39 ] .
 

( فإن رجوع الطرف ) "" المحقق : أي الإتيان في كلامه موقت بارتداد الطرف ورجوعه ""
المفهوم من قبل أن يرتد إليك طرفك من المنظور ( إلى الناظر به أسرع من قيام القائم من مجلسه ) المفهوم من قوله قبل أن تقوم من مقامك ؛ ( لأن حركة البصر ) بخروج الشعاع منه ( في ) طريق الإدراك ، وأصلا ( إلى ما يدركه ) من صور المبصرات ( أسرع من حركة الجسم فيما يتحرك منه ) إلى أي : مقصد كان وإن قرب غاية القرب .

إذ لا بدّ له من ثلاثة أزمنة زمان كونه في المبدأ ، وزمان كونه في الوسط ، وزمان انتهائه إلى المقصد ، فإن رجع احتاج إلى ثلاثة أزمنة أخرى زمان سكونه في المنتهى الأول ، وزمان تحركه في الوسط ، وزمان وصوله إلى المنتهى الثاني الذي هو المبدأ في الحركة الأولى ، بخلاف حركة البصر إلى صور المبصرات ورجوعه إلى الباصر .

( فإن الزمان الذي يتحرك فيه البصر ) لخروج الشعاع منه ( عين الزمان الذي ) يصل إلى مقصده ، وهو كونه ( يتعلق بمبصره مع بعد المسافة بين الناظر والمنظور ) بحيث لو تحرك فيها الجسم لطالت المدة جدّا ، ( فإن زمان فتح البصر ) الموجب لتحركه إلى المبصرات ، هو بعينه ( زمان ) وصوله إلى المبصرات البعيدة جدّا ، فإنه زمان ( تعلقه بفلك الكواكب الثابتة ) ، وبعد ما بينهما مدة ثمانية آلاف سنة بحركة الأجسام العنصرية كما بين الأرض ، وفلك القمر مدة خمسمائة عام ، وكذا ما بين كل فلكين ، وتحت كل فلك ( وزمان رجوع طرفه إليه ) ؛ لانطباع المرئي في بصره ( عين زمان إدراكه ) أي : وصول شعاعه إلى المبصر ، وهذا الرجوع أيضا يحتاج في حركة الجسم العنصري إلى ثمانية آلاف سنة أخرى في البصر بتحرك هذه الحركة خروجا ورجوعا في زمان واحد مسافة لو تحرك فيها الجسم العنصري ، لافتقر إلى مدة ستة عشر ألف سنة .

وفي كلام الشيخ رحمه اللّه: إشارة إلى الجمع بين مذهبي الشعاع والانطباع ، فدلّ هذا على أن الفعل الحاصل في مدة ارتداد الطرف أسرع منه في مدة قيام الشخص من مقامه ؛ وذلك لأن :

( القيام من مقام الإنسان ليس كذلك ) أي : ليست هذه الحركة كحركة البصر ، إذ ( ليس له هذه السرعة ) ؛ لافتقاده إلى زمانين فصاعدا ؛ لأن زمان ابتدائه غير زمان حصوله على الكمال ، فإذا كان فعل آصف يفتقر إلى زمان واحد ، وقول الجن إلى زمانين ،
 ( فكان آصف بن برخيا أتم في العمل من قول الجن ) ؛ لأنه حصل في أقصر مدة عن كمال علمه بأسرار التصريف ، ولو حصله الجن لم يتأت منه في تلك المدة ؛ لأن علمه كان بخواص الأشياء ولا بدّ من استجماعها .

( فكان عين قول آصف بن برخيا ) : أنا آتيك به ( عين الفعل ) إتيان عرش بلقيس ، إذ حصل بمجرد قصده من غير تحريك ( في الزمن الواحد ) ، كما يحصل المعلول مع العلة في زمانها ، وإن كان لها التقدم في الرتبة ، فصدق في إتيانه قبل ارتداد طرف سليمان عليه السّلام ( عرش بلقيس ) ، لا في مكانه الأول ولا منتقلا منه ، بل ( مستقرّا عنده ) ، أي : في مكان قريب .
وإنما قال تعالى في كتابه :"فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ"النمل : 40 ] .
ولم يكتف بقوله :"فَلَمَّا رَآهُ"النمل : 40 ] ، ولا بقوله :"مُسْتَقِرًّا"[ النمل : 40 ] ، .

( لئلا يتخيل ) ( أنه أدركه  ، وهو في مكانه) الأول ( من غير انتقال ) له أصلا فضلا عن الانتقال إلى مكان سليمان عليه السّلام ، كيف ( ولم يكن عندنا باتحاد الزمان ) أي : مع اتحاده ( انتقال ) الجسم من مكان إلى آخر ؛ لافتقاره إلى تعدد الأزمنة ، وإن أمكن ذلك في انتقال البصر ورجوعه ، فكان يتخيل أنه رآه في مكانه الأول ، وآصف إنما أتى به في منظر سليمان عليه السّلام لا في مكانه .


ولما استقر عنده من غير انتقال علم أنه ( إنما كان ) لعرش بلقيس إعدام من مكانه الأول ، وإيجاد في مكان سليمان ( من حيث لا يشعر ) أحد بذلك ، فتوهموا الانتقال مع اتحاد الزمان ، وهو محال ( إلا من عرفه ) أي : وقوع الإعدام والإيجاد في جميع أجزاء العالم في كل نفس نفس ، ( وهو ) ما دلّ عليه ( قوله تعالى :"بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيد"ق : 15 ]) .


 في كل جزء من أجزاء العالم ؛ لأن الأصل في الممكنات العدم من ذواتها ، والوجود من إشراق نور ربها عليها ، فهي تعود في كل نفس إلى أصلها والحق يمدها بالوجود في ذلك النفس بعينه ، وكيف لا يكونون في هذا اللبس ، وهم يعتقدون أنه لا يجمع وجود شيء وعدمه في زمان واحد ، وإن المعدوم غير مرئي مع أنه ( لا يمضي عليهم وقت لا يرون فيه ما هم راءون له ) ، فيتوهموا أنه لو حصل الشيء مما يرونه مستمرا الإعدام والإيجاد ، لكان غير مرئي وقت عدمه ومرئيّا وقت وجوده ، ولم يكن يرى مستمرا .

ولا يعلمون أنه يمكن اجتماع الوجود والعدم في الشيء الواحد باعتبارين اعتبار نفسه واعتبار غيره ، وإن المعدوم إنما لا يرى لو لم يكن له وجه من الوجود الخارجي أصلا ، وألا يرى من جهة وجوده .
( وإن كان هذا المذكور ) من وقوع الإعدام والإيجاد لأجزاء العالم في كل وقت ، وامتناع الانتقال على الأركان مع اتحاد الزمان .
( كما ذكرناه ، فكان زمان عدمه أعني : عدم العرش ) بينه ؛ لئلا يتوهم عوده إلى العالم ( من مكانه عين ) زمان ( وجوده عند سليمان ) ، وإن كان ( من تجديد الخلق مع الأنفاس ) ، وقد جرت العادة فيه بالإيجاد في مكانه الأول ، فليس ذلك من لوازمه ، فإنه من قبيل إعادة المعدوم ، ولا يجب أن يعاد بجميع عوارضه حتى يعاد مع كونه في مكانه وزمانه ، بل تكفي الإعادة بذاته وعوارضه المشخصة .

وهذا مع كونه معقولا من حيث إن الأصل في الأشياء العدم ، وهو لا يفارق أصله بحال ، وإن الوجود له من غيره فهو إنما يستمر بإمداده ؛ ولذا قال المحققون : البقاء يحتاج إلى فاعل كالابتداء ، ومنصوصا في الكتاب الإلهي ( لا علم لأحد بهذا القدر ) في أجسام العالم .

وإن قال بعضهم به في الأعراض ، ولم يقل به أحد في عرش بلقيس ، وقالوا فيه بالانتقال مع اتحاد الزمان أو تبطئ به الأرض أو بالظفرة ، ( بل الإنسان لا يشعر به من نفسه أنه في كل ) مقدار ( نفس ) من الزمان ( لا يكون )  لوجوب عوده إلى أصله العدم ، ( ثم يكون ) بمدد ربه ، فكيف يشعرون في عرش بلقيس .
ثم استشعر سؤالا بأن لفظه ، ثم يشعر بتعدد الزمان ، وهذا يناقض ما تقدم من كون الإعدام والإيجاد في زمن واحد ، فقال : ( ولا تقل ثم ) في قولنا ، ثم يكون ( تقتضي المهلة ) المستلزمة تأخير زمان المعطوف عن زمان المعطوف عليه ، وهذا التأخير يستلزم تعددهما ؛
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:16 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي 

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
 الفص السليماني
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثالث
( فليس ذلك ) الاقتضاء ( بصحيح ) على الإطلاق ، ( وإنما ) الصحيح أن ( ثم ) تقتضي تقدم المعطوف على المعطوف عليه نوع تقدم إما بالزمان أو بالذات أو بالشرف أو غير ذلك .
فإنها ( تقتضي تقدم الرتبة العليّة ) للمعطوف عليه بها ( عند العرب ) ، وإن لم يكن لهم اطلاع على أنواع التقديم ( في مواضع مخصوصة ) من غير أن يكون لتلك الرتبة تقدم زماني ، فلا يصح إطلاق اقتضاء ، ثم التقدم الزماني للمعطوف عليه مع صحة نقيضه ، ( كقول الشاعر : كهزّ الرّديني ) سيف منسوب إلى ردينة ، والهز التحريك ، ( ثم اضطرب وزمان الهزعين زمان اضطراب المهزوز بلا شك ) ضرورة امتناع تخلف الأثر عن التأثير .
( وقد جاء ) هذا الشاعر من العرب ( بثم ولا مهلة ) في قوله : ثم اضطرب ، فهو إنما جاء بها تقدم الهز بالرتبة العلية ، فإنها متقدمة على المعلول بالرتبة لا بالزمان .

( كذلك ) أي : كما أن زمان الهز زمان اضطراب المهزوز مع علو رتبة الهز على رتبة الاضطراب ، ( تجديد الخلق مع الأنفاس ) لأجزاء العالم والإنسان المفهوم من قولنا لا يكون ، ثم يكون ( زمان العدم ) المشار إليه بقولنا لا يكون ( زمان وجود المثل ) المشار إليه بقولنا ، ثم تكون مع علو رتبة العدم لكونه الأصل في الممكن ، وكيف يمنع هذا التجديد في زمان واحد في أجسام العالم وأعراضه .
والمراد بالمثل المعتاد لاشتباهه بالمثل إلا أن المثلين شخصان متغايران ، وهذا شخص واحد تخلل العدم بين وجوديه كما يتخلل المرض بين صحتيه ، وهو ( كتجديد الأعراض فقط في دليل الأشاعرة ) .

فليس هذا من البدعة ، وإن اختص انتظام بالقول به ، واستدل الأشعري بأن العرض لو بقي لامتنع زواله ؛ لأنه إما بنفسه ، فيلزم أن يصير مستحيلا بعد ما كان ممكنا ، وهو قلب الحقائق المحال أو بموجب وجودي ، كطريان ضد ، وهو محال ؛ لأن طريانه مشروط بزوال الأول ، فلو كان زوال الأول لطريان الثاني لزم الدور أو بموجب عدمي كزوال شرط ، فإن كان عرضا لزم الدور والتسلسل ، وإن كان جوهرا .

فإن زال بالعرض لزم الدور ، وإلا لزم التسلسل أو بفاعل مختار ، وإلا زالت إعدام ؛ فلا يكون أثرا ، وهذا الدليل بعينه دليل النظام ؛ فإن أجبت عنه بطل مذهب الأشعري أيضا ، فيقال للسّنّي : إما أن تعترف بصحة مذهب النظام أو ببطلان مذهبك أو بالفرق ، ولم يظهر على أن تهول جميع ما في العالم كالأعراض لصورة الوجود الحقيقي الإلهي باعتبار ظهوره في حقائق العالم ، فحكمها حكم ما تسميه الأشاعرة بالأعراض بلا فرق .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنّ مسألة حصول عرش بلقيس من أشكل المسائل إلّا من عرف ما ذكرناه آنفا في قصّته ، فلم يكن لآصف من الفضل في ذلك إلّا حصول التّجديد في مجلس سليمان عليه السّلام ، فما قطع العرش مسافة ، ولا زويت له أرض ولا خرقها لمن فهم ما ذكرناه ، وكان ذلك على يدي بعض أصحاب سليمان ليكون أعظم لسليمان في نفوس الحاضرين من بلقيس وأصحابها ، وسبب ذلك كون سليمان هبة اللّه تعالى لداود عليه السّلام من قوله تعالى :"وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ "[ ص : 30 ] .
والهبة عطاء الواهب بطريق الإنعام لا بطريق الجزاء الوفاق أو الاستحقاق ، فهو النّعمة السّابغة والحجّة البالغة والضّربة الدّامغة ، وأمّا علمه فقوله تعالى :"فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ" [ الأنبياء : 79 ] ، مع نقيض الحكم "وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً"[ الأنبياء : 79 ] .
إذ كان هو الحاكم بلا واسطة ، فكان سليمان ترجمان حقّ في مقعد صدق ، كما أنّ المجتهد المصيب لحكم اللّه الّذي يحكم به اللّه في المسألة أو تولّاها بنفسه أو بما يوحى به لرسوله له أجران ، والمخطئ لهذا الحكم له أجر مع كونه علما وحكما ، فأعطيت هذه الأمّة المحمّديّة رتبة سليمان عليه السّلام في الحكم ، ورتبة داود عليه السّلام ، فما أفضلها من أمّة).

وإنما أطنبنا هذا الإطناب ( في مسألة حصول عرش بلقيس ) عند سليمان عليه السّلام في زمان انعدامه عن مكانه لغاية إشكالها ، فإن مسألة حصول عرش بلقيس في رؤية سليمان مستقرّا عنده ( من أشكل المسائل ) ؛ لأنه إن قيل فيها بالانتقال لزم تصور حركة الجسم من مكان إلى آخر في زمان واحد مع اقتضائه بالضرورة ثلاثة أزمنة في أقرب الأمكنة .

وإن قلنا بالتحديد لزم أن يكون زمان العدم عين زمان الوجود ، وهما متحدان معا مع أنه اعتراف بمذهب النظام .
وإن قلنا : إنه مع اتحاد الزمان لزم اجتماع الوجود والعدم في شيء واحد في زمان واحد ، والتزم بعضهم فيه القول بالحركة في زمن واحد ، وبعضهم عدل إلى القول بطيء المسافة ، وبعضهم إلى القول بالظفرة .
لكن الكل محال على ما يأتي ( إلا عند من عرف ما ذكرناه في قصته ) من أنه تحديد في زمان واحد محمقين مختلفين من غير انتقال ؛ فلذلك رآه مستقرّا غير مستقبل ، وإذا كان التجديد ( حاصلا لأجزاء العالم كله ما لآصف من الفضل في ذلك ) التحديد من حيث هو تحديد ، فإنه يحصل بدون قصده أبدا .

فلا فضل له ( إلا حصول التجديد في مجلس سليمان ) ، فإنه كان يقصده على خرق العادة بخرقها بالتحديد في المكان الأول إن كان ساكنا ، أو المكان المنتقل إليه إن كان متحركا إما مع السكون في مكانه الأول ، فلم يكن التحديد في مكان آخر عادة ، وإذا كان كذلك ، ( فما قطع مسافة العرش ) بعيدة في زمان واحد حتى يشكل بالحركة الممتدة في زمان واحد ، ( ولا زويت الأرض ) إلا لزوي دارها مع عرشها .

( ولا خرقها ) أي : حصلت له الظفرة التي يقول بها النظام ، لكنه إنما يقال ( لمن فهم ما ذكرناه ) من تحديده في زمان واحد في مكان آخر مع اجتماع الوجود والعدم عليه باعتبارين ، ومن استحالة بقية الاحتمالات بما ذكرنا .

ثم أشار إلى سر ظهوره ( على يدي بعض أصحابه ) مع أن ظهور الخوارق على يديه أولى ، فقال : ( وكان ذلك ) أي : حصول عرش بلقيس مستقرا عند سليمان في زمان عدمه عن مكانه ( على يدي بعض أصحاب سليمان ؛ ليكون أعظم ) وقعا ( لسليمان عليه السّلام في نفوس الحاضرين من بلقيس وأصحابها ) ، بأنه إذا كان لبعض أصحابه هذه الرتبة العظيمة في إظهار الخوارق ، فأين رتبته في ذلك ، فيتأكد بذلك أمر نبوته مع أنه يدل على أنه إنما حصل له بتركه متابعته لسليمان ، فلو تبعناه ربما حصل لنا مثل هذه الرتبة .

( وسبب ذلك ) أي : اختصاص سليمان لظهور مثل هذه الخوارق على يدي بعض أصحابه دون أكثر الأنبياء عليهم السّلام ( كون سليمان عليه السّلام هبة اللّه لداود ) ، فيكون كمالا لنبوته ، وثبوت النبوة بظهور الخوارق على يدي النبي ، فكمالها يكون بظهورها على يدي بعض أصحابه عن متابعته وتكميله إياه ( من قوله تعالى :وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) [ ص : 30 ] ، والهبة الإلهية للشخص لا بدّ وأن تفيده كمالا فوق الكمال المستحق له من ذاته أو من أعماله ، سيما إذا انتسبت إلى نون التعظيم ؛ وذلك لأن ( الهبة ) الإلهية ( إعطاء الواهب ) من أسمائه تعالى ( بطريق الإنعام ) الذي ليس في مقابلة شيء ولا أداء حق .
ولذلك قال : ( لا بطريق الجزاء الوفاق ) ؛ فإنه في مقابلة العمل ( والاستحقاق ) ، فإنه من أداء الحق إلى مستحقه ،.

"" إضافة المحقق : أي : الجزاء الموافق للأعمال وجزاء الاستحقاق بحسب العمل ، يعني أن وجود سليمان هبة اللّه لداود والفعل الذي حصل على يد بعض أصحابه في بلقيس ، سليمان هبة اللّه لسليمان لذلك لم يظهر على يدي نفسه ، إذا لو ظهر لتوهم أن ذلك مقابلة عمله لا بطريق الإنعام . ( شرح القاشاني ص 239 ) .""

فلا يسمى هبة ( فهو ) أي : هذا العطاء ( النعمة السابغة ) فوق الجزاء الوفاق وأداء قدر الاستحقاق ، فيكون أكمل النعم ، ولا أكمل فيها مما يكمل النبوة ، وتكميلها إما بتكميل علمها أو بتكميل المعجزات ؛ ولذلك يقول : هي الحكمة السالفة المكملة لعلم النبوة ، وفي نسخة : ( الحجة البالغة ) ، والمراد الأدلة العلمية المنتهية في الآية إلى المطالب ، ( والضربة الدامغة ) المكملة للمعجزات ، فإن ظهور الكرامات على يدي أصحاب النبي من الحجج المانعة للخصوم ؛ لتسكينهم تسكين الضربة الدامغة لا يقدرون على التحرك ، فالضربة الدامغة في حق سليمان عليه السّلام ما ذكرناه من ظهور هذه الكرامة من بعض أصحابه ، وأما الحكمة البالغة ؛ فقد أشار إليها بقوله : ( وأما علمه ) أي : المكمل لنبوته ، ) فقوله تعالى :”فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ”[ الأنبياء : 79 ] ( .


ففضل علمه على علم داود ( مع نقيض الحكم ) الذي هو متعلق علم داود ، والاعتقاد المتعلق بأحد النقيضين إذا كان علما كان الآخر جهلا غالبا ، فكان فضل هذا العلم على علم داود فضل العلم على الجهل ، إلا أنه ليس بجهل.
لأن معلومه وإن كان نقيض الحكم الصواب ، حكم مؤتى له من عند اللّه إذ كان يجب عليه العمل به ؛ لحصوله من العلم المؤتى له من اللّه تعالى بسبب اجتهاده بحيث يجب عليه أن يعتقده ويفتي به ؛ وذلك لأن ( كلا أتاه اللّه حكما وعلما ) بحيث أوجب على كل واحد منهما أن يعمل بما أوتي ويعتقد ويفتي به.

( فكان علم داود ) أي : اعتقاده مع تعلقه بنقيض الصواب ( علما مؤتى ) حصل له باجتهاده الخطأ ، لكن لم يؤته بالاجتهاد والنظر ، بل ( أتاه اللّه ) بإفاضة النتيجة بعد النظر والاجتهاد ، ولكنه أخطأ بمخالفة علم اللّه تعالى في المسألة .

( وعلم سليمان علم اللّه في المسألة ) بحيث ( إذا كان ) اللّه ( هو الحاكم بلا واسطة ) من حكام الخلق يحكم بحكم سليمان لا بحكم داود ، وإن أوجب عليه أن يعمل بما يراه من الخطأ ويعتقده ويفتي به وجعله علما مؤتى له ، ( فكان سليمان ترجمان حق ) بين علمه وحكمه ( في مقعد صدق ) ، أي : نائبا منابه في هذا الأمر دون داود ، وإن كان منصوصا عليه بالخلافة ، فكان مكملا خلافته ونبوته ، ولا يبعد أن تكون الاعتقادات المتعلقات بالنقيضين علمين ، فإن له نظيرا عندنا أشار إليه بقول : ( كما أن المجتهد المصيب لحكم اللّه ) .

ولما كان المخطئ أيضا حاكما بحكم اللّه ( الذي أوجب عليه العمل والفتوى ) به فسره بقوله : ( الذي يحكم اللّه به في المسألة أو لو تولاها ) أي : الحكومة ( بنفسه ، أو ) تولى التنصيص عليها ( بما يوحي به لرسوله له أجران ) مع إنما يعتقد الحكم المؤتي به من اللّه عن اجتهاده وعمله ، وأفتى به كالمخطئ إلا أن له مع أجر الاجتهاد المفيد له حكما وعلما أجر الإصابة لحكم اللّه ، ) والمخطئ لهذا الحكم ) المعين الذي تعينه في علم اللّه لو تولى الحكم بنفسه أو أوحى به إلى رسوله ، وإن كان مثل المصيب في الاجتهاد ، ووجود الفتوى والعمل به له أجر واحد هو أجر الاجتهاد فقط.

( مع كونه ) أي : كون خطئه في الاجتهاد ( علما ) يجب عليه اعتقاده والفتوى به ، ( وحكما ) يجب عليه العمل به ، فصح أن النقيضين حكمان إلهيان إذا صدرا عن الاجتهاد ، وإن الاعتقاد المتعلق بهما علم قطعي ، وإذا صح تشبيه سليمان وداود بمجتهدي هذه الأمة في الإصابة والخطأ .
( فأعطيت هذه الأمة المحمدية رتبة سليمان في الحكم ) إذا أصابوا ، ( ورتبة داود ) إذا أخطئوا ، ( فما أفضلها من أمة ) إذا كانوا في الخطأ على رتبة بعض الأنبياء الخلفاء ، بحيث يلحق خطؤهم بحكم اللّه في وجوب العمل والتسوي به في الجملة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولمّا رأت بلقيس عرشها مع علمها ببعد المسافة واستحالة انتقاله في تلك المدّة عندها "قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ" [ النمل : 42 ] وصدقت بما ذكرناه من تجديد الخلق بالأمثال ، وهو هو ، وصدق الأمر ، كما أنّك في زمان التّجديد عين ما أنت في الزّمن الماضي ، ثمّ إنّه كمال علم سليمان التّنبيه الّذي ذكره في الصّرح "قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ" [ النمل : 44 ] ، وكان صرحا أملس لا أمت فيه من زجاج ؛"فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً"[ النمل : 44 ] ، أي : ماء "وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها"[ النمل : 44 ] ، حتّى لا يصيب الماء ثوبها ، فنبّهها بذلك على أن عرشها الّذي رأته من هذا القبيل ، وهذا غاية الإنصاف ، فإنّه أعلمها بذلك إصابتها في قولها :"كَأَنَّهُ هُوَ"[ النمل : 42 ] ، فقالت عند ذلك :" قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ " أي : إسلام سليمان "لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ"[ النمل : 44 ] ، فما انقادت لسليمان ، وإنّما انقادت للّه ربّ العالمين ، وسليمان من العالمين ، فما تقيّدت في انقيادها كما لا تتقيّد الرّسل في اعتقادها في اللّه ، بخلاف فرعون فإنّه قال :"رَبِّ مُوسى وَهارُونَ" [ الأعراف : 122 ] ، وإن كان يلحق بهذا الانقياد البلقيسي من وجة ، لكن لا يقوى قوّته فكانت أفقه من فرعون في الانقياد للّه ) .

ثم أشار إلى ظهور هذا العلم في بلقيس عند إسلامها، وسببه مثل ظهور الخوارق في آصف ، وهو أتم لها من الخوارق إذ المقصود منها تقويته لا غير .
فقال : ( ولما رأت بلقيس عرشها ) عند سليمان ( مع علمها ببعد المسافة ) بين هذا المكان والمكان الأول ، ( واستحالة انتقاله في تلك المدة عندها ) ، وإن أمكن بتعدد الأزمنة في الجملة ، ولم تعلم انتفاءه ( قالت "كَأَنَّهُ هُوَ" [ النمل : 42 ].

أي : مثله ( وصدقت ) في أنه مثله ، وإن كان عينه في الواقع الأعراض أو الأركان لشبه المعاد بالمثل ، حتى أنه لا يتميز عنه عندنا ، وإن تميز في الواقع ( بتعدد الشخص في المثل ) دون المعاد ، ( وهو ) أي : المرئي عند سليمان ( هو ) عرش بلقيس الذي كان في مكانها.

ولذلك ( صدق الأمر ) في قوله : " أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" [ النمل : 38 ] ، فإنه أمر في صورة الخبر ؛ ليعتقد المأمور أن في امتثاله تصديقه ، وفي تركه تكذيبه فيبادر إلى الامتثال لإيثاره تصديقه وينفر عن تكذيبه ، وهذا الصدق باعتبار المعنى الحقيقي .

( كما أنك في زمان التجديد عين ما أنت في الزمان الماضي ) ؛ لاتحاد الشخص في صورة الاتحاد ، ولا بدّ من تعدده في المثل ، ( ثم إنه من كمال علم سليمان ) الذي به اطلاعه على أنه لو صدقها في هذا القول باعتبار المعنى المجازي ، واعترفت بذلك مع كونه قائلا بخلافها بالمعنى الحقيقي كان ذلك سبب كمالها في الإسلام بأن تعرف ميله إلى ترجيح الصدق بأي وجه أمكن.

وكذا اطلاعه على ( تنبيه ) صدقها في الاشتباه بالأمر المشتبه الآخر ، ( الذي ذكره ) بلسان الحال (في) وضع (الصرح) مشابها للماء تنبيها على أن الاشتباه فيه مثل الاشتباه في العرش .

( فقيل لها : ادخلي الصرح ) ، وسبب الاشتباه أنه ( كان صرحا أملس ) مستوية أجزاء سطحه غاية الاستواء ( لا أمت فيه ) أي : لا ارتفاع لبعض أجزائه على بعض وكان صاف ؛ لأنه ( من زجاج ) ، فاشتبه الماء الساكن عند عدم الريح وغيرها من تحركاته ،("فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً " [ النمل  :44] ).

 أي : ماء ،(" وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها "[ النمل : 44 ] ، حتى لا يصيب الماء ثوبها ) بحسب حسبانها ، فهو وإن قصد بذلك ظهور ما على ساقيها من الشعر الذي أخبرته به الجن ، لما قيل إنها كانت بنت جنية ، فتظهر أسرارهم إليه .
( فنبهها ) أيضا ( بذلك ) أي : بوضع الصرح على الهيئة المذكورة ؛ ليشتبه باللجة ( على أن عرشها الذي رأته ) ، وقالت فيه :" كَأَنَّهُ هُوَ" [ النمل : 42 ] .

( من هذا القبيل ) أي : اشتباه المعاد بالأمثال ، ( وهذا غاية الإنصاف ) من سليمان إذ صدقها على الوجه المجازي فيما يحكم بخلافه على الوجه الحقيقي ، ( فإنه أعلمها بذلك إصابتها في قولها كأنه هو ) في الجملة ، وإن خالفته في قوله :" أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها " [ النمل : 38 ] ، (فقالت عند ذلك ) من رؤية الإنصاف على خلاف ما يقوله ، مع ترجيح جانب ما قاله ؛ لكونه المعنى الحقيقي ترجيحا للصدق بأي وجه كان ،" رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي " [ النمل : 44 ] بتأخير الإيمان بمن له تلك المعجزات ، وهذا العلم الكامل ، وهذا الإنصاف بعد عبادتي للشمس من دونك .
( وأسلمت مع سليمان أي : إسلام سليمان ) بحيث أكون معه في إسلامه ( للّه رب العالمين ) لا لسليمان ، إذ الإسلام له باعتبار كونه مظهرا جامعا إلهيّا شبه عبادة الشمس ،
( فما انقادت لسليمان ) وإن آمنت بنبوته .
( وإنما انقادت ) في الإيمان بنبوته ( لرب العالمين ) ، فإنه الظاهر فيه بكماله الذي أفادته النبوة ( وسليمان من ) غير اعتبار هذا الظاهر فيه من ( العالمين ) ، فلا يجب الإيمان به إلا باعتبار هذا الظهور ، ومع ذلك ( فما تقيدت في انقيادها ) بالرب الظاهر فيه من حيث هو ربه ، ولا باعتبار ظهوره فقط ، بل أخذت في ذلك رتبة المعية .

فما تقيدت ( كما لا تتقيد ) الرسل الذين من جملتهم سليمان الذي هي معه ( في اعتقادها في اللّه ) بأربابهم المخصوصة ، ولا بظهوره فيهم أو في محل معين آخر .

( بخلاف فرعون ، فإنه ) تقيد في إيمانه برب بني إسرائيل ، إذ ( قال : ) آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، وإن كان الذي آمنت به بنو إسرائيل ( رب موسى وهارون ) ، فكأنه قال : آمنت برب موسى وهارون ، والظاهر فيهما المقيد لهما النبوة الرب الجامع ، وما تقيدا في الإيمان بالرب الخاص ، بل كان إيمانهما بالرب الجامع ، لكنه تقيد في الظاهر بالرب الخاص ببني إسرائيل .

ففارق ( الانقياد البلقيسي وإن كان يلحق بهذا ) أي : بكون إيمان بني إسرائيل الذي قيد فرعون إيمانه بربهم الذي آمنوا به الرب الجامع ؛ لكونه رب موسى وهارون من حيث أفادهما النبوة وآمنا به الانقياد البلقيسي لرب العالمين من وجه ، وهو كون الرب الجامع هو المقصود بالانقياد الفرعوني ، ( ولكن لا يقوى قوته ) ؛ لأنه إنما يصل إلى هذا المقصود بوسائط ومقدمات بخلاف بلقيس ؛ لوصولها إلى هذا المقصود بلا واسطة ، فكانت مع كونها امرأة من شأنها قلة التفقه ( أفقه من فرعون ) ، وإن كان مطلعا على دقائق كثيرة كما ستعرف في الفص الموسوي ( في الانقياد للّه ) أي : للاسم الجامع مع التصريح بجمعيته بقوله : " لرب العالمين " ، وفرعون إنما انقاد في الظاهر لرب بني إسرائيل .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان فرعون تحت حكم الوقت حيث قال :" إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ " [ يونس : 90 ] » فخصّص ، وإنّما خصص لما رأى السّحرة قالوا في إيمانهم باللّه :" رَبِّ مُوسى وَهارُونَ" [ الشعراء : 48 ] .
فكان إسلام بلقيس إسلام سليمان إذ قالت : " مَعَ سلَيْمانَ"  فتبعته ، فما يمرّ بشيء من العقائد إلّا مرّت به معتقدة ذلك ، كما نحن على الصّراط المستقيم الّذي الرّبّ تعالى عليه لكون نواصينا في يده ، ويستحيل مفارقتنا إيّاه ، فنحن معه بالتضمين وهو معنا بالتّصريح ، فإنّه قال :" وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ " [ الحديد : 4 ] ، ونحن معه بكونه آخذا بنواصينا ، فهو اللّه تعالى مع نفسه حيثما مشى بنا من صراطه ، فما أحد من العالم إلّا على صراط مستقيم وهو صراط الرّبّ تعالى ، وكذلك علمت بلقيس من سليمان؛ فقالت :"لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ " [ النمل : 44 ] وما خصّصت عالما من عالم).

ثم أشار إلى وجه تخصيص فرعون رب بني إسرائيل للإيمان به ؛ فقال : ( وكان فرعون تحت حكم الوقت ) أي : حكم الرب الذي له السلطنة في الوقت ، وهو الاسم الخاص ببني إسرائيل ، ( حيث قال :آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ )، فقيد إيمانه بالذي آمنت به بنو إسرائيل من أسماء اللّه تعالى لما رأى السلطنة له في إنجائهم من الغرق .
( فخصص ) هذا الرب ، وإن كانوا مطلقين لما كان إيمانهم برب موسى وهارون ، وهما لا يتقيدان في الإيمان باسم دون اسم لما في التخصيص من الكفر بالأسماء الباقية .

وهو في معنى الكفر باللّه بالكلية ، ولكنه ( إنما خصص لما ) توهم أن هذا التخصيص في معنى التعميم لما ( رأى السحرة قالوا في إيمانهم باللّه ) الجامع على قولهم :" آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ . ("رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ") [ الشعراء : 48 ، 47 ] ، وسمع من موسى وأصحابه فوزهم ، فظن أنه في معنى التعميم ، ولكنهم إنما أتوا به بعد التصريح بالتعميم وبالجملة ، فقد قصر إسلام فرعون عن إسلام بلقيس .

( فكان إسلام بلقيس إسلام سليمان ) في علو الرتبة ( إذ قالت مع سليمان ) ، وإن لم يكن لإيمانها هذه الرتبة بذاتها أمكن أن تكون له هذه الرتبة بالتبعية ، كعبد الوزير يمكنه أن يدخل بتبعية الوزير المواضع المخصوصة للسلطان ما لا يمكنه أن يدخلها لو انفرد ( فتبعته ) ، فما يمر سليمان ( بشيء من العقائد ) المفصلة ( إلا مرت به ) مجملة لكونها ( معتقدة ذلك ) أي : اعتقاد سليمان ، وإن لم يتفصل لها ذلك الاعتقاد ، فتحصل لها تلك الاعتقادات بالتضمين ، كما يحصل لسليمان بالتصريح ، فهذا الفرق بينهما مستمر كالفرق بيننا وبين ربنا في المرور على صراطه ، بل في كوننا معه .

كما أشار إليه بقوله : ( كما كنا نحن ) أي : جملة الناس ( على الصراط المستقيم الذي الرب تعالى عليه ) في أفعاله بنا ، فإنها مستقيمة له ؛ فهي مستقيمة لنا باعتبار تبعيتنا له ، وإن كانت غير مستقيمة لنا باعتبار ما يكتسب منها من الصفات الذميمة أو كانت قبيحة.
وإنما تبعناه ( لكون نواصينا في يده ) ، وإنما لم تكن هذه الجهة جهة الاكتساب لنا ؛ لأنها ضرورية لا اختيار لنا فيها ، والكسب إنما يتعلق بالاختيار ؛ وذلك لأنه ( يستحيل مفارقتنا إياه ) ، وإذا كانت استقامتنا في الأفعال القبيحة بتبعيته .

( فنحن معه ) على الصراط المستقيم لا قدرة لنا من دونه ، والقدرة المكتسبة غير مؤثرة في حصول الفعل نفسه بل في صفاته .
فلذلك صرح بكونه معنا ، ولم يصرح بكوننا معه ، فإنه قال في بيان كونه معناوَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ،فصرح وقال في بيان كوننا معه :" مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ " [ هود : 56 ] .

فلم يصرح بل أفهم ( بالتضمين ) أنه نحن معه بكونه آخذ بناصيتها ، وإذا صح أن كوننا بالتضمين لتبعيتنا إياه ، فلا يكون الحق تابعا لنا في اكتسابنا ؛ فهو تعالى مع نفسه حيث ما مشى بنا في أفعالنا من صراط مستقيم أو غير مستقيم بالنسبة إلينا ؛ فإنه مستقيم بالنسبة إليه لا يلحقه بتبعيتنا إياه القبائح التي تلحقنا .

وإذا كان له المشي على جميع صراطنا ، وهو على صراط مستقيم دائما ، فما بقي أحد من العالم إلا على صراط مستقيم ، وإن لم يستقم بوجه آخر عقلا أو عرفا أو شرعا ؛ فإن الوجود خير كله ، وإنما جهة الشرفية نسبة عدم الغير أو عدم كماله إليه ، ولكن جهة الخيرية مخصوصة بمفيض الوجود .
ولذلك يقول : هو من جهة الاستقامة ، إنما هو صراط الرب تبارك وتعالى لا صراطنا ، إذ ليس منا إفاضة الوجود الذي هو الخير ، بل إنما يكون منا إفادة الصفات بمظاهرنا ، وهي منشئة الاكتساب الذي يقسم الصراط إلى المستقيم وغيره .
ويقسم الأفعال إلى الحسن والقبيح ، وكما علمنا هذه الدقائق كذا علمت بلقيس من سليمان أنه مع اللّه على جميع صراطه على ما هو ربه عليه من جهة الاستقامة .

حيث ثابت له فقالت للّه رب العالمين ، فتجمع صراط العالم في الوصول إلى ربها وما خصصت عالما من عالم ليحصل لها الوصول إلى ربها من جميع الوجوه من غير قصد أن تكتسب شيئا من الاكتسابات القبيحة أو الحسنة حتى يحتاج إلى تمييز بعضها عن بعض ، بل قصدت جهة الجذب الذي أقله يوازي عمل الثقلين ، فهذا من سريان علمه إليها كسريان الكرامة إلى آصف ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا التّسخير الّذي اختصّ به سليمان ، وفضّل به على غيره وجعله اللّه له من الملك الّذي لا ينبغي لأحد من بعده ؛ فهو كونه عن أمره ، فقال : " فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ " [ ص : 36 ] ، فما هو من كونه تسخيرا ، فإنّ اللّه يقول في حقّنا كلّنا من غير تخصيص :" وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ " [ الجاثية : 13 ] .
وقد ذكر تسخير الرّياح والنّجوم وغير ذلك ، ولكن لا عن أمرنا بل عن أمر اللّه ، فما اختصّ سليمان إن عقلت إلّا بالأمر من غير جمعيّة ولا همّة .
بل بمجرّد الأمر ، وإنّما قلنا ذلك لأنا نعرف أنّ أجرام العالم تنفعل لهمم النّفوس إذا أقيمت في مقام الجمعيّة ، وقد عاينّا ذلك في هذا الطّريق ، فكان من سليمان مجرّد التّلفّظ بالأمر لمن أراد تسخيره من غير همّة ولا جمعيّة ).

ثم أشار رحمه اللّه: إلى أثر الرحمتين سيما الرحمة في حق سليمان عليه السّلام بقوله : ( وأما التسخير ) أي : تسخير الريح والماء والشياطين والطيور والدواب ( الذي اختص به سليمان ) من بين أفراد الإنسان ، ولم يكن ذلك كتسخير أرباب العزائم لبعضها ، بل فضل به غيره من الأنبياء الأولياء .
وذلك لأنه جعل اللّه له من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، إما لعدم بلوغه إلى كماله أو لعدم ظهوره بذلك ؛ فهو كونه حاصلا له عن مجرد أمره بلا همة ولا عزيمة بخلاف من بعده من الأولياء وأهل العزائم ، بل من أمر اللّه تعالى وحده .

فقال :" فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ " [ ص : 36 ] ، يدل على أن اختصاصه به من حيث كونه من أمره ؛ لأنه تعالى قيده بذلك ، فما هو أي : اختصاص التسخيرية من كونه تسخيرا أعم من أن يكون بأمره أو بالهمة أو العزيمة أو بأمر اللّه .

وإن قيل : إنه لم يدل على نفي اختصاصه بالوجه العام به ، فلابدّ من نفيه لدلالة نص آخر عليه ، فإن اللّه تعالى يقول في حقّنا كلنا من غير تخصيص بالكمّل منا أو بأهل العزائم حتى يقال : إنه اختصاص إضافي ، أي : بالإضافة إلى العامة غير أهل العزائم .
"وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ " [ الجاثية : 13 ] ، أي : من أمره ، وقد ذكر في مواضع أخر من كتابه تسخير الرياح حيث قال :"وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ " [ إبراهيم : 32 ] ، وقال :" وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ "[ البقرة :164 ] ،
ولا شكّ أن تسخيرهما تسخير الرياح والنجوم .

حيث قال : " وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ " [ الأعراف: 54 ] ، وقال :" وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ " [ إبراهيم : 33 ] ، وغير ذلك حيث قال :" أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ " [ النحل : 79 ] .
وقال في الدواب : " الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ " [ الزخرف : 13 ] ، وقال كذلك : " سَخَّرْناها لَكُمْ " [ الحج : 36 ] .

.

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الرابع .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:17 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الرابع .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي 

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
 الفص السليماني
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الرابع
وقد ذكرنا تسخير العفريت لنبيّنا عليه السّلام ، ولكن لا عن أمرنا بل عن أمر اللّه بلا واسطة ، فلم نقر بفضيلة ظهوره فينا بالأمرية في هذه الأمور ، وإن كان لنا فضيلة كوننا مسخرا لهم ، وفاز بها سليمان فما اختص سليمان بشيء لأمثلة التسخير .
إن نقلت ولم تقتصر على ما اشتهر إلا بالأمر ، أي : إلا بكون التسخير عن أمرية لا باعتبار كونه أمر أعم من أن يكون بجمعية وهمة ، أو دونهما بل من غير جمعية ولا همة ، فإنهما وإن اختصا بمن له نوع كمال بالنسبة إذ يرجع بالجمعية إلى اللّه ، وبالهمة إلى قدرته وإرادته ، فليس ذلك أخص خصوصية إلى من لا يحتاج إليهما بل يكون له التسخير بمجرد الأمثلة ؛ لكمال تشبهه باللّه تعالى إذ يصدر منه كل شيء بمجرد أمره من غير جمعية ولا همة .
 
وإنما قلنا ذلك أي :اختصاصه بكون التسخير من مجرد أمره ، وإن لم يدل عليه النقل ؛ لأنّا نعرف أن أجرام العالم كالرياح ، والمياه ، والشياطين ، والدواب ، والطيور ، وقيد بها ؛ لأن الأرواح لا يتأثر بعضها عن بعض إلا باعتبار أجرامها تنفعل .

أي : تقبل الأثر لهمم النفوس إذا قمت في مقام الجمعية ، أي : بقيت فيها مدة لا تشتغل بغير ما يهمها ، فيتم عشقها معها الموجب لتأثيرها .
وقد عاينا ذلك في أهل هذا الطريق إذ تيسر لهم هذه الجمعية دون غيرهم ؛ لتفرق هممهم لتعلقها بالأمور المتفرقة ، فلا يتم تأثير همتها فيها لاشتغالها بغيرها ، فلا يجتمع في ذلك الموضع اجتماع قوي المثل الموجب لقوته ، لكنه قصور في التشبيه باللّه الذي لا يشغله شأن عن شأن ، فكان التسخير من سليمان بمجرد التلفظ بالأمر .
كمعنى قول : كن القائم بذات الحق لمن أراد تسخيره من غير همة ولا جمعية ؛ لأنه لا يشغله شأن عن شأن ؛ لظهور الحق باسميه الرحمن الرحيم فيه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم أيّدنا اللّه ، وإيّاك بروح منه أن مثل هذا العطاء إذا حصل للعبد أيّ عبد كان ؛ فإنّه لا ينقصه ذلك من ملك آخرته ، ولا يحسب عليه ، مع كون سليمان عليه السّلام طلبه من ربّه تعالى ، فيقتضي ذوق الطّريق أن يكون قد عجّل له ما ادّخر لغيره ، ويحاسب به إذا أراده في الآخرة ، فقال اللّه له :"هذا عَطاؤُنا"[ ص : 39 ].
ولم يقل لك : ولا لغيرك "فَامْنُنْ" [ ص  : 39] ، أي : أعط ،"أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ "[ ص : 39 ] ، فعلمنا من ذوق الطّريق أنّ سؤاله ذلك كان عن أمر ربّه ، والطّلب إذا وقع عن الأمر الإلهي كان الطّالب له الأجر التّامّ على طلبه ، والباري تعالى إن شاء قضى حاجته فيما طلب منه ، وإن شاء أمسك ، فإنّ العبد قد وفّى ما أوجب اللّه عليه من امتثال أمره فيما سأل ربّه فيه ؛ فلو سأل ذلك من نفسه عن غير أمر ربّه له بذلك لحاسبه به )

ثم استشعر سؤالا بأنه كيف يكون هذا التسخير أثر الاسمين المذكورين مع أنه مضر في الآخرة تنقص منزلته بما أوتي في الدنيا ؛ لقوله تعالى :"أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا"[ الأحقاف : 20 ] ، ويحاسب به عليه .

فرفع ذلك بقوله : ( واعلم أيدنا اللّه وإياك بروح منه ) فيه إشارة إلى أن من غلبت روحانيته لا تضر الأمور الدنيوية في آخرته أن مثل هذا العطاء ، وإن كان من شأنه الحساب ، ونقص الدرجة في الآخرة في حق القاصرين ، فهو من حيث هو عطاء إذا حصل للعبد ، أي : عبد كان ، أي :  نبيّا كسليمان أو غيره ، فإنه لا ينقصه ذلك من ملك آخرته ، ولا يحسب عليه في جزائه حتى ينقص من جزائه بقدره ما لم يكن ذلك عن هواه ، فلا ينقص في حق سليمان ، ولا هو يحاسب عليه مع كون سليمان طلبه من ربه بقوله :"وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي "[ ص : 35 ] .

ويوهم هذا الطلب كونه عن هواه فيقتضي ذوق الطريق ، وفي نسخة : " ذوق التحقيق " بناء على هذا الوهم أن يكون سليمان قد عجل له في الدنيا سؤاله ما ادخر لغيره في الآخرة ، وهو يوجب نقص ذلك من آخرته إذ يحاسب به في جزائه إذا أراده في الآخرة ، فلا يقرر في شأنه هذا الوهم ، وهو ينافي كون ملكه أثر هذين الاسمين .
أي : الرحمن الرحيم ، فرفع اللّه عزّ وجل هذا الوهم في حقّه ، فقال اللّه له :هذا عَطاؤُنابنسبة العطاء إلى حضرة التعظيم ، وهي حضرة الاسم الجامع للأسماء المعطية ، وهو الرحمن ، ولم يقل ما ينافي جمعيته لك ولا لغيرك ، ثم قال :فَامْنُنْأي : أعط أو امسك إشارة إلى جمعية نيابته عن اللّه في العطاء والمنع .
"" المحقق :  فما نسب إلى العبد إلا الإعطاء أو الإمساك بما لا يحاسب عليه . ""

ثم صرّح بإزالة الوهم ، فقال :بِغَيْرِ حِسابٍ ،فدل على أنه لا يحاسب به في الآخرة ، ولا ينقص ذلك من ملك آخرته ، وذوق الطريق ماء يقتضي ذلك إذا كان حصوله من الشيء الذي منشأه هوى السائل لا ما يكون منشأه أمر ربه ، فعلمنا من ذوق الطريق ، وإن لم نجد عليه نصّا من الكتاب والسنة أن سؤاله صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك كان عن أمر ربه .
وذلك لأن الطلب إذا وقع لا عن هوى الطالب ، بل عن الأمر الإلهي كان الطالب له الأجر التام في الآخرة من غير أن ينقص حصول مطلوبه في الدنيا شيئا منه في الآخرة على طلبه ، لما فيه من امتثال ربه المقيد لوجوبه أو ندبيته ، ولا هو يجوز أن يكون أجره ما يحصل له من مطلوبه في الدنيا إذ البارئ تعالى إن شاء قضى حاجته فيما طلب منه ، وإن شاء أمسك ، والأجر ليس موكولا إلى المشيئة بل محروم الحصول.

وإذا لم يكن هذا المعجل أجره على امتثال أمر ربه في سؤاله كان أجره مدخرا في الآخرة ، فيحصل له بتمامه هناك ، فإن العبد قد وفي ما أوجب اللّه عليه من امتثال أمر ربه فيما سأل ، وإن وافق هواه ، لكن لم يكن منشأ سؤاله ذلك بل أمر ربه ، فهذه التوفية من العبد في امتثال الأمر توجب التوفية من الرب في إعطاء الأجر التام في الآخرة والحساب ، والنقص بمقداره في الآخرة ينافي هذه التوفية منه تعالى .
بل لو كان السؤال عن أمر ربه مع هواه جميعا لم يحاسب به ، ولم ينقص في حقه ، كما يشير إليه قوله : « فلو سأل ذلك من هوى نفسه من غير أمر ربه له بذلك لم يحاسبه به » .
""المحقق : في نسخة « فلو سأل ذلك من نفسه عن غير أمر ربّه له بذلك لحاسبه به "".
 فنقصه في آخرته كما قال في حقّ أهل الهوى :" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا" [ الأحقاف : 20 ] .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا سار في جميع ما يسأل فيه اللّه كما قال لنبيّه محمّد صلى اللّه عليه وسلّم :"وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً "[ طه : 114 ] فامتثل أمر ربّه فكان يطلب الزّيادة من العلم حتّى كان إذا سيق له لبن يتأوّله بالعلم كما تأوّل رؤياه لمّا رأى في النّوم أنّه أتي إليه بقدح لبن فشربه وأعطى فضله عمر بن الخطّاب ، " قالوا : فما أوّلته ؟ قال : العلم ، وكذلك لمّا أسري به أتاه الملك بإناء فيه لبن وإناء فيه خمر فشرب اللّبن ، فقال له الملك : أصبت الفطرة أصاب اللّه بك أمّتك" « رواه مسلم وابن خزيمة » ، فاللّبن متى ظهر فهو صورة العلم ، فهو العلم تمثّل في صورة اللّبن كجبريل تمثّل في صورة بشر سويّ لمريم ) .

( وهذا ) أي : عدم محاسبة الحق فيما حصل بالسؤال عن الأمر الإلهي ( سار ) ، أي : عام ( في جميع ما يسأل اللّه فيه ) سواء كان المسؤول فيه عين ما أمر به الحق أو مناسب له نوع مناسبة ؛ لأنه امتثال الأمر من كل وجه بخلاف الاقتصار على الامتثال في عين ما أمر به دون ما يناسبه مع أنه في معناه ، فإنه امتثال من وجه دون وجه ، ( كما قال لنفسه صلّى اللّه عليه وسلّم « 2 » :" وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً"[ طه : 114 ] ) .
"" المحقق : في نسخة : « لنبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم . ""

( فامتثل أمر ربه ) بطلب عين المأمور وما يناسبه ؛ ( ولذلك كان  يطلب الزيادة من العلم ) في الصور المتعارفة له أي : المسائل العلمية ، وفي صورة اللبن.
""المحقق : في نسخة : فكان" ""

 ( حتى كان إذا سيق له لبن ) في يقظته ( يتأوّله ) علما ؛ ليكون بهذا التأويل طالبا لحصوله له ، فإن تأويل الرؤيا سبب حصول تأويله ، وتركه سبب ضياعه ، وتأويل الصور الحسية في معنى ذلك عند الكمّل ، فكان عليه السّلام يتناول اللبن المسوق إليه ( بالعلم ) ، ( كما تأوّل رؤياه ) بالعلم ، ( فلما رأى في النوم أنه أتي بقدح لبن ، فشربه وأعطى فضله عمر بن الخطاب ، قالوا : « فما أولته » قال : العلم ) .

وذلك لأن العلم قوام الروح في النهاية ، كما أن اللبن قوام البدن في البداية والنهاية هي الرجوع إلى البداية ، فالنهاية في العلم ظهور جميع ما في الروح بالقوة في فطرته إلى الفعل .

ثم أشار إلى دليل عدم اختصاصه بالمنام بقوله : ( وكذلك لما أسري به أتاه الملك ) ، أي : جبريل ، وفي لفظ « الملك » إشارة إلى أن لكلّ صورة معنى في عالم الملكوت هو تأويلها ( بإناء فيه لبن ) تأويله العلم الكامل الفطري ، ( وإناء فيه خمر ) تأويله الحيرة والسكر ، ( فشرب اللبن ) ؛ ليكمل علمه الفطري ، ( فقال له الملك : « أصبت الفطرة » ) التي كان عليها الروح عند تجردها عن البدن ، وهو سبب كمال علمها  ( « أصاب اللّه بك أمتك » ) .

أي : جعلها اللّه مصيبة للفطرة بسبب شربك اللبن لسراية ما فيك إليهم بالمناسبة التي بينك وبينهم ؛ ( فاللبن متى ظهر ) في عالم الملكوت أو الملك في يقظة أو منام ( فهو صورة العلم ) ، فمن رأى لبنا ( فهو العلم ) من جملة عالم المعاني "تمثل في صورة اللبن" حسية أو خيالية ، (كجبريل ) من جملة عالم الأرواح ( تمثل في صورة بشر سوي ) خيالية ظهر بها لمريم ، فالصور الحسية كالخيالية .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولمّا قال عليه السّلام : " النّاس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ". رواه البيهقي.
نبّه على أنّه كلّ ما يراه الإنسان في حياته الدّنيا إنّما هو بمنزلة الرّؤيا للنّائم خيال فلابدّ من تأويله إنّما الكون خيال  ... وهو حقّ في الحقيقة
والّذي يفهم هذا     ... حاز أسرار الطّريقة
فكان صلّى اللّه عليه وسلّم إذا قدّم له لبن قال : « اللّهمّ بارك لنا فيه وزدنا منه » . رواه الهيثمي.
لأنّه كان يراه صورة العلم ، وقد أمر بطلب الزّيادة من العلم ؛ وإذا قدّم له غير اللّبن قال : « اللّهمّ بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه » . رواه النسائي
 ؛ فمن أعطاه اللّه ما أعطاه بسؤال عن أمر إلهي فإنّ اللّه لا يحاسبه به في الدّار الآخرة ، ومن أعطاه اللّه ما أعطاه بسؤال عن غير أمر إلهيّ فالأمر فيه إلى اللّه ، إن شاء حاسبه به ، وإن شاء لم يحاسبه .
وأرجو من اللّه في العلم خاصّة أنّه لا يحاسبه به ، فإنّ أمره لنبيّه بطلب الزّيادة من العلم عين أمره لأمّته ، فإنّ اللّه يقول :لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[ الأحزاب : 21 ] ، وأيّ أسوة أعظم من هذا التّأسّي لمن عقل عن اللّه تعالى ، ولو نبّهنا على المقام السّليمانيّ على تمامه لرأيت أمرا يهولك الاطلاع عليه ، فإنّ أكثر علماء هذه الطّريقة جهلوا حالة سليمان عليه السّلام ومكانته وليس الأمر كما زعموا ) .


وإليه الإشارة بقوله : ( ولما قال عليه السّلام : « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا به » ، نبّه على أنه كل ما يراه الإنسان في حياته الدنيا ) سواء كان في اليقظة أو المنام ، وأوّله فحقق تأويله بعد اليقظة ، ( إنما هو بمنزلة الرؤيا للنائم ) حتى أن تأويله الواقع في الدنيا من قبيل ما يرى في المنام ؛ لأنه ( خياله ) ، وإن عدّ من المحسوسات الظاهرة ، ( فلابدّ من تأويله ) حتى أن تأويله يحتاج إلى تأويل آخر في الآخرة ، وكيف لا.

وقد قالوا : ( إنما الكون ) أي : الوجود الحادث ( خيال ) ؛ لأنه صورة الوجود الحقيقي الظاهرة في مرايا الخلائق ، ( وهو ) أي : الكون باعتبار تحققه ( حق في الحقيقة ) ، إذ لا تحقق له في نفسه ، وإنما هو من جهة إشراق نور ربه عليه ، ( بل من يفهم هذا حاز أسرار الطريقة ) أي : معانيها الدقيقة كالفناء ، والبقاء ، والجمع ، والفرق ، وعلم كيفية السير في المقامات ، وإذا كانت جميع الموجودات صورا خيالية راجعة إلى الحق ، فأي عجب في رجوع بعض الصور إلى بعض المعاني التي في الحق مما ظهر بها في هذه الموجودات إذا عرفت هذا ، فقد ظهر الحق بصفة القيومية في اللبن ، فصار قوام الأبدان وقيوميته للأرواح بالعلم ، فلما كان اللبن مظهر القيومية وأصلها في الأرواح كان صورة العلم .

( فكان صلّى اللّه عليه وسلّم إذا قدم له لبن ) في اليقظة ( قال : « اللهم بارك لنا فيه ) أي : أعطنا ما هو بركته ، وهو كونه مظهرا لقيوميتك ، فنصير مقومين للأشباح والأرواح جميعا " .

ثم قال : « ( وزدنا منه ) أي : من هذا اللبن الذي من جهة العلم ؛ ( لأنه كان يراه صورة العلم ، ومرجع الصورة إلى ما هي صورته ، ( وقد أمر بطلب الزيادة من العلم ) » ، وكان طلبها بقوله : « وزدنا منه » ، وإلا فطلبه الزيادة من اللبن من حيث هو لبن قليل الجدوى لا يليق به صلّى اللّه عليه وسلّم ، ( وإذا قدم له غير اللبن ) مما لا يناسب العلم بوجه من الوجوه .


( قال ) : « ( اللهم بارك لنا فيه ) بظهور ما فيه من أسمائك ليتحقق بها ( وأطعمنا خيرا منه ) » ؛ ليطلع على ما فوق تلك الأسماء ، فإن العلم فوق الإرادة وهي فوق القدرة ، فاللبن وإن لم يكن عين ما أمر به عليه السّلام بطلبه ، لم ير الحساب على طلب المزيد منه ؛ لأنه كان مناسبا لما أمر بطلب الزيادة منه ، فكيف يحاسب في طلب ما أمر به بعينه .

( فمن أعطاه اللّه ) كنبينا وسليمان عليه السّلام ( ما أعطاه بسؤال عن أمر إلهي ) سواء كان في عين ما أمر به أو فيما يناسبه ، ( فإن اللّه لا يحاسبه به في الدار الآخرة ) ، وإن عجل له ذلك في الدنيا ووافق هواه ، أو لم يكن سؤاله عن محض الهوى بل عن أمر اللّه وحده ، أو صح هواه ، (ومن أعطاه اللّه ما أعطاه بسؤال ) ( من غير أمر إلهي ) لا فيه ، ولا في مناسبته ، فإنه واف بذلك في سؤاله للحق وتحقق بعبوديته فيه.

( فالأمر فيه إلى اللّه ) ( إن شاء حاسبه به ) ؛ لأنه وسط الحق في طلب غيره ، ( وإن شاء لم يحاسبه ) ؛ نظرا إلى أنه امتثل في الجملة قوله :ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[ غافر : 60 ] .
( وأرجو من اللّه في العلم خاصة ) إذا طلبه أحدنا من غير أمر خاص في حقه ( أنه لا يحاسب به ) ، ( فإن أمره لنبيه عليه السّلام ) بطلب الزيادة من العلم عين ( أمره لأمته ) ، وإن لم يكن مفهوم ذلك الأمر لكن يفهم ذلك من أمرهم باقتدائه ، فإن اللّه يقول :" لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ "[ الأحزاب : 21 ] ، إذ هو أمر في صورة الخبر .


( وأي أسوة أعظم من هذا التأسي ) ؛ فإنه تأسي في الأمر الذي تتعلق به جميع العبادات التي أمروا بالاقتداء فيها ، ولكن إنما يقال هذا ( لمن عقل عن اللّه تعالى ) ، إذ ربما يقول غيره طلب العلم من قبيل توسيط الحق ، وليس كذلك فإن المقصود منه معرفة الحق بما يمكن معرفته به من المعاني الظاهرة له في الخلائق ، وهذا تنبيه على بعض ما اختص به سليمان عليه السّلام .

( ولو نبّهنا على المقام السليماني على تمامه ، لرأيت أمرا يهولك الاطلاع عليه ) لغاية ذمته ، حتى خفي على أكبر علماء هذه الطريقة ، ( فإن أكثر علماء هذه الطريقة جهلوا حالة سليمان عليه السّلام ومكانته ) ، فزعموا أنه كان كأكبر الملوك .
( وليس الأمر كما زعموا ) إذ كان ملكه من مكملات الأمور الأخروية من غير أن يفوته فيها شيء شبيه .
ولما فرغ من الحكمة الرحمانية التي فيها إفاضة الوجود العام والصفات العامة ، شرع في الحكمة الوجودية التي منها فيض كمالاته من النبوة والولاية والجلاء ، وسائر الهيئات الخاصة ؛
فقال : عن فص الحكمة الوجودية في الكلمة الداودية

.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:14 am

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي 
الجزء الأول
الفص الداودي
17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بالكمالات الوجودية المذكورة ، التي لأجلها كان كل الوجود ظهر بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى داود عليه السّلام ؛ لجمعه بين كمال النبوة بما أوتي من الحكمة ، وفصل الخطاب ، وكمال الولاية بما أوتي من تأويب الجبال والطير معه في التسبيح ، وكمال الخلافة بالتنصيص الإلهي عليها دون خلافة آدم وسائر الخلفاء من ذريته ، وكمال الهيئات الخاصة كسليمان عليه السّلام .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أنّه كانت النّبوّة والرّسالة اختصاصا إلهيّا ليس فيها شيء من الاكتساب أعني نبوّة التّشريع ، كانت عطاياه تعالى لهم عليهم السّلام من هذا القبيل مواهب ليست جزاء ، ولا يطلب عليها جزاء ؛ فإعطاؤه إيّاهم على طريق الإنعام والإفضال ، فقال تعالى :وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ[ الأنعام : 84 ] يعني لإبراهيم الخليل عليه السّلام ، وقال في أيّوب عليه السّلام :وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ[ ص : 43 ] ؛ وقال في حقّ موسى عليه السّلام :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا[ مريم : 53 ] إلى مثل ذلك ؛ فالّذي تولّاهم أوّلا هو الّذي تولّاهم آخرا في عموم أحوالهم أو أكثرها ، وليس إلّا اسمه الوهّاب ) .
 
فأشار أولا إلى أن هذه الأمور بلغت أولا من الكمال بحيث لا يقابلها شيء ، فلا يقع جزاء على شيء ، ولا يطلب صاحبها بعمل أو شكر ، فقال : ( اعلم أنه لما كانت النبوة والرسالة اختصاصا إلهيّا ) لعبده ابتداء بتكميله بطريق الجذب ( ليس فيها شيء من الاكتساب ) ، وإلا كان الكسب علته ، وهي أعلى من المعلول ، فلا يكون هذا من الكمالات المطلقة التي هي المقصودة بالذات .
ثم فسّر النبوة بقوله : ( أعني نبوة التشريع ) ؛ ليشير إلى أنها وإن كانت أدنى من ولاية النبي ونبوته العالية ؛ فهي لا تكون إلا لمن يكون جامعا للولاية والنبوة العالية ، فهي نهاية الكمالات باعتبار انضمامها معهما ، وهذا لازم لها ، فكأنها أكمل الأشياء بالذات ( كانت عطاياه تعالى لهم عليه السّلام من هذا القبيل ) أي : الاختصاص الإلهي ليست في مقابلة شيء سابق أو لا حق ، فكانت ( مواهب ليست جزاء ) على ما سبق منهم ، وإلا لاستحقه من سبق له مثله ، فيلزم أن يساويهم آحاد أممهم في ذلك ، ( ولا يطلب عليها جزاء ) من عمل أو شكر ؛ لأنه إن طلب ما لا يكافئها ، فلا يليق بالحكم الجواد ذلك ، وإن طلب المكافئ عجزوا في جميع وجوهها بخلاف ( إعطائه ) في حسنات غيرهم عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فصاعدا ،
 
فإن في ذلك وجه مقابلة العمل في الجملة ؛ ولذلك لم يكن هذا ( كإنعامه ) على سائر العمال في التضعيف بل بطريق ( الإفضال ) لهم على غيرهم من كل وجه .
واستدل على هذا بالاستقرار لما ورد في عطاياهم إذ نسب جميعها إلى اسمه الوهاب الذي لا يكون عطاؤه في مقابلة شيء أصلا بقوله : فقال :وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ[ الأنعام : 84 ] ، ولما توهم عود الضمير إلى داود لسوقه نص الكلام في حقه فسره بقوله :
( يعني لإبراهيم الخليل ) ، ( وقال في حق أيوب :وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) [ ص : 43] ،
(  وقال في حق موسى عليه السّلام :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا[ مريم : 53 ] إلى مثل ذلك ، كقوله :وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ[ ص : 30 ] ،
وإذا كانت عطاياهم كنبوتهم في امتناع دخول الكسب فيهما ، ( فالذي تولاهم ) من أسماء اللّه تعالى ( أولا ) بإعطاء النبوة ( تولاهم آخرا ) بإعطاء المواهب ( في عموم أحوالهم أو أكثرها ) تردد لجواز أن يكون لهم أعمال يجزون عليها بمقدار ما يجزى به الكل في أممهم في التضعيف لا أزيد منه ، ( وليس ذلك ) المتولي ( إلا الاسم الوهاب ) ، وإن اقتضى كل عطاء اسما خاصّا ، وأيضا وإن كان لكل نبيّ اسم كلي إلهي خاص لا يكون لغيره إلا أنها في الهبة راجعة إلى هذا الاسم ، لكن إنما يعلو عطاؤه بمساعدة تلك الأسماء ، وإلا نقص بقدر عدم مساعدتها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقال في حقّ داود عليه السّلام :وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا[ سبأ : 10 ] فلم يقرن به جزاء يطلبه منه ، ولا أخبر أنّه أعطاه هذا الّذي ذكره جزاء ، ولمّا طلب الشّكر على ذلك العمل طلبه من آل داود ، ولم يتعرّض لذكر داود ليشكره الآل على ما أنعم به على داود ، فهو في حقّ داود عطاء نعمة وإفضال ، وفي حقّ آله على غير ذلك لطلب المعاوضة ؛ فقال تعالى :اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ[ سبأ : 13 ] .
وإن كانت الأنبياء عليهم السّلام قد شكروا للّه على ما أنعم به عليهم ووهبهم ، فلم يكن ذلك على طلب من اللّه ، بل تبرّعوا بذلك من نفوسهم كما قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى تورّمت قدماه شكرا لما غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ؛ فلمّا قيل له في ذلك قال : « أفلا أكون عبدا شكورا » ؟ رواه البخاري ومسلم  
وقال في نوح :إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً[ الإسراء : 3 ] ، والشّكور من عباد اللّه تعالى قليل ، فأوّل نعمة أنعم اللّه بها على داود عليه السّلام أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتّصال ، فقطعه عن العالم بذلك إخبارا لنا عنه بمجرّد هذا الاسم ، وهي الدّال والألف والواو ) .
 
ثم رجع إلى المقصود من تمهيد هذه المقدمة مع الاستدلال على أن فعل الوهاب لا يقتضي من الموهوب له شيئا في مقابلة ما وهبه بقوله : ( وقال في حق داود :وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا )[ سبأ : 10 ] ، ( فلم يقرن به جزاء ) من عمل أو شكر ( يطلبه منه ) في المستقبل ، إذ لم يقل أن اشكر للّه أو اعمل له ، ( ولا أخبر أنه إعطاء هذا الذي ذكره من الفضل جزاء ) على ما مضى منه إذ لم يقل جزاء على كذا ، بل صرّح بأنه اختصاص منه ، إذ قال : منا .
 
( ولما طلب الشكر على ذلك بالعمل طلبه من آل داود ) ، كالدية على العاقلة تدفع عن الجاني ؛ لكونه أخطأ مع أن تضييع الدم صعب ، فألزم من يأخذ منه الإرث أن يتحمل عنه الدية إذ الغرم بالغنم ، ( ولم يتعرض لداود ) ، فلم يقل له : وقل لا لك أن اشْكُرُوا لِلَّهِ[ البقرة : 172 ] ، وإن كان هذا الأمر ؛ ( ليشكره الآل على ما أنعم به على داود ) من حيث إنه واسطة كمالاتهم وسببها ، وبه مباهاتهم بين أقرانهم ؛ لأن امتثال هذا الأمر نوع شكر على ما أنعم به عليه ، وهو إشارة إلى أنه يعرض له عليه السّلام أن يأمر آله بالشكر على ما أنعم عليهم خاصة .
( فهو ) أي : الفضل المعطى لداود ( في حق داود عليه السّلام عطاء نعمة ) انتفع بها في الدنيا والآخرة ، ( وإفضال ) فضل بها أكثر الأنبياء - عليهم السّلام - لم يطلب عليه الشكر منه ، ولا أمره بطلبه من آله ، ( وفي حق آله ) ، وإن لم يكن نعمة عليهم وفضلا بالذات ، بل بواسطة كونه سببا لما أنعم به عليهم ( على غير ذلك ) الوجه ،
أي : وجه الإنعام والإفضال ؛ ( لطلب المعاوضة ) وهي الشكر منهم على ما هو سبب الإنعام عليهم ، فقال تعالى مخاطبا للآل ابتداء :اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً[ سبأ : 13 ] أي : على ما أنعمت به على داود ؛ لارتباط ما أنعمت به عليكم بإنعامي عليه ، فهو في حكم إنعامي عليكم .
 
ثم عظّم أمر هذا الشكر حتى أشار عزّ وجل إلى أنه عجز الأكبر منهم عن شكر هذا الإنعام على داود من حيث كونه سبب الإنعام عليهم فضلا عن المنعم عليه ، فقال :وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ[ سبأ : 13 ] ؛ لقلة من يعرف مقدارها ، ومقدار ما وصل إليه منها مما يوجب قربه من ربه ، والتنعم بجواره من دار خلده ( مع أن من عرف مقدارها لم يطالبوا بشكرها ) ، وهم الأنبياء - عليهم السّلام ، ( وإن كانت الأنبياء - عليهم السّلام - قد شكروا اللّه تعالى على ما أنعم به عليهم ) ، وإن كانت نعما جليلة تعجزون عن الشكر عليها ؛ لكنهم لعرفانهم بذلك العجز يصيرون شاكرين لها ، وإن كان الحق قد ( وهبهم ) تلك النعم ،
 
( فلم يكن ذلك ) الشكر منهم ( على طلب من اللّه ) ، وإن طالبهم بالشكر على نعم أخرى تشاركهم فيها أممهم ، كما قال في حقّ لقمان على إيتاء الحكمة :وَاشْكُرُوا لِلَّهِ[ البقرة : 172 ] ، وكذا كلف سائر الأنبياء - عليهم السّلام - أعمالا لهم في الإتيان بها شاكرون ، لكن ليس ذلك في النعم الخاصة كالنبوة والولاية والخلافة .
 
( بل تبرعوا بذلك من عند نفوسهم ) لما عرفوا أن الشكر موجب للمزيد ، وهم وإن أنعموا بهذه النعم العظيمة في الغاية ، فلا نهاية لمراتب القرب من اللّه تعالى ، والدليل على كونهم متبرعين بالشكر أنه ( قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ) متهجدا ( حتى تورمت قدماه شكرا ، لما غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) ، فلا يتصور فيه تكليف ، ( فلما قيل له في ذلك ) القيام لم يكون مع عدم الموجب له بذلك هذا الغفران ،
( قال : « أفلا أكون عبدا شكورا ») ، وإن لم يجب عليّ ذلك ، لكن إنما تكمل عبوديتي والتحقق بالاسم الشكور بهذا الفعل ، ويتحقق المزيد بذلك ، فهذا وإن دلّ على شكره عليه السّلام كان عليه نعمة مشتركة بينه وبين أكمل أمته ، وهي غفران الذنوب ، فلنا دليل آخر على شكر الأنبياء - عليهم السّلام - على مطلق ما أنعم به عليهم من المشتركة والخاصة ، وهو ما ( قال تعالى في حق نوح عليه السّلام :إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً )[ الإسراء : 4 ].
 أي : على جميع النعم الخاصة والمشتركة ، وإذا كانت النعم على الأنبياء نعما على الأمم ، ولا يعرفون مقدارها إلا نادرا ، بل لا يعرفون مقدار ما أنعم به عليهم بذواتهم أو بواسطة هذه النعم التي على أنبيائهم .
( فالشكور من عباد اللّه ) المخصوصين بالإضافة إليه ؛ لكونهم من أمة الإجابة ( قليل ) ، وإن قاموا بالصلاة والصيام وسائر أنواع العبادات فضلا عن غيرهم ،
"" أضاف المحقق : الشكور : من لا يرى لغير اللّه نعمة ، وهذا هو الشاكر للّه حق شكره إنعاما منه ، لقوله لموسى عليه السّلام : « إذا رأيت النعم ؛ فقد شكرتني حق الشكر » ، وهذا هو العبد المشاهد نعمة اللّه في كل بلاء وعافية . ( لطائف الإعلام ص 224 ) .""
 
بل إنما يأتي من الأنبياء أو الأولياء الكمّل لا غير من أن غاية شكرهم أن يعرفوا عجزهم عن القيام بحقيقة شكره ،
ويعترفوا أن شكرهم لو تمّ باعتبار نعمة من النعم ، فهو أيضا نعمة موجبة لشكر آخر إلى أن يتسلسل ، وكيف يتأتى للعامة شكرها ، والحق لم يعرفها إياهم ،
وإنما عرفها من عرفها بإيماء خفي يختص بفهمه خاصة الخاصة دون غيرهم ، بل إنما عرفهم بذلك الطريق مقدماتها دونها .
( فأول نعمة ) من النعم الوهبية التي مقدمة لسائرها ( أنعم اللّه بها على داود ) ، وهي نعمة انقطاعه عن العالم الموجب كمال اتصاله بربه ، إنما دلّ عليها بأشكال الحروف التي تركب عنها اسمه ، وذلك ( أن أعطاه أسماء ليس فيه حرف من حروف الاتصال ) بما بعده في الخط العربي ، ( فقطعه ) .
أي : دلّ على قطعه ( عن العالم بذلك ) الاسم من حيث إن الحكيم إذا سمى شخصا باسم راعى فيه المناسبة بينه وبين مسماه بوجه من الوجوه ، والمناسبة التامة أولى بالاعتبار ، وهي الشاملة لكل الحروف ، وهي هاهنا إنما هي لمناسبة الخطيئة الدالة على القطع عن المتأخر ، وهو العالم باعتبار حدوثه مع أن لكل حرف منها قوة الاتصال بما تقدمه ، والقطع عن العالم يستلزم الاتصال بالحق القديم ، فكأنه دلّ التزاما على اتصاله بالحق ، ( إخبارا لنا )
 أي : لأهل الخصوص منا ( بمجرد ) خط حروف ( هذا الاسم ) المركب من حروف الانفصال ، ( وهي الدال ، والألف ، والواو ) المنفصلة بما بعدها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسمّى اللّه محمّدا عليه الصّلاة والسّلام بحروف الاتّصال والانفصال ، فوصله به وفصله عن العالم فجمع له بين الحالتين في اسمه كما جمع لداود بين الحالتين من طريق المعنى ، ولم يجعل ذلك في اسمه ،
فكان ذلك اختصاصا لمحمّد - صلوات اللّه عليه - أعني : التّنبيه عليه باسمه ، فتمّ له الأمر - عليه الصلاة والسّلام - من جميع جهاته ،
وكذلك في اسمه " أحمد " فهذا من حكمة اللّه تعالى ، ثمّ قال في حقّ داود عليه السّلام ، فيما أعطاه إيّاه على طريق الإنعام عليه ، ترجيع الجبال معه بالتّسبيح ، فتسبّح لتسبيحه ليكون له عملها ، وكذلك الطّير ، وأعطاه القوّة ونعته بها ، وأعطاه الحكمة وفصل الخطاب .
ثمّ المنّة الكبرى والمكانة الزّلفى الّتي خصّه اللّه تعالى بها التّنصيص على خلافته ، ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه ، وإن كان فيهم خلفاء ؛
فقال :يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى[ ص : 26 ] أي : ما يخطر لك في حكمك من غير وحي منّي فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ[ ص: 26 ] ، أي : عن الطّريق الّذي أوحي به إلى رسلي ) .


ثم أشار إلى تفضيل نبينا عليه السّلام على داود باعتبار اسمه المشهور ، فقال : ( وسمي محمدا ) بحروف ( الاتصال والانفصال ) ، وهي الحاء الحلقية ، والميم الشفوية ، والدال اللسانية ،
 
"" أضاف المحقق :
الاتصال : هو مقام توارد الإمداد من حضرة الكريم الجواد ، وهو أحد المنازل العشرة التي يشتمل عليها قسم الحقائق ، فإن السائر إلى اللّه تعالى إذا انتهى به إلى مقام البسط الذي يوجب السكر ؛ فإن ارتقى عنه إلى مقام الصحو نزل بعده في منزلة الاتصال ، ثم ينفصل عن رؤية الاتصال المنبئ عن نوع من الانفصال .
والانفصال : مقام فوق الاتصال الذي مرّ ذكره لأن فيه يحصل الانفصال عن رؤيتهما ، أعني رؤية الاتصال والانفصال لكونهما عين الاعتلال ( لطائف الإعلام ص 5 )"" .
 
( فوصله به ، وفصله عن العالم ) أي : دل بوصل حروفه أولا على اتصاله بالقديم ، وبفصل الحرف الأخير منه على انقطاعه عن العالم الحادث ، وراعى فيه لطيفة أخرى هي أنه وصل ظاهريته بباطنيته أولا ، ثم ظاهريته بالجامع بين الظاهر والباطن المتوسط بينهما مع اعتبار انفصاله عن الحدوث ؛ لأنه إذا كان هو الظاهر والباطن جميعا ، فلا غيرة للعالم معه ،
( فجمع له ) أي : لمحمد عليه السّلام بين الحالتين الاتصال بالحق القديم ، والانفصال عن العالم الحادث ( في ) دلالة ( اسمه ) باعتبار اتصال بعض حروف وانفصال بعضها في الخط عليهما .


( كما جمع لداود بين الحالتين من طريق المعنى ) ، بأن كان اتصاله بالحق مدلولا لمدلول انفصال الحروف ، وهو انفصاله عن العالم ؛ فإنه يدل بطريق نسبة دلالة الالتزام على اتصاله بالحق ؛ لأن انفصاله عن العالم مع كونه خليفة عليه لا يكون إلا لاتصاله بالحق ، ولكن ( لم يجعل ذلك ) الجمع داخلا في مدلول انفصال الحروف ( اسمه ) ، بل يكون مدلولا لهذا المدلول بطريق نسبة دلالة الالتزام مع عدم ظهور القرينة ،
( فكان ذلك ) الجمع بينهما في اسم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ( اختصاصا لمحمد ) فضل به على داود ( صلوات اللّه عليهما ) ؛ لقصور الدلالة الالتزامية عن دلالة المطابقة فيما دلّ بالوضع ، فكيف فيما يشبهها فيما دلّ على الملزوم بطريق الرمز الخفي مع خفاء القرينة ، فتكون هذه الدلالة كالعدم ، وعدم الدال ، وإن لم يدل على عدم المدلول ؛ فهو يشبه الدال على عدم المدلول فيدل وجود هذا الدال في حق محمد على جمعيته على كمال هذا المدلول فيه ، وعدمه في حق داود كأنه يدل على قصور هذا المدلول فيه .


ثم قال : ( أعني التنبيه عليه باسمه ) ؛ لئلا يتوهم أن لفظة ذلك إشارة إلى الجمع بين الاتصال والانفصال مطلقا ، وهو باطل لحصول ذلك الجمع لداود عليه السّلام من طريق المعنى ، وإذا كان الانفصال دلالة على الاتصال بطريق يشبه الالتزام ، وقد حصل الاتصال أيضا بالفعل في اسم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ،
( فتم له ) أي : لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ( الأمر ) أي : أمر الجمع بينهما ( من جميع جهاته ) أي : من جهة ما يشبه دلالة المطابقة ، وما يشبه دلالة الالتزام على الاتصال الذي هو المقصود بالذات ، وقد تأكد ذلك بتكريره مع تحقق ما يشبه دلالة المطابقة على ما يقصد لأجله وهو الانفصال أيضا .
 
( وكذلك ) أي : كما جمع له بينهما في اسمه محمد كذلك جمع له ( في اسمه أحمد ) ؛ لأن الألف والدال فيه من حروف الانفصال ، فدل على انفصال أوليته وآخريته عن الخلق ، والحاء والميم فيه من حروف الاتصال ،
فدل على اتصال باطنيته وظاهريته بالحق ،
لكن اعتبر في الدلالة الأولى موقع الحرف ،
وفي الثانية مخرجه مع الدلالة الخطية جمعا بين وجوه المناسبة الكثيرة حيث لم تكن المناسبة الواحدة شاملة للحروف ، ( فهذا ) أي : فهم هذه الأمور من هذه الاعتبارات مأخوذ ( من حكمة اللّه ) الموجبة رعاية المناسبة بين الاسم والمسمى ،
وإن لم يكن للاسم هذه الدلالة لا بالفعل ولا بالوضع مطابقة أو تضمنا أو التزاما ، ويكفي في ذلك أنه ( تعالى ) ألهم أصولها أن يسموها بما يدل بمناسبة الخط ، والموقع ، والمخرج على هذه الأمور الجليلة ، وإن لم يشعرهم بذلك .
 
ثم أشار رحمه اللّه تعالى : إلى نعم أخرى على داود عليه السّلام طالب آله بالشكر عليها ، وإن لم يشعر بوجه كونها نعما عليه أو عليهم إلا بطريق دقيق لا يدركه إلا آحاد أهل التحقيق ،
فقال : ( ثم قال في حق داود عليه السّلام فيما أعطاه على طريق الإنعام عليه ترجيع الجبال معه التسبيح ) ، ووجه الإنعام به عليه أنه يحصل له ثواب تسبيحهم ، وإن كانت عبادة شخص لا تحصل لغيره حتى لا يصح فيها التوكيل إلا أن الجبال لما لم تكن من أهل الجزاء ، فلابدّ من أن يحصل ثواب عملها لغيرها ، وإلا كانت أعمالها ضائعة بالكلية ،
وليس البعض أولى من الآخر إلا بنسبة السببية ، وهي منه عليه السّلام ؛ لأنه عليه السّلام كان يسبح " فتسبح " الجبال " لتسبيحه " ، وليست من أهل الثواب ،
وهي إنما سبحت ( ليكون له عملها ) ، فتسبيحها نعمة عليه موجبة للشكر على آله من حيث إنه لما حصل له التقرب إلى اللّه تعالى بأعماله وأعمال غيره استفاض منه ما أفاض عليهم فيما أفادهم الكمالات ، ومن جملة ما أعطاه على وجه الإنعام ، وأوجب الشكر على آله ، ولم يشعر بموجبه إلا بالطريق الخفي .
 
( أعطاه القوة ) على الجمع بين أمور الدنيا والدين ، ( ونعته ) أي : مدحه بها ؛ بقوله :وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ ص : 17 ] ، ( وأعطاه الحكمة ) العلم اليقيني بحقائق الأشياء وصفاتها وخواصها مع تأتي وضع كل في مواضعها ، ( وفصل الخطاب ) أي :
الخطاب الفاصل بين الحق والباطل بإقامة الحجج ، ودفع الشبه على الوجه اليقيني إذ بهذه القوة ناسب الحق والخلق ، واستفاض ثم أفاض ، وتمت له الأمور العلمية والعملية بالحكمة ، والتولية بفصل الخطاب ، فكانت نعما عليه وعليهم ، وتم كل ذلك بسبب خلافته .
 
ولذلك قال : ( ثم المنة الكبرى ) على داود عليه السّلام الموجبة لكمال الشكر على الآل مع عدم عرفان أكثرهم ، فذرها لرؤيتهم إياها من أمور الدنيا المضرة بالدين ، وهي ( المكانة الزلفى ) عند اللّه بها كمال النبوة والولاية ( التي خصه اللّه بها ) بقوله :وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ[ ص : 25 ] ، ورتبه على هذه الخلافة التنصيص على خلافته لدلالة ( التنصيص ) من الكامل الذي ليس من شأنه ذكر المحقرات إلا لغرض التحقير على كمال النصوص ، والخلافة إذا انضمت مع النبوة والولاية كانت غاية الكمال لهما ،
فالتنصيص عليها يدل على كونها في غاية الغايات ، وتجاوزها أقصى النهايات ، وبها تتم المنة بظهور القوة ، ونفاذ الحكمة ، وفصل الخطاب ،
إذ لا يكون معها معاندة الجاهل غالبا ، ( ولم يفعل ذلك ) التنصيص بأحد أي : بخلافة ( أحد من أبناء جنسه ) من الأنبياء فضلا عن خلفائهم وعن سائر الملوك .
( وإن كان فيهم خلفاء ) جامعون بين النبوة والولاية والخلافة ؛ لعدم اعتداده بخلافتهم بالنظر إلى خلافة هذا ، فلما اعتد بخلافته نص عليها ، ( فقال :يا داوُدُ )، فذكر اسمه العلم المزيل للشركة ، ثم أكد ذلك بالنداء المزيل توهم إرادة من يشاركه في الاسم اشتراكا لفظيّا ، وأتى بحرف النداء الدال على بعد المنادى مع أنه رتب على خلافته الزلفى عنده ، وحسن المآب للدلالة على بعد درجته عن إفهام غيره :إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً[ ص : 26 ]
بذكر لفظ الخلافة المشعرة بالنيابة عن اللّه مشعرا بعظمتها بإسنادها إلى نون التعظيم المذكورة مقرنين مع التنصيص عليه بكاف الخطاب في الأرض التي هي وسط العالم والسلطان ، إنما يكون في وسط مملكته ، وهو محل الكون والفساد ، فيتم التصرف فيها بظهور الآثار المختلفة فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ الذين هم أشرف أنواع الخلائق ، وقد سخر لهم جميع ما في العالم بِالْحَقِّ لا بك ، وهو الحكم بما أعطاك الحق من الحكمة ، وفصل الخطاب ،وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى.
ولما كان المشهور أن الهوى ما تميل إليه النفس بطبيعتها الأمارة ، وهو عليه السّلام معصوم عن ذلك لكمال حاله ، فلا حاجة إلى نهيه عما ليس من شأنه بينه ،
فقال : ( أي : ما يخطر لك من حكمك ) بطريق العقل والقياس من غير وحي مني فيه أو في أصله ،فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
ولما كان المشهور أن الضلال في الحكم هو الأخذ بطريق الكفرة أو الظلمة ، وهو عليه السّلام معصوم عن ذلك بينه بقوله : ( أي : عن طريقي الذي أوحي به إلى رسلي ) ، فإن طريق العقل والقياس من غير أصل منصوص مبعد عن الطريق الإلهي الذي وضعه للوصول إليه ؛ فلذلك كان موجبا للعذاب الشديد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ تأدّب سبحانه معه فقال :إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ[ ص  :26] ، ولم يقل : « فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد » ، فإن قلت : وآدم عليه السّلام قد نصّ على خلافته ، قلنا : ما نصّ مثل التّنصيص على داود ، وإنّما قال للملائكة :إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ البقرة : 30 ] ، ولم يقل : إنّي جاعل آدم خليفة في الأرض ، ولو قال أيضا مثل ذلك ، لم يكن مثل قوله :إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً[ ص : 26 ] في حقّ داود ، فإنّ هذا محقّق ، وذلك ليس كذلك ، وما يدلّ ذكر آدم في القصّة بعد ذلك على أنّه عين ذلك الخليفة الّذي نصّ اللّه عليه ، فاجعل بالك لإخبارات الحقّ عن عباده إذا أخبر ، وكذلك في حقّ إبراهيم الخليل :قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً[ البقرة : 124 ] ، ولم يقل خليفة ، وإن كنّا نعلم أنّ الإمامة هنا خلافة ، ولكن ما هي مثلها ؛ لأنّه ما ذكرها بأخصّ أسمائها وهي الخلافة ).


( ثم تأدب سبحانه معه ) " ليعلمنا جل شأنه الأدب  مع الرسل والأنبياء وأولياء الله و وانزالهم منازلهم ".  رعاية لمقتضى منصبه الذي نص عليه للاعتناء به ، ( فقال :إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )[ ص : 26 ] ،
وإن اتبعوا سبيل العقل والقياس من غير أصل منصوص ،لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌبما نسوا يوم الحساب الذي يحاسب فيه مقتضى العقل والقياس من غير أصل مع الموحى به من الأنبياء ، فيظهر نقيض مقتضياتهما بل فسادها بحيث لا يحاسب معه أصلا ،
( ولم يقل : فإن ضللت عن سبيلي ، فلك عذاب شديد ) مع أنه مقتضى الظاهر عدل عنه لما فيه من نسبة الضلال إليه ، والحكم عليهم بالعذاب الشديد صريحا ، وهما يخلان بالأدب ، وهو ينافي مقتضى التنصيص على الخلافة من التعظيم ، والإخلال الضمني ليس كالصريح فروعي فيه الأدب بقدر الإمكان .


وإنما قال في حق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم :لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ[ الزمر : 65 ] ؛ للمبالغة في التحذير عن أمر الشرك ، والتحذير عن الضلال في الحكم لا يكون له تلك المبالغة فيه ، ولا تتأتى رعاية الأدب مع المبالغة في التحذير ؛ ( فإن قلت : فآدم قد نص على خلافته ) إذ قال في كتابه :إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ البقرة : 30 ] ، ثم عيّنه بقوله :وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها[ البقرة : 31 ] ، وقوله :وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ[ البقرة : 34 ] وغير ذلك ، فلم قلت : لم يفعل ذلك لواحد من أبناء جنسه ؟ قلنا : كان ذلك نصّا في الجملة ، لكن ( ما نصّ ) على خلافته ( مثل التنصيص ) ( على ) خلافة ( داود ) ، فإنه لم يقل : يا آدم إنا جعلناك خليفة في الأرض .
( وإنما قال : الملائكة ) من غير نداء آدم إني جاعل في الأرض خليفة ، ومع ذلك ( لم يقل : إني جاعل آدم خليفة في الأرض ) يذكر اسمه العلم مع تأتّي ذكره وإن امتنع النداء ، ( ولو قال ) : إني جاعل آدم خليفة ، فهو ( أيضا ) ( لم يكن ) من التنصيص على خلافته ( مثل ) قوله :إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً ( في حق داود فإن هذا ) ؛ لكونه ماضيا ( محققا ) أي : دال على تحققه ؛
 
"" أضاف المحقق : رتبة الخلافة : هي رتبة الخلافة والكمال المشتملة على الجميع الجامعة ، بين البداية والنهاية ، وأحكامها ، وأحكام الجمع والتفرقة ، والوحدة ، والكثرة ، والحقية ، والخلقية ، والقيد ، والإطلاق عن حضور من غير غيبة ويقين بلا ريب ولا شبهة . ( لطائف الإعلام ص 153 ) .""


( وذلك ) لكونه اسم فاعل بمعنى الاستقبال بدليل أنه قاله الملائكة قبل خلق آدم ، ( ليس كذلك ) في الدلالة على التحقق ، وإن كانت أخبار الحق لا بدّ لها من التحقق إلا أنه إنما يعلم من العقل ، فلا يكون من قبيل التنصيص ، وما ذكرتم أنه تعالى عين الخليفة بقوله :وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها[ البقرة : 31 ] وغيره ، فيكون تنصيصا باطلا ، بل غايته أنه ذكره بعد ذكر الخليفة ، ( وما يدل ذكر آدم ) ، ولو ( في القصة ) الواحدة ( بعد ذلك ) من غير طول فصل ( على أنه عين ذلك الخليفة الذي نصّ اللّه عليه ) إذ ذكره في نصّ كتابه مجملا ، إذ ليس في اللفظ ما يدل على العينية بل غايته أن يفهم باستعانة العقل ، كما يفهم سائر المجملات التي لا تنصيص فيها ، ولا بيان يعقبها باستعانة العقل ، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى ينص في حق البعض دون البعض في أمر واحد ، ( فاجعل بالك لإخبارات الحق عن عباده إذا أخبر ) لماذا ينص ؟ ولماذا ترك التنصيص ؟
ولا شك أن النص على الخلافة ؛ لتعظيم شأنها واطلاع الكل عليها ليعتقدوا كمالها .
ثم أشار إلى سؤال آخر ، وهو أنه سبحانه وتعالى وإن لم ينص على خلافة آدم ، فقد نص على خلافة إبراهيم عليه السّلام ؛ فلم قلت : لم يفعل ذلك بأحد من أبناء جنسه ؟
وأجاب عنه بقوله : ( وكذلك ) أي : مثل قوله :إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ البقرة : 30]
في عدم التنصيص على الخلافة في حقّ آدم ، قوله : ( في حق إبراهيم الخليل عليه السّلام :إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً )[ البقرة : 124] ،
وإن صار بالخطاب في حكم المنادى العلم ، وكان اسم الفاعل فيه بمعنى الماضي أو الحال ؛ وذلك لأنه ( لم يقل ) في حقه : إني جاعلك ( خليفة ) ، بل قال :إِماماً، وهو مشترك بين الخلافة وإمامة الصلاة ، فلا يكون نصّا في الخلافة .
( وإن كنا نعلم ) بالقرينة ( أن الإمامة هنا ) ليست إمامة الصلاة ، بل إنما هي ( خلافة ، ولكن ما هي ) أي : لفظة الإمامة ( مثلها ) أي : مثل لفظة الخلافة في إفادة التنصيص ؛ ( لأنه ) إنما يحصل التنصيص على الشيء إذا ذكر بأخص أسمائه ، وهو سبحانه وتعالى ( ما ذكرها ) أي : خلافة إبراهيم ( بأخص أسمائها ، وهي الخلافة ) المنفردة بهذا المعنى ، فلا تحوج إلى قرينة بخلاف اللفظ المشترك ؛ فإنه يحوج إليها فلا تتم دلالته بدونها فكأنها عقلية لا لفظية .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:15 am

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي 
الجزء الثاني
الفص الداودي
17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية
قال الشيخ رضي الله عنه :  )ثمّ في داود من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم ، وليس ذلك إلّا عن اللّه تعالى فقال له فاحكم بين النّاس بالحقّ ، وخلافة آدم عليه السّلام قد لا تكون من هذه المرتبة فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها قبل ذلك ، لا أنّه نائب عن اللّه في خلقه بالحكم الإلهيّ فيهم ، وإن كان الأمر كذلك وقع ، ولكن ليس كلامنا إلّا في التّنصيص عليه والتّصريح به ، وللّه في الأرض خلائف عن اللّه ، وهم الرّسل .
وأمّا الخلافة اليوم فعن الرّسل لا عن اللّه ، فإنّهم ما يحكمون إلّا بما شرع لهم الرّسول لا يخرجون عن ذلك ، غير أن هاهنا دقيقة لا يعلمها إلّا أمثالنا ، وذلك في أخذ ما يحكمون به ممّا هو شرّع للرّسول عليه السّلام ، فالخليفة عن الرّسول من يأخذ الحكم بالنّقل عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أو بالاجتهاد الّذي أصله أيضا منقول عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وفينا من يأخذه عن اللّه بعين ذلك الحكم ، فتكون المادّة له من حيث كانت المادّة لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، فهو في الظّاهر متّبع لعدم مخالفته في الحكم كعيسى عليه السّلام إذا نزل فحكم ، وكالنّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه وسلم في قوله : أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ[ الأنعام : 90 ] ، وهو في حقّ ما يعرفه من صورة الأخذ مختصّ موافق ، هو فيه بمنزلة ما قرّره النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من شرع من تقدّم من الرّسل بكونه قرّره فاتبعناه من حيث تقريره لا من حيث إنّه شرع لغيره قبله ).
  
( ثم ) إن خلافة آدم عليه السّلام وإن ذكرت بأخص أسمائها ، فلا تبلغ رتبة خلافة ( داود ) ، إذ في خلافة داود عليه السّلام وجه ( من الاختصاص بالخلافة ) الإلهية ليس ذلك في خلافة آدم عليه السّلام ، وهو ( أن جعله خليفة حكم ) إلهي إذ رتبه على خلافته ، فكانت خلافته خلافة عن اللّه ؛ وذلك لأنه ( ليس ذلك ) الحكم إلا في الخلافة ( عن اللّه ) ، فأراد الحق التنصيص على ذلك ، فقال له :فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ ،ثم زاد تنصيصا بقوله :بِالْحَقِّ ،( وخلافة آدم عليه السّلام ) بحسبما يفهم من قوله :إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ،( قد لا يكون ) بحسب الاحتمال لمن لم ينظر في الواقع ، بل اقتصر نظره على هذه اللفظة ( من هذه المرتبة ) أي : خلافة الحكم ، ( فتكون خلافته ) على ذلك الاحتمال بمعنى : ( أن يخلف ) أي : ينوب ( من كان فيها ) أي :
في الأرض من الجن أو غيرهم ( قبل ذلك ) أي : وجود آدم ( لا ) بمعنى ( أنه نائب عن اللّه ) استخلفه ( في خلقه ) ، فأقامه ( بالحكم الإلهي فيهم ) مقامه ، فإن اللفظ ليس فيه بل يحتمل له ، ولما ذكرناه .
( وإن كان الأمر ) أي : أمر خلافة آدم عليه السّلام ( كذلك ) أي : مثل خلافة داود ( وقع ) ، فكانت خلافة عن اللّه في الحكم الإلهي ، ( ولكن ليس كلّ منّا إلا في التنصيص عليه ) أي :
على كونه خليفة حكم ، ( والتصريح به ) من اللّه تعالى باللفظ ، وإن كانت القرائن كالمصرحة بهذا الأمر ، وإلا فنحن لا ننكر خلافة آدم وإبراهيم - عليهما السّلام - عن اللّه في الحكم مع هذه النصوص ، مع أنّا نقر بخلافة من لم يذكر اللّه خلافتهم أصلا ، ونقول :
( « وللّه في الأرض خلائف » ) لا بمعنى أنهم خلفوا من تقدمهم ، بل بمعنى أنهم خلفاء ( عن اللّه ) في حكمة .
ولما أوهم ذلك أنه يعم كل خليفة نبيّا أو غيره ، أزال ذلك بقوله : ( وهم الرسل ) ، وفيه إشارة إلى حصول هذه الرتبة لنبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم ، وعدم التنصيص في حقه إن صح ؛ فلعدم الحاجة إليه لظهور دينه على الدين كله إلى يوم القيامة ، وكذلك خلافة إلهية ، وقد قام مقام الحق في أن صار الخلفاء بعده خلفاء عنه ، وهم في ذلك في معنى الخلفاء عن اللّه ، وإليه الإشارة بقوله : ( « وأما الخلافة اليوم » ) أي : بعد الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، ( فعن رسل اللّه لا عن اللّه ) ، وإن كان فيهم من بلغ رتبة الكشف ، ( فإنهم ما يحكمون إلا بما شرع لهم الرسول لا يخرجون عن ذلك ) ، وإن كوشفوا بخلافه إذ شرعه غير قابل للنسخ ، وليس لهم رتبة التشريع (غير أن هاهنا دقيقة لا يعلمها إلا أمثالنا ) من أهل الكشف دون أهل الظاهر .


( وذلك في أخذ ما يحكمون به ) ، فإنهم لا يأخذونه عن الرسول ، وإن كان ( مما هو شرع للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ) ؛ لأن ذلك نوع تقليد ، وهم قادرون على التحقيق بالمعاينة ، لكن لا تكون معاينتهم مخالفة لما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، فإن وقعت المخالفة ؛ فهي ابتلاء من اللّه تعالى لا يعمل بها الولي كما صرّح به الشيخ رحمه اللّه في مواقع النجوم ، ونقله صاحب تحفة البررة عن الشيخ روزبهان السراري رحمه اللّه .
 
( فالخليفة عن الرسول ) في الظاهر والباطن ( من ) لم ( تأخذ الحكم عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ) في الكتاب والسنة ( أو ) الإجماع إذ لا يخلو عن سند منهما إلا ( بالاجتهاد الذي أصله ) أي :
حكم أصله ، وهو المقيس عليه ( أيضا منقول عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ) ، وإن لم ينقل عنه غير الأصل ، ولا تعديتها إلى الفرع ،
( وفينا من يأخذه عن اللّه ) ، وإن لم تكن له رتبة التشريع ، فيكون خليفة عن اللّه من حيث أخذه عن اللّه ، ولكن لعدم كونه مشرعا يأخذ ( بعين ذلك الحكم ) الذي جاء به الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، فهو وإن لم يكن له رتبة التشريع له أن يأخذ من مأخذ صاحب التشريع.
( فتكون المادة ) أي : مأخذ الحكم ( له ) أي : لهذا المكاشف ( من حيث كانت المادة لرسوله ) ، إذ لا حجز في الوصول إلى ذلك المكان من المكاشفة ، وإن حجز عن الأخذ بالزيادة والنقصان للتناقض لو كوشف بأخذها ابتلاء بخلاف الرسول إذا كوشف بأخذها بعد ما كوشف له أو لغيره من الرسول بخلافه ،
فهو أي : ذلك الأخذ عن اللّه ، وإن كان خليفة عنه في الباطن ( وهو في الظاهر متبع ) للرسول ؛ ( لعدم مخالفته في الحكم ) ، وإن خالف كشفه حينا مع أنه الأصل في التشريع والسابق في الزمان ، فهو خليفة عنه بهذا الاعتبار ، ولا بعد في ذلك ، فإنه فيه ( كعيسى عليه السّلام إذا نزل ) من السماء ، ( فحكم ) بالشرع المحمدي ، فهو متبع له عليه السّلام مع أنه أخذ عن اللّه وخليفة عنه ، وكان ( النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ) فيما قرر من شرع من يقدمه ، فإنه متبع لما يقدمه ، وإن كان أخذا من اللّه بلا واسطة من تقدم ، كما ذكر في قوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ[ الأنعام : 90 ] .
ثم استشعر سؤالا بأنه كيف يكون عيسى مقتديا بالنبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهو عليه السّلام مقتد به فيما قرر من شرعه ، فيلزم أن يكون عيسى عليه السّلام مقتديا بمن اقتدى به في أمر هو به مستقل ، وهو باطل بالضرورة ؟
فأجاب عنه بقوله : ( وهو ) أي : عيسى عليه السّلام ( في حق ما يعرفه من صورة الأخذ ؛ لكون ) شرعه قبل محمد عليه السّلام ( مختص بتشريعه ) ، ومستقل بشأنه غير مقتدي فيه من حيث هذا الاختصاص ، ولكن ( موافق هو ) أي : محمد صلى الله عليه وسلم إياه ( فيه ) ، فلما وافقه فيه فهو أي : ما يعرفه عيسى عليه السلام  من صورة الأخذ ، واختص به فوافقه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في حق عيسى عليه السلام  بعد نزوله تابعا لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ( بمنزلة ما قرره النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من شرع من يقدمه من الرسل ) عيسى عليه السلام  أو غيره إذا صار ذلك المقرر شرعه لا بطريق اقتدائه به في التحقيق ،
بل ( بكونه قرره فاتبعناه ) أي : طائفة الأمة فيه ( من حيث تقريره ) الذي جعله شرعه الواجب اتباعه فيه ( لا من حيث أنه شرع ) تقرير ( لغيره ) ،
 
وإن كان شرعا له إذ ليس علينا اتباع شرائعهم من حيث هي شرائعهم ، وصار عيسى عليه السّلام بعد النزول من أمته فاتبعه من حيث تقريره لا من حيث إنه شرعه ( قبله ) ، حتى يكون مقتديا بمن اقتدى به في أمر هو فيه مستقل مختص إذ بطل اختصاصه ، واستقلاله بهذا الشرع المحمدي ، فلم يبق محمد مقتديا فيه ، وإن وافقه وقرره .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك أخذ الخليفة عن اللّه عين ما أخذه منه الرّسول فنقول فيه بلسان الكشف خليفة اللّه ، وبلسان الظّاهر خليفة رسول اللّه ، ولهذا مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وما نصّ بخلافة عنه إلى أحد ، ولا عيّنه لعلمه أنّ في أمّته من يأخذ الخلافة عن ربّه فيكون خليفة عن اللّه مع الموافقة في الحكم المشروع ، فلمّا علم ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يحجر الأمر ، فللّه خلفاء في خلقه يأخذون من معدن الرّسول ما أخذته الرّسل - عليهم السّلام ، ويعرفون فضل المتقدّم هناك لأنّ الرّسول قابل للزّيادة : وهذا الخليفة ليس بقابل للزّيادة الّتي لو كان الرّسول قبلها ، فلا يعطى من العلم والحكم فيما شرع إلّا ما شرع للرّسول خاصّة ؛ فهو في الظّاهر متّبع غير مخالف ، بخلاف الرّسل ) .
( وكذلك ) أي : مثل أخذ عيسى عليه السّلام بعد النزول من السماء عن اللّه استقلالا مع أنه في العمل به غير مستقل ، بل مقيد بالنبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حتى فيما سبقه به إذ وافقه نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ( أخذ الخليفة عن اللّه عين ما أخذه منه الرسول ) من غير استقلاله بالخليفة باعتبارين ، ( فنقول فيه بلسان الكشف ) من حيث أخذ الخليفة عن اللّه :
إنه ( خليفة اللّه ، وبلسان الظاهر ) الذي عمله به ( خليفة رسول اللّه ) ، فصح أن في خلفاء رسول اللّه من هو خليفة اللّه ، وخليفة اللّه يكون بالنص منه ، لكن الإجماع قائم مقام النص القاطع ، فيصير أبو بكر رضي اللّه عنه كالمنصوص على خلافته مثل داود عليه السّلام ، وكذلك الخلفاء الراشدون بعده ، فصارت هذه الرتبة لأتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم .
 
( ولهذا ) أي : ولأجل أن في أمته من هو خليفة عن اللّه بالإجماع النازل منزلة النص القاطع ( مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وما نص بخلافة ) أي : بنسبة خلافة ( عنه إلى أحد ) فضلا عن الثلاثة الذين هم أبو بكر ، وعلي ، والعباس ، فلا الخلافة بعدي لأحد غير هؤلاء الثلاثة ، ( ولا عينه ) ، فلم يقل : هو علي ، ولا هو أبو بكر ، ولا هو العباس ، مع أنه من أهم المهمات ، حتى أنه تركوا دفنه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل تعينه ،
 
ولو نصّ على أحدهم لكانوا على اقتدائه أحرص سيما في ذلك الوقت لما ( علم أن في أمته من يأخذ الخلافة عن ربه ) ، ولو نص لكان خليفة عنه صلّى اللّه عليه وسلّم فقط ، فتركه واقتصر على ما علم من الإجماع النازل منزلة النص الإلهي عليه ،
( فيكون ) من حيث عدم تنصيص النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على خلافته ( خليفة عن اللّه ) تعالى ( مع ) حصول المقصود بالخلافة عن رسول اللّه من ( الموافقة في الحكم المشروع ) ، فيصير كداود عليه السّلام من حيث تنصيص الإجماع ، ويصير كعيسى عليه السّلام في الجمع بين الخلافتين فيما لها من فضيلة على أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لو نص على أحد لم يكن لغيره الأخذ بها أصلا في وقته ولا بعده ، مع أن هذا لو أخذها في وقت خلافة ذاك بدلا عنه أو بعده في الخلافة الظاهرة أو معه في الخلافة الباطنة لكان له ذلك ؛ لأن لكل واحد منهما قوة الأخذ من اللّه تعالى ( فلما علم صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك ) . " في نسخة أخرى : « فلمّا علم ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم »".
 
أي : قوة الأخذ عن ( اللّه ) لجماعة من أمته ( لم يحجز الأمر ) بالتنصيص على البعض عن الباقين ، وإذا كان كذلك ، ( فلله خلفاء من خلقه ) ؛ لاحتياج أهل كل عصر إلى خليفة يقوم بأمور دينهم ودنياهم ، بل له خلفاء في الباطن يجتمعون في زمن واحد بلا مضايقة بينهم ولا منازعة منهم ، يخاف أن تقتضي إلى فساد في الأمة ،
بل العالم يزداد ضياء بهم ( يأخذون ) علومهم وأحكامهم ( من معدن الرسول ) محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، ومن معدن سائر الرسل عليهم السّلام إما على سبيل الاجتماع أو على سبيل البدل أو البعض دون البعض ، ومن هنا يقال : فلان على قلب محمد ، وفلان على قلب آدم أو إبراهيم أو موسى أو عيسى - عليهم السّلام .
( ما أخذته الرسل - عليهم السّلام ) ، إذ لو كان خلافة ، فلا يأمنون فيه من تلبيس الشيطان أو ابتلاء الرحمن ، ولا يرون في ذلك فضل أنفسهم ، ولا تسويتها مع أولئك الأنبياء - عليهم السّلام ، بل ( يعرفون فضل المتقدم هناك ) وهو الرسول ،
إذ لا يمكن للولي الأخذ من ذلك المعدن قبل أخذ الرسول منه ، بل بتعينه ، وإلا أخذ الزائد على الرسول ، فلا يأمن من فيه من الوسوسة والابتلاء بخلاف الرسول ؛
( لأن الرسول قابل للزيادة ) بالنسبة إلى رسول آخر فضلا عن الولي ، ( وهذا الخليفة ليس بقابل للزيادة ) على مأخوذ الرسول ، وإن كانت هذه الزيادة هي ( التي لو كان ) المكاشف بها هو ( الرسول قبلها ) لأمنه من الوسوسة والابتلاء في أخذ العلوم عن اللّه تعالى ، وإن كان كثيرا لا يبتلى في غير هذا الموضع بأخذها مع أن له نسخ شرع من تقدمه ، ( فلا يعطي ) هذا الخليفة ( من العلم ) الذي لا يقبل النسخ كالعلم باللّه والإخبار الواقعة ، ( والحكم فيما شرع ) له ( إلا ما شرع للرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة ) دون سائر الرسل حتى لو جاز له ما جوز لبعض الرسل دون ما يقرر عليه دين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، فلا يجوز له الأخذ ؛ فإنه ابتلاء في حقه ،
 
فبطل ما زعم بعض الجهّال من أنه يجوز أن يكاشف الولي بتجويز شرب الخمر له ؛ لكونه مباحا في دين بعض الأنبياء ، فيجوز أن ينسخ حرمته في حقه ، ولا يدري أن النسخ مخصوص بالأنبياء .
( فهو ) وإن أخذ من معدن سائر الرسل علومهم وأذواقهم في الباطن هو في الباطن هو في العمل ( متبع ) لرسولنا ( غير مخالف ) له بمتابعة غيره من الرسل لا في الأعمال الظاهرة ، ولا في المساقي الباطنة القلبية ، وإن كان على قلوبهم ( بخلاف الرسل ) ، فإنهم وإن كانوا خلفاء لمن يقدمهم من الرسل وأخذوا من معدنه ، فإنهم إذا كوشفوا بزيادة ولو في الأعمال الظاهرة ، فلابدّ لهم من الأخذ بها ، وإنما تجب عليه موافقة من تقدمه في الأمور التي لا تقبل النسخ كذات اللّه تعالى وصفاته ، وأمور الآخرة ، والأخبار الإلهية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ألا ترى عيسى عليه السّلام لمّا تخيّلت اليهود أنّه لا يزيد على موسى عليه السّلام ، مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرّسول ، آمنوا به وأقرّوه ، فلمّا زاد حكما ونسخ حكما كان قد قرّره موسى لكون عيسى رسولا لم يحتملوا ذلك لأنّه خالف اعتقادهم فيه ؟
وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه ، فطلبت قتله ، فكان من قصّته ما أخبرنا اللّه تعالى في كتابه العزيز عنه وعنهم .
فلمّا كان رسولا قبل الزّيادة ، إمّا بنقص حكم قد تقرّر ، أو زيادة حكم ، على أنّ النّقص زيادة حكم بلا شكّ ، والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب ، وإنّما تزيد وتنقص على الشّرع الّذي قد تقرّر بالاجتهاد لا على الشّرع الّذي شوفه به محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم ) .
 
( ألا ترى عيسى عليه السّلام ) كيف زاد على موسى مع كونه مصدقا لما بين يديه من التوراة إذا كان رسولا ، وإن كان خليفة لموسى عليه السّلام كما هو خليفة لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، والرسالة تقتضي ذلك لتفارق بها مجرد الخليفة المشارك له في الأخذ من معدنه ، وأيد الخوارق لكن ( لما تخيلت اليهود أنه ) وإن كان رسولا ، فهو كسائر خلفاء موسى عليه السّلام ( لا يزيد على موسى مثل ما قلنا في الخلافة اليوم ) أي : بعد نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم لامتناع نسخ شريعته ، فلا يمكن للخليفة ، وإن كان عيسى عليه السّلام المخالفة ( مع الرسول ) محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، ( آمنوا ) أي : آمن بعضهم به لما شاهدوا معجزاته مثل ما شاهدوا من موسى عليه السّلام ، ( وأقرّوه ) على دعوى الرسالة لإمكانها عندهم بعد موسى عليه السّلام مع امتناع نسخ الشريعة ، أي : شريعته عندهم .
( فلما زاد ) عيسى عليه السّلام ( حكما ) لم يذكره موسى عليه السّلام بالكلية ، ورأوا فيه الإباحة أو المحرمة كما هو مذهب البصرية والبغدادية من المعتزلة اليوم ، أو ( نسخ حكما كان قد قرره موسى ) على وجه خاص من الوجوب أو الندب أو الحرمة أو الكراهة أو الإباحة أو الصحة أو الفساد ؛ ( لكون عيسى عليه السّلام رسولا ) مستقلا بخلاف سائر خلفاء موسى عليه السّلام ، وإن كانوا أنبياء ، وكانت شريعته قابلة للنسخ خلافه بعد ظهور محمد عليه السّلام إذ لا تقبل شريعته النسخ ، فلا يؤثر في ذلك كونه رسولا ،
 
( لم يحتملوا ذلك ) لا لشبهة قوية فضلا عن حجة ؛ بل ( لأنه خالف اعتقادهم فيه ) أي : في عيسى أنه لا يزيد على موسى عليه السّلام كسائر خلفائه من أنبياء بني إسرائيل ، كيف وقد زعم أنه مصدق لما بين يديه من النورية ، ودعوى النسخ تكذيب له بل هي مكذبة لدعوى النبوة ، فكأنه تناقضت الدعوتان في حقه ، فلا يسمع شهادة المعجزات على صدقه ، وزعموا أنه كيف ينسخ الشريعة المأخوذة من العلم الإلهي ، وهو لا يقبل التغيير .
 
( وجهلت اليهود الأمر ) أي : أمر العلم الإلهي والشريعة والرسالة ( على ما هو عليه ) ، فإن العلم الإلهي لغاية سعته يشتمل على ما هو كمال لكل فرقة ، وأهل كل زمان مع اختلاف طبائعهم وأحوالهم ، والشريعة تابعة لمصالحهم في كل زمان ، والرسالة تقتضي الزيادة والنسخ لتفارق الخلافة المجردة ، وإن اختلفت عن هذا المقتضى في زمان امتناعهما ، والنسخ قد وقع في شريعة آدم عليه السّلام إذ زوّج بناته ببنيه ، ثم استقرت الحرمة بعده ، (فطلبت ) اليهود ( قبله ) إذ كانت دعوى النسخ عندهم في معنى الردة ، ( فكان من قصته ما أخبرنا اللّه تعالى في كتابه العزيز عنه وعنهم ) بقوله عز من قائل :إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [ آل عمران : 55 ] ، وقوله :وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ[ المائدة : 110 ] ، وقوله :فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ[ المائدة : 110 ] ، وقوله :إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ[ النساء : 157 ] .
 
فلما كانت شريعة موسى عليه السّلام قابلة للنسخ والزيادة ، ( فلما كان ) عيسى عليه السّلام ( رسولا ) إذ صدقته المعجزات ، ولم تكذبه دعوى النسخ والزيادة ، ( قبل الزيادة ) على شريعة موسى يجوز أن يفضل بعض الرسل بعضا والنسخ يأتي بخير مما يقدم أو مثله ، وإن كان بالنقص ، فإنه يفضل على الزيادة السابقة على أن النقص زيادة حكم لاستلزامه إياها ، فإنه إذا نسخ أحد الأحكام حصل بدله حكم آخر ، فكأنه نقص واحد وازداد آخر ، فالزيادة بمعنى الفضيلة أو بمعنى كثرة العدد ، ( إما بنقص حكم قد تقرر ) في الشريعة السابقة ولا ينقص لاختلاف الزمان والمكلفين ، ( أو زيادة حكم ) بلا نقصان آخر بلا شكر في كونه زيادة من كل وجه إذ لم يذكره من تقدمه ، وليس حكمه الإباحة أو الرحمة كما هو مذهب المعتزلة ،
 
بل فيه التوقف عند الشيخ أبي الحسن الأشعري إمام أئمة أهل السنة ، وفيه فضيلة العمل به وكثرة العدد في تعلق الحكم ، والزيادة لا تكون للتابع المطلق ، وإنما تكون للتابع المطلق من وجه دون وجه ، ( والنقص ) أيضا ( زيادة ) من حيث الفضيلة ، ومن حيث ( الحكم ) البدل أيضا ، فرجح وجه الزيادة فيه ، فلا يكون للتابع المطلق ، فقبول الزيادة بالزيادة في الحكم والنقص فيه كلاهما منصب الرسول ، ولو خليفة في زمان إمكان النسخ .
 
( والخلافة اليوم ) ، أي : في زمان امتناع النسخ ( ليس لها هذا المنصب ) ، وإن كانت لعيسى عليه السّلام فليس له ولا لغيره من خلفاء هذه الأمة الزيادة والنقص في الشريعة المقررة لنبيّنا عليه السّلام بالنصوص القاطعة ، ( وإنما تنقص الخليفة اليوم من الشرع الذي يقرر بالاجتهاد بلا إجماع ) ، وإن كان فيه زيادة حكم ، لكن تلك الزيادة على رأي المجتهدين إذ يكاشف بغلطهم لا على الرسول عليه السّلام ، إذ ( يزيد على الشرع الذي ) شرعه به محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وثبت عنه بطريق قطعي أما الذي ينقص واحد وزيادة بدله ؛ فلامتناع الغلط ( فيما شوفه نبينا عليه السّلام ) ، وفي طريق النقل أيضا ، وأما الذي بطريق الزيادة المحضة ؛ فلامتناع أن يكاشف التابع بأكثر مما يكاشف المتبوع المطلق بخلاف ما إذ ظهر بطريق ظني .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقد يظهر من الخليفة ما يخالف حديثا ما في الحكم فيخيّل أنّه من الاجتهاد ، وليس كذلك ، وإنّما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النّبيّ ؛ ولو ثبت لحكم به ، وإن كان الطّريق فيه العدل عن العدل فما هو معصوم من الوهم ولا من النّقل على المعنى ، فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم ، وكذلك يقع من عيسى عليه السّلام ، فإنّه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرّر فيبيّن برفعه صورة الحقّ المشروع الّذي كان عليه السّلام ، ولا سيّما إذا تعارضت أحكام الأئمّة في النّازلة الواحدة ، فنعلم قطعا أنّه لو نزل وحي لنزل بأحد الوجوه فذلك هو الحكم الإلهيّ ، وما عداه وإن قرّره الحقّ ؛ فهو شرع تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمّة واتّساع الحكم فيها ).
 
( فقد يظهر من الخليفة ) اليوم إذا كان مكاشفا يأخذ من معدن الرسول ( ما يخالف حديثا في الحكم ) المنصوص فيه فضلا عن الثابت بالقياس عليه ، ( فيتخيل أن ) أي : ظهور الخلاف عنه ( من الاجتهاد ) ، فيطعن عليه أو يقال : إنه رجح ظنيّا على آخر لترجحه عنده ، ( وليس كذلك ) أي : لا اجتهاد في مقابلة النص لا ترجيح لقياس الفرع على الأصل أصلا ، ( وإنما هذا الإمام ) الذي هو أجل من ألا يعرف أنه لاجتهاد مع النص ، وإلا ترجح للفرع على الأصل ، ( لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولم ثبت ) عنده خبر بطريق الكشف ، ولم يصح عند أهل الظاهر ( فحكم به ) ، فله أن يحكم بالخبر الضعيف ، ولا يحكم بالخبر الصحيح ، ( وإن كان الطريق فيه العدل عن العدل ) ؛ فإنه يمكن وقوع الغلط في خبره من جهة اللفظ والمعنى ،
 
( فما هو ) أي : العدل ( معصوم عن الوهم ) ، فربما يتوهم أنه سمع شيئا ، ولم يكن سمعه ، ( ولا ) معصوم ( عن النقل على المعنى ) ، فربما يظن للمسموع منه عليه السّلام معنى لم يكن له ، فيأتي له بعبارة من عنده ، ( فمثل هذا ) التغيير ، وإن امتنع وقوعه من المجتهدين ، غير أهل الكشف ( يقع من الخليفة ) المكاشف ، وإن امتنع تغيير آخر منه ، وإن وقع في كشفه ابتلاء ، لكن لا تلبيس عليه فيما ينقله عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم .
 
( وكذلك ) أي : مثل هذا التغيير الواقع عن الخليفة المجرد ( يقع عن عيسى عليه السّلام ) لا مثل ما وقع منه في حقّ موسى عليه السّلام قبل رفعه إلى السماء ، ( فإنه إذا نزل ) من السماء ، فغايته أنه ( يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرر ) عند جمهور العلماء بلا إجماع منهم ؛ لكونه غير صورة الحق في الواقع ، ( فيتبين برفعه ) ؛ لكونه نبيّا معلوم الصدق بالضرورة بخلاف سائر الخلفاء ؛ فإنه لا يتبين برفعهم ( صورة الحق المشروع الذي كان نبينا عليه السّلام عليه ) ، وإن كان ينقل عنه بطريق قطعي فيها واحدة ، وإن قلنا بتصويب المجتهدين ،
 
( ولا سيما إذا تعارضت أحكام الأئمة في النازلة الواحدة ) ، فإنه وإن صوب البعض فيه كل مجتهد فهو من حيث رفع الحرج عنه ومن عمل بقوله من مقلديه ، ( فنعلم قطعا أنه لو نزل وحي ) ، ونقل عندنا بطريق قطعي ( لنزل بأحد الوجوه ) المتقابلة لا بجميعها لامتناع اجتماعها .
( فذلك ) الوجه الذي قدر نزول الوحي به ( هو الحكم الإلهي ) الصواب الموجب لمن أصابه من المجتهدين أجرين ، ( وما عداه ) من وجه أو وجوه ، ( وإن ) وعد عليه الأجر ، وأسقط عن القائل به والعامل به الوزن ، فليس مما لو نزل الوحي لنزل به ، ( فهو شرع تقرير ) لما فيه من أمارة ظنية موجبة للفتوى والعمل ، وإنما ( قرر ) مع كونه خلاف صورة ( الحق ) ؛ ( لرفع الحرج عن هذه الأمة ) في تكليف الإجابة مع خفاء الأمارة ، وهو مرفوع بقوله تعالى :وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[ الحج : 78 ] ، ( واتساع الحكم فيها ) للمصالح المختلفة بحسب الأحوال والأزمنة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأمّا قوله عليه السّلام : "إذا بويع لخلفتين فاقتلوا الآخر منهما" ؛ فهذا في الخلافة الظّاهرة الّتي لها السّيف ، وإن اتّفقا فلابدّ من قتل أحدهما بخلاف الخلافة المعنويّة ؛ فإنّه لا قتل فيها ، وإنّما جاء القتل في الخلافة الظّاهرة ، وإن لم يكن لذلك الخليفة هذا المقام ، وهو خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن عدل ، فمن حكم الأصل الّذي به تخيّل وجود إلهين ،لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [ الأنبياء : 22 ] ، وإن اتّفقا فنحن نعلم أنّهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما ، فالنّافذ الحكم هو اللّه على الحقيقة ، والّذي لم ينفذ حكمه ليس بإله ) . رواه مسلم والبيهقي
 
ثم استشعر سؤالا بأن الكلام السابق يشعر بتجويز تعدد الخلفاء في زمان واحد ، وقد ورد الحديث بقتل واحد عند تعددها على أنه يشعر بأن كل خليفة أخذ عن اللّه العلم والحكم ، وهو خلاف الواقع ، ويلزمه تجويز قتل الأخذ عن اللّه والعلم والحكم ، وهو باطل بالضرورة ؟
 
فأجاب عن ذلك بقوله : ( وأما قوله عليه السّلام : « إذا بويع لخلفتين فاقتلوا الآخر منهما » ، فهذا في الخلافة الظاهرة ) ، وهي الرئاسة العامة القائمة بتنفيذ الأحكام الظاهرة ؛ لأن التعدد فيه مظنة للفساد إذ هي ( التي لها السيف ) ، والتعدد فيه على العموم موجب للمظنة المذكورة ، فيجب دفعها ،
وإن كانت شرّا متوهما بشرّ محقق في حق من حصل به التعدد وهو المتأخر ؛ لأنها لو وقعت كانت شرّا كثيرا ، وقتله شر يسير ، ودفع الشر الكثير بالشر اليسير خير كبير ،
وكذلك ( إن اتفقا ، فلابدّ من قتل أحدهما ) إقامة للمظنة مقام المظنون على ( ما ) هو ذات الشرع في الأمور التي لا تبسط ( بخلاف الخلافة المعنوية ) التي هي أخذ الشخص عن اللّه العلم والحكم ، ( فإنه لا قتل فيها ) ، وإن كان فيها تعدد في زمان واحدا ، إذ لا مظنة للفساد ( في ) هذا التعدد ، بل هو موجب لمزيد استنارة العالم واستقامة أحواله ، فإن كان فيهم ( من ) قام بالخلافة الظاهرة ؛ فلا يتصدى عدد منهم ؛ ذلك لأن هذا التعدد مظنة الفساد وهم عنها مبعدون .
 
( وليس ) كل خليفة عن اللّه آخذ عنه العلم والحكم ، ( وإنما ) هو ( الخليفة ) المعنوي ، ( والقتل في الخلافة الظاهرة ) ليس للخليفة عن اللّه الآخذ عنه العلم ، ( والحكم ) إنما القتل في الخلافة الظاهرة التي لا يلزم فيها أن يأخذ صاحبها العلم والحكم من اللّه ، وهو خليفة عنه ( إن لم يكن لذلك الخليفة هذا المقام ).
أي : مقام أخذ العلم والحكم عن اللّه بالكشف ، إذ يكفي فيه أن يقوم في العموم بحكمه ، وحينئذ لا يتحقق فيه ما هو سبب استنارة العالم ، واستقامة أحواله مع تحقق مظنة الفساد في تعدده ، وهو أي : الخليفة في الظاهر إذا لم يأخذ العلم والحكم عن اللّه ،
( فهو ) من هذا الوجه ( خليفة رسول اللّه ) وإن كان من وجه آخر خليفة اللّه ، وهو قيامه في العموم بحكمه ، لكن إن ( عدل ) ، وإلا فهو خليفة الشيطان والتعدد ، وإن جاز في الرسول ، فلا يجوز في اللّه ، وهو باعتبار الحكم في العموم خليفة اللّه ، فتعدده تخيل تعدد الآلهة الموجب لمظنة الفساد مع أنه من حيث هو خليفة الرسول يجوز أن ينقلب إلى خلافة الشيطان ، فرجح هذا الجانب لكونه الأصل سيما باعتبار السيف ؛ ولكونه الثابت الذي لا ينقلب .
 
( فمن حكم الأصل الذي تخيل به وجود إلهين ) أي : فالقتل في هذه الخلافة من مظنة الفساد التي بها الخلافة الشيطانية مع إيهام تعدد الآلهة بتعدد من يقوم بالحكم العام ، وهو مظنة الفساد كما قال تعالى :لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا[ الأنبياء : 22 ] .
باجتماع النقيضيين لو نفذ حكمهما المتناقضان ، أو ارتفاعهما لو لم ينفذ شيء منهما ، وهذا الفساد لازم ، ( وإن اتفقا فنحن نعلم أنهما لو اختلفا تقديرا ) لزم ذلك الحساب أن نفذ حكمهما المختلفان أو لم ينفذ شيء منهما ، وإلا ( لنفذ حكم أحدهما ) دون الآخر ؛ ( فالنّافذ الحكم ) على تقدير الاختلاف ،. " في نسخة : « فالنّافذ الحكم هو اللّه على الحقيقة ، والّذي لم ينفذ حكمه » . "
 
وإن نفذ في صورة الوفاق ( ليس بإله ) ، وقد فرض إلها هذا خلف ؛ وذلك لأن الإلهية عبارة عن استجماع الكمالات الحقيقية التي من جملتها نفاذ القدرة في الممكنات كلها ، فعدم نفوذ الحكم مع إمكانه في ذاته نقص مخل بإلهيته .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:16 am

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي 
الجزء الثالث
الفص الداودي
17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ومن هاهنا نعلم أنّ كلّ حكم ينفذ اليوم في العالم هو حكم اللّه عزّ وجل ، وإن خالف الحكم المقرّر في الظّاهر المسمّى شرعا إذ لا ينفذ حكم إلّا للّه في نفس الأمر ، لأنّ الأمر الواقع في العالم إنّما هو على حكم المشيئة الإلهيّة لا على حكم الشّرع المقرّر ، وإن كان تقريره من المشيئة ، ولذلك نفذ تقريره خاصّة ، وأنّ المشيئة ليس لها فيه إلّا التّقرير ، لا العمل بما جاء به ، فالمشيئة سلطانها عظيم ، ولهذا جعلها أبو طالب عرش الذّات ؛ لأنّها لذاتها تقتضي الحكم ، فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجا عن المشيئة ، فإنّ الأمر الإلهيّ إذا خولف هنا بالمسمّى معصية فليس إلّا الأمر بالواسطة لا الأمر التّكوينيّ ، فما خالف اللّه أحد قطّ في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة ؛ فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة ؛ فافهم ).
 
( ومن هنا )  أي : ومن وجوب نفاذ حكم الإله أذل عارض حكم غيره ( تعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم ؛ فإنه حكم اللّه ) ، وإن نسب إلى غيره في الظاهر ، أما الأسباب السماوية أو الحيوانات أو غيرها ، فإن تأثيراتها لكونها من العالم ليست لذواتها لإمكانها ، فلا يكون وجودها من ذواتها ، فكيف تكون تأثيراتها من ذواتها ؛
 
فلذا نقول : حكم الخليفة حكم اللّه ، فإذا تعدد واختلف حكمهما تحقيقا أو تقديرا تخيل ذلك تعدد الآلهة الموجب للفساد المنوط باختلاف الحكم سيما العموم بالسيف ،
 
( وإن خالف هذا الحكم النافذ الحكم المقرر ) أي : الذي قرره اللّه تعالى بترك الاعتراض عليه في الظاهر أي : خالفه ( في ) المفهوم ( الظاهر ) من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ذكر ذلك ؛ ليشير إلى أنه لا يخالفه بينهما في الحقيقة إذ لا تعارض بينهما الاختلاف متعلقهما على ما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى ، ( المسمى شرعا ) ، وسمى الخارج عنه خارجا عن حكم اللّه ، فإن الحكمين للّه تعالى جميعا ، والخارج إنما يخرج عن أحدهما ( إذ لا ينفذ حكم ) على تقدير أن يكون أحدهما للّه والآخر لغيره ( إلا للّه ) ، وإلا لزم عجزه تعالى ، وهو مناف لإلهيته .
 
قال القاضي عبد الجبار بن أحمد من المعتزلة : ما ألزمني أحد مثل ما ألزمني مجوسي ، قلت له : أسلم ، فقال : إن شاء اللّه ، قلت : قد شاء اللّه ، لكن شيطانك يمنعك ،
فقال : فأنا مع الشريك الأغلب ، ولا تناقض بي الحكمين ، ولا يلزم عجزه مع عدم نفوذ الحكم الشرعي لاختلاف متعلقهما ، فإن متعلق حكم المشيئة وقوع الأمر ، ومتعلق حكم الشرع وقوع الجزاء ، والعجز إنما يلزم فيه لو عجز عن إيقاع الجزاء عليه .
 
وإليه الإشارة بقوله : ( لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة الإلهية لا على حكم الشرع المقرر ) ؛ فإنه لوقوع الجزاء لا لوقوع الأمر بذاته ، بل إنما يقع إذا وقع بالمشيئة ، ( وإن كان تقريره من المشيئة ) ، ولكن التقرير غير الإيقاع وغير مستلزم له .
 
( ولذلك ) أي : لكون تقريره من المشيئة ( نفذ ) ، أي : لزم تقريره بحيث لا يعترض عليه ، ولولا أن المشيئة تعلقت بتقريره لم يتقرر ، وكما يتقرر أمر المشيئة إذا لم تتعلق المشيئة ( بتقريره خاصة ) دون وقوعه إذ ليس متعلق هذا الحكم الشرعي ، ولا لزم متعلق حكم المشيئة من هذا الحكم ولا عينه ، وذلك لما قلنا : ( أن المشيئة ليس لها فيه ) أي : في الحكم ( الشرعي ( إلا التقرير ) ، وإن كان متعلقها في الأصل وقوع الحكم .
 
كما أشار إليه بقوله : ( لا العمل بما جاء ) إذ تعلقها بالعمل الواقع غير تعلقها بالعمل بما جاء ( به ) الشرع ، وإذا نفذ حكم المشيئة مع عدم تقريره دون حكم الشرع مع تقريره .
( فالمشيئة سلطانها عظيم ) ، فلا يعارضها أمر آخر ؛ فلذلك لو عمل العامل مائة ألف سنة أعمال الملائكة والثقلين ، وكانت المشيئة إحباط أعماله نفذت دون حكم أعماله ، ولو عمل آخر مائة ألف سنة أعظم وجوه الكفر ، وأشد المعاصي ، وكانت المشيئة غفران ذنوبه نفذت دون حكم مساعيه ؛
( ولهذا ) أي : ولكون سلطانها عظيما ( جعلها الشيخ الإمام أبو طالب المكي  رحمه اللّه عرش الذات ) ، أي : محل استواء الأسماء الذاتية التي لا تتخلف آثارها بحال بخلاف سائر الأسماء ، فإنه يتخلف آثارهما بمعارضة أسماء أخر ؛ وذلك ( لأنها ) أي : المشيئة ( لذاتها تقتضي الحكم ) ، في سبب الأسماء الذاتية بخلاف حكم الشرع ؛
فإنه إنما يقرر بالمشيئة ، وكذا تعلق الثواب والعقاب عليها بالمشيئة ، فجاز فيها التخلف ، فلا تكون ذاتية ، وإذا كانت المشيئة مقتضية للحكم بالذات ، وما بالذات لا يزول بالغير ، ( فلا يقع في الوجود شيء ) من الأفعال والثواب والعقاب خارجا عن المشيئة ، ( ولا يرتفع ) عن الوجود شيء منها ( خارجا عن المشيئة ) ، ويجوز وقوعهما على خلاف الأمر الشرعي ؛ لأنه ليس من الأسماء الذاتية .
( فإن الأمر الإلهي الشرعي إذا خولف هنا ) أي : في محل اختلافه مع المشيئة ( المسمى معصية ) فعلا أو تركا فلا بعد في ذلك ، ( فليس ) الأمر الشرعي ( إلا الأمر بالواسطة ) ، أي : بواسطة أمر المشيئة ، فإنها اقتضت الأمر الشرعي فآثرت ،
واللاحق فإذا عارض السابق كان الحكم للسابق ؛ وذلك لأنّا نقول : ( لا ) يكون ( الأمر ) الشرعي الأثر ( التكويني ) ، وإن كان الأمر التكويني عامّا مطلقا بالنسبة إلى تقرير الأمر الشرعي ، فليس عامّا بالنسبة إلى وقوعه من حيث هو مقتضى الأمر الشرعي ، وإن كان عامّا إلى كل واقع ، لكن لأمر حيث كونه شرعها بل بكونه متعلق المشيئة ، وإذا كان الأمران للّه والمخالفة منفية بالكلية ، إنما يتصور بمخالفة أمره من كلّ وجه.
 
( فما خالف اللّه أحد في جميع ما يفعله ) من طاعة ومعصية ، ( من حيث أمر المشيئة ) ، ولكن اتفق الكل على أن ترك المأمور ، وفعل المنهي مخالفة له ، ( فوقعت المخالفة من حيث أمر ) الرسالة ، وهو الأمر الشرعي من حيث أن تقرره بالمشيئة هو ووقوع الثواب والعقاب على صاحبه أيضا بها ، فهو من جميع وجوهه ( بالواسطة ) ، فالمخالفة فيه ليست تعجيزا للحق إذا وافق فيما هو أصله ؛ ( فافهم ) لئلا يتخذ عندك الأمران ولا حكمهما .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنّما يتوجّه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر على يديه ، فيستحيل أن لا يكون ؛ ولكن في هذا المحلّ الخاصّ ، فوقتا يسمّى به مخالفة لأمر اللّه ، ووقتا يسمّى موافقة وطاعة لأمر اللّه ، ويتبعه لسان الحمد والذّمّ على حسب ما يكون ، ولمّا كان الأمر في نفسه على ما قرّرناه لذلك كان مآل الخلق إلى السّعادة على اختلاف أنواعها ، فعبّر عن هذا المقام بأنّ الرّحمة وسعت كلّ شيء ، وأنّها سبقت الغضب الإلهيّ ، والسّابق متقدّم ، فإذا لحقه هذا الّذي حكم عليه المتأخّر حكم عليه المتقدّم فنالته الرّحمة إذ لم يكن غيرها سبق ، فهذا معنى « سبقت رحمته غضبه » ، لتحكم على ما وصل إليها ؛ فإنّها في الغاية وقفت ، والكلّ سالك إلى الغاية ، فلا بدّ من الوصول إليها ، فلابدّ من الوصول إلى الرّحمة ، ومفارقة الغضب ، فيكون الحكم لها في كلّ واصل إليها بحسب ما تعطيه حال الواصل إليها).  رواه ابن حبان والبيهقي
 
ثم أشار إلى أنه كيف تقع المخالفة في أمر المشيئة ، ولا شكّ أنه إنما يتصور في الأمر المقدور عليه للعبد ، لكنه غير مقدور للعبد فلا تكليف فيه فلا يخالفه ؛ فقال : ( وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل ) ، إذ بها ترجيح أحد جانبي الفعل والترك الموجب حصول الراجح منهما ، و ( لا ) يكون تكليفا ( على من ظهر على يديه ) ، إذ ليس في وسعه تركه ؛ لأن المشيئة موجبة بالذات ، ( فيستحيل ألا يكون ) ، وما يستحيل عدمه يجب وجوده ، والواجب خارج عن حدّ التكليف كالممتنع .
( ولكن ) هذا الفعل الذي توجهت المشيئة إلى إنجازه إنما يتحقق ( في هذا المحل الخاص ) ، فيتأثر به فيحصل له منه صفة منيرة أو مظلمة باعتبار قصده فيه ، وهو باعتبار ذلك مكلف مختار ، ( فوقتا يسمى به ) أي : بالنظر إلى المحل وقصده وما تأثر به ( مخالفة لأمر اللّه ) الشرعي ، ( ووقتا يسمى موافقة ) ، وهو عين ما يكون ( طاعة لموافقته الأمر الشرعي ) مع أمر المشيئة أيضا ، ( ويتبعه )
أي : الفعل باعتبار المحل الصادر هو عن قصده ، ولا يتبع أمر المشيئة ؛ لأنه ليس إلى العبد أصلا ، بل هو فيه تابع للحق بالضرورة ، فلا يحمد باعتباره ، ولا يذم الحمد فيما وقع موافقا للأمرين ؛ لإفادته إياه أثرا نوريّا وسعادة ، والذم فيما وقع مخالفا للأمر الشرعي ، وإن وافق أمر المشيئة ؛ لإفادته إياه أثرا ظلمانيّا وشقاوة .
 
ولكن يكون ( هذا الحمد والذم على حسب ما يكون ) الفعل ، فالحمد على الواجب ليس كالحمد على المندوب ، والذم على الحرام ليس كالذم على المكروه ، وإنما ذكره ؛ ليشير إلى أن التفاوت في الأفعال إنما يكون بحسب هذا الاعتبار لا بحسب المشيئة ، وإلا فلا تفاوت في المشيئة كما قال تعالى :ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ[ الملك : 3 ] ؛ ولذا لا يذم اللّه تعالى على خلق القبائح إذ لا قبح بالنسبة إليه .
 
ثم أشار إلى ذلك الكمال في جميع تلك الأفعال الذي به انتسابها إلى اللّه تعالى بأنها من تلك الجهة مقيدة للسعادة بوجه ما للعامل ، وإن كانت مفيدة للشقاوة بوجه آخر .
فقال : ( ولما كان الأمر ) أي : أمر الحق تعالى ( على ما قررناه ) من كونه أمر المشيئة وأمر التكليف ، وأنه لا بدّ للعبد في أفعاله كلها وموافقة أحدهما ، والموافقة موجبة للكمال كانت موجبة لكماله من وجه ؛ ( لذلك ) أي : لكون فعل كل موجب للكمال في الجملة ، ( كان مآل الخلق إلى السعادة ) التي هي الكمال المطلوب من اتحادهم ( على اختلاف أنواعها ) ، فنوع منها تنتفع به الروح والقلب والجسم ، وسائر ما يتعلق بها ، ونوع يختص نفعه بالأعيان الثابتة ، وهي سعادة القرب من الحق في التجلي الجلالي ، تلتذ بها الأعيان الثابتة دون الأرواح والقلوب والنفوس والأركان .
 
( فعبّر عن هذا المقام ) أي : مقام حصول نوع من السعادة لكل واحد ، وإن كان مع نقصها أنواع من الشقاوة بحيث يضمحل هذا النوع بالنظر إليها ( بأن الرحمة ) التي هي إفاضة الخير ، ( وسعت كل شيء ) حتى المغضوب عليه ، إذ يحصل له سعادة القرب من اللّه عند رجوعه إلى اللّه ، ولكن مع تنكس الرأس ، وعود الحجاب الظلماني عليه الموجب للعذاب ، ( وأنها سبقت الغضب الإلهي ) ، فلا بدّ للمغضوب عليه أن يصير محكوما عليه بها إذ وصل إلى غايته ، وذلك أن ( السابق ) في الطريق ( متقدم ) على اللاحق فيه ، بحيث يكون أقرب إلى الغاية أو واقفا فيها ، ( فإذا لحقه هذا الذي ) كان ( يحكم عليه المتأخر ) في أثناء الطريق ، فإنه يصير حينئذ بحيث ( يحكم عليه المتقدم ) ، إذ الحكم على كل شيء للأقرب منه دون الأبعد في طريق الرجوع إلى اللّه تعالى الرحمة متقدمة والغضب متأخر .
 
فمن كان الحاكم عليه الغضب في أثناء الطريق يصير الحاكم عليه الرحمة في الغاية ، ( فنالته الرحمة ) لا محالة إلا أن نفرض سبق شيء ثالث عليها ، لكنه باطل ( إذ لم يكن غيرها سبق ) ، وإلا لكان أولى بالذكر ، لكن لم يرد ذلك في الأخبار أصلا مع أنه أجل مما ذكر ، فلا يجوز للكمّل ترك ذكره مع ذكر الأدنى منه ،
( فهذا معنى ) ما قيل : « سبقت رحمته غضبه »  ، لا ما يتوهم من غلبة الرحمة على الغضب لاستلزامه كثرة المرحومين لكنه باطل لما ورد في الحديث من أنه : « يبعث إلى النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون » . رواه البخاري ومسلم
 
وليس هذا السبق كسبق إعلام الطريق بعضها على بعض لا يؤثر في السائرين أصلا إذ لا معنى له هاهنا ، فإنما سبقت ؛ ( لتحكم على ما وصل إليها ) ، كما حكم المتأخر على من وصل إليه في أثناء الطريق ، وليس لها رجوع عن الغاية بعد سبقها إليها ، حتى يصح أن يقال : لا يحكم على كل من وصل إلى الغاية ؛
( فإنها في الغاية وقفت ) ، ولا يحبس أحد في أثناء الطريق بحيث لا يصل إلى الغاية ، فلا تحكم عليها الرحمة التي فيها بل ( الكل سالك ) بحيث ( إلى الغاية ) التي فيها ، ( فلابدّ ) للكلّ ( من الوصول إليها ) ، فإنه لا بدّ للحركة من المنتهى ، ( فلابدّ من الوصول إلى الرحمة ) ؛
لأن الوصول إلى الغاية مستلزم للوصول إليها ، ( ومفارقة الغضب ) الذي في أثناء الطريق كما لا بدّ للواصل إلى منتهى الحركة من مفارقة وسط الطريق ، والحكم للموصول إليه دون المفارق .
( فيكون الحكم لها ) لكن هذا الحكم ( بحسبما يعطيه حال الواصل إليها ) ، فإن اقتضت حالته الوصول إلى الأسماء الجمالية يكون حكم الرحمة عليه أن تنتفع بها الأعيان الثابتة ، والأرواح ، والقلوب ، والنفوس ، والأركان ، فيكون مرحوما مفارقا للغضب من كل وجه ،
وإن اقتضت حالته الوصول إلى الأسماء الجلالية يكون حكم الرحمة عليها أن تنتفع بها الأعيان الثابتة لا غير ، فيكون مرحوما لمفارقة غضب البعد المطلق مع حصول البعد من تجلي الأسماء الجمالية ، وهذه الرحمة أيضا مفيدة لانتفاع الأرواح والقلوب والنفوس والأجسام في حقّ المحب ، لكن هذا محجوب لا يلتذ بها تكن عدم التلذذ بالخلق لا يخل بحلاوته في نفسه ، فكذلك هذه الرحمة والقرب .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (
فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا ... وإن لم يكن فهم فيأخذه عنّا
فما ثمّ إلّا ما ذكرناه فاعتمد .... عليه وكن بالحال فيه كما كنّا
فمنه إلينا ما تلونا عليكم  .... ومنّا إليكم ما وهبناكم منّا
وأمّا تليين الحديد فقلوب قاسية يليّنها الزّجر والوعيد تليين النّار الحديد ،
وإنّما الصّعب قلوب أشدّ قساوة من الحجارة ، فإنّ الحجارة تكسّرها وتكلّسها النّار ولا تليّنها : وما ألان له الحديد إلّا لعمل الدّروع الواقية تنبيها من اللّه :
أي لا يتّقى الشّيء إلّا بنفسه ، فإنّ الدّرع يتّقى بها السّنان والسّيف والسّكّين والنّصل ، فاتّقيت الحديد بالحديد ، فجاء الشّرع المحمّديّ بأعوذ بك منك ، فافهم ، فهذا روح تليين الحديد فهو المنتقم الرّحيم ، واللّه الموفّق ).
 
ولصعوبة فهم هذا الكلام على العوام قال : ( فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا ) بالذوق المفيد للعلم الضروري ، ( وإن لم يكن ) لأحد ( فهم فيأخذه ) تقليدا ( عنّا ) ، ولا ينبغي له أن ينكر علينا ما لم يفهم منا ، وليس لنا أن نذكر له غير ما ذكرنا عند إنكاره ، ( فما ثم ) أي : في الواقع ( إلا ما ذكرناه ) من وجوب نوع من الرحمة في الغاية لكل واحد ، وإن لم ينتفع بعضهم باعتبار غير الثابتة به ، ( فاعتمد عليه ) لا على ما قيل باختصاص الرحمة بطائفة دون أخرى من كل وجه ، ( وكن بالحال ) أي : بالذوق ( فيه ) أي : في عموم الرحمة إن لم يدركها في البعض بالحس أو العقل ، ( كما كنا ) تقليدا لنا إن لم يستقل ، فإنه ليس على العامة حرج في تقليد الكامل قبل أن يصل إلى حال التحقيق .
 
ثم أشار إلى وجه تلذذ المحب بتلك الرحمة ، وإن رآها المحجوب عين العذاب ، بقوله :
( فمنه إلينا ما تلونا عليكم ) من كون الرحمة في صورة العذاب ، إذ فيه رؤية المحبوب والقرب منه ، لكن هذا لمن أوتي المحبة ، وليس ذلك إلى اختيار المعذب حتى يأخذ به ، ويدفع عنه وجد العذاب كما قال ، ( وليس إليكم ) أي : إلى اختياركم ( ما وهبناكم منا ) من المحبة حتى تلذذوا بالعذاب لاختياركم ، بل يختص بمن أعطاه الحق محبته كخزنة جهنم ، وما فيها من الحيات والعقارب ، ومنه تقول النار للمؤمن : "جز يا مؤمن ، فإن نورك أطفأ لهبي ". رواه الطبراني في الكبير والحكيم الترمذي.
 
[ومنه دخول نبينا عليه السّلام في النار ؛ لإخراج أهلها بالشفاعة " رواه البخاري  ومسلم ومما نقل عن بعض العارفين أنه لو أدخل النار لا تبتغي منه فرحا . ]
""أضاف الجامع :
"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج بالشفاعة من النار قال: نعم" . رواه البخاري
" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يخرج قوما من النار بالشفاعة؟ قالنعم ".رواه مسلم
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج الله تعالى قوما من النار بعدما امتحشوا فيها، وصاروا فحما، فيلقون في نهر على باب الجنة، يسمى نهر الحياة، فينبتون فيها كما تنبت الحبة في حميل السيل، أو كما تنبت الثعارير، فيدخلون الجنة، فيقال: هؤلاء عتقاء الله عز وجل من النار ". رواه ابن حجر العسقلاني في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية والمطالب العالية على رواية البخاري . ""
 
ثم شرع في بقية النعم التي طولب آل داود بالشكر عليها ، وهي النعمة التي بها تمام أمر الخلافة ، وهي مشيرة إلى كون الرحمة في عين النعمة ، وإلى المقصد الأعلى من النبوة والولاية ،
 
فقال : ( وأما تليين الحديد ) ، فإنما كان نعمة على آل داود عليه السّلام حتى طولبوا بالشكر عليها باعتبار ما يشير هذا التليين في حقهم في أمر بدايتهم ونهايتهم .
( فقلوب قاسية ) أي : فالحديد في حقّهم إشارة إلى قلوبهم القاسية نوع قسوة تقبل معها التليين ، وتليين الحديد إشارة إلى تليين القلوب لقبول الكمالات العلوية ، ولا بدّ منه في الابتداء لتتأثر بما يصدر من معدن النبوة والولاية من الآثار الروحانية ( تلينها الزجر ) عن الأمور التي قست عليها ، فاتصفت بالرذائل ، وتخلقت بها ، ( والوعيد ) المؤكد له في حقّ العامة ( تليين النار الحديد ) ؛ لإشعالهما نار الخوف والحزن فيها ، فأثرت هذه النار فيها إذا كانت في القساوة كالحديد قابلة للتليين لا كالحجارة أو أشد منها ، وإليه الإشارة بقوله :
( وإنما الصعب قلوب ) أي : المتعذر تليين قلوب هي ( أشد قساوة من الحجارة ) ، فإنها لا تلين بالزجر والوعيد ، كما لا تلين الحجارة بالنار ، وإن كانت النار تؤثر فيها بوجه آخر .
 
( فإن الحجارة تكسرها ، وتكلسها النار ، ولا تلينها ) ، فكذا قلوب المنافقين لم تتأثر بالزجر والوعيد الأخروي ، وقد تأثرت من خوف الأمر الدنيوي ، والتي كانت أشد منها وهي قلوب الكفار ، ولم تتأثر بالتكسر والتكلس أيضا فضلا عن التليين ، فهذه هي الفائدة في البداية ، وأما الفائدة في النهاية ، فهي المشار إليها بقوله : ( وما ألان له الحديد إلا لعمل الدروع الواقية ) عن وصول الحديد المتصور بصورة الأسلحة ؛ ( تنبيها ) لآله ( من اللّه ) الذي هو الجامع بين الرحمة والانتقام ، وسائر الأسماء المتضادة أي : لا يتقي الشيء إلا بنفسه ؛ ليعلموا أنه لا يتقي اللّه إلا باللّه .
 
(فإن الدروع يتقى بها السنان ، والسيف ، والسكين ، والنصل ) ، (فاتقيت ) في جميع هذه الصور المفيدة للاستقراء التام ( الحديد بالحديد ) ، فلا يضرنا فوات صورة تليين الحديد عند حصول تليين القلوب مع التصريح بالمقصود من هذا التليين ، ( فجاء الشرع المحمدي أعوذ بك منك ) ، وهو أصرح في اتقاء اللّه باللّه ، وهذا التعوذ به منه ( روح تليين الحديد ) لا يضرنا فوات صورته عند حصوله لنا أكمل مما حصل لهم ، وقد حصل هذا التليين لأكثر القلوب من هذه الأمة ، وهو المقصود من إظهار المعجزات والكرامات ، سيما إذا كان المقصد الأقصى يحصل لنا أكمل مما حصل لهم ، وإذا كان هو المقصود منه ؛ ( فهو المنتقم الرحيم ) ، وكما اجتمعت الصفتان فيه فلا يبعد اجتماعهما في عذابه ، كما لا يبعد اجتماعهما فيما أنعم به على الكفار في الدنيا ، ( واللّه الموفق ) لاستخراج هذه الأسرار ، والتحقق بهذا المقام .
 
ولما فرغ عن بيان الحكمة الوجودية المشتملة على بيان الكمالات الوجودية التي لا تتم إلا عند كمال النفس الإنسانية باكتسابها من الروح والبدن جميعا عقبها بالحكمة النفسية ؛
فقال : فص الحكمة النفسية في الكلمة اليونسية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالأحد يناير 19, 2020 6:22 pm

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص اليونسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفص اليونسي
18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية الجزء الأول
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بالنفس الإنسانية من حيث توسطها بين الروح والجسم ؛ لاكتساب الكمالات من الجانبين إلى أن يصير صورة كاملة للحق الجامع ، فيتم تدبيرها بالحق لبدنها ، وبدن من يناسبها ذلك العلم بزينته ، وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى يونس عليه السّلام ، حيث تم تدبير نفسه لبدنها حتى حفظته في بطن الحوت إلى يوم يبعثون ؛ وذلك لأمانه عن التلف ؛ لأنه حرم على الأرض أجساد الأنبياء ، وقد سرت أنوارها إلى قومه فآمنوا ، فقبل إيمانهم بعد شهود أمارة العذاب ، ورفع عنهم بعد نزوله ، ثم لم يزل يدبرهم ، وهم مائتا ألف أو يزيدون .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أنّ هذه النّشأة الإنسانيّة بكمالها روحا وجسما ونفسا خلقها اللّه على صورته ، فلا يتولّى حلّ نظامها إلّا من خلقها ، إمّا بيده وليس إلّا ذلك أو بأمره ، ومن تولّاها بغير أمر اللّه ؛ فقد ظلم نفسه وتعدّى حدّ اللّه فيها وسعى في خراب ما أمره اللّه بعمارته ، واعلم أنّ الشّفقة على عباد اللّه أحقّ بالرّعاية من الغيرة في اللّه .
أراد داود عليه السّلام بنيان البيت المقدس فبناه مرارا، فكلّما فرغ منه تهدّم، فشكا ذلك إلى اللّه تعالى فأوحى اللّه تعالى إليه : إنّ بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدّماء ، فقال داود : يا ربّ ألم يكن ذلك في سبيلك ؟ قال : بلى ، ولكنّهم أليسوا عبادي ؟
فقال : يا ربّ فأجعل بنيانه على يدي من هو منّي فأوحى اللّه تعالى إليه أنّ ابنك سليمان يبنيه ؛ فالغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النّشأة الإنسانيّة ، وأنّ إقامتها أولى من هدمها ، ألا ترى عدوّ الدّين قد فرض اللّه في حقّهم الجزية والصّلح إبقاء عليهم ، وقال :وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[ الأنفال : 61 ] ) .
 
( اعلم أن هذه النشأة الإنسانية ) فيه إشارة إلى أن حدوثها لا ينافي كونها صورة كاملة للحق الجامع ( بكمالها ) أي : باعتبار كمال مراتبها لقبول الصورة الكاملة للحق الجامع (روحا وجسما ونفسا ) ، فإنها في هذه النشأة أكمل منها في غيرها باعتبار المرآتية خلقها اللّه على صورته الجامعة للتنزيه ، والحياة والعلم ، والإرادة ، والقدرة ، والسمع والبصر والكلام ، والظهور بذلك فيها بأتم الوجوه ، والمراد بالصورة المعنوية
كما يقال : صورة المسألة كذا ، وإذا كان ( خلقها على صورته ) ، ( فلا ) يجوز أن ( يتولى حل نظامها ) الذي به كمال مراتبها ( إلا من خلقها ) ، فإن له أن يتولى حله ( إما بيده ) أي : قدرته ، وكيف لا يكون لها حله ، ( وليس ) من خلقها ( إلا ذلك ) ، أي : يده (أو) من يحله (بأمره).
 
أي :  تجويزه ، فإن يد المأمور كيد الأمر عند صفاء المرآتية ، وهو أمر خفي لا يعلمه إلا هو ، فلا يتعاطاه إلا هو أو مأموره ، لكنه مأموره ، فلا يفعل ذلك عند مظنته عن العجز عن التحقيق ،
( ومن تولاها ) أي : حل نظامها بحذف المضاف إلى الضمير ( بغير أمر اللّه ) أي : تجويزه ، ( فقد ظلم نفسه ) بأبطال مرآتيتها للحق العدل الحكيم ؛ وذلك لأنه ( تعدى حد اللّه فيها ) ، وهو ألا يقتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض من حرب المؤمنين ، أو ردة ، أو زنا بإحصان أو نحوها ، فلم يكن مظهر الاسم العدل .
 
قال رضي الله عنه :  ( وسعى في خرابها بما أمره اللّه بعمارها ) بالإعانة على الطاعة ، والعلوم المفيدة له كما لا تتم مرآتيته لظهور الحق فيه بصورة كاملة ؛ ولذلك عوتب يونس عليه السّلام إذ ذهب مغاضبا على عدم نزول العذاب عليهم ، وهو إذا كان بدعائه ينزل منزلة قبلهم ، فإذا كان بغير أمر اللّه فقد ظلم نفسه ؛ ولذلك قال :إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين َ[  الأنبياء : 87 ] ، وقيل في حقّه :فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ[ الصافات : 142 ] ،
وهذا الظلم وإن لم يكن معصية في حقّه لعصمته ، فلا شكّ أنه ترك الأولى ،وإليه الإشارة بقوله:
قال رضي الله عنه :  ( واعلم أن الشفقة على عباد اللّه ) أي : الذين يحتمل كونهم عابد به بحيث تكمل مرآتيتهم له ( الحق بالرعاية من الغيرة في اللّه ) الموجبة لإهلاكهم عند تعارض مظنتهما من غير ترجيح بخلاف ما إذا كانت مظنة الفساد الكثير ظاهرة جيدا ؛
وذلك لأن الغيرة إنما اعتبرت إبقاء لهؤلاء العابدين للحق ؛ لئلا تبطل مرآتيتهم ، وقد بطلت مرآتية من أمر اللّه تعالى بالغيرة عليهم ظنّا أو يقينا ، لكن إذا ضعف هذا الظن ، فالشفقة أولى بالرعاية عسى أن يعودوا مرآيا كاملة للحق .


واستشهد عليه بقصة داود عليه السّلام الذي ليس من شأنه إبطال مرآيا الحق بغير موجبة .
فقال رضي الله عنه :  : ( أراد داود عليه السّلام بنيان ) المسجد الأقصى من ( البيت المقدس فبناه مرارا ، فكلّما فرغ منه تهدّم ، فشكا ذلك إلى اللّه تعالى فأوحى اللّه تعالى إليه : إنّ بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدّماء ») ؛ لأن من سفكها ربما هدم بنيان من توقعت منه كمال المرآتية لظهوري فيه بالعبادة ، فهدمت أنا ما بنيت أنت للعبادة لهدمك ما بنيت أنا للعبادة ،
 
قال رضي الله عنه :  ( فقال داود : يا رب ألم يكن ذلك في سبيلك ) ، فالهدم إنما وقع على بنيان من لا يعبدك في الحال ؛ لئلا يهدموا بنيان من يعبدك في الحال إما بالقتل أو بالضلال ، ( فقال : بلى ) لكنه بمجرد مظنة الفساد من غير تحقق ذلك منهم ، ( ولكنهم أليسوا عبادي ؟ ) ،
 
فلعلهم لو تزكيهم ربما رجعوا إلى عبادتي ، وكملت مرآتيتهم ، فلم يكن ينبغي لك أن تسفك دماءهم بغير تحقق فساد مرآتيتهم بالكلية ، وإفساد من كملت مرآتيته مع أن لك قدرة على تحصيل العلم بذلك بنبوتك ، بخلاف من لا يقدر على اليقين في ذلك مع عدم ضرر الفساد ، وعمومه لو وقع فله أن يكتفي بمظنة الفساد دونك ؛
قال رضي الله عنه :  ( فقال : يا رب ! فاجعل بنيانه على يدي من هو مني ) ؛ لأنه لما كان من كسبي كان عمله من عملي بوجه من الوجوه .
وقد ورد : « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة : صدقة جارية ، وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له » . رواه الترمذي وابن حبان وابن خزيمة.
 
( فأوحى اللّه إليه أن ابنك سليمان ) الذي هو أكمل أبنائك ( يبينه ) ، فيحصل لك ثواب أكمل عام من أولادك ، وهو وإن سفك الدماء فعله لم يسفك دم أحد بيده ، فإن سفك فلم يسفك إلا بالوحي الخاص الإلهي في حقّه دون العام ، كفعل داود عليه السّلام ، ولعل من قتله نبينا عليه السّلام فإنما قتل بالوحي الخاص فيه أو بما تغرس فيه من فساد مرآتيته أو إفساده المرايا الكاملة يقينا ، ( فالغرض من هذه الحكاية ) ليس إشارة إلى منع الجهاد ، بل ( مراعاة هذه النشأة الإنسانية ) ما لم يترجح مظنة الفساد منها ، وذلك ( أن إقامتها أولى من هدمها ) فيما اجتمع فيه موجب الشفقة مع موجب الغيرة لرجحان الشفقة حينئذ ؛ لأنها من الرحمة السابقة .
 
واستشهد على ذلك بأمثلة من الشرع ، فقال : ( ألا ترى عدو الدين ) مع ما يتوقع منهم إفساد الأديان لو لم يقاتلوا ( قد فرض ) أي : أمر ( اللّه في حقهم الجزية والصلح إبقاء عليهم ) ؛ لعلهم إذا عسر عليهم احتمال الجزية مع ما فيها من الذلة ، وقد زال فسادهم بالصلح يرجعون إلى الحق ، وقال :"وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ" أي : للصلح ،فَاجْنَحْ لَها ؛لعلهم كما رجعوا عن العداوة يرجعون إلى الحق ، وفي ذلك صلاحهم ،وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ،فدفع ما يتوهم فيهم من الإفساد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا ترى من وجب عليه القصاص كيف شرّع لوليّ الدّم أخذ الفدية أو العفو ؟ فإن أبى فحينئذ يقتل ؟
ألا تراه سبحانه إذا كان أولياء الدّم جماعة فرضي واحد بالدّية أو عفاه ، وباقي الأولياء لا يريدون إلّا القتل ، فكيف يراعى من عفا ويرجّح على من لم يعف فلا يقتل قصاصا ؟
ألا تراه عليه السّلام يقول في صاحب النسعة « إن قتله كان مثله » ؟ ) .


ثم أشار إلى أنه لو تحقق من واحد إفساد لو توقع منه في المستقبل الصلاح لم تترجح الغيرة في حقّه ؛ فقال : ( ألا ترى من وجب عليه القصاص كيف شرع ) ، أي : جوز ( لولي الدم أخذ الفدية أو العفو ؟ ) ، فلم يرجح فيه الغيرة بل رجح الفدية عليها والعفو عليهما ،
( فإن أبى ) عن الأمرين جميعا ( فحينئذ يقتل ) ؛ لأنه لما تحقق منه الإفساد مرة ، ولم يكن له زاجر تأكدت مظنة الإفساد في حقّه وحق غيره أيضا ، فيشبه الإفساد العام الذي شرع لأجله الجهاد .
ثم أشار إلى ما هو آكد في ترجيح الشفقة على الغيرة ، وهو ترك القصاص لا عفو ، ولا فدية يختارها الولي ابتداء ، بل غاية ما في الباب أن له أخذها عند الناس عن القصاص ،
فقال : ( ألا تراه سبحانه ) فيه إشارة إلى أنه عزّ وجل منزه عن ظلم الولي بمنع القصاص ، بل أنه يقدر لعدم تجزي حياة الجاني ، والمفعول الباقي ما يذكر بعد من قوله : كيف يراعي ربه بتعلق قوله : ( إذا كان أولياء الدم جماعة فرضي واحد ) ، ولو صاحب أقل الأنصبة بالدية أو عفا ، وباقي الأولياء ، وإن كانوا أجلة الأنصبة ، ( لا يريدون إلا القتل ) قصاصا ( كيف يراعي ) جانب ( من عفا فنرجحه على من لم يعف ، فلا يقتل قصاصا ) مع وجوبه في حق الأكثر عددا ، والأجل نصيبا مع أن القليل اليسير كالعدم في أكثر الأحكام .
ثم أشار إلى أن ترجيح الغيرة على الشفقة في موضع تساوت فيه مظنتاهما غير الإفساد ، فقال : ( ألا تراه عليه السّلام يقول في صاحب النسعة ) حبل عظيم كالحزام ،
وهو ما روي : « أن رجلا قتل في عهده عليه السّلام ، فوجد وليه نسعته في يد شخص ، فأراد قتله ، فقال عليه السّلام : ( إن قتله كان مثله ) ». رواه أبو داود والطبراني في الكبير .
أي : مثل قتل صاحبك ظلما ، إذ لم يترجح في حقه مظنة الجناية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا تراه تعالى يقول :وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها[ الشورى : 40 ] ، فجعل القصاص سيّئة ، أي يسوء ذلك الفعل مع كونه مشروعا ،فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [ الشورى : 40 ] ؛ لأنّه على صورته ، فمن عفا عنه ولم يقتله ، فأجره على من هو على صورته ؛ لأنّه أحقّ به إذ أنشأه له ، وما ظهر بالاسم الظّاهر إلّا بوجوده فمن راعاه إنّما يراعي الحقّ وما يذمّ الإنسان لعينه وإنّما يذمّ الفعل منه ، والفعل ليس عينه ، وكلامنا في عينه ، ولا فعل إلّا للّه ؛ ومع هذا ذمّ منها ما ذمّ وحمد ما حمد ، ولسان الذّمّ على جهة الغرض مذموم عند اللّه تعالى ، فلا مذموم إلا ما ذمّه الشّرع ؛ فإن ذمّ الشّرع لحكمة يعلمها اللّه أو من أعلمه اللّه كما شرع القصاص للمصلحة إبقاء لهذا النّوع وإرداعا للمتعدّي حدود اللّه فيهوَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ البقرة : 179 ] وهم أهل لبّ الشيء الذّين عثروا على سرّ النّواميس الإلهيّة والحكميّة ) .
 
ثم أشار إلى أن ترجيح الغيرة على الشفقة فيما لا يعم فيه الإفساد يشبه السيئة القبيحة مع حسنه في ذاته ؛ فقال : ( ألا تراه تعالى يقول :وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ)
أي : قتل قبيح( سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) أي : قتل يشبهه في أن تركه أولى من فعله ، فجعل القصاص سيئة، أي : مسمى بها مع أنه لا قبح فيه ، فلابدّ من تأويله ،
 ( أي : يسوء ذلك الفعل ) بالنظر إلى العفو ، وأخذ الفدية ( مع كونه ) بالنظر إلى نفسه ( مشروعا ) لا قبح فيه إذ ليس بمكروه ولا محرم ، لكنه يشبه المكروه الذي تركه أولى من فعله ، فسمي باسمه مجازا .
 
ثم أشار إلى ما هو الأولى ، فقال :( "فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ" ) بترك العداوة معه من كل وجه ("فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ")، ولم يذكر لمن اقتص أجرا وإن فعل مشروعا ، فكان العفو أولى منه ، وإنما كان أجر العفو على اللّه ؛ ( لأنه ) أي : الجاني المعفو عنه ( على صورته ) المعنوية التي ظهر بها في عينه الثابتة عند إشراق نوره عليها ، ( فمن عفا عنه ) ، وإن لم يقصد بذلك العفو عن صورة الحق ، ( ولم يقتله ) بعد العفو ، فإنه مبطل لأجر العفو موجب لوزر آخر ، ( فأجره على من هو ) أي : الجاني ( على صورته ) ، وإن كان الأجر بحسب القصد والنية ؛
( لأنه ) أي : العفو ( أحق ) أن يلحق ( به ) أي : بمن هو على صورته ، ( إذ أنشأه ) أي :
الجاني له ، أي : لكونه على صورته ، وما فعل بشيء فعل بما لأجله خلق ؛
وذلك لأنه ( ما ظهر بالاسم الظاهر إلا بوجوده ) ، إذ ظهوره قبله في العالمين كالظهور بالنسبة إليه ، وإن كان هذا مظهرا قاصرا بالنسبة إلى سائر المظاهر الكاملة الإنسانية ، فلا شكّ في كماله بالنسبة إلى غيرها من العالم سوى الملائكة وصالحي الجن ، وليسوا مظاهر الاسم الظاهر.
 
( فمن راعاه ) أي : الجاني ، ( فإنما يراعى الحق ) ، وإن لم يقصد مراعاته ترجع إلى قصد مراعاة الحق سيما إذا كان في قلبه أنه يعفو للّه ، كيف وقد خلق ذلك بخلاف عبادة الأصنام ، فإنها وإن رجعت إلى عبادة اللّه من وجه فلا يؤجر عليها ؛ لأنها لم تخلق لأن تعبد ،
وإن كانت من جملة مراتب الحق التي تقتضي كماله أن يعبد فيها ، لكن إنما يقتضى ذلك من المحجوبين عن المرتبة الجامعة ، فهي لم تخلق للعبادة بالنسبة إلى الكمّل الذين لا عبرة بغيرهم معهم على أن قصده عبادتها إفادة ظلمة في قلبه موجبة للحجاب عنه ،
وهذا ليس كذلك سيما إذا كان قصد العفو للّه مع أنه إنما يعبد المظهر لرؤيته كمال الظهور فيه ، وهو اعتقاد القصور فيه ،
ولا يتأتى ذلك في صورة العفو على أن عبادتها لو كانت مبنية على اعتقاد إلهيتها ، فلا يخفى ما في ذلك من عظم الظلمة .
ثم استشعر سؤالا بأنه كيف يكون هذا الجاني مظهرا كاملا ، وهو مذموم ؟
وكيف يكون أكمل مما في العالم غير الملائكة ، وصالحي الجن ، ولا يذم شيء منه ذمه ؟
قال تعالى :أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[ البينة : 6 ] ، وقال :أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ[ الأعراف : 179 ] .
 
فأجاب عنه بقوله : ( « وما يذم الإنسان لعينه ) ؛ لأنه يشاركه في هذه العينية الكمّل والقاصرون ، ( وإنما يذم الفعل ) وهو القتل مثلا ( منه ) ، وفي نسخة : " لفعله " ، ( وفعله ليس عينه )  لا باعتبار المفهوم ، ولا باعتبار الصدق حتى يكون ذم الفعل ذم عينه .
" في نسخة أخرى: « والفعل ليس عينه » ."
 
( وكلامنا ) في المظهرية الكاملة للاسم الظاهر الإلهي ( في عينه ) ، إذ الفعل ليس من المظاهر الكاملة لهذا الاسم ، إذ هو من الأعراض الزائلة ؛ فلا نقصان في مظهريته باعتبار عينه لا فعله مع أن الفعل ليس بمذموم لعينه كيف ، ( ولا فعل ) من جهة الإيجاد ( إلا للّه ) ، وكيف يصدر عنه ما هو مذموم لعينه ، ومع هذا أي : كون الأفعال كلها للّه ذم منها ما ذم كالحرام والفاسد ، وحمد منها ما حمد كالواجب والمندوب والصحيح ، وبقي منها ما بقي غير محمود ولا مذموم كالمباح ، فمدحها وذمها لا بالنظر إلى أعيانها ،
ولا بالنظر إلى صدورها من اللّه تعالى ؛ لأن المدح والذم بهذا الاعتبار حتى على وجوب رعاية الغرض الذي هو جرّ نفع أو دفع ضر إلى نفس الفاعل ؛
 
ولكن لسان الذم أي : إطلاقه بناء على جهة الغرض مذموم عند اللّه تعالى ؛ لتعاليه عن جر نفع أو دفع ضر عن نفسه ، وإنما يكون أحدهما في حق العباد لكن فعله في حق العباد لا يكون عن حاله إلا إذا حصل له أحدهما وهو متعال عنه ،
فإذا لا يقبح منه شيء ولا يوجب عليه شيئا كما تقوله المعتزلة بناء على أن الحسن والقبح عقليان وليس كذلك ، بل هو شرعي كما تقوله أهل السنة فلا مذموم إلا ما ذمه الشرع من أفعال المكلفين من حيث هي أفعالهم ، وذلك من جهة اكتسابهم إياها إذ الشرع موضوع لهم ، وليس ذلك على سبيل التحكم .
 
فإن ذمّ الشرع بحكمة وهذه الحكمة غير الغرض إذ يعلمه كل عاقل ، والحكمة إنما يعلمها اللّه أو يعلمها من أعلمه اللّه من الكمّل ، وهي ما تفيد كمالا في الظهور الإلهي ، أو تدل على كمالاته دلالة كاملة سواء حصل في المحل نقص أو كمال .
 
( كما شرع القصاص للمصلحة ) ، وهو أيضا غير الغرض إذ لا نفع فيه للقاتل ولا للمقتول ، بل إنما شرعه ( إبقاء لهذا النوع ) بإفناء بعض أشخاصه ، ففيه نفع للبعض وهو الأكثر وضر للبعض ، وليس شيء منهما للمقتول ، ولا يجر حياة لغيره ؛ لأنها حاصلة له ، ولا يدفع ضررا عنه تحقق وقوعه بل هو أمر متوهم بدفعه ، فهذا في معنى دفع الضر في حق العامة ( وإرداعا للمتعدي حدود اللّه فيه ) ، وهو ضرر في حق غيره يدفع عنه ، فليس غرضا له ولا للّه تعالى ، فهذه المصلحة قريبة من الحكمة أو عينها ، وقد روعيت في القصاص بدليل قوله عزّ وجل :وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [ البقرة : 179 ] ، فذكر ما هي الحكمة أو المصلحة فيه .
 
وأشار إلى أنه لا يفهمها إلا الكمّل بقوله :يا أُولِي الْأَلْبابِ ،إذ غيرهم يرون فيه موت القاتل لا غير ، ( وهم أهل لب الشيء ) أي : باطنه المقصود منه ، وهو المسمى بالحكمة التي خص بالاطلاع عليها ( الذين عثروا على أسرار النواميس ) أي : بواطين الكلمات ( الإلهية والحكمية ) ، وهم أخص الخواص .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإذ علمت أنّ اللّه راعى هذه النّشأة وإقامتها وإدامتها فأنت أولى بمراعاتها إذ لك بذلك السّعادة ، فإنّه ما دام الإنسان حيّا ، يرجى له تحصيل صفة الكمال الّذي خلق له ، ومن سعى في هدمها فقد سعى في منع وصوله لما خلق له ، وما أحسن ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « ألا أنبئكم بما هو خير لكم ، وأفضل من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ذكر اللّه »  ، وذلك أنّه لا يعلم قدر هذه النّشأة الإنسانيّة إلّا من ذكر اللّه الذّكر المطلوب منه ، فإنّه تعالى جليس من ذكره ، والجليس مشهود الذاكر ومتى لم يشاهد الذّاكر الحقّ الّذي هو جليسه فليس بذاكر ، فإنّ ذكر اللّه سار في جميع العبد ، لا من ذكره بلسانه خاصّة ؛ فإنّ الحقّ لا يكون في ذلك الوقت إلّا جليس اللّسان خاصّة ، فيراه اللّسان من حيث لا يراه الإنسان بما هو راء ، فافهم هذا السّرّ في ذكر الغافلين ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( وإذا علمت أن اللّه راعى هذه النشأة ) بشرع الحرمة والصلح والعفو ونحوها ، وراعى أيضا ( إقامتها ) بشرع القصاص ، ( فأنت أولى بمراعاتها ) ؛ لأنه لما راعاها مع التنزه عن الأغراض فأنت أولى ؛ لأن لك غرض تحصيل السعادة ( إذ ) تحصل ( لك بذلك السعادة ) بكونك سببا لسبب تحصيل من راعيته صفة الكمال لنفسه ، وهو وإن كان متوهما فتحقق السبب يقوم مقام تحققه ؛ لأن سببه الحياة وأنت أبقيتها ، فأنت سبب سببه ، وإن كان السبب متوهما .
قال رضي الله عنه :  ( فإنه ما دام الإنسان حيّا يرجى له تحصيل صفة الكمال الذي خلق له ) عامّا في حق القاصر فظاهر ، وأما في حقّ الكامل ؛ فلأنه لا كمال إلا وفوقه آخر يمكنه تحصيله لا إلى نهاية ، والدليل على أن من كان سببا لشيء في حق الغير استفاد مثل الكمال الحاصل له منه في حق نفسه قوله عليه السّلام : ( من دلّ على هدى كان له مثل أجر فاعله من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن دلّ على ضلالة كان له مثل وزر صاحبه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ، " ومن سعى في هدمه ؛ فقد سعى في منع وصوله لما خلق له " ). رواه الدارمي ومالك في « الموطأ » وابن أبي عاصم  
 
وهو وإن كان متوهما فهو نازل منزلة المحقق بالنظر إلى سببه الذي هو الحياة ، فمن هدمها أبطل سببه ، فكأنما أبطله محققا ، وإنما جوّز هدمه بالجهاد والقصاص إبقاء لأهل الكمال القائمين بذكر اللّه تعالى ،
وإليه الإشارة بقوله : (وما أحسن ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " ألا أنبئكم بما هو خير لكم " .
أي : من الجهاد وحصول الشهادة ، ( وأفضل ) وإن قال تعالى :وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً[ النساء : 95 ] ( من أن تلقوا عدوكم ) الذين يريدون هلاككم على الأبد بهلاك دينكم ، ( فتضربوا رقابهم ) ، فتأمنوا على دينكم الذي به سعادتكم ، ( ويضربوا رقابكم ) ، وبه تحصل شهادتكم ( ذكر اللّه ) ؛ لأن المقصود بالجهاد إبقاء أهله فهو أفضل منه ، وإن كان أفضل من تركه ولا يسقط وجوبه بكونه مفضولا عند فعل الأفضل ، كما لا يسقط فعل الصلاة بفعل الإيمان ، ولا فعل الزكاة بفعل الصلاة .
 
ولعل رجوع يونس عليه السّلام بقول :لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَعن دعاء الشر على قومه لهذا المعنى ، فذكر اللّه هو المقصود بالذات إذ هو المقصود من خلق الإنسان ، فإنه إنما قصد به أن يعبده ولا يعبده إلا أن يعرفه ، ولا يعرفه ما لم يعرف نفسه ، ولا يعرف نفسه إلا بذكر ربه ،
 
قال رضي الله عنه :  ( وذلك أنه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانية إلا من ذكر اللّه ) لا بأي وجه كان ، بل ( الذكر المطلوب منه ) ، وهو المفيد تزكية النفس ، وتصقيل القلب الموجب رؤية آياته فيه أولا ، ثم رؤيته ثانيا ، ( فإنه تعالى جليس من ذكره ) ، كما قال في الحديث القدسي : "أنا جليس من ذكرني ".  رواه ابن أبي شيبة ، والبيهقي .
 
وليس ذلك بمعنى القرب المكاني لاستحالته في حقّه تعالى ، ولا القرب الذاتي ؛ فإنه حاصل للكل ، ولا بمعنى النظر بأي وجه كان ، بل بمعنى نظر الوجه بحيث يصير المنظور أيضا ناظرا إلى الحق ؛ ولذلك صح أن يقال : ( الجليس ) الحق ( مشهود الذاكر ) ؛
ولذلك قال يونس عليه السّلام :لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ دون لا إله إلا هو سبحانه ، وكيف لا والشهود لازم للجلوس اللازم للذكر ، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم ، فهو يدل على انتفاء الجلوس ، وانتفاؤه يدل على انتفاء الذكر ؛
 
ولذلك يقول رضي الله عنه  : (ومن لم يشاهد الذاكر الحق الذي هو جليسه فليس بذاكر) ، وكيف لا يشاهده الذاكر وشهوده لا يزول عن نفسه وقد أشرق عليها نور الذكر ، ( فإن ذكر اللّه ) إذا كان عن حضور القلب ، وجمع الهمم ، وكف القوى عن أعمالها ( سار في جميع العبد ) ، فلا يرى من ذاته التي لا تفارق رؤيتها إلا نور الذكر بل نور المذكور ، فلا يرى شيئا سواه في كل ما يراه.
 
قال رضي الله عنه :  ( لا من ذكره بلسانه خاصة ) ، فإنه لا يسري منه نور مستغرق لسائر الأعضاء بخلاف القلب ، فإنه لكونه نورانيّا في ذاته مستمدا من النور الإلهي يسري نوره بحيث يستغرق العبد بكليته ، ويصير اللسان بحيث يمد ما لحق بنور منه به يصير وحده جليس الحق ومشاهده ، ( فإن الحق لا يكون في ذلك الوقت إلا جليس اللسان خاصة ) ؛ لأن اللسان ذاكر لا محالة ، وهو جليس الذاكر لا محالة ، والمجالسة تستلزم الشهادة .
 
قال رضي الله عنه :  ( فيراه اللسان من حيث لا يراه الإنسان بما هو راء ) به ، وهو البصر فضلا عن بقية الأعضاء ، وعند عدم رؤية البصر يصح نفي الرؤية عن الإنسان ، وإن كان رائيا بعضو آخر ، ( فافهم هذا السر ) وهو رؤية اللسان بدون رؤية الإنسان ( في ذكر الغافلين ) ، حتى صار محمودا من وجه مذموما من وجوه حتى ورد فيه : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ( 4 ) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ( 5 ) [ الماعون : 4 ، 5 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالذّاكر من الغافل حاضر بلا شكّ ، والمذكور جليسه فهو يشاهده والغافل من حيث غفلته ليس بذاكر فما هو جليس الغافل ؛ فإنّ الإنسان كثير ما هو أحديّ العين ، والحقّ أحديّ العين كثير بالأسماء الإلهيّة : كما أنّ الإنسان كثير بالأجزاء : وما يلزم من ذكر جزء ذكر جزء آخر ، فالحقّ جليس الجزء الذاكر منه والآخر متّصف بالغفلة عن الذّكر ، ولا بدّ أن يكون في الإنسان جزء يذكر به فيكون الحقّ جليس ذلك الجزء فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية ، وما يتولّى الحقّ هدم هذه النّشأة بالمسمّى موتا وليس بإعدام كلّيّ وإنّما هو تفريق ، فيأخذه إليه ، وليس المراد إلا أن يأخذه الحقّ إليهوَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ[ هود : 123 ] فإذا أخذه إليه سوّى له مركبا غير هذا المركب من جنس الدّار الّتي ينتقل إليها ، وهي دار البقاء لوجود الاعتدال ، فلا يموت أبدا ، أي لا تفرّق أجزاؤه ).


ولصعوبة فهمه بينه بقوله : ( فالذاكر ) وهو اللسان ( من الغافل حاضر ) للحق ( بلا شكّ ) ؛ لاستقلاله في الاشتغال به من غير مطاوعته للقلب الغافل ، وهو فعل المختار الموجب للشعور بما يفعله ، وإن لم يطلع عليه منه غيره ، كيف ( والمذكور جليسه ) بمقتضى الحديث ، ولا معنى لجلوسه سوى شهوده ، ( فهو ) أي : الذاكر من الغافل ( يشاهده ) ، وإن لم يكن له حسن البصر ، ولا اطلع على شهوده غيره ، وإلا كانت الغيرة ذاكرة له ، وقد فرضناه غافلا ،
( والغافل من حيث غفلته ) ، وهو باعتبار القلب وسائر الأعضاء سوى اللسان ، ( فليس بذاكر ) وإن كان باعتبار لسانه ذاكرا ، وإذا لم يكن ذاكرا ( فما هو ) أي : الحق ( جليس الغافل ) ، فكيف يطلع على شهوده ، والاطلاع على شهود الغير شهود وليس
خصوص النعم في شرح فصوص الحكم « ٥١١ »علي بن أحمد المهائمي
 
للغافل ، فاتصف الإنسان الواحد بالشهود والغفلة معا ، حتى صار محمودا من وجه مذموما من آخر .
( فإن الإنسان ) وإن كان واحدا ( كثير ) بالحقيقة ووحدته اعتبارية ؛ لأن ( ما هو أحدي العين ) وحدة حقيقية ، ( كثير بالأسماء ) كثرة اعتبارية ، فإنه تجلى بوحدته على وحدة الإنسان استغرقه فلم ير سواه ، وإن تجلى بكثرته باعتبار بعض الأسماء على بعض الأعضاء دون بعض ، اتصف بالشهود والغفلة جميعا بمناسبة الكثرة التي في الحق باعتبار أسمائه ، فإنه كثير بالأسماء ( كما أن الإنسان كثير بالأجزاء ) وإن اختلفت الكثرتان لكن يتناسبان .
ثم استشعر سؤالا بأن الحق وإن تجلى على بعض أعضائه خاصة ابتداء ، فلا شكّ أن بينه وبين بقية الأعضاء تأليفا ، فينبغي أن يسري النور منه إليها كما يسري ؛ فمن القلب إلى سائر الأعضاء ؟
فأجاب عنه بقوله : ( وما يلزم من ذكر جزء ) ما أعم من القلب وغيره بكثرة ( جزء آخر ) ، وإن كان بينهما تأليف فلا يلزم من نورية ذلك الجزء نورية الآخر ، ولا بدّ من شهوده شهود الآخر ، وإنما يقع ذلك من القلب عند غلبة نوريته مع كونه نورانيّا في نفسه بخلاف سائر الأجزاء ، ( فالحق جليس الجزء الذاكر منه ) فقط ، ولو قلنا عند قلة نوريته والجزء ( الآخر متصف بالغفلة عن الذكر ) ، وإن قرب منه كالنفس وغواها ، فكيف يكون الحق جليسه حتى يكون له النورية والشهود ، ثم قال : ( ولا بدّ وأن يكون في الإنسان جزء ) ، ولو غير القلب واللسان ( يذكر به ) ، وإن لم يكن له قوة التعقل ، ولا قوة الشهود ، كاللسان ( يكون الحق جليس ذلك الجزء ) بتجليه عليه التجلي المقصود من خلقه بالذات ، وإلا كان خلقه عبثا ، ( فيحفظ باقي الأجزاء ) التي لا تبقي ذلك الجزء بدونها ( بالعناية ) بذلك الجزء .
ثم استشعر سؤالا بأنه لو كان في الإنسان ذلك الجزء لا محالة لكان محفوظا دائما ، لكن الأمر بخلافه ؟
فأجاب عنه بقوله : ( وما يتولى الحق هدم هذه النشأة بالمسمى موتا ، فليس بإعدام ) شيء من أجزائه ، وإن كان اسم الموت موضوعا لإعدام الحياة ، ( وإنما هو فريق ) بين أجزائه ، فعنايته أنه إعدام للتأليف ، لكنه ليس من الأجزاء الذاتية ، وإنما هو من العوارض المشخصة ، 
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Empty
مُساهمةموضوع: 18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي Emptyالأحد يناير 19, 2020 6:23 pm

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص اليونسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفص اليونسي
18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية    الجزء الثاني
وإذا كان تفريقا استلزم عود كل شيء إلى طبيعته ، فتعود أجزاؤه العنصرية إلى أحيازها الطبيعية ، والأحيز للروح ( فيأخذه ) الحق ( إليه ) بقطع تدبيره للبدن بإفاضة الحياة عليه ،
وكيف لا يأخذه الحق إليه ، ( وليس المراد ) أي : مراد الحق بهدم بشأنه ( إلا أن يأخذه الحق إليه ) مع كمالاته التي اكتسبها من بدنه ؛ ليكون له مجلي كاملا من وجه آخر غير الذي كان في الحياة الدنيا ، والدليل عليه قوله تعالى :( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ )[ هود :123] ، وهو من عالم الأمر .

ثم استشعر سؤالا بأنه لو أخذه إليه لاجتمعا في الإمكان بلا تمييز، مع أنه لا بدّ من التمييز بين القديم والحادث، وإلا لزم انقلاب أحدهما إلى الآخر، وهو محال؟
فأجاب عنه بقوله: ( فإذا أخذه إليه ) ميزه عن ذاته بأن ( سوّى له مركبا ) من عالم الأركان والمثال يتعلق به ( غير هذا المركب ) ، وإن جاز إعادة المعدوم ،
وقلنا: بأنه يعطي هذا البدن بعينه في القيمة؛ لأنه ( من جنس الدار التي ينتقل إليها ، وهي دار البقاء ) ، فلا يعود تأليفه القابل للزوال بعينه ، بل يكون تأليفه لازم البقاء ؛ ( لوجود الاعتدال ) في أجزائه على الدوام ، وهو الموجب للتأليف ولتعلق الروح ،
( فلا يموت أبدا أي : لا تتفرق أجزاؤه ) الروحانية عن الجسمانية ، وإن تفرقت بعض أجزائه الجسمانية عن البعض في حق أهل النار ، وكذا في حق أهل الجنة ؛ لخروج العرق عند الهضم منهم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا أهل النّار فمآلهم إلى النّعيم ، ولكن في النّار إذ لا بدّ لصورة النّار بعد انتهاء مدّة العقاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها ، وهذا نعيمهم ، فنعيم أهل النّار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل اللّه حين ألقي في النّار ، فإنّه عليه السّلام تعذّب برؤيتها وبما تعوّد في علمه وتقرّر من أنّها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان وما علم مراد اللّه فيها ومنها في حقّه ، فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصّورة اللّونيّة في حقّه وهي نار في عيون النّاس .
فالشّيء الواحد يتنوّع في عيون النّاظرين : هكذا هو التّجلّي الإلهيّ ، فإن شئت قلت إنّ اللّه تجلّى مثل هذا الأمر ، وإن شئت قلت : إنّ العالم في النّظر إليه وفيه مثل الحقّ في التّجلّي ، فيتنوّع في عين النّاظر بحسب مزاج النّاظر أو يتنوّع مزاج النّاظر لتنوّع التّجلّي وكلّ هذا سائغ في الحقائق ، فلو أن الميّت والمقتول أيّ ميّت كان ، أو أيّ ، مقتول كان إذا مات أو قتل لا يرجع إلى اللّه ، لم يقض اللّه بموت أحد ولا شرّع قتله ، فالكلّ في قبضته فلا فقدان في حقّه ، فشرع القتل وحكم بالموت لعلمه بأنّ عبده لا يفوته ، فهو راجع إليه ، على أن قوله :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ[ هود : 123 ] ، أي فيه يقع التّصرّف ، وهو المتصرّف ، فما خرج عنه شيء لم يكن عينه ، بل هويّته هو عين ذلك الشّيء ، وهو الّذي يعطيه الكشف في قوله :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ[ هود :123]  ، " والتّوفيق من اللّه تعالى" . )

 
ثم استشعر سؤالا بأنه لو كان في الإنسان جزء ذاكر لا محالة لحصل له نعيم لا محالة ،
فإن اللّه لا يظلم مثقال ذرة ، لكن لا نعيم لأهل النار المخلدين فيها ؟
فأجاب عنه بقوله : ( وأما أهل النار ، فما لهم ) جزاء آخر كل حرقة يتم بها نضج الجلود ( إلى النعيم ) برفع الآلام ما لم يحصل بدلها المحدد للعذاب ، إذ لولاه لم يكن لقوله تعالى :لِيَذُوقُوا الْعَذابَ[ النساء : 56 ] ، بعد قوله :بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [ النساء : 56].

معنى ، لكن ذلك أمر يسير لا يعتد به ، ومع ذلك لا يخلون عن عذاب إذ هم حينئذ في النار يتوقعون رجوع الآلام عند تبدل الجلود عن قريب ، ( ولكن ) ليس ذلك من النار ( إذ لا بدّ لصورة النار ) ، وإن قلنا : إنها بصورتها الجوهرية محرقة مؤلمة ، ( فلابدّ ) لذلك من قابل لكن لا قابل ( بعد انتهاء مدة العقاب ) أي : مدة كل عقاب بتمام نضج الجلود إلى وقت حصول البدل الموجب للعقاب الجديد ، ( أن تكون بردا وسلاما على من فيها ) من العصاة والملائكة والحيّات والعقارب ، كما أنها برد وسلام أبدا على غير العصاة من أهلها .

قال رضي الله عنه :  ( وهذا نعيمهم ) الواقع جزاء على ذكر بعض أجزائهم للحق مع غفلتهم الموجبة لشقائهم ، لكنه إنما يتصور بعد استيفاء الحقوق ، إذ قبل ذلك لا بدّ من عذاب آخر عليها عقلي أو خيالي ، ( فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق ) التي لا توجب الخلود إذا لموجب له لا يمكن استيفاؤه أصلا ( نعيم خليل اللّه ) ؛ لأنهم بذكر ذلك الجزاء خلاؤه ، وإن كانوا بالغفلة أعداءه ، فيتلذذون برفع الآلام كما تلذذ به ( حين ألقي في النار ) ، لكنهم يتعذبون أيضا حينئذ برؤيتها ، لعلهم بعد الآلام عليهم عند تبدل جلودهم كما تعذب خليل اللّه بذلك ، ( فإنه عليه السّلام تعذب برؤيتها ) نارا محرقة . . .

قبل أن بلغ فيها ، ( وبما تعود في علمه ) من أنه لو جعل يده فيها لاحترقت وتألمت ، ( وبما يقرر ) في ذهنه ( من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان ) بتفريق أجزائه الشاعرة ، وإنما تعذب بذلك قبل الوصول إليها ؛
لأنه ( ما علم مراد اللّه ) بإلقائه ( فيها ) ، وهو إظهار معجزة له يجعل بها قوله حجة قطعية ، وما علم مراده ( منها ) من إيصال الراحة له من كل شيء حتى مما شأنه الإيلام ، حتى أنه تعذب بها أولا واستراح ثانيا عكس ما يقع لغيره .

قال رضي الله عنه :  ( وبعد وجود هذه الآلام ) قبل إلقاء ( وجد ) بعد إلقاء ناره ( بردا وسلاما ) ، فلم تبق نارا من هذا الوجه ( مع شهود الصورة اللونية ) الدالة على النارية ، مع زوال الصورة الجوهرية التي بها الإحراق والإيلام ( في حقه ، وهي نار ) بالصورة الجوهرية واللونية جميعا .

( في عيون الناس ) ، فهي نار بلا شكّ في حقهم لصدق مدركات العيون بالضرورة ، ( فالشيء الواحد ) ولو بالشخص ( يتنوع ) بحقائق مختلفة ( في عيون الناظرين ) ، فنار إبراهيم من حيث هي برد وسلام عليه ليست بنار في حقه ، وهي نار في حقه باعتبار اللونية ،
وهي باردة باعتبار الصورتين في حق غيره ، فاختلفت الصورة النوعية فيها في عيونهم ، وكذا نار جهنم برد وسلام على ملائكتها ، وعلى الحيّات والعقارب التي فيها ، وعلى العصاة الذين فيها عند نضج جلودهم مع أنها محرقة لهم في غير ذلك الوقت ،

قال رضي الله عنه :  ( وهكذا ) أي : مثل تنوع نار إبراهيم ، ونار جهنم في عيون الناظرين ، ( هو ) فيه إشارة إلى وحدته الشخصية تنوع ( التجلي الإلهي ) سواء اعتبر تنوعه بنفسه بحيث يتبعه العالم في التنوع أو بتبعيته له ،
قال رضي الله عنه :  ( فإن شئت قلت : أن اللّه تجلى في هذا الأمر ) مثل هذا الأمر بحسبه ، ( وإن شئت قلت : أن العالم في النظر إليه ) أي : إلى ظاهر صورته ، ( وفيه ) أي : النظر في باطن حقيقته ( مثل الحق ) الذي ظهر فيه ( في التجلي ) له ، أما في الصورة فظاهر ، وأما في العين الثابتة ؛

فلأنها من تجليه في ذاته لذاته ، ( فيتنوع ) التجلي ( في عين الناظر ) ، مع وحدة التجلي في نفسه ( بحسب مزاج الناظر ) إلى ذلك التجلي أي : القابل له ، فإنه بحسب استعداده الحاصل له من مزاجه ، وهذا على الوجه الأول ،
وأما على الوجه الثاني فهو المشار إليه بقوله أي : ( يتنوّع مزاج النّاظر ) أي : القابل للتجلي ( لتنوّع التّجلّي وكلّ هذا سائغ في ) علم ( الحقائق ) ، فإن التجلي يفيد الاستعداد ، والاستعداد يفيد تجليا ، فيتنوع كل منهما بتبعية تنوع الآخر ، وإذا كان التجلي متنوعا بنفسه وبتبعية تنوع العالم ، كان مفيدا للحياة مرة ، والموت أخرى ، والحياة تفيد تجليا والموت آخر .

قال رضي الله عنه :  ( فلو أن الميت أو المقتول أي ميت كان ) كاملا وقاصرا ، فإنه أيضا مطلوب التجلي فيه ، ( وأي مقتول كان ) بحق أو ظلم ، فإن المقتول بحق أيضا مطلوب التجلي فيه ، وإن كان في غاية القصور حتى لم يبق التجلي فيه في حال الحياة مطلوبا للحق إلا بشرط العفو وأخذ الفدية من الولي ( إذا مات أو قتل لا يرجع إلى اللّه ) ، فيصير محلا لتجلّ خاص بعده.
قال رضي الله عنه :  ( لم ينقص اللّه بموت أحد ولا شرع قتله ) إذ كان قبل ذلك محلا لتجليه ، وقد خلقه لأجله ، فكان في الموت والقتل إبطال مطلوب بالكلية ، وهو عبث لا يليق بالحكيم ،
فهذا الأمر باق فيه بعد موته وقتله ، فالكل من الأحياء والأموات ( في قبضته ) يتصرف فيهم بما يريد من أنواع تجلياته ؛ وذلك لبقائهم مع قابليتهم لها ، ( فلا فقدان ) الشيء من أعيانهم وقابليتهم ( في حقه ) ، وإن فقدت في حقهم قابلية اكتسابهم ، فصح له أن يتجلى فيه ميتا بوجه غير ما كان يتجلى به حيّا ، فصح طلبه لهذا التجلي بعد استيفاء تجلياته التي خلقه لها حيّا .

قال رضي الله عنه :  ( فشرع القتل ) بالحد والقصاص ، ( وحكم بالموت ) وإن منع غيره من هدمه بلا سبب ؛ ( لعلمه بأن عبده لا يفوته ) بكل ما أراد به من أنواع تجلياته ، فيعصي في تجليات الحياة قبل الإماتة والقتل ، والهادم قد يفوت بجهله بعض التجليات المطلوبة للحق على تقدير بغاية ، فإذا لم تتم له تجليات الحياة التي خلق لها ،

قال رضي الله عنه :  ( فهو راجع وإليه ) بهيّات نورية أو ظلمانية استعاذها من تلك التجليات ، فإن كانت نورية كاملة استعاذ بها لأكمل التجليات النورية بعد الموت ، والهادم ربما تفرقه عن ذلك فهو متصرف في التجلي الإلهي بالنقص ، وهو خلاف مطلوب الحق بل هو يتصرف في التجلي بنا ( على أن في قوله :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ )[ هود : 123 ] إشارة إلى أن كل تصرف وقع في الوجود ، فهو راجع إلى الحق ، ( أي : فيه ) ،

يعني : في تجليه ( يقع التصرف ) ، وإن كان وقوعه في نظر العقل في الاستعداد والعبد المتصرف في الاستعداد ، وإن تصرف في التجلي فليس تصرفه فيه من حيث هو عبده ؛ لأنه كمال مطلوب للحق ، وأنّى أن يكون للعبد إعطاء الحق كماله ، بل ( هو المتصرف ) في تجليه وكذا في استعداد العبد أيضا ؛ لأنه من تجليه .

قال رضي الله عنه :  ( فما خرج عنه شيء من التجلي ) والاستعداد ( لم يكن عينه ) ، فإن التجلي نور وجوده ، والاستعداد صفة العين الثابتة في علمه ( بل هويته )
أي : وجود الحق ( هو عين ذلك الشيء ) من حيث الوجود سواء كان تجليا أو عينا ثابتا أو استعدادا ، فإنهما من تجليه العلمي وعلمه عين ذاته من وجه ، وهذا الذي ذكرنا من عينية هويته لكل شيء ( هو الذي يعطيه الكشف في فهم قوله :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [ هود : 123 ] ، ) ، فالوجود ، والصفات ، والأعيان واستعداداتها راجعة إلى وجود الحق ، أشرق عليها بنوره إشراقا متنوعا بنفسه تارة ، وبحسب المحل أخرى ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .

وهذا هو المقام اليونسي في قوله :لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ[ الأنبياء : 87 ] ، وهو الذي تم به فضله حتى قال سند المرسلين صلوات اللّه عليهم أجمعين في حقّه : « من قال : أنا خير من يونس بن متى ؛ فقد كذب » . رواه البخاري ، ومسلم.


ولما كانت الحكمة النفسية علما بكمال النفس الإنسانية ، وهي إنما تتحقق بالتجلي الغيبي عليها المفيد لها حياة كاملة عقبها بالحكمة الغيبية ؛
فقال : فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني
» شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» كتاب الشيخ نور الدين عبد الرحمن الجامي نقد النصوص فى شرح نقش فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي
» شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: