منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس يوليو 25, 2019 5:38 am

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

مقدمة وخطبة الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

المقدمة وخطبة الكتاب على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
مقدمة وخطبة كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نور أسرار أصفيائه بأنوار فصوص صفاته، وجواهر أسمائه، فانفتحت أعين بصائرهم بفتوحات غيبه لتدبر ما في السماوات والأرض بإحيائه، والصلاة على من أفاض أمطار فضائله على أرواح رسله وأنبيائه لتتفجر بحار أسراره الممتلئة بلالئ أنواره إلى أنهار صدور أوليائه محمد و آله ما طلعت شموس ضيائه في أفلاك قلوب أحبائه.
وبعد...
فلما كان كتاب «فصوص الحكم» مما لا يرتقي إلى درك أسراره إلا همم من أوتي جوامع الكلم من لوامع الحكم، وأكثر من سبقنا من شروح الكتاب، لم ينتهجوا في أكثر المواضع سنن الصواب، ولم يميزوا قشره عن اللباب، ولم يتكلموا في رفع ما يتوهم عليه من الكفر والبدعة والحشو، بل هو كلام من أوتي الحكمة، وفصل الخطاب، وإنهم وإن جاوزوا في إفادة الزوائد في غير مظانها الحد الأقصى؛ فقد فاتهم من فوائد الكتاب ما لا يحصى.
سألني من أصدقائي من كان متحريا للصدق طالبا للحق أن أملي له شرحا يفيد القلوب المتصفين شرحا، ويكون لهم أتم جنة عمن قصد به في أخذ ما ذكر شرحا وافيا بحل معاقده، وتقرير مقاصده، وربط كلماته وإيراد بنیانه، نراعي فيه قواعد الشرع في كل أصل وفرع غير أخذ بتأويل يبعد فيه الأمد، بل يؤيده ما قبله أو بعده، بحيث لا يعسر قبوله على أحد إلا على بليد أو ملحد أو عنيد أو من جسد.
مزيلا عنه الأوهام، شافيا عما يعرض لناظريه من الأسقام، غير مقلد شارځا، ولا أكاني بالتصريح لأحد منهم جارحان فسارعت إلى إجابته، وشرعت في كتابته سائلا من الله تعالى فيه صيب الصواب.
ويجعله لي نورا يوم القاه، يقربني إليه زلفى، ويفيدني لديه حسن مآب بعظيم منه، وكريم جوده، إنه هو البر المنعم الوهاب، ولقبته بـ "خصوص النعم في شرح فصوص الحكم"، والله الموفق للإتمام، والمسئول عن حسن الاختتام.
قال رضي الله عنه: (الحمد لله منزل الحكم على قلوب الكلم بأحدية الطريق الأمم من المقام الأقدم، وإن اختلفت الحل والملل لاختلاف الأمم، وصلى الله على مد الهمم، من خزائن الجود والكرم، بالقيل الأقوم، محمد وعلى آله وسلم، أما بعد... فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرون وستمائة بمحروسة دمشق، وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب، فقال لي: هذا «كتاب فصوص الحكم» خذه، واخرج به إلى الناس ينتفعون به.
فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا، فحققت الأمنية، وأخلصت النية، وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله من غير زيادة ولا نقصان.
وسألت الله تعالى أن يجعلني فيه، وفي جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، وأن يخصني في جميع ما يرقمه تيتاني، وينطق به لساني، وينطوي عليه جناني بالإلقاء الوحي، والنفث الروحي في الروع النفسي بالتأييد الاعتصامي، حتى أكون مترجما لا متحكما، ليتحقق من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب أنه من مقام التقديس المنزه عن الأغراض النفسية التي يدخلها التلبيس.
وأرجو أن يكون الحق لما سمع دعائي قد أجاب ندائي، فما ألقي إلا ما يلقي إلي ولا أنزل في هذا المسطور إلا ما ينزل به علي، ولست بنبي رسول، ولكني وارث وآخرتي حارث.
فمن الله فاسمعوا ... و إلى الله فارجعوا
فإذا ما سمعتم ما ... أتيت به فعوا
ثم بالفهم فصلوا ... مجمل القول و أجمعوا
ثم منوا به على ... طالبيه لا تمنعوا
هذه الرحمة التي ... وسعتكم فوسعوا
ومن الله أرجو أن أكون ممن أيد فتأيد، وقيد بالشرع المحمدي المطهر فتقيد وقيد، وحشرنا في زمرته كما جعلنا من أمته، فأول ما ألقاه المالك على العبد من ذلك.)
(الحمد لله منزل الحكم على قلوب الكلم)، الحمد: إظهار كمالات الذات، وما يتعلق بها من الأفعال والصفات، والله علم للفرد الموجود من واجب الوجود بالذات، اعتبرت معه الصفات أم لا، وقيل: مع جميع الصفات .
"فاعلم أيدك الله وإيانا بروح منه أن الحمد و الثناء له ثلاث مراتب: حمد الحمد و حمد المحمود لنفسه، وحمد غيره له وما ثم مرتبة رابعة.
ثم في الحمد الذي يحمد الشيء نفسه، أو يحمده غيره تقسیمات، إما أن يحمده بصفة فعل، وإما بصفة تنزيه وما تم حمد ثالث بهذا التقسيم."
والإنزال لغة: تحريك الشيء من علو إلى سفل، استعير لإظهار أمر في السوافل بعد كمونه في العوالي، والحكم: جمع حكمة، وهي العلم اليقيني بحقائق الأشياء وأحكامها مع العمل بمقتضاه، والقلب جوهر مجرد في ذاته، متصرف في البدن بواسطة النفس، التي هي جسم لطيف، تنبعث عنه القوى المدركة والمحركة، متوسط بينها وبين الروح الذي هو من عالم الأمر، وهو الجوهر المجرد في ذاته وأفعاله.
والكلم: جمع كلمة، وهي اللفظ الموضوع المفرد، استعيرت لحقيقة الإنسان الكامل لجمعها ظهورات الأسماء الإلهية والحقائق الكونية مثل جمع الكلمة للحروف، وقد تستعار الحروف للحقائق البسيطة حمدا لله تعالى على إنزال الحكم لإفادتها السعادة الأبدية بتكمیل القوة النظرية والعملية، واعتبر إنزالها على القلوب؛ لأن الإنزال عليها إنما يكون بعد الإنزال
على الأرواح، والإنزال عليها قد لا يسري أثره إلى القلب عند تكدره، والنفس غير قابلة له إلا إذا تنورت بنور القلب بعد كمال التركية، فحينئذ يسري نور القلب إليها، ثم منها على سائر الأعضاء، فإن امتلات نورا سرى على نفوس من يناسبهم، ثم على سائر ما في العالم، حتى يتم صلاح بتمامه.
ولذلك خص الحمد بإنزال الحكم على القلوب، وخص قلوب الكمل إذ قلوب غيرهم غير مستعدة لقبول الحكم على الكمال؛ إذ لا تخلو عن شائبة الوهم والخيال، ولا يتأتى العمل منها بمقتضاها.
"اعلم أيدك الله وإيانا بروح منه أن القلب عبارة عن النشأة الجامعة بين الحقائق الجسمانية والقوى المزاجية، وبين الحقائق الروحانية والخصائص النفسية، وهو جوهر برزخي له وجه إلى جميع الأطراف وله مقام المضاهات، وأن يتسع لانطباع التجلي الذاتي الذي ضاق عنه العالم الأعلى والأسفل بما اشتملا عليه."
(بأحدية الطريق الأمم)، الطريق: ما يوصل السير فيه إلى المقصد، وأحديته جمعه فوائد الطرق، كأنها تصير بعد تفرقها واحدة والأمم الأقرب، وذلك طريق الكشف الجامع فوائد طرق النقل والعقل من الوصول إلى المقصد، وهو تحصيل الكمالات العلمية والعملية مع الحلو عما يلزم طريق النقل من التقليد، وطريق النظر من الشبهات الموجبة للتفرقة والبعد بترتيب المقدمات.
ولذلك لا يكاد يرتفع اختلاف مذاهب أرباب النظر (من المقام الأقدم)، أي: منزلها من التعين الأول المتضمن للعلم بالذات، ومن التعين الثاني المتضمن للعلم بالأسماء والصفات، وهما وإن ترتبا عقلا فهما أقدم من غيرهما في الوجود مساوقان فيه في الواقع.
وإنما اعتبرنا انهما؛ لأنه لا بد للكل من العلم بالذات والصفات جميعا على وجه لا يحتمل الغلط والقصور، وسائر المقامات لا تخلو عن أحدهما، ومقام الإطلاق لا يعتبر فيه العلم أصلا ؛ فهو إنما ينزل من أحد التعينين على القلوب المناسبة له، وهي التي أجازته مع غاية الصفاء فيها.
"أعلم في قوله: (من المقام الأقدم): أي أقدم من القديم، وهو أحدية الذات التي هي منبع فیضان  الفيض الأقدس على الأعيان الثابتة. وإنما قال : من المقام الأقدم؛ لأن أحدية الذات أقدم من أحدية الأسماء المسماة بالواحدية القديمة التي هي مرتبة الألوهية، فافهم."
(وإن اختلفت الملل و النحل)، أي: ملل من أنزلت عليهم من الأنبياء ونحل أممهم، فإن ذلك لا يخل بأحدية طريقهم في جمعها فوائد سائر الطرق في الإيصال إلى المقصد المذكور، ولا تكون علومهم من المقام الأقدم، بل غاية ذلك اختلاف وجوه مشيهم فيه، وذلك لاختلاف استعدادات (الأمم)، فالأحكام الفرعية المتعلقة بالجوارح أو القلوب، وإن اختلفت باختلاف الاستعدادات؛ فهي نازلة من المقام الأقدم، معدة في الإيصال إلى المقصد لمن جعلت طريقا لوصوله حين جعلت، ثم سندت على من بعدهم بعدما كانت منفتحة لمن تقدمهم، ولهذا لا يتأتي في الاعتقادات الأصلية أصلا.
" فما زلنا من الخلاف؛ لأنهم: أي أهل التحقيق قد خالفوا المختلفين، ولذلك خلقهم، فما تعدی كل خلق ما خلق له، فالكل طائع في عين الخلاف.
وهنا مسألة دورية ذكرها الشيخ رضي الله عنه في «الفتوحات»: وهي إن الشرائع اختلفت لاختلاف النسب الإلهية، واختلاف النسب الاختلاف الأحوال، واختلاف الأحوال لاختلاف الأزمان، واختلاف الزمان لاختلاف الحركات الفلكية، واختلاف الحركات الفلكية الاختلاف التوجهات، واختلاف التوجهات الاختلاف المقاصد، واختلاف المقاصد الاختلاف التجليات، واختلاف التجليات الاختلاف الشرائع، واختلاف الشرائع لاختلاف النسب الإلهية، فدار الدور، انتهى كلامه ."
(وصلى الله على محمد الهمم) :"أي أفاض الاسم الجامع لجميع الكمالات رحمته لجامع جميع التجليات ذاتا واسما وصفة، فلما كان المقام مقام الدعاء عدل من الجملة الإسمية إلى الجملة الفعلية؛ ليدل على التجدد والاستمرار، يشير إلى أن الصلاة من الله تعالى مجدد دائما ابدا على ممد الهمم."
لما أوجب تحصيل الحكمة بطريق الكشف والعيان؛ إذ طريق النظر مخطر، وذلك بتوجيه القصد والهمة بعد تصفية القلب، وتزكية النفس، ولا يتأتى ذلك لغير الكامل بالذات إلا بواسطة الكامل لوجوب المناسبة بين المفيض والمستفيض توسل بالروح الأكمل الذي له إمداد همم المستعدين للكمال بإيصالها إلى أقصى النهايات مصونة عن أغاليط الأوهام والخيالات بأفضل الوسائل التي هي الصلاة المفيدة.
وصلته بربه ليستفيض منه، فيفيض على من يناسبه من (خزائن الجود والكرم)، الجود: إفادة ما ينبغي، لا لعوض ولا لغرض، والكرم: الابتداء بالنعم من غير موجب وخزائنهما الأسماء الإلهية.
وفيه إشارة إلى أن إمداد الهمم إنما يتأتى لمن له التصرف في الخزائن الإلهية بالاستفاضة منها للإفاضة على المستعدين، حتى يتم به صلاح العالم.
وهذا هو سبب بعثة الرسل إذ المصالح الدنيوية لا تنتظم إلا بشرع وضعه شارع مستحق الطاعة؛ لتميزه عن غيره بآيات تدل على أنه من عند ربه، مع وعد الثواب والعقاب للموافق والمخالف، لئلا يقع الهرج فيما بين الناس بمعارضة الشهوة، والغضب، و المصالح الأخروية، لا يستقل العقل بدركها كعدم استقلال نور البصر بالإبصار بدون نور الشمس.
(بالقيل الأقوم) وهو القرآن الذي دل إعجازه، وهي أنه للعلم الأزلي أوفق، والأخبار النبوية التي دل القرآن المجيد على أن صاحبها :"وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" [النجم: 3 ،4] .
يمد الهمم بذلك من حيث إن تدبره يكشف عن أكثر العلوم، على أن الأمور الكشفية إنما يتحقق صدقها وبراعتها عن الأوهام والخيالات باستعانته، والاستشهاد منه، وتأخيره عن قوله من خزائن الجود والكرم يدل على أنه إنما نزل من
خزائن الجود والكرم، وعلى أن الخزائن الإلهية إنما تعرف عنه؛ لأنها توقيفية، فلا تعرف إلا بواسطته، أو بواسطة الإجماع الذي دل على صدقه.
(وآله وسلم) توسل بآله ، صلى الله عليه وسلم لبعد ما بيننا وبينه من المناسبة، فلا بد في تحصيلها من واسطة.
والمعلوم بذلك إذ لا أكمل منهم بعده ثمراته طلب السلامة له، ولهم في تحصيل تلك الكمالات وإفاضتها على المستحقين ليسلم عن القصور؛ فافهم، والله الموفق والملهم.
أما بعد: (فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة) هي الرؤيا الصالحة؛ لأنها تبشر بالغيب عن الحق بريئا عن شوائب الوهم والخيال الباطل؛ ولذا جعلت جزءا من النبوة في قوله صلى الله عليه وسلم : "لم يبق من النبوة إلا المبشرات".
قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟
قال صلى الله عليه وسلم : "الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له".
و أشار بذلك إلى أن هذا الكشف يشبه كشف النبوة؛ فلا يسوغ إنكاره.
كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم : "إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله ".
(أريتها)، أي: أرانيها الله تعالى، ولم يكن ذلك من نفسي، (في العشر الأخير من محرم)، أي: حين كان لي هجرة إلى مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، بعد حصول الكمال لي في ذلك.
كما أشار إليه بالعشر الأخير، فإن العشرة عدد كامل، وكونها الأخيرة إشارة إلى انتهائه في ذلك، (سنة سبع وعشرون وستمائة) بين التاريخ ليعلم أنه من أواخر كشوفه الحاصلة له حالة الكمال.
(بمحروسة دمشق)، أشار بذلك إلى أنه إنما استفاد ذلك بواسطة من دفن فيه من الأنبياء عليهم السلام - وإلى أنه حين أظهره كان بين أظهر أعلام الإسلام المشددين على الملوك وغيرهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومع ذلك لم يقدروا على إنكار شيء منه على وجهه، ولا محو كتبه لغيبته، (وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب)، أشار بذلك إلى أنه كالملك له؛ فلا يصل إليه غيره إلا بواسطته .
وما حصل للشيخ رضي الله عنه بواسطته فهو أتم مراتب الكشف، وأشار إلى هذا المعنى بقوله: (فقال لي: هذا كتاب «فصوص الحكم»).
أي: علوم تتزين بها بقية العلوم كما نزين الخاتم بالفص، أو علوم هي غايات كمالات أذواق الحمل من الأنبياء عليهم السلام؛ إذ الفص ختم للخاتم، ونهاية لكماله، خص الشيخ رضى الله عنه  بإعطاء ذلك في هذه الأمة التي علماؤها كأنبياء بني إسرائيل؛ فهو من أكابر أولئك العلماء.
ولأمر ما قال له صلى الله عليه وسلم : («خذه واخرج به إلى الناس») ، الأمر بأخذه أولا ليفوز برتبة الكمال، ثم بإخراجه إلى الناس ليفوز برتبة التكميل.
وهذه الجملة تكمل المشابهة بالأنبياء عليهم السلام، فإن من الأولياء من يعطى الأسرار، ولا يؤمر بإخراجها إلى الناس، وفيه تمهيد لعذره في إخراج هذه الأسرار بأنه لم يخرجها ما لم يجب عليه إخراجها بأمر الله تعالى، فإن الأمر الرسول ، ورؤيته كأمر الله تعالی ورؤيته: "من يطع الأول فقد أطاع الله" [النساء: 80]، حديث الطبراني: «ومن رآني، فقد رأى الحق» .
ثم علل ذلك بقوله: (ينتفعون به)، بأن يطلعوا بذلك على كمالات الأنبياء عليهم السلام، وغاية علومهم وأذواقهم، ويرون مع ذلك فضل نبينا صلى الله عليه وسلم عليهم في تلك المراتب فيزدادون به إيمانا، ويطلعون بذلك على بعض أحوال الناس.
وفي قوله: "إلى الناس ينتفعون به" إشارة إلى أن من لا ينتفع به، فليس من الناس بل من البهائم أو السباع أو الشياطين؛ فافهم.
فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأولي الأمر منا)، لما كان أمره صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى للآية المذكورة .
مع أن الكامل لا يرى شيئا إلا يرى الله فيه أو معه أو قبله أو بعده، قال: السمع والطاعة لله ولرسوله، ولما كانت المشايخ تابعين له صلى الله عليه وسلم كان أمره صلى الله عليه وسلم موجبا لإجازتهم هو إشارة إلى إجازتهم بطريق الإلزام في إظهار الأسرار.
(كما أمرنا)، إشارة إلى قوله تعالى: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " النساء: 59 ، وهم المشايخ والعلماء في جميع الأمور.
قال: منا وكذا الأمراء في بعض الأمور، وهو فيما أمروا أن يأمروا بذلك.
(فحققت الأمنية) أي: لما أمرت بأخذ ذلك الكتاب وإخراجه إلى الناس الموجبين للفوز برتبة
الكمال والتكميل في علوم تتزين بها، وتكمل بقية العلوم اليقينية التي هي مناط أعلى مراتب السعادة الأبدية.
وهي علوم الكل من الأنبياء عليهم السلام - أدركت أمنيتي محققة إذ وجدت ذلك عن كشف تام نبوي على يدي أكملهم، وليس للولي الاطلاع على ذلك بنفسه.
كان رضى الله عنه يتمنى ذلك مدة مديدة منذ أطلعه الله، وأشهده أعيان رسله وأنبيائه في مشهد أقيم فيه بـ «قرطبة" سنة ست وثمانين وخمسمائة على ما يأتي في فص هود عليه السلام ذكره الشيخ رضى الله عنه في المنام لبعضهم.
(وأخلصت النية) أي: جردتها عن طلب العوض من الثناء والثواب يجعلها مجرد قصد الامتثال إذ تركه يوجب النزول عن الرتبة العالية التي يخلص فيها الكشف عن شوب الوهم والخيال.
(وجردت القصد والهمة) عن توجيههما إلى ما سوى الامتثال؛ ليتم السمع والطاعة فتصح الاستقامة؛ فلا يكون الكشف إلا به إدراجا فيخاف اختلاله بشوب الوهم والخيال، فجعلتهما متوجهين (إلى إبراز هذا الكتاب)، إلى عالم الشهادة.
(كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة)، إذ لو زاد و میز لم يكن الكل فصوص الحكم لاختلاط الأدنى بالأعلى، وإلا كان مع ذلك مفتريا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد نهى الشيخ له أن يجلد كتابه هذا مع كتاب آخر له أو لغيره.
(ولا نقصان)، لما فيه من كتمان ما أمر بتبليغه فيدخل تحت قوله تعالى: "وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" [المائدة: 67].
(وسألت الله تعالی)، مخافة تغليط الشيطان بتغيير الرؤيا بإيهام رؤية غير المرئي، ونسيان البعض.
(أن يجعلني فيه)، أي: في إبراز هذا الكتاب على الحد المذكور، (وفي جميع أحوالي)، إذ لو تطرق في بعض الأحوال لم يؤمن أن يتطرق في إبرازه أيضا.
(من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان)، بالإضلال والوسوسة.
كما قال تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " [الحجر: 42].
وسألته (أن يخصني في جميع ما يرقمه تيتاني)، أي: ما اكتبه، (و ينطق به لساني)، أي: أقوله، (وينطوي عليه جناني)، أي: ما يخطر بقلبي (بالإلقاء السبوحي) أي: بإلقاء الخاطر الرباني والملكي، (والنفث الروحي)، أي: إلقاء الروح للمعنى بطريق النفث.
وفيه إشارة إلى خفاء ما يلقى بالنسبة إلى الإلقاء بين السابقين طلب الاختصاص بذلك بعد الاستعاذة عن الخاطر الشيطاني، لئلا تزاحمه الخواطر النفسية.
فلا تصفي حكاية الكلام النبوي عن شرب النفس سيما المنامي.
وبالغ في ذلك بأن طلبه إلى حيث يسري أثره إلى لسانه؛ فلا يسبق بغير ما في قلبه من الخاطر الرباني، أو الملكي، أو الروحي، ثم إلى قلبه فلا يسبق بغيره، وطلب أن يكون ذلك الإلقاء والنفث (في الروع النفسي)، وهو وجه للقلب يلي النفس يسمى بالروع.
"الروع :هو القلب وهو القوة التي طورها وراء طور العقل، ينقلب بتقلب التجليات وهو برزخ بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء من رحمة إلى رحمة، فافهم. "
وهو الخوف لما يخاف على القلب من الكدورة من ذلك الوجه طلب الإلقاء والنفث فيه؛ لأنه لو كان في الوجه الآخر ربما عارضه كدورة النفس من هذا الوجه، ولو كان في هذا الوجه عمه النور، وسرى إلى النفس، ثم إلى سائر البدن.
ثم طلب كون ذلك الإلقاء والنفث مقروئا (بالتأييد الاعتصامي)، أي: بتأييد الله تعالى، الروع أي: القلب في أن يعتصم بذلك الإلقاء والنفث، لئلا تمحوه الخواطر الشيطانية والنفسانية بورودهما عليهما بأن يمنع الله عز وجل من ورودهما أو من تأثيرهما (حتی)، غاية لقوله: «أن يخصنی»، (أكون مترجما)، أي: مبينا لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم أو لما يرد على بطریق الإلقاء والنفث
"تنبيه: قوله رضى الله عنه (حتى أكون): يتعلق بـ "سألت"، فإن قيل: قوله : حتى أكون مترجما بما يدل على أنه كان أخذ المعاني وترجمها بألفاظ و عبارات مناسبة من عنده كما هو عادة الترجمان، قلنا: ليس الأمر هكذا بل الترجمة تطلق أيضا على إبعاد الكلام من الأصل. كما قال الشيخ رضى الله عنه في الباب التاسع والعشرين وثلاثمائة في القرآن: إنه كلام الله بلا شك، والترجمة للمتكلم به كان ممن كان انتهى كلامه رضي الله عنه."
(لا متحكما)، أي: ذاكرا للأمر على سبيل التحكم من عند نفسي، إما عن هواها أو عن تلبيس الشيطان؛ فإن ذلك لا يخلو عن التحكم الذي هو ترجيح غير الراجح (ليتحقق)، متعلق بقوله: "أكون مترجما" أي: ليعلم على سبيل التحقيق (من يقف عليه من أهل الله)، المطلعين على الحقائق بطريق الكشف (أصحاب القلوب)، المصفاة عن كدورات النفس قيد بذلك إذ لا كشف لمن دونهم. : وأما من كان فوقهم؛ فإنه لا يمكنه الوقوف على الكتب إلا إذا راد إلى مقام القلب (أنه)، أي: الكتاب وارد (من مقام التقديس)، أي: من الإلقاء أو النفث لخلوص حقائقه (المنزه عن الأغراض النفسية)، التي تدعو إليها خواطرها؛ لأنها (التي يدخلها التلبيس)، أي: تلبيس حقيقة بأخرى، فإن النفس تلبس على القلب لتجذبه إلى أغراضها التي من اللذات السفلية العاجلة
ولم تتعرض لوساوس الشيطان؛ لأنه إنما يتوسل بتلك الأغراض فلا يكون بدونها، ولما كان في الدعوات ما لا يستجاب فلا يتم المطلوب.
قال: (وأرجو)، لرعايتي آداب الدعاء وشرائطه الموجبة للإجابة، (أن يكون الحق)، تعالى (لما سمع دعائي قد أجاب ندائي)، أي: قولي: یا رب! بقوله: لبيك عبدي، فإنه أقل وجوه الإجابة عند اجتماع الشرائط والآداب
فقد ورد:  "إن العبد إذا قال: يا رب" قال الله "لبيك عبدي"".
وهذا القدر كاف في هذا المطلوب، وإذا كان الحق قد أجاب ندائي (فما ألقي)، أي: أملی بطريق الإيماء (إلا ما يلقي إلي)، من الحضرة الإلهية، أو النبوية بطريق الإيماء فإن لفظ الإلقاء يشعر بذلك
(ولا أنزل)، بطريق التصريح (في هذا المسطور، إلا ما ينزل به علي)، من إحدى الحضرتين بطريق التصريح، ولما أوهم ذلك أنه يدعي النبوة قال: (ولست بنبي، ولا رسول ولكني)، أشابههم " ولي مثلهم"
لأني (وارث)، عنهم علومهم، وأحوالهم، وأعمالهم "قال الشيخ : إن أطيب ما يورث من العلم ما يرثه العالم من الأسماء الإلهية."
(ولآخرتي حارث)، بتحصيل ذلك، فلا يبعد الإلقاء إلي والإنزال علي، وإن لم أكن نبيا، ولا رسول؛ لأن من شابه قوما أخذ بعض أحكامهم، وإذا كنت لا ألقي إلا ما يلقى إلي، ولا أنزل ما ينزل به على
(فمن الله)، لا مني فاسمعوا هذا الكتاب، (وإلى الله فارجعوا)، فإن فائدة السماع من الله لا تتم بدون الرجوع إلى الله في الفهم، (فإذا ما سمعتم ما أتيت به) من عند الله "و رسوله"، (فعوا) أي: فاحفظوه كما يحفظ القرآن والأخبار النبوية.
(ثم) أي: بعد الرجوع إلى الله، وحفظ ما سمعتم يحصل لكم فهم في أسراره، فعند ذلك (بالفهم فصلوا مجمل القول)، أي: ما أجمل فيه من الأسرار التي تضيق عنها العبارات الصريحة
(واجمعوا) أي: اعزموا في توجيه الهمم إلى درك أسراره التي تضيق عنها أفهام أكثر أرباب العقول فضلا عن العامة.
(ثم) أي: بعد حصول كمال الفهم لأسراره لا قبل ذلك (منوا به) أي: بإظهاره مع ما فيه من الأسرار (علی طالبية)، ليفوزوا برتبة التكميل بعد الفوز برتبة الكمال.
وطالبوه من ينتفع به في طريق الآخرة، فيدعوه إلى المساعي الباطنة مع تزيين الظاهر بظواهر الأعمال، فيؤكد في حقه ظاهر الشرع باطنه، وباطنه ظاهره.
لا من يعطل الجوارح من الأعمال، ويرى باطن الشرع مخالفا لظاهره، والحقيقة على خلاف الشريعة فإنه إلحاد وكفر.
فكل شريعة بلا حقيقة عاطلة، وكل حقيقة بلا شريعة باطلة، وإياك ثم إياك أن تضيعه بإعطاء أهل الأهوية.
فإنه كبيع السيف من قاطع الطريق إذ يرى أدنى الشبهات غنيمة، ولا يرضى بتأويل الكتاب بما يوافق الشرع، وإن كان أقرب من تأويله، وأكثر طلبة هذا الكتاب في هذا الزمان ممن استولى عليه الشيطان، وأغرقهم في بحر الطغيان، والله المستعان.
(لا تمنعوا) طالبيه من تحصيله، فإن من منح الجهال علما أضاعه، ومن منع المستوجبين فقد ظلم.
وأشار إلى هذا الظلم بقوله: (هذه الرحمة التي وسعتكم) بحيث لا تنقص بالاتفاق مثل نقصان المال به (فوسعوا) فإن منعه ظلم أشد من ظلم من منع ماله الجائع الذي تعذر عليه سد جوعته بغير ماله؛ لأنه ينقص ماله بالإنفاق.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم : "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار". والمراد إذا كان السائل مستحقا لتحصيل ذلك العلم.
ثم أشار إلى كونه رحمة لا استدراجا بقوله: (وأرجو أن أكون ممن أيد فتأيد)، وأيد والاستدراج إنما يكون في شأن من يصر على المعاصي، وهو يعطي العلوم والكرامات، ثم لا تجره إلى الصلاح، وأرجو أن أكون ممن أيده الله الكريم بروح قدسي مانع من المعاصي حتى صرت كالمعصوم بل عاصما نفسي وغيري عن ذلك.
ثم أشار إلى تعليل ذلك بقوله: (وقيد بالشرع المحمدي المطهر فتقيد وقد)، ثم كأن قائلا قال: ربما يحصل هذا التأييد لبعض الناس ليأمن من مكر الله، فيصير كافرا بذلك، فقال: (وأن يحشرنا في زمرته كما جعلنا من أمته) فأرجو دوام ذلك من الله تعالی.
"قال رضي الله عنه فى رسالة تنبيهات على علو الحقيقة المحمدية :
وأعجب ما عندنا من العناية الإلهية التي صحت لنا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : إذ كل واحد من الرسل صلى الله عليهم وسلم يحشر جزئ الحكم .
أي يحشر معهم للشهادة على قومه الذين أرسل إليهم . لاقترانه بطائفة مخصوصة .
والقطب منا : ليس كذلك "يعني لا يقف مثل هذا الموقف" فإنه عام ، جامع لكل من في زمانه من بر وفاجر ، وإن كان إرثه عيسويا أو موسويا "أي فيه من صفات سيدنا عيسى أو سيدنا موسى" فلا يقدح ذلك فيه ، فإنه من مشكاةٍ محمدية ، فله المقام الأعم .
وقد نبه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله عن طائفة من أمته : " ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء " صلى الله عليهم وسلم ، للبركة المحمدية التي نالتهم من مقامه الأعم .
ومن هذه النفخة قال القطب عبد القادر الكيلاني قدس سره: "أوتيتم اللقب، وأوتينا ما لم تؤتوا"."
والعجب كل العجب ممن يزعم التمسك بهذا الكتاب بتأويل فاسد يوافق ما يهواه، ثم يجعل الشرع وراءه ظهرا بعد هذا الذي قاله الشيخ في شأنه، ثم الذي يستعاذ منه ما يراه بعض الحال من جعله فوق الكتاب الإلهي والسنة "ومن لم تجعل الله له نورا فما له من نور" [النور:40].
وإذا كان جميع الكتاب بإلقاء الله تعالى (فأول ما ألقاه المالك على العبد من ذلك) أورد هذه العبارة تنزها عن دعوى الربوبية التي تظهر عن أهل الشطح وغيرهم على سبيل الغلبة تحقيقا لاقتدائه بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان مفتخرا بالعبودية.
فالعجب من بعض الجهال من طلبة الكتاب، إذ يدعي الربوبية لنفسه، ويزعم أنه مقتدي بالشيخ،" ومن يضلل الله ما له من هاد" [الرعد: 33].
ثم إنه أطلق المالك والعبد إشارة إلى أنه ملكه بجميع أسمائه، وأنه صار عبدا من جميع جهاته لجميع تلك الأسماء؛ فافهم، والله الموفق والملهم.
.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 3:51 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 27, 2020 4:31 pm

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص الأيوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفص الأيوبي
19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية الجزء الأول
أي : ما يتزين به ويكمل العلم اليقيني المتعلق بالتجلي الغيبي ، ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى أيوب عليه السّلام ، إذ ظهر له سر الحياة من الماء ، فاستفاد من الاغتسال فيه قوة تدبير النفس للبدن عن قوة الحياة حتى أصلحته وأزالت عنه مرضا غلبه مدة مديدة في أقل الأوقات ، وظهرت له الحياة المكمونة في أولاده الأموات ، وعبيده وضروعه وذروعه ، وسائر أمواله حتى علم بذلك حياة كل شيء ، ثم إنه كملها بما قويت النسبة بينه وبينهم ، حتى تم ظهورها فيهم بتدبير نفسه في أجسامهم بعد تدبيرها في جسمه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أنّ سرّ الحياة سرى في الماء فهو أصل العناصر والأركان ، ولذلك جعل اللّه من الماء كلّ شيء حيّ ، وما ثمّ شيء إلّا وهو حيّ ، فإنّه ما من شيء إلّا وهو يسبّح بحمد اللّه ، ولكن لا تفقه تسبيحه إلّا بكشف إلهيّ ، ولا يسبّح إلّا حيّ ، فكلّ شيء حيّ فكلّ شيء الماء أصله ، ألا ترى العرش كيف كان على الماء لأنّه منه تكوّن فطفا عليه فهو يحفظه من تحته ، كما أنّ الإنسان خلقه اللّه عبدا فتكبّر على ربّه وعلا عليه ، فهو سبحانه مع هذا يحفظه من تحته بالنّظر إلى علوّ هذا العبد الجاهل بنفسه ) .
( اعلم أنّ سرّ الحياة ) المعنى الفائض من صفة الحياة الأزلية فيضان نور الشمس منها على عالم الأجسام بواسطة الأرواح المدبرة لها ، ( سرى(   أولا ( في الماء ) قبل سائر العناصر والمواليد ؛ لكونه أعبد البسائط التي هي أصل المركبات ؛ لكونه ليس في كثافة في الأرض ، ولا في لطافة الهواء والنار بل بينهما ، وإذا سرى فيه سر الحياة دبره بالتكثيف تارة والتلطيف أخرى ، ( فهو أصل ) بقية ( العناصر ) ، فسرى فيه أصل الصفات الإلهية .
وهو ما جاء في التوراة : « إنّ اللّه خلق جوهرة ، فنظر إليها بنظر الهيبة فدابت وصارت ماء فتحرك ، فأوجبت حركته سخونته ، فتصاعد على وجهه زبد ، فتكون منه الأرض ، وارتفع منه بخار دخاني ، فتكون منه السماء ، وحصل فيه الهواء والنار بالتلطيف ، وبه أحدثا ليس من القدماء » .
( ولذلك جعل اللّه من الماء كل شيء حي ) أي : صورته ، وإن كان تركبه من العناصر الأربعة ، وأعطى فيه الغلبة لغيره كالتراب في الإنسان والنار في الجان ، ولا يختص هذا بالحيوانات والنباتات كما تتوهمه العامة ، إذ ( ما ثمة ) أي : في الواقع ( شيء إلا وهو حي ) ؛ لأن الحياة أول صفات الوجود ، فلا يفارق مظاهره ، وبها تدبيره للعالم ، ولا بدّ لكل شيء من مدبر ، فينبه بقاؤه وحفظه واستقراره في حيزه إن كان فيه وسيلة إليه إن خرج عنه ، بل هناك حياة وراء ذلك بها يسبحه ، فإنه ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )[ الإسراء : 44 ] كما ورد به النص .
 
وليس ذلك بلسان الحال فقط كما يظنه العوام ، إذ تفقهه الأكبر ، ) ولكن ) ورد النص في حقهم أنهم ( لا يفقهون تسبيحهم ) ، فلا بدّ ألا يفقه تسبيحه ( إلا بكشف إلهي ) يكشف عن عالم الملكوت الذي لا يفتر عن التسبيح الذي خلق الكل له ، فيكون تركه معصية ؛ ولذلك أردفه بقوله :إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً[ فاطر : 41 ] أي : عمر غفل عن تسبيحه مع كمال حياته ، ولا يفتر عن تسبيحه من قصرت حياته ، ( ولا يسبح ) التسبيح الحقيقي ( إلا حي( ؛ لتوقفه على الشعور ، والمتوقف على الحياة فعلم أن كل شيء مسبح وكل مسبح حي ، ( فكل شيء حي ) وإن خفيت حياة البعض كالنبات والجمادات ، وعلم أيضا أن ( كل شيء ) حي ، وكل حي ( الماء أصله ) ، فكل شيء الماء أصله حتى الأركان العلوية التي اتفق الأكبر على أنها ليست عنصرية ، وقد صرح الشيخ - رحمه اللّه - بكون السماوات من دخان العناصر في الفص العيسوي .
( ألا ترى العرش كيف كان على الماء ؛ لأنه منه يكون ) ؛ وذلك لكونه مستوى اسمه الرحمن فيتعلق به التدبير الكلي العالم ، وهو بالحياة السارية أولا في الماء ، ( فطفا على ) الماء وإن صار أكثف منه لجملة سر الحياة على أقوى الوجوه بخلاف الأرض ؛ لأن سر الحياة فيها على أضعف الوجوه .
قال كعب : « خلق اللّه تعالى ياقوته خضراء ، ثم نظر إليها بالهيبة ، فصارت ماء ترتعد ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ، ثم وضع العرش على الماء » . رواه القرطيى في التفسير والبغوي في التفسير
""الحديث : (عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أراد الله عز وجل أن يخلق الماء خلق من النور ياقوتة خضراء، غلظها كغلظة سبع سماوات وسبع أرضين وما فيهن وما بينهن، ثم دعاها، فلما أن سمعت كلام الله عز وجل ذابت الياقوتة فرقا حتى صارت ماء، فهو مرتعد من مخافة الله عز وجل إلى يوم القيامة، وكذلك إذا نظرت إليه راكدا أو جاريا يرتعد، وكذلك يرتعد في الآبار من مخافة الله إلى يوم القيامة، ثم خلق الريح فوضع الماء على الريح، ثم خلق العرش، فوضع العرش على الماء، فذلك في قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [هود: 7] .....) رواه الأصبهاني في العظمة "".
 
ومعناه : أنه أشار بالياقوتة الخضراء إلى الحقيقة المثلثة والنشأة الكلية لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، إذ ليست في بياض المجردات ، ولا في سواد الماديات ، ونظر الهيبة هو خطاب الحق لها بما تفضضت عرقا ، فهو ذوياتها الموجب صيرورتها ماء ، وخلق اللّه الريح إشارة إلى تحملها سر الحياة الموجبة للتنفس ، ووضعه عليه جعله حاملا سر الحياة التي يتوقف عليها التدبير والتصرف .
وإلى ما ذكرنا أشار الشيخ رحمه اللّه في رسالته المسماة بـ "عنقاء المغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب " ؛ لأن محمدا عليه السّلام لما أبدعه اللّه سبحانه حقيقة مثلية ، ونشأة كلية حيث لا ابن ولا بنين .
وقال له : « أنا الملك ، وأنت الملك ، وأنا المدبر ، وأنت الفلك ، وسآتيك فيما يتكون عنك من مملكة عظمي ، وطامة كبرى ساسا مدبرا وناهيا ،
وأمرا عظيما على حد ما أعطيك ، وتكون فيهم كما أنا فيك ، فليس سواك كما ليس سواي ، فأنت صفاتي فيهم وأسمائي ، فخذ الحد وأنزل العهد ، وسأسألك بعد التنزيل عن اليقين والقطمير ، فتقصص لهذا الخطاب عرقا حيّا » ؛ فكان ذلك العرق الظاهر ، وهو الماء الذي نبأ به الحق سبحانه في صحيح الأنباء ، فقال :وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ[ هود : 7 ] .
 
ثم قال : « فلما علم الحق تعالى إرادته ، وأجرى في إمضائها عادته نظر إلى ما أوجده في قلبه من مكنون الأنوار ، ورفع عنها ما اكتنفها من الأستار ، فتجلى له من جهة القلب والعين حتى كاثف النور من الجهتين، فخلق سبحانه من ذلك النور المنفهق عنه صلّى اللّه عليه وسلّم العرش".
 
هذا كلامه ومعناه على ما تلوح للخاطر الفاتر : أنه عزّ وجل أبدع لرسوله محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حقيقة نورية روحية أولا ، ثم حقيقة مثلية جسمية ، وأشار إلى أن جميع حقائقه كلية شاملة لسائر الحقائق ، وأن الحقيقة المثلية قبل خلق المكان ؛ لأنه من عالم الأجسام ،
ثم قال له : إن الملائكة منحصرة فيه ، إذ لا إله غيره ، والتملكية منحصرة في حبيبه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ومثل ذلك بالروح الفلكي مع الفلك المحيط بالكل ، والمراد بالسائس والمدبر القلب ، وبالأمر والناهي العقل .
 
ثم قال : « تعطيها إنها الروح على حد ما أعطيك من الفيض ، فإنه إنما يصل الفيض الإلهي بواسطة الروح والضمير"
في قوله : « فيهم » يعود إلى قوى القلب والعقل من المدركات والمحركات ،
وقوله : « فأنت صفاتي فيهم وأسمائي » أي : حامل أسرارهما ؛
فلذلك قال : « فخذ الحد » أي : فلا تدع الربوبية لنفسك ، و « أنزل العهد » أي : عهد العبودية المشار إليها بقوله :قالُوا بَلى ،
وقوله : « وكان ذلك العرق » ما أشاره إلى تكون عالم الأركان بعد عالم المثال ، والمراد بالعين : القوى المدركة ، وتكاثف النور من حيث تعلقه بالأجسام ، فازداد الماء المتكون فيه لكثافة أصله كثافة صار منها العرش ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
 
وإذا كان طفو العرش من قوة الحياة ، وهي من الماء والحياة هي الحافظة المدبرة للجسم ، ( فهو ) أي : الماء ( يحفظه من تحته ) ولا عجب فيه ، فإن له مثالا أشار إليه بقوله :
( كما أن الإنسان خلقه اللّه عبدا ) من شأنه أسفل أبدا ، ( فتكبر ) عن غاية جهلة تنفسه ( على ربه ) الذي نار الكبر داؤه فبقيت ربوبيته ، ( وعلا عليه ) ، فادعى الربوبية لنفسه ،
( فهو ) أي : اللّه ( سبحانه ) إشارة إلى تنزهه عن أن شارك في كبريائه وعلوه فضلا عن أن ينفيا عنه ويثبتا لغيره ( مع هذا ) التكبر والعلو منه عليه ( يحفظه من تحته ) ؛ فإنه له تعالى نسبة التحت أيضا ( بالنظر إلى علو هذا العبد الجاهل بنفسه ) ، وهذه النسبة التحية ، وإن كان منشأها جهل هذا العبد ، فهي نسبة ثابتة باعتبار آخر تثبت معه نسبة الفرق له ، وإن نفاها هذا الجهل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهو قوله عليه السّلام : « لو دليتم بحبل لهبط على اللّه » فأشار إلى نسبة التّحت إليه كما أنّ نسبة الفوق إليه في قوله :يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [ النحل : 50 ] ،وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ[ الأنعام : 18 ] ، فله الفوق والتّحت ، ولهذا ما ظهرت الجهات السّتّ إلّا بالإنسان وهو على صورة الرّحمن ، ولا مطعم إلّا اللّه ، وقد قال في حقّ طائفة :وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ[ المائدة : 66 ] ، ثمّ نكّر وعمّم ؛ فقال :وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ [ المائدة : 66 ] ، فدخل في قوله :وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ[ المائدة : 66 ] ، كلّ حكم منزل على لسان رسول أو ملهم ،لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ[ المائدة : 66 ] ، وهو المطعم من الفوقيّة الّتي نسبت إليه ،وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [ المائدة : 66 ] وهو المطعم من التّحتيّة الّتي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله المترجم عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولو لم يكن العرش على الماء ما انحفظ وجوده ، فإنّه بالحياة ينحفظ وجود الحي ).
 
وهو أي : الدليل على ذلك ( قوله عليه السّلام : « لو دليتم بحبل لهبط على اللّه ») باعتبار ماله من نسبة التحت ،
( فأشار إلى أن نسبة التحت إليه ) ؛ لأن قوامه به ، ( كما أن نسبة الفرق إليه المذكورة في قوله :يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ[ النحل : 50 ] ، وقوله :وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : 18 ] .
وإذا ثبت ( له الفوق ) بالقرآن ( والتحت ) بالحديث قلة الفوق ، وإن نفاه الجاهل المتكبر المتعالي عليه والتحت ، وإن نفاه العامة وهما الجهتان الحقيقيتان المحتجبتان إلى المقوم لهما بالوجود بخلاف الجهات الست ، فإنها باعتبارته لتبدلها بتبدل أوضاع الإنسان .
""أضاف الجامع :
 وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) سورة النساء
وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) سورة الأنفال
إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) سورة هود
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) سورة فصلت
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) سورة البروج ""
 
( ولهذا ) أي : والاختصاص الحق بالجهتين الحقيقيتين المتحدد بهما محيط العالم ، ومركزه دون الجهات الست ( ما ظهرت الجهات الست إلا بالإنسان ) من حيث أن له عبد قيامه الذي هو الوضع الطبيعي له رأسا ورجلا ووجها وظهرا ويدين إحديهما أقوى من الأخرى ، غالبا يتعين بذلك ما تقرّب من كل واحد منهما ، ويتبدل بتبدل توجهاته ، ( وهو على صورة الرحمن ) المستوي على المحدد للجهات ، فنسب إليه الجهات لست بواسطته ، وإلا فالمحدد إنما حدد بالذات جهة الفوق ما يقرب من المحيط ، وجهة التحت ما هو غاية البعد منه ، وحفظ الحق يلحق بهاتين الجهتين لا غير ، والدليل عليه أنه ( لا مطعم إلا اللّه ) ، وهو من أسباب الحفظ ، ولا فرق بين هذا السبب وبين غيره .
 
( وقد قال في حق طائفة ) : لو كانوا كما قال فهم أكمل الطوائف ما يدل على انحصاره في الجهتين في حقهم ، فغيرهم أولى بألا يزيد لهم جهة أخرى ،وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ[ المائدة : 66 ] ، ( ثم نكّر ) ولم يقصد به الأفراد بل ( عمّم ) ؛ حتى يدل على أنه لا جهة للإطعام سواهما أصلا ، ( فقال ) :وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ[ المائدة : 66 ] ،
( فدخل ) بطريق التصريح بعد دخوله في إقامة التوراة والإنجيل بطريق من الطرق ( في قوله :وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) كل أمر حكيم أي : محكم مؤيد بموافقة الكتاب والسنة والأدلة العقلية غير متزلزل بوجه من الوجوه ، وفي بعض النسخ ( كل حكم منزل على لسان رسول ) في الظاهر ، ( أو ملهم ) في الباطن لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ،ولا أكل في جهة ما لم يكن الموكل منسوبا إليها ، وهو واحد ؛
ولذلك يقول : هو المطعم من الجهة الفوقية ، وكيف لا وهي ( التي نسبت إليه ) في الكتاب ، ونفي الجهة عنه إنما بطريق تحيزه فيها ،وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ،( وهو المطعم من التحية التي نسبتها إلى نفسه ) ، وإن لم ينص عليها في كتابه ، بل يكفي في ذلك كونها ( على لسان رسوله المترجم عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ) ، فلا يقول عنه ما لم يقل ، فليس سواها بمجرد قول الجاهل المذكور ، فلا يبعد موافقة قوله الحق على أنه ليس على الوجه الذي توهمه .
 
ولما انحصر الحفظ في هاتين الجهتين ، وحفظ كل حي بحياته وحياة العرش فائضة عن الماء ، ثبت أنه ( لو لم يكن العرش على الماء ما انحفظ وجوده ) ، وإن كان وجود ما ليس على الماء ، ولو من الأشياء المخلوقة منه محفوظا بدون كونه على الماء ، إذ حياته التي بها استوى اسمه الرحمن عليه لتدبير العالم منوطة بالماء ، فإنها وإن كانت بالنفس المنطبعة فيه لكن لا بد لتعلقها به من اعتدال المزاج ، وليس ذلك إلا بهذا الماء الحامل له ، وإلا فليس فيه طبائع مختلفة فضلا عن حصول المزاج منها ، وإذا كانت حياته به فحفظه به ؛ ( فإنه بالحياة يحفظ وجود الحي ) وإن انحفظ بدونها وجود أجزائه ، واستدل عليه بالاستقراء والتمثيل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا ترى أنّ الحيّ إذا مات الموت العرفيّ تنحلّ أجزاء نظامه وتنعدم قواه عن ذلك النّظم الخاصّ ؟
قال تعالى لأيّوب :ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ[ ص : 42 ] يعني ماء بارد ؛ وشراب لما كان عليه من إفراط حرارة الألم فسكّنه اللّه ببرد الماء ، ولهذا كان الطّبّ النّقص من الزّائد ، والزّيادة في النّاقص ، والمقصود طلب الاعتدال ، ولا سبيل إليه إلّا أنّه يقاربه ،
وإنّما قلنا : ولا سبيل إليه ، أعني الاعتدال من أجل أنّ الحقائق والشّهود تعطي التّكوين مع الأنفاس على الدّوام ، ولا يكون التّكوين إلّا عن ميل يسمّى في الطبيعة انحرافا أو تعفينا ، وفي حقّ الحقّ إرادة وهي ميل إلى المراد الخاصّ دون غيره .
والاعتدال يؤذن بالسّواء في الجميع وهذا ليس بواقع فلهذا منعنا من حكم الاعتدال ، وقد ورد في العلم الإلهيّ النّبويّ اتّصاف الحقّ بالرّضا والغضب ، وبالصّفات والرّضا مزيل للغضب ، والغضب مزيل للرّضا عن المرضيّ عنه والاعتدال أن يتساوى الرّضا والغضب ؛ فما غضب الغاضب على من غضب عليه وهو عنه راض ، فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه وهو ميل ، وما رضي الحقّ عمّن رضي عنه وهو غاضب عليه ؛ فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه وهو ميل ).
 
فقال رضي الله عنه : ( ألا ترى أن الحي إذا مات الموت العرفي ) ، فيدبه للإشعار ببقاء نوع حياة في أجزائه بل في جملته بلا بنية سيما في روحه ( تنحل أجزاء نظامه ) الجسمانية العنصرية ، فتصير إلى أحيازها ، وتنفك بعضها عن بعض بعد امتزاجها ، ( وتنعدم قواه عن ذلك النظم الخاص ) بأجزاء جسمه ، وإن كانت باقية منتظمة بروحه وقلبه بوجه ونظام آخر ، حتى يدرك بذلك اللذة وآلام الواقع له في عالم البرج .


ولما فرغ عن بيان هذه المقدمات أعني : سريان سر الحياة في الماء ، وأفادته الحياة لما حمله على أكمل الوجوه ، وحفظه من تحته شرع في المقصود منها في حق أيوب عليه السّلام ؛ ( فقال : قال اللّه تعالى :ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) [ ص : 42 ] .
أي : اضرب برجلك الأرض ؛ ليحصل لك من الجهة السفلية المناسبة لجسمك تدبيره بما ينبع منها من الماء الحامل سر الحياة ، مع دفع وجوه الأذيّات من الظاهر والباطن ، فضربها فنبعت عين ، فقيل :هذا مُغْتَسَلٌ.


ولما توهم من سكانته عليه السّلام أنه ذو دواء يغسل العلة غير أنها إذا لم يعتد جعله ذو المثل هذه العلة بينه بقوله : ( يعني ماء ) ، ثم بيّن وجه كونه دواء ، وإن كان على خلاف العادة بأنهبارِدٌ ،فصار دافعا ( لما كان ) أيوب عليه السّلام ( عليه إفراط حرارة الألم ) ، وهذه الحرارة المفرطة ، وإن لم تجر العادة بزوالها ببرودة الماء ، ولكن جعل اللّه ذلك أنه في حقّه ، ( فسكنه اللّه ببرد الماء ) ، وهو سبحانه وتعالى ، وإن كان قادرا على الأشياء بلا واسطة ، فلا بدّ لرفع أحد الضدين من الضد الآخر ، فكان برد الماء ضدّا لإفراط حرارة الألم
 .
قال رضي الله عنه :  ( ولهذا ) أي : ولأجل أن أحد الضدين لا يندفع إلا بالضد الآخر ، (كان الطّبّ ) فعل أمرين جميعا معا أو على الترتيب ( النّقص من ) الخلط ( الزائد ) المتصف بأحد الضدين ، ( والزيادة في ) الخلط ( الناقص ) المتصف بالضد الآخر ، وإذا استويا دفع كل واحد سورة الآخر إلى أن يستوي المزاج الموجب كمال الحياة الموجبة حفظ النظام وكمال الأفعال ؛ ولذلك كان المطلوب من هذا النقص والزيادة طلب الاعتدال ، فلا يكتفي بأي مقدار حصل من الزيادة والنقصان بل لا بدّ من ( طلب الاعتدال ) ،
وإن كان ( لا سبيل إليه ) على الوجه الحقيقي ( إلا ) أنه أي : المطلوب حصول ( ما تقاربه ) ، فيكون له حكم الاعتدال واسمه .


قال رضي الله عنه :  ( وإنما قلنا : لا سبيل إليه أعني : الاعتدال ) بينه ؛ لئلا يتوهم عوده على طلبه مع أن الطلب ليس بمحال ، وإنما هو حصول المطلوب من هذا الوجه ( من أجل أن الحقائق ) أي : علم الحقائق ودلائلها والشهود إنما ذكره ؛ لأنه ربما يمنع تلك الدلائل ( تعطي التكوين ) أي : تبدل كل شيء من حال إلى حال ( مع ) مقادير ( الأنفاس على الدوام ) ؛ لدوام غلبة من حركات الأفلاك التي لا تسكن أصلا ، ( ولا يكون التكوين ) ؛ لكونه حركة في الكيف أو الكلم ( إلا عن مثل في ) المكون الفاعل ، والمكون القابل وهو ( الطبيعة ) القابلة لتلك الأحوال المتبدلة يسمى ذلك الميل في الطبيعة ( انحرافا ) إن قرب من الاعتدال ، ( أو تعفينا ) إن بعد منه ، ( وفي حق الحق إرادة ) ؛ لأن اسم الميل يوهم عدم العدل ؛ ولكن لما كانت صفة توجب تخصص أحد المقدورين : ( هي ميل إلى المراد الخاص دون غيره ) مع استواء نسبتهما إلى قدرته ، وحينئذ لا يكون فيها اعتدال إذ ( الاعتدال يؤذن بالسّواء ) أي : استواء الأمرين ( في الجميع ) أي :
في جميع الصور والتي فيها الاعتدال سواء كان في حق الحق والخلق جميعا ، وإن كان في حق الحق يوجد الاعتدال في قدرته ، لكن لا حكم لها بدون الإرادة ، وكيف لا يكون في إرادة الحق ميل .
قال رضي الله عنه :  ( وقد ورد في العلم الإلهي ) ، ولما توهم أن العلم المنسوب إلى الفلاسفة بينه بقوله ( النبوي اتصاف الحق بالرضا والغضب ، وبالصفات ) المتقابلة التي لا تخص الأشياء بظهور بعضها دون بعض إلا بالميل لامتناع اجتماعها ؛ وذلك لأن ( الرضا مزيل للغضب ) في حق المرضي عنه ، ( والغضب مزيل للرضا ) عن المغضوب عليه ، بل ( عن المرضي عنه ) لبعض الأسماء ، فإن الضال مرضي للاسم المضل ،
لكن الاسم القهار المنتقم مزيل تحكم هذا الرضا ، وإذ زال حكم أحدهما بالآخر بالكلية ، فليس فيه اعتدال إذ ( الاعتدال بتساوي الرضا والغضب ) " في نسخة : « يتساوى الرّضا والغضب » "
ولو على سبيل التقريب ، كاستواء حكم الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة في المزاج ، وليس هنا كذلك .
 
قال رضي الله عنه :  ( فما غضب الغاضب على من غضب عليه وهو عنه راض ) حتى يتصور الاجتماع بينهما فيتفرع عليه الاعتدال ، ( فقد اتصف ) الغاضب ( بأحد الحكمين ) فقط ( في حقه ) ، وإن كان متصفا بهما في الجملة ،
قال رضي الله عنه :  ( وهو ) أي : اتصافه في حق أحدهما بصفة ، وفي حق الآخر بأخرى مع أنه متصف بهما في الجملة ( ميل ) ، سيما باعتبارات لا تعطيه حكم الرضا الذي لبعض أسمائه بالنسبة إلى المغضوب عليه ، ( وما رضي الحق عنهم ، وهو غاضب عليه ) ،
وإن كان لبعض الأسماء كالمضل الغضب عليه ، وكذا للاسم القهار والمنتقم إذا كان غاضبا مغفورا له ، ( فقد اتصف بأحد الحكمين في حقّه ) مع أنه قد يتصف بالحكمين معا في حق العصاة ، ( وهو ميل ) ، فلا اعتدال في ذلك ، وتسمية الحق عدلا ليس باعتبار الاستواء ، بل باعتبار كون ما فعل بهم جزاء وفاقا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإنّما قلنا هذا من أجل من يرى أنّ أهل النّار لا يزال غضب اللّه عليهم دائما أبدا في زعمه فما لهم حكم الرّضا من اللّه فصحّ المقصود ، فإن كان كما قلنا مآل أهل النّار إلى إزالة الآلام وإن سكنوا النّار ، فذلك رضا فزال الغضب لزوال الآلام ، إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت ، فمن غضب فقد تأذّى ، فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه إلّا ليجد الغاضب الرّاحة بذلك ، فينتقل الألم الّذي كان عنده إلى المغضوب عليه .
والحقّ إذا أفردته عن العالم يتعالى علوا كبيرا عن هذه الصّفة على هذا الحدّ ، وإذا كان الحقّ هويّة العالم ، فما ظهرت الأحكام كلّها إلّا منه وفيه ، وهو قوله تعالى : وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ حقيقة وكشفا فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [ هود : 123 ] حجابا وسترا ، فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم لأنّه على صورة الرّحمن ، أوجده اللّه أي : ظهر وجوده تعالى بظهور العالم كما ظهر الإنسان بوجود الصّورة الطّبيعيّة ، فنحن صورته الظّاهرة وهويّته تعالى روح هذه الصّورة المدبّرة لها .
فما كان التّدبير إلّا فيه كما لم يكن إلّا منه ؛هُوَ الْأَوَّلُ بالمعنى وَالْآخِرُ بالصّورة ، وهو الظَّاهِرُ بتغيّر الأحكام والأحوال الْباطِنُ بالتّدبير ، والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الحديد : 3 ] فهو على كلّ شيء شهيد ، ليعلم عن شهود لا عن فكر ، فكذلك علم الأذواق لا عن فكر ، وهو العلم الصّحيح ، وما عداه فحدس وتخمين ليس بعلم أصلا ).
 
قال رضي الله عنه :  ( وإنما قلنا هذا ) أي : كون الغضب مزيلا لحكم الرضا ( من أجل من يرى أن أهل النار ) من الكفار ( لا يزال غضب اللّه عليهم دائما ) ، ولو حال نضج جلودهم قبل حصول البدل بأن يكون حصول البدل قبل تمام النضج أو يتم النضج ، ولكن يكون لهم عذاب عقلي أو خيالي أو بالنار في بواطنهم ، ولا ينضج ( أبدا ) ولو بعد استيفاء الحقوق غير الكفر ، ( فما لهم حكم الرضا من اللّه ) وهو إزالة الآلام عنهم ، وإن كان راضيا بكونهم معذبين أو باعتبار بعض أسمائه كالمضل والمذل ، ( فصح المقصود ) من بيان الميل وإلا كانا مجتمعين ، ولو بلا اعتدال فلا يكون ميلا كليّا .
قال رضي الله عنه :  ( فإن كان كما قلنا مآل أهل النار ) عند نضج الجلود قبل حصول البدل بعد استيفاء الحقوق غير الكفر ( إلى إزالة الآلام ) الحسية والعقلية والخيالية ،
 
قال رضي الله عنه :  ( وإن سكنوا النار ) فتألموا بصورتها بما علموا أنها المحرقة لهم المؤلمة عند حصول البدل عن قريب ؛ ( لذلك رضي ) ، وإن قل زمانه بحيث لا يعتد به ، فلا يسمى الحق بذلك راضيا عنهم ، ولكن هذا الحكم نقيض حكم الغضب ، والحكم لا يتخلف عن التسبب ، ( فزال الغضب ) حينئذ وإن كان يعود في حقهم عن قريب ؛ لأنه لم يبق في حقهم إرادة الانتقام في ذلك الوقت ( لزوال الآلام ) التي بها الانتقام ،
 
 ومراد الحق واقع لا محالة ، ولا معنى لغضب الحق سوى إرادة الانتقام ، إذ هو بالمعنى الحقيقي محال في حقّ الحق ، ( إذ عين الألم ) المحال في حق اللّه تعالى ( عين الغضب ) بالمعنى الحقيقي ( إن فهمت ) حقيقة الغضب ، وهو غليان دم القلب وخروجه إلى سائر البدن .
قال رضي الله عنه :  ( فمن غضب ، فقد تأذى ) بما ذكرنا ، وهو ألم ، ( فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه إلا لنجد الغاضب الراحة عن ذلك ) الألم بذلك الانتقام ، إذ يرجع به الذم إلى مكانه ، ويسكن غليانه .
 
قال رضي الله عنه :  ( فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه ) أي : يزول عن الغاضب ألم ، ويحصل بدله في المغضوب عليه ، وإن تخالفا بالشخص والنوع والسبب ، وهذا المعنى لا يتصور في حق الحق أصلا ، إذ ( الحق إذا أفردته عن العالم ) أي : عن ظهوره في العالم ، وإيجاده له ، وتدبيره وتصرفه فيه .
 
قال رضي الله عنه :  ( يتعالى علوّا كبيرا عن هذه الصفة ) أي : صفة الغضب إذ لا يتصور في شأنه الذم ولا غليانه ولا تأمله ، وإنما هو بمعنى إرادة الانتقام بخلاف ما إذا اعتبر ظهوره فيه ، فإنه تلحقه هذه الصفات المحدثة  "(على هذا الحد.)"، وإليه الإشارة بقوله :
قال رضي الله عنه :  ( وإذا كان الحق ) بإشراق نور وجوده على حقائق العالم ( هوية العالم ) أي : كونه ، ( فأظهرت الأحكام ) كالغضب بالمعنى الحقيقي والانتقام واللطف والإنعام ( إلا ) فيه أي : في صور ظهوره .
( ومنه ) أي : من ظهوره بصفة القهر والحلال أو اللطف والجمال أو غير ذلك ، وهو أي : دليل ظهور الأحكام ( فيه ) ، ومنه قوله :(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هود : 123] حقيقة وكشفا)،
 
وإن رجع بعضه إلى غيره حجابا وسترا ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ عبادة وتوكلا يرجعان إليك حجابا وسترا ، وهما من أفعاله في صور ظهوره في مرآتك ؛ فهو الموجد لهما ،
وإن كان لك كسبهما تكون صورته التي هي مجليهما منطبعة في مرآتك حديث فيها بنظره إليها ، وإن لم يكن صورة في ذاته ؛ ولذلك لا يسمى عابدا متوكلا إذ لا يتصف بهما في ذاته ،
بل في ظهوره بصورة ليست له في ذاته ، وهي لك حجابا وسترا ، وإذا كان الكل راجعا إلى الحق بكونهم صور أسمائه ، وكون أحكامهم ظاهرة فيه ومنه ، ولا كمال وراء كماله ،
 
قال رضي الله عنه :  ( فليس في الإمكان أبدع ) أي : أكمل ( من هذا العالم ) ، وإن كان مشتملا على النقائض والشرور ؛ ( لأنه على صورة الرحمن ) ، وهو الاسم المفيض للوجود العام الشامل على سائر الأسماء المفيضة إذا ( وجده اللّه ) بإشراق نوره على أعيانه ، وهو نور واحد قبل كل عين منه ما يسعها ولا نقصان ، ولا شر في إشراقه ، وإنما هما من أعيان العالم ، ولا يمكن تبديلهما لامتناع قلب الحقائق ؛
ولكون إيجاده على صور أسماء الحق صح فيه أن يقال : ( أي : ظهر وجوده تعالى بظهور العالم ) ؛ لأن الوجود العام الشامل على صور الأسماء صورة وجود الحق الشامل على أسمائه صارت في المرايا محسوسة بعد ما كانت في ذاته معقولة .
 
وهذا الظهور للحق بهذه الصورة مع تنزهه عنها ( كما ظهر الإنسان ) ، أي : روحه مع تنزيهه عن الصورة المحسوسة في ذاته ( بوجود الصورة الطبيعية ) لبدنه ظهر فيها بالتدبير ، وسائر ما فيه من المعاني تصورت فيه بالصور المحسوسة كالسمع والبصر وغير ذلك ، وإذا كان العالم للحق بمنزلة الصورة الطبيعية لنا ، ( ونحن ) من العالم فنحن ( صورته الظاهرة ) أي : صور ظهوره في الظاهر ، وإن لم يكن له صورة في ذاته ، ولا في ظهوره في ذاته ( وهويته ) أي : ذاته ( روح هذه الصورة ) إذ هي ( المدبرة لها ) تدبير أرواحنا لأبداننا ، وإذا كان هو المدبر ومحل التدبير محل ظهوره ، ( فما كان التدبير إلا فيه ) من حيث ظهوره بالصور ( كما لم يكن ) التدبير من حيث المبدأ إلا ( منه ) ، فالكل بطريق المعنى فيه ، وقد تصور ذلك المعنى في ظهوره في المظاهر .
 
قال رضي الله عنه :  ( فهو ) أي : الحق تعالى هُوَ الْأَوَّل ُأي : المبدئ كل صورة ( بالمعنى ) الذي ظهر بها ، ( وَالْآخِرُ بالصورة ) المرتبة على ذلك المعنى الذي صار صورة محسوسة بعد كونه معنى معقولا ، ( وهو ) الظَّاهِرُ لا بالصورة ، وإن قلنا أنه ظهر وجوده تعالى بظهور العالم ، فإن ظهوره به ليس من حيث كونه صورة إذ لا صورة له تعالى ،
بل من حيث دلالته عليه وهو ( بتغير الأحكام والأحوال ) ؛ لأن التغيير فيها يدل على أنها ليست من ذوات الأشياء بل مبدأ آخر هو كالروح لها ؛
ولذلك قلنا : هو( الْباطِنُ بالتدبير ) نعم ظهر ما فيه من المعنى بالصور بطريق التمثيل ، لكنه غير الظهور الحقيقي المطلوب بالدلالة ، فلا يحمل ما في القرآن عليه مع أنه لا يحمل للآخر سواه ، فلو حمل عليه الظاهر تكرر .
 
وإذا عرفت هذا فخذه فيما نحن فيه ، فالحق هو الأول القائم به معنى الحياة السارية في الماء والآخر بصورة الماء ، والظاهر بما فيه من التغيير العلة وغسلها ، والباطن بتدبير الصحة ، وكيف لا يكون باطنا بالتدبير ، والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الحديد : 3 ] ،
فيعلم عواقب الأمور ، فيعلم بما ينتظم بها تلك العواقب ، وكيف لا يعلم كل شيء ، وإنما تصور به ليشاهد وجوه تجلياته ؟

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 27, 2020 4:32 pm

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص الأيوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفص الأيوبي
19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية  الجزء الثاني
فهوعَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، فأوجه كل شيء ( ليعلم ) تجلياته ( عن شهود ) بصري ( لا عن فكر ) أي : لا عن علم الحاصل بالفكر في الأمور المغيبة من حيث غيبه المعلوم عن البصر ، وإذا كان مطلوب الحق الشهود دون الاكتفاء بعلمه مع كمال علمه في ذاته ، فهو كمال بعد كمال ؛
قال رضي الله عنه :  ( فكذلك علم الأذواق ) إنما يكمل إذا كان عن شهود ( لا عن فكر ) مع غيبة العلوم ، فهو مطلب الكمّل ، كيف ( وهو العلم الصحيح وما عداه ) سواء حصل المقدمات النظرية أو بالنقل ،
( فحدس ) إن لم يتزلزل بأدنى شبهة ، ( وتخمين ) إن تزلزل به ( ليس بعلم أصلا ) ، وإن كان الحدس شبه الضروريات بل منها لكن فيه خفاء يوجب التردد بالتسكيك ، فأيوب عليه السّلام وإن علم ذلك بالفكر أشهده الحق ذلك في نفسه ؛ فافهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثمّ كان لأيّوب عليه السّلام ذلك الماء شرابا لإزالة ألم العطش الّذي هو من النّصب والعذاب الّذي مسّه به الشّيطان ، أي : البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليه ، فيكون بإدراكها في محلّ القرب ، فكلّ مشهود قريب من العين ولو كان بعيدا بالمسافة ، فإنّ البصر يتّصل به من حيث شهوده ولولا ذلك لم يشهده أو يتّصل المشهود بالبصر ، كيف كان ؟ فهو قرب بين البصر و المبصر ، ولهذا كنّى أيّوب عليه السّلام في المسّ ، فأضافه إلى الشّيطان مع قرب المسّ ؛ فقال : البعيد منّي قريب لحكمة فيّ ، وقد علمت أنّ القرب والبعد أمران إضافيان ، فهما نسبتان لا وجود لهما في العين مع ثبوت أحكامها في القريب والبعيد ).
 
ثم أشار إلى أن من فوائد ذلك الماء من حيث جهله سر الحياة كشف الحقائق ، كما أن من فوائده إزالة العلل عن البدن ؛
فقال رضي الله عنه  : ( ثم كان لأيوب عليه السّلام ) بطريق المعجزة ( ذلك الماء شرابا ) كما ورد به القرآن ، وإنما ورد دفعا لشكوى الألم ، والشراب إنما يدفع ألم العطش ، ويكفي لدفعه كل ماء ولاصق فيه على الخلائق حتى يشتكي من أجله إلى الخالق ، فهو ( لإزالة ألم العطش ) إلى الاطلاع على الحقائق ، وله ألا يندفع إلا بدفع اللّه تعالى ، فيحتاج فيه إلى الشكوى عنده ؛ وذلك لأنه الذي ( هو من النصب ) أي : الشدة ؛ وذلك لشدة شوقه إلى ذلك ، ( والعذاب ) من التحيز في ذلك ، وهذا النصب والعذاب هو ( الذي مسه به الشيطان ) ؛ لأنه الذي ليس عليه الحقائق حتى تحيز ، واشتد شوقه إلى الاطلاع عليها ، فهو الحجاب عنها كما ورد في الخبر : « لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم ، لنظروا في ملكوت السماوات والأرض » . رواه أحمد وابن أبي شيبة .
 
فهو بوسوسته يشوق إلى تحصيلها ، ويمنع عن الوصول إلى ما اشتاقوا إليه ، فيشتد عليه الأمر ، ويتعذب به لبعده عن المحبوب بحجابه مع قربه في نفس الأمر وإلى هذا يشير لفظ الشيطان من حيث اشتقاقه من الشطن ، وهو البعد .
 
فلذلك فسره بقوله : ( أي : البعد عن الحقائق ) لا في الواقع لدوام قربها منه ، بل عن ( أن يدركها على ما هي عليه ) مع أنه مستشعر بها فيشتاق إليها ، فأزال اللّه عزّ وجل شكواه بالكشف عنها ، ( فيكون بإدراكها في محل القرب ) عنها ؛ ليزول عنه النصب والعذاب عن البعد عنها ، وكيف لا يكون بالكشف في حالة القرب ، وهو موجب للشهود ، وهو موجب لقرب البعيد في نفس الأمر ، فكيف لا يوجب قرب القريب في نفس الأمر ، وإنما عرض فيه من الحجاب إذ صار به لا يصل إليه كالبعد .
 
قال رضي الله عنه  : ( فكل مشهود قريب من العين ) ، أي : القوة الباصرة ، ( ولو كان بعيدا ) من الشخص الرائي ( بالمسافة ، فإن ) البعيد بين الرائي والمرئي لا ينافي القرب بين الرؤية والمرئي ،
فإن ( البصر متصل به ) أي : بالمشهود لا من حيث غرضه له ، بل هو من عوارض الرأي ( من حيث شهوده ) الموجب لاتصال الشعاع منه بالمشهود ،
( ولولا ذلك لم يشهده ) على قول من يراه باتصال الشعاع ، ( أو يتصل المشهود بالبصر ) على قول من يراه بانطباع صورة المرئي في الباصرة .
 
ثم قال رضي الله عنه  : ( كيف كان ) أي : سواء كان المشهود باتصال الشعاع والانطباع أو غيرها ، ( فهو ) أي : المشهود ( قرب بين البصر والمبصر ) مع بعد المسافة فكيف مع قربها .
( ولهذا ) أي : ولكون الحقائق قريبة في نفس الأمر بعيدة بالحجاب ( كنّي أيوب ) عن بعدها بالحجاب ( في ) لفظ ( المس ) لا من حيث دلالته على الالتصاق بل من حيث إسناده إلى الشيطان .
 
ثم قال رضي الله عنه  : ( فأضافه ) أي : أسنده ( إلى الشيطان ) المشعر من استقامة بالبعد مع أنه سبب الحجاب ( مع قرب المس ) من حيث دلالته على الالتصاق ؛ ليدل على قربها في الواقع بطريق الإشارة حين بعدها بالحجاب ؛ ليدل ذلك على موجب الثبوت إليها مع الامتناع عن الوصول إليها .
ثم قال رضي الله عنه  : ( فقال : ) أي : وكأنه قال في سكانته ( البعيد مني ) من الحقائق بسبب الحجاب بعد الشيطان عنك ، وهو الموجب لهذا الحجاب ( قريب ) مني في الواقع قرب المس ( لحكمة فيّ ).
"" أضاف المحقق : حاصله أنه عليه السّلام كان يشكو من بعده عن إدراك الحقائق عما هي عليه بواسطة حجابية بعينه المانعة له عن إدراكها ، ولما ذكر أن للبعد وقربه من أيوب حكما وأثرا فيه كان محال أن يقال : القرب والبعد أمران اعتباريان لا وجود لهما في الخارج ؛ فكيف يكون لهما حكم وأثر في الموجودات الخارجية ؟.  شرح الجامي "" .
 
فإن الحقائق حاكمة في كل شيء سواء علمها أو احتجب عنها ، فهي من حيث القرب موجبة للشوق إليها ، ومن حيث البعد مانعة من الوصول إليها ، فقد أصابه من ذلك نصيب وعذاب فرفع ذلك بالماء من حيث تضمنه سر الحياة المترتب عليها العلم بحسبها ؛
 
فإن الجهل موت معنوي فصار شرابا مزيلا لعطش طلبه إياها ، وهذا لا ينافي شكايته الألم الظاهر إذ لا يدرك مع استراحة الباطن إذا اجتمع ألم الظاهر مع ألم الباطن تأكد كل واحد بالآخر .
 
ثم استشعر سؤالا بأنه كيف يجتمع القرب والبعد في الحقائق بالنسبة إليه ، وهما متقابلان ؟
فأجاب عنه بقوله : ( وقد علمت ) أي : في علم الحكمة والكلام ( إذ القرب والبعد أمران إضافيان ) ؛ لأن قرب أحد الأمرين من الآخر وبعده لا يتصور بدون قرب الآخر وبعده ؛ والإضافة نسبة بين الشيئين معدومة في الخارج.
 
 قال رضي الله عنه  : ( فهما نسبتان لا وجود لهما في العين ) أي : الخارج فليستا من المتقابلين الذين لا بدّ وأن يكون أحدهما موجودا ( مع ثبوت أحكامها في القريب والبعيد ) أي : أحكام البعد في البعيدين ، وأحكام القرب في القريبين بالتقابل ، إنما هو بين أحكامها ، وتختلف الأحكام باختلاف الجهات ، فيكفي لتقابلها تقابل الجهات .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (واعلم أنّ سرّ اللّه في أيّوب الّذي جعله عبرة لنا وكتابا مسطورا حاليّا تقرؤه هذه الأمّة المحمّديّة لتعلم ما فيه فتلحق بصاحبه تشريفا لها ، فأثنى اللّه عليه - أعني : على أيّوب - بالصّبر مع دعائه في رفع الضّرّ عنه ؛ فعلمنا أنّ العبد إذا دعا اللّه في كشف الضّرّ عنه لا يقدح في صبره، وأنّه صابر، وأنّه نعم العبد كما قال تعالى :إِنَّهُ أَوَّابٌ [ ص : 17 ] ،
أي : رجّاع إلى اللّه لا إلى الأسباب ، والحقّ يفعل عند ذلك بالسبب ؛ لأنّ العبد يستند إليه ، إذ الأسباب المزيلة لأمر ما كثيرة والمسبّب واحد العين ، فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسّبب ذلك الألم أولى من الرّجوع إلى سبب خاصّ ربّما لا يوافق علم اللّه فيه ،
فيقول : إنّ اللّه لم يستجب لي وهو ما دعاه ، وإنّما جنح إلى سبب خاصّ لم يقتضه الزّمان ولا الوقت ، فعمل أيّوب بحكمة اللّه تعالى إذ كان نبيّا ، لمّا علم أنّ الصّبر هو حبس النّفس عن الشّكوى عند طائفة وليس ذلك بحدّ الصّبر عندنا ، وإنّما حدّه حبس النّفس عن الشّكوى لغير اللّه لا إلى اللّه ، فحجب الطائفة نظرهم في أنّ الشّاكي يقدح بالشّكوى في الرّضا بالقضاء ، وليس كذلك ، فإنّ الرّضا بالقضاء لا تقدح فيه الشّكوى إلى اللّه ولا إلى غيره ، وإنّما تقدح في الرّضا بالمقضيّ ونحن ما خوطبنا بالرّضا بالمقضيّ والضّرّ هو المقضيّ ما هو عين القضاء ).
 
ثم أشار إلى تقريب الحق إياه بما أعطاه من الصبر مع الأوب إليه حتى أثنى بذلك عليه ، فقال : ( واعلم أنّ سرّ اللّه في أيّوب ) أي : المعنى القائم باللّه الظاهر في أيوب هو الصبر مع الشكوى المتضمنة للأوب إليه ؛ فإن اللّه تعالى يصبر على العصاة ويرزقهم ويعافيهم ، ومع ذلك شكا عنهم
؛ فيقول : « يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار ، ويقول : كذبني ابن آدم ، ولم يكن له ذلك ، وشتمني ابن آدم ، ولم يكن له ذلك ، أما تكذيبه إياي ، فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق ، فأهون عليّ ما أعدته ، وأما شتمه إياي ، فيقول :اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [ الكهف : 4 ] ، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ، ولم يكن لي كفوا أحد ، ويقول :إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ لأحزاب :57 ] . رواه البخاري ومسلم
 
( الذي جعله ) غيره ( لنا نعبر ) عنه إلى أنفسنا ، فيفعل مثل فعله ؛ لينال مثل ما ناله من نعم العبد أو إلى اللّه ، فينظر إلى صبره مع شكواه ( وكتابا مسطورا ) ؛ لئلا تقع الغفلة عنه ( حاكيّا ) عن نبي من الأنبياء ما نال به الرتبة العالية بعد النبوة ( بقراءة هذه الأمة المحمدية ) التي "علماؤها كأنبياء بني إسرائيل " ذكره المناوي في فيض القدير والعجلوني في كشف الخفاء.


( ليعلم ما فيه ) من الأسرار العظيمة في الجمع بين الصبر والشكوى إلى اللّه تعالى ، ودعائه في إزالة الضر من معرفة المقصود من الابتلاء ، وهو الأوب إلى اللّه تعالى ، وإظهار العجز عن مقاومة قهره ، ورفع ما يشبه الأذى عن جنابه ، وهو الغضب بالتضرع والافتقار من العبد .
 
( فيلحق بصاحبه ) أي : صاحب ذلك السر وهو أيوب عليه السّلام في هذا المعنى ، وإن لم يكن لها تحصيل مثل مرتبته سريعا لها بما هو ( شرف ) بعض الأنبياء ، فتكمل بذلك ولا يتهم ، وإذا كان في أيوب هذا السر الإلهي ، ( فأثنى اللّه عليه ) بقوله :إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ ص : 44 ] ،
وبيّن الضمير بقوله : « ( أعني على أيوب ) ؛ لئلا يتوهم عوده إلى السر أو الكتاب ( بالصبر ) لا وحده لاشتراكه بينه وبين كثير من الناس ، بل ( مع دعائه في رفع الضر عنه ) بقوله :أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ الأنبياء : 83 ] ، إذ صار جامعا بين الضر والدعاء الذي هو مخ العبادة ، إذ تحقق عليه السّلام به بالعبودية والافتقار . رواه الترمذي والحكيم الترمذي في  نوادر الأصول .
( فعلمنا أن العبد إذا دعا اللّه في كشف الضر عنه لا يقدح في صبره ) . ذكره الجرجاني في  التعريفات.
إذ لا منافاة بينهما لما سيذكر في حد الصبر كيف ، ( وأنه صابر ) بالنص الإلهي ، ومع ذلك ( أنه ) بالدعاء نِعْمَ الْعَبْدُ بالنصّ أيضا ، وكيف لا وهو يصير بذلك أوابا ؟
 
( كما قال :إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ ص : 30 ] ، فجعله نعم العبد بكونه أوابا مع صبره بل هو المقصود من الصبر ، إذ لو تجرد كصبر المشركين على آلهتهم ، وصبر المتمردين على أسباب معاصيهم لم يكن مستحقا للمدح والثواب بل للذم والعقاب ،
( أي : راجع إلى اللّه تعالى ) أورده بصيغة المبالغة ؛ لأنه في معنى تكرر الرجوع إليه ؛ لأنه لما خص رجوعه إليه ( لا إلى الأسباب ) ، فكان رجوعه إليه مكان كل رجوع له إلى كل سبب .
 
( والحق ) وإن كان ( يفعل ) رفع الضر عنه ( عند ذلك ) الرجوع إليه ( بالسبب ) ، فليس ذلك رجوع العبد إلى السبب ؛ ( لأن العبد إنما يسند ) حاجته ( إليه ) أي : إلى اللّه ، وإن كان من حيث هو مسبب الأسباب ، فليس رجوعه إليها من حيث ما فيها من الكثرة بل إلى وحدة الحق ،
 
( إذ الأسباب المزيلة لأمر ما ) أي : سواء سهل أو صعب كبيرة ؛ لئلا يضطر الإنسان عند فقدان سبب معين ، فيعجز عن دفعه بالكلية ، فوسع اللّه تعالى في الأسباب لا حتى يرجعوا إليها ؛ بل ليفعل بأنه شاء لجريان سنته أن يفعل بالسبب غالبا ، ( والمسبب واحد العين ) وإن ظهر في كثرة الأسباب ، فيسهل الرجوع إليه ويحصل المقصود بجمع الهم فيه ، ولو رجع إلى الأسباب الكثيرة ،
فإن رجع إلى جميعها ربما أضر به دون بعض ، فربما لا يفيده كما قال :،
قال رضي الله عنه  : (فرجوع العبد إلى الواحد العين ) مع ما فيه من التحقق في العبودية ونفي الشركة ، وإن كان رجوعا إلى ( المزيل ) ما لبست ذلك الألم ، فإن النظر إلى الإزالة .
 
قال رضي الله عنه  : ( والسبب ) والألم ليس تفرقه لنظر الوحدة في حق الكمّل ، ومع ( ذلك ) أولى من الرجوع إلى سبب خاص ، وإن نظر فيه إلى اللّه وحده ؛ لأنه ( ربما لا يوافق ) ذلك ، أي :
كونه سببا لرفع ذلك الألم بعينه ( علم اللّه فيه ) أي : في حق ذلك الألم ، أو في ذلك الشخص ، أو في ذلك الوقت وإن كان سببا لنوع آخر ، أو شخص آخر ووقت آخر ،
 
فيقول : الراجع إلى اللّه من حيث ظهوره ( في سبب خاص ) بدعاء ربه وطلبه الشفاء فيه ( إن اللّه لم يستجب له ، وهو ما دعا ) لا من حيث هو هو ، ولا من حيث هو مسبب الأسباب ، ( وإنما جنح إلى سبب خاص ) وإن كان في زعمه أنه جنح إلى اللّه كما زعم بعض عبدة الأصنام أنه إنما يعبد اللّه فيه ، ولكنه لم يعبده من حيث هو هو ، ولا من حيث هو الظاهر في الكل ، بل خص بعض ظهوراته القاصرة للعبادة ورأى كماله فيها ،
وهو عين القصور في رؤيته ، ومع ذلك ( لم يقتنصه الزمان ) الجامع ( للأوقات ) ، إذ لم يكن مزيلا لنوع علته ، وإن كان مزيلا لنوع آخر من جنسها ولا الوقت الخاص لممانعة طبيعة الفصل أو الشخص أو البلد ، وإذا كان المقصود من الابتلاء الرجوع إلى اللّه تعالى بالشكوى إليه ، والدعاء في رفع البلاء والصبر بترك الشكوى إلى الغير والرجوع إلى الأسباب ، ( فعمل أيوب بحكمة اللّه ) في الابتلاء وهي الأمور المذكورة لا الصبر بترك الشكوى مطلقا وحده ،
 
قال رضي الله عنه  : ( إذ كان نبيّا ) فتم اطلاعه على الحكم فوق اطلاع من دونهم من الأولياء الذين يرى أكثرهم أن المقصود منه الصبر بترك الشكوى مطلقا وحده ، فشكا إلى اللّه تعالى ودعاه في رفع ما ابتلاه به ( لما علم أن الصبر الذي هو حبس النفس عن الشكوى ) مطلقا ليس بمقصود منه ، وإن كان مقصودا ( عند الطائفة ) المخصوصة من الأولياء ، وهم جمهور هم كأنهم - بل الطائفة - بل المقصود الأصلي هو الرجوع إلى اللّه ؛ فإن انضم إليه الصبر بترك الشكوى إلى غير اللّه ، فهو مزيد في رتبة الكمال موجب للبناء على الصبر لا من حيث هو صبر ، بل من حيث هو صبر الالتفات إلى الغير .
 
ولذلك نقول : ( ليس ذلك ) الذي ذكروه في حدّ الصبر ( بحد للصبر عندنا ) جماعة المحققين ؛ لخروج صبر من شكا إلى اللّه تعالى مع أن اللّه تعالى سماه صابرا ، ( وإنما حده حبس النفس عن الشكوى لغير اللّه ) ؛ لتضمنها نوعا من الشرك ( لا إلى اللّه ) ، كقول أيوب عليه السّلام :إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [ يوسف : 86 ] ، مع قوله :فَصَبْرٌ جَمِيلٌ[ يوسف : 18 ] ، كيف وقد اتفق الكل على استحباب الدعاء في دفع البلاء مع وجوب الصبر فيه ، فلو أخلت الشكوى بالصبر لتنافى اجتماعهما مع استحالة الدعاء ؛ للتنافي بين واجب ومستحب ، وإذا كان هذا حدّ الصبر عند تمام الكشف النبوي ، ولم يتم للطائفة المذكورة .
 
قال رضي الله عنه  : ( فحجبت الطائفة نظرهم في أن الشاكي ) ، ولو إلى اللّه ( يقدح بالشكوى في الرضا بالقضاء ) مع أنه واجب ، فترك ما يقدح فيه واجب ، ( وليس كذلك ؛ فإن الرّضا بالقضاء لا تقدح فيه الشكوى إلى اللّه ، ولا إلى غيره ، وإنما تقدح فيه ) لو شكا عن نفس القضاء ، فليس منع الشكوى إلى الغير لقدحه ( في الرضا ) ، بل لما فيه من الشرك الخفي ، وإنما تقدح الشكوى عن البلاء في الرضا بالقضاء الذي هو البلاء والضر ، ( ونحن ما خوطبنا بالرضا بالمقضي ) ، وإلا لوجب الرضاء بالكفر الذي هو مقضي عندنا مع أن الرضاء بالكفر كفر ،
قال رضي الله عنه  : (والضر هو المقضي ما هو عين القضاء ) ولا مما يتوقف عليه القضاء لسبقه ، والسابق لا يتوقف على اللاحق ، ولا مما يستلزم الرضا بالقضاء الرضا به ، فإنه يجوز أن يرضى بفعل الشخص ولا يرضى بمفعوله ، كمن يرضى بجماع ولده بالزنا لظهور رجوليته ، ولا يرضى به من حيث هو زنا والرضاء بفعل المحبوب لا يستلزم الرضاء بمفعوله إذا قصد به أن يتدلل له المحب ويعجز عنده ويدعوه في رفعه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وعلم أيّوب عليه السّلام أنّ في حبس النّفس عن الشّكوى في دفع الضرّ إلى اللّه مقاومة القهر الإلهيّ ، وهو جهل بالشّخص إذ ابتلاه اللّه بما تتألّم منه نفسه ، فلا يدعو اللّه في إزالة ذلك الأمر المؤلم ، بل ينبغي له عند المحقّق أن يتضرّع ، ويسأل اللّه في إزالة ذلك عنه، فإنّ ذلك إزالة عن جناب اللّه عند العارف وصاحب الكشف ، فإنّ اللّه تعالى قد وصف نفسه بأنّه يؤذي ؛ فقال :إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ الأحزاب : 57 ].
وأيّ أذى أعظم من أن يبتليك ببلاء عند غفلتك عنه أو عن مقام إلهيّ لا تعلمه لترجع إليه بالشّكوى فيرفعه، فيصحّ الافتقار الّذي هو حقيقتك، فيرتفع عن الحقّ الأذى بسؤالك إيّاه في رفعه عنك ، إذ أنت صورته الظّاهرة ، كما جاع بعض العارفين فبكى فقال له في ذلك من لا ذوق له في هذا الفنّ معاتبا له ، فقال العارف : « إنّما جوّعني لأبكي » ، يقول : إنّما ابتلاني بالضّرّ لأسأله في رفعه عنّي ، وذلك لا يقدح في كوني صابرا ؛ فعلمنا أنّ الصّبر إنّما هو حبس النّفس عن الشّكوى لغير اللّه ).
 
وإليه الإشارة بقوله رضي الله عنه : ( وعلم أيّوب عليه السّلام أنّ في حبس النّفس عن الشّكوى في دفع الضرّ إلى اللّه مقاومة القهر الإلهيّ ) ، ( وهو ) وإن كان صابرا لا تشترط فيه الشكوى إلى اللّه ، كما لا يشترط فيه تركه ( جهل ) لازم ( بالشخص ) المبتلى بمقصود الابتلاء ( إذا ابتلاه بما تتألم منه نفسه ) ؛ ليتضرع ، ويبتهل إلى اللّه بالدعاء ، وإظهار العجز له ، والافتقار إليه ، فإذا جهل هذا المقصود ، ( فلا يدعو إلى اللّه في إزالة ذلك الأمر المؤلم ) ، فيفوته مقصود الابتلاء وفائدة الدعاء ، ويتحصل من هذا الصبر مقاومة القهر الإلهي ، ويتضرر بها فوق ضرر ترك الصبر ، ( بل ) ثم نكتة أخرى ألطف مما ذكرنا هي أنه ( ينبغي له عند المحقق أن يتضرع ) إظهارا للعجز ، ( ونسأل اللّه في إزالة ذلك ) الألم ( عنه ، فإن ذلك ) التضرع والسؤال من حيث كونه موجبا للرضاء عنه ( إزالة ) لموجب الغضب عليه الذي كان سببا لابتلائه بمقتضى قوله تعالى :وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ[ الشورى : 30 ] .
 
والغضب أذى في حق الغاضب منا ، فهو يشبه الأذى في حق اللّه تعالى ، فكأنه يزيل بذلك التضرع والسؤال نفس الأذى ( عن جناب اللّه عند العارف وصاحب الكشف ) ، وإن استبعده العامة ، ولكن قد صحّ ذلك الكشف بالنص الإلهي ، ( فإن اللّه قد وصف نفسه ) في كتابه ( بأنه يؤذى ؛ فقال :إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [ الأحزاب : 57 ] ،
 
قال رضي الله عنه  : ( وأي أذى أعظم ) في حق اللّه من أن تؤذيه أنت بإخلال ما قصده في ابتلائك ، وهو أنه ( يبتليك ببلاء عند غفلتك عنه بالكلية أو عن مقام إلهي ) يقتضي أمر الشيء ، أو النهي عن شيء ، وإن كنت ( لا تعلمه ) بعينه ، فابتلاؤه إياك ( لترجع إليه ) تداركا لتلك الغفلة الموجبة للغضب عليك ( بالشكوى ) ، والدعاء ، والتضرع ، وغير ذلك مما يوجب الرضا عنك ؛ ( فيرفعه ) عنك ، فيرتفع عنه إرادة الانتقام الذي هو الغضب في حقه ، وهو الأذى في حق الغاضب كيف ؟ !
وإنما كان ابتلاؤه إياك عند غفلتك ؛ لإخلالك ( بافتقارك ) إليه ( الذي هو حقيقتك )  
، فإذا رجعت إليه بالشكوى ، ( فيصح الافتقار الذي هو حقيقتك ) ، ومقصود الحق في كل شيء تحقيق مقتضى حقيقته ، فإذا لم يتحقق غضب عليه ، فترك الشكوى موجب لترك الافتقار الموجب للغضب الإلهي ، وإن شكوت إليه حصلت مقصوده ، ( فيرتفع عن الحق ) الغضب الذي هو ( الأذى بسؤالك إياه ) أي : الحق
قال رضي الله عنه  : ( في رفعه )  أي : الأذى ( عنك ) لا عنه ؛ لأنه يستلزم ارتفاعه عنك ارتفاعه عنه ، ( إذ أنت صورته الظاهرة ) التي إنما لحقه الأذى بالنظر إليها لما رأى فيها من القصور ومطلوبه الظهور بالكمال ، فإذا ارتفع عنها لحصول الكمال لها ارتفع عن الحق .


واستدل على أن هذا الافتقار والتصريح مقصود الحق بقول بعض العارفين ، فقال :
قال رضي الله عنه  : ( كما جاع بعض العارفين ، فبكى ؛ فقال له في ذلك : من لا ذوق له في هذا الفن معاتبا له ) بترك الصبر على الجوع مع كونه عارفا ، ( فقال العارف : « إنما جوعني لأبكي ) .
 
ولما أوهم ظاهره أن المقصود نفس البكاء ، وليس كذلك ، بل إنما هو التصريح بالبكاء ، والانتقال به إلى اللّه تعالى بينه بقوله : يقول : ( إنما ابتلاني بالضر لأسأله ) بالتصريح والبكاء ( في رفعه عني ) ؛ لأنه إذا ارتفع عني ارتفع موجب الغضب منه ، وهو أذى ، ولما كان هذا جوابا لعنى به بترك الصبر ،
 
فكأنه قال رضي الله عنه  :  : ( وذلك لا يقدح في كوني صابرا ) ؛ لأن غايته الشكوى إلى اللّه ، وإنما تقدح فيه الشكوى إلى الغير ، ( فعلمنا ) من النص الإلهي على كون أيوب عليه السّلام صابرا مع شكواه إلى اللّه ، ومن قول هذا العارف ، ومن قول المقصود من الابتلاء التصريح والدعاء : ( أن الصبر ) كما بينا حده إنما ( هو حبس النفس عن الشكوى لغير اللّه ) لما فيه من الرجوع إلى غيره .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأعني بالغير وجها خاصّا من وجوه اللّه ، وقد عيّن الحق وجها خاصّا من وجوه اللّه وهو المسمّى وجه الهويّة فتدعوه من ذلك الوجه في رفع الضّرّ عنه لا من الوجوه الأخر المسمّاة أسبابا ، وليست إلّا هو من حيث تفصيل الأمر في نفسه ، فالعارف لا يحجبه سؤاله هويّة الحقّ في رفع الضّرّ عنه عن أن تكون جميع الأسباب عينه من حيثيّة خاصّة ، وهذا لا يلزم طريقته إلّا الأدباء من عباد اللّه الأمناء على أسرار اللّه ؛ فإنّ للّه أمناء لا يعرفهم إلّا اللّه ؛ ويعرف بعضهم بعضا ، وقد نصحناك ؛ فاعمل وإيّاه سبحانه فاسأل ) .
 
ثم استشعر سؤالا بأن الغير منتف عند أهل التوحيد ، فكيف يتصور عندهم الشكوى إلى الغير ؟
فقال : ( وأعني بالغير وجها خاصّا ) ، وهو ظهوره في المظاهر المحدثة ، فإنها باعتبار محالها غيره وإن كانت ( من وجوه ) تجلي ( اللّه ) التي عينيتها بذلك الاعتبار عند أهل التوحيد ، فلا منافاة بين عينيتها وغيرتها ، فلما كانت فيها العينية والغيرية لم تكن وجوها معينة للعبادة والتصريح والدعاء ؛
 
ولذلك ( قد عين الحق ) للعبادة والدعاء والتصريح ( وجها خاصّا ) هو تجليه في ذاته ، وهو وإن كان من ( وجوه اللّه ) ، فليس كسائر الوجوه التي فيها الغيرية ، كيف ( وهو المسمى وجه الهوية ) إذ هو هو من كل وجه فلا غيرته فيها أصلا ، ( فدعوه من ذلك الوجه ) ؛ لأنه عينه الحق لذلك فلا وجه للغيرية فيه ، وكيف لا يدعوه من ذلك الوجه وهو الذي لحقه الأذى بالنهج المذكور ؟
 
فكأنك تدعوه ( في رفع الضر عنه لا من الوجوه الأخرى ) التي هي باعتبار الظهور في المظاهر ، وإن كانت رافعة للضر عنك لكونها ( المسماة أسبابا ) لرفع الضر ، وإن كانت تلك الوجوه ( ليست إلا هو ) أي : الوجه المسمى وجه الهوية لا ( من حيث ) هي في الظاهر ، بل من حيث ( تفصيل الأمر ) أي : أمر التجلي ( في نفسه ) ، فإنه لما تجلى في نفسه ظهرت له الأعيان الثابتة للأشياء وتفصل فيها هذا التجلي الذي له في نفسه .
 
ولذلك ترى العارف يستعمل الأشياء مع أنه لا يسأل إلا من الوجه الذي عينه الحق له ، فإن ( العارف لا يحجبه سؤال هوية الحق ) الذي عينه الحق للسؤال ( في رفع الضر عنه عن أن تكون جميع الأسباب عينه ) ، فيستعملها مع ذلك من حيث هي عينه ، إذ لا رجوع إلى الغير أصلا ، وهي وإن كانت غيرت من حيث ظهورها في المظاهر المحدثة ؛ فهي عينه ( من حيثية ) حاجته هي كونها تفصيل تجليه في ذاته ، والتفصيل عين المجمل .
 
قال رضي الله عنه  : ( وهذا ) أي : سؤال الهوية مع استعمال الأسباب من حيث عينيتها ( لا يلزم طريقته إلا الأدباء من عباد اللّه ) الذين ينزهون عن الحدوث ولا يرون له غير ( الأمناء على أسرار اللّه ) ، فلا يفشون سر ظهوره في الأسباب على العامة ؛ لئلا يتوهموا تأثيرها بالاستقلال ولا بعد في ذلك ، ( فإن للّه أمناء لا يعرفهم إلا اللّه ) ؛ لأنهم إنما يعرفون بتلك الأسرار المودعة عندهم وهم لا يفشونها إلى العامة فلا تعرفهم العامة ،
 
ولكن ( يعرف بعضهم بعضا ) إما لإفشائهم تلك الأسرار إليهم ، وإما لأنهم يكاشفون بأنهم كوشفوا بذلك ، ( وقد نصحناك ) بالشكوى في الضر ، وبالدعاء من الوجه المسمى وجه الهوية لا من سائر الوجوه ، وتحفظ الأمانة حتى لا تفشى الأسرار إلى غير أهلها ، ( فاعمل وإياه سبحانه ، فسأل ) لا الأسباب ، ولو باعتبار ظهور الحق فيها .


ولما فرغ عن الحكمة الغيبية التي كمالها إشراق نور الحياة ، التي هي أول الصفات على الماء ، الذي هو أول الأركان شرع في الحكمة الجلالية ، التي هي إشراق نور أول الأسماء ، وهو اسم الذات الذي لا اسم قبله ؛

فقال : فص الحكمة الجلالية في الكلمة اليحيوية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:16 am

20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص اليحيوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفص اليحيوي
20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بأول أسماء اللّه تعالى ، المتضمن للدلالة على جلال الذات ، المندرج فيه سائر الأسماء والصفات ظهر بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى يحيى عليه السّلام ، إذ أعطى أسماء لم يسم به من قبله كاسم اللّه الذي هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا[ مريم : 65 ] ، ويتضمن ما فيه من الصفة تضمن اسم اللّه لسائر الأسماء التي معانيها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (هذه حكمة الأوّليّة في الأسماء ، فإنّ اللّه سمّاه يحيى أي : يحيا به ذكر زكريّا ، ولم يجعل له من قبل سميّا ، فجمع بين حصول الصّفة الّتي فيمن غبر ممّن ترك ولدا يحيى به ذكره ، وبين اسمه بذلك فسمّاه يحيى فكان اسمه يحيى كالعلم الذّوقيّ ، فإنّ آدم حيّي ذكره بشيث ، ونوحا حيّي ذكره بسام ، وكذلك الأنبياء ولكن ما جمع اللّه لأحد قبل يحيى بين الاسم العلم منه وبين الصّفة إلّا لزكريّا عناية منه ، إذ قال :فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا[ مريم : 5 ] فقدّم الحقّ على ذكر ولده كما قدّمت آسية ذكر الجار على الدّار في قولها :رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ[ التحريم : 11 ] ، فأكرمه اللّه بأن قضى حاجته وسمّاه بصفته حتّى يكون اسمه تذكارا لما طلب منه نبيّه زكريّا ، لأنّه عليه السّلام آثر بقاء ذكر اللّه في عقبه إذ الولد سرّ أبيه ، فقال :يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ[ مريم : 6 ] ، وليس ثمّة موروث في حقّ هؤلاء إلّا مقام ذكر اللّه والدّعوة إليه ) .
 
وإليه الإشارة بقوله  ( هذه حكمة الأوّليّة في الأسماء ) أي : الحكمة الجلالية "" التجلي الصفاتي : يعنون به تجريد القوى والصفات عن نسبتها إلى الخلق بإضافتها إلى الحق ، وذلك لأن العبد عندما يتحقق بالفقر الحقيقي الذي ستعرفه ، وهو عبارة عن انتفاء الملك شهودا ؛ فإن قلبه حينئذ يصير قبلة للتجلي الصفاتي ، بحيث يصير هذا القلب التقي النقي مرآة ومجلي للتجلي الوحداني الصفاتي الشامل حكمه لجميع القوى والمدارك ( لطائف الإعلام ص 173 ) . ""
 
حكمة الأولية التي ليست لغير اللّه تعالى إذ له القدم الذاتي ، وله بذلك الاعتبار اسم مختص به شامل على سائر الأسماء شمول الأولية على معلولاتها ظهور هذه الأولية في اسم يحيى ، وجعله متضمنا للمعنى الذي يحيى عليه السّلام علته ، ( فإن اللّه سماه يحيى ) حيث قال لزكريا عليه السّلام :إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى[ مريم : 7 ] ، وإنما تولى الحق تسميته لمناسبته اسم اللّه تعالى من حيث شموله على ما فيه من الصفة ، ومن حيث تضمنه معنى الأولية
 
أي : ( يحيى به ذكر زكريا ) ، فهذا ما فيه من الصفة المعلولة له " لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا "[ مريم : 7 ] ، فهذا ما فيه من الأولية والحق ، وإن ظهر فيمن يقدمه بأول الصفات أو بأول الأسماء ، فلم يجمع لأحد قبله بينهما ، فلم يعم في حقّه أولية الأسماء من حيث تضمنها لما دونها من معلولاتها .
 
( فجمع ) في حقه ( بين حصول الصفة التي فيمن عبر ) ، وهي صفة الإحياء لذكر الآباء ( ممن ترك ولدا ) كاملا ( يحيي به ذكره ) ؛ ليكون كدلالة الصفة على الذات ، ( وبيّن اسمه بذلك ) للتنصيص على أن المقصود من اتحاده إحياء ذكر أبيه ، ( فسماه يحيى ) أسماء تدل على المقصود من مسماه ، ( فكان اسمه يحيى كالعلم الذوقي ) يقتضيه الذوق ، ولا يحتاج فيه إلى الوضع والتسمية ، ففي ذلك مزيد عناية وتنصيص لا يوجد في حق من لم يجمع له بين الاسم والصفة ،
( فإن آدم حيي ذكره بشيث ونوح عليه السّلام حيي ذكره بسام ، وكذلك الأنبياء ) حيا ذكرهم بأولادهم المعنويين والحسيين إذا انضم فيهم إلى الحسي المعنوي ، ( ولكن ما جمع لأحد مثل يحيى بين الاسم العلم منه ) أي : من هذا اللفظ ( وبين الصفة ) المفهومة منه ( إلا لزكريا ) في ابنه ، وإن كان في حق غيره أيضا كالعلم الذوقي ( عناية منه ) تعالى للدلالة على كمال هذه الصفة فيه ؛ لاعتنائه بالحق في دعوته بتقديمه على مطلوبة ، ( إذ قال :فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [ مريم : 5 ] .


( فقدم الحق ) للعناية به بقوله :فَهَبْ ،والكاف في "لَدُنْكَ" ( على ذكر ولده ) ، وإن كان هو من حيث مطلوبه أهم له ( كما ) أعينت آسية بالحق ، فاعتنى بها الحق إذ ( قدمت آسية ) امرأة فرعون ( ذكر الجار على الدار في قولها :رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) [ التحريم : 11 ]، فقدمت عِنْدَكَ اهتماما بطلب الجار الحق على الدار في الجنة ، فجعلها مثلا للذين آمنوا ، وألحقها بالرجال الكمّل ، فلما أكرم زكريا الحق بتقديمه ، ( فأكرمه اللّه بأن قضى حاجته ) التي ليس من شأنها قضاؤها في وقت دعائها ، وهو وقت الكبر ، فأكرمه بهذه المعجزة ، وزاد في إكرامه بأن ( سماه بصفته ) التي هي إحياء ذكر زكريا به ، ( حتى يكون اسمه تذكارا ، لما طلب منه نبيّه زكريا ) فيه ؛ إشعارا بأنه لا يطلب الولد لزينة الدنيا ولا يرث ماله ، بل إنما طلبه ( لأنه عليه السّلام آثر بقاء ذكر اللّه في عقبه ) على ما كان يذكره أيام حياته ، وقد صار ذلك هيئة راسخة في قلبه ، فلابدّ أن يحملها ولده .
( إذ الولد سر أبيه ، فقال :يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ،وليس ثمة ) أي : في الواقع ( موروث في حق هؤلاء ) الأنبياء ( إلا مقام ذكره ) اللّه ( والدعوة إليه ) ، فكان مطلوبه إحياء ذكر اللّه ، فأجر اللّه تعالى ذكره ، وذكره في اسم ابنه ؛ ليعلم أنه حر وفاق .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثمّ إنّه بشّره بما قدّمه من سلامه عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّا ، فجاء بصفة الحياة وهي اسمه وأعلم بسلامه عليه ، وكلامه صدق فهو مقطوع به ، وإن كان قول الرّوح :وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[ مريم : 33 ] أكمل في الاتّحاد ، فهذا أكمل في الاتّحاد والاعتقاد وأرفع للتّأويلات ، فإنّ الّذي انخرقت فيه العادة في حقّ عيسى إنّما هو النّطق ، فقد تمكّن عقله وتكمّل في ذلك الزّمان الّذي أنطقه اللّه فيه .
ولا يلزم للمتمكّن من النّطق على أيّ حالة كان الصّدق فيما به ينطق ، بخلاف المشهود له كيحيى ، فسلام الحقّ على يحيى من هذا الوجه أرفع للالتباس الواقع في العناية الإلهيّة به من سلام عيسى على نفسه ، وإن كانت قرائن الأحوال تدلّ على قربه من اللّه في ذلك وصدقه ، إذ نطق في معرض الدّلالة على براءة أمّه في المهد ، فهو أحد الشّاهدين ، والشّاهد الآخر هزّ الجذع اليابس فتساقط رطبا جنيا من غير فحل ولا تذكير ، كما ولدت مريم عيسى من غير فحل ولا ذكر ولا جماع معتاد ).
 
( ثم ) أي : بعد هذه العناية والتكريم من اللّه تعالى لزكريا عليه السّلام ( أنه بشره ) ، أي : زكريا ( بما قدمه ) أي : يحيى على سائر من أحيى ذكر آبائهم بهم ، وعلى عيسى عليه السّلام ( من سلامه ) بما قدمه أي : بسبب تقديمه الحق لفظا ومعنى ، إذ قصد إحياء ذكره عزّ وجل في عقبه دون ذكر نفسه ، فظهر في مطلوبه بما له في قدمه من سلامه ؛ لتنزهه عن التعلق بالعالم في القدم ، فجعل سلامه ( عليه ) حتى سلم من التعلق بغير الحق ، فلم يفعل معصية ، ولا هم بها( يَوْمَ وُلِدَ ) ،فصارت ولادته الطبيعية كالمعنوية ، ويوم( يَمُوتُ ) فصار ثبوته الطبيعي كالاختياري ، ويوم ( يُبْعَثُ حَيًّا )[ مريم : 15 ] ،
فصارت حياته بعد الموت كالبقاء بعد الفناء ، ( فجاء ) لظهوره باسم السلام فيه (بصفة الحياة) ؛ ليدل على تنزيه حياته عن نقائص حياة المحدثات ، وهي وإن كانت بتعلق السلام أجرا ؛ فالأجر راجع إلى الأول والوسط أخذ بحكم الطرفين ، فالسلام متعلق بها في كل حال ، كيف ( وهي اسمه ) ؟ أي : داخل في مفهوم اسمه اللازم له أولا وآخرا ووسطا .
( وهو ) تعالى وإن لم يصرح بكون سلامه على هذا الاسم ، لكنه ( أعلم ) بطريق الإشارة ( بسلامه عليه ) ، فلا يتوهم عدم عمومه الأحوال ، كيف وهو تعالى صادق في إشارته مثل صدقه في عبارته ، إذ ( كلامه صدق ) من جميع الوجوهلا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ،وهو مفهوم العبادةوَلا مِنْ خَلْفِهِ[ فصلت : 43] ( وهو ) مفهوم الإشارة .
 
ثم مفهوم الإشارة وإن كان عند البعض ظنّا ، فهو عندنا ( مقطوع به ) ، فهو أي سلام الحق عليه بكل حال مقطوع به ، فسلام الحق على يحيى أرجح من سلام عيسى على نفسه من هذا الوجه ، ( وإن كان قول الروح ) أي : عيسى عليه السّلام :" وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا "[ مريم : 33 ] .
( أكمل من الاتحاد ) لفظا ؛ لإشعاره بحصر السلام فيه ، فيتحد فيه كل سلام فيدخل فيه سلام الحق ؛ ( فهذا ) أي : سلام الحق على يحيى ( أكمل من الاتحاد ) معنى ؛ لأن سلام الحق في معنى كل سلام مع أنه لم يلتفت إلى سلام الغير فيه أصلا ، ( والاعتقاد ) إذ يعتقد كل سامع أنه سلام الحق بخلاف سلام عيسى ؛ فإنه يتبادر إلى أذهان عامة السامعين أنه من عيسى لا من اللّه تعالى ، ( وأرفع للتأويلات ) أي : لاحتمال الكذب ، فإنه مرفوع في خبر الحق بالاتفاق ، ولا يرتفع في خبر عيسى قبل ظهور نبوته ، وإن ظهر فيه خرق العادة قبلها ، وإن كان له دلالة على صدق من ظهر بسببه .
 
(فإنّ الّذي انخرقت فيه العادة في حقّ عيسى إنّما هو النّطق ) في المهد ، فهو وإن دل في حقه على أمته المنافية لكونه ولد الزنا لا يدل على صدق المنطوق من أوله إلى آخره ، فإن الكرامة لا تدل على عصمة صاحبها عن الكذب ، إذ لم يبعث أمينا على وحي يجب بسببه عصمته عنه ، وليس كلامه كلام الحق على لسانه ، ( فقد تمكن عقله ) من تكلم بما تكلم به ، وما ينطق الحق على لسانه لا يتمكن عقله من ذلك ، كيف والحق لا يقول :"إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ" [ مريم : 30 ] إلى آخره ؛ وذلك لأنه عليه السّلام تكلم ( في ذلك الزمان الذي أنطقه اللّه فيه ) ، وإن كان في المهد إذ النطق فرع العقل الكامل إذ لم يكن نطق الحق .
( ولا يلزم للمتمكن من النطق على أي حالة كان ) أي : سواء كان ذاكرا أمه أم لا ( الصدق فيما به ينطق ) ، أي : في جميع ما ينطق به ، وإنما دلّ صدق المعجزة على صدق جميع ما ينطق به ؛ لأنه للدلالة على الصدق في الرسالة التي هي محتملة الأمانة الوحي والكرامة ، وإن دلت على صدق الولاية ، فليس فيها أمانة وحي ،
فهذا الاحتمال والتأويل له دخل في سلام عيسى على نفسه قبل النبوة ، وإن كان صاحب كرامة ( بخلاف المشهود له كيحيى ) ، وإن لم يكن صاحب كرامة ، ( فسلام الحق على يحيى من هذا الوجه ) ، وإن كان ينكره لا يفيد الحصر الكلي ( أرفع للالتباس ) أي : التباس الصدق والكذب من احتمال كل منهما ، وهذا الرفع هو ( الواقع في العناية الإلهية ) بزكريا عليه السّلام ؛ لأنه يدل على الاهتمام بتميز صدقه عن احتمال الكذب .
( من سلام عيسى على نفسه ، وإن كانت قرائن الأحوال تدل على قربه من اللّه في ) ظهور ( ذلك ) الخارق عليه ؛ لأنه كرامة أو إرهاص ، والقريب من اللّه بريء من الكذب ؛ لأنه نقص ، وذلك يدل على ( صدقه إذ ) لا واسطة بينهما في الأصح ، ( إذ نطق ) بطريق الكرامة التي تشبه المعجزة في الدلالة على ثبوت ما ظهرت له ( في معرض الدلالة على براءة أمه ) .
 
وهذا النطق وإن لم يكن خارقا للعادة من حيث هو نطق ، فهو خارق لها من حيث هو ( في المهد ) ، وهي وإن أشبهت المعجزة فلا تبلغ رتبتها في الدلالة على ثبوت ما ظهرت له لاحتمال الاستدراج فيها ، فلابدّ من شاهد آخر معها ، ( فهو ) أي : نطقه في المهد ( أحد الشاهدين ) على براءة أمه ، ( والشاهد الآخر ) وهو الأنسب للمدلول ( هز الجذع اليابس ) هزته ، ( فسقط ) ثمرها ( رطبا جنيّا ) من محل ، ولا تأثير مع أن النخل يحتاج إلى ذلك كالمرأة ، فكان سقوطه بدونها ، ( ولما ولدت مريم عيسى من غير فحل ) من الحيوان ، ( ولا ذكر ) من الإنسان ، ( ولا جماع ) عرفي ( معتاد ) من جبريل عليه السّلام ، وإن حصل نفخه رطوبة خالطت منيها من سريان الشهوة ، وإنما ذكر المعتاد مع العرفي ؛ لأن ثمة جماعا غير عرفي لكنه معتاد ، وهو إدخال نطفة الرجل في الفرج ، فإنه موجب للتولد على ما تراه الفقهاء ، وإن أنكره بعض الأطباء ، وهذا غير عرفي ولا معتاد بين احتمال الكذب في نظر العقل مع كونه مرجوحا ، بل مردودا بالقرائن المذكورة ، وبدلالة المعجزة بعد ذلك بمثال يفرضه المتكلمون فيما يخالف المعجزة للفرعون ،
وقالوا : إن كانت المخالفة في نفس المعجزة لم يدل على صدق المدعي ، وإلا فالصحيح دلالتهما على الصدق إن كانت المخالفة بعد مدة ، وكذا إن لم يتحلل مدة على الصحيح .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لو قال نبيّ : آيتي ومعجزتي أن ينطق هذا الحائط ، فنطق الحائط ، وقال في نطقه : تكذب ما أنت رسول اللّه ، لصحّت الآية ، وثبت بها أنّه رسول اللّه ، ولم يلتفت إلى ما نطق به الحائط ؛ فلمّا دخل هذا الاحتمال في كلام عيسى بإشارة أمّه إليه وهو في المهد ، كان سلام اللّه على يحيى أرفع من هذا الوجه ، فموضع الدّلالة أنّه عبد اللّه من أجل ما قيل فيه إنّه ابن اللّه وفرغت الدّلالة بمجرّد النّطق وأنّه عبد اللّه عند الطّائفة الأخرى القائلة بالنّبوّة ، وبقي ما زاد في حكم الاحتمال في النّظر العقليّ حتّى ظهر في المستقبل صدقه في جميع ما أخبر به في المهد فتحقّق ما أشرنا إليه ).
  
فقال : ( لو قال نبي : آيتي ومعجزتي ) إنما جمع بينهما ؛ ليدل على أن المعجزة إذا خالفت الدعوة مخالفة لا تضر في الدلالة على الصدق ، كانت آية على صدقه ، فلا تكون مخالفته منافية لقوله : إنها آيتي ( أن تنطق هذا الحائط ) قيد بالإشارة ؛ لأنه لو نطق غيره من الحيطان ، فلا دلالة في ذلك أصلا ؛ فلذلك أظهره في قوله : ( فنطق الحائط ) أو لا بما لا تكذيب له فيه ، وإلا كان نفس المعجزة مكذبا ، فيزداد اعتقاد الكذب ، ويدل على هذا القيد آخر كلام الشيخ - رحمه اللّه - ولكن ( قال في ) أثناء ( نطقه تكذب ما أنت رسول اللّه ) إنما ذكره ؛ لأن الكذب أعم من أن يكون في دعوى الرسالة أو غيرها ، ( فصحت الآية ) بالنطق الأول الذي لا تكذيب فيه ، ( وثبت بها أنه رسول اللّه ) ، وإنما ذكره لئلا يتوهم أنه إنما يكون أنه لثبوت رسالة نبي آخر ؛ ولثبوت كونه وليّا لا نبيّا ، ( ولم يلتفت )
 
على الصحيح عند المتكلمين ( إلى ما نطق به الحائط ) بعد ذلك عن اختياره ، أو لا مخالفة في القدر التي تصح بها المعجزة وإن كانت فيما هو من جنسها .
( فلما دخل هذا الاحتمال في ) آخر ( كلام عيسى ) مع أن أوله ليس بمعجزة تدل على صدقه في جميع ما نطق به بعده ، إذ كان ( بإشارة ) امتثاله ، وكيف يكون أوله معجزة له ( وهو ) الآن ( في المهد ) ولا نبوة إلا بعد أربعين سنة ( كان سلام اللّه على يحيى أرفع من هذا الوجه ) ، إذ لا احتمال فيه أصلا ، وفي كلام عيسى عليه السّلام في آخره هذا الاحتمال بوجه من الوجوه ، وإن ارتفع بالقرائن ودلالة المعجزة بعد ، وإن كانت كرامة لأمه .
 
( فموضع الدلالة ) إنما هو كلامه وهو ( أنه عبد اللّه ) ، فإنه من حيث هو كرامة لأمه دل على براءتها من الفجور لمنافاة الكرامة إياه ، لكن تخصص هذا اللفظ ( من أجل ما قيل فيه أنه ابن اللّه ) ؛ لأن الولد إما ولد الحلال أو ولد الزنا ، والكرامة تنافي كونه ولد الزنا ؛ فهو ولد الحلال ، ولكن ولد الحلال لا يكون بلا أب ولا أب له غير اللّه بالاتفاق ، فهو اللّه سبحانه وتعالى والمقدمة الاستثنائية ممنوعة ، فإن ولد الحلال إنما لا يكون بلا أبّ إذا كان بحسب العادة المستمرة لا بخرق العادة ، ( وفرغت الدلالة ) على براءة الأم ( بمجرد النطق ) سواء نطق ( بأنه عبد اللّه ) ، أو بأن اللّه برّأه أم لا ؛
 
ولكن ثبت بقوله :إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أنه عبد اللّه ( عند الطائفة الأخرى القائلة بالنبوة ) ؛ لأنه إرهاص يجري مجرى المعجزة في الصدق بخلاف من يقول إنه ابن اللّه ، فإنه يؤوله بأنه كعبد اللّه في القيام بأوامره ونواهيه ، وبخلاف من قال إنه ولد الزنا ، فإنه يقول هذا من سحر أمه وشيطنتها ، لعنهم اللّه فأصمهم وأعمى أبصارهم ، ( وبقي ما زاد ) من قوله :آتانِيَ الْكِتابَ[ مريم : 30 ] إلى قوله :وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم : 33 ] في حكم الاحتمال ،
أي : احتمال الكذب في النظر العقلي بدون النظر في القرائن ؛ لخروجه عن موضع الدلالة في صدوره عن اختيار منه بعد كمال عقله في حق من سمعه قبل ظهور المعجزة ، حتى يظهر في المستقبل صدقه بظهور المعجزات على يديه الدالة على صدقه في جميع ما أخبر به ، حتى فيما أخبر به وهو في المهد عناية علم بالمعجزة أنه كان إرهاصا وله حكم المعجزة ؛ لكن إنما يعرف ذلك بعد ظهور المعجزة .
 
فتحقق ( ما أشرنا إليه ) من رفع الالتباس في سلام الحق على يحيى من كل وجه ، بخلاف سلام عيسى على نفسه في بادئ الرأي ، وإن ارتفع عند التحقيق ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
ولما فرغ عن بيان الحكمة الجلالية المتعلقة بأول الأسماء ، وهو الدّال على جلال
 
الذات ، شرع في بيان ما به تعلقها بالعالم مع استغنائها عنه بنفسها ، إذ لو افتقر لم يتقدم على المفتقر إليه لها ، والمتأخر لإمكانه في نفسه يفتقر إلى المتقدم ، فلابدّ له من متعلق به ، وليس تعلق الافتقار لما ذكرنا لبطلان الدور ؛ فهو تعلق الملائكة الذي لا تصرف بدونها ؛
فقال فص الحكمة المالكية في الكلمة الزكرياوية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:17 am

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

الفص الزكرياوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم  
الفصّ الزكرياوي
21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية       الجزء الأول 
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بمالكية الحق لكل ما سواه ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى زكريا عليه السّلام ؛ فإنه لما تحقق بمقام العبودية على الكمال بما بالغ في التذلل والدعاء ظهر فيه الحق بمالكيته للكل ، فأعطاه قوة التصرف في نفسه وروحه بتقويتهما وإصلاحهما والغلبة على موالي السوء فيما أنتج له من تقويتهما ، ولما كانت المالكية عن احتياج المملوك إلى المالك ، وقضاء حاجة الشخص رحمة عليه كانت المالكية رحمة عامة على الكل ؛
ولذلك قال عزّ وجل في حقه :ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا[ مريم : 2 ] ، فنسب الرحمة إلى رب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ليدل على عمومها ، فأضاف العبد إلى الهوية ليدل على كمال عبوديته ؛ لأنه عبد جميع الأسماء حتى لم يتميز في حقّه ، فصار كأنه عبد الذات ؛ ولذلك استوجب أكمل وجوه الرحمة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أنّ رحمة اللّه وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ، وأنّ وجود الغضب من رحمة اللّه بالغضب ؛ « فسبقت رحمته غضبه » . رواه ابن حبان والبيهقي  
أي : سبقت نسبة الرّحمة إليه نسبة الغضب إليه ، ولمّا كان لكلّ عين وجود يطلبه من اللّه ، لذلك عمّت رحمته كلّ عين ، فإنّه برحمته الّتي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه ، فأوجدها ، فلذلك قلنا : إنّ رحمة اللّه وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ، والأسماء الإلهيّة من الأشياء ؛ وهي ترجع إلى عين واحدة ؛ فأوّل ما وسعت رحمة اللّه شيئيّة تلك العين الموجدة للرّحمة بالرّحمة ، فأوّل شيء وسعته الرّحمة نفسها ثمّ الشيئيّة المشار إليها ، ثمّ شيئيّة كلّ موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة وعرضا وجوهرا ، ومركّبا وبسيطا ، ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملائمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم كلّه وسعته الرّحمة الإلهيّة وجودا ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( اعلم أنّ رحمة اللّه وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ) أي : بإعطائه إياها الوجود ، وأحكامه من الصفات والإضافات وسائر الاعتبارات .
ثم استشعر سؤالا بأنه لو عمت رحمته كل شيء لم يوجد الغضب أصلا ، إذ هو مقابل للرحمة ؟
وأجاب عنه بقوله : ( وأنّ وجود الغضب من رحمة اللّه بالغضب ) في نسخة : " وأن وجود الغضب رحمة بالغضب " .  
 
وإن لم تكن رحمة بالمغضوب عليه ، فلا تقابل بين الرحمة وبين وجود الغضب ؛ ولذلك اجتمعا في المغضوب عليه ، فإنه مرحوم بإعطاء الوجود ، وإنما التقابل بين حقيقة الرحمة وحقيقة الغضب ، وإذا كان وجود الغضب من الرحمة ؛
قال رضي الله عنه :  ( فسبقت رحمته غضبه ) ؛ لأنها سبب وجوده ، والسبب مقدم على المسبب ، ولما كان المتبادر إلى الوهم من هنا أن الرحمة تمحو الغضب في الآخر بالكلية ،
إزال ذلك بقوله : ( أي : سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه ) ؛ لأن ما يكون انتسابه إلى الشيء بالواسطة فنسبته متأخرة عن نسبة الواسطة إليه ، وسبق النسبة لشيء بالغضب إلى شيء لا يقتضي رفع ما يكون نسبته متأخرة في وقت ما .
 
ثم أشار إلى وجه عموم الرحمة ؛ فقال : ( ولما كان ) في العلم الإلهي ( لكل عين ) بالعبودية فيه ( وجود ) مقداره إذا خرج إلى الفعل حصل كمالها ، وهي ( تطلبه ) بلسان الاستعداد ( من اللّه ) ، وإعطاؤه المطلوب رحمة منه على الطالب ؛ ( لذلك عمت رحمته كل عين ) ، وإنما كان وجود كل شيء رحمة عليه ، وإن كرهه البعض عن شدة وابتلاء ، ( فإنه برحمته التي رحمه بها ) وراء ما يرحم بابتلائه المنعمين من أهل معرفته ، إذ يرون كمال نعمهم ، ويعرفونها ببلائه ، فإنه إنما تعرف الأشياء بأضدادها ( قبل ) أي : أجاب ( رغبته ) أي :
دعاؤه وطلبه بلسان الاستعداد ( في وجود عينه ) ؛ لكونه كمالا لها ، ( فأوجدها ) ثم عرضت لها الكراهة ، فلا عبرة بها ، ( فلذلك قلنا : إن رحمة اللّه وسعت كل شيء وجودا وحكما ) ، فإن بعض الأحكام ، وإن كانت مكروهة الآن كانت مرغوبة للأعيان حينئذ .
 
ثم استشعر سؤالا بأنه كيف وسعت رحمته كل شيء ، وأعظم الأشياء ذات اللّه وأسماؤه وصفاته ، ولا يحصل لها الوجود بعد العدم ، فكيف تكون مرحومة ، ومن جملتها الرحمة ، فكيف وسعت نفسها ؟
 
فأجاب بقوله رضي الله عنه  : وأما ( الأسماء الإلهية ) ؛ فهي وإن لم تكن مرحومة باعتبار أنفسها ، فهي مرحومة باعتبار كونها ( من الأشياء ) التي هي صورها ، وكذا الذات الإلهية ، وإن كانت غنية عن العالمين ، فلها ظهور بظهور أسمائها إذ ( هي ترجع إلى عين واحدة ) ، وهي أيضا مرحومة بهذا الاعتبار ، وهي سابقة على الأسماء بالذات وظهورها كذلك ؛ لأن ما بالذات لا يزول بالغير ، ( فأول ما وسعته رحمة اللّه ) أضافها إلى اللّه احترازا عن الرحمة الذاتية التي أول ما وسعته نفس الرحمة الإلهية ( شيئيّة تلك العين ) ، أي : صورة ظهورها في المظاهر ، فإن وجود كل شيء سابق على سائر صفاته التي هي صور الأسماء والصفات ، ولهذه العين رحمة ذاتية أوجدت الرحمة الإلهية ، كما أشار إليه بقوله : ( الموجودة للرحمة بالرحمة ) ، إذ لا بدّ من نسبة بين الموجد والموجد .
 
قال رضي الله عنه :  ( فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ) ، وإن يغايرنا بالذات والإلهية ، فهما واحد بالماهية ، ( ثم الشيئية المشار إليها ) ، فإنها وإن كانت مرحومة للرحمة الإلهية ، فهي أيضا مرحومة للرحمة الذاتية إذ مرحوم المرحوم للشيء مرحوم لذلك الشيء ، ( ثم شيئية ) عين ( كل موجود ) ، فإن لها ظهورا بعد ظهور الوجود فيهما ؛
لأنه حينما ( يوجد ) يصير شيئا بعد ما كانت عينا ثابتة ؛ فإن لكل عين من الموجودات ثبوتا في العلم الأزلي ، وإن كانت بالغة ( إلى ما لا يتناهى ) ، وإن كان غير المتناهي يمتنع اجتماعها في الوجود ؛ لكن لا مانع في ذلك إذ وجدت مرتبة ( دنيا وآخرة ) ، فالدنيا وإن تناهت فلا تتناهى الآخرة ( عرضا وجوهرا ) ، فإن للعرض عينا ثابتة غير عين الجوهر ، ( ومركبا وبسيطا ) ، فإن للمركب أيضا عينا ثابتة غير مجعولة في علم الحق كالبسيط ، ولعل الجواهر البسيطة غير متناهية ، فالملائكة المنحصر كل نوع منها في شخص ، وهم جواهر بسيطة ؛ فكيف بتناهي الأعراض والمركبات ؟
 
ثم استشعر سؤالا بأنه : كيف وسعت الرحمة كل شيء ، وهي مختصة بملائمة طبع أو حصول غرض ، ومن الأشياء ما لا يلائم طبعا ، ولا يحصل غرضا ؟
 
فأجاب بقوله : ( ولا يعتبر فيها حصول غرض ، ولا ملائمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم ) ، وموافق الغرض وغير موافقة كله ( وسعته الرحمة الإلهية وجودا ) ، إذ هو خبر محض في نفسه ، وإنما يكون سرّا بالنظر إلى الغير عن منعه كماله ، وكيف يعتبر فيهما حصول غرض أو ملائمة طبع ، وهما للموجودات دون المعدومات ؟
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ذكرنا في الفتوحات أنّ الأثر لا يكون إلّا للمعدوم لا للموجود ، وإن كان للموجود فبحكم المعدوم ، وهو علم غريب ، ومسألة نادرة ، ولا يعلم تحقيقها إلّا أصحاب الأوهام ، فذلك بالذّوق عندهم ، وأمّا من لا يؤثّر الوهم فيه ؛ فهو بعيد عن هذه المسألة .
فرحمة الله في الأكوان سارية ... وفي الذوات وفي الأعيان جارية
مكانة الرحمة المثلى إذا علمت ... من الشهود مع الأفكار عالية
فكلّ من ذكرته الرّحمة ؛ فقد سعد ، وما ثمّة إلّا من ذكرته الرّحمة ، وذكر الرّحمة الأشياء عين إيجادها إيّاها ، فكلّ موجود مرحوم ، ولا تحجب يا وليّ عن إدراك ما قلناه بما تراه من أصحاب البلاء ، وما تؤمن به من آلام الآخرة الّتي لا تفتر عمّن قامت به ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( وقد ذكرنا في الفتوحات أن الأثر ) أي : أثر الرحمة ، وهو الإيجاد ( لا يكون إلا للمعدوم ) لا للموجود لما فيه من تحصيل الحاصل ، ( وإن كان ) الأثر ( للموجود ) ، كما قيل :  لو كان للمعدوم لاجتمع الموجود والعدم ، ( فبحكم المعدوم ) كان يقابل أنه للموجود بذلك الإيجاد ، وتحصيل الحاصل إنما يكون لو كان بإيجاد آخر ، ولا شكّ أن الموجود بهذا الإيجاد معدوم عنده أو في حكمه ، ( وهو ) أي : القول بكون الأثر للموجود بحكم المعدوم ( علم غريب ) ، فإن المتكلمين ما قالوا إلا بالوجود المحض أو العدم المحض ، وما قالوا بالجمع بينهما إن كان في المتكلمين قائل بذلك ؛
فهي ( مسألة نادرة ) لا توجد في عامة الكتب ، ( ولا يعلم تحقيقها إلا أصحاب الأوهام ) ، إذ أرباب العقول يرون أنه جمع بين النقيضين ، ( فذلك ) العلم إنما يحصل ( بالذوق عندهم ) لا بتجاوزهم إلى غيرهم ، إذ تعارض العقل الوهم فيرده في حقهم ، ولا يمكنه ردّ الحاصل بالذوق في حق أرباب الذوق منهم ، لكن يحصل لصاحب الوهم إذا لم يحصل له ذوق نوع قرب من المسألة .
 
قال رضي الله عنه :  ( وأما من لا يؤثر الوهم فيه ، فهو بعيد عن هذه المسألة ) ؛ لتجرد العقل في حقه ، وهو قادح ولا معارض في حقه ، وإن كانت رحمة اللّه مؤثرة في إيجاد موجود بحكم المعدوم ، ( فرحمة اللّه في الأكوان ) التي هي الموجودات المحدثة ( سارية ) سريان الكلي الذاتي في جريانه ، ( وفي الذوات وفي الأعيان ) التي هي المعدومات الثابتة الظاهرة عند ظهور الوجود بها ، وفيها ( جارية ) جريان الغرض العام على مغروضاته ، وعند ذلك فلا تعرف أن محلها الأصلي الأكوان والأعيان أو بالشهود ،
 
وإليه الإشارة بقوله : ( مكانة الرحمة المثلى ) صفة المكانة ( إذا علمت من الشهود ) علم أنها ( مع الأفكار عالية ) ، فإن الأفكار ترى تعلقها بالأعيان فتتميز في أنها حين تعلقها ، هل هي موجودة أو معدومة ؟
وفي الأول تحصيل الحاصل ،
وفي الثاني اجتماع النقيضين ،
وصاحب الشهود يقول : إن تعلقها الأول بالأكوان المتعلقة بالأعيان ، فهي تتعلق بالموجود بحكم المعدوم ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
وإذا كانت الرحمة جارية على الأعيان التي كان لها الوجود بالقوة ، ولم يخرج إلى الفعل ؛ ( فكل من ذكرته الرحمة ، فقد سعد ) بخروج ما له بالقوة إلى الفعل ، فيحصل له كماله ( وما ثمة ) ، أي : في الواقع ( إلا من ذكرته الرحمة ) إما بإيجاده في الخارج أو في الذهن ، فلا هدم مطلقا إلا متوهما ذلك إن ( ذكر الرحمة الأشياء ) ضد عدمها ( عين إيجادها إياها ) إما في الخارج أو في الذهن ، إذ هو كمال لها حينئذ ، وإن كان كمالها بعد ذلك غير ذلك ، وهو ما يحصل غرضا أو يلاءم طبعها ،
 
قال رضي الله عنه :  ( فكل موجود مرحوم ) ابتداء ، وإن كان مبتلى معذبا انتهاء كماله ، أشار إليه بقوله : ( ولا تحجب يا ولي ) ، وإن احتجب غيرك ( عن إدراك ما قلناه ) من أن كل موجود مرحوم ( بما تراه بالحس من أصحاب البلاء ) في الدنيا ، ( وما تؤمن به من آلام الآخرة التي لا تفتر عمن قامت به ) ، حتى يمكن أن يقال :
إن ما يحصل بعدها من الراحة العظيمة غرض عنها ؛ فهي رحمة في حقّهم ، فإن العذاب ، وإن انقطع عنهم مدة يسيرة يعود عليهم بسرعة بحيث لا يعد ما تخلل فترة ، فإذا كذب يحتجب بذلك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فاعلم أوّلا أنّ الرّحمة إنّما هي في الإيجاد عامّة ، فبالرّحمة بالآلام أوجد الآلام ، ثمّ إنّ الرّحمة لها الأثر بوجهين  : أثر بالذّات وهو إيجادها كلّ عين موجودة ، ولا تنظر إلى غرض ولا إلى عدم غرض ؛ ولا إلى ملائم ولا إلى غير ملائم ؛ فإنّها ناظرة في عين كلّ موجود قبل وجوده ، بل تنظره في عين ثبوته ، ولهذا رأت الحقّ المخلوق في الاعتقادات عينا ثابتة في العيون الثّابتة ، فرحمته بنفسها بالإيجاد .
ولذلك قلنا : إنّ الحقّ المخلوق في الاعتقادات أوّل شيء مرحوم بعد رحمتها بنفسها في تعلّقها بإيجاد المرحومين ، ولها أثر آخر بالسّؤال ، فيسأل المحجوبون الحقّ أن يرحمهم في اعتقادهم ، وأهل الكشف يسألون رحمة اللّه أن تقوم بهم ، فيسألونها باسم اللّه فيقولون يا اللّه ارحمنا ،
ولا يرحمهم إلّا بقيام الرّحمة بهم ، فلها الحكم ، لأنّ الحكم إنّما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحلّ ، فهو الرّاحم على الحقيقة ؛ فلا يرحم اللّه عباده المعتنى بهم إلّا بالرّحمة ، فإذا قامت بهم الرّحمة وجدوا حكمها ذوقا ، فمن ذكرته الرّحمة فقد رحم ، واسم الفاعل هو الرّحيم والرّاحم)
 
"" أضاف المحقق :
الحاصل أن للرحمة اعتبارين :
أحدهما : اعتبارها من حيث النظر إلى محلها أعني : الذات الإلهية ، وهي بهذا الاعتبار واحدة لا تميز فيها بين شيء وشيء ، ويقال لها بهذا الاعتبار الرحمانية ،
وثانيها : اعتبارها من حيث النظر إلى متعلقها الذي هو المرحوم ، وهو مختلف متعدد باختلاف استعداداته .  شرح الجامي ""
 
قال رضي الله عنه :  ( فاعلم أولا ) أن البلايا والآلام ، وإن كانت تقابل الرحمة في حق من فاضت به ؛ فهي من حيث وجودها عين الرحمة في حق أنفسها ، وذلك ( أن الرحمة ) التي هي الجود الإلهي ( إنما هي في الإيجاد ) الذي إعطاؤه إفادة ما ينبغي لا لعوض ولا لغرض ، وهذه الرحمة ( عامة ) لا تختص بما هي أغراض للأشياء أو ملائمة لطبائعها ، إذ قد يكون ما ينبغي غير ذلك ، ( فبالرحمة بالآلام ) من حيث ينبغي إفادتها الوجود ، إذ بذلك يعلم حقيقة اللذة وقدر النعمة ، ويؤجر المخالف ، ويعطى العابر أجره بغير حساب ، ويعرف الاستغناء الإلهي وقهره وقوته إلى غير ذلك من الفوائد ( أوجد الآلام ) إذ لم تؤلم أنفسها ، وكما يتألم بها شخص قامت به ، يلتذ شخص دفعت عنه ، فهما عارضان متعارضان .
 
قال رضي الله عنه :  ( ثم ) بعد أن علمت أن الرحمة في نفس الإيجاد عامة ، اعلم ( أن الرحمة لها الأثر ) في المرحوم ( بوجهين ) أحدهما ما مرّ ، وهو لا يتعلق سؤال بلسان الحال أو المقال إذ هو ( أثر بالذات ) ؛ لأن الجود الإلهي يقتضي ذلك ، ( وهو ) ، أي : الأثر الذاتي ( إيجادها كل عين موجودة ) ، أي : قابلة للوجود إذ منع القابل حقه بخل ينافي الجود ، ( ولا تنظر ) الرحمة بهذا الاعتبار
 
قال رضي الله عنه :  ( إلى غرض ، ولا إلى عدم غرض ، ولا إلى ملائم ، ولا إلى عدم ملائم ) ؛ لأن ما ينبغي فعله لا لعوض ، ولا لغرض أعم من موافقة أغراضنا أو ملائمة طباعنا ، كيف وهي أمور عارضة لنا بعد وجودنا ، والجود الإلهي سابق على ذلك ؛ فالرحمة التي منشأها ذلك الجود ؛ كذلك لامتناع تخلف العلة عن المعلول ؛
 
قال رضي الله عنه :  ( فإنها ناظرة ) إلى ( عين كل موجود قبل وجوده ) من حيث كان الوجود حقه الذي ينبغي أن يفعل به ( بل تنظره في عين ثبوته ) ، وفيه الوجود بالقوة ، فكماله الذي هو إخراجه إلى الفعل مما ينبغي أن يفعل ، ولا غرض ، وملائمة طبع حينئذ ، فكيف يمكن اعتبارهما .
 
قال رضي الله عنه :  ( ولهذا ) أي : ولكون الرحمة في الأثر الذاتي لا يتخلف عنها بحال ناظرة إلى كل عين في ثبوته ( رأت الحق المخلوق ) الذي هو صورة الحق القديم ، وإن اعتبر وجوده ( في الاعتقادات عينا ) ثابتة قابلة للوجود في الجملة ، فباعتبار ذلك صارت داخلة في العيون ( الثابتة ) ، وإن تميزت عينه بقبول الوجود الخارجي ، وإن لم يكن للحق القديم عين ثابتة إذ لا قابلية للوجود فيه ؛ لأنه نفس الوجود الحقيقي ، ( فرحمته بنفسها ) من غير سؤاله بلسان الحال أو المقال ( بالإيجاد ) في الذهن ، إذ بذلك يستر في حقه إذ الأمر الاعتقادي لا يقبل ما وراء ذلك ، وإن كان الحق المخلوق باعتبار آخر أعم من ذلك .
 
قال رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي : ولأجل أن الحق المخلوق عينا ثابتة قابلة للوجود في الذهن أو الخارج ، ( قلنا : إن الحق المخلوق ) أي : الصورة الوجودية في الخارج أو الذهن ( أول شيء مرحوم ) للرحمة بالأثر الذاتي ( بعد رحمتها ) المتعلقة ( بنفسها ) ، فهذه الأولية ( في تعلقها بإيجاد ) سائر ( المرحومين )  من الأكوان والأعيان ، فتعلقها بالأكوان سابق على تعلقها بالأعيان ، فإن الأعيان إنما وجدت بوجود صور الوجود الحق فيها ، فوجود الأكوان التي هي صور وجود الحق سابق على وجود الأعيان ، وهذا أثر الرحمة بالذات ،
 
قال رضي الله عنه :  ( ولها أثر آخر ) لا بالذات ، ولا بالنظر إلى المجيد بل ( بالسؤال ) من المرحوم بلسان حاله أو مقاله لموافقة الغرض أو ملائمته الطبع ، ولا يخل في منعه من لم يسأل ، وإن كان في إعطائه إياه مزيد إفضال ، إذ لا مانع ما لا يستوجبه الشيء غير تخيل ،
 
وإذا كان هذا الأثر منها بالسؤال منا ، فالسؤال مؤثر في تأثيرها لكنها عين التأثير ، فالسؤال مؤثر فيها ، وهو حادث ، وما يؤثر فيه الحادث فهو حادث ، وفي غرض لا يقوم بذات اللّه تعالى ؛ لامتناع قيام الحوادث بذاته عزّ وجل فهي قائمة بذواتنا ، ولكن لا يعرف المحجوبون هذا ؛ ( فيسأل المحجوبون الحق أن يرحمهم ) برحمة قائمة بذاته ( في اعتقادهم ) ، فربما يرحمهم برحمة قائمة بصورته المنطبعة في اعتقادهم ؛ لكونه عند ظن عبده به ، وربما لا يرحمهم ؛ لأنهم سألوا أمرا باطلا ، ويتفاوت في هذا المضطر منهم وغيره .
قال رضي الله عنه :  ( وأهل الكشف يسألون رحمة اللّه أن تقوم بهم ) بإشراق نورها عليهم ، فيسألونها باسم اللّه ليزكيهم هذا الاسم فيسعد محلهم لقبول النور من رحمته ، فيقولون : باللّه ، وينادون الاسم الجامع ؛ ليتم تزكية نفوسهم بنوره الكامل .
 
( ارحمنا ) أي : أشرق علينا نور رحمتك ؛ لتقوم بنا الرحمة ، وإنما أوّلناه بهذا ؛ لأنه لا يرحمهم بتحصيل مسئولهم إلا قيام الرحمة بهم ؛ لأن الرحمة القائمة بالحق لا تتوقف في التأثير على فعل الغير ، وإنما تتوقف على استعداده بحسب جريان السنة الإلهية ، ولا استعداد لإشراق نور الرحمة الإلهية عليهم إلا بالتزكية الحاصلة عن سؤالهم إياها باسمه المفيد للتزكية بمقتضى قوله :قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ( 14 ) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ( 15 )الأعلى : 14 ، 15 ] ، فإشراق نور الرحمة منه رحمة منه ؛
"" أضاف المحقق :
أي : تجل علينا باسمك الرحيم ، واجعلنا راحمين كما أنك راحم ، فانظر الفرق بين السؤالين ؛ فإن المسؤول عنه في السؤال الأول للحق المخلوق الذي لا شعار له بنفسه ، ولا لغيره ؛ فكيف يتمكن من اتصال الرحمة إليه . شرح الجامي ."".
 
قال رضي الله عنه :  ( فلها الحكم ) ، وإن اجتمعت هاهنا الرحمتان ؛ ( لأن الحكم إنما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحل ) ، إذا استند إليه وإلى الأمر المباين ؛ لأن القائم بالمحل سبب قريب والمنفصل سبب بعيد ، والتأثير إنما هو للقريب ، وإن لم يستقل بدون البعيد ، وإذا كان أثر الرحمة بالسؤال بلسان الحال والمقال مما يوافق الغرض ، أو يلاءم الطبع بالرحمة القائمة بالمرحوم ، ( فلا يرحم اللّه عباده المعتنى بهم إلا بالرحمة ) الموجودة فيهم رحمة تقوم بهم ؛ لأن رحمتهم من قبيل ما يوافق الغرض أو يلائم الطبع لا محالة فهم ، وإن لم يسألوا بلسان المقال سألوا بلسان الحال .
 
قال رضي الله عنه :  ( فإذا أقامت بهم الرحمة ) المسئولة ( وجدوا حكمها ) ، وهو تأثيرها بحصول المسؤول ، ويتسمى الفاعل راحما أو رحيما ، والمفعول مرحوما ( ذوقا ) ؛ لأن هذا الحكم من جملة الأحوال التي ليست موجودة ولا معدومة ، فلا يدرك إلا بالذوق ، فإن العقل لا يدرك الواسطة بين المعدوم والموجود ، وسائر المشاعر إنما تدرك الموجودات ؛ وذلك لأن المعتبر هاهنا أربعة أمور : الرحمة ، وذات الراحم ، وذات المرحوم ، وتأثير الرحمة في حصول المسؤول ، وفي تسميتها راحما ومرحوما ، والموجود إنما هو الثلاثة الأول ، ( فمن ذكرته الرحمة ) ، أي : تعلقت به تعلق الوقوع ، ( فقد رحم ) ، أي : صار مرحوما ، (واسم الفاعل هو الرحيم ) إن قصد الثبوت ، ( والراحم ) إن قصد الحدوث .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والحكم لا يتّصف بالخلق لأنّه أمر توجبه المعاني لذواتها ، فالأحوال لا موجودة ولا معدومة ، أي : لا عين لها في الوجود ؛ لأنّها نسب ، ولا معدومة في الحكم ؛ لأنّ الّذي قام به العلم يسمّى عالما وهو الحال ، فعالم ذات موصوفة بالعلم ، ما هو عين الذّات ، ولا عين العلم ، وما ثمّ إلّا علم وذات قام بها هذا العلم ، وكونه عالما حال لهذه الذّات باتّصافها بهذا المعنى فحدثت نسبة العلم إليه ؛ فهو المسمّى عالما ، والرّحمة على الحقيقة نسبة من الرّاحم ، وهي الموجبة للحكم ، فهي الرّاحمة ، والّذي أوجدها في المرحوم ما أوجدها ليرحمه بها ، وإنّما أوجدها ليرحم بها من قامت به ، وهو سبحانه ليس بمحلّ للحوادث ، فليس بمحلّ لإيجاد الرّحمة فيه ، وهو الرّاحم ، ولا يكون الرّاحم راحما إلا بقيام الرّحمة به ، فثبت أنّه عين الرّحمة ).
 
قال رضي الله عنه :  ( والحكم ) وهو تأثير الرحمة فيما ذكرنا ( لا يتصف ) مع حدوثه ( بالخلق ) ، وإلا احتاج إلى تأثير آخر ، وهلم جرّا ، فيلزم التسلسل في الأمور الموجودة ، وليس تقديم ، وإلا قدم الأثر ولا معدوم ، إذ لا يحصل منه شيء فهو حال ؛ ( لأنه أمر توجيه المعاني ) كالعلم ، والقدرة ، والرحمة ، والضرب ، والقتل ( لذواتها ) ، إذ لا تتصور تلك المعاني بدون أن يسمى من قامت به عالما قادرا راحما ضاربا قاتلا ، والخلق لا تكون من لوازم ذات الخالق بحيث لا يتصور دونه ، والقديم لا يكون موجبا ، والمعدوم لا يكون موجبا لشيء ولا موجبا ، فهو من جملة الأحوال التي قال بها أبو بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين في أحد قوليه ، وأبو هاشم .
 
قال رضي الله عنه :  ( فالأحوال لا موجودة ، ولا معدومة ، أي : لا عين لها في الوجود ؛ لأنها نسب ) أي :
لدخول النسب المعدومة في مفهوماتها ، ( ولا معدومة في الحكم ) إذ يحكم بها المعاني لذواتها ، وبها تحكم على محل صدورها ووقوعها ويقع التأثير والتأثر ؛ ( لأن الذي قام به العلم يسمى عالما ، وهو ) أي : كونه مسمى بالعالم هو ( الحال ) التي ليست موجودة ولا معدومة ؛ لأنها زواجر بعضها موجودة وبعضها معدومة ، ( فعالم ذات موصوفة بالعلم ) ، فهو مجموع من الذات والعلم والنسبة الموجبة ؛ لكون العلم صفة للذات ، ( فما هو عين الذات ، ولا عين العلم ) ؛ لأن المجموع لا يكون عين كل واحد من أجزائه، وليس جميع أجزائه موجودة ؛ لأنه (ما ثم) في الوجود ( إلا علم وذات ) ،


وإن اعتبرت من حيث ( قام بها هذا العلم ) قيده بإشارة ؛ ليدل على وجود الصفة مع أن اتصاف الذات ليس من قبيل الموجودات ، ( فكونه عالما حال لهذه الذات باتصافها بهذا المعنى ) ، فهو صفة لموجود لا موجودة ، ولا معدومة أوجبها له هذا المعنى ، وإذا اتصفت الذات بهذا المعنى ( فحدثت نسبة العلم إليه ) ، والنسبة من المعدومات ، والعلم والذات من الموجودات ، اجتمعت في الذات المذكورة
قال رضي الله عنه :  ( فهو المسمى عالما ) ، والمجموع من الموجود والمعدوم لا موجود ولا معدوم ، فهو من الأحوال ، وإن صدق على موجود كزيد ضرورة أن كل حال صفة له ، فإذا كان هذا في العلم ، فكذا الراحم بل أولى ، وذلك أن الذي وإن كانت موجودة باعتبار أن المراد بها رقة القلب ، أو إرادة الإنعام .
 
قال رضي الله عنه :  ( فهي على الحقيقة ) باعتبار تعلقها بالمرحوم ( نسبة من الراحم ) إليه ، وهي من المعدومات ، ( وهي ) أي : وتلك ( النسبة ) التي هي من المفهوم الحقيقي للرحمة هي ( الموجبة للحكم ) الذي هو تأثير الرحمة بتحصيل الأمر المرحوم به ، وهو الإنعام أو الإيجاد ، وبتسمية من ذكرته بالمرحوم ، ومن صدرت منه بالرحيم أو الرحم ، إذ لا توجبها الإرادة والرقة ،
إذ لا تعدي لهما إلى المرحوم ، ولا المرحوم به ، فكيف لا يكون الراحم المتضمن لهذه النسبة من الأحوال مع تضمنه نسبة هذه النسبة إلى الذات ، ثم إن الذات وإن وصفت بالراحمية ، فراحميتها بواسطة الرحمة ؛ فهي سبب قريب (فهي الراحمة ) ، فمفهومها الحقيقي عين النسبة ، لكن لهذه النسبة نسبة إلى الذات بغرضيها ؛ فهي من الأحوال بلا شكّ .
 
ثم استشعر سؤالا بأنها لو كان مفهومها الحقيقي نسبة لكانت حادثة ؛ لتأخرها عن المنتسبين ، ولا يختلف هذا المفهوم في حق اللّه تعالى ، وحق الخلق ، فيلزم ألا يكون الحق رحما ، لكنه خلاف ما أجمع عليه الطوائف ممن أقر بالصانع سيما في الرحمة الإيجادية .
 
فأجاب عنه بقوله : ( والذي أوجدها ) باعتبار هذا المفهوم ( في المرحوم ) في الرحمة التي أثرها عن سؤاله ( ما أوجدها ؛ ليرحمه بها ) ، أي : ليصير الموجود راحما بها ، ( وإنما أوجدها ليرحم بها من قامت به ) ،
 أي : ليصير من قامت به راحما بها على نفسه ، فكذا الرحمة الإيجادية التي أثرها بغير سؤال من المرحوم ، يوجدها الحق في العين الثابتة للمرحوم ؛ ليرحم بها المرحوم على نفسه بإيجادها ، كما قلنا فيما تقدم : إن التكوين للشيء من نفسه بأمر ربه إذ هو ممتثل لأمره في ذلك ، وإلا فكيف يكون الحق موجدا للرحمة الإيجادية في نفسه ، وهي حادثة باعتبار مفهومها الذي لا يختلف ، (وهو سبحانه ليس بمحل للحوادث ، فليس بمحل  لإيجاد الرحمة فيه ) التي مفهومها ما ذكرنا .
 
ولكن قد اتفق الكل على أنه ( هو الراحم ، ولا يكون الراحم راحما إلا بقيام الرحمة ) بذاته لا بإيجادها ، كما لا يكون موجود السواد في جسم أسود ؛
ولذلك قال أهل السنة : لا يكون متكلما إلا بكلام يقوم بذاته ، وأنه لا يكون بإيجاد الزنا والسرقة والكفر ، زانيا وسارقا وكافرا ، فرحمته ليس لها هذا المفهوم الذي يوجب حدوثها ، ولا شكّ أنها إذا غايرت الذات فلها هذا المفهوم ،
قال رضي الله عنه :  ( فثبت أنه عين الرحمة ) ، وهي الراحمة ، فهو الراحم برحمة هي عين ذاته ليس لها مفهوم آخر ، لكن إنما تدرك عينيتها بالذوق ولا بدّ ، فالعقل لا بدّ ، وأن يتصور لها مفهوما آخر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن لم يذق هذا الأمر ، ولا كان له فيه قدم ما اجترأ أن يقول : إنّه عين الرّحمة أو عين الصّفة ،
فقال : ما هو عين الصّفة ولا غيرها ، فصفات الحقّ عنده لا هي هو ولا هي غيره ؛ لأنّه لا يقدر على نفيها ، ولا يقدر على أن يجعلها عينه ، فعدل إلى هذه العبارة ، وهي عبارة حسنة ، وغيرها أحقّ بالأمر منها ، وأرفع للإشكال ، وهو القول بنفي أعيان الصّفات وجودا قائما بذات الموصوف ، وإنّما هي نسب وإضافات بين الموصوف بها وبين أعيانها المعقولة ).
 
ولذلك قال رضي الله عنه  : ( ومن لم يذق هذا الأمر ) ، أي : عينية الرحمة للحق باعتبار أن ليس لها مفهوم آخر وراء النسبة ، ولا وجود لها ، وإنما هو الراحم ( ولا كان له فيه قدم ) أي : دخل أيضا ، فإن من لا يكون صاحب الذوق قد يعرف هذا في بعض الأشياء ؛ فإنه يعرف أنه ليس في الخارج شيء هو حيوان ، وشيء هو ناطق يتركب منهما الإنسان ، بل هما في الواقع واحد والعقل يتصورهما شيئين ما أخبر ( أن يقول : إنه ) تعالى : ( عين الرحمة ) ، بل هي من جملة أفعاله ، وفعل الشيء ليس عينه ( أو عين الصفة ) كالحياة والعلم ، والإرادة والقدرة ، والسمع والبصر والكلام ، وإلا لصدق أحدهما على الآخر مع أنه لا يقال : اللّه رحمة أو حياة أو علم ؛ ( فقال : ما هو ) أي : الحق ( عين الصفة ولا غيرها) .
 
وفي الرحمة صرح بعضهم بالغيرة ، وبعضهم قالوا فيها مثل ما قالوا في الصفة ، وفسروا الغيرين بموجودين يجوز انفكاك أحدهما عن الآخر ، فإن أرادوا بحسب التعقل انتقض بالمتضايقين على تقدير وجودهما ، وبالصانع مع صفاته ، وإلا لم ينكرها عاقل ، وإن أرادوا بحسب الخارج من جانب انتقض بالجزء مع الكل ، وإن أرادوا من الجانبين انتقض بالعلة مع المعلول ، ولكن هذا هو مرادهم ، فيكون ذلك في الصفات اللازمة والقديمة في معناها ،
 
قال رضي الله عنه :  ( فصفات الحق عنده لا هي هو ، ولا هي غيره ) ؛ لأنها إما منفية أو ثابتة ، والأول باطل ؛ ( لأنه لا يقدر على نفيها ) مع ثبوتها بالأدلة القطعية ، ومع ظهور آثارها ، وعلى تقدير ثبوتها ، فإما أن يكون غيره أو عينه ، ولا يقدر أن يقول غيره ، وإلا جاز الانفكاك من جانب أو جانبين في الواقع ، وهو باطل لمنافاة قدمها ذلك ، ( ولا يقدر أن يجعلها عينه ) ؛ لامتناع حملها عليه ، (فعدل إلى هذه العبارة ) ، وهي أنه لا عينه ولا غيره .
 
قال رضي الله عنه :  ( وهي عبارة حسنة ) ؛ لإفادتها أنها وإن لم تحمل عليه ، فلا ينفك عنه ، ولا ينفك عنها في الواقع مع أنها لا تنافي التحقيق في أنها عين الذات في الواقع ، وهي معان زائدة في نظر العقل مع اعتبار انتسابها إلى أمور معقولة ، ( وغيرها أحق بالأمر ) ، أي : أطبق للواقع ( وأرفع للإشكال ) الوارد على إثبات الصفات ، ( وهو القول بنفي أعيان الصفات وجودا ) 
أي : نفي أن يكون لكل صفة وجود في نفسها غير وجود الموصوف ، وغير وجود كل صفة أخرى ، وإن كان العقل يعتبرها معان زائدة تكون باعتبار وجودها ( قائمة بذات الموصوف ) ، مع أن تلك المعاني ليست موجودة في الواقع حتى تصير قائمة بذواتها أو بذات الموصوف بها ،
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:18 am

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي 

الفص الزكرياوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم   

الفصّ الزكرياوي
21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية       الجزء الثاني
( وإنما هي نسب وإضافات بين الموصوف بها ) أي : بتلك المعاني النسبية ( وبين أعيانها المعقولة ) ، كالمعلوم والمقدور ، والمراد ما يتعقله الحق في الأزل قبل وجودها ، وهذه إشارة إلى أن هذه النسب ثابتة في الأزل ، فلا ينافي قدم الصفات .

ولما كان أحق وأرفع للإشكال ، إذ لا يلزم على هذا التقدير للفلاسفة والمعتزلة أصلا ، وهي من وجوه :
الأول : لو وجدت لافتقرت إلى الذات ؛ لقيامها بها ، فإن كان سببها الذات كانت قابلة وفاعلة معا ، أو غيرها افتقر الذات إليه ؛ لامتناع خلوها عنه .
أجيب : أن لا منع في كونه قابلا وفاعلا معا .


الثاني : إن كانت قديمة تساوت الذات في القدم مع التخالف في الماهية ، فيتركب كل منهما من جزئين ، كل جزء يشارك الآخر في القدم ، ويخالف بالخصوصية ، فيتركب كل منهما من أجزاء غير متناهية ، وإن كانت حادثة ، فلا تكفي الذات فيها لوجوب ذواتها بدوامها ، فلا تكون حادثة ، فتفتقر الذات إلى الغير لوجوب اتصافها بتلك الصفة المفتقرة إلى الغير .
أجيب : بأن الكلام أمر اعتباري خارج ، فالمساواة فيه مع المخالفة في الماهية لا يستلزم التركيب .

 
الثالث : إنما تمت الإلهية بدونها ، فهي فاصلة يجب نفيها ، وإلا لافتقر في تحصيل صفة الإلهية إلى الغير .
أجيب : بمنع الغيرية والإلهية عبارة عن هذه الصفات ، فلا معنى لافتقارها إلى نفسها.

الرابع : إن كملت الذات بنفسها ، فلا حاجة إلى الصفات ، وإلا كانت ناقصة بذاتها مستكملة بغيرها .
أجيب : بأن تكون الذات منشأ الصفات الكاملة عين كمالها .

الخامس : لو كانت له صفات كان الإله مجموع الذات والصفات ، فيكون مركبا .
أجيب : بأنه لا تركيب للذات مع صفة لا تغايره .

السادس : كفرت النصارى بتعدد الصفات، إذ قالوا : إن اللّه جوهر واحد ذو صفات ثلاث هي الوجود ، والعلم ، والحياة ، وسموها أقانيم ثلاثة.
أجيب : بأنهم أنزلوها منزلة الذوات ، إذ جوزوا عليها الانتقال ؛ فإنهم قالوا : إن الكلمة ، وهي أقنوم العلم اتحدت حينئذ بالمسيح ، وتدرعت بناسوته بطريق الامتزاج ، أو الانقلاب ، أو الإشراق ، أو الظهور ، لكنهم جعلوا العلم بمنزلة الشمس من الذوات ، وجعلوا الحياة بمنزلة الملك الظاهر بصورة ، وهو أيضا من الذوات .


فقد قالوا بتعداد الذوات القديمة ، ونحن نجعل الظهور والإشراق للذات مع اعتبار صفة ففارقناهم ، وليس هذا القول من الشيخ رحمه اللّه موافقا لقول الفلاسفة والمعتزلة أنها عين النسب وحدها ، إذ لا معنى لقوله بين الموصوف بها حينئذ ، فإن النسب من المعدومات ، فلا تكون صفة لشيء ، والحال إنما كان صفة ؛ لأنه ليس بمعدوم كما أنه ليس بموجود ، ولا ينتقص بالصفات السلبية ، فإنها معان موجودة تستلزم نفي الشيء ؛ لأنها أعدام ، فإن العدم من حيث هو عدم ليس بصفة ، كما أنه ليس بموصوف ، والعدم المضاف إلى شيء له حكم الموجود مع أنه إن كان صفة ؛ فليس صفة حقيقية ، وكلامنا فيها ، والحال صفة حقيقية ؛ لأن لها نوع تحقق إذ لا يصح نفيها بخلاف العدم على أنه لا وجه لاستحسانه ؛ لقول من قال : أنها لا هو ولا غيره أصلا .


حينئذ قال الشيخ : يجعل الصفات من جملة الأحوال ، إذ يجعلها معاني نظر العقل مع النسب ، والمعاني موجودة والنسب معدومة ، وسياقه يدل على ذلك ، وكذا ما بعده ، فهو لا ينافيها ، ولا يقول بأن الحال هي العالمية والقادرية بدون العلم والقدرة ، كما يقوله أبو هاشم ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .

"" أضاف المحقق :
والأحوال اسم لعشرة منازل ينزل فيها السائرون إلى اللّه تعالى ، وهي :
المحبة ، والغيرة ، والشوق ، والقلق ، والعطش ، والوجد ، والدهش ، والهيمان ، والبرق ، والذوق ،
وإنما سميت هذه المنازل أحوالا لتحول العبد فيها من التقييدات بالأوصاف المانعة له عن الترقي في حضرات القرب ، مرتقيا فيها بسره من دركات نازلة جزئية إلى حضرات عالية كلية ،
وهي التي يشتمل عليها الاسم الظاهر الذي بتجليه ترى الوحدة في عين الكثرة الظاهرة بالنفس وقواها وآلاتها .لطائف الإعلام للقاشاني ."".

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإن كانت الرّحمة جامعة ؛ فإنّها بالنّسبة إلى كلّ اسم إلهي مختلفة ، فلهذا يسأل سبحانه أن يرحم بكلّ اسم إلهيّ ، فرحمة اللّه والكناية هي الّتي وسعت كلّ شيء ، ثمّ لها شعب كثيرة تتعدّد بتعدّد الأسماء الإلهيّة ، فما تعمّ بالنّسبة إلى ذلك الاسم الخاصّ الإلهيّ في قول السّائل ربّ ارحم ، وغير ذلك من الأسماء حتّى المنتقم له أن يقول : يا منتقم ارحمني ، وذلك لأنّ هذه الأسماء تدلّ على الذّات المسمّاة ، وتدلّ بحقائقها على معان مختلفة ، فيدعو بها في الرّحمة من حيث دلالتها على الذّات المسمّاة بذلك الاسم لا غير ، لا بما يعطيه مدلول ذلك الاسم الّذي ينفصل به عن غيره ويتميّز ، فإنّه لا يتميّز عن غيره ، وهو عنده دليل الذّات ، وإنّما يتميّز بنفسه عن غيره لذاته ، إذ المصطلح عليه بأيّ لفظ كان ، حقيقة متميّزة بذاتها عن غيرها ، وإن كان الكلّ قد سيق ليدلّ على عين واحدة مسمّاة ، ولا خلاف في أنّه لكلّ اسم حكم ليس للآخر ، فذلك ينبغي أن يعتبر كما تعتبر دلالتها على الذّات المسمّاة ) .

ثم أشار إلى أن هذه الصفات ، وإن كانت أحوالا ، فللحق منها أسماء تختلف آثارها باختلافها ، وإن كان مرجع تلك الآثار أمرا واحدا كمرجع تلك الأسماء والصفات ؛

فقال : ( وإن كانت الرّحمة جامعة ؛ فإنّها بالنّسبة إلى كلّ اسم إلهي مختلفة ) إذ الفعل بحسب الفاعل وهي الفاعلة ، إذ الذات من حيث هي لها الغنى عن العالمين والأسماء مختلفة الحقائق ، وهذه إشارة إلى بيان الرحمة الواردة في حق زكريا عليه السّلام ، وأنها منسوبة إلى الذات لإضافته إلى هويته في قوله :عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ،وإلى الاسم الجامع فيذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ[ مريم : 2 ] ،
وإن كان سؤاله من ربه خاصة ؛ لأنه طلب إحياء ذكره ، وهو لا يتم إلا بذكر ذاته واسمه الجامع .

قال رضي الله عنه :  ( فلهذا ) أي : فلاختلافها باختلاف الأسماء ( يسأل ) أي : يسأله ( سبحانه ) العارفون ( أن يرحم بكل اسم إلهي ) ، أي : يذكر تفصيل كل اسم إلهي في الدعاء ؛ فيقال : يا حفيظ احفظنا ، ويا قوي قوّنا ، ويا رزاق ارزقنا ، والمراد بالاسم الإلهي ما به الربوبية ، وهي مع اختلافها ترجع إلى الاسم الجامع ، بل إلى الذات من حيث جمعها للكل ، ( فرحمة اللّه والكناية ) أي : المضافة إلى أحدهما ( هي التي وسعت كل شيء ) ، إذ لا يخلو شيء عن وجه منها وأقله الوجود .
 

قال رضي الله عنه :  ( ثم ) أي : بعد اجتماعهما عند الاسم الجامع ، والذات ( لها شعب كثيرة ) كيف وهي ( تتعدد بتعدد الأسماء الإلهية ) التي لا تحصى ، فهي وإن عمت بالنسبة إلى الاسم الجامع ، وإلى سائر الأسماء إذا أخذت كلية ، ( فما تعم بالنسبة إلى ذلك الاسم الخاص ) الجزئي الحقيقي ، كالرب المنسوب إلى السائل ( في قول السائل : رب ارحم ، وغير ذلك من الأسماء ) التي هي جزئيات إضافية ، فإن الرحمة المنسوبة إليها ليست جامعة كالتي نسبت إلى الاسم الجامع والذات ، فإن لكل منها رحمة خاصة ، وإن كان لبعضها مفهوم يدل على ما يقابل الرحمة ،


وإليه الإشارة بقوله ( حتى المنتقم له أن يقول : يا منتقم ارحمني ) ، فإن الرحمة المتعلقة ، وإن كانت وجودية عامة من وجه ؛ فهي لا تتعلق إلا بوجود خاص هو الانتقام ، فهو لو كان مطلوب سائل لكان رحمة عليه من حيث هو مطلوبه أيضا ، وذلك الاختلاف عليها مع رجوعها إلى أمر واحد ، إذ علتها الأسماء لا الذات لغناه عن العالمين .

وللأسماء وحدة باعتبار الذات ، وكثرة باعتبار خصائصها ؛ ( وذلك لأن هذه الأسماء تدل على الذات ) لا من حيث هي ذات ، وهي الغنية بل من حيث هي ( المسماة ) بها ، ولا تبطل بذلك وحدتها ، ( وتدل ) أيضا ( بحقائقها ) التي يراها العقل زائدة على الذات مع عينيتها في الواقع ( على معان مختلفة ) ، وإذا كان للأسماء هذان الاعتباران ، وهي الوسائل في الدعاء ، وطلب الحوائج ، ( فتدعو بها في ) طلب ( الرحمة ) من الاعتبارين جميعا ( من حيث دلالتها على الذات المسماة بذلك الاسم لا غير ) ،

إذ لا معنى للدعاء بالاسم من حيث دلالته على الذات من حيث هي ذات ؛ لغناها عن العالمين ، فلا تعلق لها بحاجته ، ولا معنى للدعاء به من حيث دلالته على الذات المسماة به ، وبغيره من الأسماء ؛ لاشتمالها على نقيض حاجته أيضا ، فلا تتعين حاجته ، ولكن لا يدعونه ( بما يعطيه مدلول ذلك الاسم ) فقط ، إذ لا أثر للاسم بهذا الاعتبار ؛ لأنه من جملة الأحوال والمؤثر هو الموجود .
 

وذلك المدلول هو ( الذي ينفصل ) ذلك الاسم ( به عن غيره ) ، وليس المراد به :
المغايرة الكلية ، بل إنه ( يتميز ) عنه فيصير لا عينه ، ولما أنه لا غيره ، فلا يدعو بهذه الحيثية ؛ ( فإنه لا يتميز عن غيره وهو عنده ) ، أي : عند التميز ( دليل الذات ) التي هي الأمر الموجود المؤثر ، إذ دلالتها على الذات مشتركة بين جميعها ، والتميز إنما يكون بالأمر المحض كما قال ،

قال رضي الله عنه :  ( وإنما يتميز ) كل اسم ( بنفسه ) ، أي : بمعنى يختص بنفسه ( عن غيره ) الذي يتميز عنه الأول ( لذاته ) ، فلا يشارك أحدهما الآخر بذلك الاعتبار أصلا ، بخلاف تميز الجنس عن النوع بالجزئية ، وعن الفصل بالعموم ؛ فإنه لأمر عارض لا يمنع اشتراكهما في الأصل الذي هو حقيقتهما ، وإنما كان للأسماء هذا التمييز مع أنها موضوعة لمسمى واحد .

 
إذ المعنى ( المصطلح عليه بأي لفظ كان ) أي : سواء كان له مع غيره دلالة على أمر واحد أم لا ( حقيقة متميزة بذاتها عن غيرها ) بالأصل في ذلك اختلاف الألفاظ لاختلاف المعاني ، وبالعكس ، والترادف والاشتراك على خلاف الأصل ، وإليه الإشارة بقوله : ( وإن كان الكل ) ، أي : جميع الأسماء ( قد سيق ) ، أي : وضع ( ليدل على عين واحدة مسماة ) بها ، فلا دلالة لذلك على الترادف ، إذ ( لا خلاف ) بين أهل اللغة ولا أهل الشرع ( في أنه لكل اسم حكم ) معنوي ( ليست للآخر ) ، وليس ذلك في الأسماء المترادفة ، وإذا كان للاسم المدعو به هذا التميز ، وهذا مقصود في الحاجة ،

قال رضي الله عنه :  ( فذلك ) أيضا ( ينبغي أن يعتبر ) في الدعاء بذلك الاسم ، وإن لم يكن للاسم بذلك الاعتبار وحده أثر ، فله أثر إذا ضم إلى الذات ، فيعتبره ( كما تعتبر دلالته على الذات ) ؛ فإنه كما لا أثر له بدون الذات ، فلا أثر للذات بدونه لغناه عن العالمين .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولهذا قال أبو القاسم بن قسيّ في الأسماء الإلهيّة : إنّ كلّ اسم إلهي على انفراده مسمّى بجميع الأسماء الإلهيّة كلّها ، إذا قدّمته في الذّكر نعتّه بجميع الأسماء ، وذلك لدلالتها على عين واحدة ، وإن تكثّرت الأسماء عليها ، واختلفت حقائقها أي :
حقائق تلك الأسماء ، ثمّ إنّ الرّحمة تنال على طريقين ، طريق الوجوب ، وهو قوله تعالى :فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [ الأعراف : 156 ] ، وما قيّدهم به من الصّفات العلميّة والعمليّة ، والطّريق الآخر الّذي تنال به هذه الرّحمة طريق الامتنان الإلهيّ الّذي لا يقترن به عمل ، وهو قوله :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ الأعراف :156].
ومنه قيل : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ[ الفتح : 2 ] ، ومنها قوله : « اعمل ما شئت فقد غفرت لك » ؛ فاعلم ذلك ). الحديث رواه أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم في  المستدرك.

قال رضي الله عنه :  ( ولهذا ) أي : ولاعتبار دلالة كل اسم على الذات حتى أنه يصير كمجرد الذات ، ( قال أبو القاسم بن قسي ) ، صاحب كتاب « خلع النعلين ( في الأسماء الإلهية ) » قيد بذلك ؛ ليشير إلى أن أسماء الذات أولى بذلك ، (وإن كل اسم على انفراده ) ، أي : وإن لم يوجد مع الذات ، ولا مع سائر الأسماء ( مسمى بجميع الأسماء ) ، كما أن الذات مسماة بها ، وإن كان في الأسماء ما يدل بخصوصه على ما يقابل المدلول الخاص لهذا الاسم .


والدليل عليه أنك ( إذا قدمته ) فتأكد شبهه بالذات المقدمة على الصفات ( نعته بجميع الأسماء ) نعت الذات بها ؛ ( وذلك لدلالتها على عين واحدة ) بطريق التضمن ، فيجوز إرادة الذات الواحدة منها ( وإن تكثرت الأسماء عليها ) ؛ فإنه لا يبطل وحدتها ، وإن كانت في ضمن كثرتها ، (واختلفت حقائقها ) ، فإن كونها في ضمن هذه الحقائق المختلفة لا يوجب اختلاف حقيقتها ، فلا يكون نعت ذلك الاسم بسائر الأسماء ، كنعت الشيء بنفسه وبما يقابله ،
وبيّن الضمير بقوله : ( أي : حقائق تلك الأسماء ) ؛ لئلا يتوهم عوده إلى الذات مع أن اعتبار ذلك يخل بوحدتها .
ثم أشار إلى قسمة أخرى للرحمة ؛ ليشير إلى أن رحمة زكريا عليه السّلام كانت امتنانية من وجه ؛ لوقوعها على خرق العادة ، ووجوبية من وجه ؛ لترتبها على دعائه وتسبيحه ،

فقال : ( ثم ) ، أي : بعد أن قسمت الرحمة إلى الذاتية والأسمائية ( أن الرحمة تنال على طريقين ) فيه إشارة إلى أن كل رحمة امتنانية  في الحقيقة ، إذ لا موجب على اللّه تعالى ، ولا يذم ترك الشيء ، كما لا يذم بفعل الشيء.

"" أضاف المحقق :
الرحمة الامتنانية : هي السابقة ، سميت بذلك لأن اللّه تعالى امتن بها على الخلائق قبل استحقاقها ، لأنها سابقة على ما يصدر منهم من الأفعال التي توجب لهم استحقاقا ،
والرحمة الامتنانية الخاصة : يعني بها رحمة اللّه تعالى لعبده ، حيث وفقه للقيام بما يوجب له من الأفعال استحقاق الثواب عليها ( لطائف الإعلام  للقاشاني ) .""

لكن لما وعد على اكتساب العلم والعمل ، ووعده صادق لا محالة صار في حكم الواجب عليه ، فأحدهما ( طريق الوجوب ) ، وهو الذي دلّ عليه السلام  ( قوله تعالى :"فَسَأَكْتُبُها ") أي : أثبتها وأوجبها "لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ"[ الأعراف : 156 ].

وفي معنى ذلك سائر ( ما قيدهم به من الصفات العلمية والعملية ) ، وفي التقييد إشارة إلى أنهما في صورة الاحتياط لا يبقى إنصاف الشخص بهما ، ( والطريق الآخر الذي ينال به هذه الرحمة ) التي وجب مثلها على اكتساب العلم والعمل الصالح مما يوافق الغرض ،
ويلاءم الطبع ( طريق الامتنان الإلهي الذي لا يقترن به عمل ) ، أي : اكتساب علم أو عمل ، وهو الذي دلّ عليه ( قوله تعالى : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [ الأعراف : 156 ] .
إذ لا يخلو شيء مما يلاءم طبعه ، ويوافق غرضه ، مع أن في الأشياء ما لا يكتسب علما ولا عملا .

( ومنه ) أي : ومن هذا القبيل لا من عمل يكفر للسيئات ، قوله تعالى :( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [ الفتح : 2 ] ؛ لأنه عقله ، ففتح مكة ، وليس فيه عمل للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ،
فإن معناه :إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً[ الفتح : 1 ] لكي يجمع لك بين المغفرة تمام النعمة في الفتح ، وقيل : هو مردود إلى قوله :وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ[ محمد : 19 ] ؛لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ،وقيل : إلى قوله :إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ( 1 ) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ( 2 ) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ[ النصر : 1 - 3 ] ؛ ليغفر لك اللّه ، وبعدهما ظاهر .

ومنها أي : ومن الرحمة الامتنانية ، وإن توهم كونها وجوبية ، وهما مؤكدا ، فلذا أنت الضمير ؛ ليعود إليها صريحا قوله عزّ وجل لبعض خواص عباده : ( « اعمل ما شئت ، فقد غفرت لك » ، فاعلم ذلك ) ،
ولا يتوهم أنه على العمل ، فإنه إنما يوجب الثواب وغفران الذنوب الكبائر ، إنما هو بالتوبة ، « واعمل ما شئت » أعم من الصغائر ، ولكن يكون لبعض الأعمال مزيد نور ينفي ظلمة المعاصي بالكلية ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .

ولما فرغ من الحكمة الملكية التي بها كمال التصرف، وعموم الرحمة وخصوصها، وذلك يوجب كمال المناسبة بين الفاعل والمنفعل، وهو يوجب التأنس الكلي له به عقبها بالحكمة الإيناسية؛ فقال : فص الحكمة الإيناسية في كلمة إلياسية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:19 am

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي  

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ الإلياسي
22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية                     الجزء الأول
قال الشيخ رضي الله عنه :  (إلياس وهو إدريس عليه السّلام كان نبيّا قبل نوح عليه السّلام ، ورفعه اللّه مكانا عليا ، فهو في قلب الأفلاك ساكن وهو فلك الشّمس ، ثمّ بعث إلى قرية بعلبك ، وبعل اسم صنم ، وبك هو سلطان تلك القرية ، وكان هذا الصّنم المسمّى بعلا مخصوصا بالملك ، وكان إلياس الذي هو إدريس قد مثّل له انفلاق الجبل المسمّى لبنان من اللّبانة ، وهي الحاجة عن فرس من نار ، وجميع آلاته من نار ؛ فلمّا رآه ركب عليه فسقطت عنه الشّهوة ، فكان عقلا بلا شهوة ، فلم يبق له تعلّق بما تتعلّق به الأغراض النّفسيّة ، فكان الحقّ فيه منزّها ، فكان على النّصف من المعرفة باللّه ، فإنّ العقل إذا تجرّد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره ، كانت معرفته باللّه على التّنزيه لا على التّشبيه ، وإذا أعطاه اللّه المعرفة بالتّجلّي كملت معرفته باللّه ، فنزّه في موضع ، وشبّه في موضع ) .
"" أضاف المحقق :
إنما خصت الكلمة الإلياسية بالحكمة الإيناسية ؛ لأنه عليه السّلام قد غلب عليه الروحانية والقوة الملكوتية حتى ناسب بها الملائكة وأنس بهم ، وقد آنسه اللّه بغلبة النورية بالطائفتين الملائكة والإنس ، وخالط الفريقين ، وكان منهما رفقاء يأنس بهم ، وبلغ من كمال الروحانية مبلغا لا يؤثر فيه الموت كالخضر وعيسى عليه السّلام أهـ .شرح القاشاني ""
 
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بإيناس الشخص بالعوالم مما يعطي من المناسبة معها ، ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى إلياس عليه السّلام ؛ لتأنسه بالعالم السفلي أولا ، وبالعلوي ثانيا ، وبالجمع بينهما ثالثا ؛ ولذلك قال في دعوته :وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ[ الصافات : 125 ] ،
وإليه الإشارة بقوله : ( إلياس وهو إدريس عليه السّلام ) ، كما يقال عن ابن مسعود ، وفي مصحفه : وإن إدريس لمن المرسلين بدليل قوله :وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ[ الصافات : 123 ] ، وفيه أيضا : سلام على إدراسين بدلإِل ‌ْياسِينَ[ الصافات : 130 ] ، وهو قول عكرمة .
" انظر : تفسير الطبري ، وفتح القدير.".
قيل في رده : إن إدريس جد نوح بالاتفاق ، وإلياس من ذريته بدليل قوله تعالي :وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 84 ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 85 ) [ الأنعام : 84 ، 85 ] .
 
وقد قال الأكثرون : إنه إلياس بن بستي بن فنحاص بن العيزار بن هارون .
قلنا : يجوز أن يعطف على « نوحا » ، وذكره في أثناء ذريته ؛ للإشعار بأنه صار في حكمهم بتأخره عند نزوله من السماء كعيسى لنبينا عليه السّلام ، فإنه من ذريته المعنوية ، ولعل الذي من أولاد هارون غيره ، فالمنة بهدايته على إبراهيم من جهة كونه جده ، ومن جهة كونه من ذريته المعنوية أيضا ( كان نبيّا قبل نوح عليه السّلام ) ، فكمل تأنسه بالعالم السفلي ( رفعه اللّه مكانا عليّا ) ؛ ليكمل تأنسه بالعالم العلوي ، والمكان العلوي بمكانة قلب الأفلاك كما مرّ .
 
( فهو ) وإن نزل بعده ( في قلب الأفلاك ساكن ) ، إذ لا ينزل نبي عن مكانته ، فكان هناك بروحانيته ، ثم جمع له بين التأنسين إذ ( بعث إلى قرية بعلبك ) المناسبة باسمها الجامع لجمعيته ، وذلك أن ( بعل هو اسم صنم ، وبك هو سلطان تلك القرية ) ، وإنما جمع في اسمها بينهما ؛ لأنه ( كان هذا الصنم المسمى بعلا مخصوصا بالملك ) لا يعبده إلا هراء ، وخواصه أضف إليه ، وإن كان علم شخص يجعله جنسا بتأويله بالمسمي بعلا ؛ ولذلك ذكره الشيخ رحمه اللّه ثم لما ضعف فيه أمر الإضافة لكونها على خلاف الظاهر ، جعل مركبا امتزاجيّا عند جعله علما للقرية ، ثم الصنم إشارة إلى العالم السفلي إذ كل ما فيه صورة لما في العالم العلوي ، والملك إشارة إلى العالم العلوي ، وكانت أنسب لجمعيته .
 
ثم أشار إلى أنه ، وإن بلغ هذا المبلغ لم تكمل معرفته من كل وجه ، وإنما كملت معرفته التنزيهية إذ صارت جسمانيته التي تتعلق بها المعرفة التشبيهية روحانية نفيت له صور مثالية في هذا العالم فهو في قلب الأفلاك بروحه وجسمه ، وهاهنا بصورته المثالية ؛ فصح قول أهل الظاهر : إدريس في السماء الرابعة ، وإلياس في الدنيا ،
فقال : ( وكان إلياس الذي هو إدريس عليه السّلام ) بعد صيرورته جامعا عاد أمره إلى الروحانية ، وإن نفيت جسمانيته ؛ ليكتسب بها الكمالات إذ ( قد مثل له انفلاق الجبل ) ، وهو مثال البدن ، وانفلاقه مثال لانفلاق البدن عما فيه بالقوة ( المسماة لبنان ) ، خصّ ذلك الجبل ؛ لاشتقاق اسمه في الأصل ( من اللبانة ، وهي الحاجة ) المشعرة باحتياجه إلى البدن في اكتساب أكثر الكمالات ، فلا بدعة في الكلية بل يجعله روحانيّا ( عن فرس ) ،
 
وهو مثال ما يسير به السائر إلى اللّه تعالى على أحسن الوجوه من الأخلاق الفاضلة في الأعمال الصالحة ، والأحوال السنية ، والمقامات البهية ( من نار ) لما فيها من الخفة ، وطلب العلو ، وتفريق المختلفات ، ( وجميع آلاته ) التي هي أمثلة القوي المساعدة له في السير ( من نار ) ؛ لئلا يعوقه لو لم تكن منها في السير ، ( فلما رآه راكبا عليه ) ليركب روحه على ما ذكرنا على أتم الوجوه ؛ لأن فعل البدن مؤثر فيه لما بينهما من الملابسة ؛ ولذلك يؤمر بالأعمال الظاهرة (فسقطت عنه الشهوة)؛ لأنه تحرك من البشرية إلى الملائكية.
 
( فكان ) مع وجود بدنه ( عقلا بلا شهوة ) إذ لم يبق في قواه المحركة والمدركة ما يلتفت إلى العالم السفلي ، ( فلم يبق له تعلق بما تتعلق به الأغراض النفسية ) مما تتعلق بهذه القوي المحركة والمدركة ، فلم يبق وهمه وهما ، ولا خياله خيالا ، ( فكان الحق فيه منزها ) كما في الملائكة ، و ( كان على النصف ) أي : أحد القسمين ، وإن كان أسرف من الآخر بحيث لا بعد ذلك الآخر لو تجرد شيئا ، بل كان كفرا ( من المعرفة ) الجامعة لقسميها التنزيهية والتشبيهية ، فإنها أكمل لا محالة من التنزيهية وحدها ، وإن كانت كافية للإيمان ،
ولها الشرف ، فلم يكن من لم يرفع إلى السماء دونه في الكمالات إذا حصل لهم هذه المعرفة الكاملة في النصفية هاهنا ، كنصفية السماء للجسم ، ونصفية الملك للإنسان إذ الملك هو الباطن ، والإنسان هو الحيوان الناطق ، وكثلثية سورة الإخلاص ، وربعية سورة الكافرون للقرآن ، ونصفية التزوج للدين ، ونصفية الفرائض للعلم .
 
ثم إن هذا باعتبار ملكيته من حيث هي ملكية لا من حيث ما حصلت له بعد الحيوانية على ما يأتي من بعد ؛ ( فإن العقل إذا تجرد ) عن الوهم والخيال ( لنفسه ) المجردة في نفسها ( من حيث أخذه العلوم عن نظره ) ، وإن كان مع الوهم والخيال لكنهما قد ساعداه ، وصارا في حكم العقل ، ( كانت معرفته باللّه ) الذي هو منزه في نفسه ، وإن لحقه التشبيه باعتبار ظهوره في المظاهر ( على التنزيه ) الذي هو نتيجة نظر العقل في ذاته ،
وكذا إذا نظر إلى ظهوره في المظاهر ؛ لأن الأمر الذاتي لا يتغير عنده ( لا على التشبيه ) الذي هو نتيجة الوهم والخيال إذا نظر إلى ظهوره في المظاهر ؛ فإنه يتوهم من ذلك كونه على تلك الصور في نفسه ، ( وإذا أعطاه المعرفة بالتجلي ) الذي لا بدّ فيه من نظر القوي الظاهرة والباطنة ( كملت معرفته باللّه ) ؛ لأنه أدركه بجميع الوجوه ، ( فنزه في موضع ) ، وهو باعتبار استقراره في مقر غيره أو في مدرك العقل ، ( وشبه في موضع ) ، وهو باعتبار ظهوره في المظاهر الحسية ، وإذا اختلف الموضعان ؛ فلا تناقض .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ورأى سريان الحقّ في الصّور الطّبيعيّة والعنصريّة ، وما بقيت له صورة إلّا ويرى عين الحقّ عينها ، وهذه المعرفة التّامّة الّتي جاءت بها الشّرائع المنزلة من عند اللّه وحكمت بهذه المعرفة الأوهام كلّها ، ولذلك كانت الأوهام أقوى سلطانا في هذه النّشأة من العقول ؛ لأنّ العاقل ولو بلغ من عقله ما بلغ لم يخل عن حكم الوهم عليه والتصوّر فيما عقل ، فالوهم هو السّلطان الأعظم في هذه النشأة الصّوريّة الإنسانيّة ، وبه جاءت الشّرائع المنزلة فشبّهت ونزّهت ، شبّهت في التّنزيه بالوهم ، ونزّهت في التّشبيه بالعقل ، فارتبط الكلّ بالكلّ ، فلا يمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ولا تشبيه عن تنزيه ) .
 
وبيّن موضع التشبيه بقوله : ( ورأى سريان ) نور إشراق ( الحق ) بالوجود ( في الصور الطبيعية ) للملائكة العلوية ، ( والعنصرية ) للمولدات ، والملائكة السماوية ، ويكون بحيث ( ما بقيت له صورة إلا ويرى عين الحق عينها ) ؛ لأنه وإن نزه عن الصور في ذاته ، فلا صور في ظهوراته ، ولكل صورة منها عين ثابتة هي أعيان الممكنات بعينها ، فصور الممكنات عين صورته تعالى .
ثم قال : ( وهذه المعرفة ) ، وإن كان بعضها من الوهم والخيال ، وكان بعضها الذي من العقل كافيا في الإيمان هي المعرفة ( التامة ) ؛ لشمولها على وجوهها ، وليس زيادة المعرفة التشبيهية لمثابة الإصبع الزائدة في كف الإنسان بحيث تكون الزيادة عين النقصان ، بل هي المعرفة الكاملة ، كيف وهي ( التي جاءت بها الشرائع ) ،
كقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «رأيت ربي في أحسن صورة ، وإنّ اللّه خلق آدم على صورته». رواه الدارمي في سننه
وفي رواية : " على صورة الرحمن " ، رواه عبد اللّه بن أحمد في السنة
وقوله : " مرضت فلم تعدني ، وجعت فلم تطعمني " رواه مسلم بنحو  وغير ذلك .
والحاصل منها أرجح من الحاصل من العقول المجردة ، وإن كان أصلها المثبت لها ، إذ هي
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (المنزلة من عند اللّه) ، فلا يفاوتها ما لم ينزل من عند اللّه ، وإثبات الشرائع بالعقل لا يستلزم رجحانها ، فإنه كدلالة المحدثات على الصانع تعالى على أن الرجحان إنما يكون في وضع التناقض ، ولا تناقض على نبي ، ولا بأس بكونها من الأوهام ، فإنه من جملة القوى المدركة من الإنسان كالعقل والسمع والبصر ، والغلط فيه كالغلط فيها لأمور عارضة ،
وإليه الإشارة بقوله : ( وحكمت ) أيضا بها ( الأوهام كلها ) ، فلو كان غلطا لم يحكم بها الكل حتى من أرباب العقول .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي : ولوجود حكم الوهم في أرباب العقول دون حكم العقل في أرباب الأوهام ، ( كانت الأوهام أقوى سلطانا في هذه النشأة ) ، وإن كان لا سلطان لها في الملائكة (من العقول) إذا اجتمعت مع الأوهام ؛
ولذلك لا يقدر العاقل أن يمشي على خشب مرتفع من الأرض قدر مائة ذراع إذا كان عرضه أربعة أصابع ، إلا من ارتاض في اكتساب ذلك حتى وقع الوهم عن نفسه في هذا الأمر ؛ (لأن العاقل) من الإنسان إذا لم يدفع عنه حكم الوهم بالكلية ، وإن ( بلغ ما بلغ ) من مراتب الكمال في عقله ( لم يخل من حكم الوهم ) ، وإن صار في غاية الضعف ما لم يتصور بالرياضة التامة مساعد للعقل من كل وجه ، كيف ولا يخلو عن ( التصور فيما عقل ) ، والعقل إنما يتصور الشيء مجردا ، ولو كان في الخارج مأدبا ، وإذا غلب الوهم الضعيف العقل الكامل المتعقل للمجردات .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه ) الصورة الكاملة المتعقلة للمجردات ( الإنسانية ) بخلاف الملائكة ، ومن صار في حكمهم كإلياس عليه السّلام ، ولا ينافي حكم الوهم فيه كماله ، إذ ( به جاءت الشرائع المنزلة ) التي لا يتم إدراك العقل بدونها ، كما لا يتم إدراك الحواس بدون الشمس ، وإن كانت الشمس إنما تدركها الحواس ،
( فشبهت ) بحكم الوهم ، ( ونزهت ) بحكم العقل لصحة إدراكهما ، فجمعتهما في موضع واحد ، إذ ( شبهت ) في مقام ( التنزيه بالوهم ) ؛ فإنه يتبادر إليه عند ظهوره في المظاهر بصورها أن له هذه الصور في ذاته مع تنزهه في ذاته عنها، (ونزهت) في مقام (التشبيه بالعقل)،
فإنه يقول : أنه وإن ظهرت له هذه الصورة في المظاهر ، فهو على تنزه الرائي ؛ لأن ما بالذات لا يزول بالغير ، ( فارتبط الكل ) من التنزيه والتشبيه ( بالكل ) من غير تناقض ، بل على سبيل الوجوب ، ( فلا يمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ، ولا تشبيه عن تنزيه ) ؛ لاختلاط حكم العقل والوهم من غير مفارقة أحد الحكمين للآخر .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (قال اللّه تعالى :لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فنزّه وشبّه ،وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[ الشورى : 11 ] فشبّه ، وهي أعظم آية نزلت في التّنزيه ، ومع ذلك لم تخل عن التّشبيه بالكاف ؛ فهو أعلم العلماء بنفسه ، وما عبّر عن نفسه إلّا بما ذكرناه ، ثمّ قال :سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ[ الصافات : 180 ] ، وما يصفونه إلّا بما تعطيه عقولهم ، فنزّه نفسه عن تنزيههم إذ حدّدوه بذلك التّنزيه ، وذلك لقصور العقول عن إدراك مثل هذا ) .


والدليل على الجمع بينهما في الشرائع ما ( قال اللّه تعالى :لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشورى : 11 ] ، فنزه ) بنفي مثل المثل أولا ، ولزمه نفي المثل ثانيا ، وإلا كان نفسه مثلا لمثله ، ولكنه نسبه أولا ، إذ لم ينفه المثل من أول الأمر ،( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ،فشبه ) تصريحا بما فهم أولا من التشبيه في ضمن التنزيه ، فعلم أن هذا التشبيه أيضا في ضمن التنزيه ، كما أن ذلك التنزيه في ضمن التشبيه ، ( وهي أعظم آية نزلت في التنزيه ).


"" أضاف المحقق :
التنزيه : هو تعالى الحق عما لا يليق بجلال قدسه الأقدس ، والتنزيه على ثلاثة أقسام : تنزيه الشرع ؛ هو المفهوم في العموم من تعاليه تعالى عن المشارك في الألوهية ،
وتنزيه العقل : هو المفهوم في الخصوص من تعاليه تعالى عن أن يوصف بالإمكان ،
وتنزيه الكشف : هو المشاهد لحضرة إطلاق الذات المثبت للجمعية للحق ؛ فإن من شاهد إطلاق الذات صار التنزيه في نظره ، إنما هو إثبات جمعيته تعالى لكل شيء ، وإنه لا يصح التنزيه حقيقة لمن لم يشاهده تعالى كذلك .أهـ لطائف الإعلام ""  
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ومع ذلك لم تخل عن تشبيه بالكاف ) المشعرة به من وجه ، إذ تقدير زيادتها خلاف الأصل بل لا يجوز أن يقال في القرآن بالزيادة الخالية عن الفائدة ، وإذا لم تخل أعظم الآيات الواردة في التنزيه عن التشبيه ، فما ظنك بآيات التشبيه ، وبما دون هذه الآية من آيات التنزيه والإخبار ، ولولا أن في الجمع بين التنزيه والتشبيه كمال المعرفة لم يرد ذلك في كلام اللّه تعالى ،
إذ ( هو أعلم العلماء بنفسه ، وما عبر عن نفسه ) على لسانه ، ولسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم مع كمال قدرته على العبارات الصريحة في جميع الأمور ( إلا بما ذكرناه ) من التشبيه أو التنزيه معه ، فإن صح أنه ذكر محض التنزيه ،
فلا شكّ أنه ( ثم قال :سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) المانعة لوصول العقول والأوهام إليه( عَمَّا يَصِفُونَ[ الصافات : 180 ] ) ؛ فدخل فيه أرباب العقول والأوهام جميعا ، ولا شكّ أنه لا عبرة بالوهم ما لم يصدقه العقل ، فالآية لتنزيه الحق نفسه عن تنزيهات العقلاء .
 
كما قال رضي الله عنه : ( وما يصفونه إلا بما تعطيه عقولهم ) التي تمنع عزته وصولها إليه ، ( فنزه نفسه عن تنزيههم ) وإن صح به إيمانهم ، إذ القائل بالتشبيه المحض كافر ( إذ حددوه بذلك التنزيه ) حتى منعوا ظهوره في المظاهر ، ومنعوا وصفه بالصفات التي توجد في خلقه ما يناسبها نوع مناسبة ؛ ( وذلك لقصور العقول عن إدراك مثل هذا ) الأمر الجامع بين التنزيه والتشبيه ؛ لأنه من جملة المدركات المختصة بنوع خاص ، فالعقل وإن كان أعلاها ، فهو قاصر على إدراك المجردات ، فلا يدرك الحق إلا من جهة تجرده ، وهي جهة التنزيه والوهم يدركه من جهة التشبيه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثمّ جاءت الشّرائع كلّها بما تحكم به الأوهام ، فلم تخل عن صفة يظهر فيها ، كذا قالت ، وبذا جاءت ، فعملت الأمم على ذلك فأعطاها الحقّ التّجلّي فلحقت بالرّسل وراثة ، فنطقت بما نطقت به رسل اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فاللَّهُ أَعْلَمُ موجّه له وجه بالخبريّة إلى رسل اللّه ، وله وجه بالابتداء إلله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ،وكلا الوجهين حقيقة فيه ، ولذلك قلنا بالتّشبيه في التّنزيه ، وبالتّنزيه في التّشبيه ، وبعد أن تقرّر هذا فنرخي السّتور ونسدل الحجب على عين المنتقد والمعتقد ، وإن كانا من بعض صور ما تجلّى فيها الحقّ ، ولكن قد أمرنا بالسّتر ليظهر تفاضل استعداد الصّور ، فإنّ المتجلّي في صورة بحكم استعداد تلك الصّورة ، فينسب إليه ما تعطيه حقيقتها ولوازمها ولا بدّ من ذلك ، مثل من يرى الحقّ في النّوم ولا ينكر هذا ، وأنّه لا شكّ الحقّ عينه فتتبعه لوازم تلك الصّورة وحقائقها الّتي تجلّى فيها في النّوم ، ثمّ بعد ذلك يعبّر أي يجاز عنها إلى أمر آخر يقتضي التّنزيه عقلا ، فإن كان الّذي يعبّرها ذا كشف أو إيمان ، فلا يجوز عنها إلى تنزية فقط ، بل يعطيها حقّها من التّنزيه وممّا ظهرت فيه ، فاللّه على التّحقيق عبارة لمن فهم الإشارة ) .
 
"" أضاف المحقق :
أي ما تعطيه حقيقتها ولوازمهالوازم تلك الحقيقة ؛ فلا يذوق هذه المسألة إلا من تجلى له الحق في صورة استعداده فينسيه ما نسب لنفسه ، ويشاهده بذلك التجلي تفاضل الصور فيشبهه وينزهه ، ولا بدّ من ذلك في التجلي ، فلابدّ لظهور استعداد الصور من التجلي مثل هذه المسألة بما وقع في المنام من الصور الإلهية حتى يعلم منه ما في اليقظة ؛ فإنها على الحقيقة إهـ .شرح القاشاني  .""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم جاءت الشرائع ) شريعة موسى عليه السّلام وعيسى عليه السّلام ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وغيرهم عليهم السّلام ( كلها بما تحكم به الأوهام ) من التشبيه ، ( فلم تخل ) الحق فيما ورد فيها من التنزيهات فضلا عن التشبيهات ( عن صفة يظهر فيهما ) في المظاهر الخلقية حتى أنه يظهر بالتنزيه في الأرواح والملائكة العلوية ، فيشارك بها المظاهر ، والمشاركة مستلزمة للتشبيه ، بل عينها
( كذا قالت ) في المظاهر ، ( وبذا جاءت ) في الباطن ، فلا يجوز فيها التأول الموجب لرفع الظواهر بالكلية ، إذ لو كان لبينه الرسل ، لكنهم ما بينوا ؛ ( فعملت الأمم ) في اعتقاداتهم على ذلك ، ( فأعطاها التجلي ) الذي لا يعطيه المستمرين على الغلط ، فصاروا أولياء ، ( فلحقت بالرسل ) ورأت علومهم وأحوالهم .
( فنطقت بما نطقت به رسل اللّه ) من التنزيه تارة ، والتشبيه أخرى ، والجمع بينهما طورا ومن سائر العلوم والمعارف ، فأشبه كمالهم الكمال النبوي الذي لا يعرف قدره إلا اللّه كما قال :اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [ الأنعام : 124 ] كيف ؟
وهم مظاهره الجامعة لما فيه من الصفات القابلة للظهور في المظاهر ، وفي ذلك كمال التشبيه ، فقد أشار إليه في هذه الآية بوجه من الوجوه ،( اللَّهُ أَعْلَمُ ) في القرآن بعد قوله :رُسُلُ اللَّهِ[ الأنعام : 124 ] .
( موجه ) ، أي : قابل لتوجيهه إلى ما ذكرنا من التنزيه والتشبيه جميعا ، لكن بوجهين مختلفين إذ ( له ) ، أي : لقوله :اللَّهِ ( وجه بالخبرية ) عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أن يوقف على قوله :مِثْلَ ما أُوتِيَ ،ويكون فيه ضمير لنبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم .
 
ثم قال الشيخ رضي الله عنه :  "رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ" ،فأسند اللّه ( إلى رسل اللّه ) أي : رسل اللّه هم المظاهر الكاملة ، كأنهم هم اللّه ظهر فيهم بجميع أسمائه وصفاته ، وهذا الوجه يدل على التشبيه ، ( وله وجه ) يدل على التنزيه ( بالابتداء إلىأَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ،) فإنه لما قطعت هذه الجملة عن قوله :مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ أشار إلى انقطاع الحق عن رسله ،
وهو دليل التنزيه ، فإنه لما تنزه عن التعلق بهم من حيث غناه عنهم ، فهو عن المتعلق بغيرهم أنزه ، وإنما تعلق بهم من حيث كمال ظهوره في المظاهر بهم بعد ظهوره في ذاته لذاته ، وتعلق بغيرهم لكونهم من مقدماتهم أو متمماتهم ، ( وكلا الوجهين حقيقة فيه ) ، إذ لا مجاز في الإسناد ولا في المفردات ، بل غايته حذف حرف التشبيه في أحد الوجهين من غير إقامة شيء مقامه ، حتى يكون فيه مجاز بالحذف ،
 
وحذف المبتدأ من قوله :أَعْلَمُ على ذلك الوجه ، فيجب الأخذ بالوجهين ، وإن كان في أحدهما كلفة الحذف ، ففيه كمال الفائدة حتى أن التنزيه إنما يكمل باعتباره ، فيجب الجمع بينهما ؛ ( فلذلك قلنا بالتشبيه في التنزيه ، وبالتنزيه في التشبيه ) ؛ لأنهما مفهوما الجمع بين الوجهين .
 
( وبعد أن تقرر هذا ) عندنا بهذه الأدلة أنهما من النصوص ، فذلك بطريق الإشارة ، وليس فيها ما يلزم به الخصم من أهل النظر ، ولا من أهل التقليد ، ( فنرخي السّتور ) على وجه الاستدلال بها ، ( ونسدل الحجب ) على المدلول لا في حق أهل الكشف ، ولا المؤمنين بطريقتهم ، بل ( على عين المنتقد ) الناظر في الأدلة المتعارضة لتزييف البعض ، وترجيح البعض مع صحتهما من وجه دون وجه ، ( والمعتقد بالتقليد ) لبعض الطوائف دون البعض ، مع أن الكل مصيب من وجه دون وجه بمقدار ما ظهر لهم واستر عنهم ، كالعميان فيما لمسوا من الفيل ، وما يلمسون منه ، فلا يقول لهما بالتشبيه بظهوره في المظاهر ،
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن كانا من بعض صور ما تجلى فيها الحق ) ، ويلزم منه ستر الحق على الحق ، ( ولكن قد أمرنا بالستر ) أي : بستر ظهور الحق على بعض صوره دون البعض بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « ما أحد يحدث قوما بحديث لا يبلغه قولهم إلا كان فتنة على البعض » . أورده ابن القيم في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح وابن كثير في التفسير وذكره العجلوني.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم » .
ذكره المناوي في فيض القدير وابي نعيم في الحلية والعجلوني في كشف الخفاء . وعزاه الحافظ ابن حجر العسقلاني لمسند الحسن بن سفيان من حديث ابن عباس بلفظ "أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم".
وقول علي رضي اللّه عنه : " إن هاهنا لعلوم جمة ، وأشار إلى صدره لو وجدت لها حملة " .
وقول العارفين : إفشاء سر الربوبية كفر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ليظهر تفاضل استعداد الصور ) بقبول ما يرد عليها من المعارف الإلهية ، فالكامل يعرف تنزيهه في ذاته ، وظهوره في الموجودات كلها ، والقاصر يقتصر على التنزيه تارة ، وهو المؤمن ، وعلى التشبيه تارة وهو الكافر ، ومنهم من يجمع بينهما لكن بحصر ظهوره ببعض المظاهر ، وهو أيضا كافر لا، لاعتقاد ظهوره فيها ، بل لجعله في حكم في استحقاق العبادة أو لا يحصر ،
ولكن ينكر المظاهر الكاملة كالأنبياء ، والملائكة ، والكتب الإلهية ، وتري القاصرة مظاهر كاملة ، فيكفر أيضا لرؤيته القصور عن الكمال الإلهي ، وكل هؤلاء وإن كانوا مظاهر الحق فلا تفاوت ظهور الحق فيها ، يظهر في بعضها بالعلم الكامل ، وفي بعضها لم يظهر .
كذلك ( فإن المتجلي في صورة ) يكون ( بحكم استعداد تلك الصورة ) ، والاستعدادات متفاوتة ، فيتفاوت حكم المتجلي فيها ،
 
وإن كان كاملا في ذاته ، ( فينسب إليه ) أي : إلى المتجلي ( ما تعطيه حقيقتها ) من نحو الملائكية ، والإنسانية ، والحيوانية ، والجمادية ، ( ولوازمها ) من العلم والجهل وسائر العوارض مع التفاوت الذي فيها ، مثل نسبتنا إليها هذه الحقائق واللوازم عند ظهورها في صور الأشياء بنسبة المعبرين كلهم من القدماء والمتأخرين إياها إليها عند رؤيتها في المنام بصورها ( مثل من يرى الحق في المنام ) بصورة تشبيهية ، ( ولا ينكر هذا ) لكونه مأثورا من السلف مع أن الشيء لما جاز أن يرى في المنام على خلاف صورته ، فرؤية من لا صورة له في ذاته مقصور بصورة في المنام لا تزيد على ذلك .
 
( وإنه ) أي : المرئي ( لا شكّ الحق عينه ) ، إذ رؤي على أنه الحق ، وقد وعظ ، ونصح ، وفعل خلاف ما يفعله الشيطان ، ولم يوجب اعتقاد كون الحق على تلك الصورة في نفسه ، ( فيتبعه ) أي : الحق المرئي في تلك الصورة عند المعبر معان هي ( لوازم ) تلك الصورة وحقائقها ، وإن كانت ( تلك الصورة ) هي ( التي تجلى الحق فيها في النوم ) "في نسخة : المنام "
، وليس للحق في نفسه تلك اللوازم والحقائق ، فالمعبر بنسبها إليه من حيث تجليه في تلك الصورة التي لها تلك الحقائق واللوازم سواء كان منزها أو مشبها أو جامعا بينهما .
( ثم بعد ذلك ) أي : بعد نسبة تلك الحقائق واللوازم إلى الحق ، ( يعبر أي يجاوز عنها ) أي : تلك اللوازم والحقائق ( إلى أمر آخر ) يناسبها ، لكنه يكون مما ( يقتضي التنزيه عقلا ) ، واحترز به عن تنزيه الكمّل ، وهو التنزيه عن عدم الجمع بين التنزيه والتشبيه ، هذا إذا كان المعبر من أهل النظر أو مقلدا لهم ، ( فإن كان الذي يعبرها ذا كشف أو ) لم يكن ذا كشف ، ولكن كان ذا ( إيمان ) بطريق الكشف ،
 
(فلا يجوز) أي : لا يتجاوز ( عنها ) ، أي : عين تلك اللوازم والحقائق إلى صرف التنزيه ، ( بل يعطيها ) أي : الذات الإلهية (حقها من التنزيه) بأن يقول : إنها ظهرت في هذه الصورة ، وليست صورتها في الواقع ، (ومما ظهرت فيه) من التشبيه وقع بينهما ، فأنبه على أن (التحقيق عبارة) عن المعبر عنه والمعبر إليه ، بل عن كل شيء باعتبار استقراره في مقر غيره تارة ، وباعتبار ظهوره في المظاهر أخرى ،(لمن فهم الإشارة) إلى الجمع بين التنزيه والتشبيه فيه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وروح هذه الحكمة وفصّها أنّ الأمر ينقسم إلى مؤثّر ومؤثّر فيه ، وهما عبارتان : فالمؤثّر بكلّ وجه وعلى كلّ حال وفي كلّ حضرة هو اللّه ، والمؤثّر فيه بكلّ وجه وعلى كلّ حال وفي كلّ حضرة هو العالم ، فإذا ورد أي الوارد الإلهيّ فألحق كلّ شيء بأصله الّذي يناسبه ، فإنّ الوارد أبدا لا بدّ أن يكون فرعا عن أصل ، كما كانت المحبّة الإلهيّة عن النّوافل من العبد ، فهذا أثر بين مؤثّر ومؤثّر فيه كان الحقّ سمع العبد وبصره وقواه عن هذه المحبّة ؛ فهذا أثر مقرّر لا تقدر على إنكاره لثبوته إن كنت مؤمنا ).
 .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وروح هذه الكلمة ) أي : معنى قولنا :اللَّهِ عبارة ( وفصها ) ، أي : كمال تحقيقها المقصود منها ( إن الأمر ) ، أي : أمر الموجودات ( ينقسم إلى مؤثر فيه ، وهما عبارتان ) عن اللّه والعالم ، صادقتان على كل موجود من صورة أو معنى جامع للجهتين ، وإلا صدقت إحداهما لا بحالة كما في ذات الحق ، وحقيقة العبد من حيث هما كذلك ، ( فالمؤثر بكل وجه ) أي : سواء كان تأثيره حقيقيّا أو غير حقيقي ، وسواء كان حسيّا أو معنويّا ، وسواء كان ظاهرا أو باطنا ، ( وعلى كل حال ) ، أي : سواء كان ثابتا أو متغيرا ،
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وفي كل حضرة ) أي : سواء في حضرة القديم من الذات الإلهية ، أو صفاتها ، أو أسمائها ، أو في حضرة المحدثات الجوهرية أو الغرضية ( هو اللّه ) ، إما باعتبار استقراره في مقر غيره ، أو باعتبار ظهوره في أسمائه وصفاته ، أو في مظاهر المحدثات ، ( والمؤثر فيه بكل وجه ، وعلى كل حال ، وفي كل حضرة هو العالم ) ، إما بكونه في مقره ، أو بظهوره في مرآة الحق ، ( فإذا ورد ) نص أو كشف في نقطة أو منام بأمر جامع للمؤثر والمؤثر فيه ، فالحق أمر من ( إلحاق كل شيء ) في ذلك الوارد من المؤثر والمؤثر فيه ( بأصله ) الكلي ( الذي يناسبه ) بهذا المعنى ، وإن باينه بوجه آخر ، ولا يمكن أن يكون الوارد ذلك الأصل حتى لا يمكن إلحاقه بأصله .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن الوارد لا بدّ أن يكون فرعا ) جزئيّا ( عن أصل ) كلي ، إذ لا تحقق للكلي من حيث هو كلي في الواقع ، ولا في النص المتعلق بالمعرفة الإلهية أو الكونية على ما عرف بالاستقراء ، ومثاله ( كانت المحبة الإلهية عن النوافل الصادرة من العبد ) بمقتضى قوله عزّ وجل : "ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ". رواه البخاري وابن حبان
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهذا ) الحب الإلهي وإن كان قديما من حيث كونه صفة للحق ، فهو من حيث تعلقه بهذا العبد ( أثر ) لوقوعه ( بين مؤثر ) هو الحق الظاهر في العبد ونوافله ، ( ومؤثر فيه ) هو العبد بتعلق الحب القديم به خلاف ما يتبادر إلى الأفهام أن المؤثر هو العبد ؛ لتأثيره في النوافل المؤثرة في الحب الإلهي ، وأن المؤثر فيه هو الحق بإيجاد المحبة فيه وهو غلط ؛ ولظهور الحق في هذا العبد بتأثير تعلق الحب فيه ؛ فإن ( الحق سمع العبد ، وبصره ، وقواه ) ، لكن هذا الظهور للحق في العبد من جملة العالم ؛
 
لأنه ( عن هذه المحبة ) ؛ وذلك لأن هذا الظهور أثر للمحبة ، فالمحبة من حيث المؤثرية حق ، كما أنها من حيث كونها مؤثرا فيها خلق ، وظهور الحق في العبد من حيث التأثير بالمحبة حق ، ومن حيث كونه حاصلا من المحبة خلق ؛ فافهم ، ( وهذا مقرر لا يقدر على إنكاره ؛ لثبوته ) شرعا ، ولا تنكر الثابت شرعا ( إن كنت مؤمنا ) ، هذا فيما يلوح لصاحب الكشف من النصوص أو من كشفه في يقظة أو منام من تجليه في مجلي طبيعي .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:20 am

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي  

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ الإلياسي
22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية                     الجزء الثاني
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأمّا العقل السّليم فهو إمّا صاحب تجلّ إلهيّ في مجلى طبيعيّ فيعرف ما قلناه ، وإمّا مؤمن مسلم يؤمن به كما ورد في الصّحيح ، ولا بدّ من سلطان الوهم أن يحكم على العاقل الباحث فيما جاء به الحقّ في هذه الصّورة ؛ لأنّه مؤمن بها ، وأمّا غير المؤمن فيحكم على الوهم بالوهم ، فيتخيّل بنظره الفكريّ أنّه قد أحال على اللّه ما أعطاه ذلك التّجلّي في الرّؤيا ، والوهم في ذلك لا يفارقه من حيث لا يشعر لغفلته عن نفسه ، ومن ذلك قوله تعالى :ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غافر : 60 ] ، قال تعالى :وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [ البقرة : 186 ] ، إذ لا يكون مجيبا إلّا إذا كان من يدعوه غيره ، وإن كان عين الدّاعي عين المجيب .
فلا خلاف في اختلاف الصّور ، فهما صورتان بلا شكّ ، وتلك الصّور كلّها كالأعضاء لزيد ؛ فمعلوم أنّ زيدا حقيقة واحدة شخصيّة ، وأنّ يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه ، فهو الكثير الواحد ، الكثير بالصّور ، والواحد بالعين ، وكالإنسان واحد بالعين بلا شكّ ، ولا شكّ أن عمرا ما هو زيد ولا خالد ولا جعفر ، وأنّ أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودا فهو وإن كان واحدا بالعين ، فهو كثير بالصّور والأشخاص ).

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأما العقل السليم ) عن النظر الفكري أو تقليد صاحبه ، ( فهو ) ، أي : صاحبه ( إما صاحب تجلّ إلهي ) أي : قائل بجواز أن يتجلى في المنام ( في مجلي طبيعي ) ، فإن منهم من يجوز ذلك في المنام ، وإن منع منه في اليقظة ، ( فيعرف ما قلناه ) من العبور من الحق إلى الخلق ؛ لأنه إنما جوز ذلك ؛ لأن المنام قابل للتعبير بخلاف اليقظة ، فيكون المرئي في المنام صورة يعبر عنها إلى ما هو الحق في الواقع ، ولا يتأتى ذلك في صورة اليقظة ، إذ لا عبور فيها عنده ، ( وإما ) قائل بجواز تجليه في المنام في المجلي الطبيعي ، لكنه ( مؤمن ) ، والمؤمن ( مسلم ) ، أي : منقاد لما ورد من نصوص الرؤية ، فهو ( يؤمن به ) أي : بكونه مرئيّا ، ( كما ورد في الصحيح ) من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ، لا تضامون في رؤيته ».  رواه البخاري ومسلم .

وهو وإن قال : بأنه يرى لا في صورة طبيعية ؛ لأنه ( من سلطان الوهم أن يحكم على العاقل الباحث فيما جاء به الحق ) على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم من تجليه ( في هذه الصورة ) الطبيعية ، إذ ذكر تحوله في الصور ، ولا يتأتى بدون الصور الطبيعية ، وإنما يحكم عليه ؛ ( لأنه مؤمن بها ) أي : برؤيته في تلك الصور التي تفيد تارة وتنكر أخرى .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما غير المؤمن ) من ترونه في الآخرة ، وفي المنام كالمعتزلة ، وهو صاحب النظر الفكري أو المقلد له ، ( فيحكم ) إذا سمع النصوص القائلة بتحولة في الصور في الآخرة أو في المنام ( على الوهم ) ، إذا حكم برؤيته فيها ( بالوهم ) بأنه من لا صورة له يستحيل رؤيته في صورة أو يتحول في الصور ، مع أن العقل لا يمنع من رؤية من لا صورة له في الصورة ، كما لا يمنع من رؤية من له صورة أن يرى في غير صورته ، فقد رئي جبريل عليه السّلام في صورة دحية مع أنها ليست بصورته اتفاقا .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيتخيل ) عند رده النصوص بكونها أخبار الآحاد أو بتأويلها على وفق وهمه ( بنظره الفكري ) الذي لا يحيل ظهور الحق في صورة ، وإنما يحيل كونه في نفسه ذا صورة ( أنه قد أحال على اللّه ) رؤيته في الصورة ، حتى أحال ( ما أعطاه ذلك التجلي في الرؤيا ) ، مع أنه يجوز في الرؤيا رؤية الشيء في غير صورته ؛ لذلك يحتاج فيه إلى التعبير كما ترى العدو في صورة الحية ، وهو لم يفعل ذلك أيضا من كل وجه ، إذ ( الوهم منه في ذلك ) ، أي : إثبات الصورة للحق ( لا يفارقه ) ؛ فإنه ما دام بدنه صحيحا كان علمه باقيا ، وإن كان علمه ( من حيث لا يشعر ) به صاحبه ؛ ( لغفلته عن نفسه ) لاحتجابه به بربه عنها ، فلا يلوح له ما يحكم به نفسه من الجمع بين التنزيه والتشبيه بقوتيه العقلية والمؤمنة ، ولو كوشف عنها لعرف ربه بما يلوح من جميع قواها ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن ذلك ) ، أي : ومما يلحق فيه كل شيء من المؤثر والمؤثر فيه بأصله ، ويحكم فيه الوهم بتصوير الحق ما أشار إليه ( بقوله تعالى : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [ غافر : 60] ، فالداعي من حيث التأثر بالمدعو به عبد ، ومن حيث التأثير في الإجابة حق ظهر في العبد ، والمجيب من حيث التأثير في المدعو به حق ، ومن حيث التأثر للدعوة عبد ظهر فيه ، ولظهور كل منهما في مرآة الآخر ( قال اللّه تعالى :وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [ البقرة : 186 ] ،

إذ لا قرب هنا بالزمان والمكان والرتبة بل بالظهور ، وهو مستلزم لتصوير الوهم الحق بصورة ما ظهر في العبد ، وبصورة العبد الظاهرة في مرآة الحق ، وكيف تكون الإجابة من الحق من حيث هو حق ، وهي متوقفة على الدعوة ؟

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ لا يكون ) المجيب ( مجيبا إلا إذا كان ) أي : وجد ( من يدعوه ) ، والمتوقف على الغير حادث ، فلا يتصف به الحق من حيث هو حق لا يقال : إذا كان الحق ظاهرا في العبد من حيث تأثير الدعوة .

فالإجابة لا تتوقف على الغير ، فيجوز أن يكون المجيب هو الحق من حيث هو حق ؛ لأنّا نقول : ( وإن كان عين الداعي ) من حيث ظهور الحق فيه ( عين المجيب ، فلا خلاف في اختلاف الصور ) ، إذ لا شكّ في أن الداعي إنما أثر في الإجابة بظهور صورة الحق فيه ، والحق إنما تأثر بظهور صورة العبد فيه ؛ لامتناع تأثر الحق من نفسه ، ومن غيره جميعا ،

( فهما صورتان ) إحداهما في مرآة العبد ، وهي صورة الحق ، والأخرى في مرآة الحق ، وهي صورة العبد ( بلا شكّ ) ، إذ لا حلول للصورة في المرآة ، فإنه يرى الصغيرة جرم السماء بمقدار بعده عنها ، وليس ذلك مقدار سطح المرآة ولا عمقها ، والوهم مستلزم بصور الحق بهما في نفسه ، ولا ينافي وحدة عين الداعي ، والمجيب اختلاف صورتهما ، إذ ( تلك الصور كلها ) أشارت بذلك إلى أن صورة العبد في مرآة الحق صورة الحق أيضا ، ( كالأعضاء ) التي هي صور مختلفة ( لزيد ) مع وحدته بالشخص .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمعلوم أن زيدا حقيقة واحدة شخصية ) ، فلا مجال للكثرة في تلك الحقيقة أصلا ، وإنما يكون لها مجال في الحقيقة النوعية ، ولكن كثرة الصور فيها مجال ، ( إذ يده ليست صورة رجله ، ولا رأسه ، ولا عينه ، ولا حاجبه ) ، بل كل منها صورة مخالفة صورة الآخر بحيث لا مقارنة بينها بخلاف الصور الظاهرة لشخص في المرايا المختلفة ؛ ( فهو ) ، أي :
زيد ( الكثير الواحد ) مع تنافي وحدته الشخصية الكثيرة ، لكن ذلك التنافي في ذاته فقط لا في ذاته مع صورة ، فهو الكثير بالصور ( الواحدة بالعين ) ،

وكذلك العين الوجودية واحدة بالذات ، كثيرة بالصور المختلفة بحيث يكون بعضها حقيقة مؤثرة ، وبعضها خلقية متأثرة ، وإن أنكرت كون الأعضاء صورا مختلفة لزيد ، فقل العين الواحدة الوجودية ( كالإنسان ) والصور المختلفة كأفراد ، فإنه ( بالعين ) ، أي : بحقيقته التي هي الحيوان الناطق واحد لما تقرر في الحكمة من أن النفوس الإنسانية متفقة بالحقيقة ، ومع ذلك لها صور مختلفة إذ ( لا شكّ أن عمر ما هو زيد ، ولا خالد ، ولا جعفر ) لوجوب التخالف بين صورهم ، فكذا صور العين الوجودية بعضها حق ، وبعضها خلق ولو باعتبار الظهور ، فلابدّ أن يحكم الوهم بتصويرها في نفسها .

ثم أشار إلى أن هذه العين الإنسانية لما لم تكن ذات صورة في نفسها لم تنحصر في صورة واحدة ، فقال : ولا شكّ ( العين الواحدة ) الإنسانية ( لا تتناهى وجودا ، فهو ) أي :
الإنسان ، ( وإن كان ) في الواقع ( واحدا بالعين ) ؛ لوجوب وجود الكلي الطبيعي في الواقع ، ( فهو كثير بالصور ) ؛ وذلك لكثرة ( الأشخاص ) التي لا تتميز إلا بكثرة الصور ، فكذا العين الوجودية ، وإن امتنع فيها كثرة الأشخاص ، فلا يمتنع أن يكون له صور غير متناهية في  ظهوره بذاته لنا ، وإن لم تكن في مظاهرنا .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقد علمت قطعا إن كنت مؤمنا أنّ الحقّ عينه يتجلّى يوم القيامة في صورة فيعرف ، ثمّ يتحوّل في صورة فينكر ، ثمّ يتحوّل عنها في صورة فيعرف ، وهو هو المتجلّي ليس غيره في كلّ صورة ، ومعلوم أنّ هذه الصّورة ما هي تلك الصّورة الأخرى ؛ فكأنّ العين الواحدة قامت مقام المرآة ، فإذا نظر النّاظر فيها إلى صورة معتقده في اللّه عرفه فأقرّ به ، وإذا اتّفق أن يرى فيها معتقد غيره أنكره ، كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره فالمرآة عين واحدة والصّور كثيرة في عين الرّائي ، وليس في المرآة صورة منها جملة واحدة ، مع كون المرآة لها أثر في الصّور بوجه ، وما لها أثر بوجه ؛ فالأثر الّذي لها كونها تردّ الصّورة متغيّرة الشّكل من الصّغر والكبر والطّول والعرض ؛ فلها أثر في المقادير ، وذلك راجع إليها ، وإنّما كانت هذه التّغييرات منها لاختلاف مقادير المرائي ).


وكيف تنكر هذا ( وقد علمت قطعا إن كنت مؤمنا ) برؤية الحق في القيامة ، فلم تحمل النصوص الواردة فيها على غير معنى الرؤية ( إن الحق عينه ) من غير اعتبار ظهوره في مظهر ، وإلا كان مرئيّا اليوم لكل أحد بلا فرق من رؤية اليوم ورؤية يوم القيامة ، اللهم إلا أن يقال بكمال ذلك المظهر دون هذه المظاهر ، لكنه باطل للاتفاق على أن أكمل المظاهر مظاهر الرسل والملائكة ، لكن رؤية يوم القيامة في مظاهرهم خلاف الإجماع ( يتجلى يوم القيامة في صورة فيعرف ، ثم يتحول في صورة فينكر ، ثم يتحول عنها ) ، فيتجلى ( في صورة ) هي المرئية أولا أو أعلى منها ؛ ( فيعرف ) .


وهو ما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري : « أن ناسا في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا : يا رسول اللّه ! هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : وهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب ، وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس معها سحاب ؟ قالوا : لا ، يا رسول اللّه ، قال : ما تضارون في رؤية اللّه يوم القيامة ، إلا كما تضارون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة ، أذّن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فلا يبقى أحد يعبد غير اللّه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار ، ثم قال بعد أسطر : حتى إن لم يبق إذا لم يبق إلا من كان يعبد اللّه من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، قال : فماذا تنتظرون ! لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، قالوا : إنا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ، ولم نصاحبهم ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ باللّه منك لا نشرك باللّه منك لا نشرك باللّه شيئا مرتين أو ثلاثا ، حتى أن بعضهم ليكاد أن ينقلب ، فيقول : هل بينكم وبينه آية تعرفونها ؟ فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد للّه من تلقاء نفسه إلا أذن اللّه له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد رياء إلا جعل اللّه ظهره طبقة واحدة ، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ، ثم يرفعون رؤوسهم ، وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة ، فقال : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا . . . إلى آخر الحديث » . رواه مسلم


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهو ) أي : اللّه ( هو المتجلي ليس غيره ) متجليا ( في كل صورة ) حتى المنكرة ، خلاف ما يقول بعضهم : إن الملك في الصورة المنكرة ، والمراد بالصورة المعروفة : الصفة أطلق عليها الصورة بطريق المشاكلة فرارا من رؤيته في صورة ، إذ لا صورة له في ذاته مع أنه لا يزيد على ما قبلوه من ظهور جبريل في صورة دحية مع أنه ليس على صورته في ذاته .
ثم أشار إلى أن هذه الصور ليست له في ذاته لاختلافها ، والصورة الذاتية لا تختلف ؛ فقال : (ومعلوم أن هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى ) .


ثم أشار إلى أنها ليست باعتبار المظهر ؛ فقال : ( وكأن العين الواحدة قامت ) لأهل الرؤية في القيامة ( مقام المرآة ) ، لكن المرآة ترى فيها صور الأشخاص ، والمرئي في مرآة الحق صور الاعتقادات المختلفة ، ( فإذا نظر الناظر فيها ) أي : في مرآة الحق ( إلى صورة معتقده في اللّه ) في الدنيا ، ( وأقر به ) بلسانه ( وإذا اتفق أن يرى فيها ) صورة ( معتقد غيره ) ، ولا استحالة في ذلك إذ ليس بطريق الحلول ، بل ( كما يرى في المرآة ) المتعارفة ( صورته ، وصورة غيره ) من غير حلول تلك الصور فيها ؛
( فالمرآة ) المتعارفة ( عين واحدة ، والصور كثيرة ) ، والواحد لا تحل فيه الصور الكثيرة ، وإلا لجاز أن يكون الشيء الواحد ماء ونارا معا ، وجاز أن يكون الإنسان الواحد زيدا وعمر معا ، فهي إنما توجد ( في عين الرائي ) بشرط مجازاتها للمرآة فنظرها فيها ، وكيف يكون في المرآة جميع تلك الصور .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليس في المرآة صورة منها جملة ) مع كونها ( واحدة ) ، إذ لا يتسع لها مقدار سطح المرآة ، وهي ترى بعيدة فوق مقدار ثخن المرآة ، ثم الصورة الحالة مؤثرة في المحل ، ولا يتأتى ذلك في صور المرآة ( مع كون المرآة لها أثر في الصور بوجه ) ، وهي علة الوجود ، ولكنها غير تامة إذ ( ما لها أثر ) في الصور ( بوجه ) ، فالعلة المجموع منها ، ومن قيام الشخص بحذائها ، ( فالأثر الذي لها كونها ترد الصورة متغيرة الشكل من الصغر والكبر ، والطول والعرض ) على خلاف ما عليه الشخص ، ( فلها أثر في المقادير ) لا في نفس الصور ، وإلا كانت مثل المرايا لا مثل الأشخاص ، فالمؤثر في أصلها هو الشخص ، ( وذلك ) الأثر التغييري ( راجع إليها )

أي : إلى مقادير المرايا لأنفسها ، والمحل لا يؤثر في نفس الصورة الخالية ، فكيف يؤثر فيها ما هو من عوارض المحل ، وإنما رجع ذلك الأثر التغييري إلى مقادير المرائي ؛ لأنه ( إنما كانت هذه التغييرات منها ) أي : في الصور و(اختلاف مقادير المرائي) .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فانظر في المثال مرآة واحدة من هذه المرائي ، لا تنظر الجماعة ، وهو نظرك من حيث كونه ذاتا ؛ فهو غنيّ عن العالمين ، ومن حيث الأسماء الإلهيّة فذلك الوقت يكون كالمرائي ، فأيّ اسم إلهي نظرت فيه نفسك أو من نظر ، فإنّما يظهر للنّاظر حقيقة ذلك الاسم ، فهكذا هو الأمر إن فهمت ، فلا تجزع ولا تخف فإنّ اللّه يحبّ الشّجاعة ولو على قتل حيّة ، وليست الحيّة سوى نفسك ، والحيّة حيّة لنفسها بالصّورة والحقيقة ، والشّيء لا يقتل عن نفسه .
وإن أفسدت الصّورة في الحسّيّ فإنّ الحدّ يضبطها والخيال لا يزيلها ، وإذا كان الأمر على هذا فهذا هو الأمان على الذّوات والعزّة والمنعة ، فإنّك لا تقدر على إفساد الحدود ، وأيّ عزّة أعظم من هذه العزّة ؟ فتتخيّل بالوهم أنّك قتلت ، وبالعقل والوهم لم تزل الصّورة موجودة في الحدّ ، والدّليل على ذلك وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ الأنفال : 17 ] ،
والعين ما أدركت إلّا الصّورة المحمّديّة الّتي ثبت لها الرّمي في الحسّ ، وهي الّتي نفى اللّه الرّمي عنها أوّلا ثمّ أثبته لها وسطا ، ثمّ عاد بالاستدراك أنّ اللّه هو الرّاميّ في صورة محمّديّة ، ولا بدّ من الإيمان بهذا ) .
ثم أشار إلى سبب رؤية صور الاعتقادات في مرآة الحق دون صور الناظرين ؛

"" أضاف المحقق :
فهو يرى الخلق في مرآة الحق ، وإنما كان الحق في ذوق صاحب هذه الرؤية باطنا ، والخلق ظاهرا ؛ لأن وجه المرآة يخفى لظهور ما يتجلى فيها ، فإنه متى انطبع في المرآة صورة لا بد وأن تظهر في وجهها لأجل ذلك .أهـ . لطائف الإعلام ). ""

فقال : ( فانظر في المثال ) أي : إذا علمت أن المرآة مثال لحضرة الحق في ظهور الصور ، فانظر فيه بوجه آخر يكون به مثالا لرؤية صور الاعتقادات دون صور الناظرين ،

فتقول : ( مرآة واحدة ) قابلها مرايا كثيرة ، فظهرت في تلك المرآة حتى صارت كأنها مجموعة من المرائي يظهر فيها ما في تلك المرائي من الصور ، لكن لا يكون في هذه المرآة شيء من صور الناظرين ، إذ لا تكون قابلة تلك المرائي لها بنظر الجماعة فيها حتى تظهر صورهم في تلك المرائي ، ثم في تلك المرآة الواحدة ، فالمرآة الواحدة هو الحق والمرايا المتقابلة هي نفوس الناظرين ، والصور التي فيها صور اعتقاداتهم لا صور أشخاصهم لغنائهم عن أنفسهم ، فلا تكون لهم صور في نفوسهم .

( وهو ) أي : النظر في مرآة الحق باعتبارين أحدهما ( نظرك من حيث كونه ذاتا ) ، ولا تحصل منه صورة في مرآته ؛ لأنه أجل من أن تدركه نفوسا ، وتعقله أذهانا ، ويتخيله خيالنا ؛ ( فهو غني عن العالمين ) فلا يظهر في شيء حتى يكون له صورة في النفس ، وإنما يظهر في ضمن الأسماء ، وإن كان قد يكون مغلوبا بحيث لا يلتفت إليه ، والثاني نظرك ( من حيث الأسماء الإلهية ، فذلك الوقت تكون ) هذه المرآة الواحدة الإلهية بظهور صور الاعتقادات الحاصلة من ظهور صور الأسماء في نفوس الناظرين ( كالمرائي ) ،
لكن لا تظهر فيها تلك المرائي لغنائها في نظره ، وإنما يظهر ما فيها من صور الاعتقادات ؛ لوجودها في الواقع بحيث تقوم بها تلك الصور ، وإليه الإشارة بقوله : ( فأي اسم إلهي نظرت فيه نفسك أو ) نفس ( من نظر ) من غيرك .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنما تظهر في الناظر حقيقة ذلك الاسم ) دون حقيقة نفس الناظر لغنائها في نظره مع وجودها في نفس الأمر ، ( فلا تجزع ) فإن النظر في الاسم الإلهي لما أوجب فناء النفس يكون ذلك مانعا من الرؤية ، ( ولا تخف ) من إفناء نفسك بحصول هذه الرؤية من توهم أن إفنائها مخل بالرؤية القائمة بالنفس ، إذ يكفي لها قيامها في نفس الأمر لا في نظرك ، فإنه مانع من الرؤية ، فكن شجاعا في إفنائها من نظرك ، ( فإن اللّه يحب الشجاعة ولو على قتل حية ) ،

وهو إشارة إلى إفناء النفس إذ ( ليست الحية ) التي تصير بقتلها محبوب الحق ( سوى نفسك ) التي بقاؤها في نظرك حاجب عن رؤية الحق ، وكيف هذا الإفناء إعداما للنفس ، وليس قتل الحية المشبه بها إعداما لها ، إذ المسيئ لا يقبل عن نفسه ،
وإلا لصدق أن يقال : الحية ليست محبة ، وإن فسدت الصورة في الحس ، فليس ذلك إعداما لها من كل وجه ، فإن الحد بسطها ، ( والخيال لا يزيلها ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا كان الأمر ) أي : أمر الصور المتزايلة ( على هذا ) من عدم الزوال من كل وجه ، ( فهذا هو الأمان على الذوات ) التي ليس من شأنها العدم أصلا ، ( والعزة ) لها عن قول الغير ( والمنعة ) من التأثر ، وكيف تقدر على إفساد الصور بالكلية مع عجزك عن إفساد حدودها ، ( فإنك لا تقدر على إفساد الحدود ، وأي عزة ) للحدود ( أعظم من هذه العزة ) ، فإذا انضمت هذه العزة إلى عزة الذوات كانت في غاية العظمة ، ولكنك قد أمرت بقتل حية النفس ، وهي من الذوات المجردة التي لا صورة لها إلا في الوهم ، ( فتتخيل بالوهم ) عند إفنائها ( أنك قتلت ، وبالعقل والوهم لم تزل الصورة ) فضلا عن الذات ( موجودة في الحد ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والدليل على ذلك ) أي : على كون الفاني في نظرك باقيا في الواقع وفي حس غيرك ، وفي الحد قوله تعالى :( وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى) [ الأنفال : 17 ] ؛  فكيف تفني في الواقع الصورة المحمدية ؟


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والعين ) الباصرة من الناس ( ما أدركت ) للرامي ( إلا الصورة المحمدية ) ، إذ هي ( التي ثبت لها الرامي في الحس ) ، وهذه الصورة المحمدية ( هي التي نفى اللّه الرمي عنها ) ، أو باعتبار فنائها ، ( ثم أثبته ) أي : الرامي ( لها وسطا ) لثبوتها حسّا ، ورؤية العين الرامي منها ، وهي لا تكذب .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ) لما كانت فانية من حيث هي باقية من حيث هي لربها قائمة ( عاد بالاستدراك ) ، وبيّن ( أن اللّه هو الرامي ) باعتبار إشراقه وظهوره ( في صورة محمدية ) ، فلا يمكن إنكار ظهوره في المحدثات ؛ وذلك لأنه ( لا بدّ من الإيمان بهذا ) النص الدّال على ظهوره في الصورة المحمدية ، ولا قائل بالفرق بينها وبين سائر الصور ، وعلى أنه أثر فناء النفس .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فانظر إلى هذا المؤثّر حتّى أنزل الحقّ في صورة محمّديّة ، وأخبر الحقّ نفسه عباده بذلك ، فما قال أحد منّا عنه ذلك بل هو قال عن نفسه ، وخبره صدق والإيمان به واجب ، سواء أدركت علم ما قال أو لم تدركه ؛ فإمّا عالم ، وإمّا مسلم مؤمن ، وممّا يدلّك على ضعف النّظر العقليّ ، من حيث فكره ، كون العقل يحكم على العلّة أنّها لا تكون معلولة لمن هي علّة له حكم العقل لا خفاء به ، وما في علم التّجلي إلّا هذا ، وهو أنّ العلّة تكون معلولة لمن هي علّة له ، والّذي حكم به العقل صحيح مع التّحرير في النّظر ؛ وغايته في ذلك أن يقول إذا رأى الأمر على خلاف ما أعطاه الدّليل النّظريّ ؛ إنّ العين بعد أن ثبت أنّها واحدة في هذا الكثير ، فمن حيث هي علّة في صورة من هذه الصّور لمعلول ما ، فلا تكون معلولة لمعلولها ، في حال كونها علّة ، بل ينتقل الحكم بانتقالها في الصّور ، فتكون معلولة لمعلولها ، فيصير معلولها علّة لها ، هذا غايته إذا كان قد رأى الأمر على ما هو عليه ، ولم يقف مع نظره الفكريّ ).


قال رضي الله عنه :  ( فانظر إلى هذا المؤثر ) الذي بلغ النهاية في التأثير ( حتى أنزل الحق ) بإشراق نوره ( في صورة محمدية ) ، ولا يقال : كيف يؤثر الفناء وهو عدمي ؟
لأنّا نقول : ( أخبر الحق نفسه ) لا في مظهر يمكن أن يدخل فيه الشيطان ( عباده ) الكمّل الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ( بذلك ) التأثير للفناء في تجليه ، ولو أنكرتم علينا هذا القول ، ( فما قال أحد منا ) ابتداء ( عنه ذلك ) ، ( بل هو قال عن نفسه ) أولا فتبعناهم ، وليس ذلك بطريق الأمر ، حتى يمكن أن يقال لغلبة أمر بالاعتقاد على خلاف الواقع ، كما أن له أن يكلف بالمحال عند الأشعري ، بل هو بطريق الخبر

قال رضي الله عنه : ( وخبره صدق ) بحيث يكون تكذيبه كفرا ؛ وذلك لأن ( الإيمان به واجب ) بحيث لا يجوز التوقف فيما لم تعلم منه ، بل ( سواء أدركت علم ما قال أو لم تدركه ) ، وبعد الإيمان ؛ ( فإما ) ما أنت ( عالم ) بتأويله ، ( وإما مسلم ) علمه إلى اللّه من غير إنكار ؛ لأنك ( مؤمن ) فإنا تبعناه في مثل ذلك القول ، فلا ينبغي أن ينكر علينا أيضا ،
بل لا بدّ من تسليم ما لم نحط بعلمه ، وكيف ينكر أثر العدمي بالنظر العقلي بعض النص الإلهي ، مع أنه قد صح بالكشف الصحيح باتفاق أهله تأثير اختلاف المجال في اختلاف التجلي ، مع أن التجلي علة وجود المجالي ، فقد أثر المعلول المعدوم قبل تأثير العلة فيه في علته بالاختلاف .

وإليه الإشارة بقوله : ( ومما يدلك ) خاطب صاحب الكشف ؛ لأن غيره لا يطلع ( على ) هذا على ( ضعف النظر العقلي ) إذا تجرد عن الكشف والشرع ، بل كان ( من حيث فكره ) بترتيب المقدمات التي كلما تحيط بصحتها ( كون العقل يحكم على العلة أنها لا تكون ) أبدا ( معلولة لمن هي علة له ) ؛ لئلا يلزم الدور هذا ( حكم العقل لا خفاء به ) ، وإن كان قد يتوهم أن المعلول علة لعلية العلة ، وهو غلط ، إذ لو توقفت عليه العلة على المعلول للزم الدور أيضا ، بل عليتها إما بالذات أو بانضمام غير المعلول إليها ، ( وما في علم التجلي إلا هذا ) الذي ينفيه النقل ، ( وهو أن العلة تكون معلولة ) في الجملة ( لمن هي علة له ) كان التجلي علة وجود المجالي ، واختلاف المجالي علة اختلاف التجلي .

ثم أشار إلى أن لحكم العقل محلا خاصا ، ولحكم التجلي محلا آخر يعرف ذلك عند اجتماعهما ؛ فقال : ( والذي حكم به العقل ) صادق في بعض الصور دون البعض ، وإنما يكون ذلك ( مع التحرير في النظر ، وغايته ) أي : وغاية حكم صدق العقل ( في ذلك ) أي :

في كون العلة لا تكون معلولة أبدا يعرف ذلك ( إذا رأى ) العاقل ( الأمر ) ، أي : أمر التجلي ( على خلاف ما أعطاه الدليل النظري ) أي : ( العين ) التي هي علة وجود الموجودات ( بعد أن ثبت أنها ) لا يختلف تجليها ، لكن تجليها ليس باعتبار ذاتها ، بل باعتبار كونها ( في هذا الكثير ) من الأسماء المختلفة ، لكن في تجليها باسم معين في معلولات متعددة مختلفة اختلاف آخر وراء ذلك ، ( فمن حيث هي علة في صورة ) معينة ( من هذه الصور ) الأسمائية ( لمعلول ما ) من معلولات تلك الصورة ، ( فلا تكون ) تلك العين مع الصورة المعينة ( معلولة لمعلولها في حال كونها علة ) له ، ثم ينتقل إلى غيره من المعلولات إذ لا اختلاف ، فمن أين يكون له أثر في اختلاف التجلي .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بل ينتقل الحكم ) بالعلية من العلة إلى المعلول ( بانتقالها ) أي : بانتقال كون العلة علة لمعلول آخر ، ولو في تلك الصورة الخاصة لاسم خاص ، (فتكون ) العلة التي هي التجلي ( معلولة لمعلولها ) لتأثيره في اختلاف التجلي ، ( فيصير معلولها ) من حيث الوجود ( علة لها ) من حيث الاختلاف ، ومع اختلاف الجهات فلا دور ، ( وهذا غايته ) أي : غاية العاقل ( إذا كان قد رأى الأمر على ما هو عليه ) ، وإلا كان مقرّا على حكم العقل منكرا للكشف ، كيف لا وكثيرا ما ينكره الكاشف ،

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن وقف مع نظره الفكري ) ، وإنما لا ينكره عن المكاشف من أهل النظر من لم يبق مع نظره الفكري ، ولا يستدل بإثبات التأثير للمعدوم على إثبات الصانع ؛ لأن بطلان تأثير المعدوم في إيجاد الشيء معلوم بالضرورة ، وإنما يتصور له التأثير في تخصيص الموجود بوجه خاص مثل تأثير عدم السواد في المحل بقبوله البياض أو غيره من الألوان .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا كان الأمر في العلّية بهذه المثابة ، فما ظنّك باتّساع النّظر العقلي في غير هذا المضيق ؟ فلا أعقل من الرّسل صلوات اللّه عليهم ، وقد جاءوا بما جاءوا به في الخبر عن الجناب الإلهي ، فأثبتوا ما أثبته العقل ، وزادوا بما لا يستقلّ العقل بإدراكه ، وما يحيله العقل رأسا ، ويقرّ به في التّجلّي الإلهي ، فإذا خلا بعد التّجلّي بنفسه حار فيما رآه ؛ فإن كان عبد ربّ ردّ العقل إليه ، وإن كان عبد نظر ردّ إلى حكمه ، وهذا لا يكون إلّا ما دام في هذه النّشأة الدنيوية محجوبا عن نشأته الأخروية في الدّنيا ؛ فإنّ العارفين يظهرون هاهنا كأنّهم في الصّور الدنيوية لما يجري عليهم من أحكامها ، واللّه تعالى قد حوّلهم في بواطنهم في النّشأة الأخروية ، لا بدّ من ذلك ، فهم بالصّورة مجهولون إلّا لمن كشف اللّه عن بصيرته فأدرك ، فما من عارف باللّه من حيث التّجلّي الإلهيّ إلّا وهو على النّشأة الآخرة ، قد حشر في دنياه ونشر من قبره ؛ فهو يرى ما لا يرون ويشهد ما لا يشهدون ، عناية من اللّه تعالى ببعض عباده في ذلك ).


ثم بالغ في بيان قصور العقل من حيث نظره الفكري ( في العلية ) ، أي : كون المعلول علة لعلته ( بهذه المثابة ) من الضيق مع أنها ليست من المضايق المحيرة ، ( فما ظنك باتساع النظر العقلي في غير هذا المضيق ؟ ) مما يحير العقول ، وينهر الألباب ، فإذا كان في النظر العقلي هذا القصور ، فالكامل لا يقف معه إذا كوشف بما لا يستقل به ، ولا يحيله أيضا ، بل يأخذ بكشفه ، ويعرف قصور العقل ،
فذلك كمال عقله ، ( فلا أعقل من الرسل ) لثناء اللّه عليهم ، إذ عرفوا كمال الكشف ، وعدم استقلال العقل بأكثر الأمور ، وإن كلامنا فإنه بمثابة الميزان الذي يوزن به اللآلئ وزن الجبال ؛

ولذلك ( قد جاءوا بما جاءوا به ) ( عن الخطاب الإلهي ) بالكشف عن علمه ، ( فأثبتوا ما أثبته العقل ) إذ عرفوا بالعقل صحة مقدماته ، إذ يعتبر الاطلاع عليها قبل ذلك لقصور العقل ،
( وزادوا ما لا يستقل العقل بإدراكه ) ، فعجز عن إقامة البرهان على إثباته ، ولكن ( ما يحيله العقل رأسا ) ؛ لأنه صادق في كل ما يحكم بالمقدمات البينة في العقل ، وإن لم ( يقر به ) استغلالا يقر به ( في ) وقت ( التجلي ) ؛ لأنه لا يقدر على إنكار المحسوسات ما لم يكن عنده برهان قاطع على استحالته ، والأمر الكشفي حين الكشف في معنى المحسوسات ؛ لكونه من الوجدانيات .


ومع ذلك ( فإذا خلا ) العبد ( بعد ) زوال ( المتجلي ) الموجب لإفراده بنفسه ليقيم عليه البرهان النظري ( حار فيما رآه ) ؛ لأنه كالمنكر لما فوق طوره ، وقد زال المعارض له ،

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن كان ) العاقل الذي كان مكاشفا ( عبد رب ) علم أنه من عباد اللّه المخلصين الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ، وعرف بالقرائن أن الكشف لم يكن من تخليط الشيطان ، ( رد العقل إليه ) فألزمه قبول ما لا يستحيل عنده ، وإن لم يكن له عليه برهان لقصوره ،

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:21 am

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي  

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ الإلياسي
22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية                     الجزء الثالث
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن كان عبد نظر ) ، فزعم أن كل ما لا يستقل العقل بإدراكه ، وعجز عن إقامة البرهان عليه فهو باطل في نفس الأمر ، وإن لم يكن على استحالته للعقل برهان ( رد ) الحق المتجلي ( إلى حكمة ) ، وزعم أن كلما عجز العقل عن إقامة البرهان على ثبوته ، فهو من تخليط الشيطان ، ولكنه من قصور التجلي إذ ( هذا ) الرد منه ( لا يكون إلا ما دام ) الرد ( في هذه النشأة الدنيوية ) ، حيث نفى بعد التجلي ؛ لقصوره ( محجوبا عن النشأة الأخروية ) ؛ وذلك لكونه بعد الكشف مستغرقا ( في الدنيا ) التي هي أجل الحجب ، وليس ذلك شأن من كمل في حقه التجلي وهو العارف ، وإن كان مردودا إلى الخلق بعد الفناء .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن العارفين يظهرون هاهنا ) أي : في مقام الرد إلى الخلق لتكميلهم وإرشادهم ، ( كأنهم في الصورة الدنيوية ) بمجرد المثال ( لما يجري عليهم من أحكامها ) العادية والشرعية ، ( واللّه تعالى قد حولهم في بواطنهم ) عن الدنيا ، فجعلهم ( في النشأة الأخروية ) بكشف جميع الحجب عنهم ، وإنما فعل بهم ذلك ؛ لأنه ( لا بدّ من ذلك ) الظهور لانتظام أمور الدنيا بحيث تصير مزرعة للآخرة ، ( فهم بالصورة ) الدنياوية ( مجهولون ) بحيث لا يرون من العوام ( إلا لمن كشف اللّه عن بصيرته ، فأدرك ) بواطنهم ، وإن لم يصل إلى رتبتهم ، لكن كوشفوا بهذا القدر منهم ؛ ليسترشدوا بهم ،
فلا يعرف ذلك بظهور الكرامات ، فإنها لا تتميز عن الاستدراجات بدون هذا الكشف للبصيرة ، لكنه لا يعد صاحبها عارفا لبقائه في الدنيا من وجه ، ( فما من عارف باللّه ) القاطع للالتفات إلى غيره إذا عرف حق معرفته ، وهي الحاصلة ( من حيث التجلي الإلهي ) لا من حيث النظر الفكري الذي لأهل الكلام والفلسفة ( إلا وهو على النشأة الآخرة ) .
 
ولذلك يقولون : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ، كأنه ( قد حشر ) إلى مولاه ، وإن كان ( في دنياه ، ونشر عن قبره ) الحاجب له نوع حجاب عن الآخرة ، وإن كان البرزخ أشبه بالآخرة من الدنيا ، ( فهو يرى ما لا يرون ) من الأمور النظرية التي لا يأمن النظر فيها عن الغلط ، ( ويشهد ما لا يشهدون ) مما لا يستقل النظر بإدراكه أصلا ،
 
وليس ذلك من الكشف حتى يدل على أن من لم يحصل له من كسبه أنه غير مقبول ، بل أنه يكون ( عناية من اللّه ببعض عباده في ذلك ) لئلا يتحير إذا رآه في الآخرة ، فجاء كمن كان مدّ يده في ظلمة ، ففتح اللّه عن نور عظيم يخاف عليه العمى ،
وإذا كان الوقوف مع النظر العقلي موجبا للقصور نزل إدريس عليه السّلام عن السماء بعد ما رفع إليه يلحق فيه بالملائكة عن عقله المجرد ؛ ليعود إلى الحيوانية مرة أخرى ، فبعث إلى طائفة من الإنسان الذين بقيت حيوانيتهم لتناسبهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أراد العثور على هذه الحكمة الإلياسيّة الإدريسيّة الّذي أنشأه اللّه نشأتين ، فكان نبيّا قبل نوح عليه السّلام ، ثمّ رفع ونزل رسولا بعد ذلك ، فجمع اللّه له بين المنزلتين ، فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته ، وليكن حيوانا مطلقا حتّى يكشف ما تكشفه كلّ دابّة ما عدا الثّقلين ؛ فحينئذ يعلم أنّه قد تحقّق بحيوانيّته ).
"" أضاف تحقيق :
فبه نزل منزلة إدريس عليه السّلام حيث نزل عن سماء عقله إلى أرض نفسه ؛ فهذا النزول لا يكون إلا بعد العروج إلى سماء الروح بالرياضيات والمجاهدات كما رفع إدريس إلى السماء كذلك أهـ . شرح القاشاني . ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أراد العثور على هذه الحكمة الإلياسية الإدريسية ) ، إذ إلياس هو ( الذي أنشأه اللّه نشأتين ) فأعطاه الحيوانية مرتين من غير نسخ ، بل بتقليب جسمه من الحيوانية إلى الروحانية ، ثم منها إلى الحيوانية مع بقاء صورته المثالية الحيوانية ،
( فكان ) عند الحيوانية الأولى ( نبيّا قبل نوح عليه السّلام ) مسمى بإدريس عليه السّلام ، ( ثم رفع ) يجعل جسمه في حكم الروحانيات ، فكانت حكمته قدوسية ؛ لكون معرفته تنزيهية محضة حتى كان على النصف من المعرفة ، ( ثم نزل ) ثانيا بعود حيوانيته ؛ ليكون ( رسولا بعد ذلك ) المحصل له المعرفة التشبيهية ، ( فجمع اللّه له بين المنزلتين ) الملكية والحيوانية على أكمل الوجوه فيهما ؛ فلذلك جعل له الشيخ - رحمه اللّه - فصين في كتابه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلينزل عن حكم عقله ) إذا غلب عليه الملكية نسبية ( إلى شهوته ) ؛ ليعود إلى الحيوانية الكاملة ؛ لكونها بعد الملكية بسببه كالفرق بعد الجمع ، ( ويكون حيوانا مطلقا ) وإلا ضعفت حيوانيته ، فلا تزول غلبة الملكية عنه ولا يضره ذلك ، بل يفيده فائدة جليلة ( حتى يكشف ما تكشفه كل دابة ) تدب على الأرض ( ما عدا الثقلين ) من أحوال الميت وغيره من الأمور الأخروية ، فليست هذه الحيوانية كحيوانية الإنسان والجان إن قلنا : إنه حيوان لخلوها عن هذه الخاصة التي هي مقتضى الحيوانية ، فكأن حيوانيته ليست بحيوانية ، فإذا حصلت هذه الخاصة في العارف ، ( فحينئذ يعلم أنه قد تحقق بحيوانيته ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلامته علامتان الواحدة هذا الكشف ، فيرى من يعذّب في قبره ومن ينعّم ، ويرى الميّت حيّا والصّامت متكلّما والقاعد ماشيا ، والعلامة الثّانية الخرس بحيث إنّه لو أراد أن ينطق بما رآه لم يقدر فحينئذ يتحقّق بحيوانيّته ، وكان لنا تلميذ قد حصل له هذا الكشف غير أنّه لم يحفظ عليه الخرس فلم يتحقّق بحيوانيّته ، ولمّا أقامني اللّه في هذا المقام تحقّقت بحيوانيّتي تحقّقا كلّيّا ، فكنت أرى وأريد أن أنطق بما أشاهده فلا أستطيع ؛ فكنت لا أفرّق بيني وبين الخرس الّذين لا يتكلّمون ، فإذا تحقّق بما ذكرناه انتقل إلى أن يكون عقلا مجرّدا في غير مادّة طبيعيّة ، فيشهد أمورا هي أصول لما يظهر في الصّور الطّبيعيّة فيعلم من أين ظهر هذا الحكم في الصّور الطّبيعيّة علما ذوقيّا ، فإن كوشف على أنّ الطّبيعيّة عين نفس الرّحمن فقد أوتي خيرا كثيرا ، إن اقتصر معه على ما ذكرناه ؛ فهذا القدر يكفيه من المعرفة الحاكمة على عقله ؛ فيلحق بالعارفين ، ويعرف عند ذلك ذوقا ،فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [  الأنفال : 17 ] ، وما قتلهم إلّا الحديد والضّارب والّذي خلف هذه الصّور .
فبالمجموع وقع القتل والرّمي ، فيشاهد الأمور بأصولها وصورها ، فيكون تامّا ؛ فإن شهد النّفس كان مع التّمام كاملا ؛ فلا يرى إلّا اللّه سبحانه عين ما يرى ، فيرى الرّائي عين المرئيّ ، وهذا القدر كاف ، واللّه الموفّق الهادي ).
 
 
ثم أشار إلى خواص هذه الحيوانية ؛ ليعلم أن من استجمعها كان متحققا بها من كل وجه ، وإلا كان متحققا بها من وجه دون وجه ، ومن ليس فيه شيء منهما ، فكأنه ليس بحيوان أصلا ، وإن عد من الحيوانات ، فقال : ( وعلامته علامتان العلامة الواحدة هذا الكشف ) المخصوص بمن تخفت حيوانيته عن الإنسانية والجنية ، وهو كشف الأمور البرزخية ما في البرزخ والقيمة وسائر الملكوتيات .
 
أما كشف ما في البرزخ ، ( فيرى من تعذب في قبره ومن تنعم ، ويرى الميت حيّا ) معذبا أو منعما ، ( والصامت متكلما ) ناطقا ، كما أشار إليه بقوله عزّ وجل :عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ[ النمل : 16 ] ، وقوله :أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ[ فصلت : 21 ] ،
وقوله :وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ[ الإسراء : 44 ] ،
( والقاعدة ماشيا ) ، كما أشار إليه قوله عزّ وجل :وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ[ النمل : 88 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والعلامة الثانية الخرس ) « بمعني: القهر » عن النطق الإنساني ( بحيث لو أراد أن ينطق بما رآه ) في الحس أو في الكشف ( لم يقدر ) على النطق ، ( فحينئذ ) أي : حين إذ يجمع العلامتين ( يتحقق بحيوانيته ) من كل وجه لجمعيته خواصها ،
( وكان لنا تلميذ قد حصل له هذا الكشف ) الذي هو العلامة الأولى ، ( غير أنه ) لم تحصل له العلامة الثانية ، إذ ( لم يحفظ عليه الخرس ، فلم يتحقق بحيوانيته ) من كل وجه ،
بل لا يقال : إنه تحقق بها من وجه أيضا ، إذ هذه العلامة هي الظاهرة ، فإذا فقدها فكأنما فقد الحيوانية من كل وجه ،
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما أقامني اللّه في هذا المقام ) أي : مقام الكشف عن أحوال الميت ، ونطق الصامت ، وحركة القاعد ( تحققت بحيوانيتي ) بظهور العلامة الثانية التي هي أظهر العلامات ، فكان ( تحققا كليّا ) ، وإن لم يتبدل على الصورة الإنسانية ، فليست الإنسانية بتلك الصورة بل بالنطق ، وقد ذهب عني بالكلية ( فكنت أرى ) أشياء مما ذكرنا ومن غيره ، ( وأريد أن أنطق بما أشاهده ) من ذلك الكشف بقصد الإرشاد ( فلا أستطيع ) ، وليس عدم هذه الاستطاعة كعدم استطاعة المريض ، بل كعدم استطاعة الأخرس .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكنت لا أفرق بيني وبين الخرس الذين لا يتكلمون ) بشيء من الكلام لا كالذين يتكلمون بالبعض ويعجزون عن البعض ، وإذا كان لهذه الحيوانية بعد الملكية هذا الكشف ، ( فإذا تحقق ) العارف ( بما ذكرنا ) من الحيوانية ، ثم الملكية ،
ثم الحيوانية مع الكشف المذكور ( انتقل ) من هذه الحيوانية ( إلى أن يكون عقلا مجردا ) ؛ لأن هذه الحيوانية تجذبه إلى العالم العلوي أشد من جذب الملكية التي قبلها ، فتكمل ملكيته ثانيا أكمل بما كانت عند الانتقال من الحيوانية الأولى ؛ لأنها بحسب المنتقل منه ،
 
فيصير ( في غير مادة طبيعية ) ، بل إما في مادة مثالية أو لا يبقى في مادة أصلا ، ( فيشهد ) بهذه الملكية بعد الحيوانية الثانية ( أمورا هي أصول لما يظهر في الصور الطبيعية ) ؛ لالتحاقه بالملأ الأعلى فوق رتبة الملائكة السماوية ، وهي منتقشة بالفعل بكل ما يؤخذ في عالم الكون والفساد وبالأسباب الحقيقية ؛
لذلك بخلاف الملائكة السماوية فإن انتعاشها بذلك لا يكون بالفعل بجميع ما يكون فيه البعض ، ثم يمحي ويثبت البعض الآخر على حسب حركات أفلاكها ، وليس فيها أسباب ذلك وأسرارها على وجه الاستيعاب والاستقصاء ، ( فيعلم من أين ظهر هذا الحكم في الصور الطبيعية ) أي : يعرف ذلك في حكم جزئي يطلع عليه ، فيمكنه في الجملة التصرف في العالم بمقتضى ذلك ،
 
( فإن كشف ) له مع ذلك ( أن الطبيعة عين نفس الرحمن ، فقد أوتي خيرا كثيرا ) ، إذ يحصل له كمال المعرفة مع كمال التصرف في العالم ، إذ يرى نفسه الذي هو من الصور الطبيعية عين نفس الرحمن الذي به سريان إشراق نوره في الموجودات ، وهو الذي يتحد به الحق مع الخلق ، فيتم له التوحيد ( وإن اقتصر معه ) أي : مع الانتقال إلى العقل المجرد ( على ما ذكرنا ) من شهود أصول ما يظهر في الصور الطبيعية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهذا القدر يكفيه من المعرفة ) وإن لم يبلغ إلى كمالها المفضي إلى التوحيد ، لكنها من المعرفة ( الحاكمة على عقله ، فيلحق ) في الجملة ( بالعارفين ) ؛ لأنه لما اطلع على أصول ما يظهر في الصور الطبيعية اطلع على أصل تلك الأصول ، وهي ظهور الحق بصور أسمائه في الموجودات ، ( فيعرف عند ذلك ذوقا ) وراء المعرفة العلمية معنى قوله تعالى :( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى) [ الأنفال : 17 ] ، إذ
يعرف أن اللّه هو القاتل والرامي باعتبار ذاته ، وباعتبار ظهوره في الحديد والضارب والرامي بصور أسمائه ؛
 
وذلك لأنه ( ما قتلهم إلا الحديد والضارب ، والذي خلق هذه الصور ) ، وما رماهم إلا الحديد والقوس والرامي ، والذي خلق هذه الصور ، ( فبالمجموع وقع القتل والرمي ، فيشاهد الأمور بأصولها ) ، كالخالق وأسمائه ( وصورها ) كالحديد والضارب ، ( فيكون تامّا ) في المعرفة لكن فيه تفرقة .
 
( فإن شهد ) مع ذلك ( النفس ) الرحماني بعين الصور الطبيعية ( كان مع التمام كاملا ) ؛ لوصوله إلى رتبة التوحيد ،
"" أضاف المحقق :
أي : شهد مع ذلك أن النفس الرحماني غير الطبيعية كان مع التمام كاملا في المعرفة باللّه .أهـ شرح القاشاني. ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا يرى إلا اللّه عين ما يرى ) من الصور الطبيعية ، فلا تتفرق في نظره الصور والخالق بخلاف نظر الأول ، فيصير كما قال الإمام حجة الإسلام الغزالي في الباب الثالث من كتاب « التلاوة » : بل التوحيد الخالص ألا يرى في كل شيء إلا اللّه ،
( وهذا القدر كاف ) في تمام المعرفة وكمالها ، وإن كان لا يخلو عن النظر في الأسماء والنفس ، واللّه الموفق لتحصيل هذا الكمال ، والهادي لطريق تحصيله ، ( واللّه الموفق ) لمراتب الأكملية ، و ( الهادي ) للسير فيه ومنه بعد السير إليه ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
 
ولما فرغ عن بيان الحكمة الإيناسية المفيدة للأنس بالعوالم ، شرع في بيان الحكمة الإحسانية المفيدة أنس العبد بالحق والحق بالعبد ، فيرى العبد ربه في كل شيء ، والرب يرى صور أسمائه وآثارها في خلقه ،
وهذا هو الإحسان المشار إليه بقوله عليه السّلام : « أن تعبد اللّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ؛ فإنه يراك »  ؛

فقال : فص الحكمة الإحسانية في الكلمة اللقمانية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالسبت مارس 14, 2020 12:20 am

23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص اللقماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ اللّقماني
23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية                   الجزء الأول  
قال الشيخ رضي الله عنه :  (
إذا شاء الإله يريد رزقا ... له فالكون أجمعه غذاء
وإن شاء الإله يريد رزقا ... لنا فهو الغذاء كما يشاء
مشيئته إرادته فقولوا ... بها قد شاءها فهي المشاء
يريد زيادة ويريد نقصا ... وليس مشاءه إلّا المشاء
فهذا الفرق بينهما فحقّق ... ومن وجه فعينهما سواء
قال اللّه تعالى :وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [ لقمان : 12 ] ،وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [ البقرة : 269 ] ، فلقمان بالنّصّ ذو الخير الكثير بشهادة اللّه تعالى له بذلك ، والحكمة قد تكون متلفّظا بها وقد تكون مسكوتا عنها ، مثل قول لقمان لابنه :يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [ لقمان : 6 ] ؛ فهذه حكمة منطوق بها ، وهي أن جعل اللّه هو الآتي بها ، وقرّر ذلك اللّه في كتابه ، ولم يردّ هذا القول على قائله ).
 .
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بالإحسان الذي هو رؤية ربه في كل شيء ، ورؤية الحق صور أسمائه وآثارها في الخلق ، وكل ذلك عن إحسان الحق بمشيئته لا بطريق الوجوب عليه ، ويتبع هذا الإحسان الإحسان الذي هو بمعنى فعل ما ينبغي لما ينبغي ، فيحصل لصاحب الإنسان الأول لا محالة ،
وإن كان قد لا يحصل لصاحب هذا الإحسان الإحسان بالمعنى الأول ، وهو يفيد زيادة أنس أيضا ولتبعية الإحسان بالمعنى الثاني للإحسان بالمعنى الأول أورده الشيخ رحمه اللّه وإن كان فيه ما هو أساس الإحسان بالمعنى الأول ،
 
فظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى لقمان عليه السّلام ، إذ أوتي الحكمة المستلزمة لإيتاء الخير الكثير الذي لا يكمل إلا بالرؤيتين المذكورتين .
وقد أشار إليهما لقمان عليه السّلام في حكمته المنطوق بها والمسكوت عنها ، فنطق بما يدل على رؤيته وسكت عن رؤيتنا إياه بطريق التصريح ،
فأشار رحمه اللّه إلى وجه كونهما من الخير الكثير من حيث إنهما كمال غير واجب عليه بل حاصل بمشيئته ، فيكون إحسانا وتفضيلا ؛ ذلك لاستغنائه بكماله الذاتي عن طلب كمال آخر ، لكن من شأن الكامل
التفضل بالتكميل ، وهو إنما يكون بالمشيئة لكنها محل لوجوب اعتبار الوحدة في صفاته سيما التي قربت منه ، وكانت بلا اعتبار واسطة صفة أخرى بحسب التعقل ، وإن كان الكل معا في الوجود ؛ فلابدّ من أمر يفصلها في تعقلها بجزئيات الأكوان ، وهو الإرادة ؛
 
فقال رضي الله عنه  : ( إذا شاء الإله يريد ) أي : يريد ( رزقا له ) ، أي : كمالا لأسمائه بإخراج ما فيها بالقوة من صورها وآثارها إلى الفعل ، وإن كانت غنية عنها بحسب تعلقها بالذات ،
فقال رضي الله عنه  : ( فالكون ) أي : الوجود الجاذب ( أجمعه غذاء ) كمال لها وراء الكمال الذي لها في ذواتها مع غناها به نفي هذا الكمال ، وإن بقاء الإله ( يريد رزقا لنا ) بتكميلنا ،
( فهو ) أي : ( الغذاء ) فرؤيته في كل شيء هو الكمال لنا ، لكن ليست رؤيته على ما هو عليه ، بل ( كما شاء ) على تفاوت استعداد الرائين منا .
 
ثم أشار إلى سبب جمعه بين المشيئة والإرادة وإيقاع المشيئة عليها بقوله : ( مشيئته ) ، وهي الصفة المرجحة أحد طرفي المقدور ، فهي وإن كانت مجملة لوحدتها باعتبار تعلقها بالذات بلا اعتبار واسطة ؛ فهي ( إرادته ) المتصلة من حيث التعلق بجزئيات الأكوان ، وهذا التعلق للإرادة من المشيئة ، ( فقولوا : بها ) أي : المشيئة ( قد شاءها ) أي : شاء تعلق الإرادة ، فهي أي : الإرادة وإن كانت قديمة ، كأنها ( هي المشاء ) بفتح الميم مصدر ميمي أريد به اسم المفعول وإذا لم يؤنثه ، وإنما كانت إرادته تفصيلية ؛
لأنه ( يريد زيادة ) في بعض الأكوان ، ( ويريد نقصا ) في البعض الآخر ، ( وليس مشاؤه ) أي : متعلق مشيئة الحق من حيث وحدتها ( إلا المشاء ) أي : إلا الذي شاءه من الإرادة ، فإنها واحدة وإن كانت مفصلة التعلق ، ولا يمكن اعتبار ذلك فيما قرب من الحق لغلبة الوحدة هناك بخلاف ما كان له بالواسطة .
 
فقال رضي الله عنه  : ( فهذا الفرق ) من الإجمال والتعلق والتفصيل فيه ( بينهما ) أي : بين المشيئة والإرادة ، ( فحقق ) أي : قل فيه بالتحقيق فلا يتوهم جواز التفصيل في تعلق الوصف الأقرب مما لحق ، ( ومن وجه ) أي : ومن حيث أن كلا منهما صفة ترجح أحد طرفي المقدور ، ( فعينهما ) أي :
حقيقتهما ( سواء ) ؛ ولذلك صح قولنا : مشيئته إرادته وصح ، فلا يجوز إطلاق كل منهما بدل الآخر ، وإذا كانت الكمالات بالمشيئة كان إيجادها والاطلاع عليها من الإحسان الذي هو الخير الكثير اللازم للحكمة بدليل أنه..
 
(قال اللّه تعالى :"وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ" [ لقمان : 12 ] ، وقال :"وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" [ البقرة : 269].)
لأن الحكمة هي العلم بحقائق الأشياء وخواصها ، والعمل بمقتضاها ، وجميع الكمالات منوطة بها ، ( فلقمان بالنص ) الوارد في الموضعين ( ذو الخير الكثير بشهادة اللّه تعالى ) ، إذ ذلك نتيجة نصيه التي إحداها صغير الشكل الأول والثاني كبيره ، فهي وإن لم تكن مذكورة بالفعل ، فهي مفهومة قطعا من كلامه ، فصارت شهادة إلهية ، وهي أقوي من البرهان العقلي .
 
ثم أشار إلى أن من كمال حكمته أن جمع المقصود الكلي من نوعي الحكمة المنطوق بها ، والمسكوت عنها في ألفاظ يسيرة ناطقا بالمنطوق بها صريحا مشيرا إلى المسكوت عنها بإشارات لطيفة بقوله : ( والحكمة قد تكون ملفوظا بها ) إذ لا يتضرر بها أحد سمعها ، ( وقد تكون مسكوتا عنها ) لتضرر العامة بسماعها ، فيشار إليها بالإشارات اللطيفة للخاصة .
""أضاف الجامع :
مسكوت عنها للإمتناع  أحياننا أو لصعوبه تجلي أنوار وظلال صورها وسريانها في أرواح وعقول الكثير من العامة . فالحقائق لها مواقيتها المرقومة من القدم وهى تختلف من انسان للآخر حسب استعداده منذ "الست بربكم" فيجب تفهم مراعاتها للحكمة الإلهية في خلقه منذ ألست وحتى يبعثون .أهـ "".
 
فقال رضي الله عنه  : ( مثل قول لقمان لابنه ) ؛ ليصير حاملا سر كماله ، فإن الولد ، وإن كان سر أبيه فلا تظهر هذه الأسرار فيه إلا بالولادة المعنوية دون الولادة الطبيعية ؛
فلذلك قال :( يا بُنَيَّ ) بالتصغير إشارة إلى أن ولادته لم تتم ( إِنَّها ) أي : القصة ، أبهم الضمير ليدل على علو شأن المذكور بعدها بحيث لا يصل إليه فهم كل أحد ولا علمه ،( إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ) أشار بعمومها إلى عموم تعلق القدرة والعلم والظهور الإلهي بها ،( فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ ) التي هي عليها السماوات والأرض ،
فقال رضي الله عنه  : ( أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ) أشار بعموم مكانها إلى عموم سلطنته وعلمه وظهوره فيها أيضا ( يَأْتِ بِهَا اللَّهُ )[ لقمان : 16 ] أشار بذلك إلى وحدة الفاعل في الكل.
 
فقال رضي الله عنه  : ( فهذه ) الدلالة على وحدة الفاعل ( حكمة منطوق بها ) ، ثم بينها بقوله : ( وهي أن جعل اللّه هو الآتي بها ) ؛ لئلا يتوهم أن منها الدلالة على عموم العلم والقدرة ، إذ يعترف بذلك كل مؤمن من العامة مع أنهم ليسوا من أهل الحقائق ، فليسوا من أهل الحكمة بخلاف وحدة الفاعل ، إذ تنكرها المعتزلة ، ويختص بمعرفتها على الكمال أهل الحكمة الجامعون بين القدر والشرع ، ( وقرر ذلك اللّه ) إذ أورده ( في كتابه ) لصدقه في نفس الأمر مع عدم تضرر أحد بسماعه ، وأما ما يتوهم فيه من التخيير ، ونفي التكليف ، فليس بلازم له ، فإن هذا جهة الإيجاد ، وإنما التكليف من جهة الاكتساب ،
 
وهذا الإيجاد متوقف على اكتسابه بحسب السنة الإلهية ، إذ لا يفعله الحق قبل اختياره فلا ينافي التكليف المنوط باختياره واختباره ، وإن كان عن إيجاد الحق الداعية فيه ، فلا يؤخذ الحق فيه إلا باقتضاء عينه أن يوجده فيه بحسب السنة أيضا ، وإنما قلنا قرر في كتابه ؛ لأنه ( لم يرد هذا القول على قائله )، ولو كان مردودا عند اللّه لوجب رده ، ولو كان مما يتضرر إظهاره لم يحكه صريحا في كتابه الذي خاطب به كل أحد ، وأكثر ما أورد فيه من الأسرار بطريق الإيماء أو في الألفاظ المتشابهة مع منع العامة عن تعوضها تخصيص فهمها للراسخين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأمّا الحكمة المسكوت عنها ، وقد علمت بقرينة الحال ، فكونه سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبّة ، فما ذكره وما قال لابنه يأت بها اللّه إليك ، ولا إلى غيرك ، فأرسل الإتيان عاما ، وجعل المؤتى به في السّموات إن كان ، أو في الأرض تنبيها لينظر النّاظر في قوله :وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ[ الأنعام : 3 ] ، فنبّه لقمان بما تكلّم به وبما سكت عنه أنّ الحقّ عين كلّ معلوم، لأنّ المعلوم أعمّ من الشّيء فهو أنكر النّكرات ) .
 
فقال رضي الله عنه  : ( وأما الحكمة المسكوت عنها ) ، وهي الدلالة على توحيد وجود الكل بتضرر العامة سماعها بتوهم الإلهية ، وأن لهم ذلك مع دلالته على عدمهم في ذواتهم ، وإن وجودهم عند إشراق نور وجود الحق عليهم ، ومحل إشراق الشمس من المرآة لا تكون شمسا بالحقيقة مغنية للعالم كله ، وهو وإن سكت عنها (علمت بقرينة الحال) لكلامه مع كلام آخر له وللّه تعالى في موضع آخر.
 
فقال رضي الله عنه  : ( فكونه سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبة ) مع أنه لا بدّ منه ( فما ذكره ) على وجه العموم ، إذ يكون ناطقا بما يجب السكوت عنه ،
( ولا قال لابنه : يأت بها اللّه إليك ، ولا ) قال : يأت بها اللّه ( إليّ غيرك ) ؛ لدلالته على الخصوص المنافي للمقصود .
 
فقال رضي الله عنه  : ( فأرسل الإتيان ) أي : أطلقها عن التقييد بالمفعول الخاص ؛ ليكون ( عامّا ) ، ولكن لم يصرح بهذا العموم ، وإن صرح بعموم المؤتى به ومكانه ، إذ ( جعل المؤتى به ) كل مثقال حبة ( في السماوات إن كان أو في الأرض ) ، مع أن حذف المكان أيضا يدل على عمومه ، لكن حذفه يدل على أن المقصود هو نفس العموم ؛ لأنه إذا حذف صار الذهن طالبا له ، ومن عادته أنه إذا وجد مطلوبه سكت إلا أن يجد داعيا آخر إلى طلب ما وراؤه والتصريح به لا يدل على ذلك ،
 
فيمكن أن ينتقل الذهن منه إلى ما هو المقصود ، فصرح بعمومه ( تنبيها ) للخواص على أن عموم المكان ليس بمقصود ؛ ( لينظر الناظر ) منهم عند سماع قوله :فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ (في قوله تعالى : وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام :3 ].
 
ثم ينتقل من هنا أن عموم المؤتى إليه أيضا ليس مقصودا لذاته ، وإنما المقصود منه ظهور الحق فيه بحيث يصير هو الآتي والمؤتى به ومكانه والمؤتى إليه جميعا ، ( فنبه لقمان بما تكلم به ) من نسبة إتيان كل ذرة إلى الحق ، ( وبما سكت عنه ) من كونه المؤتى إليه ، وقد تكلم بوجه دون وجه بكونه عين مكان المؤتى به ( أن الحق عين كل معلوم ) باعتبار أنه لا محقق فيه سوى ما أشرق عليه من نور وجوده صرح بعينية فاعليته ،
 
وسكت عن عينية وجوده تارة من كل وجه ، وتارة بوجه دون وجه ؛ لتصير قرينة على ما سكت فيه بالكلية ، وإنما قلنا : عين كل معلوم دون عين كل شيء ؛
لأن المحذوف لو أخذ خاصّا بلا قرينة كان ذلك ترجيحا بلا مرجح ، فما هو أعم من كل وجه أولى مما لا يكون فيه ذلك العموم ، فأخذ بالمعلوم ؛
 
فقال رضي الله عنه  : ( لأن المعلوم ) أي : الذي من شأنه أن يعلم ( أعم من الشيء ) ؛ لأنه يختص بالمحقق في الواقع والمعلوم أعم منه ، ومن المعدوم الممكن والممتنع ، إذ وجودهما الذهني أيضا وإشراق نور الحق ، وإذا كان الحق باعتبار الظهور عين كل معلوم ، وهو أعم من الشيء والشيء أنكر الموجودات ،
فقال رضي الله عنه  : ( فهو ) أي : الحق ( أنكر المنكرات ) من حيث الظهور ؛ فلذلك خفي مع غاية ظهوره من حيث الظهور فضلا عن حيث الذات ، وقد فهم ذلك في إشارة لقمان عليه السّلام ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
"" أضاف المحقق :
( فهو ) أي : الحق (أنكر المنكرات) من حيث الظهور أي : لا مفهوم أعم منه إذ هو شامل للموجودات العينية والموجودات العلمية من الممكنات والممتنعات .أهـ شرح الجامي ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ تمّم الحكمة واستوفاها لتكون النّشأة كاملة فيها فقال :إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌفمن لطفه ولطافته أنّه في الشّيء المسمّى بكذا المحدود بكذا عين ذلك الشّيء ، حتّى لا يقال فيه إلّا ما يدلّ عليه اسمه بالتّواطؤ والاصطلاح ، فيقال : هذا سماء وأرض وصخرة وشجر وحيوان وملك ورزق وطعام ، والعين واحدة من كلّ شيء وفيه ، كما تقول الأشاعرة : إنّ العالم كلّه متماثل بالجوهر ؛ فهو جوهر واحد ، فهو عين قولنا : العين واحدة .
ثمّ قالت : ويختلف بالأعراض ، وهو قولنا ويختلف ويتكرّر بالصّور والنسب حتّى يتميّز ، فيقال : هذا ليس هذا من حيث صورته أو عرضه أو مزاجه كيف شئت فقل : وهذا عين هذا من حيث جوهره ، ولهذا يؤخذ عين الجوهر في حدّ كلّ صورة ومزاج ، فنقول نحن إنّه ليس سوى الحقّ ؛ ويظنّ المتكلّم أنّ مسمّى الجوهر ، وإن كان حقّا ، ما هو عين الحقّ الّذي يطلقه أهل الكشف والتّجلّي ، فهذا حكمة كونه لطيفا ).
 
فقال رضي الله عنه  : ( ثم ) أي : بعد ما نطق لقمان بالحكمة المنطوق بها ، وأشار إلى المسكوت عنها ( تمم الحكمة ) نوعيها بما يقرب إلى الأفهام كونه عين كل فاعل ، وعين كل معلوم مع تنزهه عن الحدوث والنقائص ، ( واستوفاها ) ببيان سبب ذلك ؛ ( لتكون النشأة ) أي : نشأة ابنه ومن يكون بعده ( كاملة فيها ) أي : في الحكمة علما وعملا ،
فقال رضي الله عنه  : ( فقال :إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ ) من اللطافة واللطف ، ( فمن لطافته ) الموجبة لإشراقه في مظاهره كأنه فيها ، ولطفه الموجب لرحمته على الأعيان بالإشراق عليها تفضلا ( أنه ) مع تنزهه عن الحدوث والتحديد والحلول في الحوادث والمحدودات ، إشراق نور وجوده
 
( في الشيء المسمى بكذا ) من أسماء المحدثات الشخصية ( المحدودة بكذا عين ذلك الشيء ) ، إذ لا تحقق من الشيء في الواقع سوى ما أشرق فيه من نوره ،
كما قال الإمام الغزالي في الباب الثالث من كتاب « التلاوة » من « الإحياء » :
بل التوحيد الخالص ألا يرى في كل شيء إلا اللّه ، ولكن انتهت لطافته إلى حيث اختفى بظهوره 
فقال رضي الله عنه  : ( حتى لا يقال فيه ) أي : في ذلك الشيء ( إلا ما يدل عليه اسمه بالتواطؤ ) أي : اتفاق أهل اللغة ( والاصطلاح ) بين طائفة ، ولا يسمى باسم اللّه أصلا سواء كان فيه علو وثبات وشدة وإحداث شيء ، كالآثار ، وحياة وسمع وبصر وعلم وتكميل وحفظ أم لا .
 
فقال رضي الله عنه  : ( فيقال : هذا سماء ) في العالي ، ( وأرض ) في الثابت ، ( وصخرة ) في الشديد ، ( وشجر ) في المثمر ، ( وحيوان ) في الحي السميع البصير ، ( وملك ) في العليم ، ( ورزق ) في المكمل ، ( وطعام ) في الحفيظ ، فلا يسمى شيء منها باللّه ولا سائر أسمائه ،
وإن صح بالكشف أن ( العين ) المحققة ( واحدة من كل شيء ) ، إذ لا محقق ( فيه ) سوى وجوده ، وما سواه أمور اعتبارية ، وهي الظاهرة به ، إذ ظهورها أصل لظهور حقيقته مع أنها مستقرة في العلم الإلهي ما شمت رائحته من الوجود بذلك الاعتبار ، ولا ينكر على هذا ؛
 
فإنه فقال رضي الله عنه  : ( كما تقول الأشاعرة ) من أهل السنة : ( أن العالم كله متماثل بالجوهر ) ، والمتماثلات متحدات بالنوع ، ( فهو ) أي : العالم على قولهم ( جوهر واحد ) بالنوع ، وقد قلنا : العين الظاهرة في الكل واحدة بالنوع ، فإنها صور الوجود الحقيقي ، ( وهو ) أي : قولهم ( عين قولنا العين واحدة ) ، وإن اختلفا في الاسم ،
 
فقال رضي الله عنه  : ( ثم قالت ) الأشاعرة : ( ويختلف ) الجوهر الواحد إلى موجودات متعددة ( بالأعراض ) المختلفة ، ( وهو قولنا : وتختلف العين الواحدة ) بالصور والنسب ، وبالجملة ( تتكرر بالصور والنسب ) في هذا الظهور مع الوحدة الشخصية في الأصل ، ( حتى يتميز ) كل شيء عما عداه ، حتى الأصل عن الفرع والفرع بعضه عن بعض ،
 
فقال رضي الله عنه  : ( فيقال : هذا ليس من حيث صورته ) الحسية أو النوعية أو الشخصية ، ( أو عرضه ) العام أو الخاص ، ( أو مزاجه كيف شئت ، فقل : ) فإنه لا خلاف في صحة جميع ذلك ، ولا ينافي هذا التعدد والتميز ما قلنا من وحدة العين ،
 
إذ يقال عندهم أيضا : ( هذا عين هذا من حيث جوهره ) ، وإن تعدد جوهرا بالشخص ، لكنهما اتخذا بالنوع ، وهو حقيقة واحدة تعددت بالصور والأعراض والأمزجة .
 
فقال رضي الله عنه  : ( ولهذا ) أي : ولاتحاد الجوهر بالحقيقة ( تؤخذ عين الجوهر في حد كل صورة ومزاج ) ، فيقال : الملك جوهر مجرد ، والجسم جوهر قابل للقسمة في الأبعاد الثلاثة على زوايا قائمة ، وقد أخذنا الجسم في حد العناصر والجماد والنبات والحيوان ، فهو أخذ الجوهر في ذلك ، ( فنقول نحن : إنه ليس ) الجوهر المأخوذ في الحدود ( سوى ) الخلق باعتبار ظهور في الأشياء ؛ لأن المراد به الأصل الذي تقوم به الصور والأمزجة والأعراض ، ولا يحصل شيء منها للمعدوم ،
فهي لاحقة بالوجود الذي هو إشراق نور ( الحق ) فيه ، وهو الذي يسميه بالحق الظاهر في الكل ؛ لأنه الثابت أولا ، ويتبدل عليه ، ويلحق الصور والأحوال والنسب والأمزجة ، ( ويظن المتكلم ) من الأشاعرة وغيرهم ( أن مسمى الجوهر ، وإن كان حقّا ) بمعنى : أن الثابت في الواقع بحيث يتبدل عليه ما ذكرنا ويلحقه ( ما هو ) عندهم ( عين الحق الذي ) هو صورة الوجود الحقيقي ،
 
إذ يزعمون أن وجود كل شيء عرض عام له أو عين إعراضه ولواحقه المتبدلة ، ولا يقولون بأنه صورة ذلك الوجود الحقيقي ، فليس هو الذي ( يطلقه أهل الكشف والتجلي ) جمع بينهما ؛ لأن من الناس من يكاشف ببعض الأمور ، ولا يكاشف بتجلي الحق والتجلي بظهور الحق حاصل لكل أحد مع أنه لا كشف لأكثرهم ؛ ( فهذه ) النكتة ( حكمة كونه لطيفا ) لا ما تتوهمه العامة من أن المراد به أنه غير محسوس ، أو أن العالم بدقائق الأمور وأنه البر بعباده .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ نعت فقال :خَبِيرٌ[ لقمان : 16 ] أي : عالم عن اختبار وهو قوله :وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ[ محمد : 31 ] ، وهذا هو علم الأذواق ، فجعل الحقّ نفسه مع علمه بما هو الأمر عليه مستفيدا علما ، ولا تقدر على إنكار ما نصّ الحقّ عليه في حقّ نفسه ؛ ففرّق تعالى ما بين علم الذّوق والعلم المطلق ، فعلم الذّوق مقيّد بالقوى ، وقد قال عن نفسه : إنّه عين قوى عبده في قوله : « كنت سمعه » ، وهو قوّة من قوى العبد ، « وبصره » وهو قوّة من قوى العبد ، « ولسانه » وهو عضو من أعضاء العبد ، « ورجله ويده » فما اقتصر في التّعريف على القوى فحسب حتّى ذكر الأعضاء : وليس العبد بغير هذه الأعضاء والقوى ؛ فعين مسمّى العبد هو الحقّ ، لا عين العبد هو السّيّد ، فإنّ النّسب متميّزة لذاتها ؛ وليس المنسوب إليه متميّزا ، فإنّه ليس ثمّة سوى عينه في جميع النّسب ، فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وصفات).
 
فقال رضي الله عنه  : ( ثم ) أي : بعد ذكره اللطيف الدّال على سريان ما أشرق من نوره في الكل بحيث يصير الكل كأنه هو عقب اللطيف بما يدل على سبب لطفه ، والمقصود منه ،
( فقال :خَبِيرٌ[ الحج : 63] أي : عالم عن اختبار ) ، وهذا العلم بالاختبار وإن كان جاريا ، فهو في حقه تعالى ثابت باعتبار ظهوره في هذه المظاهر ، وكيف لا ( وهو ) ما دل عليه ( قوله : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ[ محمد : 31 ] ) ، وكيف لا يكون هذا العلم مطلوبا للحق ، وإن كان علمه في الأزل كاملا ؟
 
فقال رضي الله عنه  : (وهذا هو علم الأذواق ) والذوق بالمعلوم مطلوب للعالم منا ، فكذا للحق ، وإن لم يؤثر فيه شيء ، فلا شكّ أنه يؤثر في صور ظهوره ، وهو عالم بما يكون فيها ، فيكون بذلك كأنه عالم بالذوق ، ( فجعل الحق نفسه ) مع تنزيهه عن أن يكون محلا للحوادث باعتبار استقرارها في مقر غيرها ، مع علمه في الأزل ( بما هو الأمر ) أي : أمر كل موجود ( عليه ) بطريق علم اليقين ( مستفيدا علما ) ، فهو وإن لم يتجدد في حقه علم لا بطريق الذوق ، ولا بطريق آخر قلناه على ما يعلم من ذوق صور ظهور ومظاهرة ، فجعلناه علما ذوقيّا في حقه ؛
وذلك لأنه ..
فقال رضي الله عنه  : ( لا يقدر على إنكار ما نص الحق عليه في حق نفسه ) فلابدّ من تأويله بهذا التأويل.
وقد أشار الحق إلى هذا التأويل في تسمية العلمين ( ففرق تعالى ما بين علم الذوق ) فسماه اختبارا وابتلاء ، وسمى نفسه باعتباره خبيرا ( بالعلم المطلق ) وسماه علما ، وسمى نفسه عليما ، فالعلم المطلق لعدم توقفه على أمر حصل له بذاته ، والذوقي لتقييده توقف على حصول سببه ، وعلى صيرورة الحق كأنه ذلك السبب بظهوره فيه حتى كأنه عينه ،
 
فقال رضي الله عنه  : ( فعلم الذوق مقيد بالقوى ) إذ لا بدّ له من ذائق ، وليس سوى القوى المدركة بالاستقراء والوجدان ، فظهر فيها ليصير كأنه ذائق بما تذوقه القوى ، بل في صاحبها كأنه عينه ، وهو الذائق في الأصح ، ( وقد قال تعالى عن نفسه ) فيما روي عنه صلّى اللّه عليه وسلّم من قوله : « ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ، ولسانه الذي ينطق به ".
 
فكأنه قال رضي الله عنه  : ( أنه عين قوى عبده ) في قوله : كنت ( سمعه ) ويده ، وهو وإن صار مجلي الحق وحتى كأنه عينه ( قوة من قوى العبد ) ، فيجوز كونه محلا للحوادث ، فيحدث فيه علم ذوقي ، وهو إن لم يكن محلا للمسموع ، فلا شكّ أن البصر محل لانطباع صورة المرئي ،
وقد قال رضي الله عنه  : ( وبصره ) ، وهو أيضا ( قوة من قوى العبد ) ، وهما إن لم يكونا ذائقين فلا شكّ في أن لسانه هو الذائق ،
 
وقد قال رضي الله عنه  : ( لسانه ، وهو عضو من أعضاء العبد ) ، وإن قلنا : لا ذوق فيه أيضا بل في العبد ، فقد قال : ( ورجله ويده ، فما اقتصر في التعريف ) أي : ظهور الحق بصور الخلق ( على القوى فحسب ، حتى ) لو لم تكن القوى ذائقة لم يكن الحق ذائقا بذوق العبد ؛ لأنه تجلى في جميع قواه وأعضائه .
 
فقال رضي الله عنه  : ( وليس العبد بغير هذه الأعضاء والقوى ) ، فسواء كانت الذائقة هي القوى والأعضاء ، أو العبد كان الحق كأنه ذائق بذوقها ، وإن لم يكن محلا للحوادث ؛ لأن الذائق في العبد إنما هو صورة الحق ، إذ قبل الوجود لا يمكن حصول شيء من هذه الأذواق ، ( فعين مسمى العبد ، وهو ) الوجود الظاهر في عينه ، إذ قبل ذلك ،
 
وإن شئت عينه ؛ فلا يسمى عبدا هو العبد باعتبار إشراق نوره فيه ، والعبد إنما يذوق ما يذوق بهذا المسمى ، فينسب إلى ( الحق لا عين العبد ) أي : حقيقته هو ( السيد ) ، فلا ينسب إلى الحق من العلم ، وما ينتسب إلى العبد من التأثير
( متميز بذاته ) ، فلابدّ من اعتبار التمييز في هذه النسب ، ومع ذلك ينسب إلى الحق العلم الذوقي ، وإن ضمن التأثير ، إذ ( ليس المنسوب إليه ) هذا العلم والذوق ، وهو الوجود الظاهر في عينه ( متميزا ) بحيث يكون ( ثمة ) للحق صورة وللعبد صورة أخرى ، فإنه ليس ثمة في مسمى العبد ، وهو المنسوب إليه العلم ، وذوقه شرب منه أي : ( عين ) الحق الظاهر فيه ( في جميع النسب ) من العلم والذوق وغيرهما .
 
فقال رضي الله عنه  : ( فهو ) أي : الحق ( عين واحدة ذات نسب ) له نسبة باعتبار وجوده ، ونسبة باعتبار ما ظهر فيه هو من العين الثابتة للعبد ، ( وإضافات ) تضاف إليه من حيث كونه صورة الحق أفعال العبد وتأثيراته ، ويضاف إليه من حيث كونه ظاهرا في عين العبد النقائص والانفصالات ، ( وصفات ) فله باعتبار استقراره في مقر عين صفات كاملة أزلية ، وباعتبار ظهوره في المظاهر صفات محدثة ناقصة ، فلما كان لهذا التتميم هذه الفوائد الجليلة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهيّين ، لطيف خبير سمّى بهما اللّه تعالى ، فلو جعل ذلك في الكون وهو الوجود ؛ فقال : « كان » لكان أتمّ في الحكمة وأبلغ ، فحكى اللّه تعالى قول لقمان على المعنى كما قال لم يزد عليه شيئا ، وإن كان قوله :إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ[ لقمان : 16 ] من قول اللّه فلما علم اللّه تعالى من لقمان أنّه لو نطق متمّما لتمّم بهذا ، وأمّا قوله :إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [ لقمان : 16 ] لمن هي له غذاء ، وليس إلّا الذّرّة المذكورة في قوله تعالى : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[ الزلزلة : 7 8 ] .
فهي أصغر متغذّ والحبّة من الخردل أصغر غذاء ، ولو كان ثمّة أصغر لجاء به كما جاء بقوله تعالى :إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً [ البقرة : 26 ] ، ثمّ لمّا علم أنّه ثمّ ما هو أصغر من البعوضة قال : فَما فَوْقَها [ البقرة : 26 ] يعني في الصّغر ، وهذا قول اللّه والّتي في « الزّلزلة » قول اللّه أيضا ، فاعلم ذلك فنحن نعلم أنّ اللّه تعالى ما اقتصر على وزن الذّرّة وثمّ ما هو أصغر منها ، فإنّه جاء بذلك على المبالغة ، واللّه أعلم. )
 
فقال رضي الله عنه  : (فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ) المحتاج إلى إقامة الأدلة ، ورفع الشبه والتقريب إلى الأفهام ، وبيان الأسرار ( لابنه ) ؛ لإرادة جعله حامل أسراره ( ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهيين لطيف وخبير ) ، إذ ( تسمى اللّه ) بهما في الكتب السماوية ، فكانا دليلين عقليين نقليين ، لكنهما باعتبار ظهوره في المظاهر ،
 
فلو جعل ذلك المذكور من نسبة الحق بالاسمين ( في الكون ) ، وهو وإن كان اسما لحصول الشيء على سبيل الحدوث ، فاسمه يجوز أن يكون أسماء للحق ، إذ هو الوجود الظاهر في المظاهر ، وهو من حيث أنه وجود صورة الحق ، والصورة تسمى باسم ذي الصورة ،
فقال : إن اللّه كان لطيفا خبيرا ( لكان أتم في الحكمة ) ؛ لدلالته بالمطابقة على المقصود على ما هو عليه ، ( وأبلغ ) في رفع الالتباس من توهم ذلك في الحق باعتبار استقراره في مقر غيره ، لكنه اعتمد على القرينة ، فأطلق في موضع التقييد .
فقال رضي الله عنه  : ( فحكى اللّه قول لقمان ) بلغة أصله ( على المعنى ) ، كما قال : ( ولم يزد عليه شيئا ) ، إذ يتوهم كونه من قول لقمان مع أنه لم يقله ، فيكون كذبا هذا ( إن كان قوله :إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ[ الحج : 63 ] ) من قول لقمان ،
 
وإن كان قوله رضي الله عنه  :( إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌمن قول اللّه ) تمم به حكمة لقمان تعليما لهذه الأمة أفضل من تعليمه ابنه وأكمل ، ( فلما علم اللّه من لقمان أنه لو نطق متمما ) لحكمته ( لتمم بهذا ) ، فكأنه صار قائلا بذلك ، فلم يزد عليه أيضا ، فهذا ما في هذه الآية من الإشارة إلى الحكمة النظرية ،
 
( وأما ) ما فيها من الإشارة إلى الحكمة العملية ، فهي المذكورة ( بقوله : إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) من الهيئات الحاصلة من الأعمال والأخلاق ،فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ هي البدن الكثيف ،أَوْ فِي السَّماواتِهي الأرواح العالية ،أَوْ فِي الْأَرْضِ هي النفوس ،يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [ لقمان  :16 ].

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالسبت مارس 14, 2020 12:22 am

23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص اللقماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ اللّقماني
23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية                   الجزء الثاني  
فقال رضي الله عنه  : (لمن هي له غذاء ) أي : هذه كمال له ، ( وليس ) من هي له غذاء ( إلا الذرة ) من الأعمال والأخلاق ، إذ الأكبر منهما يقتضي منه الأكبر ، فلا تكفي الحبة غذاء له المذكورة في قوله تعالى :فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [ الزلزلة : 7 ، 8 ] ).
 
فشبه العمل والخلق بالذرة والهيئة الخاصة منهما بالحبة ؛ للإشعار بأن أدنى الأعمال والأخلاق الموجب أدنى الهيئات يأتي بها اللّه لصاحب ذلك العمل والخلق في أي ذرة أصغر تنفذ من الأعمال والأخلاق من حيث اقتضائها تلك الهيئة ، كاقتضاء المتغذي للغذاء ،
 
فقال رضي الله عنه  : ( والحبة من الخردل أصغر ) إذا جيء بهما للدلالة على المبالغة في أن اللّه تعالى لا يظلم في أقل قليل من الأعمال والأخلاق وهيئتهما ، ودلّ هذا على أنه ليس في الأعمال والأخلاق أصغر من الذرة ، وهي النملة الصغيرة ، وليس في الهيئات أصغر من الحبة ، إذ ( لو كان ثمة أصغر ) منهما ( لجاء به ) في موضع المبالغة ، ( كما جاء ) في تمثيل الدنيا بأحقر الأشياء ،


"" أضاف المحقق :
المراد أنه لا أصغر منها مما يسمى باسم ويذكر به كما أشرنا إليه مطلقا ، وليس شيء مما يسمى باسم ويذكر به أصغر من الحبة والذرة بخلاف البعوضة ؛ فإن ما فوقها من الصغر هو النملة .أهـ  شرح الجامي ""
 
فقال رضي الله عنه  : ( بقوله :"إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها") [ البقرة : 26 ] ، ( ثم علم أن ثمة ) أي : فيما تمثلت به الدنيا ما هو ( أصغر من البعوضة ، قال : فما فوقها ) .
 
ولما توهم أن الفوقية من الكبر ، وهو محل المبالغة فسره بقوله أي : ( في الصغر ) ؛ فإنه فوق البعوضة في الحقارة ( فهذه المبالغة ) ، وإن لم تجب في قول لقمان ، فهي واجبة في ( قول اللّه تعالى في ) صورة ( الزلزلة ) ؛ وذلك لأن عادته المبالغة في موضعها ، إذ هذا أي :
قوله :"فَما فَوْقَها" ( قول اللّه ) ، والذرة ( التي في الزلزلة قول اللّه أيضا ) ، فلا يختلف قوله في المبالغة ، وتركها لقوله تعالى : "وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً" [ النساء : 82 ] .
أي : برهانه المبالغة في البعض دون البعض ، والمبالغة في موضعها من جملة المبالغة ، ( فنحن نعلم ) من رعايته المبالغة في موضعها ( أن اللّه ما اقتصر على وزن الذرة وثمة ) أي : فيما يشبه به العمل والخلق ( ما هو أصغر منها ) ، إذ لا يدخل تحت نية العبد ، فلا يكون له فيه كسب يفيد عنه فيه ، إذ لو دخل تحتها لم يكن في هذه الآية مبالغة ، لكن وقع الاتفاق على المبالغة فيها ، ( فقد جاء بذلك على سبيل المبالغة ) ، فإنهم اتفقوا على أن هذه الآية أجمع الآيات لدقائق الأعمال ( واللّه اعلم ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّا تصغيره اسم ابنه فتصغير رحمة ولهذا وصّاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك ، وأمّا حكمة وصيّته في نهيه إيّاه أنلا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ لقمان : 13 ] ، والمظلوم المقام حيث نعته بالانقسام ، وهو عين واحدة فإنّه لا يشرك معه إلّا عينه ، وهذا غاية الجهل ، وسبب ذلك أنّ الشّخص الّذي لا معرفة له بالأمر على ما هو عليه ولا بحقيقة الشّيء إذا اختلفت عليه الصّور في العين الواحدة ، وهو لا يعرف أنّ ذلك الاختلاف في عين واحدة ، جعل الصّورة مشاركة للأخرى في ذلك المقام فجعل لكلّ صورة جزءا من ذلك المقام ، ومعلوم في الشّريك أنّ الأمر الّذي يخصّه ممّا وقعت فيه المشاركة ليس عين الآخر الّذي شاركه إذ هو للآخر ، فإذن ما ثمّة شريك على الحقيقة ، فإنّ كلّ واحد على حظّه ممّا قيل فيه إن بينهما مشاركة فيه ، وسبب ذلك ، الشّركة المشاعة ، وإن كانت مشاعة فإنّ التّصرّف من أحدهما يزيل الإشاعة ،قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ[ الإسراء : 110 ] هذا روح المسألة ).
 
فقال رضي الله عنه  : ( وأما تصغير ابنه ) في باب الحكمة العملية التي لم يأت فيها بما هو غاية الكمال في الأخلاق والأعمال ، وإنما بالغ في أن شيئا من الأعمال لا يضيع حياتها أصلا ، ( فتصغير رحمة ) ؛ لأن الصغر محل الرحمة ، فأشار إلى أنه وإن بلغ ما بلغ من الكمال في العلم ، فهو من جهة العمل صغير محل الرحمة ؛
لقوله عليه السّلام : " استقيموا ولن تحصوا " رواه ابن ماجة ؛ ( لهذا أوصاه بما فيه سعادته ) كقوله تعالى :" يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ في العبادة البدنية " وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ" في السياسة المدنية ،"وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ" في المساعي الباطنية "إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" [ لقمان : 17 ] ، "وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ " في حقوق الصحبة ،" وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً " في كسر النفس ،"إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ"[ لقمان : 18 ] ،
" وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ " في الأخذ بأوساط الأمور في الأخلاق ،" وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ" [ لقمان : 19 ] في كف الأذى عن الخلق إذا عمل بذلك ، فإن الحكمة العملية إنما تفيد السعادة بالعمل ، كما أن الحكمة النظرية تفيدها بالاعتقاد الصحيح الجازم .
 
ثم أشار إلى ما هو أساس الحكمتين بحيث ينهدم بناؤهما بدون ذلك بقوله : ( وأما حكمة وصيته في نهيه إياه ) أي : ابنه عن الشرك ، إذ وصاه ( ألا تشرك باللّه ) كما قال تعالى :" وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " [ لقمان : 13 ] ،
 
فهي الاحتراز عن الظلم العظيم ، فإن الشرك لظلم عظيم قائم بالاعتقاد الذي هو أصل الاعتقادات والأعمال بحيث لا يبقى شيء منها بدونه ، كمن أحسن طاعة سلطانه سنين ، ثم قصد قتله فلا يعدمه ما تقدم منه من طاعاته ، وكيف لا يعظم هذا الظلم ( والمظلوم المقام )
أي : ما به يقوم هذا المعتقد واعتقاده ، بل جميع الأكوان وهو اللّه سبحانه وتعالى ؛ لأن الشرك إما للصور بأنفسها وهو باطل ؛ لأن المراد المشاركة في الإلهية والصور لا تقوم بذواتها ،
 
فكيف يتصور لها الإلهية حتى تشارك فيها ، وبهذا بطل مشاركة الصورة للعين ، وإما بالعين التي في صورها وهو ظلم عظيم بالعين حيث وضعه في غير موضعه ، ( إذ نعته بالانقسام ) وهو يستلزم التركيب المحوج للأجزاء ، ( وهو عين واحدة ) لا تفتقر إلى شيء من الأجزاء ، ولا من غيرها في وجودها ، وتفتقر إليها الصور كلها والتركيب ينافي ذلك ، وإذا كان المقام عين واحدة ، فلو فرض فيها الشركة ؛
 
فقال رضي الله عنه  : ( فإنه لا يشرك معه إلا عينه ، وهذا غاية الجهل ) يحكم به هذا الاعتقاد ، وعلى خلاف ما عليه الأمر فهو غاية الظلم في حق أعظم الأمور الذي به قوام الكل وافتقارهم إليه في كل الأمور .
فقال رضي الله عنه  : ( وسبب ذلك ) الجهل الموجب لهذا الظلم في الحكم المخل بقيومية من به قوام الكل ( أن الشخص الذي لا معرفة له بالأمر ) أي : بأمر الحق أنه الوجود المقوم لكل ما عداه من الموجودات ( ولا بحقيقة الأشياء ) ؛ لأنها لا وجود لها إلا من إشراق نور ذلك الوجود الحق
 
عليها ( إذا اختلف عليه ) أي : في نظره الصور الثابتة في العين الواحدة باعتبار إشراقها على أعيان الأشياء ، وهو لا يعرف ذلك الاختلاف ( للصور في عين واحدة ) ، إذ نظر أن لكل صورة عينا تخالف عين الصورة الأخرى مع المشاركة بين العينين ،
 
كما يقول العامة : إن الوجود المشترك بين الموجودات كلها (جعل الصورة مشاركة للأخرى في ذلك المقام ) الذي هو العين الواحدة المتشارك فيها باعتبار انقسامها إلى عينين تختص كل صورة بعين منهما ، لكن هذه الشركة على تقدير انتساب العين الواحدة إليهما تكون غير حقيقية ، فلا يصح اعتقادها ثابتة في الواقع على ذلك التقدير أيضا؛ وذلك لأنه (معلوم في) حق (الشريك) الواحد منها (أن الأمر الذي يخصه) أي : الذي هو حصة مختصة بذلك الشريك حال كونه قسما
(مما وقعت) أي : فرضت (فيه المشاركة) من العين الواحدة (ليس عين) الأمر (الآخر الذي شاركه) أي : فرض مشاركته ، (إذ هو) أي : الآخر (للآخر) أي : للشريك الآخر ، والمختص لشيء لا يكون عين المختص بالشيء الآخر .
 
فقال رضي الله عنه  : ( فإذا ما ثمة ) أي : في الواقع على تقدير انقسام العين الواحدة شريك ( على الحقيقة ) ، إذ معنى الشركة أن تكون العين الواحدة لكل واحد من الشريكين ، وهاهنا ليس كذلك ( فإن كل واحد ) من الشريكين في العين الواحدة بعد قسمتها تكون ( على حظه ) المختص به ، وإن كان ( مما قيل فيه إن بينهما مشاركة فيه ) ، فالشركة متوهمة من هاهنا ، لكن إنما يتم هذا التوهم قبل القسمة ؛
 
وذلك لأن ( سبب ذلك ) الاشتراك ( الشركة ) المشاعة في ذلك المقام أولا ، ( وإن كانت ) أي : الشركة في العين الواحدة حال كونها ( مشاعة ) ، فلا تكون تلك شركة في الإلهية إذ لا بدّ للإله من التصريف ، لكن حصوله من كليهما يستلزم التناقض ، ومن أحدهما تبطل إلهية الآخر ، 
فالأول : إما أن يتصرف بالكل أو بالجزء ، فيتعطل الجزء الآخر وهو باطل فيتعين الأول ، بل لا يمكن ( التصرف ) حينئذ ببعض الأجزاء أصلا ، فإن التصريف من أحدهما ( يزيل الإشاعة ) فلا تتصور الشركة في الإلهية لعبودتين ، بل إنه يكون لاسمين إلهيين يتصرف كل واحد منهما بكل تلك الغير ،
كما قال تعالى :( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 110] هذا ) المذكور في إبطال الشركة ( روح المسألة ) ؛ فافهم واللّه الموفق والملهم .
 

ولما فرغ عن الحكمة الإحسانية التي هي رؤية العبد وبه ظاهرا في كل شيء ، ورؤية الرب صور أسمائه وآثارها فيه ، ومن تحقق بذلك بارّا ما يتصرف نيابة الحق في الخلق ، والتي هي فعل ما ينبغي لما ينبغي له ، إنما تحصل على العموم بالإمام الآمر بذلك عقبها بالحكمة الإمامية ؛ 
فقال : فص الحكمة الإمامية في الكلمة الهارونية..
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالسبت مارس 14, 2020 12:23 am

24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية الجزء الأول .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص الهاروني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ الهاروني
24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية                   الجزء الأول  
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بالأمة التي هي إما التصرف بالحق في الخلق من حققه بأسماء الحق ، أو إقامة أمره ونهيه في العموم ، ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى هارون عليه السّلام ؛ لتحققه بأسماء الحق من جهة كونه من حضرة الرحموت ، وإقامته أمر الحق ونواهيه باستخلاف أخيه إياه على قومه .
"إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً " [ البقرة : 124 ] أي : خليفة عليهم .
"" أضاف المحقق :
(الإمامة المذكورة هاهنا لقب من ألقاب الخلافة ، وهي تنقسم إلى إمامة بلا واسطة وبين حضرة الألوهية ، وإلى إمامة ثابتة بالواسطة ، وكل رسول بعث بالسيف فهو خليفة من خلفاء الحق ، ولا خلاف في أن موسى وهارون بعثا بالسيف ؛ فهما من خلفاء الحق الجامعين بين الرسالة والخلافة . شرح الجامي) .""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أنّ وجود هارون عليه السّلام كان من حضرة الرّحموت بقوله تعالى :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا [ مريم : 53 ] يعني لموسى :أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [ مريم : 53 ] ، فكانت نبوّته من حضرة الرّحموت ؛ فإنّه أكبر من موسى سنّا ، وكان موسى أكبر منه نبوّة ، ولمّا كانت نبوّة هارون من حضرة الرّحمة ، لذلك قال لأخيه موسى - عليهما السلام :يَا بْنَ أُمَّ [ طه :94 ] ، فناداه بأمّه لا بأبيه إذ كانت الرّحمة للأمّ دون الأب أوفر في الحكم ، ولولا تلك الرّحمة ما صبرت على مباشرة التّربية ) .
( اعلم أن وجود هارون عليه السّلام كان من حضرة الرحموت ) ، والرحمن اسم شامل تجليه تجليات سائر الأسماء ، والرحيم يدل على الاختصاص المشير إلى التحقق والتخلق والرحمة شاملة لهما ، فكان متحققا بالأسماء الإلهية .
( بقوله تعالى :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا[ مريم :53 ] يعني لموسى ) بين الضمير ؛ لأن مرجعه وإن كان مذكورا في القرآن فليس مذكورا في الكتاب ، وفيه إشارة إلى أن خلافته عن موسى عين خلافته عن الحق ، وإنها مكملة لنبوته ونبوة موسى إذ وهبه له مع أخوته حال نبوته كما كان( أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا )؛ فكانت نبوته من حضرة الرحموت ) ،
فلابدّ أن تكون مكملة بالإمامة ، وكونه موهوبا لموسى من هذه الحضرة يستلزم كونه رحمة عليه ، ( فإنه أكبر من موسى سنا ) ، ومن شأن الكبير أن يكون راحما على الصغير ، ولا ينافي هذا كونه خليفة لموسى إذ ( كان موسى أكبر منه نبوة ) ، والصغير في النبوة يجوز أن يكون خليفة للكبير فيها ، وإن كان راحما على الكبير فيها من حيث كونه صغيرا في السن .
 
(ولما كانت نبوة هارون ) التي هي غاية كماله ( من حضرة ) الرحموت كان الغالب عليه في أفعاله وأقواله ما يناسب ( الرحمة ؛ لذلك قال لأخيه موسى - عليهما السلام ) مع كونه أخاه من الأبوين ؛( يَا بْنَ أُمَّ [ طه : 94 ] ، فناداه بأمه ) أي : إضافة إلى أمه ( لا بأبيه ) ، وإن كان أرحم من سائر الناس ،
( إذ كانت الرحمة للأم دون الأب أوفر في الحكم ) ، فإن أثر الرحمة في الأم أظهر وأكثر مما في الأب ، ( ولولا تلك الرحمة ) الوافرة الأثر من الأم على الصغير ( ما صبرت على مباشرة التربية ) للصغير كما لا يصبر عليه الأب ؛ ولذلك جعلت الحضانة أولا للأمهات .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثمّ قال :لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [ طه : 94 ] ،فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ [ الأعراف : 150 ] ؛ فهذا كلّه نفس من أنفاس الرّحمة . وسبب ذلك عدم التّثبّت في النّظر فيما كان في يديه من الألواح الّتي ألقاها من يديه ، فلو نظر فيها نظر تثبّت لوجد فيها الهدى والرّحمة ، فالهدى بيان ما وقع من الأمر الّذي أغضبه ممّا هو هارون بريء منه ، والرّحمة بأخيه ، فكان لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه مع كبره وأنّه أسنّ منه ، فكان ذلك من هارون شفقة على موسى لأنّ نبوّة هارون من رحمة اللّه ، فلا يصدر منه إلّا مثل هذا ).
  
( ثم ) أي : بعد قوله :يَا بْنَ أُمَّ ( قال :لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [ طه : 94 ] ،فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ [ الأعراف : 150 ] ) ، ولم يغضب عليه مع أنه فعل ذلك عن علمه ، ( فهذا ) القول وترك الغضب على موسى عليه السّلام ( كله نفس من أنفاس الرحمة ) المجتمعة تلك الأنفاس في هارون رحم بها موسى ؛ لئلا يزيد غضبه عن العجلة فيهلك ، وإن كان للّه ؛ لكونه بلا موجبة في الحقيقة ؛
وذلك لأن ( سبب ذلك ) الغضب والعجل من موسى ( عدم التثبت ) من الحيرة التي غلبت عليه من الغيرة في اللّه والغضب له عن عجلة ، فلم يثبت ( في النظر فيما كان ) أبلغ تثبت مع غاية قربه ، إذ كان ( في يديه من الألواح ) أي : ألواح التوراة ( التي ألقاها من يديه ) من عدم التثبت الموجب للحيرة الحاصلة من الغضب في اللّه ، والغيرة له إذ لا يتجرأ على مثل ذلك إلا عن الحيرة ، وإلا فهو معصوم ، وكذا ما فعل بأخيه .


( فلو نظر فيه نظر تثبت ) فيه إشارة إلى أن الحائر لا يفيده النظر ، وإن بالغ فيه ( لوجد فيه الهدى ) المنافي لإلقاء الألواح ، ولما فعل بأخيه ( والرحمة ) المنافية لما فعل بأخيه ( في الهدى ) الذي كان يجده لو ثبت في نظره فيه ( بيان ) سبب ( ما وقع من الأمر الذي أغضبه ) من عبادة العجل ؛ لأنه مكتوب فيها وأصلها السامري ، فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار ، وهذا ( مما هارون بريء منه ) ، فلم يكن معينا فيها بل مانعا عنها بقوله :إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي [ طه : 90 ] ، والرحمة التي كان يجدها موسى لو ثبتت في نظره فيها هي ( الرحمة بأخيه ) المانعة من هتك رحمته لما فيه من قطع الرحم وهتك رحمة الكبير ،
( وكان لا يأخذ بلحيته ) سيما إذا كان ثمة أي : ( من قومه مع كبره ) في السن ، ( فإنه أسن منه ) والكبر في السن يستوجب الحرمة من كل أحد حتى ممن هو أكبر منه في النبوة أو في فضيلة أخرى ، فهذا الفعل من موسى ، وإن كان عن غضب وغيرة في اللّه فهو بسبب العجلة لا شكّ أنه ترك الأولى والأنبياء يؤاخذون بذلك ،
( فكان ذلك ) القول وترك الغضب ( من هارون شفقة على موسى ) غلبت عليه ؛ ( لأن نبوة هارون من رحمة اللّه ، ولا يصدر منه إلا مثل هذا ) ، وإن كانت الرحمة الرحمانية عامة ، لكنها إذا رحمة الغضب لم تكن رحمة على المغضوب عليه ، وكأن نبوته رحمة على موسى إذ وهب له من الرحمة ، ولم يغلب على موسى ؛ لأن نبوته من جميع الأسماء الإلهية الشاملة على الغضب والانتقام ، فغضب في موضعه في ظنه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثمّ قال هارون لموسى - عليهما السّلام :إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ [ طه : 94 ] ؛ فتجعلني سببا في تفريقهم فإنّ عبادة العجل فرّقت بينهم ، فكان منهم من عبده اتّباعا للسّامريّ وتقليدا له ، ومنهم من توقّف عن عبادته حتّى يرجع موسى عليه السّلام إليهم فيسألونه في ذلك ، فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه ، فكان موسى أعلم من هارون ؛ لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأنّ اللّه قد قضى ألا يعبد إلّا إيّاه ، وما حكم اللّه بشيء إلّا وقع ، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتّساعه ، فإنّ العارف من يرى الحقّ في كلّ شيء ، بل يراه عين كلّ شيء ؛ فكان موسى يربّي هارون تربية علم ، وإن كان أصغر منه في السّنّ ) .
 
ثم أشار إلى أن موجب الغضب لا إلى هذا الحدّ بقوله : ( ثم ) أي : بعد ما قال هارون ما ذكرنا ( قال هارون لموسى - عليهما السلام : ) معتذرا عما غضب عليه من تركه التشديد في الإنكار خوفا من الأضرار عن العناد الناشئ من التشديد ( أني خشيت ) في التشديد ( أن تقول : فرقت ) أي : أدمت التفريق ( بين بني إسرائيل ) مع وقوعه من غيري ؛ لأن الدوام أشد من الابتداء إذا زال سريعا ، ( فتجعلني سبب ) ابتداء وانتهاء ( في تفريقهم ) ، بل يجعل التفريق من غيري كاللاتفريق ، ( فإن عبادة العجل فرقت بينهم ) تفريقا غير تام في البعض مطلقا ، وإن تم في الآخرين من وجه ،
( فكان منهم من عبده اتباعا للسامري ) مع أن الواجب اتباع هارون لنبوته وخلافته ،
 ( وتقليدا له ) ، مع أن الواجب عليهم النظر الموجب متابعة الأنبياء لكمال إدراكهم للحقائق ، فهؤلاء وإن لم يتم التفريق فيهم ؛ لكنه لكونه تقليديّا ضعيف جدّا ، لكنه يتقوى عن المعتاد الحاصل عن التشديد في الإنكار عليهم .


( ومنهم من توقف عن عبادته ) وهو وإن كان كفرا ، فهو دون عبادته كيف وكان توقفهم ( حتى يرجع إليهم موسى فيسألونه في ذلك ) ، فهم مؤمنون بقول موسى ، وإن كفروا بقول هارون ، ( فخشي هارون ) أنه لو شدد عليهم الإنكار في التوقف تركوا التوقف ورجعوا إلى عبادته ، فخشي ( أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه ) بإتمامه من كل وجه في البعض ومن وجه في البعض ، بل ربما كان يتم من كل وجه في الكل ، فيبطل حق اللّه تعالى في عبادته وحده ، فأشار موسى عليه السّلام بأن عبادة العجل ليست فرقانا في حق اللّه تعالى بل في حق العبادة باعتقادهم إلهية العجل أو استحقاقه للعبادة ، وهو في معنى الإلهية .
 
( فكان موسى أعلم بالأمر من هارون ؛ لأنه علم ما عبده ) في الواقع ( أصحاب العجل ) ، فإنهم عبدوا الحق باعتبار ظهوره في مظهر العجل لا على اعتقاد مظهريته ، بل على اعتقاد إلهيته فأخذوا بما قصدوا ، ولو عبدوه على اعتقاد مظهريته كان أيضا خطأ ، فإن المظهر والصورة الظاهرة فيه من جملة العالم الذي حقه أن يكون عابدا لا معبودا مع أن مظهريتهم أكمل من مظهريته ؛ لأنه لا يرجع إليهم قولا ، ولا يملك لهم نفعا ولا ضرّا ، وإنما علم موسى ذلك ؛ ( لعلمه بأن اللّه قد قضى ) أي : حكم ("أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ " [ الإسراء : 23]).
إما باعتبار ذاته أو أسمائه وهي عبادة المؤمنين ، أو باعتبار ظهوره في المظاهر الخلقية ؛ وذلك لأنه ( ما حكم اللّه بشيء إلا وقع ) وقد وقعت عبادة بعض المظاهر ، فعبادتها راجعة إلى عبادته في الواقع ، وإن لم تفد أصحابها بل أضرت بهم من كل وجه ، إذا وجبت لهم حجبا كثيفة عن اعتقاد كمال ظهوره فيها فهو عين النقص في حقه .
 
( فكان عتب موسى أخاه ) في ترك التشديد عليهم ( لما وقع الأمر ) ، أي : أمر الفرقان ( في إنكاره ) اللين ؛ لأنه إنما كان الإنكار لرؤيته الفرقان في نفس الأمر يبطل به عبادة اللّه من كل وجه لو دام وتم مطلقا بتشديده الإنكار ، وذلك عن ( عدم اتساعه ) في معرفة الحق حتى يعرف ظهوره في كل شيء ، ( فإن العارف من يرى الحق ) : أي ظاهرا ( في كل شيء ، بل يراه ) باعتبار ظهوره ( عين كل شيء ) ، فإن صورته متحدة بالأشياء ، إذ لا وجود للأشياء سوى صورته الوجودية ، فتبقي عبادته من ذلك الوجه فلا فرقان في حقه ، ولكن لا تبقى في حق عبدة العجل ، فيجب تشديد الإنكار عليهم ،
( فكان موسى يربي هارون تربية علم ) بأن عبادة اللّه لا تضيع بعدم قصدهم إياها ، وإنما تضيع عنهم فائدتها ، وذلك لكبره في النبوة ، ( وإن كان أصغر منه في السن ) ، فكبر سنه رباه تربية الرحمة ، وكبر نبوة موسى رباه تربية المعرفة ؛ فافهم فإنه مزلة للقدم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولذلك لمّا قال له هارون ما قال ، رجع إلى السّامريّ فقال له :قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ[ طه : 95 ] ؟ يعني فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل على الاختصاص ، وصنعك هذا الشّبح من حليّ القوم حتّى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم ، فإنّ عيسى يقول لبني إسرائيل : « يا بني إسرائيل قلب كلّ إنسان حيث ماله ، فاجعلوا أموالكم في السّماء تكن قلوبكم في السّماء » ، وما سمّي المال مالا إلّا لكونه بالذّات تميل القلوب إليه بالعبادة ؛ فهو المقصود الأعظم المعظّم في القلوب لما فيها من الافتقار إليه ، وليس للصّور بقاء ، فلابدّ من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه .
فغلبت عليه الغيرة فحرّقه ثمّ نسف رماد تلك الصّورة في اليمّ نسفا ، وقال له :وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ [ طه : 97 ] ، وسمّاه إلها بطريق التّنبيه للتّعليم ، لما علم أنّه بعض المجالي الإلهيّة ،  لأحرقنه ) فإنّ حيوانيّة الإنسان لها التّصرّف في حيوانيّة الحيوان لكون اللّه سخّرها للإنسان ، ولا سيّما وأصله ليس من حيوان ، فكان أعظم في التّسخير ؛ لأنّ غير الحيوان ما له إرادة بل هو بحكم من يتصرّف فيه من غير إباءة ) .
( ولذلك ) أي : ولكون موسى عليه السّلام مربيا بالعلم تبين أن ظهور الإله في شيء لا يجعله إلها ، فاعتقاد إلهية تفرقه ( لما قال له هارون ) ما دلّ عن رؤية الفرقان في اعتقاد عبدة العجل وصانعه وهو السامري ، وإن زعم أنه لا يفرقه في ذلك ؛ لكون العجل محل الأمر ( رجع إلى السامري ) يعاتبه في تخصيص هذا المظهر القاصر سيما من جهة جماديته باستحقاق العبادة في المظاهر التي أصلها أن يكون أكمل منه ، ( فقال له :فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ، يعني : فيما صنعت من عدولك ) عن عبادة الحق باعتبار ذاته وأسمائه التي لا تغايره ( إلى صورة العجل على الاختصاص ) ، مع أن الكل مظاهر الحق ، فلا يستحق البعض من البعض العبادة ، بل حق المظهر أن يكون عابدا لا معبودا وفي ) صنعك هذا الشبح ) ، مع أن ظهور الإله في مصنوعات الخلق أقصر منه في مصنوعاته ، لكن خيل لهم كمال ظهوره فيه ، إذ جعله ( من حلي القوم حتى أخذت بقلوبهم ) فتوهمت فيه الكمال لحبها إياه ، إذ عين المودة عن كل غيب كليلة ، مع أنه ليس لكمال ظهور الحق فيه ، بل ( من أجل أموالهم ) الموجبة سيل قلوبهم إليها ،


بدليل قول عيسى عليه السّلام :-
( فإنّ عيسى يقول لبني إسرائيل : « يا بني إسرائيل قلب كلّ إنسان حيث ماله ، فاجعلوا أموالكم في السّماء ) بأن تجعلوها للّه ، وتعطوها للفقراء ، ( تكن قلوبكم في السماء ) عند ربكم ، وأيضا علم ذلك من اشتقاقه ، فإنه ( ما سمي المال مالا ؛ إلا لكونه بالذات ) وإن لم يتوسل به بعض البخلاء إلى الشهوات ، ولا إلى دفع سائر المضرات ( تميل القلوب إليه بالعبادة ) أي : التذلل له مثل تذلل العابد للمعبود ؛ ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلّم : « تعس عبد الدينار ، وعبد الدرهم ، وعبد الخميصة إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط » . رواه البخاري وابن حبان وابن ماجة.
تعس وانتكس ، وإذ آتيك فلا انتعش ، فهو وإن كان في الأصل مقصودا بالغير وهو جلب الشهوات ودفع المضرات ، صار كأنه
 
 ( هو المقصود الأعظم ) حتى تشبه عند بعض الجهّال باللّه ، كما قال الجريري : لولا التقى لقلت : جلت قدرية فهو ( المعظم في القلوب ) العمية ( لما فيها من الافتقار إليه ) ، كالافتقار إلى اللّه تعالى في نظرهم ، وأي كمال لظهور الحق فيه ، وأدنى كمالاته البقاء إلى الأبد .
( وليس للصور ) ولو سماوية ( بقاء ) ، فمتى تبقى لأرضه ، ( فلابد من ذهاب صورة العجل ) وإن لم يقصد أحد إذهابها ، حتى إنها كانت تذهب بنفسها ( لو لم يستعجل موسى بحرقه ) ، لكنه استعجل ذلك لئلا يبقى مدة معبودا من دون اللّه في اعتقاد عابديه ، ( فغلبت عليه الغيرة ) بحسب اعتقاد عابديه غيريته للحق ؛ لأن حق المعبود أن يكون مستقلا بالذات وأحبابها ، فحرقه ليفنيه بالكلية بحسب العرق أو ليصير رمادا في غاية الحقارة ،
( ثم نسف رماد تلك الصورة في اليم نسفا ) ؛ ليشير بذلك إلى فناء الصور ذليلة في بحر الوجود الحقيقي ؛ حتى يظهر عدمها الأصلي وذلتها في أن تكون آلهة تعبد من دون اللّه ، ولكن ( قال له :انْظُرْ إِلى إِلهِكَ [ طه : 97 ] ) مع اعتقاده عدم إلهيته ( بطريق التنبيه ) على أخطائه في هذه التسمية ، وإن كانت صور الأشياء في المرايا تسمى بأسمائها ؛ ( للتعليم ) بأن كونه مجلى إلهيّا لا يصح تسميته باسم من أسماء اللّه تعالى ،
وذلك ( لما علم ) موسى من السامري أنه إنما سماه بذلك من حيث ( أنه بعض المجالي الإلهية ) ، فنبّه بأنه لو صح تسمية هذا البعض به لصح تسميته الكل به ، فلا يبقى التمييز بين العابد والمعبود ، ولا سيما ما كان أكمل منه في المظهرية كالإنسان ، فإنه أكمل من سائر أنواع الحيوان في نفس الحيوانية فضلا عن الباطنية .
 
( فإن حيوانية الإنسان لها التصرف في حيوانية ) سائر أنواع ( الحيوان ) ، وإن كانت في أصل الحيوانية سواء ، لكن فضل اللّه تعالى حيوانية الإنسان على حيوانية سائر أنواع الحيوان ؛ لكون اللّه تعالى سخرها للإنسان ، فهذا العجل سخر للإنسان من حيث حيوانيته ، ( ولا سيما ) أنه وإن صار له خوار ( أصله ليس من ) نطفة ( حيوان ) بل من الجماد ، ( فكان أعظم في التسخير ) من الحيوان الذي أصله من الحيوان ، بل هو أي : هذا العجل وإن صار حيوانا فهو كالجماد في التسخير حتى يكون بحكم من تصرف فيه من ( غير ) إبانة ، فإنه وإن ظهرت فيه الحياة ، فلم تظهر فيه الإرادة ولا القوة الجاذبة والدافعة حتى يدفع ضرر من يريد التصرف فيه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأمّا الحيوان فهو ذو إرادة وغرض فقد يقع منه الإباءة في بعض التّصريف ؛ فإن كان فيه قوّة إظهار ذلك ظهر منه الجموح لما يريده منه الإنسان ، وإن لم تكن له هذه القوّة ، أو يصادف غرض الحيوان انقاد مذلّلا لما يريده منه ، كما ينقاد الإنسان مثله لأمر فيما رفعه اللّه به من أجل المال الّذي يرجوه منه المعبّر عنه في بعض الأحوال بالأجرة في قوله :وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [ الزخرف : 32 ] فما يسخّر له من هو مثله إلّا من حيوانيّته لا من إنسانيّته ، فإنّ المثلين ضدّان ، فيسخّره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيّته ويتسخّر له ذلك الآخر إمّا خوفا أو طمعا من حيوانيّته لا من إنسانيّته ، فما يسخّر له من هو مثله ) .
"" أضاف المحقق :
(إنما أضاف التسخير إلى إنسانيته لأن التسخير في الإنسان إنما يكون من جهة كمال ، والكمال في الإنسان ليس إلا من جهة إنسانيته ، وأضاف التسخير إلى حيوانيته ؛ لأن التسخير إنما يكون من جهة نقص ليخبر به ، والنقص فيه ليس إلا من حيوانيته . شرح الجامي ). أهـ ""
 
وأما ( الحيوان ) الذي أصله من حيوان ، فهو ذو ( إرادة ) ، وكل ذي إرادة ذو غرض لتخصيص البعض بالجر والبعض بالرفع ، ( فقد يقع منه الإبائية في بعض التصرفات ) الإنسانية فيه إذا توهم منه ضرورة ، ( فإن كان فيه قوة إظهار ذلك ) الإباء ( ظهر منه الجموح لما يريده ) المتصرف فيه إذا لم يوافق تصرفه غرض ذلك الحيوان ، ( وإن لم يكن له هذه القوة ) أي : قوة إظهار الإباء ، ( أو يصادف ) تصرف المتصرف فيه ( غرض الحيوان ) بأن توهم منه نفعه ، وإن توهم معه التضرر أيضا ( انقاد مذللا لما يريده ) المتصرف ( منه ) ؛ لحصول غرضه لا لتسخيره إياه فهو في حكم الجموح ، فهو ( كما ينقاد الإنسان مثله ) لا لكونه مسخرا له ، بل ( لأمر ) داخل ( فيما رفعه اللّه به ) وإن كان انقياده ( من أجل المال الذي يرجوه منه ) ، فإن له بذلك رفعة من حيث أنه محتاج إليه ، وإن كان هذا المال هو
 
( المعبر عنه في بعض الأحوال بالأجرة ) ، فإن للمستأجر رفعة على الأجير ، وإن ساواه في المال والمنصب وسائر الفضائل ، فهذا الانقياد من الحيوان والجماد والإنسان لمثله داخل ( في قوله تعالى :"وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا" )[ الزخرف : 32 ] ،
وإذا كانت السخرية بالرفعة ( فما يسخر له ) أي : للإنسان ( من هو مثله ) في الإنسانية ( إلا من حيوانيته ) المحوجة إلى المال في الشهوات ، أو دفع المضرات ، أو المنقصة للفضائل ( لا من إنسانيته ) لاقتضائها جمع الكمالات وعدم الاحتياج إلى الأمور الذاتية ، وكيف ينقاد الإنسان لمثله من حيث الإنسانية .
 
(فإن المثلين ضدان ) ، ومقتضى الضدية التباعد وإن كان مقتضى المناسبة التقريب ، فيصطحبان بالمناسبة ، ويتباعدان بالضدية ، والتسخير تذليل موجب للعداوة فتغلب هناك جهة الضدية ، فليس التسخير من المثلية ، وقد تقرر أنه برفعة الدرجة ( فيسخره الأرفع في المنزلة ) ، ولو كانت رفعته ( بالمال والجاه ) الذي لا يحتاج إليه الإنسان من حيث هو إنسان ، ولكن تحصل لصاحبه الرفعة الإنسانية إذ يصير محتاجا إليه ، فيكون تسخيره ( بإنسانيته ) لا بنفس المال والجاه كاللآلئ ، واليواقيت المطروحة في الفلاة ، ( ويتسخر له ذلك الآخر إما خوفا ) من الضرر ، ( أو طمعا ) في النفع ( من حيوانيته ) التي يلحقها الضرر ، والنفع الدنيوي ( إلا من إنسانيته ) ، وإن كانت متعلق النفع والضر ، لكنهما ليسا من المال والجاه بل من الأمور العالية ، ( فما سخر له ) في صورة تسخير الإنسان لمثله ( من هو مثله ) وهو الإنسان ، بل إنما يتسخر لإنسانيته أحدهما حيوانية الآخر ، وكيف يتسخر الإنسان لمثله مع أن الحيوان لا يتسخر لمثله .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ألا ترى ما بين البهائم من التّحريش ؛ لأنّها أمثال ؟ فالمثلان ضدّان ، ولذلك قال :وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [ الزخرف : 32 ] ، فما هو معه في درجته ، فوقع التّسخير من أجل الدّرجات ، والتّسخير على قسمين : تسخير مراد للمسخّر ، اسم فاعل قاهر في تسخيره لهذا الشّخص المسخّر كتسخير السّيّد لعبده ، وإن كان مثله في الإنسانيّة ، وكتسخير السّلطان لرعاياه ، وإن كانوا أمثالا له في الإنسانيّة فيسخّرهم بالدّرجة ، والقسم الآخر تسخير بالحال كتسخير الرّعايا للملك القائم بأمرهم في الذّبّ عنهم وحمايتهم وقتال من عاداهم وحفظه أموالهم وأنفسهم عليهم ، وهذا كلّه تسخير بالحال من الرّعايا يسخّرون بذلك ملكهم ، ويسمّى على الحقيقة تسخير المرتبة).
 
قال رضي الله عنه :  ( ألا ترى ما بين البهائم من التحريش ؛ لأنها أمثال ) لا لأمر آخر ، ( فالمثلان ) إذا لم يكن منهما موجب تسخير ( ضدان ) لا يمكن أن ينقاد أحدهما للآخر أبدا ؛ ( ولذلك ) أي : ولكون المثلين ضدين ، والأشياء إما أمثال أو أضداد
( قال تعالى  :وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ") [ الأنعام : 165 ] ؛ لتعارض موجب التسخير موجب الإبائية ، وإذا ارتفعت الدرجات لم تبق المثلية المانعة من الانقياد ؛ لأنه وإن كان مثله في الإنسانية .


( فما هو معه في درجته ) ، فزالت المثلية المانعة ، ( فوقع التسخير من أجل الدرجات ) المقتضية له كأنه لا تعارض بينهما حينئذ ، ووقوع التسخير من أجل الدرجات لا يستلزم كون الأرفع هو المسخر اسم الفاعل أبدا ، بل قد يكون بالعكس ،
وذلك أن ( التسخير على قسمين تسخير مراد للمسخر اسم فاعل ) ، واسم الفاعل فيه أرفع درجة ؛ لأنه ( قاهر في تسخيره لهذا الشخص المسخر ) اسم المفعول ، وإن كان هذا المسخر له فضيلة أخرى يرفع بها على اسم الفاعل ( كتسخير السيد لعبده ، وإن كان مثله في الإنسانية ) الجامعة للكمالات كلها فالقهر درجة اختص بها السيد فيرفع بها عليه .
 
( وكتسخير السلطان لرعاياه ) إذ يجب عليهم طاعته ، وإن صح تصرفهم دون إذنه بخلاف العبد ، فالرعايا ( وإن كانوا أمثالا له في الإنسانية ) الجامعة شرائط الإمامة ، ( فيسخرهم بالدرجة ) وإن لم يكن فيه فضيلة أخرى ، إذ يرتفع بالدرجة عليهم ( والقسم الآخر ) يكون الأدنى مسخرا اسم فاعل للأرفع ، وهو ( تسخير بالحال ) لا بالإرادة ( كتسخير الرعايا للملك ) مسخّرونه لانتظام أمورهم ، إذ هو ( القائم بأمرهم في الذّب ) أي : دفع الظلمة ( عنهم وحمايتهم ) عن السراق والقطاع للطريق ، ( وقتال من عاداهم ) من الكفار والبغاة ، ( وحفظ أموالهم وأنفسهم ) عمن يريدها بلا حق ، ( وهذا كله تسخير بالحال ) لا بالإرادة ؛ لأنه إنما يكون بالقوة الظاهرة ، وليس لآحاد الرعية ذلك ، فهو تسخير ( من الرعايا ) ، وإن كانوا مسخرين للملك بالقهر والدرجة ، فهم ( يسخرون بذلك ملكهم ) بالمرتبة ليحفظ بحفظه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالمرتبة حكمت عليه بذلك ، فمن الملوك من سعى لنفسه ، ومنهم من عرف الأمر فعلم أنّه بالمرتبة في تسخير رعاياه ، فعلم قدرهم وحقّهم ، فآجره اللّه على ذلك أجر العلماء بالأمر على ما هو عليه وأجر مثل هذا يكون على اللّه في كون اللّه في شؤون عباده ، فالعالم كلّه مسخّر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه أنّه مسخّر ، قال تعالى :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [ الرحمن : 29 ] ، فكان عدم قوّة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتّسليط على العجل كما سلّط موسى عليه ، حكمة من اللّه ظاهرة في الوجود ، ليعبد في كلّ صورة ، وإن ذهبت تلك الصّورة بعد ذلك فما ذهبت إلّا بعد ما تلبّست عند عابدها بالإلوهية ) .
( فالمرتبة ) وإن كانت دنية ( حكمت عليه بذلك ) الحفظ والحاكم على الشيء مسخر له ، وإذا كان الملك مسخرا للرعايا بالدرجة وهم مسخرون له بالمرتبة ، انقسم سعي الملوك في الذّب والحماية والقتال وغيرها إلى قسمين ، ( فمن الملوك من سعى لنفسه ) لحفظ درجته فلا أجر له ، بل قد يكون عليه الوزر لو أراد التكبر على عباد اللّه تعالى ؛ وذلك لجهله ، ( ومنهم من ) سعى لحفظ مرتبة الرعايا إذ ( عرف الأمر ) أي : المقصود من درجة السلطة ، ( فعلم أنه بالمرتبة ) التي لرعاياه من حيث عدم استقلال كل واحد منهم بأمره ( في تسخير رعاياه ، فعلم قدرهم ) بأن لهم رتبة حاكمة عليه بالذّب والحماية والقتال ، ( وحقهم ) اللازم عليه ، فيقصد بذلك أداء حقهم ( فآجره اللّه ) بتقريبه من جنابه ، وإظلاله تحت ظله كما ورد :
« سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عدل ، وشاب نشأ في عبادة اللّه ، ورجلان تحابا في اللّه اجتمعا عليه وافترقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال ،
فقال : إني أخاف اللّه ، ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج عنه حتى يرجع إليه ، ورجل يتصدق بصدقة فلا تدري شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه » رواه البخاري ومسلم.
 
( على ذلك ) السعي ( أجر العلماء بالأمر على ما هو عليه ) ، إذ جمعوا بين العلم والعمل ، ( وأجر مثل هذا يكون على اللّه ) بتقريبه منه ؛ لأنه تشبه باللّه ( في كون اللّه في شؤون عباده ) وهو أيضا في مشائهم ، وإذا كانت الرعايا مسخرة للملك بالحال ونسبة العالم إلى اللّه نسبة الرعايا إلى الملك ،
( فالعالم كله ) وإن كان بعضه في غاية الحقارة ( مسخر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه أنه مسخر ) اسم مفعول ؛ لئلا يتوهم كونه مقهور الآن التسخير بذلك الوجه هو المشهور إلا أن هذا الوجه تحقق في الحق ، وإن لم يطلق عليه هذا اللفظ ، إذ ( قال اللّه تعالى :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ الرحمن : 29 ] ) ،
وإذا كان للعالم تسخير الحق بالحال والرتبة مع كونه مسخرا له وللإنسان سيما الكمّل ، ( فكان عدم قوة إرداع هارون ) مع كون هارون مشدودا به عضد أخيه ( بالفعل ) أي : التأثير بحيث يكون لإرداعه ( أن ينفذ في أصحاب العجل ) ، فيتأثروا به ( بالتسليط على العجل ) بإحراقه ونسف رماده في اليم ، ( كما سلط موسى عليه السّلام ) من حيث تسخير ما دون الإنسان للإنسان ( حكمة من اللّه ) يحكم بها أمر عباده وأمر إلهيته ( في الوجود ) .
 
وإن لم تكن حكمة في الشرع ؛ فإنه إنما لم يسلط هارون أولا ليعبد فيه ، ثم سلط عليه موسى ليعلم بطلان إلهيته ، وإنه إنما عبد لكونه من مظاهره ، فإنه إنما ظهر في هذه الصور ( ليعبد في كل صورة ) تعبده فيها المحجوبون ، وإن لم يقصدوا عبادته بل عبادة الصورة ، ( وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك ) ، فإن ذهابها لا يدل على عدم ظهور الحق فيها حين عبدت ، ( فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابديها بالألوهية ) مع أنها ليست بإله ، فلا أقل من ظهور الإله فيها ، وظهور الصورة في المرآة موهم عند المحجوب كون تلك الصورة صورة المرآة ، فيعبدها عنه رؤيته في تلك المرآة صورة كاملة بظن إلهيتها ، وأقل وجوه الكمال كون المظهر مسخرا اسم فاعل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلّا وعبد إمّا عبادة تألّه وإمّا عبادة تسخير ؛ فلا بدّ من ذلك لمن عقل ، وما عبد شيء من العالم إلّا بعد التّلبّس بالرّفعة عند العابد والظّهور بالدّرجة في قلبه ، ولذلك يسمّى الحقّ لنا برفيع الدّرجات ، ولم يقل رفيع الدّرجة ، فكثّر الدّرجات في عين واحدة ؛ فإنّه قضى ألا نعبد إلّا إيّاه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كلّ درجة مجلى إلهيّا عبد فيها ، وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه « الهوى » كما قال :أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [ الجاثية : 23 ] ، فهو أعظم معبود ، فإنّه لا يعبد شيء إلّا به ، ولا يعبد هو إلّا بذاته).
 
( ولهذا ما بقي نوع من ) ثلاثة أنواع ( الأنواع إلا وعبد إما عبادة تألّه ) إن كانت الصورة الظاهرة في مرآته كاملة ، ( وإما عبادة تسخير ، ولا بدّ من ذلك ) أي : عبادة التسخير في الكاملة والقاصرة جميعا ، أقول ذلك ( لمن عقل ) ؛ لكن عبادة التأله لا تكون إلا عند ظهور الكمال ؛ وذلك لأنه ( ما عبده شيء من العالم ) عبادة تأله ( إلا بعد التلبس بالرفعة ) ولو ( عند العابد ) لا في الواقع ؛
 
( ولذلك ) أي : ولظهور الحق في كل معبود بالباطل بدرجة رفيعة عند عابده ( تسمى الحق لنا برفيع الدرجات ) ؛ ليعلم أن إلهيته بتلك الدرجات كلها لا بدرجة واحدة مع عدم بقية الدرجات ؛ لأنه نقص مناف للإلهية ، ( ولم يقل : رفيع الدرجة ) ، وإن كانت واحدة تقتضي وحدة الصف ، كما قلنا في علمه وقدرته وكلامه : إنه بالعلم الواحد يعلم جميع المعلومات ، وبالقدرة الواحدة يقدر على جميع الممكنات ، وبالكلام الواحد ينطق بكل ما يريد ؛ لئلا يتوهم أن إلهيته بدرجة واحدة ،
 
( فكثرت الدرجات في عين واحدة ) بالظهور في هذه المظاهر ليعبده بعضهم في الدرجة الجامعة للدرجات ، ويعبده بعضهم وهم المحجوبون باعتبار ظهوره في بعض الدرجات ،
( فإنه قضى ) أي : حكم ( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[ الإسراء : 23 ] في درجات كثيرة مختلفة ) يختص بعضها بالموحدين ، وبعضها بالمشركين المحجوبين ؛ لأنها ( أعطت كل درجة مجلى إلهيّا ) أوهم القاصرين إلهيته إبهام ظهور الشمس في المرآة شمسيتها مع أنها في المرآة لا يشرق العالم ؛ ولذلك ( عبد فيها ) ليكون معبودا من كل وجه كمال .
 
قال أهل السنة : إن اللّه يريد الكفر من الكافر ، وقد قال تعالى :" وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " [ الذاريات : 56 ]، فإن كان من لا يعبد شيئا ، فلا أقل من أن يكون عابدا لهواه ، ( وأعظم مجلى عبد فيه ) الحق عبادة باطلة ( وأعلاه الهوى ) ، وكيف لا وهو سبب عبادة كل معبود باطل ، وهو معبود بالذات ، ( كما قال تعالى ) في حق عبدة المجالي : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ[ الجاثية : 23 ] ) ، فعبد بأمره ما عبد من الأصنام وغيرها ، ( فهو أعظم معبود ) باطل كان عابده وحده عابدا لجميع المعبودات الباطلة ،
( فإنه لا يعبد شيء إلا به ) أي : مقرونا بعبادته فهذه عظمته ، ( ولا يعبد هو إلا بذاته ) ، وهذا علوه .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالسبت مارس 14, 2020 12:24 am

24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص الهاروني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ الهاروني
24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية                   الجزء الثاني  
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وفيه أقول :
وحقّ الهوى إنّ الهوى سبب الهوى   .... ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى
ألا ترى علم اللّه بالأشياء ما أكمله ، كيف تمّم في حقّ من عبد هواه واتّخذه إلها فقال :وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [ الجاثية : 23 ] ، والضّلالة الحيرة ، وذلك أنّه لمّا رأى هذا العابد ما عبد إلّا هواه بانقياده لطاعته فيما يأمره من عبادة من عبده من الأشخاص ، حتّى أنّ عبادته للّه كانت عن هوى أيضا ، لأنّه لو لم يقع له في ذلك الجانب المقدّس هوى وهو الإرادة بمحبّته ما عبد اللّه ولا آثره على غيره ، وكذلك كلّ من عبد صورة ما من صور العالم واتّخذها إلهاما اتّخذها إلّا بالهوى فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه ) .

( وفيه ) أي : وفي كون الهوى معبودا بذاته ( أقول : وحق الهوى ) أي : الحب الإلهي المشار إليه بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن أعرف » .
وسبب ظهور الهوى ( أن الهوى سبب ) عبادة ( الهوى ) ؛ وذلك لأنه ( لولا الهوى في القلب ) : وهو الميل الموجب لإرادة عبادة الهوى ، ( ما عبد الهوى ) ، إذ العبادة فعل اختياري يتوقف على الميل والإرادة ، ولكن مع كون الهوى معبودا بالذات لمن يعبد الصور قد لا يشعر به صاحبه ، كما قال :
( ألا ترى علم اللّه بالأشياء ما أكمله ) فعلم ما يعبده العابد ، ولا يعلم العابد من نفسه أنه يعبده ( كيف تمم في حق من عبد هواه ) في عبادة الصور ، ( واتخذه ) هواه ( إلها ) مع أنه ينكر إلهيته ويجعلها للأصنام مثلا ،( وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [ الجاثية : 23 ] ) أي : حيره ، فلا يدري أن معبوده بالذات هو الهوى ، مع أنه يعلم أنه لا يعبد ما يعبد إلا عن أمر الهوى ، وإنما حملنا الإضلال على التحير ؛ لأن ( الضلالة الحيرة وذلك ) أي : إضلال الحق إياه على علم ( أنه ) أي : الحق ( لما رأى هذا العابد ) لأي شيء كان ( ما عبد إلا هواه ) ؛ لأنه الآمر بهذه العبادات كلها ، فيعبده ( بانقياده ) لأمره ،

وذلك الانقياد ( لطاعته فيما يأمره ) بلسان الحال ( من عبادة من عبده من الأشخاص ) ، أضله اللّه عن معبوده بالذات ، كما أضله عن عبادته ، والهوى : هو الأمر بعبادة كل معبود ( حتى أن عبادته للّه كانت عن هوى أيضا ؛ لأن لو لم تقع له ) أي : لما بدا اللّه ( في ذلك الجناب المقدس هوى ، وهو الإرادة ) الحاصلة ( لمحبته ) هي الهوى والميل بالحقيقة ( ما عبد اللّه ) ؛ لأنه فعل اختياري يتوقف على الميل والإرادة ، كيف وهو مؤثر عبادة اللّه على عبادة غيره ، وعلى ترك العبادة ،

ولولا الإرادة ( ما آثره ) للعبادة ( على غيره ، وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم ) السفلية والعلوية بسبب ما فيها من الغيرة أو من التأثير ، ( واتخذها إلها ما اتخذها إلا بالهوى ) ؛ لأن الإلهية وإن كانت من الاعتقادات ، لكنها إنما كانت معبودة بالهوى ، والإلهية إنما تتم بالعبادة ، فهي أيضا بالهوى .

 ( فالعابد ) سواء كان عابدا للّه أو لغيره ( تحت سلطان هواه ) ، لكن من عبد اللّه لا يقال فيه : إنه اتخذ إلهه هواه ؛ لأن من عبد الهوى أو غيره من المعبودات الباطلة ، إنما يعبده من حيث أنه مجلى إلهي ، وهذا ينفي عبادة المجالي ويقصد عبادة الحق ،
فلم يكن عابدا لهواه وإن كان تحت سلطانه ، مع أنه يقصد بذلك امتثال أمر اللّه لا أمر الهوى في عبادة اللّه تابع لأمر الحق بخلاف أمره بعباده غيره ، فإنه لا يتبع فيه أحدا إلا الشيطان ،
فصار أمر الهوى في عبادة اللّه كأمر أولي الأمر من الإمام والعلماء والأولياء والأنبياء عليهم السلام .

"" أضاف المحقق :
الأنبياء والأولياء العارفون وإن كانوا ينكرون العبادة للأرباب الجزئية لكن إنكارهم ليس لاحتجابهم عن الحق الظاهر في صور الأشياء ، بل إنكارهم بحسب اقتضاء ثبوتهم ، وبحسب اقتضاء الظاهر ؛ فإنهم يرون بحسب الباطن في كل شيء . شرح القاشاني . أهـ ""

ولولا أن في الهوى قوة متابعة الحق ما خلقه أصلا بحسب مقتضى السنة الإلهية ، وستأتي الإشارة إلى ذلك عن قريب ، لكن ذكرناه هاهنا مخافة طعن المنكرين على البدار فبادرناه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثمّ رأى المعبودات تتنوّع في العابدين ، فكلّ عابد أمرا ما يكفّر من يعبد سواه ؛ والّذي عنده أدنى تنبّه يحار لاتّحاد الهوى ، بل لأحديّة الهوى ، فإنّه عين واحدة في كلّ عابد ،وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [ الجاثية : 23 ] ، أي حيّره عَلى عِلْمٍ [ الجاثية : 23 ] بأنّ كلّ عابد ما عبد إلّا هواه ولا استعبده إلّا هواه سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف ، والعارف المكمّل من رأى كلّ معبود مجلى للحقّ يعبد فيه ، ولذلك سمّوه كلّهم إلها مع اسمه الخاصّ بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك ، هذا اسم الشّخصيّة فيه ) .

( ثم ) أي : بعد الحيرة في عبادة الهوى ، واتخاذه إلها بالذهول ، يزداد تحيرا من ( رأى المعبودات تتنوع ) في اعتقادات ( العابدين ) بحيث يرى كل أحد حقيقة عبادة معبوده ، وبطلان عبادة غير معبوده ، ( فلكل عابد أمرا ما يكفّر من يعبد سواه ) أي : سوى معبوده الذي يعتقد إلهيته ، فيحار المقلد الذي لا كشف له ، ولا دليل في أنه من يقلد من هؤلاء ، فيعبد أحد هذه المعبودات مع ما له من التحير ؛ فإنه يعبد ما يعبد بالهوى ، أو لا يعرف الأمر الإلهي ، وكذا ( الذي عنده أدنى تنبيه يحار ) في حق من يعبد الآلهة الباطلة بلا كشف ولا دليل ؛ لاستحالة ذلك في حقه فلا يدري ما الذي رجح به كل واحد استحقاق معبوده العبادة دون معبود غيره ؛ ( لاتحاد الهوى ) الآمر بعبادتها ، ( بل ) يتحير في حق من يعبد اللّه عن كشف أو دليل ( لأحدية الهوى ) الآمر بعبادة اللّه ، وعبادة غيره من حيث إنه فعل اختياري يتوقف على الإرادة الحاصلة عن الميل الذي هو الهوى .

(فإنه عين واحدة ) من حيث إنه ميل ، وإن كان أحد المثلين بلا متابعة دليل كشفي ، أو عقلي ، أو نقلي والآخر بمتابعته ، فهو أمر مشترك ( في كل عابد ) ، فالكل يعبده مع أن عابد اللّه ينكر عبادته للهوى ،( وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [ الجاثية : 23 ] ، أي : حيره ) في عبادته للهوى ، وفي عبادة الحق على علم ( بأن كل عابد ما عبد إلا هواه ) بالذات ، ( ولا استعبده ) أي : ولا أمره بعبادة اللّه ، أو عبادة غيره ( إلا هواه ) ، فامتثل أمره وهو العبادة الحقيقية ، لكنهم ذهلوا عن عبادة الهوى ، واتخاذهم إياه إلها ، وإن علموا أنهم لا يصدرون إلا عن أمره ( سواء صادف الأمر المشروع ) ، وهو عبادة اللّه تعالى ( أو لم يصادف ) ، فيحار في أنه لم كفر عابد الأصنام ، ولا يكفر عابد اللّه مع أنه أيضا يعبد هواه ، وهذه الحيرة للحق من لا يكون عارفا كاملا ، ( والعارف المكمّل من رأى كل معبود ) سوى اللّه تعالى ( مجلى للحق يعبد ) الحق ( فيه ) ، فعابد اللّه تعالى لا يعبد الهوى لقصده عبادة الحق ونفيه قصد عبادة المجلي ، وعبادته وإن صدرت عن أمر الهوى ، فليس ذلك أمر الهوى من حيث هو هوى ، بل من حيث إنه تابع لأمر الحق كالرسول والوارث .


( ولذلك ) أي : ولكون كل معبود سوى اللّه مجلى للحق ليس عينه من كل وجه ، بل من وجه ( سموه إلها ) ؛ لظنهم أن المجلي في حكم من ظهر فيه ( مع اسمه الخاص ) ، فسموه ( عجزا وسحرا ، وحيوانا أو إنسانا ، وكوكبا وملكا ) استوعب الأنواع مع الترقي ؛ ليشير إلى أن اتخاذهم الإلهية إلا على عين إنكاره الإلهية الأدنى ،

مع أنه لا دليل لهم على إلهية الأعلى أيضا ما لم يقم لهم دليل على أنه لا أعلى منه في الوجود ، مع أن ( هذا ) الاسم هو الاسم الحقيقي ؛ لأنه ( اسم الشخصية ) ، وهو أخص الأسماء الحقيقية .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (والألوهيّة مرتبة تخيّل العابد له أنّها مرتبة معبوده ، وهي على الحقيقة مجلى للحقّ لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختصّ ، ولهذا قال بعض من عرف مقالة جهالة :ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [ الزمر : 3 ] مع تسميتهم إيّاهم آلهة ، حتّى قالوا :أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ[ ص : 5 ] ، فما أنكروه بل تعجّبوا من ذلك ، فإنّهم وقفوا مع كثرة الصّور ونسبة الألوهيّة لها ، فجاء الرّسول ودعاهم إلى واحد يعرف ولا يشهد ، بشهادتهم أنّهم أثبتوه عندهم واعتقدوه في قولهم :ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [ الزمر : 3 ] ، لعلمهم بأنّ تلك الصّور حجارة ، ولذلك قامت الحجّة عليهم بقوله :قُلْ سَمُّوهُمْ [ الرعد:33] ، فما يسمّونهم إلّا بما يعلمون أنّ تلك الأسماء لهم حقيقة ) .


( والألوهية ) ليست من الأسماء الخاصة بتلك الأشخاص ، بل هي ( مرتبة ) مختصة باللّه تعالى في الواقع ، لكن ( يخيل العابد له ) أي : لهذا المعبود الباطل ( أنها مرتبة معبوده ) عن ظهور الحق بهذه المرتبة فيه ، وهذه المرتبة لم يتجل بها الحق في شيء في الواقع حتى يصح أن يسمى بالإله ؛ لأنه إنما يحصل ظهوره في مظهر لو صار واجب الوجود بالذات ، لكنه محال صريح ،

ولكن ( هي على الحقيقة مجلى الحق ) في معبوده ؛ ( لبصر هذا العابد ) الخاص إضلالا له ، وإرخاء للستر عليه ؛ ليعبده في هذه المراتب بدليل أنه ( المعتكف على هذا المعبود ) الباطل ، فإنه لو لم يتجل لبصره بهذه المرتبة فيه مع أنه غير متجلّ بها فيه ( في ) الواقع لم يعتكف على عبادته .

( ولهذا ) أي : ولتخيل العابد الإلهية المعبودة بالذات أو بتجلي الحق فيه بها ، ( قال بعض من لم يعرف ) : إن الإله إنما يطالب المتقرب إليه بالذات ، ولا يتقرب به إلى الغير ،
فكان قولهم : ( مقالة جهالة : "ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى "[ الزمر : 3 ] )
 إما لأنها ( آلهة ) صغار لها قرب عند الإله الأكبر ؛ وإما لأنها صور إلهيته والتقرب إلى الصورة تقرب إلى ذي الصورة ، وهذا الجهل كما ( قالوا :أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ[ ص : 5 ] ، فما أنكروه ) ، أي : كون الإله واحدا ،

( بل تعجبوا من ذلك ) ؛ لظنهم أن الإله تجلى بالإلهية في الأصنام ، فصار كل واحد منهم إلها ، فمع بقاء تلك الصور كيف تتصور وحدة الإله ، وإنما هو بفنائها ، فجهلوا كون الإله واحدا في تلك الصور كلها بلا عجب ، لكنهم تحيروا عن الوقوف على الصورة ،
( فإنهم وقفوا مع كثرة الصور ونسبة الألوهية لها ) ، إذ زعموا أن الإله ظهر بإلهيته فيها ؛ لأنها صور كاملة ولا كمال لغيره ، ولم يعلموا أن كمال الحق بوجوب وجوده بالذات ، ولا يمكن ظهوره في شيء ،
( فجاء الرسول ودعاهم إلى ) إله ( واحد ) ؛ لئلا يقفوا على الصور ، ولا ينسبوا الإلهية إليها ؛ فإنه وإن ظهر فيها بصورة الوجود ، فلم يظهر بصورة الإلهية أصلا ، ففائدة ظهوره فيها أنه ( يعرف ) بوجه ، ولكن ( لا يشهد ) فيها القصور مظهريتها ، فلا تصبح نسبة الإلهية إليها ، فدعاهم إلى الإله الواحد الذي ثبت .

( فشهادتهم ) على أنفسهم ( أنهم أثبتوه عندهم ) ؛ لأنهم لما قالوا بالعدد المبهم ، وهو يتضمن الواحد ، فقد شهدوا على حقيّة الواحد وزادوا عليه ، فدعاهم إلى ذلك ، بأنه المتفق عليه ، والمدلول عليه بالدلائل القطعية ، فلابدّ في إثبات الزيادة من دليل ولا يوجد أبدا بالاستقراء ،


بل تقوم الدلائل على امتناعه ، وليس ذلك بطريق التنزيل ( واعتقدوه في قوله :ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى[ الزمر : 3 ] ) ، وإنما كانت عندهم مقربة إلى اللّه زلفى ؛ لأنها صور إلهيته عندهم فدعاهم إلى ذلك الإله الواحد ، فإنه لما ظهر في هذه المظاهر أحدث صور فيها حكمتها ؛ ( لعلمهم بأن تلك الصور حجارة ) ، إذ لا تتميز الصورة الإلهية عن الحجرية في هذا المظهر ، فلم يبق لها إلهيته ، فتصح عبادتها حتى تكون مقربة إلى اللّه تعالى ؛


( ولذلك ) أي : ولكون تلك الصور حجارة ، وإن ظهر الإله بها ( قامت الحجة عليهم بقوله : قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ [ الرعد : 33 ] ) أن تلك الأسماء لهم حقيقة ) ، والإلهية لو ظهرت فيها لسميت صورتها باسم ذي الصور تكون مجازا ، فخافوا من ذكر الأسماء المجازية أن تحتج عليه بصحة نفيها عنهم ؛ لأن من خواص المجاز صحة النفي هذا إذا تميزت الصورة عن المرآة ، فكيف فيما لا تتميز ، لكن القاصر في المعرفة إذا سمع ظهور الحق فيها ، وأن الحق أراد أن يعبد في هذه المراتب لا ينكر على عابديها ، وهي غلط منشئه ، فصورة المعرفة إذ كمالها يقتضي الإنكار .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأمّا العارفون بالأمر على ما هو عليه فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصّور ؛ لأنّ مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت لحكم الرّسول الّذي آمنوا به عليهم الّذي به سمّوا مؤمنين ، فهم عبّاد الوقت مع علمهم بأنّهم ما عبدوا من تلك الصّور أعيانها ، وإنّما عبدوا اللّه فيها بحكم سلطان التّجلّي الّذي عرفوه منهم ، وجهله المنكر الّذي لا علم له بما تجلّى ، وستره العارف المكمّل من نبيّ ورسول ووارث عنهم ، فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصّور لما انتزح عنها رسول الوقت اتّباعا للرّسول طمعا في محبّة اللّه إيّاهم بقوله :قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ آل عمران : 31 ] ، فدعا إلى إله يصمد إليه ويعلم من حيث الجملة ، ولا يشهد ولا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [ الأنعام : 113 ] ، بل وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ[ الأنعام : 113 ] ، للطفه وسريانه في أعيان الأشياء . فلا تدركه الأبصار كما أنّها لا تدرك أرواحها المدبّرة أشباحها وصورها الظّاهرة ، فهو اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [ الأنعام :103 ] ، والخبرة ذوق ، والذّوق تجلّ ، والتّجلّي في الصّور ؛ فلابدّ منها ولا بدّ منه ، فلابدّ أن يعبده من رآه بهواه إن فهمت ،وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [ النحل : 9 ] ) .

كما أشار إليه بقوله : ( وأما العارفون بالأمر على ما هو عليه ) ، فيعلمون أن الحق ، وإن تجلى فيهم بالصورة الوجودية ، فلم يتجل في شأن بالإلهية ؛ لأنها بوجوب الوجود بالذات ولا يمكن التجلي بها ، فلا تستحق هذه المظاهر العبادة ؛ لأن أصلها العبودية ، وهي باقية في أسمائها الحقيقية ، والأسماء المحاذية لا نطلق عليها ؛ لأنها مما يفسد الاعتقاد الصحيح ، والحق وإن أراد أن يعبد فيها ، فإنما أراد ذلك من المحجوبين الذين يرون في ظهوره فيها كماله مع ما فيها من القصور ،


( فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور ) ، وإن لم ينكروا ظهور الحق فيها ولا إرادته أن يعبد فيها ، كما قال أهل السنة : إن اللّه يريد الكفر من الكافر ،
وهم وإن كانوا على مراد الحق ، فالحق إنما أراد منهم الإنكار ، إذ أعطاهم العلم بأنه لم يظهر بالإلهية فيها في الواقع ، وأنه إنما أراد عبادتها من المحجوب مع أنه أراد الإنكار عليه في مظهر هذا المنكر ؛
ولذلك قال بصورة الإنكار ؛ ليشير على أن المنكر حقيقة هو اللّه تعالى في مظهرهم ؛
وتلك ( لأن مرتبتهم في العلم ) التي أعطاها اللّه إياهم ( تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت ) الذي هو مقتضى مظهريتهم في الحال ، الذي غلبت عليهم من كمال المعرفة الموجبة للإيمان بالرسل عن معرفة كمال مظهريتهم الموجبة للإيمان بهم ،

كالإيمان بربهم وإن لم يوجب لهم استحقاق العبادة التي هي بالإلهية التي لا يمكن ظهورها أصلا ، وهو تعظيم الإنكار ، فالحق يريد من مظاهرهم ذلك ،

إذ قد بيّن الرسول عليه السّلام هذه الإرادة الإلهية من مظهر هذا المنكر ؛ ( لحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم ) أن ينكروا على عبدة الصورة ؛ لإنكار مراد الحق منهم ، كما أن عبادتها مرادة له من عابديها ، فهو ينكر بإرادة الحق فيه على إرادة الحق فيهم ، وقد رجح هذه الإرادة منه حكم الرسول ( الذي سمّوا به مؤمنين ) ، فدل ذلك على أن هذه الإرادة هي التي لها الكمال .

( فهم ) وإن رأوا من الحق إرادتين مختلفتين بحسب التعلق بمظهره ومظاهرهم ( عبّاد الوقت ) الذي هم فيه من كمال المعرفة التي منشأها الإيمان الحاكم عليهم بالإنكار ، فهم ينكرون بإرادة الحق على إرادة الحق مع بقاء حقه في الواقع في الإرادتين فهم ينكرون عبادة الصور ( مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها ) الثابتة التي لا وجود لها ،

( وإنما عبدوا اللّه ) الذي ظهر ( فيها ) ، لكنهم أنكروا على قصدهم عبادة الغير أو على رؤيتهم أن الحق تجلى فيها بالألوهية مع أنه محال ؛ لأنها بوجوب الوجود ، ومع ذلك فلا تسمى إلها إلا بالمجاز ، والمستحق للعبادة إنما هو الإله بالحقيقة لا بالمجاز ، أو على رؤيتهم أنه الكمال الإلهي مع أنه عين القصور ( وجهله ) ، أي : كون الحق هو الموجود فيها

( المنكر ) من العامة ، وهو ( الذي لا علم له بما تجلّى ) ، فهو وإن أخطأ في معرفة التجلي أصاب في الإنكار ؛ ولذلك ( يستره ) أي : التجلي عليه ( العارف المكمّل ) للعامة ، وإن كان من شأنه التكميل في المعرفة ( من نبيّ ورسول ووارث ) ؛ لئلا يتقلع عن إنكاره بتوهم حقيقة العبادة فيها عند علمه بتجلي الحق فيها ، أو بتحيره في الإنكار على إرادة الحق بإرادة الحق .
وإذا ستره العارف المكمل عن المنكر ،

 
( فأمرهم ) أي : المنكر عابدي الصور ( بالانتزاح عن الصور لما انتزح عنها رسول الوقت ) ، فهذا المنكر وإن أخطأ في المعرفة لم يخطئ في هذا الأمر ، إذ أمرهم ( اتباعا للرسول ) ، وهذه المتابعة بخير ما فاته من المعرفة ؛ لأنه إنما يتبع الرسول ( طمعا في محبة اللّه إياهم ) ، وهي في العبادة لا تقصر عن المعرفة إنما تطلب في محبة اللّه ، وهي حاصلة في متابعة الرسول

 
 ( بقوله : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ آل عمران : 31 ] ) ، وأعظم المتابعة هي المتابعة في الدعوة إلى عبادة الحق وحده لا في هذه المظاهر والصور ، ( فدعا ) هذا المنكر ( إلى إله يصمد إليه ) أي : يحتاج إليه الكل ؛ لكونه واجب الوجود بالذات ، ولا يمكن ظهوره في مظهر ، وهو بظهوره في هذه المظاهر إنما

( يعلم من حيث الجملة ، ولا يشهدوه ) لقصور المظهرية ، والدليل عليه قوله :( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [ الأنعام : 113 ] ، والمشهود تدركه الأبصار ، ( بل هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ؛) لظهوره فيها فهو يدرك صورته فيها إدراك الشخص صورته في المرآة ، وإنما يظهر في المظاهر .


( فللطفه ) بها الموجب لتوجهه إليها وتجليه لها ، وهو سبب ( سريانه في أعيان الأشياء ) وهو يفيدها الصورة الوجودية والتدبير فيها( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ )على نهج المشاهدة في هذه المظاهر ، ( كما أنها ) أي : الأبصار ( لا تدرك أرواحها ) ، أي : أرواح الأشياء ( المدبرة أشباحها ) ، ولا تدرك ( صورها الظاهرة ) من الحق فيها ، فلا تدرك بالأبصار من الأشياء صورة الحق ، وهي الصورة الوجودية ، وكذا الصورة الجسمية والنوعية والشخصية ، بل إنما تدرك هذه الصور بالعقل ، والمدرك بالبصر إنما هو الشكل واللون ،

( فهو اللَّطِيفُ) من حيث لا يدرك بذاته ولا بصور ظهوره في المظاهر ،( الْخَبِيرُ ) من حيث ظهوره بالأشياء ؛ ليعلم بالذوق ما فيها بعد علمه مطلقا ، وذلك أن ( الخبرة ذوق ) ولا ذوق لمحق في ذاته ؛ لأنه من جملة الحوادث ، فلا يكون له إلا بالاعتبارات تحصل لصورته الظاهرة في المظاهر .


ولذلك نقول : ( الذوق تجلّ ) أي : حاصل من التجلي ، ( والتجلي ) وإن كان له في ذاته ، فهو لا يفيد الذوق الحادث فيه ، بل إنما يفيده التجلي ( في الصور فلابدّ منها ) أي : من الصور لهذا الذوق ، ( ولا بدّ ) للمتجلى ( منه ) أي : من الذوق ، إذ هو المقصود ، وقد علم الحق تجليه في المظاهر بالصورة الوجودية بحيث يتخيل القاصر ظهور ألوهيته فيها ، وهي موجبة للعباد ، فلابدّ أن يحصل ذلك له بالذوق ، وقد أوجب ذلك وظهر ذلك الوجوب في هوية المحبين إذا حجبوا عن المحبوب الحقيقي وتخيلوه فيها ، ( فلابدّ أن يعبده من رآه بهواه ) أي : يحبه بحيث يتخيله على كماله في بعض ما يراه ، لكن عبادته في ذاته مع عبادته في مظاهره إفراط ، والاقتصار على عبادة المظاهر تفريط ،( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) [ النحل : 9 ] .
في عبادته وحده باعتبار ذاته وأسمائه بجمعه جميع الدرجات الرفيعة بلا إفراط ولا تفريط ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .

ولما فرغ عن الحكمة الإمامية التي بها التصرف بالحق على الخلق ، أو إقامة أوامره ونواهيه نيابة عنه فيهم ، شرع في بيان الحكمة العلوية التي بها استعلاء المتصرف بالحق ، والمقيم أوامره ونواهيه على المتصرف بنفسه ، المقيم أوامرها ونواهيها ؛
فقال : فص الحكمة العلوية في الكلمة الموسوية

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:51 pm

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ الموسوي
25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية                      الجزء الأول
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق باستعلاء المتصرف بالحق ، والمقيم أوامره ونواهيه على المتصرف بنفسه ، والمقيم أوامرها ونواهيها ظهر بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى موسى عليه السّلام ؛ لاستعلائه على فرعون القائل :" أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى" [النازعات : 24 ] قولا وفعلا ، قال تعالى في حقه :"إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى"  [طه :86] ،" فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ " (31) سورة الدخان
فغلب على السحرة أولا بإبطال عظيم سحرهم ، وأثر فيهم الإيمان ، وأغرق فرعون وقومه ، وورث ملكهم .
 
""أضاف المحقق : إنما خصت الكلمة الموسوية بالحكمة العلوية ، لعلوه على من ادعى الأعلوية ؛ فقال : أنا ربكم الأعلى ؛ فكذبه اللّه تعالى بقوله لموسى : إنك أنت الأعلى ، على القصر يعني لا هو مع أنه تعالى وصفه بالعلوية . . . ،
ولعلو درجته في النبوة بأنه كلمة اللّه بلا واسطة ملك ، وكتب له التوراة بيده تعالى ، ويقرب مقامه من مقام الجمعية التي اختص بها نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم . ( شرح القاشاني ص 303 ) . أهـ""


قال الشيخ رضي الله عنه :  (حكمة قتل الأبناء من أجل موسى عليه السّلام لتعود إليه بالإمداد حياة كلّ من قتل لأجله ؛ لأنّه قتل على أنّه موسى ، وما ثمّ جهل ، فلا بدّ أن تعود حياته على موسى عليه السّلام أعني حياة المقتول من أجله ، وهي حياة طاهرة على الفطرة لم تدنّسها الأغراض النّفسيّة ، بل هي على فطرة « بلى » ، فكان موسى مجموع حياة من قتل على أنّه هو ؛ فكلّ ما كان مهيّئا لذلك المقتول ممّا كان استعداد روحه له ، كان في موسى عليه السّلام ، وهذا اختصاص إلهيّ لموسى لم يكن لأحد قبله ، فإنّ حكم موسى كثيرة فأنا إن شاء اللّه تعالى أسرد منها في هذا الباب على قدر ما يقع به الأمر الإلهيّ في خاطري ، فكان هذا أوّل ما شوفهت به من هذا الباب ، فما ولد موسى إلّا وهو مجموع أرواح كثيرة وجمع قوى فعّالة لأنّ الصّغير يفعل في الكبير )
 .
فأشار إلى سبب هذا الاستعلاء من جهة روحه وبدنه ، فقال : ( حكمة قتل الأبناء ) ، فأراه اللّه تعالى الرؤيا لفرعون أنه خرجت نار من ديار بني إسرائيل ، فأحرقت قصر فرعون وديار قومه ، ولم يصل إلى ديار بني إسرائيل منها شيء ، فأولها المعبرون بخروج ولد منهم يكون على يديه هلاك ملكه ، فأمر بقتل كل غلام يولد لهم فهمان قتلهم ( من أجل موسى عليه السّلام ) ، وإن قصد الأمر ، والمباشر قتل موسى بالذات .
قال رضي الله عنه :  ( لتعود إليه بالإمداد ) أي : إمداد تلك الأرواح روح موسى ، وإن امتنع اتحاد ذهابه
من كل وجه ، واجتماعها معه بالتصرف في بدنه ( حياة ) ، أي : فائدة حياة ( كل من قتل من لأجله ) ، إذ لا معنى للقتل من أجله من اللّه تعالى سوى هذا الإمداد ، وكيف لا يحصل هذا الإمداد وقد جعل الحق روح المقتول كأنه روح موسى ؛
قال رضي الله عنه : ( لأنه قتل على أنه موسى ) ، وهم وإن فعلوه جهلا بموسى ، ولكن ( ما ثمة ) أي : في حق اللّه تعالى ( جهل ) ، وقد دعاهم بهذا المنام إلى قبلهم على أنه موسى ، فلابدّ لروحهم مع روحه من نوع اتحادية يكون إمدادهم لروحه ، كيف وقد فوت الحق على المقتول فائدة حياته باستدلال قتله ولا معطل في صنعه ، إذ لا يفعل عبثا ؛
قال رضي الله عنه : ( فلابدّ أن تعود حياته على موسى عليه السّلام ، أعني : حياة المقتول من أجله ) فيه إشارة إلى أن من مات حتفا فقد استكمل فائدة حياته ، فلا تعود حياته على أحد ، وكذا من قتل لا من أجل أحد ، وكذا ما قتلناه من أجل أحد لا عن أمر اللّه واستدعائه .
 
ثم أشار إلى أنه إنما يتم هذا الإمداد بقتل الصغار دون الكبار ، بقوله : ( وهي حياة طاهرة ) ؛ لأنها باقية ( على الفطرة ) ، والباقية عليها ظاهرة ، إذ ( لم تدنسها الأغراض النفسية ) ، وإن تعلقت بالنفوس حينا فهذا التعلق مع عدم حصول الغرض من المتعلق كالعدم ،
قال رضي الله عنه : ( بل هي على فطرة " بلى " ) يكون له كمال التصرف بما يتعلق به ، لكن امتنع تعلقها ببدن موسى ؛ لتعلق روحه ببدنه بالتصرف لكانت ممدة له ، ( فكان موسى مجموع حياة من قتل على أنه هو ) ، وإن لم يكن مجموع أرواحهم ، وإن كانت روحه كلية جامعة لأرواح أمته إلا أنها بعد التفصيل لا تعود إلى الإجمال ؛ لأنها غير قابلة للفناء .
 
ولما كان تفويت الحق فوائد الحياة على أرواح المقتولين موجبا لعود حياتها إلى من قتلهم الحق بطريق الاستدعاء المنافي لأجله ، كان ( كل ما كان مهيئا لذلك المقتول ) لو عاش مدة ( مما كان استعداد روحه له ) ، وإن لم يبلغ بدنه إلى حدّ هذا الاستعداد ( كان في موسى عليه السّلام ) ؛ لئلا يضيع ذلك الاستعداد بالكلية مع أن السنة الإلهية جرت ألا تقبع شيئا من الاستعدادات بمقتضى الجود الإلهي المعطى لكل شيء خلقه ،
قال رضي الله عنه : ( وهذا ) أي : إمداد الشخص بأرواح المقتولين من أجله ( اختصاص إلهي لموسى لم يكن لأحد قبله ) ، فإنه وإن قتل باسم إبراهيم عن رؤيا أراها اللّه إياه أنه طلع نجم فذهب بضوء الشمس والقمر ، فعبر بولد يولد في ناحيته ، فيذهب ملكه على يديه ، فأمر أولا بعزل النساء .
ثم لما حملت به أمه أخبره المنجمون بعلوه ، فأمر بقتلهم فما قتلهم إلا بعد كمال روحانيته ، وأرواحهم مشتغلة بتدبير أبدانها بخلاف المقتولين من أجل موسى ،
 
فإنهم قتلوا قبل حمل أمه به ، فكانوا فارغين عن تدبير أبدانهم حينئذ ، فتم إمدادهم لروح موسى عند تعلقه ببدنه ، كأنهم متعلقون به أيضا ، وهذا من الحكمة الإلهية في حق موسى عليه السّلام ، قال رضي الله عنه : ( فإنّ حكم موسى كثيرة ، فأنا إن شاء اللّه أسرد منها في هذا الباب على قدر ما يقع به الأمر الإلهي ) بطريق الإلهام ( في خاطري ) ، فإنه في حقه كالمشافهة بالوحي للأنبياء ، ( فكان هذا
أول ما شوفهت به ) أي : ألهمت إلهاما كالمشافهة ( من هذا الباب ) ؛ لأنه وقع قبل خلقته ، فهي أول الحكم .
 
قال رضي الله عنه : ( فما ولد موسى إلا وهو ) من حيث الاستمداد بأرواحهم كأنه ( مجموع أرواح كثيرة ) ، وإن امتنع اجتماعها في التصرف في بدن واحد للرد على الفساد عن وقوع الاختلاف بينهما وإن انتفت ، فلا أقل من جواز الاختلاف بينها فهو خلاف الحكمة المطلوبة من جمعها ، فهذا الجمع وإن امتنع فلا يمتنع إمدادها ، إذ هي في الإمداد كالقوى ،
فقد ( جمع قوى فعالة ) ، وهذا ما قاله الشيخ الكامل المحقق سعد الدين الحموي في كتابه « المحبوب في دائرة ضادية » : أيد روح نبيه موسى عليه السّلام بأرواح الأطفال المقتولين على يد فرعون وأقوامه ، فتجمعت تلك الأرواح على روحه ،
كما تجمعت الملائكة على سدرة المنتهى لما غشيها نور الخلاق من قبل أرض الإشراق ؛ لتحقق أمر التلاقي يوم التفاف الساق بالساق ، فروح المحبوب وروح موسى كليم اللّه مؤيدة بأرواح المؤمنين ، وبنصرة رب العالمين ،
وهذا كلامه ، وكأنه أشار بسدرة المنتهى إلى الشجرة الكلية المحمدية الجامعة لأرواح الملائكة والناس ، وبنور الخلاق إلى النور المفاض عليها لإفادة الوجود الخارجي ، فإنه لا وجود للماهية الكلية إلا في ضمن الجزئيات .
وهذه الإفاضة تنزل الحق بالظهور في المظاهر ، وأشار إليه بأرض الإشراق ، وأناره بتحقق أمر التلاقي إلى تلاقي الوجود والماهية في الموجودات ، وبالتفاف الساق بالساق إلى اختلاط العوارض الوجودية بعضها ببعض ،
فإنه لا وجود للماهية إلا بالعوارض الشخصية والعامة ، فروح المحبوب المشار إليها بسدرة المنتهى ، وروح الكليم مؤيد بأرواح المؤمنين وبنصرة رب العالمين ، لكن تأييد روح الكليم مشروط بقتلهم صغارا على أنهم هم الكليم ، وتأييد روح المحبوب ليس بمشروط بشيء لإطلاقه عن القيود اللاحقة بغيره ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
ولما كانت تلك القوى فعالة مع ضعف الأطفال في المقاومة ؛ ( لأن الصغير يفعل ) أي : يؤثر أثرا ملصقا ( بالكبير ) ، إذ يفيده أوصافه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ألا ترى الطّفل يفعل في الكبير بالخاصيّة فينزّل الكبير من رياسته إليه فيلاعبه ويزقزق له ويظهر له بعقله ، فهو تحت تسخيره وهو لا يشعر ؛ ثمّ يشغله بتربيته وحمايته وتفقّد مصالحه وتأنيسه حتّى لا يضيق صدره . هذا كلّه من فعل الصّغير بالكبير وذلك لقوّة المقام فإنّ الصّغير حديث عهد بربه لأنّه حديث التّكوين والكبير أبعد ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( ألا ترى الطفل يفعل ) أي : يؤثر أمرا مستقرا ( في الكبير بالخاصية ) أي : بإعطائه إياه خاصية نفسه لقوة روحانية ، وإن ضعفت جسمانيته كالأدوية الضعيفة القوام ، القوية التأثير ، ( فينزل الكبير من رئاسته إليه ) أي : إلى ما يختص به الصغير مع صعوبة هذا الفعل إذا قصده الكبير الآخر معه ، ( فيلاعبه ) .« ولهذا تصح هذه الملاعبة في الشرع مع أن كل لعب حرام ؛ لأنها ليست من فعل الكبير ، بل من فعل الصغير بالكبير يظهر من صورة الكبير يصدر منه بلا اختيار ، ولا يؤخذ الفاعل بمثل هذا الفعل .القاشاني أهـ » ،
 
وإن قلتم يشارك فيه الكبير نقول : ( يزقزق ) أي : يخرج لسانه ( له ) ، وإن قلتم : إنه أسهل ، فنقول : ( يظهر له بعقله ) وهذا أصعب ، وإذا كانت هذه الأفعال مما لا يتأتى من الكبير مع الكبير إلا بصعوبة ، ويتأتى من الصغير مع الكبير بلا صعوبة ، ( فهو ) أي : الكبير ( تحت تسخيره ) ، أي : تسخير الصغير .
 
قال رضي الله عنه :  ( وهو ) أي : الكبير ( لا يشعر ) بهذا الفعل ؛ لكونه تأثيرا بالباطن الروحاني ، ( ثم ) أي :
بعد هذا التأثير فيه بالخاصية ( يشغله بتربيته ) بالتعليم ، وتهيئة الطعام والكسوة ، ( وحمايته ) عن أعدائه وعما يضره وينقص فيه ، ( وتفقد مصالحه ) لحفظ أمواله وتنميتها ، والاشتغال بمعالجته ( وتأنيسه وذلك ).  " في نسخة أخرى ذلك = هذا كله ".
أي : ( فعل الصغير بالكبير ) هذه الأفعال مع ضعفه في الظاهر ؛ ( لقوة المقام ) أي : مقامه من ربه المؤثر بالفعل ؛ ( لأن الصغير حديث عهد بربه ؛ لأنه حديث التكوين ) ، والتكوين نسبة بينه وبين ربه ، فهو قريب من مكونه لا واسطة بينه وبين ربه إلا هذه النسبة بهذا الاعتبار ، وإن كانت ثمة وسائط كثيرة باعتبارات أخرى ، ( والكبير ) من حيث بعد عهد تكوينه ( أبعد ) من التكوين ، كان أقرب إليه من جهات أخرى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فمن كان من اللّه أقرب سخّر من كان من اللّه أبعد ، كخواصّ الملك للقرب منه يسخّرون الأبعدين ، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يبرز بنفسه للمطر إذا نزل ويكشف رأسه له حتّى يصيب منه ، ويقول : إنّه حديث عهد بربّه ، فانظر إلى هذه المعرفة باللّه من هذا النّبيّ ما أجلّها وما أعلاها وأوضحها ، فقد سخّر المطر أفضل البشر لقربه من ربّه فكان مثل الرّسول الّذي ينزل إليه بالوحي فدعاه بالحال بذاته إليه ليصيب منه ما أتاه به من ربّه ، فلو لا ما حصّلت له منه الفائدة الإلهيّة بما أصاب منه ، ما برز بنفسه إليه ، فهذه رسالة ماء جعل اللّه منه كلّ شيء حيّ ؛ فافهم ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( فمن كان من اللّه أقرب ) باعتبار ( تسخير من كان من اللّه أبعد ) بذلك الاعتبار ، وإن كان مسخرا له باعتبار آخر به قرب ذلك المسخر اسم الفاعل ، إذ للقرب هذه الخاصية في البعد ( كخواص الملك للقرب ) وإن قل ، ( يسخرون الأبعدين ) سواء قل بعددهم أو كثر ، والغائب من ذلك كالشاهد ، إذ وقع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عند بعده من جهة التكوين مع المطر من جهة قربه بالتكوين ، مع أن وجوه قرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من اللّه بحيث لا يعد ولا يحصى ، إذ
قال رضي الله عنه :  ( كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يبرز بنفسه للمطر إذا نزل ، ويكشف له رأسه حتى يصيب منه ، ويقول : ) في عذره عن البروز له وكشف الرأس لإصابته ( إنه حديث عهد بربه ) ، فله قرب ما بهذا الوجه يوجب تعظيمه والتبرك به .
قال رضي الله عنه :  ( فانظر إلى هذه المعرفة باللّه من هذا النبي ) الذي هو أعظم الأنبياء ( ما أجلها ) ، إذ علم أنه لا نهاية لوجوه القرب منه ( وأعلاها ) ، إذ علم ألا يمكن الإحاطة لأحد بوجوه القرب منه ( وأوضحها ) ، إذ علم تجليه في كل شيء باسم خاص لا يحصل إلا بواسطته ، وإن كان ذلك الاسم من جزئيات اسمه عليه السّلام ،
قال رضي الله عنه :  ( فقد سخر المطر ) بما فيه تجلي الأسماء الإلهية المختصة به ، وفضل النبي الذي تجلى اسمه شامل على تجليات تلك الأسماء ، لكن تلك الأسماء له بواسطة مجاليها الخاصة ، كأنها مقدمات ومتممات له ؛ ( لقربه ) أي : قرب المطر ( من ربه ) الذي هو الاسم الخاص ، وإن كانت من جزئيات اسمه عليه السّلام ، وكان قربه عليه السّلام من ذلك الاسم أتم من كل قرب ؛ لكن القرب إلى جزئيات ذلك الاسم المختصة بجزئيات العالم بالذات لا يحصل لغيرها إلا بواسطتها ، وإن كان الكل بواسطته عليه السّلام باعتبار الكلية ، وهذا باعتبار الجزئية ،
قال رضي الله عنه :  ( فكان ) أي : المطر في التسخير ( مثل ) الملك ( الرسول الذي نزل إليه بالوحي ) بتسخير له نبينا عليه السّلام ؛ لحصول التجلي العلمي بواسطته ، فيجيب دعوته بلسان المقال ، والمطر يأتيه بتجلي اسمه الحي ، ( فدعاه بالحال ) أي : بلسان الحال ( بذاته ) ، فإن الحياة مطلوبة بالذات يتوقف عليها جميع الكمالات ، فيسخر له فيبرز ( إليه ؛ ليصيب منه ما أتاه ) المطر ( به من ربه ) من تجلي اسمه الحي المتجلي أولا عليه على الخصوص ، وإن تجلى أولا على الروح المحمدي من جملة الأسماء إلا أن للمختص بالشيء مزيد قرب منه .


قال رضي الله عنه :  ( فلو لا ما حصلت له منه الفائدة الإلهية ) من كمال الحياة الإلهية المرتب عليها كمال العلم وسائر الصفات ، ( ما برز بنفسه إليه ) ، كما لم يبرز له أثر ما هو قريب العهد من ربه ، فهذا التسخير للمطر كالتسخير للرسول الآتي بالوحي ، ( فهذه ) الفائدة من تجلي هذا الاسم على أتم الوجوه ( ورسالة ماء ) إليه من حيث ( جعل اللّه منه كل حي ؛ فافهم ) هذا المعنى الدقيق الذي خصّ به نبينا عليه السّلام ، ثم من ورائه من الكمّل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأمّا حكمة إلقائه في التّابوت ورميه في اليمّ ؛ فالتّابوت ناسوته ، واليمّ ما حصل له من العلم بواسطة هذا الجسم مما أعطته القوّة النّظريّة الفكريّة والقوى الحسيّة والخياليّة الّتي لا يكون شيء منها ولا من أمثالها لهذه النّفس الإنسانيّة إلا بوجود هذا الجسم العنصريّ ، فلمّا حصلت النّفس في هذا الجسم وأمرت بالتّصرّف فيه وتدبيره ، جعل اللّه لها هذه القوى آلات تتوصّل بها إلى ما أراده اللّه منها في تدبير هذا التّابوت الّذي فيه سكينة الرّبّ ، فرمي به في اليمّ ليحصل بهذه القوى على فنون العلم ، فأعلمه بذلك أنّه وإن كان الرّوح المدبّر له هو الملك ؛ فإنّه لا يدبّره إلّا به ، فأصحبه هذه القوى الكائنة في هذا النّاسوت الّذي عبّر عنه بالتّابوت في باب الإشارات والحكم ) .
 
ولما فرغ عن بحث استمداد روحه من أرواح الأطفال ، فإنها قوى روحه شرع في بحث استمداده من قوى بدنه ،
فقال رضي الله عنه  : ( وأما حكمة إلقائه في التابوت ورميه في اليم ) ، فهي تنبيهية بطريق الإشارة إلى أن تعلق روحه ببدنه لتجري في بحار المحسوسات بالقوى التي فيه ، فيرجع بالكمالات العلمية والعملية المستفادة منها إلى ربه ، فيفوز بأعلى وجوه السعادات والقرب من ربه ؛ وذلك ليصرف عنان همته في تحصيل ذلك ،
 
قال رضي الله عنه :  ( فالتابوت ) بطريق الإشارة ( ناسوته ) أي : بدنه الشامل على القوى ، ( واليم ) بتلك الطريق ( ما حصل له من العلم ) ، إذ هو بحر لا ساحل له ، ورميه في اليم إشارة إلى أن حصول هذا العلم بواسطته ( بوساطة هذا الجسم ) الشامل على هذه القوى ؛ لأنه عند التجرد الأول لم يكن عالما به ، وإنما كان بالمعقولات المحضة في هذا العلم
قال رضي الله عنه :   ( مما أعطته القوة النظرية ) ، وهذه القوة النظرية إنما أعطته القوة ( الفكرية ) ، إذا ترتبت المقدمات النظرية ، إنما تكون بالتركيب والتحليل بين صور المحسوسات والمعاني المدركة منها ، وهذه القوة جسمانية ثابتة في وسط الدماغ ،
ومما أعطته
( القوى الحسية ) أي : المشاعر الظاهرة ، فإنها علوم عند الأشعري ،
( والخيالية ) أي : الحواس الباطنة غير المنكرة وهي الحس المشترك ، والخيال والحافظة والمتوهمة ( التي لا يكون شيء منها ولا من أمثالها ) من القوى المحركة ( لهذه النفس الإنسانية ) ، وهي القلب
قال رضي الله عنه :  ( إلا بوجود هذا الجسم ) ؛ لأنها جسمانية فلا تحل في المجردات ، ولا تحصل له من حيث هو مجرد عنصري ؛ ذكره ليشير إلى أن هذه النفس لو تعلقت بالأجرام السماوية لم يكن لها هذه القوى الحسية والخيالية والمفكرة ، إذ ليس لهذه الأجرام جر نفع ولا دفع ضر ، وإنما هو في الجسم ( العنصري ) الذي يتوارد عليه الكون والفساد .
 
قال رضي الله عنه :  ( فلما حصلت النفس في هذا الجسم ) العنصري المحتاج إلى جر نفع ودفع ضر لتوارد الكون والفساد عليه ، ( وأمرت بالتصرف فيه ) لإخراج ما فيه بالقوة إلى الفعل ، ( وتدبيره ) بجذب المنافع ودفع المضار ، والنفس لا تستقل بذلك في الأمور الخارجية ، ( جعل اللّه لها هذه القوى ) الحالة في هذا البدن الذي تعلقت به النفس ، فحصل بينهما اجتماع
 
قال رضي الله عنه :   ( آلات يتوصل بها إلى ما أراده منها ) من الأفعال الصناعية ( في تدبير هذا التابوت ) البدن ( الذي فيه سكينة ) ، أي : سكون أسرار ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، ( فرمي به ) أي : بهذا التابوت البدني ( في اليم ) أي : يم العلوم باستعمال هذه القوى في تحصيلها ؛
قال رضي الله عنه :  ( ليحصل بالقوى ) فيقف ( على فنون العلم ) من النظريات ، والبديهيات ، والمحسوسات بعد ما كانت لها المعقولات المحضة لو بقيت على تجردها ، وإذا كان ألقي موسى في التابوت ، ورميه في اليم إشارة إلى ما ذكرنا.
( فأعلمه بذلك ) الإلقاء والرمي في اليم ( أنه وإن كان الروح المدبر له ) ، أي : للبدن
قال رضي الله عنه :  ( هو الملك ) المتشبه بالمالك الحق حتى صارت معرفته مستلزمة لمعرفته ، ( فإنه لا يدبره إلا به ) ؛ لأن هذه القوى شعب النفس الحيوانية الحاصلة من النداء اللطيف في القوى أيضا منه ، وإذا كان تدبيره بهذه القوى ، وليس محلا لها ، ولا يمكن اجتماعها معه في عالم المجردات ، ( فأصحبته هذه القوى ) الحالية ( في هذا الناسوت ) ،
أي : البدن ( الذي عبّر عنه بالتابوت ) ؛ لاشتماله على هذه القوى بطريق الحلول فيه ، وهذا وإن لم يكن مراد النص بطريق العبارة ، فهو مراد ( في باب الإشارات ) ، وهي وإن لم يؤخذ بها في باب الاستدلال يؤخذ بها ( والحكم ) المستفادة من القرآن ، إذ أكثرها بطريق الإشارة بحيث لا تناقض مفهوم العبادة ، ولا تذكر بطريق العبارة ؛ لصعوبة فهمها على العامة فيكون سببا لضلالهم ، فإذا علم ذلك علم كمال تشبهه بالحق.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كذلك تدبير الحقّ العالم فإنّه ما دبّره إلّا به أو بصورته ، فما دبّره إلّا به كتوقّف الولد على إيجاد الوالد ، والمسبّبات على أسبابها ، والمشروطات على شروطها ، والمعلولات على عللها ، والمدلولات على أدلّتها ، والمحقّقات على حقائقها ، وكلّ ذلك من العالم ، وهو تدبير الحقّ فيه فما دبّره إلّا به ، وأمّا قولنا أو بصورته أعني صورة العالم فأعني به الأسماء الحسنى والصّفات العلى الّتي تسمّى الحقّ بها واتّصف بها ، فما وصل إلينا من اسم يسمّى به إلّا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في العالم . فما دبّر العالم أيضا إلّا بصورة العالم).
 
ثم يكمل تشبهه به باستعمال تلك القوى في تحصيل الكمالات المرادة منها ؛ لأنه إذا علم ذلك من نفسه مع بدنه ، علم أنه ( كذلك تدبير الحق للعالم ؛ لأنه ما دبره إلا به ) أي :
بما هو من أجزائه ( أو بصورته ) ، أي : صورة العالم من الأسماء الإلهية والصفات ، وهي وإن كانت صورة الحق ، فهي من حيث إن معانيها أرواحها في العالم صورة المعالم ( فما دبره ) في الوجهين ( إلا به ) ؛ لأن تدبيره ( بصورته ) من الأسماء تدبير بما فيه من معانيها ، فمثال تدبير العالم بنقص أجزائه .
 
قال رضي الله عنه :  ( كتوقف ) إيجاد ( الولد ) من حيث هو ولد ( على إيجاد الوالد ) ، وتوقف إيجاد ( المسببات على أسبابها ) ، والسبب ما يتوقف عليه الشيء ويؤثر فيه ، ولكن لا يوجب وجوده ، ( والمشروطات على شروطها ) ، والشرط ما يتوقف عليه الشيء ، ويؤثر فيه ويوجبه هذا في الموجودات الخارجية .
 
وأما الموجودات الذهنية فيتوقف إيجاد ( المدلولات ) في الذهن ( على ) إيجاد ( أدلتها ) في الذهن ، وتوقف إيجاد ( المحققات على حقائقها ) ، وهي من حيث هي أعم من الخارجية ( وكل ذلك ) أي : الأسباب ، والشروط ، والعلل ، والأدلة ، والحقائق ( من ) أجزاء ( العالم ، وهو ) أي : ترتيب الولد ، والمسبب ، والمشروط ، والمعلول على الوالد ، والسبب ، والشرط ، والعلة
 
قال رضي الله عنه :   ( تدبير الحق فيه ) ، أي : في العالم وجملة ما في العالم منحصر في هذه الأقسام ، ( فما دبره إلا به ) بالاستقراء التام ، لكنه إنما يتم في الولد ، والمسببات ، والمشروطات ، والمعلولات لا في الوالد ، والسبب ، والشرط ، والعلة السابق منها ، فالتدبير فيه بصورته ، فأشار إليه بقوله : ( وأما قولنا أو بصورته أعني : صورة العالم ) بينه ؛ لئلا يتوهم أنها صورة الحق ، فلا يكون تدبير الحق بها للعالم تدبيرا بالعالم ، ( فأعني به ) أي : بذلك القول
 
قال رضي الله عنه :  ( الأسماء الحسنى ، والصفات العلا ) ، فإنها وإن كانت هي ( التي تسمى الحق بها واتصف بها ) ، فهي صورة العالم إذ هي صور لما في العالم من المعاني والأرواح ، وإن كانت صور العالم صورا لهذه الأسماء ، كما أنها صور لتلك المعاني والأرواح ، ولا يختص بذلك بعض الأسماء دون بعض مما ظهر لنا .
 
قال رضي الله عنه :  ( فما وصل إلينا ) بطريق الكتاب أو السنة ، أو الإجماع أو الكشف ( من اسم تسمى به ) ، وإن كان من الأسماء المختصة به كاللّه والرحمن ( إلا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في العالم ) ، والشيء صورة لمعناه وروحه ، فالأسماء الإلهية صور لما في العالم من المعاني والأرواح ، والاسم عبارة عن الذات مع الصفة ، والذات صورة للعالم ، فالصورة الحقيقية له هي الصفات ، وإذا كان تدبير العالم بهذه الأسماء والصفات ، ( فما دبر العالم أيضا إلا بصورة العالم ) ، وهو تدبير له بما فيه من معانيها وأرواحها ، فهو أيضا تدبير العالم بالعالم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك قال في آدم الّذي هو البرنامج الجامع لنعوت الحضرة الإلهيّة الّتي هي الذات والصّفات والأفعال : « إنّ اللّه خلق آدم على صورته » ، وليست صورته سوى الحضرة الإلهيّة ، فأوجد في هذا المختصر الشّريف الّذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهيّة وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل ، وجعله روحا للعالم فسخّر له العلو والسّفل لكمال الصّورة ، فكما أنّه ليس شيء في العالم إلّا وهو يسبّح اللّه بحمده ، كذلك ليس شيء في العالم إلّا وهو مسخّر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته ، فقال تعالى :وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [ الجاثية : 13].
فكلّ ما في العالم تحت تسخير الإنسان علم ذلك من علمه ، وهو الإنسان الكامل وجهل ذلك من جهله ، وهو الإنسان الحيوان ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي : ولكون تدبير الحق للعالم بصورة العالم ( قال ) على لسان رسوله الذي وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [ النجم : 3 ، 4 ] .
( في ) حق ( آدم الذي هو البرنامج ) معرب « نموجه » ، وقد حذفت منه الذال ، وقد يقال فيه : الأنموذج وهو لحن العامة ، والصواب « النموذج » معرب ، وفي بعض النسخ : "البرنامج معرب برنامه " ، وإنما كان أنموذج العالم ؛ لكونه ( الجامع لنعوت الحضرة الإلهية ) أي : معانيها (التي هي الذات والصفات والأفعال)، إذ ظهر فيه الوجود، والصفات السبع، والصناعات ، فكانت الذات والصفات والأفعال صورة لما فيه («إن اللّه خلق آدم على صورته»).
أي : صورة آدم كما يقوله بعض أهل الظاهر ، لكنهم يتوهمون أن المراد منه أنه خلق من أول الأمر على ما كان عليه حال الكبر ، وليس فيه فائدة يعتد بها ، إذ لم يكن متولدا من الأبوين ، بل المراد على صورته من الذات والصفات والأفعال ،
 
كما أشار إليه بقوله : (وليست صورته ) أي : صورة آدم حين خلق ( سوى الحضرة الإلهية ) التي هي صورة لما في آدم من هذه النعوت ، فاتفق هذا القول بقول من جعل الضمير للّه تعالى ، لكن لا يكون بذلك نموذج العالم من كل وجه ؛ لاختصاصه بحقائق انفصل بها عن الحق .


قال رضي الله عنه :  ( فأوجدها في هذا المختصر ) لا في كل واحد مما صدق عليه الإنسان عرفا ، بل في ( الشريف ) منه ( الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية ) ، أي : معانيها وأرواحها ، وهذا الوجد به اتصال العالم بالحق ، وكذا إيصال الإنسان به وجمع فيه أيضا ( حقائق ما خرج عنه ) ، أي : عن الحق ، فلم يكن من معاني أسمائه وأرواحها ، وإنما كان من آثارها ( في العالم الكبير المنفصل ) عن الحق بتلك الحقائق ؛ لجمعه بين الأسماء الإلهية ، وبين تلك الحقائق ؛
ولذلك ( جعله روحا للعالم ) ، إذ صار مناسبا للحق وللعالم والروح مسخر له البدن ، ( فسخر له العلو ) أي : الأرواح العلوية ( والسفل ) ، أي : الأجسام السفلية ، وإنما كان روحا للعالم مع كون العالم جامعا بين الأسماء الإلهية ، والحقائق الخارجة عنه ؛ ( لكمال الصورة ) الإنسانية بخلاف صورة العالم .


ثم شبّه هذا التسخير في العموم بتسبيح الحق ؛ لأن الكمال هو المقتضي للتسبيح والتسخير ، فقال : ( فكما أنه ليس شيء في العالم إلا وهو يسبح اللّه بحمده ، كذلك ليس شيء في العالم إلا وهو مسخر لهذا الإنسان "الكامل" لما تعطيه حقيقة صورته ) من الكمال الذي أشبه كمال الحق في اقتضاء العموم ،
( فكل ما في العالم ) سواء كان من السماوات والأرض أو من الأمر ، إلا على ( تحت تسخير الإنسان ) حتى أن الملائكة المقربين تحت تسخيرهم ، إذ يستغفرون لمن في الأرض ، ويوصلون الوحي والإلهام إليهم ، ويدبرون سائر أحوالهم ،
( علم ذلك من علمه ، وهو الإنسان الكامل ) الذي جمع بين المحسوسات ، والمعقولات ، والكشفيات ، ( وجهل ذلك من جهله ، وهو الإنسان الحيوان ) بزعم أن اللّه تعالى إنما نص تسخير ما في السماوات والأرض لا بتسخير ما فوق السماوات .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكانت صورة إلقاء موسى في التّابوت ، وإلقاء التّابوت في اليمّ صورة هلاك في الظّاهر ، وفي الباطن كانت نجاة له من القتل ، فحيّي كما تحيا النّفوس بالعلم من موت الجهل ، كما قال :"أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً  فَأَحْيَيْناهُ " يعني بالجهل"وَجَعَلْنا" يعني : بالعلم لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ[ الأنعام : 122 ] وهو الهدى كَمَنْ مَثَلُهُ[ الأنعام : 122].
، وهي الضّلال بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ [ الأنعام : 122 ] أي : لا يهتدي أبدا :
فإنّ الأمر في نفسه لا غاية له يوقف عندها ، فالهدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة ، فيعلم أنّ الأمر حيرة ، والحيرة قلق وحركة ، والحركة حياة ، فلا سكون ، فلا موت ؛ ووجود ، فلا عدم ).
 
وإذا كان إلقاء موسى في التابوت إشارة إلى إلقاء الروح في البدن ، وإلقاء التابوت في اليم إشارة إلى : إلقاء الروح بواسطة البدن في فنون العلوم المختلفة الموجبة لإنسانيته الكاملة المنجية من موت الجهل الجاهل إنسانيته محض الحيوانية ،
 
قال رضي الله عنه :  ( فكانت صورة إلقاء موسى في التّابوت ، وإلقاء التّابوت في اليمّ صورة هلاك في الظّاهر ) ، إذ الأغلب غرق التابوت في البحر وتلف ما فيه ، ( وفي الباطن ) باعتبار كونه يشبه إلقاء الروح في البدن ، وإلقاؤه في بحر العلم ( كانت نجاة له من القتل ) ، أي : قتل قوم فرعون إياه الذي هو شبه قتل الجهل ، وقد كان هذا الباطن غالبا على أمه بالوحي الإلهي إليها ، فأثر في حقه فنجا من القتل ،
 
قال رضي الله عنه :  ( فحيّي كما تحيا النفوس بالعلم من موت الجهل ) القاتل لإنسانيته ، وإن بقيت حيوانيته في شكل الإنسان ( كما قال تعالى :أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً يعني : بالجهل ،فَأَحْيَيْناهُ يعني : بالعلم ) أشار إلى منفعة العلم ومضرة الجهل ، بقوله :( وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي ) في فنون العلم والأحوال والمقامات حتى يسري نوره ( فِي النَّاسِ ) ،وذلك النور ( هو الهدى ) الذي به المشي فيما ذكرنا ،( كَمَنْ مَثَلُهُ) [ الأنعام : 122 ] أي : صفته المعروفة التي يضرت بها المثل أنه مستقر راسخ ( فِي الظُّلُماتِ وهي ) وجوه ( الضلال ) ، ومسمى وجوه الحياة المذمومة ( لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ،أي : لا يهتدي أبدا ) .
 
بل كلما زيد في حقه بيان الهدى ، ازداد له اعتراض الشبه ، فالمهتدي لا ينتهي سيره فيما ذكرنا من العلوم والأحوال والمقامات ، والمقال لا تنتهي شبهه كما قال تعالى :" فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ" [ التوبة : 124 - 125 ] .
 
قال رضي الله عنه :  ( فإن الأمر في نفسه ) ، أي : أمر الإنسان في الهدى ، الضلال ( لا غاية له يوقف عندها ) حتى أن المهتدي يتحير في تعارض الأدلة ، وفي المقامات والأحوال ، فيرى نقصه في كل واحد منها ،
( فالهدى ) الكامل ( هو أن يهتدي الإنسان ) من كشف العلوم ، والأحوال ، والمقامات ( إلى الحيرة ) ، وهي الحيرة المحمودة المشار إليها بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « رب زدني فيك تحيرا » .
 
قال رضي الله عنه :  ( فيعلم ) من هذا الهدى ( أن الأمر ) ، أي : أمر الإنسان في الهدى والضلال ( حيرة ) ، وهي مفيدة للحياة الوجودية ، فإن كانت محمودة كانت حياة محضة ، وإن كانت مذمومة اجتمع في حقه الحياة والموت ، فلا يموت ولا يحيى ؛ وذلك لأن ( الحيرة قلق ) ، والقلق ( وحركة ) تمنع عن الاستقرار ، ( والحركة حياة ) إذ الميت لا يتحرك حركة الحيوان ،

فالحيرة حركة ( فلا سكون ) له في السير إلى اللّه ، لكنه إما في النور أو في الظلمات ، والحيرة حياة ( فلا موت ) له بموت العدم ، وذلك أن الحركة والحياة ( وجود فلا عدم ) ، فالحياة الوجودية لازمة للكل، والحياة العلمية إذا انقسمت إليها صارت حياة محضة تشبه الحياة الإلهية.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:52 pm

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ الموسوي
25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية                      الجزء الثاني
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وكذلك في الماء الّذي به حياة الأرض ، وحركتها ، قوله تعالى :"اهْتَزَّتْ " وحملها ، قوله :"وَرَبَتْ" [ الحج : 5 ] . وولادتها قوله :"وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" [ الحج : 5 ] .
أي : أنّها ما ولدت إلّا من يشبهها أي : طبيعيّا مثلها ، فكانت الزّوجيّة الّتي هي " الشّفعيّة لها بما تولّد منها وظهر عنها ، كذلك وجود الحقّ كانت الكثرة له وتعدّد الأسماء أنّه كذا وكذا ، بما ظهر عنه من العالم الّذي يطلب بنشأته حقائق الأسماء الإلهيّة ، فثبت به ، وبخالقه أحديّة الكثرة ،
وقد كان أحديّ العين من حيث ذاته كالجوهر الهيولانيّ أحديّ العين من حيث ذاته كثير بالصّور الظّاهرة فيه الذي هو حامل لها بذاته ، كذلك الحقّ بما ظهر منه من صور التّجلّي ، فكان الحقّ مجلى صور العالم مع الأحديّة المعقولة ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( وكذلك ) أي : مثل الحياة العلمية في مناسبة الحياة المائية انتهاء الحياة التي ( في الماء ) حتى صار إلقاء التابوت في اليم إشارة إلى : الحياة العلمية المفيدة لصاحبها التشبه باللّه تعالى ، وذلك أن الماء هو ( الذي به حياة الأرض ) مشابه لحياة الحيوان أولا ، وللحياة الإلهية آخرا ، فالحياة الحيوانية مستلزمة للحركة والنمو والولادة ، والحياة الإلهية بإشراق نورها في الموجودات ، وهي مستلزمة للشفعية بعد الوترية ،
 
وإليه الإشارة بقوله : ( وحركتها ) أي : وبه حركة الأرض بالاهتزاز الذي أشار إليه ( قوله تعالى :اهْتَزَّتْ ،وحملها ) الذي أشار إليه ( قوله :وَرَبَتْ ) أي : ازدادت انتفاخا كانتفاخ بطن الحامل، ( وولادتها ) التي أشار إليها (قوله: " وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [ الحج : 5]
، وليست هذه الزوجية بالجودة والرداءة كما يقول أهل الظاهر ، إذ لا دليل يقوم على ذلك في كل ما يخرج من الأرض ، بل بما أشار إليه بقوله ، ( أي : إنها ما ولدت إلا من يشبهها ) ، أي : ما فيه بعض شبهها ، كالزوج مع الزوجة من الإنسان .
 
ثم بيّن ذلك الشبه بقوله رضي الله عنه  : ( أي : طبيعيا مثلها ) ؛ لأن الشبه في الجسمية الوجودية لا يمتد به ، فصار للأرض الشفعية بعد وتريتها ، والشفعية زوج ، ( فكانت الزوجية التي هي الشفعية لها ) ، أي : للأرض ( بما تولّد منها وظهر عنها ) ، إنما ذكره ليتوسل بذلك إلى شبه هذه الحياة بالحياة الإلهية التي لا يولد في شأنها ، وإنما يصور فيها الظهور ،
 
وإليه الإشارة بقوله رضي الله عنه : ( كذلك ) ، أي : مثل ما حصل للأرض من الشفعية بعد وتريتها بما ظهر عنها من حياتها بالماء ، ( ووجود الحق كانت ) له الوترية في الأصل باعتبار اتحاد الصفات بالذات من غير نظر إلى العالم ، ثم كانت ( الكثرة له ) في الصفات ( وتعداد الأسماء ) لا باعتبار حدوث التغاير فيها بعد الاتحاد ، بل يصدق ( أنه كذا أو كذا ) أي : حي عالم ، مريد قادر ، سميع بصير متكلم ( بما ظهر عنه من العالم الذي ) شفع وتريته بهذه الأسماء والصفات ؛ لأنه الذي ( يطلب بنشأته حقائق الإلهية ) أي : معانيها وأرواحها ، فلابدّ من تصورها حينئذ هناك مع أن لها ألا تتميز عن الذات ، ( فثبت به ) أي : بالعالم ، ( وبخالقه أحدية الكثرة ) في الحق .
 
قال رضي الله عنه :  ( وقد كان ) الحق قبل وجود العالم ( أحدي العين من حيث ذاته ) لا يحتاج فيه إلى اعتبار كثرة الصفات والأسماء ، فكأنه لم يكن فيه هذه الكثرة أصلا ، ثم مثل صيرورة الحق أحدي الكثرة بعد كونه أحدي العين بالهيولى والصور التي لا تتميز عنها في الوجود ،
فقال رضي الله عنه  : ( كالجوهر الهيولاني ) على مذهب القائلين به ، وهم الفلاسفة ( أحدي العين من حيث ذاته ) بحيث لا كثرة فيه أصلا بذلك الاعتبار ( كثير بالصور الظاهرة فيه ) ، ولكن لا تبطل أحديتها بالكلية ، بل يجعلها أحدية الكثرة ؛ لعدم تميزها عنها في الوجود .
 
قال رضي الله عنه :  ( كذلك ) أي : مثل الجوهر الهيولاني ( الحق ) في صيرورة أحديته بالعين أحدية الكثرة ، لكن لا باعتبار لحوق الصور به ، بل ( بما ظهر منه صور التجلي ) ، وهي أجزاء العالم الطالبة بنشأتها حقائق الأسماء الإلهية بحيث تتصور في الحق ، ( فكان مجلى صور العالم ) ، وهي الأسماء الإلهية التي معانيها وأرواحها في العالم ، فظهرت كثرتها في الحق ( مع الأحدية المعقولة ) للذات عند ظهور هذه الكثرة فيها ،
فصارت هذه الشفعية كشفعية الأرض بما ظهر عنها من حياتها بالماء ، فأشبهت إشراق الحياة الإلهية في الموجودات كالحياة العلمية ، حتى صار إلقاء التابوت في اليم إشارة إلى هذه الحياة العلمية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فانظر ما أحسن هذا التّعليم الإلهيّ الّذي خصّ اللّه بالاطلاع عليه من شاء من عباده ، ولمّا وجده آل فرعون في اليمّ عند الشّجرة سمّاه فرعون موسى ، والمو هو الماء بالقبطيّة ، والسّا هو الشّجر فسمّاه بما وجده عنده ، فإنّ التّابوت وقف عند الشّجرة في اليمّ ، فأراد قتله فقالت امرأته وكانت منطقة بالنّطق الإلهيّ فيما قالت لفرعون ، إذ كان اللّه خلقها للكمال كما قال عليه السّلام عنها حيث شهد لها ولمريم بنت عمران بالكمال الّذي هو للذّكران ، فقالت لفرعون في حقّ موسى :" قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ" [ القصص : 9 ] ، فبه قرّت عينها بالكمال الّذي حصل لها كما قلنا ؛ وكان قرّة عين لفرعون بالإيمان الّذي أعطاه اللّه عند الغرق ، فقبضه طاهرا مطهّرا ليس فيه شيء من الخبث ؛ لأنّه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام ، والإسلام يجبّ ما قبله ، وجعله آية على عنايته سبحانه لمن شاء حتّى لا ييأس أحد من رحمة اللّه "إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ " [ يوسف : 87 ] فلو كان فرعون ممّن ييأس ما بادر إلى الإيمان ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( فانظر ما أحسن هذا التعليم الإلهي ) لموسى ، ولمن بعده من الأنبياء والأولياء - عليهم السّلام ( الذي خص اللّه بالاطلاع عليه من يشاء من عباده ) .
"" أضاف المحقق :
وذلك بلسان الإشارة حيث أشار بالأحوال الثابتة للأرض والطارئة لها بعد إنزال الماء عليها إلى أحدية عينية سبحانه وتعالى في حد ذاته وأحدية كثرته الثابتة له من حيث ظهور كثرة صورة العالم عنه . شرح الجامي.""
 
ولما فرغ من بيان نتيجة إلقائه في التابوت من حيث الإشارة المذكورة من الباطن ، شرع في بيان نتيجة ذلك من حيث الظاهر ،
فقال رضي الله عنه   : ( ولما وجده آل فرعون في اليم عند الشجرة ) المعترضة في طريق جري التابوت بقرب مجلس فرعون من الساحل ، ( سماه فرعون موسى ) ، وسبب هذه التسمية أن ( المو : هو الماء بالقبطية ) التي هي لسان فرعون وقومه ، ( والسا : هو الشجرة ) في لسانهم ، ( فسماه ) موسى مركبا امتزاجيّا ( بما وجده عنده ) من الشجرة مع ما يليها من الماء ؛ ( فإن التابوت ) الذي فيه موسى ( وقف عند الشجرة في اليم ) ، فكأنه قصد استهانته بذلك ،
 
واللّه تعالى أراد بذلك الإشارة إلى أنه الماء الذي هو حياة كل حي ، والشجرة المثمرة للعلوم والأعمال ، والأحوال والمقامات ، والأخلاق ، وتفويضه إلى العدو ؛ للإشعار بأنه كالمعترف بذلك ،
وإن لم يكن له شعور به فظن فرعون أنه إنما جعل في التابوت خوفا من القتل ، ورأى جري تابوته في الماء على خرق العادة ، وقد رأى النور من الصندوق عند فتحه ، ورأى زوال جرح ابنته بلعابه ، وقد عجز عنه الأطباء فظن أنه الغلام الذي يكون على يديه هلاك ملكه .
 
قال رضي الله عنه :  ( فأراد قتله ، فقالت امرأته : ) آسية بنت مزاحم - قدس اللّه روحها :" قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا " [ القصص : 9 ] ، ( وكانت منطقة ) عين حين نطقت بهذه الكلمات ( بالنطق الإلهي ) ، وإن كانت تحت فرعون ، فقد كان ذلك بالجبر ، وهي من بني إسرائيل من أولاد الأنبياء ( فيما قالت لفرعون ) ، وإن لم تكن منطقة بالنطق الإلهي في جميع ما كانت تنطق به ، إذ أحوال الكمّل لا تدوم في الأكثر ، لكن كانت منطقة بالنطق الإلهي في هذه الكلمات ؛ لتعلقها بأمر النبوة التي كمالها مشابه لكمال أهل النبوة ، فلا تتكلم في ذلك إلا عن النطق الإلهي ،
 
قال رضي الله عنه :  ( إذ كان اللّه خلقها للكمال ) المشابه كمال الأنبياء ، فلا يكون كلامها في ذلك إلا عن كمال حالها ، وهذا الكمال لما كانت مخلوقة له كان لها من أول نشأتها ، ( كما قال عليه السّلام ) مخبرا ( عنها ) بغاية الكمال لا بطريق الإشارة ، بل بطريق التصريح ( حيث شهد لها ، ولمريم بنت عمران ) بقوله : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية امرآة فرعون » . رواه البخاري ، ومسلم .
 
فقد شهد لهما صلّى اللّه عليه وسلّم ( بالكمال الذي هو للذكران ) ، وهو كمال النبوة ، وإن لم يكن في النساء نبي ، وقد كثرت الولاية فيهن ، فهذا الكمال كمال مشابه لكمال الأنبياء ، فكما أن أهل النبوة لا تنطق في أمر النبوة عن الهوى ، فكذا من أشبه كماله كمالهم ، ( فقالت لفرعون في حق موسى ) الذي خلق للنبوة ، وإن لم تشعر بنبوته ، فالكلام في حقه لا يكون إلا عن الإنطاق الإلهي أنه ( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ) ،وكيف لا تكون منطقة بالنطق الإلهي ، وقد وقع جميع ما تكلمت في حقه ( فبه قرت عينها بالكمال الذي حصل لها ) بالإيمان بنبوته ، فإن كمالها صار أكمل مما كان بذلك السبب ،
قال رضي الله عنه :  ( كما قلنا ) أنها خلقت للكمال والمخلوق للكمال لا بدّ وأن يتزايد كماله كل حين ، فقد قيل : « من استوى يوماه ؛ فهو مغبون » ، رواه البيهقي ، وأبو نعيم في الحلية.
 
ولم يقتصر صدق كلامها في حقها فقط ، بل صدق في حق فرعون أيضا ، ( إذ كان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه اللّه ) المنطق لها بذلك ( عند الغرق ) ، ولو أعطاه قبله ربما كان يتغير عنه ، والغرق لم يكن كاشفا له عن أحوال الآخرة ، ولا ملجأ إلى الإيمان ، كما لم يلجأ إليه قومه إذ لم يحك اللّه عنهم ذلك .
 
وقد حكي عنه ولم يظهر موجب تخصيص فيه ، ولم تكن دلالة الغرق على الأمور الأخروية أشد من دلالة المعجزات التي من جملتها انفلاق البحر ، ولو آمن عند رؤية ذلك لقبل اتفاقا ، ولم ينقطع رجاؤه عن نفسه ؛ لأنه آمن لينجو عن الغرق كما نجا منه بنو إسرائيل ، وهذا القصد لا ينافي إيمانه كما لا ينافي قصد الكافر إذا أسلم لدفع ما به من المرض ، وقوله :آلْآنَ[ يونس : 91 ] لوم على هذا القصد ، وإشعار بعدم حصوله الآن ، مع أنه رتب عليه النجاة ،
 
ومن قال : المراد الإلقاء على نجوة أي : مرتفع من الأرض خلاف الظاهر ، ( فقبضه ) اللّه ( طاهرا ) عن الكفر وجميع المعاصي حين قبضه ( مطهرا ) عن الكفر السابق والمعاصي السابقة التي كانت بينه وبين اللّه تعالى ، وإن لم يطهر عن حقوق الخلق من إضلاله قوما غير محصورين ،
وقتله أولاد بني إسرائيل واسترقاقهم وغير ذلك ، وتقدمه إلى النار لهذا الإضلال وقبحه لذلك ؛ ولقتله واسترقاقه ولعنه أيضا لذلك ، كما لعن القاتل المتعمد ، وكونه إماما داعيا إلى النار ربما تقدم منه من الكفر والظلم الذي صار سنة منه لمن بعده ، فكان ذلك أيضا من حقوق الخلق
 
قال رضي الله عنه :  ( ليس فيه شيء من الخبث ) ، وإن لم يصرح بإيمانه بموسى ، والملائكة ، واليوم الآخر والقدر ؛ ( لأنه قبضه عند ) تمام ( إيمانه ) ، بقوله :" وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " [ يونس : 90 ] ،
فصار مؤمنا بموسى ، وما عطف عليه ، وليس عدم قبوله من أجل كونه مقلدا لكونه آمن عن قول موسى .
وقوله دليل لدلالة معجزاته على صدقه ، وجعل جبريل فيه ، وحال البحر لا يضره بعد تمام الإيمان ، وإنما يمنعه عن النجاة من الغرق ، فهي الرحمة التي خاف جبريل أن تدركه من الحق ؛ لأنه إذا نجا ربما يتغير عن هذا الإيمان ، وإلا فجبريل لا يرضى بالكفر ، فإن الرضا بالكفر كفر ، فقبضه ( قبل أن يكتسب شيئا من الآثام ) ، إذ لم تعد فرصة ذلك ، ( " والإسلام يجب ما قبله " ) . ذكره ابن حجر في الإصابة ، وابن كثير في التفسير .
 
والمؤاخذة على الكفر السابق كانت قبل هذا الإيمان ، فلم يجبها هذا الإيمان ، وإنما يجب ما بعده من المؤاخذة الأخروية ، والمؤاخذة الدنيوية على الكفر لا تستلزم المؤاخذة الأخروية إذا آمن بعد هذه المؤاخذة قبل معاينة الأمور الأخروية ،
 
فإن أسر الكافر واسترقاقه مؤاخذة على كفره باقية بعد الإيمان ، إذ لا يعتق بمجرد الإيمان ، لكن لا يؤاخذ بذلك الكفر في الآخرة ، ولا دلالة للنصوص على أنه معذب في الآخرة على كفره ، ولا على خلوده في النار ، ولا على عدم قبول إيمانه ، كيف وقد رتب على إيمانه نجاته ، ( إذ جعله ) أي : إيمانه بعد كونه قائلا :ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي[ القصص : 38 ] ،
أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى[ النازعات : 24 ] .
 
مستمرا على ذلك مدة حياته ؛ ( آية على عنايته سبحانه لمن يشاء ) من عباده ، إذ وفقه على ذلك الإيمان ، وقبضه إليه قبل أن يكسب شيئا من الآثام ( حتى لا ييأس أحد ) ممن مضى عمره على مثل ما كان عليه فرعون ( من رحمة اللّه ) ، فينقطع عن التوبة ، ولا ينقطع عن الإصرار ، فهو وإن آمن بالنبوة والآخرة يكون كافرا بهذا ألا ييأس ،( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) [ يوسف : 87 ] ، ولم ييأس فرعون عند الغرق حتى يقال فيه : إنه وإن آمن بالكل كان آيسا ، فإن إياس مثله مانع من أصل الإيمان .
 
قال رضي الله عنه :  ( فلو كان فرعون ممن ييأس ما بادر إلى الإيمان ) ؛ لأنه إنما بادر إليه لرجاء النجاة من الغرق ؛ ولذلك لامه جبريل عليه ، وإذا كان آخر أمر فرعون الإيمان ، وإن كان مع هلاكه وهلاكه ملكه ، لكن كان سبب نجاته عن الخلود في النار ، وإن كان بعد المدة المديدة حتى يقال عليها الخلود مجازا كما ورد في حق القائل ، والإضلال أشد منه ، وقد كان منه أيضا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان موسى عليه السّلام كما قالت امرأة فرعون فيه :قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا[ القصص : 12 ] ، وكذلك وقع ؛ فإنّ اللّه نفعهما به عليه السّلام ، وإن كانا ما شعرا بأنّه هو النّبيّ الّذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون وهلاك آله ، ولمّا عصمه اللّه من فرعونوَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً[ القصص : 10 ] من الهمّ الّذي كان قد أصابها ، ثمّ إنّ اللّه حرّم عليه المراضع حتّى أقبل على ثدي أمّه فأرضعته ليكمّل اللّه لها سرورها به ) .
 
(فكان موسى عليه السّلام كما قالت امرأة فرعون : فيه" قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ") [ القصص :9 ]
، (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) [ القصص : 9 ] ، ويظل زعم من قال : إنه لم ينفعه ؛ لأنه رد قولها عليها ، وقال : لك لا لي ؛ لأنه ( كذلك وقع ) ، وكذا بطل قول من قال : إن كمالها كان عند إيمانها ، وكان إيمانها عند غلبة موسى السحرة ،
 
فنقول : إنها إنما أظهرت الإيمان عند ذلك ، وكانت مؤمنة قبله ؛ لكونها من بني إسرائيل من أولاد الأنبياء ، لكن أخفت الإيمان عليهم لما غلب عليها الحال فأظهرت ، ثم إن رد الناقص قول الكامل لا يبطله بالكلية ، فيكفي أن يبطل النفع الدنيوي عنه .
 
ثم استشعر سؤالا بأنها لو قالت عن اطلاع لاطلعت على نبوته ، وعلمت أنه النبي الذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون ؟
فأجاب : إن المنطق من النطق الإلهي لا يلزم أن يشعر بما ينطق به فضلا عما لا ينطق ؛
فقال : ( وإن كانا ما شعرا بأنّه هو النّبيّ الّذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون وهلاك آله ) ، ومن اطلع على أمر غيبي لا يلزم أن يطلع على جميع الأمور الغيبية ؛ فإنه لا يظهر على غيبه الكلي أحد إلا من ارتضى من رسول ،
هذا ما جعله الشيخ رحمه اللّه في هذا الكتاب مقتضى الظاهر من صدور هذا الإيمان منه ، مع عدم ما يدل على منع القبول ،ولم يجزم بذلك بل صرّح بأن أمره موكول إلى اللّه .
 
وقد مثّل به في « الفتوحات » المتكبر على اللّه من جملة المجرمين المخلدين في النار ، فقال في الباب الثاني والستين في مراتب أهل النار : وهؤلاء المجرمون أربع طوائف كلها في النار لا يخرجون منها ، وهم المتكبرون على اللّه كفرعون وأمثاله ممن ادعى الربوبية لنفسه ، ونفاها عن اللّه ،
فقال :يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي[ القصص : 38 ] ، وقال :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى[ النازعات : 24 ] يريد أنه ما في السماء إله غيري ، وكذلك نمرود وغيره ، والطائفة الثانية المشركون ، وهم الّذين يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ[ الحجر : 96 ] ،
 
فقالوا :ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [ الزمر : 3 ] ، وقالوا :أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ[ ص : 5 ] ، والطائفة الثالثة المعطلة ، وهم الذين يقولون الأشياء جملة واحدة ، فلم يثبتوا إلها للعالم ، ولا من العالم ، والطائفة الرابعة هم المنافقون ، وهم الذين أظهروا الإسلام من إحدى هؤلاء الطوائف الثلاث للقهر الذي حكم عليهم ، فخافوا على ذمامهم ، وذراريهم ، وأموالهم ، وهم في نفوسهم على ما هم عليه من اعتقاد هؤلاء الطوائف الثلاث ، انتهى
 
ووجه التوفيق بين كلاميه من وجوه :
الأول : أن كلام الفتوحات على تقدير عدم إتيانه بالإيمان الذي أتى به عند الغرق .
الثاني : أنه على تقدير عدم قبول ذلك الإيمان على مذهب الجمهور .
والمثال الغرضي كان الثالث أن مذهب الشيخ هو مذهب الجمهور ،
لكنه مهما طالب الدليل على عدم قبوله كما يشعر به كلامه في آخر هذا النص ، وإنما أورد ذلك ؛ ليشعر أن النصوص لا دلالة لها على عدم قبول إيمانه ، ولا على خلوده في النار ، ولا على أن مؤاخذته الأخروية على الكفر ،
 
بل إما أن يدل على كفره وطغيانه قبل هذا الإيمان ، أو على مؤاخذته الدنيوية على ذلك الكفر ، وهو لا يستلزم المؤاخذة الأخروية إذا حصل الإيمان قبل مشاهدة أحوال الآخرة ومكاشفة عالم الملكوت ، والاعتقاد الواجب هاهنا موافقة الجمهور للمقلد سيما والشيخ غير جازم ، وكذا للمجتهد والمكاشف أو لم يثبت الإجماع .
 
فقد رأيت في بعض الرسائل ينقل الخلاف عن بعض المفسرين ، وعن « شعب الإيمان » للبيهقي ، وعن جماعة من العلماء ، فحينئذ يجوز للمجتهد أن يقول بقول إيمانه إذا أدى اجتهاده إلى ذلك ، وكذا لمن كوشف ،
ولكن الأولى في حقّه تفويض الأمر إلى اللّه ؛ لأنه قد كوشف غيره بخلافه ، وعلى تقدير الإجماع لا يصح الاعتماد على الكشف ، كما لا يجوز على الاجتهاد ؛ لأن الإجماع دليل قطعي لا ابتلاء فيه ، والمكاشف قد يكافأ على خلاف الدليل الشرعي ابتلاء ، ولا يجوز له العمل بذلك
كما قاله الشيخ رحمه اللّه في مواقع النجوم ،
والاعتقاد أشد من العمل ؛ لأن العمل يجوز بالدليل الظني ، ولا يجوز الاعتقاد به ، وهاهنا أبحاث طويلة عريضة عميقة يأتي ذكرها في آخر هذا النص إن شاء اللّه تعالى .
 
ولما فرغ عن بحث كونه قرة عين لامرأة فرعون ولفرعون أيضا ، شرع في بيان كونه قرة عين لأمه ،
فقال رضي الله عنه  : ( ولما عصمه اللّه من ) قتل ( فرعون وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاًمن الهم الذي قد كان أصابها ) من توهم غرق التابوت ، أو خروجه عن حد مصر ، ومن توهم قتل فرعون الذي كانت تهرب منه ، ولا ينافي هذا التأويل قوله من بعده " إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها" [ القصص : 10 ] ؛ لأن ذلك كان قبل التقاط فرعون أو استيفائه عن قول امرأته ، وهذا بعد العصمة عن قتله ، وذلك أن الشيطان أنساها الوحي الذي أوحى اللّه إليها حين أمرها أن تلقيه في اليم :"وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي" [ القصص : 7 ] ، والعهد الذي عهد أن يرده إليها ، ويجعله من المرسلين ، فجاءها الشيطان ،
وقال : كرهت أن يقتل فرعون ولدك ، فيكون لك أجره وثوابه ، وتوليت أنت قتله فألقيته في البحر وأغرقتيه .
 
ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل ، قالت : إنه وقع في يد عدوه الذي فررت منه ، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد اللّه إليها ، ثم إنه كان لها غم الفراق ، فأشار إلى إزالته بقوله : ( ثم إن اللّه حرم عليه المراضع ) فلم يقبل على ثدي مرضعة ( حتى ) جيء بأمه ، فلما رآها ( أقبل على ثدي أمه ، فأرضعته ) ، فعينها اللّه لرضاعته ؛ ( ليكمل اللّه لها سرورها ) بعد ما حصل لها السرور من زوال ما أصابها من الهم ( به ) ، أي : بهذا الإرضاع الموجب لرده إليها بحسب الوعد الإلهي .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كذلك علم الشّرائع ، كما قال تعالى : "لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً" أي : طريقا وَمِنْهاجاً [ المائدة : 5 ] ، أي : من تلك الطّريقة جاء ، فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الّذي منه جاء ، فهو غذاؤه كما أنّ فرع الشّجرة لا يتغذّى إلّا من أصله ، فما كان حراما في شرع يكون حلالا في شرع آخر يعني في الصّورة ، أعني : قولي يكون حلالا ، وفي نفس الأمر ما هو عين ما مضى ، لأنّ الأمر خلق جديد ولا تكرار .
فلهذا نبّهناك ، فكنّى عن هذا في حقّ موسى بتحريم المراضع ، فأمّه على الحقيقة من أرضعته لا من ولدته ، فإنّ أمّ الولادة حملته على جهة الأمانة فتكوّن فيها وتغذّى بدم طمثها من غير إرادة لها في ذلك حتّى لا يكون لها عليه امتنان ، فإنّه ما تغذّى إلّا بما لو لم يتغذّ به ولم يخرج عنها ذلك الدّم لأهلكها ، وأمرضها ، فللجنين المنّة على أمّه بكونه تغذّى بذلك الدّم فوقاها بنفسه من الضّرر الّذي كانت تجده لو امتسك هذا الدّم عندها ولا يخرج ولا يتغذّى به جنينها والمرضعة ليست كذلك ؛ فإنّها قصدت برضاعته حياته وإبقاءه ، فجعل اللّه تعالى ذلك لموسى في أمّ ولادته ، فلم يكن لامرأة عليه فضل إلّا لأمّ ولادته لتقرّ عينها أيضا بتربيته ، وتشاهد انتشاءه في حجرها ،"وَلا تَحْزَنَ" ) [ طه : 40 ] .
 
ثم أشار إلى أن تغذي القلب والروح بالشرع ، كتغذي البدن بالرضاع في الإحياء والتنمية والتقوية ؛ فقال رضي الله عنه  : ( كذلك ) ، أي : مثل الرضاع ( علم الشرائع ) ، فتحريمها من غير أمه إشارة إلى تحريم غير الشريعة المخصوصة بكل طائفة عليها ، ( كما قال تعالى :لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ،) وأشار بطريق الإشارة إلى سبب هذا الاختصاص بقوله : (وَمِنْهاجاً ) [ المائدة : 5 ] ، فإنه وإن كان معناه بطريق العبارة الطريق الواضح ،
 
فهو إشارة إلى ما ذكرنا أيضا ، ( أي : من تلك الطريقة جاء ) كأنه مركب من جاء بخلاف الهمزة بالتخفيف ومن منها ، والضمير إلى الشريعة ، ( فكان هذا القول ) باعتبار مشابهته ياء لفظا ( إشارة إلى ) أن اختصاص كل طائفة بشرعة ؛ لأنها ( الأصل الذي منه جاء ) كل فرد من تلك الطائفة ؛ لكونه في استعداد عينه الثابتة ، وهو الاستعداد منه ، فجيء كل شخص في الخارج في أصل الوجود ، وفي تحصيل الصفات الكمالية التي من جملتها التعبد بالشريعة المخصوصة .
 
قال رضي الله عنه :  ( فهو ) أي : التعبد بتلك الشرعة ( غذاؤه ) سيما من جهة كونه من أصله ؛ فإنه أتم المغذيات في المتغذي الأول وهو النبات ، وإليه الإشارة بقوله ، ( كما أن فرع الشجرة لا يتغذى إلا من أصله ) ؛ ولذلك يصب الماء في السقي على أصولها لا على أغصانها وساقها ؛ ولاختلاف الأصول اختلفت الشرائع ، ( فما كان حراما في شرع ) لتضرر أهله به بحسب استعدادهم الذي هو أصلهم ،
 
قال رضي الله عنه :  ( يكون حلالا في شرع آخر ) ؛ لانتفاع أهله به بحسب استعدادهم ، وليس هذا من البلاء ، أو تبدل القول في شيء ؛ لأنه إنما يتصور في المتحد من كل وجه ، ولا اتحاد هاهنا من كل وجه ، بل ( نعني ) بصيرورة الحرام ( حلالا ) ما اتحدا في الصورة ، ولا يلزم منه الاتحاد بالشخص ، بل غايته الاتحاد بالنوع ، فإن اتحدا بالشخص ، فليس ذلك اتحادا من كل وجه ، إذ الحاضر .
 
قال رضي الله عنه :  ( في نفس الأمر ما هو عين ما مضى ) من كل وجه ؛ لأنه إنما يتصور عند اتحاد الذات وجميع العوارض ، لكن العوارض متجددة بالامتثال ؛ ( لأن الأمر خلق جديد ) ، فإن قلنا بإعادة المعدوم ، فليس الثاني عين الأول من كل وجه ، إذ من عوارض الأول زمانه ، ولا يمكن إعادته ؛ ولذلك قلنا : ( لا تكرار ) في التجلي ، وإذا وجب اختلاف الشرائع مع أن حلال شريعة ليس عين حرام الأخرى مع اتحادهما بالشخص أو النوع .
 
قال رضي الله عنه :  ( فلهذا نبهناك ) لئلا تتحير حيرة اليهود بعد ما نبّههم اللّه في حق موسى عليه السّلام ، ( فكنى عن هذا في حق موسى بتحريم المراضع ) مع تحليلها لغيره ، ففيه إشارة إلى أن له شريعة مختصة ليست لغيره ، وكذا لكل رسول بعده ، وإذا كان الرضاع بظاهره مفيدا لإحياء البدن ، وتنميته وتقويته ، وبباطنه مفيدا لإحياء الروح والقلب ، وتنميتهما وتقويتهما بالشرائع ،
 
قال رضي الله عنه :   ( فأمه على الحقيقة من أرضعته ) إحدى الرضاعين ؛ لأن منهما الكمال المطلوب للبدن ، أو للروح والقلب ( لا من ولدته ) ، وإن كان لها أصل النشأة والتربية في البطن ، ( فإن أم الولادة ) في أمر النشأة حملته ( على جهة الأمانة ) نطفة من الوالد ، ولا كمال له فيه بالفعل ( فتكون فيها ) ، وهو وإن كان كمالا له بالفعل ، فلا يعتد به بدون بقائه ، وهو بالتربية ، والتربية التي منها لا تعتد بها ؛ لأنها بأن ( تغذى بدم طمثها من غير إرادة لها في ذلك ) ، والمنة اللازمة للتربية منوطة بها ، فنفيت الإرادة ( حتى لا يكون لها عليه امتنان )، بل يكون له عليها امتنان.
 
قال رضي الله عنه :  ( فإنه ما تغذى ) في بطنها ( إلا بما ) أنه ( لو لم يتغذ به ) ، وأيضا ( لم يخرج ذلك الدم عنها لأهلكها ) ، ولو لم يهلكها ( لأمرضها ، فللجنين ) في تربيتها إياه بهذا الوجه ( المنّة على أمه ) المربية له ؛ ( لكونه تغذى بذلك الدم ) ، إذ أفادها أتم مما استعاد منها ، ( فوقاها بنفسه ) من غير فعل لأمه ( من الضرر الذي كانت تجده لو امتسك ذلك الدم عندها ) ، وذلك الضرر ( بألا يخرج ) دم طمثها ؛ لانسداد الرحم ، ( ولا يتغذى به جنينها ) ، فيغلب الخلط الدموي على سائر الأخلاط ، فيبطل اعتدال مزاجها ، وهو موجب الهلاك أو المرض .
 
قال رضي الله عنه :  ( والمرضعة ليست كذلك ) أي : كألم الولادة استعادت أكمل مما أفادت ، ( فإنها قصدت برضاعته حياته وإبقاءه ) ، ولا شيء أجل منهما يستفيده من الرضع ، وإذا كانت المنة التامة للمرضعة لآلام الولادة مع أن لها عليه منة ،
( فجعل اللّه تعالى ذلك ) الإرضاع ( لموسى في أم ولادته ، فلم يكن لامرأة عليه فضل ) أي : منة ( إلا لأم ولادته ) ؛ تقليلا لمنة الخلق عليه ، كأنه مان غير ممنون عليه من جهة الخلق ؛ وتكميلا لسرور أمه ( لتقر عينها أيضا بعد ) تقريرها بالنجاة من الغرق والقتل بتربيته ، وإنما كانت ( تربيته ) تقريرا لعيناها ، بأن ( تشاهد انتشاءه في حجرها ،وَلا تَحْزَنَ) بغيبته ، والحزن حار ، فزواله موجب لقرة العين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ونجّاه اللّه تعالى من غمّ التّابوت ، فخرق ظلمة الطّبيعة بما أعطاه اللّه من العلم الإلهيّ وإن لم يخرج عنها ، وفتنه فتونا أي اختبره في مواطن كثيرة ليتحقّق في نفسه صبره على ما ابتلاه اللّه به ، فأوّل ما ابتلاه اللّه قتله القبطيّ بما ألهمه اللّه ووفّقه له في سرّه وإن لم يعلم بذلك ، ولكن لم يجد في نفسه اكتراثا بقتله مع كونه ما توقّف حتّى يأتيه أمر ربّه بذلك ؛ لأنّ النّبيّ معصوم الباطن من حيث لا يشعر حتّى ينبّأ أي : يخبر بذلك ) .
 
وكما نجّاها اللّه من هذه الغموم ، ( نجّاه اللّه تعالى من غمّ التابوت ) من حيث العبارة من الغرق ، والخروج عن حدّ مصر ، ومن حيث الإشارة عن ظلمة الطبيعة اللازمة لبدنه الذي هو بمثابة التابوت ، ( فخرق ظلمة الطبيعة ) اللازمة للبدن حين استنار بنور النفس المستنيرة بنور القلب المستنير بنور الروح ( بما أعطاه اللّه من العلم الإلهي ) المنير لما ذكرنا ، الجاعل للقلب ، وما دونه كأنه روحاني ، ( وإن لم يخرج عنها ) ، أي : عن الطبيعة بالكلية ، بل بقيت فيه بحيث يخاف عود ظلمتها عليه ؛ ولذلك ( فتناه فتونا ) .
"" أضاف المحقق :
غمّ التابوت إشارة إلى ظلمة الطبيعة والنجاة منها إنما يكون بالعلم ؛ والخلاص منها بالكلية لا يتيسر في هذه النشأة . ( شرح الجامي) ""
 
ولما توهم أنها الابتلاء بالمعصية ، وأن الفتون مصدر لا جمع إزالة بقوله : ( أي : اختبرنا ) بالفتن صبره المزيل ظلمته الطبيعية من كل وجه ( على ) كل ( ما ابتلاه اللّه به ) في تبليغ الرسالة ، ( فأول ما ابتلاه اللّه به قتله القبطي ) ؛ لتحقق صبره على مقاومة فرعون بقتل من يعترف بربوبيته ، ويعينه على ظلمه في تسخير بني إسرائيل واستعبادهم ، وكان قتله ( بما ألهمه اللّه ) بأنه قتل واحد من أعداء الدين ، ودفع الظلم العظيم ، وذلك بأن
 
قال رضي الله عنه :   ( ووفقه له في سره ) الذي هو باطن القلب ، ( وإن لم يعلم بذلك ) بظاهره ، فنسبه إلى الشيطان ، ( ولكن لم يجد في نفسه اكتراثا بقتله ) مع أن نفوس الأنبياء أقل مراتبها أن تكون لوامة ، فلابدّ أن يلومه على ما هو معصية في الواقع ، فعلم أنه كان ملهما بما في قتله من هذه الفائدة الدينية الموجبة لقتله ( مع كونه ما توقف ) على إلهامه بالظاهر مع توقف الباطن عليه ؛ فإن ما في الباطن ، وإن كان يسري إلى الظاهر ،
 
فلا يكون ذلك إلا برفع الحجب عن الظاهر ، فيجوز ألا يقف ظاهر الشخص على ما وقف عليه باطنه ، ( حتى يأتيه أمر ربه بذلك ) بأن أمره برفع الحجب فيما بينه ، وبين الظاهر عند كمال تزكية النفس ، وتصفية القلب ، وإنما قلنا بأنه عليه السّلام كان ملهما في قتل القبطي مع كونه معصية في الظاهر ، وفي اعتقاد ظاهر قلبه أيضا ؛ ( لأن النبي معصوم الباطن ) الذي هو مبعث الأفعال ، لكن تكون عصمته قبل النبوة ( من حيث لا يشعر حتى ينبّأ ) .
 
ولما توهم من ظاهره أنه لا يشعر حتى يصير نبيّا مع أنه يجوز أن يشعر به بإخبار نبي آخر ، ويجوز أن يصير نبيّا ، ولا يعلم عصمته قبل أن يخبر به ، فسره بقوله : ( أي : يخبر بذلك ) أي : يخبره الوحي أو نبي آخر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا أراه الخضر قتل الغلام ، فأنكر عليه قتله ، ولم يتذكّر قتله القبطيّ ؛ فقال له الخضر : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [ الكهف : 82 ] ينبّهه على مرتبته قبل أن ينبّأ أنّه كان معصوم الحركة في نفس الأمر ، وإن لم يشعر بذلك ، وأراه أيضا خرق السّفينة الّتي ظاهرها هلاك وباطنها نجاة من يد الغاصب ، جعل له ذلك في مقابلة التّابوت الّذي كان في اليمّ مطبقا عليه ؛ فظاهره هلاك وباطنه نجاة .
وإنّما فعلت به أمّه ذلك خوفا من يد الغاصب فرعون أن يذبحه صبرا وهي تنظر إليه ، مع الوحي الّذي ألهمها اللّه تعالى به من حيث لا تشعر ؛ فوجدت في نفسها أنّها ترضعه ، فإذا خافت عليه ألقته في اليمّ ؛ فإنّ في المثل « عين لا ترى قلب لا يفجع » ، فلم تخف عليه خوف مشاهدة عين ، ولا حزنت عليه حزن رؤية بصر ، وغلب على ظنّها أنّ اللّه ربّما ردّه إليها لحسن ظنّها به ، فعاشت بهذا الظّن في نفسها ، والرّجاء يقابل الخوف واليأس ، وقالت حين ألهمت لذلك لعلّ هذا هو الرّسول الّذي يهلك فرعون والقبط على يديه ، فعاشت وسرّت بهذا التّوهم والظّنّ بالنّظر إليها ؛ وهو علم في نفس الأمر ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( ولهذا ) أي : ولكون الأنبياء معصومي الباطن أبدا ، وإن ظهر منهم قبل النبوة ما ينافيها ( أراه الخضر قتل الغلام ) حقّا في صورة باطل ؛ ليعلم أن قتله القبطي كان كذلك ، ( فأنكر عليه قتله ، ولم يتذكر قتله القبطي ) المقصود من هذه الإراءة ، ( فقال له الخضر :وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ؛) لأني نبي ، وكل نبي لا يفعل ما يفعل إلا عن أمر ربه بإلهام قبل النبوة ، ووحي بعدها ، كأنه ( ينبهه ) بهذا الجواب ( على مرتبته ) ، أي : مرتبة موسى
 
قال رضي الله عنه :  ( قبل أن ينبّأ ) ، أي : يجعل نبيّا ( أنه كان معصوم الحركة ) قيد بذلك ؛ لأنه قد لا يكون معصوم القصد ( في نفس الأمر ، وإن ) قصدها على وجه المعصية ؛ لأنه ( لم يشعر بذلك ) أي : ما هو في نفس الأمر لا بعد النبوة ولا قبلها ، أما بعد النبوة ؛ فلإنكاره على الخضر ، وأما قبلها ؛ فلإنكاره على نفسه ؛ ولذلك نسبه إلى الشيطان مع أنه من إلهام الرحمن .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:52 pm

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ الموسوي
25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية                      الجزء الثالث
( وأراه أيضا ) فيما يخالف الباطن الظاهر ( خرق السفينة التي ) صفة للخرق بما أضيف إليه ، ( ظاهرها هلاك ، وباطنها نجاة من يد الغاصب ، جعل ) الخضر ( له ) أي :
لموسى ( ذلك ) الخرق المهلك في الظاهر ، المنجي في الباطن ( في مقابلة ) إلقاء ( التابوت ) له ، أي : لأجل محافظة موسى مع أن هذا التابوت هو ( الذي كان في اليم ) المغرق للتابوت المهلك ما فيه ، سيما مع كونه ( مطبقا عليه ) لا يمكنه الخروج إلى الساحل بخلاف ما إذا غرقت السفينة ، ( فظاهره هلاك ، وباطنه نجاة ) من غصب فرعون وقتله ، كخرق الخضر
للسفينة ،
قال رضي الله عنه :  ( إذ فعلت به أمه ذلك ) الإلقاء مع ما فيه من خوف الغرق ؛ ( خوفا من يد الغاصب فرعون ) بغضبه عنها .
 
ثم قال رضي الله عنه :  ( يذبحه صبرا ) ، أي : فهرا ، ( وهي تنظر إليه ) ، فذاك أشد عليها من أن يهلكه اليم ، وهي لا تنظر إليه ( مع الوحي ) لا كوحي الأنبياء ، إذ لا نبوة للمرأة ، بل ( الذي ألهمها اللّه به ) ، وإن كانت ( من حيث لا تشعر ) بكونه إلها ما إلهيّا ، بل احتمل عندها كونه وسوسة شيطانية أو نفسانية ، إذ ألهمها اللّه ، ( فوجدت في نفسها أنها ترضعه ) قبل الخوف عليه ،
 
قال رضي الله عنه :  ( فإذا خافت عليه ألقته في اليم ) ، فإنه إن أهلكه اليم في غيبتها أهون عليها ، ( فإن المثل عين لا ترى ، قلب لا يفجع ) ، فإن فجعه حينئذ كما لا فجع ، فإن خافت من ذلك أو حزنت ، ( فلم تخف عليه خوف مشاهدة عين ، ولا حزنت عليه حزن رؤية بصر ) ، ومع ذلك لا يعتد بهذا الخوف والحزن ، إذ ( غلب على ظنها أن اللّه ربما رده إليها لحسن ظنها به ) ، إذ علمت بالسماء من قدماء بني إسرائيل أن اللّه عند ظن عبده به ، ( فعاشت ) أي :
طاب عيشها ( بهذا الظن ) الموجب لها رجاء ( في نفسها ) مستقرا .
 
قال رضي الله عنه :  ( والرجاء يقابل الخوف ، واليأس ) الموجب للحزن ، فكأنها لا تخاف أصلا ولا تحزن ، وقد ازداد في شأنها هذا العيش ، إذ ( قالت حين ألهمت لذلك ) القول إلهاما تامّا ورؤية إرهاصاته من عدم احتراقه في التنور المصطلي : ( لعل هذا هو الرسول الذي يهلك فرعون والقبط على يده ، فعاشت ) أي زادت طيب عيش ، فزال ما تبقى فيها من أثر الخوف ،
 
قال رضي الله عنه :  ( وسرت ) فزال ما بقي فيها من أثر الحزن ، فصار ذلك ربطا على قلبها بعد ما كادت تبدي لما فيها من الخوف والحزن ( بهذا التوهم ) ، وقوي ما في حقها ، فصار بمنزلة الظن ، ولكنه ( ظن بالنظر إليها ) أي : إلى اعتقادها في الوقت ، ( وهو علم في نفس الأمر ) ؛ لأنه محقق عند اللّه ، إذ كان هو الواقع ؛ ولذلك سماه اللّه وحيا بمعنى الإلهام ، فقال : "وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ" إلى قوله : "وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين" َ[ القصص : 7 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّه لمّا وقع عليه الطّلب خرج فارّا خوفا في الظّاهر ، وكان في المعنى حبّا في النّجاة ، فإنّ الحركة أبدا إنّما هي حبّيّة ، ويحجب النّاظر فيها بأسباب أخر ، وليست تلك ، وذلك لأنّ الأصل حركة العالم من العدم الّذي كان ساكنا فيه إلى الوجود ، ولذلك يقال : إنّ الأمر حركة عن سكون ؛ فكانت الحركة الّتي هي وجود العالم حركة حبّ ، وقد نبّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ذلك بقوله : « كنت كنزا مخفيّا لم أعرف ؛ فأحببت أن أعرف » )
 
ولما فرغ عن بيان نجاته من غم التابوت ، وغم قتل فرعون إياه على أنه الغلام الذي هلاك ملك فرعون على يديه ، ونجاة أمه كذلك ، شرع في بيان نجاته من غمّ قتل فرعون إياه قصاصا ، فقال : ( ثم إنه وقع عليه الطلب ) من جهة فرعون ؛ ليقتله قصاصا ، ( خرج ) من ملكه ( فارّا ) من فرعون ؛ ( خوفا ) من القصاص ( في الظاهر ) ،
 
أي : في ظاهر قصده ، ولكن ( كان ) فراره ( في المعنى ) المطلوب بالذات مضمنا في ذلك القصد ( حبّا في النجاة ) ، إذ الفرار حركة ، ولا يطلب بها بالذات الخوف ، ( إن الحركة ) من حيث يطلب بها الوصول إلى المتحرك إليه ( أبدا ) ، أي : سواء كانت عن خوف أو غضب أو هيمان ، ( إنما هي حبية ) .
 
أي : راجعة إلى طلب محبوب من وجه من الوجوه ، كالاستقرار في الحيز الطبيعي في الحركة الطبيعية ، والإجراء على خلاف الطبع في القسرية ؛ ( وذلك لأن الأصل ) في الحركات طلب الكمال وهو محبوب ؛ فلذلك كان في أول الحركات ، وهو ( حركة العالم من العدم الذي كان ساكنا فيه ) ، وهو نقص ( إلى الوجود ) ، وهو كمال للعالم ، وكذا لوجود الحق ولعلمه ، لكن من حيث كونها نفس الوجود والعلم .
 
قال رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي : ولكون وجود العالم حركة عن العدم إلى الوجود ( يقال : إن الأمر ) أي : المطلوب بأمر « كن » ، ( حركة عن سكون ) ؛ فإنه إنما أمر لتحصل له ، وللمأمور الكمال المحبوب لهما ، وهو حصول الوجود للعالم ، ورتبة الوجود الحادث والعلم الحادث للوجود والعلم اللذين أعلى مراتبهما للحق ، فكان الوجود الحادث والعلم الحادث حاصلان له ،
قال رضي الله عنه :  ( فكانت الحركة التي هي ) سبب ( وجود العالم حركة حب ) من الحق ومن العالم ، وكيف لا تكون حركة حب من الحق ، ( وقد نبّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ذلك عن اللّه بقوله : " كنت كنزا مخفيّا لم أعرف ؛ فأحببت أن أعرف " ) ؛ فالحبّ سبب هذه الحركة التي هي سبب وجود العالم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلو لا هذه المحبّة ما ظهر العالم في عينه ؛ فحركته من العدم إلى الوجود حبّ الموجد لذلك ، ولأنّ العالم أيضا يحبّ شهود نفسه وجودا كما شهدها ثبوتا ، فكانت بكلّ وجه حركته من العدم الثّبوتي إلى الوجود حركة حبّ من جانب الحقّ ومن جانبه ، فإنّ الكمال محبوب لذاته ، وعلمه تعالى بنفسه من حيث هو غنيّ عن العالمين هو له وما بقي له إلّا تمام مرتبة العلم بالعلم الحادث الّذي يكون من هذه الأعيان ، أعيان العالم ، إذا وجدت ، فتظهر صورة الكمال بالعلم المحدث والقديم فتكمل مرتبة العلم بالوجهين ، وكذلك تكمل مراتب الوجود ؛ فإنّ الوجود منه أزليّ وغير أزلي وهو الحادث ، فالأزليّ وجود الحقّ لنفسه ، وغير الأزليّ وجود الحقّ بصور العالم الثّابت ، فيسمّى حدوثا ؛ لأنّه ظهر بعضه لبعضه وظهر لنفسه بصور العالم فكمل الوجود فكانت حركة العالم حبّية للكمال ؛ فافهم ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( فلو لا هذه المحبة ) الموجبة لإرادة إيجاد العالم ، ليظهر فيه بعد كونه كنزا مخفيّا عندما ( ظهر العالم في عينه ) بالوجود الخارجي ، بل كان باقيا في خفاء العدم الثبوتي ؛ لأن الحق غير موجب بالذات ، بل فاعل بالإرادة التي منشأها المحبة ،
 
قال رضي الله عنه :  ( فحركته من العدم إلى الوجود حركة حب الوجود لذلك ) التحرك ؛ فإن حبه يحرك عن الاكتفاء بظهور ذاته وأسمائه في ذاته إلى الظهور في المظاهر ، فحرك الإرادة المحركة للأمر المحرك للعالم من العدم إلى الوجود هذا بيان حب الحق لإيجاد العالم ، وأما بيان حب العالم لذلك ؛ فذلك ( لأن العالم أيضا ) باعتبار عينه الثابتة .
قال رضي الله عنه :  ( يحب شهود نفسه وجودا ) عينيّا ( كما شهدها ثبوتا ) علميّا ، ( فكانت بكل وجه ) أي : سواء كانت قسرية ، أو طبيعية ، أو إرادية ( حركته من العدم الثبوتي ) ، أي :
له مع كونه عدما ثبوتيّا في العلم باعتباره يكون ساكنا فيه ومتحركا عنه ( إلى الوجود ) الخارجي ( حركة حب من جانب الحق وجانبه ) ، أي : جانب العالم لحصول الكمال الذي أقله الوصول إلى المتحرك إليه وهو محبوب .
 
قال رضي الله عنه :  ( فإن الكمال محبوب لذاته ) ، فلا تعارض في طلبه الاستغناء الإلهي ، وذلك أن ( علمه بنفسه ) قيد به ؛ لأن علمه بالأكوان المحدثة لا يوجب الاستغناء عنها ؛ ولذلك ذكر ( من حيث هو غني عن العالمين ) ؛ ليحترز عن علمه بنفسه من حيث هو موجد للعالمين ، فإنه لا يوجب الاستغناء عنها أيضا هو كمال له يستغني به عن كل علم ، لكن نفس العلم لا يكفي بها كما قال :
وما يلقى الإيمان مرتبة العلم ، وإن حصلت أكمل مراتبه ، وهو العلم القديم المتعلق بذات الحق ، فكملت ( مرتبة العلم بالعلم الحادث ) ، وليس هو العلم الإلهي المتعلق بالحوادث ، بل هو ( الذي يكون ) موجودا ( من هذه الأعيان ) لا من حيث ثبوتها في العلم الأزلي ، بل من حيث كونها ( أعيان العالم ) ؛ لأنها إنما تعلم بالعلم الحادث إذا صارت أعيان العالم ،
 
وذلك ( إذا وجدت ) في الخارج وقبل ذلك ، إنما يعلم بالعلم الأزلي الذي ثبت فيه لا غير في العلم الأزلي ، وإذا كان كاملا في الرتبة الأزلية ، فليس له صورة الكمال في الرتبة الجامعة للمراتب ، ( فتظهر ) بحدوث العلم في أعيان العالم ( صورة الكمال ) بجمع المراتب للعلم من حيث هو علم فقط ، إلا من حيث هو علم أزلي إلهي ( بالعلم المحدث ) ، والعلم ( القديم ) ، والصورة كمال فعلي ( فتكمل مرتبة العلم بالوجهين ) بعد ما كان له ذلك بالقوة ، وما بالقوة نقص ما دام بالقوة ، فكان العلم من حيث هو علم فقط ناقصا قبل ظهور هذه الصورة .
 
قال رضي الله عنه :  ( وكذلك تكمل مراتب الوجود ) بظهور الصورة الجامعة لمراتبه ، فإن له أيضا مراتب ، ( فإن الوجود منه أزلي وغير أزلي ) ، وهو وإن سميناه بالكون بالنظر إلى الموجودات ، فهو وجودها باعتبار كونه صورة وجود الحق ؛ ولذلك نقول فيه هو الوجود.
 
قال رضي الله عنه :  ( الحادث ) مع قولنا الوجود واجد أزلي ، ( فالأزلي وجود الحق لنفسه ، وغير الأزلي وجود الحق بصور العالم ؛ فيسمى ) هذا الوجود من حيث عدم امتيازه عن الكون الذي للعالم من حيث كونه عالما ( حدوثا ) ، وإن لم يحصل للحق حدوث ، بل إنما حصل له الظهور مع ما له من الظهور الأزلي ، فحدث له الظهور للعالم ولنفسه في العالم ، أما حصول ظهوره للعالم ؛
 
فذلك ( لأنه ظهر بعضه ) أي : بعض العالم الذي ظهر فيه الحق ( لبعضه ) ، وأما حصول ظهوره لنفسه ؛ فلأنه ظهر لنفسه بصور العالم بعد ( ظهوره لنفسه ) بنفسه ، ( فكمل الوجود ) إذ الظهور وجود ، والخفاء عدم ، ( فكانت حركة العالم حبية ) أي : عن حب العالم لوجوده الذي هو كماله ولحب الحق ظهوره للعالم ولنفسه ، وهذا الظهور وجود ؛ لأنه صورة الوجود الأزلي والوجود كمال ، فكانت حبّا ( للكمال ) الوجودي ؛
( فافهم ) ولا تقل باستكمال الحق وجوده وعلمه ، أو بحدوث هذا الكمال له في ذاته ، بل إنه لما كان كمالا للوجود والعلم اللذين غاية كمالهما فيه ، فكان هذا الكمال حاصل له أيضا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا تراه كيف نفّس عن الأسماء الإلهيّة ما كانت تجده من عدم ظهور آثارها في عين مسمّى العالم فكانت الرّاحة محبوبة له ، ولم يوصل إليها إلّا بالوجود الصّوريّ الأعلى والأسفل ، فثبت أنّ الحركة كانت للحبّ ، فما ثمّ حركة في الكون إلّا وهي حبّيّة ، فمن العلماء من يعلم ذلك ، ومنهم من يحجبه السّبب الأقرب لحكمه في الحال واستيلائه على النّفس ، فكان الخوف لموسى مشهودا له بما وقع من قتله القبطيّ ، وتضمّن الخوف حبّ النّجاة من القتل ، ففرّ لمّا خاف ؛ وفي المعنى ففرّ لمّا أحبّ النّجاة من فرعون وعمله به ، فذكر السّبب الأقرب المشهود له في الوقت الّذي هو كصورة الجسم للبشر ، وحبّ النّجاة مضمّن فيه تضمين الجسد للرّوح المدبّر له ).
 
ثم استدل على كون الحركة حبية باعتبار هذا الظهور بقوله : ( ألا تراه ) أي : الحق ( كيف نفس عن الأسماء الإلهية ما كانت تجده ) مما يشبه الكرب ( من عدم ظهور آثارها في عين مسمى العالم ) أي : في الحقيقة المسماة بالعالم ، وإن كانت آثارها ظاهرة في الأعيان من حيث استعدادها حين ثبوتها ، وإنما لم يقل : وعدم ظهور صورها ؛ لأنها لما كانت معلومة ، فكانت صورها حاضرة له ، فلم يحصل لها من ذلك ما يشبه الكرب والكرب مبغوض ، ( فكانت الراحة ) التي هي ضد الكرب ( محبوبة له ) ؛ لأنها ضد المبغوض من حيث دفعه إياه محبوب ، ( ولم يصل إليها ) أي : إلى تلك الراحة
( إلا بالوجود الصوري ) أي : الذي هو صورة الوجود الحق في الأعيان ، فإن تلك الآثار عوارض تلك الصور والذات ، وإن لم يكن لها ما يشبه الكرب من عدم ظهور صور الوجود ، فالأسماء ما تشبهه ، وهي في مرتبة الذات ولا تغايره ، فكان هذا الكرب في الذات أيضا ، فهذا الوجود الصوري موجب للراحة مزيل للكرب .
 
وإن كان منقسما إلى ( الأعلى والأسفل ) ، فإن الأسفل ليس بنقص بل هو كمال ، وبه تظهر آثار بعض الأسماء ، كالمذل والمنتقم والقهار ، وهذا الوجود الصوري والآثار العارضة له ، إنما تحصل بحركة الذات والأسماء من الخفاء إلى الظهور ،
قال رضي الله عنه :  ( فثبت أن الحركة ) سواء كانت حركة الذات التي لا كرب فيها من حيث هي ذات أو حركة الأسماء ( كانت للحب ) ، وإذا كانت حركة الذات والأسماء للحب ، ( فما ثم ) أي : في الواقع ( حركة في الكون ) التي هي صورة تلك الحركة ، ( إلا وهي حبية ) ؛ لأن صورة الشيء في المرآة لا تخالف الشيء ، فالحب هو السبب الأصلي لكل حركة ، وإن ظهر غيره .
 
قال رضي الله عنه :  ( فمن العلماء من يعلم ذلك ) ؛ فإنه لوقوفه على الظواهر والبواطن يعلم ما هو باطن الأسباب الظاهرة من الأسباب الباطنة ، ( ومنهم من يحجبه السبب الأقرب ) الظاهر عن الأبعد الباطن ، وإن علم في الجملة ما في ضمنه ( لحكمه ) أي : السبب الأقرب على النفس ، وذلك من ( استيلائه على النفس ) حتى أن موسى عليه السّلام كان محجوبا حين فراره عن ملك فرعون ، إذ كان ذلك قبل النبوة ، ( فكان الخوف لموسى مشهودا ) لما وقع استيلاؤه على نفسه ( من قتل القبطي ) ؛ فلذلك قال له بعد النبوة مخبرا عن حالة قبلها  :" فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ " [ الشعراء : 21 ] ،
 
وإن ( تضمن الخوف ) المذكور في قوله وقصده : ( حب النجاة من القتل ) ، لكنه لم يقصده حينئذ ، ( ففر لما خاف ) ، ولكنه علم حين قاله بعد النبوة أنه ( في المعنى ففر لما أحب النجاة من فرعون وعمله به أي : القتل ودعوى الربوبية ، لكنه رجح الحال التي كانت له حين فراره على العلم الذي حصل له عند ذلك .
"" أضاف المحقق :
الباء متعلقة بعلمه والضمير راجع إلى موسى ، أو متعلقة بالنجاة والضمير للموصوف . شرح الجامي . ""
 
قال رضي الله عنه :  ( فذكر السبب الأقرب المشهود له في الوقت ) أي : وقت الفرار ، وسبب كونه مشهودا أنه ( الذي هو كصورة الجسم للبشر ) ، وهي المشهودة منه دون روحه ، (وحب النجاة مضمن فيه تضمين الجسد للروح ) ؛ فهو غير مشهود وإن كان معلوما ؛ لأنه ( المدبر له ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والأنبياء صلوات اللّه عليهم لهم لسان الظّاهر به يتكلّمون لعموم الخطاب ، واعتمادهم على فهم السّامع العالم ؛ فلا يعتبر الرّسل إلّا العامّة لعلمهم بمرتبة أهل الفهم ؛ كما نبّه عليه السّلام على هذه الرّتبة في العطايا ؛ فقال : « إنّي لأعطي الرّجل وغيره
أحبّ إليّ منه مخافة أن يكبّه اللّه في النّار ».) رواه البخاري ومسلم .  
( فاعتبر الضّعيف العقل والنّظر الّذي غلب عليه الطّمع والطّبع ، فكذا ما جاؤوا به من العلوم جاؤوا به ، وعليه خلعة أدنى الفهوم ليقف من لا غوص له عند الخلعة ، فيقول : ما أحسن هذه الخلعة ! ويراها غاية الدّرجة ، ويقول صاحب الفهم الدّقيق الغائص على درر الحكم بما استوجب هذا : " هذه الخلعة من الملك " ، فينظر في قدر الخلعة وصنفها من الثّياب ، فيعلم منها قدر من خلعت عليه ، فيعثر على علم لم يحصل لغيره ممّن لا علم له بمثل هذا )
 .
ثم ذكر أنه لو قصد موسى عليه السّلام حب النجاة بالفرار حين فرّ لم يكن ليذكره عند العامة ؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لا يذكرون الحقائق إلا في ضمن الظواهر ؛ فقال : ( والأنبياء صلوات اللّه عليهم لهم ) من كل ما يذكرون من الحقائق ( لسان الظاهر ) ،
إذ لكل باطن ظاهر بتضمنه ( به يتكلمون ) مع الخواص والعوام سواء قصدوا الحقائق وحدها أو لا ( لعموم ) تعلق ( الخطاب ) منهم بالكل من الخواص والعوام مع أنه تضرر للعوام بتلك الحقائق ، ولا يفوت بذلك مقصود الخواص عند ( اعتمادهم على فهم السامع العالم ) بطريق الانتقال من الظواهر إلى الحقائق ، وإذا كان لسان الظاهر مفيدا للكل غير مخل بشيء من مقاصدهم .
 
قال رضي الله عنه :  ( فلا يعتبر الرسل ) في العبارات ( إلا العامة ) ، لكن إنما يتأتى لهم هذه العبارات الظاهرة المشيرة إلى الحقائق دون غيرهم ؛ ( لعلمهم بمرتبة أهل الفهم ) ، فيأتون من العبارات ما يفي بمقاصد كل ذي مرتبة ؛ لذلك كانت لهم جوامع الكلم ، فاعتبروا في بيان الحقائق العامة أيضا بنيان الظواهر ؛ ليحصل لهم النجاة بحصول الاعتقادات الواجبة فيهم ، وإن لم يبلغوا كنه الحقائق تكفيهم ظواهر الاعتقادات في إفادة النجاة فأعطوهم إياها كذلك ، ( كما نبّه عليه السّلام على هذه الرتبة ) ، أي : رتبة العامة ( في العطايا ) الدنيوية أنها إنما تعطى لهم لتفيدهم النجاة ؛
قال رضي الله عنه :  ( فقال : « إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه » ) ، لكن إنما أعطيه ( مخافة أن يكبه اللّه في النار ) ؛ لأنه إنما يثبت على الإيمان عند وجدانه الشهوات التي يتوسل إليها بالمال ، فإذا فقدها ربما ينقلب على عقبيه والعياذ باللّه.
 
قال رضي الله عنه :  ( فاعتبر ضعف العقل ) في العطايا ، إذ عند ضعفه يقوى داعي الشهوات ، فلا يبالي بدلالة المعجزة على صدق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عند فقد ما غلب على نفسه طلبه ، وهذا العقل وإن كان مفيدا للنظر الموجب للتكليف ، لكنه ( النظر الذي غلب عليه الطمع والطبع ) ، والحكم للغالب ، وإذا اعتبر في العطايا المالية ضعف العقل ، فكيف ولا يعتبره في العلوم التي الزلة
 
منها خرور من السماء ، وإليه الإشارة بقوله : ( فكذا ما جاءوا به من العلوم ) المشتملة على الحقائق والدقائق ، ( جاءوا به ، وعليه خلعة أدنى الفهوم ) أي : العبارة التي تدل بظاهرها على ما يفهمه من له أدنى المفهوم ، ويكون كنه الحقيقة مستورا فيها ؛ ( ليقف من لا غوص له ) في كنه الأشياء ( عند ) ظاهر "المعنى"
 ( الخلعة ، فيقول : ما أحسن هذه الخلعة ) ؛ لاشتماله على وجوه البلاغة والبديع ، ( ويراها غاية الدرجة ) التي بها الإعجاز .
 
قال رضي الله عنه :  ( ويقول صاحب « الفهم الدقيق » ) : وليس المراد أهل صنعة المعاني والبيان ، وإنما هو ( الغائض على درر الحكم ) ، وهي الأمور التي تحار فيها أفكار الفلاسفة والمتكلمين ، ولا يصلون أدنى حصصها بما استوجب هذا المعنى الظاهر ( هذه الخلعة ) الخاصة مع أن له خلعا كثيرة ، فلابدّ من النظر في هذا الاختصاص ؛ لكونها ( من الملك ) المطلق الذي يملك الخلع كلها ، ويعطى كل ذي حق حقه ،
 
قال رضي الله عنه :  ( فينظر في قدر الخلعة ) من الإيجاز والإطناب ، وتمام الألفاظ وقصورها ، ( وصنفها ) من الحقيقة ، والمجاز المرسل ، والاستعارة ، والكناية ، ومن الحروف والاشتقاقات وشبهها ، فيعلم وجه اختصاصها بهذا المعنى من بين ( الثياب ) الكثيرة التي يمكن أن تخلع هذا المعنى بكل واحد منها ، ( فيعلم منها قدر ما خلعت عليه ) ؛ لدلالته الظاهرة على الباطن ، ( فيعثر على علم ) من الحقائق بطريق التضمن ، أو الالتزام ، أو الإشارات ( لم يحصل لغيره ) ، وإن بلغ في العلوم المتداولة كلها درجة الاجتهاد ، إذا لم يكن ( ممن لا علم له بمثل هذا ) ، أي : قدر الخلعة وصنفها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا علمت الأنبياء والرّسل والورثة أنّ في العالم وفي أمّتهم من هو بهذه المثابة ، عمدوا في العبارة إلى اللّسان الظّاهر الّذي يقع فيه اشتراك الخاصّ والعامّ ، فيفهم منه الخاصّ ما فهم العامّة منه وزيادة ممّا صحّ له به اسم أنّه خاصّ فتميّز به عن العامّي ، فاكتفى المبلّغون العلوم بهذا ، فهذا حكمة قوله عليه السّلام : فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ [ الشعراء : 21 ] ، ولم يقل : ففررت منكم حبّا في السّلامة والعافية ، فجاء إلى مدين فوجد الجاريتين فَسَقى لَهُمامن غير أجر ،ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلّ ِالإلهيّ ؛فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ[ القصص : 24 ] ، فجعل عين عمله السقي عين الخير الذي أنزل اللّه إليه ، ووصف نفسه بالفقر إلى اللّه في الخير الذي عنده ) .
 
ثم أشار إلى سبب عدم ذكر الأنبياء عليهم السلام الحقائق بالعبارات المختصة الصريحة للخاصة فقط ،
فقال : ( ولمّا علمت الأنبياء والرّسل والورثة ) من علماء السلف ذكر الكل ؛ ليدل على أنه طريق الكل ما داموا يعلمون ( أن في العالم ) ، ولا سيما ( في أمتهم من هو بهذه المثابة ) من فهم الحقائق من الظواهر بخلاف المتأخرين ، فإنهم إنما ذكروا الحقائق بالعبارات المختصة بها ؛ لعلمهم أن ليس في العالم ظاهرا من يفهم هذه الحقائق من الظواهر ما لم يعلموها أولا بالعبارات الصريحة ( عمدوا في العبارة إلى اللسان الظاهر ) ، إذ يحصل به الإتلاف والاتفاق بين الكل ، ولا يقع الافتراق ؛ لأن هذا اللسان هو ( الذي يقع فيه اشتراك الخاص والعام ) ، وإن اختلفت مراتبهم في الفهم ،
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيفهم منه الخاص ما فهم العام منه ) ؛ لأنه مراد منه لا كما تقوله أهل الطامّات من الصوفية ، ولا الباطنية من الشيعة ، ويفهم منه الخاص زيادة لا تخالف مفهوم العبارة لو عبر عن تلك ( الزيادة ) بعبارة صريحة لا يكون مفهوم إحدى العبارتين مناقضا لمفهوم الأخرى ،
فتلك العبارة ( مما صح له به اسم أنه خاص ) ؛ لأنه مبتدع ملحد كما تزعم الجهّال بالحقائق ، وكيف لا يكون فهمها خاصّا ، وهو ( يتميز به ) ، أي : بهذا الفهم ( عن العامي ) بعد اشتراكهما في المفهوم الظاهر ، والخصوص إنما يحصل للخاص بحصول المميز من الفصل أو الخاصة.
 
ولما كان هذا مقصد الأنبياء والرسل عليهم السلام من البيان باللسان الظاهر ، والورثة تابعون لهم من كل وجه ، ( فاكتفى المبلغون العلوم ) عنهم هذا قبل ظهور القصور في فهم الحقائق عن هذه الظواهر فقط ، وإذا كان الأنبياء عليهم السلام دعوا العامة من أممهم حتى علماء الظاهر منهم ، فكيف لا يزعمون به الجهّال المخالفين ،
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهذه حكمة قوله عليه السّلام ) في خطاب فرعون وقومه :( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ [ الشعراء : 21 ] ، ولم يقل : ففرت منكم حبّا في السلامة ) عن قتلكم ، ( والعافية ) عن عملكم واعتقادكم ،
وإن كانت هذه الحقيقة من الظواهر التي لا يتضرر العامة بفهمها ، إلا أنهم في بيان الحقائق بطريق الإشارة على نهج واحد لا يقال : إنما يصح هذا التقرير لو قال : « لما خفتكم » بكسر اللام ، وتخفيف "ما " ،
وهو إنما قال : « لما » بالفتح والتشديد ؛ لأنّا نقول : لما كان الكلام في الاعتذار جرى مجرى التعليل ، وإنما قال : أو لأحيى في النجاة ، وهاهنا حبّا في السلامة والعافية ؛ لأن هذا تفصيل ، وذاك إجمال ، والإجمال سابق على التفصيل .
ولما فرغ عن بيان كيفية نجاته ، شرع في بيان كيفية فراره بالدرجات حتى يقرب إلى اللّه تعالى ، فجعله من المرسلين ،
وهو أنه لما فرّ من فرعون وعمله وخرج من ملكه ، ( فجاء إلى مدين ) بلدة شعيب عليه السّلام ، ( فوجد الجاريتين ) بنتيه يذودان بقيمهما عن الماء ؛ لازدحام الناس عليه ،( فَسَقى لَهُما من غير أجر ) ؛ ليخلص عمله للّه ،( ثُمَّ تَوَلَّى )عن مكان السقي ( إِلَى الظِّلِّ )المتعارف في الظاهر ، وقصد التولي عن الالتفاف إلى ما سوى اللّه من الأعمال وغيرها ، إلا من حيث كونهما من الظل ( الإلهي ) ؛ ليعلم أن وجوده ظل وجود الحق ، وأن سقيه ظل فيض الحق ؛ ليعلم كمال افتقاره إلى الحق ، ويظهر افتقاره إلى آثاره من الفيض ،
( فجعل عين عمله السقي عين الخير الذي أنزله اللّه إليه ) ، وهو الفيض الإلهي ، ( ووصف نفسه بالفقر إلى اللّه ) ، إذ لم يقل : فقير إلى ذلك الخير ، بل بسبب ذلك الخير فقير
 
إلى اللّه ( في الخير الذي عنده ) ، أي : عند اللّه ، فطلب الاستزادة من الفيض حتى يصل إلى تمام الفيض .
 
قال رضي الله عنه :  ( فأراه الخضر إقامة الجدار من غير أجر فعتبه على ذلك فذكّره سقايته من غير أجر ، إلى غير ذلك ممّا لم نذكر حتّى تمنّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يسكت موسى عليه السّلام ، ولا يعترض حتّى يقصّ اللّه عليه من أمرهما ، فيعلم بذلك ما وفّق إليه موسى عليه السّلام من غير علم منه ، إذ لو كان عن علم ما أنكر مثل ذلك على الخضر الّذي قد شهد اللّه له عند موسى وزكّاه وعدّله ومع هذا غفل موسى عن تزكية اللّه ، وعمّا شرطه عليه في اتباعه ، رحمة بنا إذ نسينا أمر اللّه ، ولو كان موسى عالما بذلك لما قال له الخضر : ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [ الكهف : 68 ] أي : إنّي على علم لم يحصل لك عن ذوق كما أنت على علم لا أعلمه أنا ، فأنصف ).
 
ولما كان سقيه من غير أجر مع شدة احتياجه إلى الأجر ، ( فأراه الخضر عليه السّلام إقامة الجدار من غير أجر ) مع افتقارهما إليه كل الافتقار ، ( فعاتبه ) موسى ( على ذلك ) بقوله : قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً [ الكهف : 77 ] ، فذكره الخضر بالاعتذار بسقايته من غير أجر مع شدة افتقاره إليه ، وقد قصد الخضر عليه السّلام الانتهاء من تذكيره ما جرى عليه إلى غير ذلك ( مما لم يذكره ) بعدم صبره ، وكانت من الأسرار العجيبة ( حتى تمني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ) ، وهو قوله عليه السّلام في بعض الروايات : « ليت أخي موسى سكت حتى يقص اللّه علينا من أنبائهما » . رواه البخاري والنسائي في السنن الكبرى 
وفي بعض الروايات : « رحمة اللّه علينا وعلى موسى ليته صبر حتى يقص اللّه علينا من أنبائهما » . رواه البخاري والنسائي في السنن الكبرى 
 
فتمني ( أن يسكت موسى عليه السّلام ) ؛ فإنه الواجب عند رؤية ما ينكر في الظاهر إذا صدر من من يؤثر بديانته ووقوفه على التأويلات الصحيحة ، ( ولا يعترض ) ، وإن وجب الاعتراض على مثله إذا صدر من العامي ، ولم يكن ذلك منه عليه السّلام تمنيا في كمال موسى ، بل تمنى ( حتى يقص اللّه عليه ) ما جرى ( من أمرهما ) ، وليس ذلك ليحصل له به كمال لا يحصل بدونه في حقه ، بل في معرفته بمرتبة موسى ، ( فيعلم بذلك ما وفق ) ، وانتهى ( إليه موسى ) ،
 
فسكت على ما رأى ما ينكر عليه ، فلم ينكر لكونه ( من غير علم منه ) ، فيعلم رتبته في الصبر ، ورعاية آداب المشايخ ، لكنه أنكر عليه مع كونه من غير علم منه ، ( إذ لو كان ) إنكار موسى في كل ما ينكره ( عن علم ) بباطن ما ينكره ، ( ما أنكر مثل ذلك على الخضر الذي لا يصدر عنه المنكرات في الباطن ؛ لأنه ) .
الذي شهد اللّه له عند موسى بقوله " :آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [ الكهف : 65 ] ، وإذا شهد بذلك ، فقد ( زكاه ) ؛ لأن الفاسق لا يستحق الرحمة العندية اللدنية بل إنما يستحقها صاحب العصمة ، فإن لم يكن معصوما فلا أقل من العدالة ، وإذا ( عدله ) لم يكن من شأنه أن يقول في المنكرات :إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً[ الكهف : 67 ] ،
فعلم أن إنكار موسى لم يكن عن علم بحال ما أنكره في الباطن ، ( ومع هذا ) أي : مع كون إنكاره لا عن علم ، ( غفل موسى عن تزكية اللّه ) المانعة عن الإنكار ، ( وعما شرطه ) الخضر ( عليه في اتباعه ) من قوله : فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً[ الكهف : 70] ؛
ولهذه الغفلة قال موسى عليه السّلام :لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً [ الكهف : 73 ] ، وقوله رحمة عليه ؛ لقوله : غفل بنا ( إذا نسينا أمر اللّه ) .
ثم أشار إلى أنه لم يكن له علم قبل الغفلة أيضا ، بقوله : ( ولو كان موسى عالما بذلك ) ، أي : بحال ما سينكره ( لما قال له الخضر:  وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ) [الكهف : 68]  
 ، وإن كان موسى وليّا ؛ لأنه رسول ، وكل رسول نبي وولي ، فهو وإن علم ذلك بالولاية ، فلم يحصل له في ذلك ذوق كما حصل للخضر ؛ لكمال ولايته وغلبتها على نبوته
حتى قيل : إنه ولي غير نبي كما غلبت النبوة والرسالة في موسى عليه السّلام على ولايته ؛ فلذلك فسره بقوله : ( أي : إني على علم لم يحصل لك عن ذوق ) ، وإن علمته بطريق الوحي والإلهام ، ( كما أنك على علم ) من جهة كمال النبوة والرسالة ( لا أعلمه ) ؛ لقصوري في ذلك عن رتبتك ، ( فأنصف ) الخضر بجعله كاملا في الرسالة النبوة اللتان هما أعلى من الولاية في حق من تجردت ولايته .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا حكمة فراقه فلأنّ الرّسول يقول اللّه فيه : وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ الحشر : 7 ] ؛ فوقف العلماء باللّه الّذين يعرفون قدر الرّسالة والرّسول عند هذا القول ، وقد علم الخضر أنّ موسى رسول اللّه فأخذ يرقب ما يكون منه ليوفّي الأدب حقّه مع الرّسول ؛ فقال له :إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً[ الكهف : 76 ] ؛ فنهاه عن صحبته ، فلما وقعت منه الثّالثة قال :قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [ الكهف : 78 ] ، ولم يقل له موسى : لا تفعل ، ولا طلب صحبته لعلمه بقدر الرّتبة الّتي هو فيها الّتي أنطقته بالنّهي عن أن يصحبه ؛ فسكت موسى ووقع الفراق ، فانظر إلى كمال هذين الرّجلين في العلم وتوفية الأدب الإلهيّ حقّه .
وإنصاف الخضر عليه السّلام فيما اعترف به عند موسى عليه السّلام حيث قال له : " أنا على علم علّمنيه اللّه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علّمكه اللّه لا أعلمه أنا "). رواه البخاري وابن حبان
( فكان هذا الإعلام من الخضر دواء لما جرّحه به في قوله :وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [ الكهف : 68 ] مع علمه بعلوّ رتبته بالرّسالة ، وليست تلك الرّتبة للخضر ، وظهر ذلك في الأمّة المحمّديّة في حديث إبار النّخل ؛ فقال عليه السّلام لأصحابه :"أنتم أعلم بمصالح دنياكم" .) رواه ابن حبان والطبراني في الكبير والبزار في المسند
 
ثم استشعر سؤالا بأنه كيف فارق موسى الخضر قبل استكمال ما طلب الكمال فيه ؟
وكيف فارقه الخضر قبل تكميله ، ومن شأن الكامل التكميل ؟
فقال رضي الله عنه  : ( وأما حكمة فراقه ) ، أي : مفارقة الخضر لموسى ؛ فلأن موسى رسول ، وكل رسول واجب الطاعة ، فتجب طاعته في قوله : فَلا تُصاحِبْنِي [ الكهف : 76 ] ، وإنما وجبت طاعة الرسول ؛ ( لأن الرسول يقول اللّه في حقه ) ، يعني من جهة كمال ظهور الحق فيه ، ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) [ الحشر : 7 ] ،
فإن أمره أمر اللّه ، ونهيه نهي اللّه ، مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [ النساء:80] .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فوقف العلماء باللّه الّذين يعرفون قدر الرّسالة والرّسول عند هذا القول ، وقد علم الخضر أنّ موسى رسول اللّه فأخذ يرقب ما يكون منه ليوفّي الأدب حقّه مع الرّسول ؛ فقال له :إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً[ الكهف : 76 ] ؛ فنهاه عن صحبته ، فلما وقعت منه الثّالثة قال :قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [ الكهف : 78 ] ، ولم يقل له موسى : لا تفعل ، ولا طلب صحبته لعلمه )
أي : لعلم موسى ، ( بقدر الرتبة التي هو ) أي : موسى ( فيها ) ، وهي الرسالة ( التي أنطقته بالنهي عن أن يصحبه ؛ فسكت موسى ) عند إخبار الخضر إياه بالفراق ؛ ( ووقع الفراق ، فانظر إلى كمال هذين الرّجلين في العلم وتوفية الأدب الإلهيّ حقّه ) ؛ فإن توفية كل منهما حق الأدب بالنسبة إلى الآخر كان للّه ، ومن اللّه فكان أدبهما إلهيّا .
 
قال رضي الله عنه :  وإنصاف الخضر عليه السّلام فيما اعترف به عند موسى عليه السّلام حيث قال له : «أنا على علم علّمنيه اللّه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علّمكه اللّه لا أعلمه أنا»  ؛ فكان هذا الإعلام من الخضر دواء لما جرّحه به في قوله :وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [ الكهف : 68 ] مع علمه بعلوّ رتبته بالرّسالة ،
وليست تلك الرّتبة للخضر ، وظهر ذلك  الإنصاف الذي ظهر من الخضر من محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ( في ) شأن ( الأمّة المحمّديّة في حديث إبار النّخل ؛ فقال عليه السّلام لأصحابه : « أنتم أعلم بمصالح دنياكم ») مع كونهم دون كثير من الناس في الأمور الدنيوية ؛ لكثرة أشغالهم بالأمور الأخروية ؛ فأنصف لهم بتفضيلهم على نفسه .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:53 pm

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الرابع .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ الموسوي
25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية                      الجزء الرابع
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا شكّ أنّ العلم بالشّيء خير من الجهل به ، ولهذا مدح اللّه نفسه بأنّه بكلّ شيء عليم ، فقد اعترف صلّى اللّه عليه وسلّم بأنّهم أعلم بمصالح دنياهم منه لكونه لا خبرة له بذلك فإنّه علم ذوق وتجربة ، ولم يتفرّغ عليه السّلام لعلم ذلك ، بل كان شغله بالأهمّ فالأهمّ ، فقد نبّهتك على أدب عظيم تنتفع به إن استعملت نفسك فيه ، وقوله :فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً يريد الخلافة ؛وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [ الشعراء : 21 ] ، يريد الرّسالة ، فما كلّ رسول خليفة ؛ فالخليفة صاحب السّيف والعزل والولاية ، والرّسول ليس كذلك ، إنّما عليه بلاغ ما أرسل به ؛ فإن قاتل عليه وحماه بالسّيف فذلك الخليفة الرّسول ، فكما أنّه ما كلّ نبيّ رسولا ، كذلك ما كلّ رسول خليفة أي : ما أعطي الملك ولا التّحكّم فيه ).

"" أضاف المحقق :
لما أظهر موسى عليه السّلام مع فرعون ما كان عليه من أمر الرسالة والخلافة واقتضى الوقت أن يظهر فرعون أيضا ما كان عليه من الكمال كما أشار إليه رضي اللّه عنه . شرح الجامي ""

وذلك لأنه ( لا شكّ أن العلم بالشيء ) ، وإن كان أدنى ( خير من الجهل به ) ، وإن لم يضره ذلك في الكمالات الإنسانية التي خلق لها ؛ ( ولهذا مدح اللّه نفسه بأنه بكل شيء عليم ) ، وإذا كان العلم بالشيء كمالا للعالم وعدمه نقصا ،

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقد اعترف صلّى اللّه عليه وسلّم ) لأصحابه بالكمال على نفسه ، وإن كان لا يعابه في الكمالات النبوية ، ( فإنهم أعلم بمصالح دنياهم )  مع أنه ليس بجاهل بذلك ؛ لأنه الأصل في جميع العلوم ، لكنهم فضلوا عليه بالخبرة ؛ ( لكونه لا خبرة له بذلك ) ، فكأنه لا علم له أصلا ، ( فإنه علم ذوق وتجربة ، ولم يتفرغ عليه السّلام لعلم ذلك ) ، وإن كان في قوة استعداده ، ( بل كان شغله في الأهم والأهم ) ؛ لأنه لا نهاية لما في استعداده ،
وإذا أخبرتك عن رعاية الخضر رتبة رسالة موسى ، ورعاية موسى رتبة ولاية الخضر ومشيخته ، وعن إنصاف الخضر لموسى ، وإنصاف محمد لأصحابه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ( فقد نبهتك على أدب عظيم تنتفع به إن استعملت نفسك فيه ) ، فلم تتكبر نفسك على رعاية الأدب مع من صغر عنك في رتبة إذا كبرت في أخرى .


ولما فرغ عن بيان فوزه بأدنى المراتب عند فراره عن مصر ووصوله إلى مدين ،
شرع في بيان فوزه بأعلى المراتب عند خروجه من مدين ، ورجوعه إلى مصر ، فقال : ( وقوله : فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً ) [ الشعراء : 21 ] : يريد الخلافة ) التي لا يخاف صاحبها على نفسه ، بل يخاف منه ، وليس المراد النبوة ، وإلا كان قوله :( وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) [ الشعراء : 21].
تكرارا ؛ لأنه ( يريد الرسالة ) ، وهي مستلزمة للنبوة ، وإن لم تستلزم الخلافة ، ( فما كل رسول خليفة ) ، كما أنه ليس كل خليفة رسولا أو نبيّا ،
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالخليفة ) سواء كان نبيّا أو رسولا أو لا ، ( صاحب السيف ) العام ( والعزل والولاية ) ، أي : التولية ( والرسول ) من حيث هو رسول ( ليس كذلك ) ، بل ( إنما عليه البلاغ ) ، أي : التبليغ ( لما أرسل به ) من الأحكام الأصلية أو الفرعية ، ( فإن قاتل عليه ) ، أي : على إلزام ما أرسل به مع المخالفين ، ( وحماه بالسيف للموافقين ، فذلك الخليفة الرسول ) ذي المرتبة جامعة من كل وجه ، ومرتبة الرسالة إنما تجمع النبوة والولاية ، ومرتبة النبوة إنما تجمع الولاية ، ومرتبة الولاية لا تجمع شيئا من ذلك إلا الخلافة في بعض الأحيان ، ( فكما أنه ما كل نبي رسول ، كذلك ما كل رسول خليفة ) ، وإن كان صاحب الأحكام ؛

فلذلك قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أي : ما أعطى ) الحكم ، أي : حكم العزل والولاية ، أي : بتقييد الأحكام فيما أعطى فيه الحكم بالعزل والتولية .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا حكمة سؤال فرعون عن الماهيّة الإلهيّة ؛ فلم يكن عن جهل ، وإنّما كان عن اختبار حتّى يرى جوابه مع دعواه الرّسالة عن ربّه وقد علم فرعون مرتبة المرسلين في العلم فيستدلّ بجوابه على صدق دعواه ، وسأل سؤال إيهام من أجل الحاضرين حتّى يعرّفهم من حيث لا يشعرون بما شعر هو في نفسه في سؤاله ، فإذا أجابه جواب العلماء بالأمر ، أظهر فرعون إبقاء لمنصبه أنّ موسى ما أجابه على سؤاله ، فيتبيّن عند الحاضرين لقصور فهمهم أنّ فرعون أعلم من موسى ، ولهذا لمّا قال له في الجواب ما ينبغي ، وهو في الظّاهر غير جواب ما سئل عنه ).


ولما فرغ عن بيان حصول الرسالة له ، شرع في بيان قيامه من المقاومة مع المرسل إليهم ، وإظهار الآيات لهم ، فقال : ( وأما حكمة سؤال فرعون ) ، أي : الغرض المقصود له في السؤال ( عن الماهية الإلهية ) ، بقوله : وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [ الشعراء : 23 ] سأل عن حده المشتمل على الجنسين والفصل ،

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلم يكن عن جهل ) من فرعون ، وإن الأنبياء وأتباعهم ، والفلاسفة يمنعون تحديده لسماعه ذلك من القدماء ، ( إنما كان عن اختبار ) لموسى من يعطى مقالتهم ( حتى يرى جوابه ) هل يشتمل على الجنسين والفصل فيخطئ ، ويبقي السؤال فلم لا ؟

( مع دعواه الرسالة عن ربه ) الذي لا يرسل من لا يعرفه عند المؤمنين باللّه والرسل ؛ وذلك لأنه ( قد علم فرعون مرتبة المرسلين في العلم ) عند المؤمنين بهم ، فإنهم لا يؤمنون برسول ما لم يعلموا باللّه ، أي : أعلى مراتب العلم ، والمنع من التحديد من مبادئ علومهم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيستدل بجوابه ) الواجب لا يشتمل على الجنس والفصل ، ووافق كلامهم الرسل ماضين ( على صدق دعواه ) عند من يصدق الرسل ،

وفيه وجه آخر هو   : أنه سأل فرعون ، أي : ( سؤال إيهام ) ، أي : سؤالا يوهم السامع أن له جوابا غير جواب موسى ، لو أجاب بما لا يشتمل على الجنس والفصل ، ولم ينف السؤال ( من أجل الحاضرين ) ؛ ليوهمهم قصور موسى في الجواب عن الماهية بما لا يشتمل على الجنس والفصل ،

ويبقي السؤال فإنه إنما سأل عن الماهية الإلهية ( حتى يعرفهم ) ، أي : ليذكر لهم تعريفا صحيحا في نفس الأمر ، وهم يتوقعون منه غيره ؛ لأن عندهم التعريف بالحد التام الذي يسأل به بما ، إنما يكون للمركبات والبسائط ، فليس لها هذا التعريف أصلا ،

وليس ذلك بل يكون تعريف البسائط بالفصل وحده حدّا تامّا إن علمت بكنه الخليفة ، وإلا لكان الجواب عنها بالخاصة ؛ فإنها تنزل حينئذ منزلة الذاتي ،

فإذا عرفهم موسى الحق بالخواص خص لهم تعريفه ( من حيث لا يشعرون ) أنه تعريفه ، وإن كان تعريفه عند فرعون لأمر حيث هو منكر الإلهية ما سواه ، أو قائل أنه ربهم الأعلى ، بل من حيث أنه تعريف ( بما يشعر هو في نفسه ) من جواب موسى ( في سؤاله ) ؛ لعلمه أن الأنبياء يجعلون ذلك تعريف الحق بالحد التام ، وإذا كان هذا تعريف لهم من حيث لا يشعرون ، وقد شعر به فرعون .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا جاء به جواب العلماء بالأمر أظهر فرعون ) في خلاف ما في نفسه ( إبقاء لمنصبه ) عند الحاضرين ، ( أن موسى ما أجابه ) على وفق ( سؤاله ) ، فإن جوابه إما بالجنس والفصل ، وأن يقال : إنه لا يتصور حتى يعرف ، ( فيتبين عند الحاضرين لقصور فهمهم ) ، إذ لا يعرفون أن الخواص في حق البسائط التي لا يعرف كنهها ، تنزل منزلة الذاتيات ( أن فرعون أعلم من موسى ) في باب التعريفات ،
والرسول لا بدّ وأن يكون أعلم من المرسل إليه ؛ ( ولهذا ) أي : ولقصور فهم الحاضرين عن تنزيل الخواص منزلة الذاتيات في تعريف البسائط التي لا يمكن الاطلاع على كنه حقيقتها ( لما قال له في الجواب ) عن سؤال الماهية : ( ما ينبغي ) ، وإن كان بالخواص ( وهو في الظاهر غير جواب على ما سئل عنه ) ، فرد فيه سؤال عن الذاتيات .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد علم فرعون أنّه لا يجيبه إلّا بذلك ؛ فقال لأصحابه : إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [ الشعراء : 27 ] أي : مستور عنه علم ما سألته عنه ، إذ لا يتصوّر أن يعلم أصلا ، فالسّؤال صحيح ؛ فإنّ السّؤال عن الماهيّة سؤال عن حقيقة المطلوب ، ولا بدّ أن يكون على حقيقة في نفسه ، وأمّا الّذين جعلوا الحدود مركّبة من جنس وفصل ، فذلك في كلّ ما يقع فيه الاشتراك ، ومن لا جنس له لا يلزم أن لا يكون على حقيقة في نفسه لا تكون لغيره ؛ فالسّؤال صحيح على مذهب أهل الحقّ والعلم الصّحيح والعقل السّليم ، والجواب عنه لا يكون إلّا بما أجاب به موسى عليه السّلام ).


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد علم فرعون ) أن جواب الماهية البسيطة التي لا تعرف حقيقتها بالكنه ، إنما يكون بالخواص ، فعلم ( أنه لا يجيبه إلا بذلك ) ، لكنه أخفاه عن أصحابه إبقاء لمنصبه ،


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال لأصحابه : إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [ الشعراء : 27 ] ، ولما كانت إرادة ظاهر الجنون مع انتظام كلامه موجبا لنسبته في الغيب للصريح ، وهو يظهر من نفسه ألا يصدف ، فسره بقوله ( أي : مسؤولا عنه ) من الحق ، وهو الستر ( علم ما سألته عنه ) ، وهو باب التعريفات ، إذ التعريف بالحد التام المركب من الجنس والفصل إنما يكون للمركبات ، وبالفصل وحده للبسائط ولا جنس له ، ولا يعرف فصله فلا يكن بالحد التام ،


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ لا يتصور أن يعلم أصلا ) ، والجواب بالخواص لا ينافي في السؤال عن الماهية ، لكنه إنما ينافي عند تنزيل الخاصة بمنزلة الذاتي ، فكان هذا سؤال اتهام ، ( فالسؤال ) على هذا الوجه ( صحيح ) ، وإن كان باطلا على الوجه الأول جيء به للاختيار ، إذ ليس سؤالا من الحد المركب من الجنس والفصل .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن السؤال عن الماهية ) ليس سؤالا عنه ، وإنما هو ( سؤال عن حقيقة المطلوب ) معرفته ، إذ الماهية ترادف الحقيقة وتقاربها ، والحق وإن لم يتركب من الماهية والوجود ، فإنه ( لا بدّ أن يكون على حقيقة في نفسه ) يتميز بها عما سواه ، وإن لم يكن له جنس يشارك فيه ، إذ الفصل قد يتميز المشارك في العرض المقام ، فيجوز أن يحد بحد لا يتركب من الجنس والفصل ، ) وأما الذين جعلوا الحدود مركبة من الجنس والفصل ) ، فذلك ليس في كل أحد ، وإنما هو في ( كل ما يقع فيه الاشتراك ) في ذات يكون فيه المشترك جنسا والمتميز فصلا ، ( ومن لا جنس له ) لعدم ما يشاركه في ذاته ، ( لا يلزم ألا يكون على حقيقة في نفسه لا يكون لغيره ) ، وإن قال بعض القدماء : إن الفصل مستلزم للجنس ، ولا يلزم أن يكون مركبا من فصلين ، بل يكون حده التام الفصل الواحد وحده ؛

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالسؤال ) عن الماهية الإلهية ( صحيح على مذهب أهل الحق ) ، وإن قال أكثر الفلاسفة والمتكلمين : إنه لا ماهية له ، والعلم الصحيح الكشفي الذي لا يضره إنكار الجمهور ، ولا سيما إذا أيده ( العقل السليم ) ، ولكن لا يجاب عنه بالفصل ؛ لعدم اطلاع السامع عليه ، فيكون تعريف الشيء ، فصح أن ( الجواب عنه لا يكون إلا بما أجاب به موسى عليه السّلام ) وإن كان [ . . . ]عن الماهية لتنزيهه [ . . . ] "ما بين المعكوفتين غير واضح بالأصل"، الذاتي هذا بطريقة المناظرة الكلامية .

  
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهنا سرّ كبير، فإنّه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحدّ الذّاتي ، فجعل الحدّ الذّاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم ، أو إلى ما ظهر فيه من صور العالم ؛ فكأنّه قال له في جواب قوله :"وَما رَبُّ الْعالَمِينَ" [ الشعراء : 23 ] ، قال الّذي يظهر فيه صور العالمين من علو وهو السماء وسفل وهو الأرض "إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ" [ الشعراء: 24].   أو يظهر هو بها ، فلمّا قال فرعون لأصحابه :"إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ" [ القلم : 51 ] كما قلنا في معنى كونه مجنونا ).

ثم قال : ( وهنا ) أي : في جواب موسى ( سر كبير ) من علم الحقائق ، وهو أنه أشار إلى أنه لا يمكن تعريفه بحسب الذات ، وإنما هو بسبب ظهوره في العالم ، وهو اسمه الظاهر باعتبار ، أو بحسب ظهور العالم فيه ، وهو اسمه الباطن باعتبار ، أو بالجمع بينهما مع الإشارة إلى أنه لا يتقيد بذلك الجمع ولا بالانفراد ،
لكن غايته التقييد بلا تقيد ، وهو مطلق عن كل قيد بهذا الاعتبار ، وإن تقيد بفصله المميز ، وبالوجوب والقدم الذاتيين باعتبار ذاته ، فإنه حين قال في جواب قوله :" وَما رَبُّ الْعالَمِينَ" [الشعراء : 23 ] ، 
قال :"رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ"[ الدخان : 7 ] ،
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ[ الشعراء : 25 ] ، قال :رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ[ الدخان : 8 ] ، 
قال :إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ[ الشعراء : 27 ] ،
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[ الشعراء : 28 ] 
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ[ الشعراء : 29 ] .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أجاب بالفعل ) بأن الربوبية فعل التربية ، وهي نسبة بينه وبين المربوب ، والتربية تكمل للمربوب إما بظهور صورة الرب في مرآة المربوب ، أو ظهور صورة المربوب في مرآة الرب ( لمن سأل عن الحد الذاتي ) ، أي : الحد الذي بشأنه الاشتمال هي الذاتيات ( عين إضافته ) بإقامتها مقامه ( إلى ما ظهر الرب به من صور العالم ) ، أي : صور وجوده الظاهرة في مرآة العالم ،
وهو قوله :رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ، فظهر الرب فيهم بصور المحدثات الكائنة الفاسدة التي بحدوثها أظهر ، والحادث لا وجود له بذاته ، فهو من الحق ، فقد ظهر فيه الحق ظهورا واضحا ، لكنه يختفي غاية الخفاء بظهور حدوثها ، فيصير باعتبار ظهوره فيها باطنيا ،

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما ظهر فيه من صور العالم ) ، أي : إضافته بأي شيء ظهر ذلك الشيء في مرآة الحق من صور العالم هو قوله :رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ،فإنهما من حيث رؤية استمرارهما مدة مديدة غير كائنة ولا فاسدة توهم قدرة حتى قال بذلك في لغة أهل الضلال ، فكأنه ظهر الحق فيهما بقدمه ، لكن لا يظهر بالقدم في شيء كما لا يظهر بالإلهية في مظهر ، فكأنهما ظهرا في الحق ، ( فكأنه قال له في جواب قوله :وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ،) .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال ) : أعاده ليعده ( الذي يظهر فيه صور العالمين من علو ، وهو السماء ) سواء كان روحانيّا كالروح والغيب ، أو جسمانيّا كالعرش وسائر الأفلاك ، ( وسفل وهو الأرض ) سواء كان من العناصر والمولدات وما بينهم ، أي : بين العلو والسفل من النفوس الحيوانية والنباتية والمعدنية ، والقوى المدركة والمحركة فيها باقية النوع والذات في نظر أهل الظاهر ،
فينظر الحق بها من حيث ظهوره فيها ، لكنه يتم ظهوره بالقدم الذي هو أخص لكنة باعتبار ما يري فيه من الاستمرار ومدة مديدة ؛
فلذلك قال فيه :( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) أي : ناظرين بالكشف ؛ فإنه يظهر لكم فيها قدمه ، لكن في نظر أهل الظاهر منا هنا الظهور للسماوات والأرض وما بينهما في الحق ؛
فلذلك قال بعده : ( أو يظهر هو بها ) ، وذلك في الصور العنصرية من حيث الكون والفساد على ما بينا .


ولما كان الظهور هنا للحق لم يقل :"إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ" ،لكنه لما خفي بظهور حدوثها ،
قال له فرعون :" إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ" ،( فلما قال فرعون لأصحابه " إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ") ،لا بالمعنى المتعارف ، بل ( كما قلنا في معنى كونه مجنونا ) ، وهو أن الحق قد استتر فيها بظهور حدوثها ، وإن دل ظهور الحدوث فيها على أن لا وجود لها من نفسها دلالة واضحة .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( زاد موسى في البيان ليعلم فرعون مرتبته في العلم الإلهيّ لعلمه بأنّ فرعون يعلم ذلك ؛ فقال :رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فجاء بما يظهر ويستتر وهو الظّاهر والباطن ، وما بينهما وهو قوله : "بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " [ البقرة : 29 ] ، "إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ" [ الشعراء : 28 ] أي إن كنتم أصحاب تقييد ؛ فإنّ العقل يقيّد ، فالجواب الأوّل جواب الموقنين وهم أهل الكشف والوجود ، فقال لهم :" إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ" [ الشعراء : 24 ] .
أي : أهل كشف ووجود ، فقد أعلمتكم بما تيقّنتموه في شهودكم ووجودكم ، فإن لم تكونوا من هذا الصّنف ، فقد أجبتكم في الجواب الثّاني إن كنتم أهل عقل وتقييد وحصرتم الحقّ فيما تعطيه أدلّة عقولكم فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون فضله وصدقه ، وعلم موسى أنّ فرعون علم ذلك أو يعلم ذلك لكونه سأل عن الماهيّة ، فعلم أنّه ليس سؤاله على اصطلاح القدماء في السؤال بما ، فلذلك أجاب فلو علم منه غير ذلك لخطّأه في السّؤال ).


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( زاد موسى في البيان ) بأنه في صورة السماء والأرض وما بينهما ظهر بالقدم ، واستتر بظهور صورها فيه ، وفي صورة الآباء ظهر بصورته في العالم واستتر بظهور حدوثهم ، فقد اجتمع فيه الظهور والبطون ؛
( ليعلم فرعون مرتبته في العلم الإلهي ) ، وإنما قصد إعلام فرعون ذلك ؛ ( لعلمه بأن فرعون يعلم ) من المؤمنين باللّه ورسله أن الرسل يقولون ذلك ، وإن كان منكر لإلهية ما سواه فضلا عن إرساله رسولا ،


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال :رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ،فجاء ) بطريق الإشارة في المشرق ( بما يظهر ) ، وفي المغرب ( بما يستتر ) ؛ وذلك ليفهم منه أنه ( هو الظاهر والباطن ) من غير تقييد بأحدهما ، ولا بالجمع بينهما ، ولا بانزواء أحدهما عن الآخر ؛ وذلك لأنه أيضا ما بينهما هو العلم ، إذ لا يظهر في الحس ولا يبطن في العقل؛ فلذلك قال : وهو أي : قوله :( وَما بَيْنَهُما هو قوله : وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ).
ثم أشار إلى أنه ، وإن نفي تقييده بشيء من ذلك ، فهو تقييد له بأنه لا يتقيد ،


فقال رضي الله عنه  : ( إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي : إن كنتم أصحاب تقييد ) تقيدونه بعدم التقييد بشيء من ذلك ، فإن العقل من حيث اشتقاقه من العقال تقييد ، فهو يشير إلى التقييد لا بطريق العبارة ، بل بطريق الإشارة ، وفي بعض النسخ : ( فإن العقل التقييد ) ، وإذا اعتبر بظهور صورة الحق في الخلق أو صورة الخلق في الحق في الجواب الأول ، والبطون بالذات ، والظهور بالذات في الجواب الثاني.


فقال رضي الله عنه  : ( فالجواب الأول ) الذي باعتبار الظهورين هو ( جواب الموقنين ) عين اليقين ؛ وذلك لأنهم ( هم أهل الكشف ) تنطبع في قلوبهم صورة الحق الوجودية المجردة عن الماهية ؛ ولذلك يقال لهم : أهل ( الوجود ) ، فتجعل تلك الصورة قلوبهم منورة تنوير صورة الشمس للمرآة ، فيكاشفون عن الحق ، ثم تنعكس صورهم في الحق ، فيشاهد كل من الحق والنفس في مرآة الآخر ، ( فقال لهم :إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ،أي : أهل كشف ) كوشفتم بصورة كل من الحق والنفس في مرآة الآخر ، وذلك عند كونكم أهل ( وجود ) مجرد عن الماهية 
 

فقال رضي الله عنه  : ( فقد أعلمتكم ) بقولي :رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا ، وبقولي :"رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ " إلا أنه خص ذكر الآيتين في القرآن بما اعتبر فيه ظهور صورة الخلق في الحق لسترها مرآة الحق ، ففيه وجه خفاء بخلاف ما اعتبر فيه ظهور صورة الحق في الخلق ، فالحق فيه واضح ( بما تيقنتموه في شهودكم ووجودكم ) ، فإن الحق وإن استتر في اعتبار ظهور صورة الخلق فيه ، فظهور صورة الخلقية إنما يكون بعد هذا الشهود والوجود .

فقال رضي الله عنه  : ( فإن لم تكونوا من هذا الصنف ، فقد أجبتكم في الجواب الثاني ) بما يدل على بطونه باعتبار ذاته المنزهة ، وعلى ظهوره باعتبار دلالة الأدلة عليه ( إن كنتم ) أصحاب ( عقل ) يدل على تنزهه في ذاته ، ( وتقييد ) تقيدون الحق بما دل العقل عليه من التنزيه ، ونحن نقول أيضا بتنزيهه على مقتضى العقل ، ولكن لا نحصره فيه ، إذ لا دلالة للعقل على هذا الحصر ، وأنتم

فقال رضي الله عنه  : ( حصرتم الحق فيما يعطيه أدلة عقولكم ) ، ونحن نقول لا دلالة للعقل على امتناع ظهور صورته في العالم ، وإن لم يكن له صورة في ذاته ، كما أنه لا لون لنور الشمس ، وتظهر له ألوان مختلفة عند نصب الزجاجات المختلفة الألوان ، وقد جاز ظهور الشيء بصورة غير صورته ، فكذا ظهور ما لا صورة له في ذاته بالصور المختلفة ؛ ولذا ورد في رؤيته يوم القيامة اختلاف الصور ،

فقال رضي الله عنه  : ( فظهر موسى ) في الجوابين ( بالوجهين ) وجه أهل الكشف جامعا لوجهي الظهور في الجوابين الأولين اللذين عدهما الشيخ - رحمه اللّه - وجها واحدا ، ووجه أهل العقل في الجواب الثاني فيما عده الشيخ ؛ ( ليعلم فرعون فضله ) بهذا الجمع ، ويعلم ( صدقه ) عند المؤمنين باللّه والرسل ، إذ لا يصدقون إلا من علموا كماله في العلم باللّه ، ولا كمال أتم منه . وإنما قصد موسى عليه السّلام إعلام فرعون بذلك ؛

لأنه ( علم موسى أن فرعون ) وإن لم يكن من أهل الكشف ولا يعتقد كلام أهل النظر ، لكنه ( علم ذلك ) في الماضي بالسماع من الفرقتين ، ( أو يعلم ذلك ) في المستقبل بالسؤال أو التأمل ، إذ له قوة ذلك ؛ ( لكونه سأل عن الماهية ) على طريقة أهل التحقيق العالمين بظهور كل من الحق والخلق في مرآة الآخر ، وإلا فلا تعرف ماهيته باعتبار ذاته ، إذ لا ماهية له واحد وحده .


فقال رضي الله عنه  : ( فعلم أن سؤاله ليس ) على طريق ( القدماء في السؤال بما ) فاتهم ، إنما يسألون بها عن الماهية المشتملة على الجنس والفصل ، ويسألون عن الفصل بأي شيء هو في ذاته ، وعن الخاصة بأي شيء هو في عرضه ، فعلم أنه سأل على طريقة المحققين من الأنبياء وأتباعهم ، وإن لم يكن على دينهم .


فقال رضي الله عنه  : ( فلذلك ) أي : فعلمه بأن سؤاله على طريقة التحقيق بما اطلع على قصده في سره ؛ وذلك لأنه ( لو علم ) موسى ( منه غير ذلك لخطأه في السؤال ) .

"" أضاف المحقق :
فإن تمكين المخطئ على الخطأ في قوة الخطأ حاشاه من ذلك فعلم من تمكين موسى له أن له علما بذلك . شرح الجامي ""
وبيّن له أنه لا يستحق الجواب ، ولما شكّ لم يأت بهذا الطريق الجامع ، ولما كان طريق موسى جامعا ، وابتداء بطريق الكشف علم فرعون رجحانه عنده .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلمّا جعل موسى المسؤول عنه عين العالم ، خاطبه فرعون بهذا اللسان والقوم لا يشعرون ؛ فقال له :لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ[ الشعراء:29] . والسّين في « السّجن » من حروف الزّوائد : أي لأسترنّك فإنّك أجبتني بما أيّدتني به أن أقول لك مثل هذا القول ، فإن قلت لي : فقد جهلت يا فرعون بوعيدك  إيّاي ، والعين واحدة ، فكيف فرقت ، فيقول فرعون : إنّما فرقت المراتب العين ما تفرّقت العين ولا انقسمت في ذاتها ، ومرتبتي الآن التّحكّم فيك يا موسى بالفعل ، وأنا أنت بالعين وغيرك بالرّتبة ).


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما جعل موسى ) في الجواب الأول ( المسؤول عنه ) وهو رب العالمين ( عين العالم ) ، إذ لا تتميز صورته الظاهرة في العالم ، ولا تتميز صورة العالم الظاهرة في الحق عن الحق ( خاطبه فرعون بهذا السؤال اللسان ) ، إذ توهم منه جواز إطلاق اسم الإلهية على صور العالم ؛ لأنها صور الحق كما توهم ذلك عامة أهل زماننا ، فكفروا الصوفية بذلك عن جهل ، إذ ليست تلك الصور صور الإلهية التي لا بدّ فيها من وجوب الوجود بالذات ، وإنما هي صور وجوده من حيث هو وجود ، ( والقوم لا تشعر ) بهذا القصد والتأويل ، وإلا بطلت دعواه بالربوبية الحقيقية عندهم ، لكن لا تناسب تلك الدعوى هذه المحلولة .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال له : لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي : إن لم تجعل الإلهية للصورة الظاهرة بمرآتي مع كمالها بما لها من التحكم التام والسيف العام ، بل جعلتها للشخص الذي ظهرت صورته بمرآتي لأجعلنك من المستورين ؛ لأن الصورة سترت عينك ، وليست بإله ولا خلق ، فكأنك في ظلمة العدم هذا التأويل ،
 

إنما يمكن بأن يقال : ( السين في السجن ) ، وإن لم تكن زائدة ، فهي ( من حروف الزوائد ) في الجملة ، فيمكن جعلها في لسان الإشارة بمنزلة العدم ، كأنه ما بقي منه إلا الجن ، وهو وإن كان غير مشدد إلا أنه يشبه في الخط المشدد ، فكأنه مشير إلى معناه ، ( أي : لأسترنك ) ، فهو المقصود في مخاطبة موسى ، وإن أظهر للقوم أنه قصد مدلول العبارة ، وهو الحبس في السجن ، وإذا سترتك ظهرت بدعوى الربوبية ،
( فإنك أجبتني بما أيدتني به ) ، إذ يتم الظهور بالتحكم التام ، والسيف العام في الكلب حتى في رسل اللّه المدعين كمال مظهريتهم حين سترتهم ، فصح لي ( أن أقول لك مثل هذا القول ) ؛ لأني إذا سترت مظاهره الكاملة المستحقة للرسالة كانت مظهريتي أكمل منها ، ولا أكمل من مظهر الرسالة سوى مظهر الإلهية .

ثم استشعرت حال فرعون سؤالا من لسان حال موسى ، فقالت حال فرعون : ( فإن قلت لي ) يا موسى : إن جعلت الإلهية بصور الحق كانت صور العالم كلها مستحقة للإلهية ، ( فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي ) بالحبس في الظاهر ، والستر في التأويل ، ولا فعل للصورة ، وإنما هو للعين ، والعين واحدة في جميع الصور ، ( فكيف فرقت ) بجعل بعض الصور إلها ، وبعضها غير إله حتى تكون الصورة التي لها الإلهية مؤثرة بحبس الصورة الأخرى ، أو ستر عينها بالكلية ؟


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيقول فرعون ) بلسان الحال في الجواب : ( إنما فرقت مراتب العين ) ، فإنها تظهر في بعض المراتب بصورة الألوهية فتعبد وتؤثر ، وفي بعضها بصورة العبودية فتعبد وتتأثر ، وبهذه التفرقة في المراتب ما تفرقت العين بالإلهية والخلقية ، وإنما تتفرق.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لو انقسمت في ذاتها ) ، لكن باختلاف مراتب الظهور لا يلزم أنها انقسمت في ذاتها ، بل غايته الانقسام في التجليات ، فيتجلي في البعض بالمعبودية والتأثير ،
وفي البعض بالعابدية والتأثر ، فظن أن الإلهية هي المعبودية والتأثير ، وهما بالتحكم التام والسيف العام ، وليست بدون الوجوب الذاتي ؛


فلذلك قال رضي الله عنه : ( ومرتبتي الآن ) إشارة إلى أن الظهور بالإلهية لا يلزم استمراره من الأزل إلى الأبد في زعمه ( التحكم فيك يا موسى ) ، وإن زعمت أنك مظهر كامل بالرسالة التي لا تفوقها رتبة غير الإلهية ، فكيف سائر المظاهر ( بالفعل ) ، وهو التأثير المختص بالإلهية ، وإن كان ( أنا أنت بالعين ) ، ولكن لا يلزم عن ذلك الاتحاد في الربوبية والعبودية ، إذ أنا ( غيرك بالرتبة ) والإلهية والعبودية من المراتب ، فصح وعيدي إياك بهذا الاعتبار .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلمّا فهم ذلك موسى منه أعطاه حقّه في كونه يقول له : لا تقدر على ذلك ، والرّتبة تشهد له بالقدرة عليه وإظهار الأثر فيه ؛ لأنّ الحقّ في رتبة فرعون من الصّورة الظّاهرة ، لها التّحكّم على الرّتبة الّتي كان فيها ظهور موسى في ذلك المجلس ، فقال له يظهر له المانع من تعدّيه عليهأَ وَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ[ الشعراء : 30 ] ، فلم يسع فرعون إلّا أن يقول له :فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ[ الشعراء : 31 ] حتّى لا يظهر فرعون عند الضّعفاء الرّأي من قومه بعدم الإنصاف فكانوا يرتابون فيه ، وهي الطّائفة الّتي استخفّها فرعون فأطاعوه إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ[ الأنبياء : 74 ] أي : خارجين عمّا تعطيه العقول الصّحيحة من إنكار ما ادّعاه فرعون باللّسان الظّاهر في العقل ، فإنّ له حدّا يقف عنده إذا جاوزه صاحب الكشف واليقين ).

 
( فلما فهم ذلك ) أي : كونه وعيد ، وبحسب مرتبته ( موسى ) فيه بلسان الحال ( أعطاه ) ، أي : أعطى موسى فرعون ( حقه ) من العجز الذي له ( في كونه ) ، أي : الوجود الحادث بحيث يمتنع تأثيره بالمانع منه بخلاف تأثير الحق ، إذ لا مانع له أصلا ، فكأنه ( يقول له ) بلسان الحال : ( لا تقدر على ذلك ) ؛ للعجز الكوني فيك المتأثر بالمانع ،


وإن كانت ( الرتبة ) التحكمية ( تشهد له بالقدرة عليه وإظهار الأثر فيه ) لا من جهة كونه ، بل من حيث ظهور الحق فيه ؛ ( لأن الحق ) الظاهر ( في رتبة فرعون من ) جهة ( الصورة الظاهرة ) في عينه الثابتة بحيث يكون ( لها التحكم على الرتبة التي ) فيها الحق بصورة موسى ، ولو في ( ذلك المجلس ) ، وكان لموسى التحكم عليه حين أغرق في البحر ، وفي القيمة وغير ذلك .


فاحتاج موسى إلى إظهار المانع من نفور قدرته فيه وتأثيره ، فقال له بلسان المقال حكي كونه ( يظهر له المانع من تعديه عليه ) ، وذلك من كمال ظهور الحق فيه باسمه الحفيظ والمبين يمنعانه من الستر والحبس ، بحيث إذا قصده فرعون بأحدهما ، أي : مقتضى ذاته من العجز ؛ فقال :( أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) [ الشعراء : 30 ] .


لما فيه من الصورة الكاملة الإلهية المانعة من تأثير الغير فيها ، فلا قدرة لفرعون في ستره ولا حبسه ، فلما علم فرعون أن لا قدرة له مع وجود المانع ، وأن السكون موجب لانقطاع حجته مع الخصم ، ( فلم يسع فرعون ) السكوت ، ولا إظهار القدرة ؛ لظهور عجزه بالكلية حينئذ ، فلم يسع له ( إلا أن يقول له :فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [ الأعراف : 16 ] ،

فأخذ يظهر الإنصاف معه ( حتى لا يظهر فرعون عند ضعفاء الرأي من قومه بعدم الإنصاف ) ، وإن كان غير منصف في دعوى الربوبية لنفسه ، وإنكار ربوبية اللّه تعالى ونبوة موسى ومعجزاته ، إذ لو ظهر لهم عدم إنصافه ، ( فكانوا يرتابون فيه ) بأن الإله لا بدّ وأن يكون منصفا عدلا ، فإذا لم ينصف فليس بإله مع أنهم لم يرتابوا عند عدم إنصافه فيما ذكرنا ، ومن هنا تبين أنها ( هي الطائفة التي استخفّها فرعون فأطاعوه ) .

 
ثم بيّن الاستحقاق بقوله :( إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) [ النمل : 12 ] ، ولما لم يناسب المقصود الخروج عن طاعة اللّه بينه بقوله : ( أي : خارجين عما تعطيه العقول الصحيحة من إنكار ما ادعاه فرعون ) ، سيما إذا كان ( باللسان الظاهر ) بلا تأويل ، فإنه منكر ( في العقل ) ، أما إذا كان بلا تأويل فظاهر ، وأما إذا كان بالتأويل ؛ فلأن العقل لا يقول بظهوره في المظاهر ،

( فإن له حدّا ) من التنزيه ( يقف عنده ) لا يتجاوزه إلى التشبيه بالظهور في المظاهر ، ( إذا جاوزه صاحب الكشف ) الذي يراه في المظاهر ، ولا يمنعه العقل من ذلك وإن لم يدركه بنفسه ؛

"" أضاف المحقق :
تنزيه الكشف : هو المشاهد لحضرة إطلاق الذات المثبت للجمعية للحق ؛ فإن من شاهد إطلاق الذات صار التنزيه في نظره ، إنما هو إثبات جمعيته تعالى لكل شيء ، وإنه لا يصح التنزيه حقيقة لمن لم يشاهده تعالى كذلك . لطائف الإعلام . ""

ولكن لا يقول بالتأويل صاحب ( اليقين ) ، إذ لا ظهور للإلهية عنده ، وإنما يقول بالتأويل صاحب الغنى أو الغلبة ، فإنه يرى صورة وجود الحق صورة إلهية من الغلبة ، فيقول من الغلبة : « أنا الحق » ، لكن فرعون وقومه ليس من هذا القبيل .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا جاء موسى في الجواب بما يقبله الموقن والعاقل خاصّة ،فَأَلْقى عَصاهُوهي صورة ما عصا به فرعون موسى في إبائه عن إجابة دعوتهفَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ[ الشعراء : 32 ] أي : حيّة ظاهرة ، فانقلبت المعصية الّتي هي السّيّئة طاعة أي : حسنة كما قال :يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ[ الفرقان : 70 ] يعني في الحكم ، فظهر الحكم هاهنا عينا متميّزة في جوهر واحد ؛ فهي العصا وهي الحيّة والثّعبان الظّاهر ، فالتقم أمثاله من الحيّات من كونها حيّة والعصيّ من كونها عصا ؛ فظهرت حجّة موسى على حجج فرعون في صورة عصيّ وحيّات وحبال ، فكانت للسّحرة حبال ولم يكن لموسى حبل ، والحبل التّلّ الصّغير أي : مقاديرهم بالنّسبة إلى قدر موسى عند اللّه كنسبة التّلال الصّغيرة إلى الجبال الشّامخة ).


قال رضي الله عنه :  ( ولهذا ) أي : ولكون القول بإلهية غير أن اللّه لا يتأتى بطريق التأويل من صاحب العقل ، ولا من صاحب اليقين ، ولا يتجاوزهما فرعون وقومه ، بل هو من الجهّال المدعين بلسان الظاهر ، ( جاء موسى في الجواب بما يقبله الموقن ) القائل بظهور صورة وجود الحق لا صورة إلهيته التي توجب الوجود ، والعاقل القائل بالتنزيه المحض ، فأعمه دون [ . . . ] ؛ لئلا يدعي فرعون ذلك كاذبا كذبا صريحا .

ولما أظهر فرعون الإنصاف طلب المعجزة التي هي الشيء المبين من غير إنصاف في الواقع قال رضي الله عنه :  ( فَأَلْقى عَصاهُ) [ الشعراء : 32 ] ، وهي من حيث كونها آلة لضرب المستحق على المعصية ( صورة ما عصى به فرعون موسى ) ؛ ليدل على عدم إنصافه في التفاته عن ( إجابة دعوته ) إلى الإيمان باللّه ورسله ،" فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ" [ الشعراء:32].
وفي العيان حياة ليست في العصا مع أنها مفسرة بالحية المشعرة بالحياة ؛ فلذلك قال ( أي : حية ظاهرة ) ؛ ليشعر بأن في الانقلاب إلى إجابة موسى حياة من بعد الكفر والمعاصي ، وانقلابا لها إلى الطاعات، فكأنه لما انقلبت العصا حية، (فانقلبت المعصية التي هي السيئة طاعة حسنة).
وإنما وصف المعصية بالسيئة ، والطاعة بالحسنة ؛ ليتأتى له الاستدلال بالآية المشار إليها في قوله ( كما قال تعالى ) في حق التائبين: ( يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [ الفرقان : 70].


ثم أشار على أن قلب العصا حية ، والسيئات حسنات ليس بطريق قلب الحقائق ، فإنه محال ، بل قال رضي الله عنه :  ( يعني في الحكم ) ، فكأنما حقيقة العصا باقية مع صورة الحية ، ( فظهر الحكم ) أي : حكم العصا مع حكم الحية ( هنا ) ، أي : في صورة الانقلاب بحيث يكون كل واحد منهما ( عينا متميزة ) عن عين الأخرى ، إذ الأحكام تابعة للحقائق ، فاختلفت الحقائق ، وتميزت ( في جوهر واحد ) ، فهذه الأحكام التابعة لهذه الحقائق المختلفة في هذا الجوهر لا ثبات لها حتى تكون الإلهية بها ، فلا عبرة بالمراتب ولا بالصور ،
قد غوى الإلهية بالمرتبة أو الصورة ليست غير الإنصاف ، كيف والإلهية لا تكون إلا محض إلهية ، وهاهنا لا تمحض ، إذ غايته الانقلاب ، ولا تمحض معه في صورة انقلاب العصا حية مع انخلاع الصورة الأولى ، فكيف بدونها ؟ !

 

قال رضي الله عنه :  ( فهي العصا ) من وجه ، ( وهي الحية ) من وجه ، وفيها اعتبار أن الحياة الحادثة كحياة من حيا باللّه بعد الحياة الحيوانية والثعبانية ، كما قال : ( والثعبان الظاهر ) بهذا الاعتبار يكون قائلا مفنيّا ، ( فالتقم أمثاله ) فيه إشارة إلى أن الجنسية سبب الضم ، والتأثير ( من الحيات من كونها حية ) ، والتقمت ( العصي من كونها عصي ) .
ولما كان الآكل ظاهرا باقيا ، والمأكول باطنا فانيا ، ( فظهرت ) أي : غلبت ( حجة موسى على حجج فرعون ) ، وإن كانت أكثر أفرادا وأنواعا ، والغلبة في النوع الموافق ظاهرة ، فجعلت الحبال حياة ؛ وذلك لأنه كانت حجج فرعون ( في صورة عصا ، وحيات ) انقلبت ، ( وحبال ) انقلبت حيات ، وهذا هو النوع الزائد من وجه ، ( فكانت للسحرة حبال ) ، وهي وإن كانت زائدة صورة ، إذ ( لم يكن لموسى حبل ) ، فهو دال على النقص فيهم ، والكمال في موسى إشارة ؛ وذلك لأن ( الحبل ) وإن أريد به الرسن قد جاء بمعنى ( التل الصغير ) ،
فهو إشارة إلى صغر مقدارهم ، وصغر مقدار التل إنما يعتبر بالنسبة إلى الجبال ، فهو بطريق الإشارة كما قال ، ( أي : مقاديرهم بالنسبة إلى قدر موسى ) ، بمنزلة الحبال التي هي ( التّلال الصّغار إلى الجبال الشّامخة ) .
.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:54 pm

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الخامس .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ الموسوي
25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية                      الجزء الخامس
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلمّا رأت السّحرة ذلك علموا رتبة موسى في العلم ، وأنّ الّذي رأوه ليس من مقدور البشر وإن كان من مقدور البشر فلا يكون إلّا ممّن له تميز في العلم المحقّق عن التّخيّل والإيهام ، فآمنوا بربّ العالمين ربّ موسى وهارون ،
أي : الرّبّ الّذي يدعو إليه موسى وهارون ، لعلمهم بأنّ القوم يعلمون أنّه ما دعا لفرعون ، ولمّا كان فرعون في منصب التّحكّم صاحب الوقت ، وأنّه الخليفة بالسّيف ، وإن جار في العرف النّاموسي لذلك قال :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [ النازعات : 24 ] ، أي : وإن كان الكلّ أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظّاهر من التّحكّم فيكم ).

قال رضي الله عنه :  ( فلما رأت السحرة ذلك ) أي : نقصهم في كمالهم ، وكمال موسى في نقصه ، إذ رأوا علو شأن حجج موسى في قلتها أفرادا وأنواعا ، ولا يعلو شأن الحجج إلا من علو شأن المحتج بها في العلم الذي أتى به منه ( علموا رتبة موسى في العلم ) ، وأنه انتهي من اتصاله بربه بحيث لا يصل إليه طوق الساحر ، ومن هنا علموا ( أن الذي رأوه ) من التقام عصاه عصيهم وحبالهم ( ليس من مقدور البشر ، وإن كان من مقدور البشر ) ،
كما تقول الفلاسفة :
" إن المعجزات آثار النفوس القدسية " ؛ ( فلا يكون إلا ممن له تميز في العلم المحقق عن التخيل والإيهام ) ، فإن غاية علم الساحر إن يعلم كيفية إخفائها حتى يتخيل الرأي ويتوهم أنها فنيت لا حقيقة الإفناء ، وإنما يكون لمن تحقق بعلم إفاضة الصور تكوينا وإفسادا ، وذلك إنما يكون للمتوسط بين اللّه وبين خلقه وهو الرسول ، فعلموا حقيقة رسالته ، وقبلوا دعوته ( فآمنوا برب العالمين ) .

ولما كان يتوهم أن المراد به فرعون ، أزالوه بقولهم :( رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [ الشعراء : 48 ] ليس المراد الاسم الخاص بتربيتهما ؛ فلذا فسره بقوله : ( أي : الرب الذي يدعو إليه موسى وهارون ) ، وحينئذ يرتفع عندهم اللبس عن القوم بأنه ليس المراد به فرعون ، وإن جوز متوهم أن يقصدوا ذلك بناء على أنهم ربما ظنوا أن دعوة موسى إنما كانت لإلهية فرعون ؛


قال رضي الله عنه :  ( لعلمهم ) أي : السحرة ( بأن القوم يعلمون أنه ) ، أي : موسى وكذا هارون ( ما دعا لفرعون ) أي : بالإفراد بربوبيته للعالمين ، وإن كان له التحكم التام والسيف العام كما قال ، ( ولما كان فرعون في منصب التحكم ) جواب الشروط قوله :فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى[ النازعات : 24 ] ؛ وذلك لظنه أن الربوبية بهذا التحكم ، فإن صحّ فإنما يكون لمن كان تحكمه من الأزل إلى الأبد بالاستقلال ظاهرا وباطنا بلا احتياج إلى السيف ، وهو في هذا التحكم إنما كان ( صاحب الوقت ) الحاضر لا قبل ما وفي ولا بعد الموت ،


قال رضي الله عنه :  ( وإنه الخليفة ) ، بلا استقلال مع أن تحكمه إنما يكون ( بالسيف ) لا بأمر " كن "، فغايته أنه خليفة عن اللّه ، وإن جاز لجوازان يجوز الخليفة ، وإن كان المستخلف عدلا مع أنه إنما ( جار في العرف الناموسي ) ، أي : ظاهر الشرع ، وفي الباطن أفاد المظلوم بحسناته أو احتمال سيئاته ؛ ( لذلك ) أي : لظنه الربوبية بالتحكم كيف ما كان ، ( قال :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [ النازعات : 24 ] ، فجعل بعض الأرباب أعلى لعلوه في هذا التحكم ، وبعضهم أدنى لدنوه فيه ؛


ولذلك فسر كلامه بقوله : ( أي : وإن كان الكل أربابا ) ؛ لأن كل منهم وجها من التحكم ( بنسبة ما ) ، وأقله تحكم نفوسهم في تدبير أبدانها ، ( فأنا الأعلى منهم ) ؛ لعلو تحكمي وإن لم يكن من مقتضى ذاتي ، بل ( بما أعطيته في الظاهر ) ، وإن كان تصرف نفوسهم المتحكمة في الباطن ، بل أقدر على إزالة ذلك بالقتل .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا علمت السّحرة صدقه فيما قاله لم ينكروه وأقرّوا له بذلك ؛ فقالوا له : فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا [ طه : 72 ] فالدّولة لك ، فصحّ قوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [ النازعات : 24 ] ، وإن كان عين الحقّ فالصّورة لفرعون ، فقطّع الأيدي والأرجل وصلب بعين حقّ في صورة باطل لنيل مراتب لا تنال إلّا بذلك الفعل ؛ فإنّ الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها لأنّ الأعيان الثّابتة اقتضتها ؛ فلا تظهر في الوجود إلّا بصورة ما هي عليه في الثّبوت إذ لا تبديل لكلمات اللّه ، وليست كلمات اللّه سوى أعيان الموجودات ، فينسب إليها القدم من حيث ثبوتها وينسب إليها الحدوث من حيث وجودها وظهورها كما تقول حدث اليوم عندنا إنسان أو ضيف ولا يلزم من حدوثه أنّه ما كان له وجود قبل هذا الحدوث ، ولذلك قال تعالى في كلامه العزيز أي : في إتيانه مع قدم كلامه :ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [ الأنبياء : 2 ] وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [ الشعراء : 5 ] ، والرّحمن لا يأتي إلّا بالرّحمة .
ومن أعرض عن الرّحمة استقبل العذاب الّذي هو عدم الرّحمة ) .

"" أضاف المحقق :
لما ذكر الحكم والأسرار التي تضمنتها الآيات الواردة في شأن موسى وفرعون أراد أن يبين أن مثل هذا الإيمان أي : إيمان فرعون وغيره من آمن عند اليأس من غير أن يقع في الغرغرة ، ويرى العذاب الآخر وبأسها نافعا في الآخرة وإن يكن نافعا في الدنيا .( شرح الجامي ).""

ثم أشار إلى غاية أثر هذه الربوبية فيما اعتبر رتبة السحرة عند تهديده إياهم لإيمانهم باللّه دون ربوبية فرعون ، فقال : ( ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله ) من التهديد بقوله :فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [ طه : 71 ] .

قال رضي الله عنه :  ( لم ينكروه ) لصدوره عن هذا التحكم ، ( وأقروا له بذلك ) التحكم وإن كان يظن به أنه الرب الأعلى ، فكأنهم صدقوه في أنه الرب الأعلى ، لو كانت الربوبية بهذا التحكم كما يصدق من قال له لو كان الإنسان حجر كان جمادا ، فإن المتصلة تصدق عند صدق الملازمة مع كذب الطرفين ، لكنهم ما صرحوا بهذا التصديق ، بل صرحوا بتصديق تهديده مع الإشارة إلى رد هذه الدعوى ، ( فقالوا له ) : إنما تقضي بهذا التحكم هذه الحياة الدنيا ، الحقيقة باقية من الأزل إلى الأبد ،( فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) [ طه : 72 ]  .

وإن كانت الربوبية بالحقيقة لغيرك ، ( فالدولة لك ) اليوم في الظاهر بحيث لا يعارضك الرب الحقيقي ولا نفوسنا ، وإذا لم يعارض فعله عن هذا التحكم بشيء ، ( فصح ) عنده ( قوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ،) إذ العلو في الربوبية عنده التأثير بها بلا معارض مع عموم السيف ، لا باعتبار ظهور الرب كما تعتقده جهّال الصوفية ، ولا ربوبية هذا الظهور مع أنه لا يعتقد ربّا آخر فضلا عن ظهوره ، وإن كان الظاهر فيه ( عين الحق ) إلا أنه بالظهور صار صورة حادثة بمرآة عينه الثابتة ، ولا صورة للحق في ذاته .


قال رضي الله عنه :  ( فالصورة لفرعون ) كما أنه لا لون للشمس مع أنها تتلون وراء الزجاجات المتلونة
والألوان للزجاجات ، لكن لا فعل لصورة بالمرآة بدون صاحبها ، فاجتمع في فعله جهتان ، ( فقطع الأيدي والأرجل ، وصلب ) في جذوع النخل ( بعين حق في صورة باطل ) ، حتى استحق الفاعل القهر والمفعول به درجة الشهادة ، كما قال ( لنيل ) السحرة ( مراتب ) في الآخرة ( لا تنال إلا بذلك الفعل ) الذي هو سبب نيلها ، ( فإن الأسباب ) وإن لم يحتج لها الحق ، ولم يفعل بها ( لا سبيل إلى تعطيلها ) لجريان سننه ألا نفعل المسببات إلا عند تحقق أسبابها ؛

قال رضي الله عنه :  ( لأن ) فعل الحق على وفق مقتضى ( أعيانها الثابتة ) بحسب سننه المستمرة ، وأعيان المسببات ( اقتضتها ) ، أي : الأسباب ، ( فلا تظهر ) أعيان الأسباب والمسببات ( في الوجود ) الخارجي ( إلا بصورة ما هي عليه ) من السببية والمسببية ( في ) حال ( الثبوت ) العلمي ، وإلا تبدلت كلمات اللّه وهو باطل ،

قال رضي الله عنه :  ( إذ لا تبديل لكلمات اللّه ) بالنص ؛ وذلك لأنه ( ليست كلمات اللّه ) عبارة عن الألفاظ المتقطعة المترتبة ، بل هي حقائق الألفاظ الشاملة حقائق الموجودات ، فليست ( سوى أعيان الموجودات ) ، لكن كل ما يكون وجوده عين ثبوته فهو الكلام الأزلي ، وإلا فهو العلم فقط ( فينسب إليه القدم ) الزماني ( من حيث ثبوته ) في العلم الأزلي الذي لا يكون محلا للحوادث ، ومن هنا يقال بقدم الكلام الأزلي من حيث وجوده ؛ لأن وجوده عين ثبوته .


قال رضي الله عنه :  ( وينسب إليها الحدوث من حيث وجودها ) "و في نسخة : من حيث وجودها وظهورها " .
المغاير للوجود الخارجي والذهني للكلام الأزلي ، ويجوز أن يحدث للشيء وجود باعتبار مع تقدم وجوده في نفسه عليه ، فحدوث الظهور مع تقدم الوجود أولى ، وإن كان الظهور لبعض الأشياء عين وجوده في الخارج ،

قال رضي الله عنه :  ( كما يقال : حدوث اليوم عندنا إنسان ) ، ولما احتمل فيه الحدوث بالتولد في اليوم بما لا احتمال له فيه ، فقال : ( أو ضيف ) ، فإن طفل اليوم الأول من ولادته لا يسمي ضيفا ، ( ولا يلزم من حدوثه ) ، أي : حدوث وجوده عند القائل ( أنه ما كان له وجود قبل هذا الحدوث ) ، فكيف يلزم ذلك قبل الظهور ؛

قال رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي : ولتحقق الحدوث في الكلام الأزلي باعتبار الظهور مع تقدم وجوده العيني ، ( قال تعالى في ) شأن ( كلامه العزيز ) باعتبار قيامه بذات اللّه تعالى الموجب لقدمه ما يدل على حدوثه باعتبار وظهوره ، ( أي : في إتيانه ) بصورة لفظية ، أو خطية ، أو ذهنية إلى خلقه (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) عندهم مع قدمه في نفسه ( إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) [ الأنبياء : 2 ] .

وقال أيضا :( وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ ) [ الشعراء : 5 ] ، مع عدم كلامه المانع من الانتقال منه إليهم ، لكن لا منع للظهور الذي هو الإتيان إلى حدوث الظهور بعد ما لم يكن ظهوره عنه ( إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) ،

وفيه إشارة إلى أن ( الرحمن لا يأتي ) في هذا الذكر ( إلا بالرحمة ) لمن أقبل إليه بالإيمان ، ومن أعرض عنه ، فقد أعرض عن الرحمة ، ( ومن أعرض عن الرحمة استقبل العذاب الذي هو عدم الرحمة ) ، فمقتضى هذا النص أن فرعون لما استقبل الرحمة بالإيمان أتته الرحمة من الرحمن بالنجاة كما أتت السحرة ، فصاروا في أعلى مراتب الشهداء .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا قوله :فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِه ِ[ غافر: 85].  إلّا قوم يونس ، فلم يدلّ ذلك على أنّه لا ينفعهم في الآخرة بقوله في الاستثناء :إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [ يونس : 98 ] ، فأراد أنّ ذلك لا يدفع عنهم الأخذ في الدّنيا ،  فلذلك أخذ فرعون مع وجود الإيمان منه ،
هذا إن كان أمره أمر من تيقّن بالانتقال في تلك السّاعة ، وقرينة الحال تعطي أنّه ما كان على يقين من الانتقال أنّه عاين المؤمنين يمشون على الطّريق اليبس الّذي ظهر بضرب موسى بعصاه البحر ، فلم يتيقّن فرعون بالهلاك إذ آمن ،  
بخلاف المحتضر حتى لا يلحق به ، فآمن بالّذي آمنت به بنو إسرائيل على التّيقّن بالنّجاة ، فكان كما تيقّن لكن على غير الصّورة الّتي أراد ، فنجّاه اللّه من عذاب الآخرة في نفسه ، ونجّا بدنه كما قال تعالى :فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [ يونس :92 ] ، لأنّه لو غاب بصورته ربّما قال قومه احتجب ، فظهر بالصّورة المعهودة ميّتا ليعلم أنّه هو ؛ فقد عمته النّجاة حسّا ومعنى ).


ثم استشعر سؤالا بأنه إنما يكون مستقبلا للرحمة لو آمن قبل الناس ، لكن كان إيمانه عند البأس ، فلا تنفعه بالنص، فأجاب بقوله: ( وأما قوله :فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر : 85] ، فالمراد عدم نفعه في رفع ذلك البأس الدنيوي ،
وإنما لا ينفع الإيمان في الآخرة إذا آمن عند رؤية البأس الأخروي ، وعندما يجعله ضروريّا لا لبس فيه بوجه من الوجوه كأشراط الساعة
بدليل قوله تعالى بعده : ( سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) [ غافر : 85 ] ، وعدم النفع الأخروي في الإيمان برؤية البأس الدنيوي لم تصر سنة خالية ، بل هي منتظرة في الاستقبال ، وبدليل قوله تعالى : " فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ " [ يونس : 98 ] ،

فإنه أفهم أن إيمانهم نفعهم في دفع البأس الدنيوي ، ولم ينفع غيرهم فيه، (فلم يدل ذلك على أنه) ، أي : إيمان سائر الطوائف عند البأس الدنيوي ( لا ينفعهم في الآخرة ) ، بل قد يفهم نفع الإيمان عند البأس الدنيوي فقط في الآخرة ؛ (لقوله في الاستثناء إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) [يونس : 98 ]

فإنه إذا حصل الممنوع النفع بالنسبة إلى الأقوام لقوم ، فغير الممنوع في حق ذلك القوم أولى ، وإذا كان في حقهم أولى ، ففي حق غيرهم ، وإن لم يكن أولى فلا أقل من الجواز ، فقوله : فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ [ غافر : 85 ] ، وإن دلّ بظاهره على عدم نفعه مطلقا ،
أي : في الدنيا والآخرة ، ( فأراد ) تعالى من ذلك المطلق مع هذه القرائن ، ومع قوله عليه السّلام : « تقبل توبة العبد ما لم يغرغر » . ) رواه الترمذي والحاكم في المستدرك وابن حبان.

قال رضي الله عنه :  ( ذلك الإيمان لا يدفع عنهم الأخذ في الدنيا ) ، كإيمان الرقيق لا يوجب إعتاقه ، لكن أوجب نجاته في الآخرة ، واستدل العلماء على عدم نفع هذا الإيمان مطلقا بوجوه :
الأول : أنه ألجئ إلى الإيمان ، ولا قدرة له على التصرف في نفسه .
أجيب : بأنه إن أريد الإلجاء إلى التكلم بهذه العبارة الخاصة الطويلة فباطل ، ومنع التصرف في النفس بالتكلم بمثلها ، وتركه ممنوع وإن أريد الإلجاء إلى التصديق باللّه واليوم الآخر بحصول العلم الضروري به بحيث لا يمكن دفعه ممنوع ، بل غايته أنه كالعلم الحاصل بالمعجزات الباهرة ، وهو وإن أشبه العلم الضروري ، فلا يوجب الإلجاء إلى التصديق باللّه واليوم الآخر ، ولا يسلم أنه لا يمكن للعبد التصرف في نفسه بالانقياد وتركه ، وهذا بخلاف انكشاف أحوال الآخرة عند الموت وعند أشراط الساعة ، فإنها ترفع اللبس من كل وجه .

وهنا يبقي اللبس من الوجه الثاني : أن المقصود بهذا الإيمان دفع البلية ، أجيب بالمنع ، فإن غايته أن يكون كإسلام الكافر رجاء دفع مرضه ، وعند غرق السفينة ورجاء السلامة ، وكإسلام المرتد عند رؤية السيف ولو كان هذا منافيا لم يكن قبوله جائزا مع أنه واجب ؛ لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم لأسامة حين قتل من قال : لا إله إلا اللّه عند رؤية السيف : «هلا شققت عن قلبه».رواه مسلم والنسائي في السنن الكبرى والحاكم في المستدرك .
كيف ، وقد شرع إعطاء المال للمؤلفة الشرفاء رجاء إسلام نظرائهم ؟
وقد قالوا بأن نية التبرد لا تضر بالنية المعتبرة في الوضوء ، نعم لو آمن بلسانه دون قلبه في هذه الصور ؛ فليس ثم إيمان في الواقع أصلا .
 

الثالث : بأن عند البأس لا يمكن للعبد الاستدلال والثواب على الإيمان ، إنما هو في مقابلة ما يتحمله من المشقة في الاستدلال .
أجيب : بأن إيمان المقلد صحيح عند جميع الفقهاء وأكثر العلماء ، ومنعه جمع من
المتكلمين وهو المشهود عن الأشعري ، وحكي عن عبد القاهر البغدادي عن الأشعري أنه عاص بترك الاستدلال غير كافر ؛ لوجود التصديق وعاقبته ، الجنة فكأنه أراد أنه ليس مؤمنا كاملا كتارك الأعمال ، وحصر ثواب الإيمان في الاستدلال باطل قرب عمل خفيف أكثر ثوابا من العمل الثقيل ، كالإيمان والحج ثم المقلد من نشأ في البادية ، ولم يتفكر في العالم والصانع ، ولم تبلغه المعجزات ، ولا ينظر فيها ، بل أخبر بذلك فصدقه ، وأما من نشأ في بلاد المسلمين وسبح اللّه تعالى عند رؤية متابعة ، فخارج عن حد التقليد ،
وقول المعتزلة : لا يكون مؤمنا ما لم يعرف كل مسألة بحجة عقلية مع رفع الشبه بطلانه يكاد يلحق بالضروريات ، فإن أكثر أهل الإسلام قاصرون أو مقصرون في الاستدلال ، ولم تزل الصحابة ومن بعدهم يجرون عليهم أحكام المسلمين .



الرابع : عدم قبوله إيمان البأس ؛ لأن عذاب الدنيا مقدمة عذاب الآخرة ، إذ ينتقل منه إليه .
أجيب : بأنه لا يلزم أن تكون لمقدمة الشيء جميع أحكامه ، فإن القبلة من مقدمات الوطء ، وليس لها جميع الحكم ، بل تكون في حكمة في الحرمة ، وفيما نحن فيه يكون من أحكام البأس ألا يندفع بالإيمان لرؤية ، كما لا يندفع عذاب الآخرة بالإيمان لرؤيته ، إلا أن عذاب الآخرة لا يندفع بالإيمان لرؤية عذاب الدنيا إذا عرفت هذا ، فالمعتمد في عدم قبول توبة المختصر وإيمانه ما ذكره الإمام حجة الإسلام الغزالي في « الإحياء » في كتاب التوبة ، وكتاب الخوف والرجاء : أنه بمشاهدة ناصية ملك الموت ينكشف له ما في اللوح المحفوظ ، فتفسير العلوم للنظر بها ضروري ، ويدل عليه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم فيما رواه أبو أيوب : « إن اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » . أي : ما لم تتردد الروح في حلقه .

وعن الحسن : « إن إبليس قال : حين أهبط إلى الأرض ، وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده ، فقال : وعزتي ولا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر » . ، انتهي كلامه .رواه ابن أبي شيبة في المصنف والبيهقي في « شعب الإيمان
لا يقال : فرعون كوشف له عن جبريل ، إذ هو القائل له : آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [ يونس : 91 ] .
قلنا : يحتمل أنه كوشف له في صورة البشر ، وهو لا يمنع قبول التوبة ، ويحتمل أنه كوشف له بعد الفراغ من هذه الكلمة ، ثم حكمت أشراط الساعة حكم كشف أحوال الآخرة ، أو العلم بالساعة يصير ضروريّا عند رؤيتها .

 
قال رضي الله عنه :  ( فلذلك ) أي : فلعدم دفع الإيمان عند البأس الدنيوي إياه ( أخذ فرعون ) أي : تم أخذه الدنيوي ( مع وجود الإيمان منه ) ، لا لما قبل أنه لم يحتمل له الإيمان لوجوه :
الأول : أنه كان دهريّا لقوله :ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [ القصص : 38 ] وأَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى[ النازعات : 24 ] ، فمثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية ، وهو إنما هو ظلمة ، وهو لم يقل آمنت باللّه ،
وإنما قال :آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ[ يونس : 90 ] ،فكأنه اعترف أنه لا يعرف اللّه إلا أنه سمع بني إسرائيل أنهم أقروا بوجوده .

أجيب : بأن العلماء لم يفرقوا بين الدهري وغيره إذا آمن بالتقليد ، بل نقل الحليمي إجماعهم على قبول إيمانه بإقراره ، وتصديقه لمجرد وجود الصانع ، ونقله إمام الحرمين عن الأكثر ، وصححه البغوي ،
ولا يسلم أن ظلمة هذا الاعتقاد لا تزول إلا بنور الحجة القطعية ، بل نور الكلمة ماحية لكل ظلمة كشفت أو لطفت ، ثم إنه ليس كل تقليد موجب ظلمة ، وإنما هو التقليد على الباطل ، وإلا لم يجب على العامة تقليد المجتهدين ، بل غايته فقد نور الدليل ،
ثم إنه ليس هاهنا ثمة ظلمة التقليد إلى ظلمة إنكار الصانع ، إذ هذا التقليد في الإقرار بالصانع ، وهو ينقص إنكاره ، فغاية أحد ظلمة حقيقية مكان ظلمة كشفية بها نور كلمة التوحيد التي لا يبقي معها ظلمة أصلا ،
وقولك : كافر اعترف أنه لا يعرف اللّه ، وإنما سمع بني إسرائيل أقروا بوجوده بخلاف الظاهر ؛ فإنه قد عرف هو وقومه صحة دلالة المعجزات ، فقد قال موسى عليه السّلام في حقه :لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ[ الإسراء : 112 ] .

وقال تعالى في حقهم : وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ[ النمل : 14 ] .

الثاني : أن بني إسرائيل لما جاوزوا البحر قالوا :اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ[ الأعراف : 138 ] ، واشتغلوا بعبادة العجل ، فانصرف قول فرعون : إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل إلى ذلك ، وكان ذلك سببا لزيادة كفره .
أجيب : بأن ذلك إنما كان بعد هلاك فرعون ، ولا شعور له بذلك ، وقد علم أنهم آمنوا برب السماوات والأرض ، فكيف ينصرف إلى ذلك ؟ !

الثالث : أن أكثر اليهود مالوا إلى التجسيم والتشبيه ؛ ولذلك اشتغلوا بعبادة العجل ، وكان إيمانه بآلهتهم إيمانا بالإله الموصوف بالجسمية .
قلنا : إنما مال إلى التجسيم مبتدعهم بعد موسى كمبتدعة هذه الأمة ، أو بعد غيبته بإغواء السامري، وإلا كانت نجاتهم من الغرق بسبب إيمانهم باللّه ، وهو إنما قصد ذلك الإيمان المنجي.

الرابع : الإيمان إنما يتم بالإفراد بالنبوة ، والملائكة والكتب واليوم الآخر ، واحتمال أنه كان شرطا في ذلك الزمان دون هذا الزمان بخلاف الأصل ، فلا يصار إليه إلا بدليل .
أجيب : بأن إيمان المشترك والدهري يتم بشهادة التوحيد على ما صححه البغوي ، ونقله إمام الحرمين عن الأكثر ، ونقل الحليمي الإجماع عليه على أن قوله :وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ[ يونس : 90 ] يشمل الإيمان بالكل .

الخامس : أن جبريل جعل في فيه محل خشية أن تدركه الرحمة ، فكان ذلك قبل تمام الإيمان .
أجيب : بأن ظاهر النفي يدل على أنه تم إيمانه ، وجبريل لا يرضى بالكفر إذ هو كفر ، وإنما خشي من رحمة النجاة عن الغرق ؛ لئلا يتغير عن هذا الإيمان بعده .

قال رضي الله عنه :  ( هذا ) أي : القول بأن إيمان فرعون عند الغرق إيمان عند رؤية البأس ، إنما يكون من ( كان أمره أمر من تيقن بالانتقال في تلك الساعة ) ، والبأس إنما يكون بأسا عند تيقن الانتقال به ، وإلا كان كالمرض والغرق من حيث هو غرق لا يوجب التيقن بالانتقال ، ( وقرينة الحال تعطي أنه ما كان على يقين من الانتقال ) لو كان الغرق موجبا للانتقال لا محالة بحسب العادة لا من ( عاين المؤمنين ) على خلاف العادة ،

قال رضي الله عنه :  ( يمشون في الطريق اليابس ) وإن لم تكن كرامة لهم ، بل لمعجزة لموسى عليه السّلام ؛ لأنه ( الذي ظهر يضرب موسى بعصاه البحر ) لنجاة المؤمنين ، وفرعون قد صار منهم فرجا أن يعود أثر المعجزة في حقه ، ( فلم يتقين فرعون ) من هذا الرجاء ( الهلاك ، إذ آمن ) ، وإن تيقن به بعده ، فلم يكن مأواه باستثنائه ثبوتا في حقه وقت إيمانه ( بخلاف المحتضر ) إذا قلنا : لا يقبل إيمانه عند تيقنه الهلاك ، وإن لم يكاشف بأمور الآخرة ( حتى لا يلحق فرعون به ) أي : بالمحتضر لا في تيقن الهلاك ، ولا في كشف أمور الآخرة ، بل تيقن النجاة بالإيمان لمعاينتها في بني إسرائيل .


قال رضي الله عنه :  ( فآمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل على التيقن بالنجاة ) ؛ لأنه آمن مثل إيمانهم ، فتيقن أنه ينجو مثل نجاتهم إذ لا سبب لنجاتهم سوى ذلك ، واللّه عند ظن عبده به ، ( فكان ) في أمر النجاة ( كما تيقن ) ، ( لكن ) حصلت له النجاة ( على غير الصورة التي أراد ) ، وهي النجاة من الغرق ، لكنها ربما لا تكون نجاة في نفس الأمر ، أو ربما يتغير بعدها إلى ما كان عليه قبلها ،

قال رضي الله عنه :  ( فنجاه اللّه من عذاب الآخرة في حق نفسه ) ، أي : روحه المشار إليها بكاف الخطاب فينُنَجِّيكَ[ يونس : 92 ] ، وإن عذب بحقوق الخلق من إضلال قوم غير محصورين ، واسترقاق بني إسرائيل ، وقتل أولادهم ، (ونجّا بدنه ) عن الهلاك في البحر فألقاه إلى الساحل ، ( كما قال تعالى :فَالْيَوْمَ) بالفاء الدالة على الترتيب ( نُنَجِّيكَ ) أيتها

الروح ( بِبَدَنِكَ ) أي : مع بدنك ( لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ) ،أما في نجاة الروح فما مر ألا ييأس أحد من روح اللّه ، وأما في نجاة البدن فذلك ؛ ( لأنه لو ) هلك في البحر ( غاب بصورته ) عن النظر ، ولو غاب بصورته ( ربما قال قومه ) من بقي منهم ممن يعتقد إلهيته ( احتجب ) كما يقول المؤمنين في اللّه : إنه محتجب .

قال رضي الله عنه :  ( فظهر بالصورة المعهودة ) قبل التغير ( ميتا ؛ ليعلم أنه هو ) ، إذ لو ظهر حيّا ، لربما قيل : إنه حي لا يموت ، وكذا لو تغير لقيل أنه غيره ، وهو قد ارتفع إلى السماء ( فعمته النجاة حسّا ) من حيث عدم هلاك صورة بدنه قبل الإلقاء إلى الساحل وإن ملك بعده ، وصار ميتا قبله ، ( ومعني ) من حيث نجاة روحه عن عذاب الكفر ، وإن عذب بحقوق الخلق .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن حقّت عليه كلمة العذاب الأخراوي لا يؤمن ولو جاءته كلّ آية حتّى يروا العذاب الأليم ، أي : يذوقوا العذاب الأخروي ، فخرج فرعون من هذا الصّنف ، هذا هو الظّاهر الّذي ورد به القرآن ، ثمّ إنّا نقول بعد ذلك والأمر فيه إلى اللّه ، لما استقرّ في نفوس عامّة الخلق من شقائه ، وما لهم نصّ في ذلك يستندون إليه ، وأمّا آله فلهم حكم آخر ليس هذا موضعه ، ثمّ ليعلم أنّه لا يقبض اللّه أحدا إلّا وهو مؤمن أي مصدّق بما جاءت به الأخبار الإلهيّة ، وأعني من المختضرين ، ولهذا يكره موت الفجأة وقتل الغفلة).

ثم أشار إلى أنه لو كان مأخوذا في الآخرة بكفره لم يكن ليؤمن عند الغرق ؛ لقوله تعالى :إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [ يونس : 96 ، 97 ] .

ووجه الاستدلال أنه علم بالنص أن ( من حقت عليه كلمة العذاب الأخروي ) ، فإنه المراد بكلمة ربك لأن المفسرين فسروها بقوله : هؤلاء في النار ولا أبالي ( لا يؤمن ) قبيل الموت ، وإن كان يؤمن في الحياة ( ولو جاءته كل آية ) في ذلك الوقت أو قبله ، والبأس الدنيوي من جملة الآيات ( حتى يروه العذاب الأليم ) ، فليس المراد أي عذاب كان ، فإن المحتضر لا يخلو من عذاب المرض في الجملة ، ولا نفس الرواية لذلك العذاب الأخروي بمعنى [ . . . ] به عن تلك الآيات ، بل المراد ( أي : ذوقوا العذاب الأخروي) ، وفرعون آمن قبيل الموت قبل ذوق العذاب الأخروي ، ( فخرج فرعون من هذا الصنف) .

ثم أشار إلى أن ذلك ليس مما يجب الاعتقاد به ، بل ( هذا هو الظاهر الذي ورد به القرآن )  أورد أنه ينجي روحه وبدنه ، وورد أنه آمن قبيل الموت ، ومن حقت عليه كلمة العذاب لا يؤمن حينئذ ورده كونه آية في نجاة روحه وبدنه ، والتأويلات التي ذكرها الجمهور خلاف الظاهر .

قال رضي الله عنه :  ( ثم إنا نقول بعد ذلك ) أي : بعد التعرض لما يدل عليه ظاهر القرآن ( والأمر فيه إلى اللّه ) ؛ لعدم الدليل القاطع على قبول إيمانه ، ولا على عدم قبوله ( لما استقر في نفوس العامة من شقائه ) من كفره وعلوه أيام جنونه ، وقد أخذ على ذلك وكره اللّه تعالى ذكره تقرر عندهم أن إيمانه غير مقبول في حق الآخرة أيضا ،


كما لا يقبل في حق الدنيا مع أن المؤاخذة الدنيوية لا تستلزم المؤاخذة الأخروية لو تخلل الإيمان بينهما قبل كشف الحجب عن أحوال الآخرة ، كما في صورة استرقاق الكافر إذا آمن بعد ذلك ، ولو قبيل الموت قبل انكشاف أحوال الآخرة ( وما لهم نص في ذلك يستندون إليه ) ؛ لأن النصوص الواردة في شأنه إما أن تدل على كفره وطغيانه قبل هذا الإيمان ، فهي لا تدل على عدم قبول إيمانه الثابت بالنص أيضا ، ولا شكّ أنه لو آمن قبل دخول البحر بعد انغلاقه لقبل إيمانه اتفاقا ، وليس الغرق فيه أجل دلالة منه .


وإما أن تدل على مؤاخذته على الكفر السابق في الدنيا ، ولا دلالة لها على المؤاخذة الأخروية على ذلك الكفر إذا تخلل بينهما الإيمان قبل كشف الحجب عن أحوال الآخرة ، فاسترقاق الكافر مؤاخذة دنيوية ، والإسلام بعدها لا يدفع تلك المؤاخذة فلا يعتق بمجرد الإيمان ، لكن لا يؤاخذ بذلك الكفر في الآخرة حينئذ .

وإما أن تدل على مؤاخذته في الآخرة على حقوق الخلق من إضلال قوم غير محصورين ، واستعباد بني إسرائيل وهم أولاد الأنبياء ظلما وقتلا لأولادهم ، وهذه الحقوق مما لا يعفى منها بالإيمان أو على عذابه في الآخرة مطلقا من غير أن يشير إلى كونه على كفره ، ولا إلى خلوده ، ولا إلى عدم قبول إيمانه ،

فالشيخ إنما أورد هذا ؛ للإشارة إلى أن النصوص ساكتة عن ذلك لا كما يتوهم العامة من دلالتها على عدم قبول إيمانه .
وقد ذكرنا ما يجب اعتقاده في هذه المسألة فيما تقدم ، ولتذكر أدلة الجمهور مع ما أجيب به عنها ، وهي وجوه :
الأول : أنه تعالى ما يقص في كتابه العزيز قصة كافر باسمه الخاص أعظم من قصته ، ولا ذكر من أحد من الكفر والطغيان مثل ما ذكرهما منه ، ولا كرر مثل ما كرره .
أجيب : بأن الكناية أبلغ من التصريح ، قلنا : صرح باسم قبلة إبراهيم ، وكني عن حب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله :إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [ آل عمران : 31 ] ،
فكذا صرح باسم فرعون ، وأخفي اسم قابيل مع أنه أشد عذابا منه ، ولعل عاقر ناقة صالح لا يكون أقل عذابا منه ، وقد قال تعالى في حقه :إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها[ الشمس : 12 ] ،

وكذا نمرود ، ثم ذكر اسمه الخاص لإحضاره بعينه من جملة من بعث إليه موسى من رؤساء الكفرة ، وهم فرعون وقارون وهامان ، فصرح بأسماء كلهم بخلاف من بعث إلى رئيس معين كنمرود وإلى طائفة عظيمة كقوم نوح ، وإنما جعل قصته أعظم القصص ؛
لأن غاية كفره وطغيانه كان عن غاية قوته ، فمن ذلك أخذ بأسهل الطرق وهو الغرق ، وورث ملكه أعداءه الذين كان يستضعفهم غاية الاستضعاف ، وذكر أنه أخذ مع إيمانه في الدنيا على جرائمه السابقة ، وكان كتمانه سبب نجاته في الآخرة ، كما أشار إليه بقوله :فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ،ومع ذلك يؤاخذ بحقوق الخلق .

ففي قصته أعظم وجوه التخويف مع أعظم وجوه التوجيه ، كما قال :لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ[ يونس : 92 ] ، فذكر جنايته كذكر من قتل مائة نفس ، ثم جعله اللّه من أهل النجاة. رواه مسلم  وأحمد في المسند .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:54 pm

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء السادسة .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ الموسوي
25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية                      الجزء السادسة
الثاني : قوله تعالى :يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ[ هود : 98 ، 99 ] .
وقوله تعالى :فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ[ القصص : 40 - 42 ] .
أجيب : بأن تقدمه قومه لإيرادهم النار لإضلالهم ، ووروده قبلهم لذلك ؛ وربما يشير اعتبار دخوله بهذا السبب مع أن الكفر أعظم سببا منه إلى أن دخوله ليس لكفره ، واللعنة قد وردت في حق القاتل ، والإضلال أشد من القتل ، فإنه إهلاك أبدي ، وقد قتل أولاد بني إسرائيل أيضا على أن اللعنة نكرة ، والتنكير للتنويع ، والظلم أعم من الكفر ،
فإن سلم فهي تدل على مؤاخذته بالكفر السابق في الدنيا ، ولا دلالة له على المؤاخذة الأخروية أن المراد به الكافرون به بعد تخلل الإيمان بينهما كما في صورة كافر استرق فآمن ، وكونهم أئمة يدعون إلى النار ؛ لأنهم سنوا سننا قبيحة ، والقبح أعم من أن يكون بالكفر أو سائر المعاصي ، وليس لكل واحد منهم على السوية ؛ لتفاوت درجاتهم .

الثالث : قوله تعالى :" كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ ( 12 ) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ ( 13 ) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ  [ ص : 12 ، 13 ، 14 ] .
وقوله تعالى :" كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ( 12 ) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ ( 13 ) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ( 14 )[ ق : 12 - 14 ] .

أجيب : بأن المراد المؤاخذة الدنيوية ؛ لأن المراد يحق أن الماضي وهو الحقيقة ، أو المستقبل وهو المجاز ، والحمل على الحقيقة هو الأصل ، وإن جاز الحمل على الجمع بينهما عند بعضهم ، فليس بواجب ولا أول من الحمل على الحقيقة ، مع أن بعضهم أول فرعون في الآية الأولى بقومه بدليل قوله :أُولئِكَ الْأَحْزابُ[ ص : 13 ] ،
وإنما تثبت المؤاخذة الأخروية في حق من تثبت له بدليل آخر ، وإلا فإنه دلالة للمؤاخذة الدنيوية على الأخروية مع تخلل الإيمان بينهما .


الرابع : قوله تعالى : فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى[ النازعات : 25 ] .
أجيب : بأنه إن أريد بالآخرة أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [ النازعات : 24 ] ، وبالأولى ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي[ القصص :38] ، فهذه مؤاخذة دنيوية على كفره السابق ، وإن أريد بالآخرة القيامة ، وبالأولى الدنيا ، فنكال الآخرة جزاؤه على إضلاله ، واستعباده بني إسرائيل ، وقتله أولادهم لا يقال على الوجه الأخير .
إذا كان نكال القيامة لقوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى دل ذلك على أن مؤاخذته الأخروية لكفره ؛ لأنا نقول لا دلالة للنص على أن نكاله في الآخرة لقوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ،
بل إن مجموع نكال الدنيا ونكال الآخرة كان لمجموع النداء بعد الحشر ، وقوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلىفيه إضلال ، ويجوز أن تتوزع أجزاء الجزاء على أجزاء الفعل بأن يكون نكال الآخرة للإضلال المفهوم من النداء 
 
الخامس : قوله تعالى :وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ( 88 ) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما[ يونس :  88 – 89 ].


أجيب : بأن قوله :فَلا يُؤْمِنُواإن كان عطفا علىلِيُضِلُّوالم يدخل تحت الدعوى المستجابة ، وإن كان جواب الأمر مع أنه لا يصلح أن يكون جوابا للمعطوف عليه ، فالمراد بالعذاب الأليم : الغرق ؛ لأنه إن أريد عذاب الآخرة كان رضا بموته على الكفر وهو كفر ،


والقول بأن الدعاء به ليس بكفر مع أن الرضا به كفر باطل ؛ لاستلزامه الرضاء به مع أنه أتم في الرضاء ، وقول القائل لمن يريد الإسلام في الحال ائتني هذا وقد كفروه ، وكأنه دعا عليهم أن يؤخذوا على الكفر السابق في الدنيا من غير تعريض لبقائه أو عدم بقائه على الكفر إلى انكشاف أحوال الآخرة .

السادس : قوله تعالى :آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ[ يونس  :91].
لامه على الإيمان حين المؤاخذة ، ولا يلام الشخص على الأمر المقبول منه .

أجيب : بأنه لامه على قصد النجاة من الغرق بهذا الإيمان ، فبيّن اللّه أنه لا ينفع في المؤاخذة على المعاصي الماضية كما قال :وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ .ثم أشار إلى نفعه بالنسبة إلى ما بعده ، فأتى بإلقاء الدالة على السببية في قوله :فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَأي : ننجي روحك ببدنك ، أي : مع بدنك ، إذ الإيمان لا يخلو من نفع ، وقد امتنع النفع الدنيوي ، فلابدّ من النفع الأخروي إذا وقع قبل الانكشاف عن أحوال الآخرة .

السابع : روى الإمام أحمد بن حنبل ، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : " أنه ذكر الصلاة يوما ، فقال : من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة ، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة يوم القيامة ، وحشر مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف " . رواه أحمد في المسند والدارمي .

أجيب : بأنه لا معية في عذاب الكفر ؛ لأن تارك الصلاة مؤمن عندنا ، فالمعية في العذاب على سائر المعاصي التي تنهي عنها الصلاة ، فمن تركها فكأنما ارتكبها جميعا ، وعذاب من عذب منهم على الكفر ليس من هذا النص .

 
الثامن : علم بالضرورة من الملك أنه أكفر الخلق ، وانعقد عليه الإجماع .
أجيب : بأنه إن أريد قبل التكلم بكلمة الإسلام عند الغرق ، فلا نزاع فيه بل لعله لم يسبقه سابق ، ولا يلحقه لاحق إن أريد معه أو بعده ، فلا يتصور أصلا فضلا عن الضرورة ، واستقراره في أذهان العامة وأقوالهم لا تجعله من ضروريات الدين كما أنه استقر في القرآن أنه ليس وراء هذه الألفاظ والأشكال مع أنه ليس شيئا منها ، بل هما وجودان زائدان على وجوده العيني ولا نسلم الإجماع على أنه لا يسمي مؤمنا ،
فإن الإمام حافظ الدين النسفي نقل في شرح عقيدته عن الإمام أبي حنيفة أنه قال : لا يدخل النار إلا مؤمن ، فقيل له : كيف ذلك ؟ ،

فقال : أنهم حين يدخلون النار لا يكونون إلا مؤمنين ، وإبليس كان قبل الأمر بالسجود مؤمنا ، غايتهم أنهم لا يقبل إيمانهم ولا ينفع ؛ لكونه عند رؤية أحوال الآخرة ، وإن أريد الإجماع على عدم قبوله ، فلابدّ له من نقل ، وغايته أن الأكثر لم ينقل فيه الخلاف ،
وقد رأيت في بعض الرسائل ينقل عن بعض المفسرين الخلاف في قبول إيمانه ، وكذا عن شعب الإيمان للبيهقي عن جماعة من العلماء .


العاشر : قوله تعالى :أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ[ غافر : 46 ] يدخل فيه فرعون دخول إبراهيم والناس وأبي أو في قوله تعالى :إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ[ آل عمران :33].  
وقوله تعالى : سَلامٌ عَلى إِل ‌ْياسِينَ[ الصافات : 130 ] .
وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « اللهم صلي على آل أبي » رواه البخاري وابن خزيمة  و رواه مسلم . و ابي داود وابن ماجة والنسائي وأحمد وغيرهم.
أو في حين جاءه أبو أوفى بالصدفة امتثالا لقوله تعالى :وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ[ التوبة : 13 ] .

أجيب : بأن دخول الشخص في آله من صريح المحال ، لكنه قد يذكر آل الشخص ، ويراد به نفسه مجازا بالزيادة ، وقد يقصد به أهله وعياله وأتباعه وهو الحقيقة ، والجمع بين الحقيقة والمجاز ليس مذهب الجمهور ، ومن قال به لا يوجبه ، ولا يرجحه على إرادة الحقيقة وحدها ، واصطفينا إبراهيم لا يفهم من قوله :وَآلَ إِبْراهِيمَ[ آل عمران : 33 ] ،
بل من قوله : وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ[ البقرة : 130 ] ، والمفهوم منه اصطفاه إسماعيل وإسحاق ويعقوب ، ويوسف وموسى وهارون ، وغيرهم من أنبياء ذريته صلوات اللّه عليهم أجمعين ، والمراد بآل ياسين هو إلياس وحده على المجاز ، وكذا أبو أوفى من آل أبي أوفى ، وليس المراد بآل فرعون نفس فرعون ، وإلا لم يصح قوله :أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ[ غافر : 46 ] بصيغة الجمع .


ولعل الشيخ أشار إلى رفع هذا الاستدلال بقوله : ( وأما آله فلهم حكم آخر ) ؛ لأنهم إن قالوا : هو الإله دون اللّه فهم جاحدون ،
وإن قالوا : هو إله مع اللّه ، فهم مشركون ، وكذلك قالوا : هو إله بظهور الإله فيه ،
ثم قال ( ليس هذا موضعه ) ، بل موضعه ما فهم في فص نوح ، وفص لقمان ، وفص هارون وغيرهما .
ثم أشار إلى أن الإيمان في الدنيا لا يخلو من فائدة ، ولو بعد كشف أحوال الآخرة وإن لم يفيد الخروج عن النار ،

فقال رضي الله عنه  : ( ثم ) أي : بعد أن علمت أن إيمان البأس لا يدفع البأس الدنيوي عند رؤيته والأخروي عند رؤيته ؛ ( لتعلم أنه ما يقبض اللّه أحدا إلا وهو مؤمن ) عند قبضه ، فتبقي روحه متصفة بصفة الإيمان ، وإن لم يكن في حكم المؤمنين في النجاة عن الخلود في النار ؛ ولذلك يصدق عليه اسم الكافر ، لكنه مؤمن ، ( أي : مصدق بما جاءت به الأخبار الإلهية ) في الكتاب والسنة ، وهي حقيقة الإيمان وإنا نخلف عنها الحكم ؛ لنخلعه عن وقت التكليف به ؛ لأنه لا تكليف بشيء بعد صيرورته ضروريّا بلا ليس عند انكشاف اللوح المحفوظ بانكشاف ناصية ملك الموت ، لكنه لا يكون في الميت فجأة والمقتول غفلة ؛

ولذلك قال : ( وأعني ) بقولي أحدا كافرا ( من المحتضرين ) ، إذ لا كشف عن أحوال الآخرة ، ولا إمكان للإيمان والتوبة عند القبض لغيره ؛ ( ولهذا يكره موت الفجأة ، وقتل الغفلة ) في الكافر والفاسق ، إذ يفوت بهما الإيمان والتوبة من كل وجه ، فلا يحصل التخفيف بهما ، وإن كانا لا يفيدان النجاة بعد كشف أحوال الآخرة في حق المحتضر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأمّا موت الفجأة فحدّه أن يخرج النّفس الداخل ولا يدخل النّفس الخارج ، فهذا موت الفجأة ، وهذا غير المحتضر ، وكذلك قتل الغفلة بضرب عنقه من ورائه وهو لا يشعر ، فيقبض على ما كان عليه من إيمان وكفر ، ولذلك قال عليه السّلام : « ويحشر على ما عليه مات ») . رواه مسلم وابن حبان .
(كما أنّه يقبض على ما كان عليه ، والمحتضر ما يكون إلّا صاحب شهود ، فهو صاحب إيمان بما ثمّ فلا يقبض إلّا على ما كان عليه ، لأنّ « كان » حرف وجوديّ لا ينجرّ معه الزّمان إلّا بقرائن الأحوال ؛ فيفرق بين الكافر المحتضر في الموت وبين الكافر المقتول غفلة أو الميّت فجأة كما قلنا في حدّ الفجأة .
وأمّا حكمة التّجلّي والكلام في صورة النّار ، فلأنّها كانت بغية موسى عليه السّلام ، فتجلّى له في مطلوبه ليقبل عليه ولا يعرض عنه ؛ فإنّه لو تجلّى له في غير صورة مطلوبه أعرض عنه لاجتماع همّه على مطلوب خاصّ ، ولو أعرض لعاد عليه فأعرض عنه الحقّ ، وهو مصطفى مقرّب ، فمن قربه أنّه تجلّى له في مطلوبه وهو لا يعلم .
كنار موسى رآها عين حاجته  .... وهو الإله ولكن ليس يدريه)

قال رضي الله عنه :  ( فأما موت الفجأة فحده أن تخرج النفس الداخلة ) مع الروح ، ( ولا تدخل النفس الخارجة ) حتى يكون للروح تردد بتردد النفس ، فيجد فرصة في الإيمان والتوبة ، ( وهذا موت الفجأة ) لا موت من قل زمن مرضه ، وإن كان أهل العرف يقولون فيه : مات فجأة على المجاز تشبيها له بالفجأة ،


قال رضي الله عنه :  ( وكذلك ) أي : مثل موت الفجأة في خروج النفس الداخلة ، وعدم دخول النفس الخارجة ، ( قتل الغفلة ) بأن ( يضرب عنقه من ورائه وهو لا يشعر ) ، كما لا يشعر صاحب موت الفجأة حتى يشتغل بتدارك ما فاته من الإيمان والتوبة ، ( فيقبض على ما كان عليه ) قبل الموت أو القتل ( من إيمان أو كفر ) ، إذ لم يكتسب عند الموت شيئا منهما حتى يصير ناسخا لما يقدمه ، فيصير ما كان عليه صفته اللازمة ؛ ( ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلّم : « يحشر المرء على ما مات عليه ») ، إذ لا يمكن للروح اكتساب شيء بدون البدن ، وهو إنما اكتسب ما قبل حال القبض فيما نحن فيه ، فيحشر عليه

قال رضي الله عنه :  ( كما أنه يقبض على ما كان عليه ) قبل القبض مما صار ناسخا لما قبله ، لكن المحتضر يكتسب حال القبض عندما يكون ناسخا لما قبله ؛ وذلك لأن ( المحتضر ما يكون إلا صاحب شهود ) ، إذ ينكشف بانكشاف ناصية ملك الموت ما في اللوح المحفوظ ، والشهود موجب للإيمان .

قال رضي الله عنه :  ( فهو صاحب إيمان بما ثم ) وإن لم تفده النجاة عن الخلود ، فيتصف بهذا الإيمان وإن لم يصر راسخا بمرور زمان بين هذا الإيمان وبين القبض ، بل وقع إيمانه في آن ، وقبضه في آن ثان ، ( فلا يقبض إلا بما كان عليه ) كما ورد به الحديث ، فإن لفظه كان فيه لا يدل على مرور الزمان كما تتوهمه العوام ؛ ( لأنه كان حرف وجودي ) ، أي : دال على وجود شيء ( لا ينجر معه ) ، أي : لا ينضم مع هذا المدلول له ( الزمان ) حتى يكون فعلا ، وليس باسم بالاتفاق فهو حرف ( إلا بقرينة الأحوال ) ،


أي : أحوال الموجودات إذا كان من مقتضاها البقاء مدة ولا قرينة في الحديث ، لكن لا يتحقق هذا الشهود والإيمان في حق الميت فجأة والمقتول غفلة ، ( فتفرق بين الكافر المحتضر ) بتخفيف العذاب ؛ لأنه مؤمن في حكم الكافر ، ( وبين الكافر المقتول غفلة ) والكافر ( الميت فجأة ) بتضعيف العذاب ؛ لأنه كافر من كل وجه ؛ ولذلك سماه كافرا غير مقبول فقط ، وسمي المحتضر مؤمنا تارة وكافرا أخرى ، وأشار إلى أنهما مع كفرهما يجب الفرق بينهما ، فلو كان فرعون الإيمان كان مستفيدا للتحقيق بسببه ؛ ولذلك ورد في التشديد في آله دونه .
ولما فرغ من بيان شهود المحتضر أشار إلى شهود الحي ،


فقال رضي الله عنه  : ( وأما حكمة التجلي ) لموسى ( والكلام معه في صورة النار ) لا بالظهور في مرآتها ، إذ يأخذ حكمها فلا يصح لها أن تقول :إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [ طه : 12 ] إني أنا اللّه رب العالمين ، وإذا جاز ظهور من له صورة في صورة غيره من غير تعلقه ببدنه كجبريل عليه السّلام في صورة دحية الكلبي  ، فظهور ما لا صورة له في ذاته في صورة شيء غير ممنوع ؛ ( فلأنها كانت بغية موسى ) ، إذ قال :إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً[ طه : 10 ] ،
وتلك الصورة وإن لم تكن عين بغيته في الواقع ، كانت عين بغيته في نظره ( تتجلى له في مطلوبه ) بحسب اعتقاده ؛ ( ليقبل عليه ) من كل وجه ، أي : من جهة كونه مطلوب الإقبال عليه بالنداء ، ومن جهة كونه طلبا لما هي صورته ، بل عينه في اعتقاده ( ولا يعرض عنه ) بوجه ،

قال رضي الله عنه :  ( فإنه لو تجلي له في غير صورة مطلوبة أعرض عنه ) من حيث إنه ليس مطلوبه ، وإن أقبل عليه من حيث دعي إلى الإقبال عليه ، لكن كان الراجح الإعراض ( لاجتماع همه على مطلوب خاص ) ، والإقبال والإعراض إنما يكون بذلك الهم ، فكأنه معرض عن الحق من كل وجه ، ( ولو أعرض ) عن الحق من كل وجه باعتبار من الاعتبارات ( لعاد ) أي : صار عمله الذي به إقبال الحق عليه وتجليه له وكماله معه مردودا عليه .

قال رضي الله عنه :  ( فأعرض عنه الحق ) ؛ لزوال سبب إقباله عليه ، ولكن لا يعرض عنه إذ ( هو مصطفى ) ، وكل مصطفى ( مقرب ) ، وإعراض الحق بعد ، فأسباب الإعراض أسباب البعد ، ومن جملتها التجلي في غير صورة مطلوبة ، ( فمن قربه أنه تجلى له في مطلوبه ) أي : صورة مطلوبة ، فكان نفس الحق في الواقع كان عين مطلوبه ، وإن كان ( هو لا يعلم ) أنه مطلوبه ، واستشهد بقول بعض المحققين : ( كنار موسى رآها عين حاجته ، وهو الإله المتصور بصورتها لا في مرآتها ، فكأنه كان عين حاجته ، ( ولكن ليس يدريه ) ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .

ولما فرغ من الحكمة العلوية التي بها استعلاء التصرف بالحق على المتصرف بنفسه ، شرع في الحكمة الصمدية التي بها الاستعلاء عنهم وافتقارهم إليه ؛ فقال : فص الحكمة الصمدية في الكلمة الخالدية

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:55 pm

26 - فص حكمة صمدية في كلمة خالدية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص الخالدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصّ الخالدي
26 - فص حكمة صمدية في كلمة خالدية  
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بالاستعلاء ؛ للاستغناء عن الكل مع افتقار الكل إليه ، ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى خالد بن سنان العنسي عليه السّلام ، إذ قصد أن يخبر عن الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها عن مشاهدة يعترف بها كل أحد من غير حاجة إلى معجزة ، ولا إلى تصديق نبي آخر ، وتصديق الأنبياء عليهم السّلام  يفتقر إلى هذا عند البعض ، وهؤلاء يفتقر في إثبات مدعاهم إلى شيء ،
"" أضاف المحقق :
إنما اختصت الكلمة الخالدية بالكلمة الصمدية ؛ لأن دعوته إلى الأحد الصمد ، ومشهده الصمدية وهجيره في ذكره الأحد الصمد ، وكان في قومه مظهر الصمدية يصمدون إليه في المهمات ، ويقصدونه في الملمات ، فيكشف اللّه عنهم بدعائه البليات . القاشاني . ""
 
وقصته : أنه كان يسكن عدن ، فخرجت نار عظيمة من مغارة ، فأهلكت الزرع والضرع ، فالتجأ إليه قومه ، فأخذ خالد يضرب تلك النار بعصاه من خلفها ،
ويقول : بدا بدا حتى ترد النار ، فرجعت هاربة منه إلى المغارة التي خرجت منها ، ثم قال لأولاده : إني أدخل المغارة خلف النار لأطفئها ، وأمرهم أن يدعوه ثلاثة أيام تامة ، فإنهم إن دعوه قبلها خرج ومات ، وإن صبروا تمام ثلاثة أيام خرج سالما ، وقد وضع عنهم مضرة النار ، فلما دخل صبروا يومين ،
واستفزهم الشيطان فظنوا أنه ربما هلك ، فصاحوا به فخرج من المغارة ويداه على رأسه من الألم الذي أصابه من صياحهم ،
 
فقال لهم : ضيعتموني وضيعتم قولي ووصيتي ، أخبرهم بموته وأمرهم أن يقبروه ويرقبوه أربعين يوما ، فإنه يأتيهم قطيع من الغنم يقدمها حمار أبتر مقطوع الذنب ، فإذا حاز قبره ووقف ، فلينبشوا عليه قبره ، فإنه يقوم ويخبرهم بأحوال البرزخ والقبر عن رؤية وشهود ، فتحصل الخلق كلهم على اليقين بما أخبرت الرسل عليهم السّلام ،
فمات خالد فدفنوه ، فانتظروا مضي الأربعين ، وورود قطيع الغنم ، فجاء القطيع يقدمه حمار أبتر ، فوقف حذا قبره ، فهمّ مؤمنو قومه أن ينبشوا عليه كما أمرهم ، فأبى أكابر أولاده خوفا من العار أن يقال لهم : أولاد المنبوش ، فحملتهم الحمية الجاهلية على ذلك ، وضيعوا وصيته وأضاعوه .
 
فلما بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جاءته بنت خالد عليه السّلام ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : " مرحبا بابنة نبي أضاعه قومه " ،
ورأيت في بعض التواريخ : « أنها سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ سورة الإخلاص فقالت : سمعت أبي يقرأها »  ، انتهى ، وهذا يدل على كون حكمته صمدية كما قال رحمه اللّه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا حكمة خالد بن سنان ؛ فإنّه أظهر بدعواه النّبوّة البرزخيّة ، فإنّه ما ادّعى الإخبار بما هنالك إلّا بعد الموت ، فأمر أن ينبش عليه ويسأل فيخبر أنّ الحكم في البرزخ على صورة الحياة الدّنيا ، فيعلم بذلك صدق الرّسل كلّهم فيما أخبروا به في حياتهم الدّنيا ، فكان غرض خالد عليه السّلام إيمان العالم كلّه بما جاءت به الرّسل ليكون رحمة للجميع ؛ فإنّه تشرّف بقرب نبوّته من نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وعلم أنّ اللّه أرسله رحمة للعالمين .
ولم يكن خالد برسول ، فأراد أن يحصل من هذه الرّحمة في الرّسالة المحمّديّة على حظّ وافر . ولم يؤمر بالتّبليغ ، فأراد أن يحظى بذلك في البرزخ ليكون أقوى في العلم في حقّ الخلق فأضاعه قومه ، ولم يصف النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قومه بأنّهم ضاعوا ، وإنّما وصفهم بأنّهم أضاعوا نبيّهم حيث لم يبلّغوه مراده ، فهل بلّغه اللّه أجر أمنيته ؟ فلا شكّ ولا خلاف أنّ له أجر أمنيته ، وإنّما الشكّ والخلاف في أجر المطلوب ؛ هل يساوي تمنّي وقوعه عدم وقوعه بالوجود أم لا ؟ ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( وأما حكمة خالد بن سنان ) ، أي : العلم اليقيني المختص به ، وهو العلم المستغني بإفادة اليقين عن غيره المفتقر إليه علوم سائر الأنبياء - عليهم السّلام - فيما أخبروا ، وهو التخلق أو التحقق بالصمدية ،
قال رضي الله عنه :  ( فإنه أظهر بدعواه للنبوة النبوة البرزخية ) أي : الإخبار عما يجب الإيمان به من أحوال البرزخ والقيامة بعد مصيره إلى البرزخ ، وهو عالم القبر المتوسط بين الدنيا والقيامة ، ( فإنه ما ادعى الإخبار بما هنالك ) ، أي : بما في البرزخ والقيامة
( إلا بعد الموت ) قبل القيامة إذا خرج من قبره بعد أربعين يوما ، ( فأمر أن ينبش عنه ويسأل ) من أحوال البرزخ والقيامة ، ( فيخبر أن الحكم ) ، أي : حكم أرواح الإنسان في التلذذ والتألم.
 
قال رضي الله عنه :  ( في البرزخ ) احتراز عن القيامة ، فإنها من عالم المحسوسات والمعقولات ( على صورة الحياة الدنيا ) ، أي : من عالم المثال ، فيراه من تمثل في خياله دون من لم يتمثل ؛ فلذلك لا يرى الحي إذا نبش عن الميت ما هو فيه .
 
قال رضي الله عنه :  ( فيعلم ) أي : يعلم كل واحد ممن يقدر على الاستدلال بالمعجزة لاطلاعه على الفرق بينهما وبين السحر ، وممن لا يقدر ( صدق الرسل كلهم فيما أخبروا به ) من أحوال البرزخ والقيامة ؛ فإنهم وإن أخبروا عن ذلك بالمشاهدة أو الوحي تقرر في قلوب العامة ، شهد أنهم أخبروا بذلك لا عن مشاهدة ؛ لأنهم كانوا ( في الحياة الدنيا ) ، فهم ومن أخبروهم سواء في عدم المشاهدة في زعمهم ،
قال رضي الله عنه :  ( فكان غرض خالد عليه السّلام ) بالإخبار عما هناك بعد الموت ( إيمان العالم كله بما جاءت به الرسل ) ؛ لأن حياته بعد الموت أقوى معجزة عند العامة ، وإخباراته تكون عن مشاهدة يعترف بها الكل ، فلا يبقي في معجزته شبهة الالتباس بالسحر ، ولا في إخباراته شبهة عدم المشاهدة لأحد ، فتطمئن قلوبهم إلى أخباره وإلى ما وافق أخباره
 
أخبار الأنبياء - عليهم السّلام ، فيقع التصديق للكل به وبهم عليه السّلام ، وإنما كان غرضه ذلك ؛ ( ليكون رحمة للجميع ) ، وإن لم يبعث إلى الجميع ، لكن عد نفسه من أتباع محمد عليه السّلام وإن تقدمه زمانا ، ( فإنه لشرف قرب نبوته من نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ) ، فكأنه مقارن له في الزمان ، فيجوز أن يكون له حكم المتابع له .
 
قال رضي الله عنه :  ( وعلم أن اللّه أرسله رحمة للعالمين ) ، فيجوز أن يكون لمتابعة نصيب من هذه الرحمة سيما من كان نبيّا ، ( ولم يكن خالد برسول ) حتى تمنع رسالته من متابعته ، إذ يكون الرسول صاحب شرع مستقل بخلاف من يمحض نبيّا ، ( فأراد أن يحصل من هذه الرحمة في الرسالة المحمدية على حظ وافر ) ؛ لأن حظ النبي في متابعة الرسول أوفر من حظ سائر المتابعين ،
 
وقد صار في حكم المقارن له حيث ( لم يؤمر بالتبليغ ) قبل الموت ، فكأنه لم يكن نبيّا أيضا ، فهو أولى بالتبعية ؛ ولذلك لم يعتبره نبيا عليه السّلام ، فقال : « أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ، فإنه ليس بيني وبينه نبي » . رواه البخاري ومسلم
 
قال رضي الله عنه :  ( فأراد أن يحظى بذلك ) الحظ الوافر من الرحمة الجامعة في الرسالة المحمدية ( في البرزخ ) الذي يكون بعض أجزاء مدته مفاوتة لزمان بعثة نبينا عليه السّلام ، وإنما المراد ذلك ؛ ( ليكون أقوى في ) إفادة ( العلم ) في ( حق ) عامة ( الخلق ) حتى أن يكون أقوى في حقهم من معجزات نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ، فإن في بعضها أمور دقيقة لا يطلع عليها إلا الحاذقون بالحقائق لأرباب الفطانة البتراء كالقرار ؛
 
ولذلك قال فيه بعض أرباب هذه الفطانة البتراء : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، ( فأضاعه ) عطف على قوله : فأراد ، الأخير ( قومه ) بأن لم ينبشوا عنه كما قال عليه السّلام لابنته ، وكان حقه أن يقول عليه السّلام لها : ضاعوا ، إذ الأنبياء لا يضيعون بل تحصل لهم الدرجات العالية ، وإنما يصير القوم ضائعين بتضييعهم وصاياهم ، ولكن لم يصف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قومه بأنهم ضاعوا ؛ لأنهم كانوا أصحاب إيمان به وبالرسل وإخباراتهم ،
 
قال رضي الله عنه :  ( وإنما وصفهم بأنهم أضاعوا نبيهم حيث لم يبلغوه مراده ) من إظهار النبوة البرزخية ، وإفادة العلم القوي للعامة بإخبارات الأنبياء عليهم السّلام ، وإيمانهم ، وحصول الحظ الوافر من الرحمة الجامعة المحمدية له ، وإذا كانوا مضيعين له لعدم إبلاغهم مراده ، ( فهل بلغه اللّه أجر أمنيته ) ، أي :
نيته وقصده ، ( فلا شكّ ) لأهل الكشف ( ولا خلاف ) بين أهل الظاهر في ( أن له أجر أمنيته ) ، فلا يكون تضييعه بتفويت هذا الأجر ، ( وإنما الشك والخلاف في أجر ) وقوع ( المطلوب ) بالتمني ( هل تساوى ) أجر ( تمني وقوعه ) به ، أي : قائما بالتمني لا يعتبره ، فإنه من تمنى وقوع المطلوب بغيره يكون له أجر التمني سواء وقع من التمني منه الوقوع أو لا مع ( عدم وقوعه في الوجود ) ، وإن وقع في الذهن ( أم لا ) ، وإنما وقع هذا الشرك والخلاف ؛ لتعارض نصوص الشرع .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنّ في الشّرع ما يؤيّد التّساوي في مواضع كثيرة : كالآتي للصّلاة في الجماعة فتفوته الجماعة فله أجر من حضر الجماعة ؛ وكالمتمنّي مع فقره ما هم عليه أصحاب الثّروة والمال من فعل الخيرات فله مثل أجورهم ، ولكنّ مثل أجورهم في نيّاتهم أو في عملهم فإنّهم جمعوا بين العمل والنّيّة ؟ ولم ينصّ النّبيّ عليهما ولا على واحد منهما ، والظّاهر أنّه لا تساوي بينهما . ولذلك طلب خالد بن سنان الإبلاغ حتّى يصحّ له مقام الجمع بين الأمرين فيحصل على الأجرين ، واللّه أعلم ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( فإن في الشرع ما يؤيد التساوي ) وفي ما يؤيد عدم التساوي كما نحن فيه ، وأما التساوي ، فهو ( كالآتي ) إلى المسجد ( للصلاة في الجماعة فتفوته الجماعة ، فله أجر من حضر الجماعة ) ؛ لقوله عليه السّلام : « من توضأ فأحسن وضوءه ، ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه اللّه مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا » . رواه البخاري ومسلم .
 
قال رضي الله عنه :  ( وكالمتمني ) من الفقراء مع بعده عن حصول متمناه ( ما هم عليه أصحاب الثروة ) ، أي : السعة ( والمال من فعل الخير ) كالصدقة ، وبناء المساجد والمدارس ، ( فله مثل أجورهم ) ؛ لقوله عليه السّلام : « إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه اللّه مالا وعلما ، فهو يتقي فيه ربه ، ويصل رحمه ، ويعمل للّه فيه بحقه ، فهذا بأفضل المنازل ، وعبد رزقه اللّه علما ولم يرزقه مالا ، فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فأجرهما سواء » . رواه أحمد في  المسند والترمذي .
 
قال رضي الله عنه :  ( ولكن ) ما بين الشارع ما به من المماثلة ، إذ لم يقل ( مثل أجورهم في نياتهم وفي عملهم ) ، فصار مجملا ؛ لأن المشبه به يحتمل أن يكون أجر النية أو العمل أو كليهما ، ( فإنهم جمعوا بين العمل والنية ) ، فلا يتعين أحد هذه الثلاثة إلا بالتنصيص من الشارع ،
ولكن ( لم ينص النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عليهما ) ، أي : على الجمع بينهما ، ( ولا على واحد منهما ) منفردا ، فبقي مجملا ، ولكن ( الظاهر ) من قوله عليه السّلام في حق خالد أنه أضاعه قومه يدل على
قال رضي الله عنه :  ( أنه لا تساوي بينهما ) ، فصار بيانا لهذا المجمل ، وكيف يساوي أجر المنفرد بأحدهما أجر الجامع بينهما ؛
 
قال رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي : ولعدم تساوي أجر الانفراد مع أجر الجمع ( طلب خالد بن سنان فعل الإبلاغ ) ، ولم يكتف بتمنيه ( حتى يصح له مقام الجمع بين الأمرين ) أجر التمني وأجر الفعل ، ( فيحصل على الأجرين ) أجر ما استقل به من النبوة ، وأجر ما قصد من الحظ الوافر من الرحمة المحمدية ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
 
ولما فرغ من الحكمة الصمدية التي غايتها الجمع بين الكمالات كلها ، والجمع إنما يتصور أقله من شيئين فهو مرتبة ثالثة بعد المرتبتين ، والثلاثة أول العدد الفرد عقبها بالحكمة الفردية ؛فقال : فص حكمة فردية في كلمة محمدية.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:56 pm

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
الفصّ المحمدي
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إنّما كانت حكمته فرديّة لأنّه أكمل موجود في هذا النّوع الإنسانيّ ، ولهذا بدأ به الأمر وختم ، فكان نبيّا وآدم بين الماء والطّين ، ثمّ كان بنشأته العنصريّة خاتم النبيّين ، وأوّل الأفراد الثّلاثة ، وما زاد على هذه الأوّليّة من الأفراد فإنّها عنها ، فكان صلّى اللّه عليه وسلّم أدلّ دليل على ربّه ، فإنّه أوتي جوامع الكلم الّتي هي مسمّيات أسماء آدم فأشبه الدّليل في تثليثه ، والدّليل دليل لنفسه ) .
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بجميع الكمالات التي أولها الفردية الأولى ، ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى سيد الكائنات محمد المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى آله وسلم ؛ لكونه أجمع لكمالات الأولين والآخرين من الرسل والأنبياء والملائكة والأولياء ؛ فلذلك وقع في بعض النسخ حكمة كلية ؛
"" أضاف المحقق :
(إنما اختصت الكلمة المحمدية بالحكمة الفردية ؛ لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم أول التعينات الذي تعين به الذات الأحدية قبل كل تعين فظهر به من التعينات الغير المتناهية ، وقد سبق أن التعينات مرتبة ترتيب الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص مندرج بعضها تحت بعض ؛ فهو يشمل جميع التعينات . ) القاشاني ""
 
وإليه الإشارة بقوله : ( إنما كانت حكمته ) ، أي : العلم المختص به ( فردية ) ؛ لأنها جمعية ، وأولها الفردية الأولى ، وإنما كانت حكمته جمعية ؛ ( لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني ) الذي هو أكمل أنواع الموجودات ، فهو في أقصى مراتب جمع الكمالات ؛
( ولهذا ) أي : ولكونه في أقصى مراتب جمع الكمالات ، وهي مطلوبة بالذات ، ( بدئ به الأمر ) ، أي : أمر الكمالات الإنسانية من النبوة والولاية النبوية والرسالة ( وختم ) به ؛ لأنه لما كان مطلوبا بالذات كان صلة غائية ، ومن شأنها التقدم في الذهن ، والتأخر في الخارج ،
( فكان ) باعتبار روحه الجامع للكمالات ( نبيّا ) ، واكتفي بذكره عن ذكر اللازم وهو الولاية ، ولم يذكر الرسالة ؛ لأنها باعتبار انتسابها إلى المبعوث إليهم تتوقف عليهم ، ( وآدم بين الماء والطين ) ، أي : لا ماء ولا طينا ، فإن المتوسط من الأمرين لا يكون عين أحدهما ؛ وذلك لأن نبوته ذاتية ككمالاته بخلاف كمالات غيره ، فتوقفت نبوته على شرائط .
 
( ثم ) أي : بعد كونه نبيّا ، وآدم بين الماء والطين ، ( كانت نشأته العنصرية ) التي بها آخريته ( خاتم النبيين ) قبل الوحي وبعد ، لكن إنما اشتهرت نبوته عند الوحي ؛ ولذلك لم  تعتبر العامة ما قبل ذلك ، فحصلت الجمعية بين أولية النبوة وآخريتها ، وهي مرتبة ثالثة ، ( وأول الأفراد ) أي : الأعداد المفردة ، وهي التي لا تنقسم بالمتساويين ( الثلاثة ) ، فكانت حكمته فردية ، وجمعيته وإن زادت على هذه الفردية الثلاثية ، فهي الأصل ؛
لأن ( ما زاد على هذه الفردية الأولية من الأفراد ) أي : الآحاد فإنه ناشز عنها ، فإنه لولا الجمعية لم ينضم فرد إلى آخر ، وقد ناسب بهذه الفردية فردية الحق في جمعه بين الذات والصفات والأسماء ، وقد زاد عنها الأفعال ، ( فكان أدل دليل على ربه ) لظهوره بجميع ذلك فيه ، والدليل عليه جمعية كلمته ؛ لأنها عن كمال العلم ، وهو بمشاهدة المعلومات بمرآة الحق الموجبة لكمال تجليه ، ( فإنه « أوتي جوامع الكلم")، رواه ابن حبان
 
كما ورد به الخبر ، وهي جامعة الأسماء آدم التي فضل بها الملائكة ؛ لدلالتها على الحقائق ( التي هي مسميات أسماء آدم ) ، لكنه عليه السّلام علمها بالألفاظ المتفرقة ، ونبينا عليه السّلام علمها بالألفاظ الجامعة لكمال جمعيته ، ولما كان أدل دليل على ربه باعتبار هذه الفردية ، ( فأشبه الدليل ) النظري ( في تثليثه ) من تركبه من أصغر وأوسط وأكبر ، أو من ملزوم ولازم واستثناء ، أو من متعاندين واستثناء ، أو من أصل وفرع وجامع ، أو من كلي وأكثر جريانه وحكمها ( والدليل دليل لنفسه ) ؛ لأنه عبارة عن المركب من أقوال متى سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر ، فكانت نبوته التي عن هذه الدلالة أيضا لنفسه ، وكذا الولاية إلا أنها لما كانت لخاتم الأولياء في الظاهر نسبت إليه ، وجعلت كأنها ذاتية له مع أنها دون رسالة الرسل التي هي دون ثبوتهم التي هي دون ولايتهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا كانت حقيقته تعطي الفرديّة الأولى بما هو مثلّث النشأة لذلك قال في باب المحبة التي هي أصل الوجود : " حبّب إليّ من دنياكم ثلاث" ) . رواه أحمد، والنسائى، وابن سعد، وأبو يعلى، والحاكم، والبيهقى، وسمويه، والضياء عن أنس وأورده السيوطي في الجامع الصغير  وضعففه العقيلي وذكره ابن حجر في « لسان الميزان » والعجلوني في كشف الخفاء .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بما فيه من التّثليث ، ثمّ ذكر النّساء والطّيب وجعلت قرّة عينه في الصّلاة ، فابتدأ بذكر النّساء وأخّر الصّلاة ،  وذلك لأنّ المرأة جزء من الرّجل في أصل ظهور عينها ، ومعرفة الإنسان بنفسه مقدّمة على معرفته بربّه ، فإنّ معرفته بربّه نتيجة عن معرفته بنفسه لذلك قال صلّى اللّه عليه وسلّم : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » .
فإن شئت قلت بمنع المعرفة في الخبر والعجز عن الوصول فإنّه سائغ فيه ، وإن شئت قلت بثبوت المعرفة ؛ فالأوّل أن تعرف أن نفسك لا تعرفها فلا تعرف ربّك ؛ والثّاني أن تعرفها فتعرف ربّك ، فكان محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم أوضح دليل على ربّه ، فإنّ كلّ جزء من العالم دليل على أصله الّذي هو ربّه ؛ فافهم ).
 
ثم استدل على هذه الفردية بأن وجوده كان عليها ، فقال : ( ولما كانت حقيقته )
المقتضية لهذه الكمالات التي هي النبوة والولاية النبوية والرسالة ( تعطي الفردية الأولى ) ، وهي الذات الإلهية وصفاتها وأسماؤها كمالا لظهورها ( بما هو مثلث النشأة ) من الذات والصفات ، ولمعان أوجدها الحق ليحبها وتحبه ؛ ( لذلك قال في باب المحبة التي هي أصل الوجود ) ، أي : سبب وجود الموجودات في قوله عزّ وجل : « كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن أعرف » .
فلا يحب شيئا إلا ليتوسل به إلى حب أحد الثلاثة وإن كان غيره بحب ذلك الشيء لمعنى أدنى منه ( « حبب إليّ من دنياكم ثلاث ») ، فذكروا له الثلاث ( بما فيه من التثليث ) الموجب محبة تثليث الحق ، ومحبة كل تثليث يتوسل بها إلى محبة تثليث الحق ، ( ثم ذكر ) تفصيل الثلاث التي يتوسل بها إلى محبة تثليث الحق ، ( النساء ) لحب الذات ، ( والطيب ) لحب الصفات ، ( « وجعلت قرة عينه في الصلاة ») ؛ لحب الأسماء .
( فابتدأ بذكر النساء ) ؛ لتقدم اعتبار الذات ، ( وأخر الصلاة ) لتأخير اعتبار الأسماء ، إذ هي مجموع الذات والصفات ،
( وذلك ) أي : كون حب النساء حب الذات ؛ ( لأن المرأة جزء من الرجل ) لا في ظهور جميع أفرادها ، بل ( في أصل ظهور عينها ) ؛ لأن حواء خلقت من ضلع آدم عليه السّلام ، فحبها حب الشيء لجزئه الذي هو على صورته ، فهو مظهر حب الحق لما هي على صورته ، ومرجعها حب الشيء لنفسه الموجب لمعرفتها الموجبة لمعرفة ربه ، إذ ( معرفة الإنسان بنفسه ) الحاصلة من حبها ، ( مقدمة على معرفته بربه ) الموجبة لحبه ، ( فإن معرفته بربه نتيجة عن معرفته بنفسه ) ، والنتيجة مؤخرة عن المنتج ، فمعرفة النفس دليل على معرفة الرب المستلزمة لحبه ، والدال على الملزوم دال على اللازم ، فهي دلالة على حبه ؛


( ولذلك ) أي : ولإنتاج معرفة النفس معرفة الرب ، ( قال عليه السّلام :" من عرف نفسه ، فقد عرف ربه") .
ولما كانت هذه مقدمة واحدة لا تكفي في النتيجة ، ( فإن شئت قلت بمنع المعرفة ) ، أي : معرفة الرب والنفس ( في هذا الخبر ) ، وإن كان العوام يجزمون بالثبوت فيه ، وعلى هذا هو دليل ( العجز عن الوصول ) إلى معرفتهما ، فلا يعرف من الذات الإلهية سوى التنزيهات ، وهي أمور عدمية الإضافات أو بعض الصفات بوجه مناسبتها ، ولا يعرف من النفس الإنسانية سوى التجرد من المادة ، وهو من الأمور العدمية أو التدبير للبدن.
وهو بعض صفاته ( وإن شئت قلت بثبوت المعرفة ) ، أي : معرفتهما ، ولما كان المراد من الملازمة تعليق معرفة الرب بمعرفة النفس بحيث إذا عرف النفس عرف الرب ، وإذا لم يعرف النفس لم يعرف الرب ، لا الاستدلال بوجود الملزوم على وجود اللازم ، وبعدم اللازم على عدم الملزوم ، فإن ذلك يختص بأهل النظر ،


( فالأول ) وهو : منع معرفتهما ( أن تعرف أن نفسك لا تعرفها ، فلا تعرف ربك ) وإن كان لا دلالة لعدم الملزوم على عدم اللازم ، ( والثاني : أن تعرفها فتعرف ربك ) ، وإن لم يلزم من وجود السبب وجود المسبب ، إلا أن التعليق يفيد ذلك في عرف أهل العربية ، فالرب لا يعرف باعتبار استقراره في مقر عزه ، ويعرف باعتبار ظهوره في النفس ، والنفس لا تعرف بحسب حقيقتها ، وإنما يعرف بعض صفاتها ، وهذه المعرفة بالحق عن ظهوره في المظاهر تتفاوت بحسب تفاوت المظاهر كمالا ونقصا ، ونفس الإنسانية أكمل من سائر ما في العالم ، ونفوس الأنبياء عليهم السلام أكمل من نفوس العامة ، ونفس نبينا عليه السّلام أكمل من نفوس الأنبياء عليهم السّلام .
( فكان صلّى اللّه عليه وسلّم أوضح دليل على ربه ) يدل على رب الأرباب ، ونفوس سائر الأنبياء على أربابهم الكلية التي هي كالجزئيات لرب الأرباب ، وأجزاء العالم تدل على أرباب الجزئية لأربابهم ، ( فإن كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربه ) من الأسماء الإلهية الجزئية التي تستند وجود تلك الأجزاء إليها ، وقد نمت تلك الدلالة عن حبه النساء من حيث إنهن أجزاؤه ، وكذا نفوس الأنبياء وسائر ما في العالم ، فاجتمعت فيه دلالات الكل ، فدل بالأصالة على رب الأرباب ، وبحبه للنساء وأجزاء العالم على الأرباب الجزئية ؛ ( فافهم ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنّما حبّب إليه النّساء فحنّ إليهنّ لأنّه من باب حنين الكلّ إلى جزئه ، فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحقّ في قوله في هذه النّشأة الإنسانيّة العنصريّةوَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ الحجر : 29 ] ، ثمّ وصف نفسه بشدّة الشّوق إلى لقائه فقال للمشتاقين : « يا داود إنّي أشدّ شوقا إليهم » .
يعني : للمشتاقين إليه وهو لقاء خاصّ ، فإنّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال في حديث الدّجّال" إنّ أحدكم لن يرى ربّه حتّى يموت" . رواه الترمذي
؛ فلا بدّ من الشّوق لمن هذه صفته ، فشوق الحقّ لهؤلاء المقرّبين مع كونه يراهم فيحبّ أن يروه ويأبى المقام ذلك ، فأشبه قوله : "حَتَّى نَعْلَمَ" [ محمد : 31 ] مع كونه عالما فهو سبحانه وتعالى يشتاق لهذه الصّفة الخاصّة الّتي لا وجود لها إلّا عند الموت ، فيبلّ بها شوقهم إليه كما قال تعالى في حديث التّردّد وهو من هذا الباب : « ما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بدّ له من لقائي » . رواه البخاري    
 فبشّره بلقائه ، وما قال له ولا بدّ له من الموت لئلا يغمّه بذكر الموت ، ولمّا كان لا يلقى الحقّ إلّا بعد الموت كما قال عليه السّلام : « إنّ أحدكم لا يرى ربّه حتّى يموت » لذلك قال تعالى : « ولا بدّ له من لقائي » ؛ فاشتياق الحقّ لوجود هذه النّسبة .
يحنّ الحبيب إلى رؤيتي   ..... وإني إليه أشدّ حنينا
وتهفو النّفوس ويأبى القضا  .... فأشكو الأنين ويشكو الأنين
افلمّا أبان أنّه نفخ فيه من روحه ، فما اشتاق إلّا لنفسه ) .
ثم استشعر سؤالا بأن أجزاء العالم لم تشارك النساء في جزئيته عليه السّلام ، فلما خصت النساء بالتحبب دون سائر أجزاء العالم ، فقال : ("وأنا حببت إليّ النساء " ) ؛ لأن الجزئية فيهن أظهر لمجانستهن إياه ، والمجانسة سبب الحب ، وانضمت إليه الجزئية ( فحن إليهن ) دون أجزاء العالم ( حنين الكل إلى جزئه ) المناسب له ، فشبه بذلك في حب ربه لمن خلقه على صورته المعنوية من الحياة والعلم ، والإرادة والقدرة ، والسمع والبصر والكلام فأبان أي :
صار صلّى اللّه عليه وسلّم ( بذلك ) ، أي : بهذا الحب ثباتا ( على الأمر ) ، أي : أمر الحب ( في نفسه ) الذي كان ( من جانب الحق ) لعباده الكمّل ، وهو المذكور ( في قوله ) الوارد في حق ( هذه النشأة الإنسانية العنصرية ) الشاملة على مرايا هذه الصفات ،( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ الحجر : 29]
، فأشار إلى حبه إياها بنفخ الروح المشرف بإضافته إليه ؛ لمناسبته إياه في التجرد وسائر الصفات الوجودية ، وإن كانت في غاية البعد عنه من حيث العنصرية .
( ثم ) أي : بعد الإشارة إلى حبه لها بهذا النفخ ، ( وصف نفسه بشدة الشوق إلى لقائه ، فقال ) فيما أول على داود عليه السّلام ؛ لبيان شوقه ( للمشتاقين ) من جملة الأبرار : « ( يا داود ) طال شوق الأبرار إلى لقائي ، ( "وإني أشد شوقا إليهم "  ) ، ولكن لا يغني كل مشتاق إلى رؤيته ، فإنها من حظوظ النفس ، وإنما ( يعني للمشتاقين إليه ) ، أي : إلى ذاته بالغناء فيه والبقاء به ، فإن الحق وإن اشتاق إلى لقيا كل مشتاق ، لكن لا يوصف بشدة الشوق إلا بالنسبة إلى من اشتد شوقه إليه وهو المشتاق لذاته ، واللقاء وإن كان أعم من لقاء الرؤية ، ولقاء الفناء والبقاء ، فلقاء الفناء والبقاء ( هو لقاء خاص لهم ) ، وهو إنما يحصل بالموت حال الحياة كما أن لقاء الرؤية إنما يحصل بالموت الطبيعي .
 
( فإنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال في حديث الدجال ) ؛ لبيان بطلان إلهيته بكونه يراه الأحياء بلا فناء عن ذواتهم وبقائهم به : ( " إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت " ) ، إما الموت الطبيعي أو موت الفناء عن نفسه ، وهذا وإن فني عن نفسه ، ( فلا بدّ له من الشوق لمن هذا صفته ) ، وإذا كان لقاؤهم ببقائهم ،
( فشوق الحق لهؤلاء المقربين ) بالفناء والبقاء ( مع كونه يراهم ) مظاهر كاملة له أن يرى ذاته برؤيتهم له ، ( فيحب أن يروه ) ، وإن كان يرى ذاته بذاته ؛ ليحصل له في ذاته رؤية ، ولكن ( يأبى المقام ) الإلهي ( ذلك ) أن يحدث فيه رؤية ، لكنه بالرؤية القديمة تحدث له نسبة عن رؤيتهم ، ( فأشبه قوله :حَتَّى نَعْلَمَ) بعلمهم الأشياء ( مع كونه عالما ) بها بنفسه ، فالحق وإن رأى أكثر صفاته ظهرت فيهم على الكمال لم ير فيهم ظهور صفة بصره بحيث يبصرونه ؛ ليرى ذاته برؤيتهم بعد رؤيته بذاته .
 
( فهو ) أي : الحق ( يشتاق ) إلى لقائهم ( لهذه الصفة الخاصة ) ، وإن كان ظهورها يستلزم بطلان ظهور أكثر الصفات ؛ لأنها ( التي لا وجود لها ) لا عنه لموت المبطل لمظهرية أكثر الصفات إلا أنه يشتاق إليها ؛ لأن لها خصوصية ببعض المظاهر الكاملة في الغاية ، وإذا كانت هذه الصفة التي اشتاقوا إليها لا تحصل ( إلا بالموت ) شوقهم إلى الموت مع كراهتهم إياه ، لكنهم يتحملون تلك الكراهة لخصوصية هذه الصفة ( فيبل بها ) ، أي : بهذه الصفة ( شوقهم ) ؛ ليسهل عليهم بحمل الموت ، لأنهم إذا علموا أن للحق شوقا إلى هذه الصفة ازداد شوقهم ( إليه ، كما قال تعالى في حديث التردد ) ما يشير إلى [ . . . ] .
 
 شوق المؤمنين بهذه الصفة ؛ ليهون عليهم محمل الموت من أجلها ، ( وهو ) أي : حديث التردد ( من هذا الباب ) ، أي : شوق الحق إلى لقاء المؤمن لهذه الصفة الخاصة ( ما ترددت ) ، أي : أخرت ( في فعل ) خير من خير وشر ( أنا فاعله كترددي في قبض ) نفس ( عبدي المؤمن ) حتى يرضى بقبضها بالتشويق إلى لقائي ؛ لأنه ( يكره الموت ) بسنية الموت بدون هذا الشوق ، ( وأنا أكره مساءته ) ، فأنا أكره له الموت ، ولكن ( لا بد له من لقائي ) لاشتياقه إليّ ، وأنه أشد شوقا إلى لقائه ، ولكن اللقاء لا يحصل إلا بالموت ، فلابدّ من الموت ، لكنه لم يصرح به ، واقتصر على ذكر اللقاء ، ( فبشره ) بمحض بشارة في اللفظ ، ( وما قال : لا بدّ له من الموت ) ، وإن تضمنته بشارة اللقاء ( لئلا يغمه بذكر الموت ) وهو إساءة وقد كرهها ، ولكنه صار في حكم المذكور ؛ لأنه ( لما كان لا يلقى الحق إلا بعد الموت ) بحسم القضاء الإلهي ، وإن أمكن عقلا لقاؤه بدونه ( كما قال عليه السّلام : « إن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت » ) ، فكأنه ذكره مع الإشارة إلى أنه لم يذكره لما فيه من الإساءة .
( لذلك قال تعالى ) في مقام ذكر الموت : ( « ولا بدّ له من لقائي ») ، وإذا كان تردد الحق في الموت الطبيعي لهذه النسبة ، ( فاشتياق الحق ) فيما نحن فيه ( لوجود هذه النسبة ) ، أي : هذه الصفة التي هي نسبة حادثة ، وإلا فلا حدوث في صفته تعالى ، ولو كانت هذه النسبة للحق باعتبار ذاته كان الاشتياق إليها أشد من اشتياق العبد إلى لقاء ربه ؛ لأن نفس الشيء أحب إليه من كل ما عداه ، فكأنه تعالى يقول بلسان الحال : ( يحن ) ، أي : اشتياق
 
( الحبيب إلى رؤيتي ، وأنا إليه أشد حنينا ) ، ولكن لا يحصل المشتاق إليه إلا بالموت وهو مما ( تهفو ) ، أي : تضطرب له ( النفوس ) ، ولكن ( يأبى القضاء ) الإلهي حصول المشتاق إليه بدونه ، ( فأشكو الأنين ) من كراهة إساءته ، ( ويشكو الأنينا ) من الموت ، وإذا كان شدة اشتياق الحق إلى لقائهم لما فيه من رؤيته ذاته برؤيتهم بعد رؤيتها بنفسه لشدة زيادة ، والزيادة تنبغي أن تكون من جنس المزيد عليه ، فأصل شوقه أيضا إلى رؤية ذاته بصور المظاهر .
 
( فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه ) المضاف إليه لاتصافه بصفاته من التجرد والحياة والعلم ، والإرادة والقدرة ، والسمع والبصر والكلام والتعلق ، وقد جعلنا فيه بالقوة ، ولا يخرج إلى الفعل إلا بهذا المظهر الجسماني ، ( فما اشتاق ) في أصل الاشتياق ( إلا إلى نفسه ) ؛ ليراها في المظهر الكامل الإنساني .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا تراه خلقه على صورته لأنّه من روحه ؟ ولمّا كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسمّاة في جسده أخلاطا ، حدث عن نفخه اشتعال بما في جسده من الرّطوبة ، فكان روح الإنسان نارا لأجل نشأته ، ولهذا ما كلّم اللّه موسى إلّا في صورة النّار وجعل حاجته فيها ، فلو كانت نشأته طبيعيّة لكان روحه نورا ، وكنّى عنه بالنّفخ يشير إلى أنّه من نفس الرّحمن ، فإنّه بهذا النّفس الّذي هو النّفخة ظهر عينه ، وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارا لا نورا ، فبطن نفس الحقّ فيما كان به الإنسان إنسانا ، ثمّ اشتقّ له شخصا على صورته سمّاه امرأة ، فظهرت بصورته فحنّ إليها حنين الشّيء إلى نفسه وحنّت إليه حنين الشّيء إلى وطنه ، فحبّب إليه النّساء ، فإنّ اللّه أحبّ من خلقه على صورته وأسجد له ملائكته النّوريّين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلوّ نشأتهم الطّبيعيّة ).
 
( ألا تراه خلقه على صورته ) التي ذكرناها ، وإنما كان على صورته ؛ ( لأنه ) أي :
الروح الإنساني إنما حصل ( من روحه ) ، أي : الروح الإلهي ، أي : معنى الإلهية من الذات والصفات المذكورة ، فيدبر هذا الروح الإنساني بدنه ، كما يدبر الروح الإلهي الأرواح والأجسام ، فهو روح الأرواح والأجسام جميعا ، إلا أنه لا يشتغل فيما يدبره ، وهذا الروح الإنساني له اشتغال في البدن ؛ وذلك لأنه ( لما كانت نشأته ) ، أي : الإنسان باعتبار بدنه ( من هذه الأركان الأربعة ) التراب ، والماء ، والهواء ، والنار ( المسماة في جسده أخلاطا ) ، فالسواد تراب ، والبلغم والدم هواء ، والصفراء نار
 ( حدث عن نفخه ) ، أي : نفخ الإله فيه الروح ( اشتعال ) النار المكونة في مزاجه ( بما في جسده من الرطوبة ) ، إذ لا تقبل النار يابسا محضا كالتراب ، ولا رطبا محضا كالماء ، بل القائل له الرطوبة مع اليبوسة ، ( فكان روح الإنسان ) مع كونه على صورة الحق في أصله ( نارا لأجل نشأته ) المشتملة بنفخه ؛ لصيرورتها بالرطوبة كالقبلة المبلولة بالدهن .
 
( ولهذا ) أي : ولصيرورة روح الإنسان نارا ( ما كلم اللّه موسى إلا في صورة النار ) ؛ لأنه عرف نفسه بصورة النار ، فلا يعرف ربه إلا بتلك الصورة ، وقد تقررت هذه الصورة فيه ، إذ قد ( جعل حاجته فيها ) ، والحاجة لا بدّ وأن تنطبع صورتها في النفس ، وإذا كانت نارية الروح الإنساني لأجل نشأته العنصرية ، ( فلو كانت نشأته طبيعية ) كنشأة العرش والكرسي ، ( لكان روحه نورا ) كالملائكة العلوية المدبرة لهما ، ( وكني عنه ) أي : عن جعل الروح النوري من كونه على صورة ربه نارا ( بالنفخ ) ، وهو عبارة عن إخراج الهواء من بطن النافخ إلى المنفوخ فيه ، ولا يتصور ذلك في حق اللّه تعالى ، فهو ( يشير إلى أن الروح من نفس الرحمن ) الذي به إخراجه ما في علمه إلى العين .
( فإنه بهذه النفس الذي هو النفخة ) في حق اللّه تعالى ( ظهر عينه ) من خفاء العلم إلى نور الوجود ، فهو بهذا الاعتبار نور ، ولكنه ( باستعداد المنفوخ فيه ) من حيث اشتماله على النار مع الرطوبة ( كان الاشتعال نارا ) ، فتوهم بعضهم من ذلك أن الروح جسم لطيف سار في البدن ، خفيت نوريته ( لا نورا ) ، وإن كان من نفس الرحمن المقتضي كونه نورا ، وإليه نظر من قال بتجرده ، لكنه إذا صار نارا ( فبطن نفس الرحمن ) . ، وإن كان به الظهور ، ( فيما كان به الإنسان إنسانا ) وهو الروح المشتعل به بدنه ، وإلا فالبدن المجرد جماد ، فلا يكون حيوانا فضلا عن الإنسان والروح المجرد ملك ، فالغير لناريته التي بها أخذ من قال بجسمانيته ، لكنه في الأصل على المتجرد واشتياق الحق إليه ؛ لذلك حتى إذا اشتد تجرده وكمل ، اشتد شوق الحق إليه .
 
( ثم ) أي : بعد ما خلقه على صورته واشتاق إليه ؛ لذلك أراد أن يخلق على صورة من خلقه على صورته شخصا آخر ، ويجعل من خلقه على صورته أولا مشتاقا إلى ذلك الشخص الآخر ؛ ليكون مظهرا لهذا الآخر ، وحينئذ ( اشتق له ) ، أي : لمن خلقه على صورته أولا ( شخصا على صورته ، فسماه امرأة ، فظهرت بصورته ) في الإنسانية وإن خالفته بالربوبية ، ( فحن ) المخلوق على صورة الحق أولا ( إليها حنين الشيء إلى نفسه ) ، فكان مظهر الحن ، الحق ذاته في حبه لمن خلقه على صورته ، ولما ظهر حب الحق فيمن خلقه على صورته وهو الرجل ، ظهر حب المخلوق على صورته فيمن خلق على صورته ،
وهو المرأة وحينئذ ( حنت إليه حنين الشيء إلى وطنه ) ، إذ لم يخلق على صورتها شيء دونها ، فرجعت إلى الأعلى ، فرجع الرجل إلى حب الحق بواسطة حبه إياها الموجب لحبها إياه ؛ ( فحبب إليه النساء ) على وجه المبالغة ،
( فإن اللّه أحب من خلقه على صورته ) ، وبالغ فيها حتى ( أسجد له ملائكته النوريين على عظيم قدرهم ) ، فإن نورانيتهم إلى نورانية أرواح الإنسان ، كنار عظيمة إلى السراج ( ومنزلتهم ) ؛ لأن نورهم أشبه بنور الحق ، إذ لم يصر بصورة النار ، ( وعلو نشأتهم الطبيعية ) بحيث لم يعارضها دنو النشأة الحيوانية والنباتية ، فإذا بالغ عليه السّلام في حب النساء مثل مبالغته تعالى في حب من خلقه على صورته .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن هناك وقعت المناسبة ، والصّورة أعظم مناسبة وأجلّها وأكملها ؛ فإنّها زوج أي شفعت وجود الحقّ ، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرّجل فصيّرته زوجا ، فظهرت الثّلاثة : حقّ ورجل وامرأة ؛ فحنّ الرّجل إلى ربّه الّذي هو أصله حنين المرأة إليه ، فحبّب إليه ربّه النّساء كما أحبّ اللّه من هو على صورته ، فما وقع الحبّ إلّا لمن تكوّن عنه ، وقد كان حبه لمن تكوّن منه وهو الحقّ ؛ فلهذا قال : « حبّب » ولم يقل أحببت من نفسه لتعلّق حبّه بربّه الّذي هو على صورته حتّى في محبّته لامرأته ؛ فإنّه أحبّها بحبّ اللّه إيّاه تخلّقا إلهيّا .).
"" أضاف المحقق :
كلا من الحنين حب من ذوي الصورة إلى الصورة فيكون منشأ حبه هذا هو التخلف فلا يكون سند إلى نفسه ؛ فلذلك جاء بصفته حبب على الباء للمفعول ولم يسنده إلى نفسه .عبد الرحمن  الجامي ""
( فمن هناك وقعت المناسبة ) بينه عليه السّلام ، وبين ربه عزّ وجل بظهور كمال صورة الحق فيه سيما من جملة مبالغته في حبه من خلقه على صورة ، ( والصورة أعظم مناسبة ) ؛ لأنها تجمع من وجوه المشاركة ما لا تجمعها غيرها ، ( وأجلها ) لجلالة كل شيء عنده ( وأكملها ) ؛ لإفادتها زيادة ظهور الشيء والظهور محبوب ، ( فإنه زوج ) لحقيقة الشيء المفرد حتى في حق اللّه تعالى ، ( أي : شفعت وجود الحق ) في ظهوره له ، إذ ظهر له في المظهر بعد ظهوره في ذاته ، فكان كمالا لظهوره بعد الكمال الأول له ، والكمال محبوب ( كما كانت المرأة ) محبوبة للرجل ؛ لأنها من ( شفعت بوجودها ) وجود ( الرجل ، فصيرته زوجا ) بعد انفراد صورته في الإنسانية مرآة ظهور الإنسانية بالصور المختلفة الحقيقية ، وعادت بهذه الشفعية فردية الحق في الظهور .
( فظهرت الثلاثة حق ورجل وامرأة ) ، والواحد أصل الشفع ، والأصل محبوب للمرأة ، إذ لم يكن لها محبوب دونها ، فرجع الرجل إلى حب الأصل ، ( فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه ) ، وكان ذلك من حبه إياها الجاعل محبوب لمحبوب محبوبا ، والمحبوب هنا الأصل من حيث هو أصل ،
( فحبب إليه ربه النساء ) ؛ ليكون ربه محبوبا له ( كما أحب اللّه من هو على صورته ) كحبه ، وإذا صار الحق محبوبا يحب الرجل امرأته ، ( فما وقع الحب ) ، أي : حب الرجل في الظاهر ( إلا لمن تكون عنه ) ، أي : عن الرجل وهو المرأة ، ( وقد كان ) في الباطن ( حبه لمن يكون ) الرجل منه ( وهو الحق ؛ فلهذا ) أي : ولكون حب المرأة حب الحق ( قال عليه السّلام : « حبب » ، ولم يقل : أحببت ) الموهم لكون حبه ( من نفسه ) ، فأزال ذلك الوهم بقوله : « حبب » ؛ ( فعلق حبه ) لامرأته ( بربه ) ، فإن إسناده إليه المفهوم من حذف الفاعل لتعينه ، يشعر برجوع هذا الحب إليه في الباطن من جهة المحبية التي هي راجعة إلى محبوبية الذات ؛ لأنه الذي هو على صورته في كل حال حتى في محبته لامرأته ، ( فإنه أحبها بحب اللّه إياه تخلقا إلهيّا ) ، ويرجع هذا الحب منه إلى حبه لذاته ، ثم إلى حبه لذات الحق من حيث إنه الأصل ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا أحبّ الرّجل المرأة طلب الوصلة أي : غاية الوصلة الّتي تكون في المحبّة فلم يكن في صورة النّشأة العنصريّة أعظم وصلة من النّكاح ، ولهذا تعمّ الشّهوة أجزاءه كلّها ، ولذلك أمر بالاغتسال منه ، فعمّت الطّهارة كما عمّ الفناء فيها عند حصول الشّهوة ، فإنّ الحقّ غيور على عبده أن يعتقد أنّه يلتذّ بغيره ، فطهّره بالغسل ليرجع بالنّظر إليه فيمن فني فيه ، إذ لا يكون إلّا ذلك ، فإذا شاهد الرّجل الحقّ في المرأة كان شهودا في منفعل ، وإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل ، وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكوّن عنه كان شهوده في منفعل عن الحقّ بلا واسطة ، فشهوده للحقّ في المرأة أتمّ وأكمل ، لأنّه يشاهد الحقّ من حيث هو فاعل منفعل ؛ ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصّة.)
 
ثم إنه أشار إلى أن العبد إنما يصل إلى الحب الباطن الإلهي بعد استكمال الحب الظاهر بالوصلة ، لكن بعد التطهر عن التلذذ بالغير ، فقال : ( ولما أحب الرجل المرأة ) في الظاهر ( بطلب الوصلة ) منها بقدر المحبة وهي محبوبة في الغاية ، فطلب الوصول إلى ( غاية الوصلة ) ، فإن الوصلة هي ( التي تكون ) مطلوبة ( في المحبة ) بقدرها ، ( فلم تكن في صورة النشأة العنصرية ) احترز بذلك عن وصلة العبد بالحق ( أعظم وصلة من النكاح ) ، أي :
الوطء لجمعه بين الوصلة الصورة والمعنوية بغاية التلذذ من المحبوب ؛ ( ولهذا ) أي : ولكون النكاح أعظم وجوه الوصلة بما فيه من غاية التلذذ ، ( فعمت الشهوة أجزاءه كلها ) بحيث تلذذ الجميع ( أمر بالاغتسال ) ، أي : غسل جميع البدن الظاهر ( منه ) ، أي : من النكاح من حيث ما حصل به التلوث بالتلذذ بالغير بغاية اللذة الموجبة ؛ لغفلة المتلذذ الذي هو حق التلذذ باللّه تعالى .
 
( فعمت الطهارة ) الظاهرة ؛ لتؤثر في تطهير الباطن على سبيل العموم ، ( كما عم الفناء فيها ) أي : في المرأة من حيث هي امرأة لا من حيث ظهور الحق فيها ؛ لأنه ( عند حصول الشهوة ) متحقق أن تلذذه كان بالغير من حيث هو غير فأمر بالاغتسال عنه دفعا لهذه الغيرية ،
( فإن الحق غيور ) يغار ( على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره ، فطهره ) في الظاهر ( بالغسل ) ؛ ليؤثر ذلك في باطنه لارتباط بينهما ؛ ( ليرجع ) عند هذه الطهارة الرافعة حجب الباطن ( بالنظر إليه ) ، أي : إلى الحق من حيث ظهوره ( فيمن فني ) به وهو المرأة ، ولا بد من هذا النظر عند رفع الحجب ، ( إذ لا يكون ) الظاهر في كل شيء ( إلا ذلك ) ، لكن لا يدركه المحجوب ، ووصلة النكاح وإن كانت حجابا كثيفا ، فعند التطهير يرتفع الحجاب بالكلية في حق الكامل .
( فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة ) من غير وصلة النكاح ( كان شهوده في منفعل ) ؛ لأنه إنما يشاهد الحق فيها من حيث إنها وجدت بإيجاد الحق وبواسطة الرجل ، والحق يكون باعتبار الظهور منفصلا ، وإن امتنع ذلك من حيث استقراره في مقر عزه ،
 
( وإذا شاهده ) أي : الرجل الحق ( في نفسه ) لا من حيث وجوده من الحق ، بل ( من حيث ظهور المرأة عنه شاهد في فاعل ) ؛ لأنه وإن لم توجد المرأة ، فهو سبب وجودها ، والسبب له حكم الفاعل ، ( وإذا شاهده ) أي : الحق من نفسه لم يقل ( في نفسه ) ؛ لأنه يشعر بالاستقرار ، واستقرار الحق في نفس الرأي موجب لفنائها ( من غير استحضار صورة ما تكون عنه ) وهي المرأة ، ( كان شهوده في منفعل ) من حيث وجوده من ( الحق ) ، لكن ( بلا واسطة ) مثله ، وشهوده في الفاعل وحده أو المنفعل وحده ناقص ، ( فشهوده للحق في ) وصلة ( المرأة ) بالنكاح بعد التطهير عما تلوث من التلذذ بالغير ( أتم وأكمل ؛ لأنه يشاهد الحق ) في هذه الوصلة ( من حيث هو فاعل منفعل ) ، إذ لا وصلة بدون فعل الرجل وانفعال المرأة ، وكيف لا يكون أكمل وهو يرى الحق في الفاعل عين رؤيته في المنفعل ؛ لأنه يراه من نفسه من حيث هو منفعل لانفعالها في الوجود عن الحق ، وهذه رؤية ( خاصة ) ، وهي كمال بعد التمام .
 
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:57 pm

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية الجزء الثاني .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
الفصّ المحمدي
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلهذا أحبّ صلّى اللّه عليه وسلّم النّساء لكمال شهود الحقّ فيهنّ ، إذ لا يشاهد الحقّ مجرّدا عن الموادّ أبدا ؛ فإنّ اللّه بالذّات غنيّ عن العالمين ، فإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ، ولم تكن الشّهادة إلّا في مادّة ، فشهود الحقّ في النّساء أعظم الشّهود وأكمله ، وأعظم الوصلة النّكاح وهو نظير التّوجّه الإلهيّ على من خلقه على صورته ليخلفه فيرى فيه صورته بل نفسه فسوّاه وعدله ونفخ فيه من روحه الّذي هو نفسه ، فظاهره خلق وباطنه حقّ ) .
 
(ولهذا ) أي : ولتمام شهود الحق في هذه الوصلة مع الكمال المذكور ( أحب عليه السّلام النساء ) ، وإن كن من حيث هن حجبا على الحق والفناء فيهن موجبا للغسل ، ( فكمال شهود الحق فيهن ) باعتبار هذه الوصلة عند التطهر ، وإن كان يتوهم أن رؤية الحق في الصورة التنزيهية أكمل ، ( إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد ) ، بل إنما يرى في المادة الأسمائية أو الكونية ، لكن المادة الأسمائية لا تكون إلا فاعلة ، والمادة الكونية لا تكون إلا أحدهما ،
( فإن اللّه بالذات غني عن العالمين ) ، إذ يشاهد ذاته وكمالاتها بذاته في غاية الظهور ، وإنما يطلب ظهورها بصور الأسماء أو آثارها ، إذ لا مجال للحوادث في ذاته ، فكأنه بهذا الاعتبار محتاج إلى إظهار ذلك ، والفعل بدون الحاجة عبث يمنع صدوره عن الحكيم ، ( فإذا كان الأمر ) أي : أمر المشهود ( من هذا الوجه ) أي : وجه المتجرد عن المواد ( ممتنعا ) ، وليس المراد الامتناع العقلي ؛ لأن الحق يرى ذاته بذاته ، بل ( لم يكن ) يحسب السنة الإلهية ( الشهادة ) لنا ( إلا في مادة ) من الصور الأسمائية أو الكونية .
 
( فشهود الحق في ) وصلة ( النساء أعظم الشهود و أكمله ) ؛ لجمعه بين شهود الذات وشهود حبه لذاته في حبه لمن خلقه على صورته ، وشهود محبوبية الحق لنفسه ولعبده ، والجملة لرؤيته فاعلية الحق ومنفعليته في أمر واحد وهو الرجل ، وكذا المرأة باعتبار تأثيرها في حب الرجل ، ( وأعظم الوصلة النكاح ) لما ذكرنا مع أنه يتضمن باعتبار طلب الولد به إرادة الحق ، وتكوينه للإنسان الكامل لظهور سره فيه ،
وإليه الإشارة بقوله : ( وهي نظير التوجه ) الإرادي الذي استيلاء القدرة ( على من خلقه ) كاملا ؛ لكونه ( على صورته ) ، فتوجه إليه بهذه الإرادة للخليقة ( على صورته ، فيرى فيه ) نفسه ، أي : ذاته بكمال ظهورها ، ولما كان لا يتم الظهور إلا بالتسوية والاعتدال ، ( فسواه ) أي : سوى مزاجه ، وبالغ في تسويته حتى ( عدله ) بحيث لا تميل بعض الأطراف ، ( ونفخ فيه من روحه ) الأعلى من أرواح سائر الحيوانات والنباتات ، فإنها من العناصر وروحه ليس كذلك ، فإنه ( الذي هو كأنه نفسه ) الرحماني وهو عين الحق ، وقد صار باطنه عندما يصور روحه بصورة النار عند اشتعال البدن به ، ( فظاهره خلق وباطنه ) الذي هو مبدأه ( حق ) .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلهذا أحبّ صلّى اللّه عليه وسلّم النّساء لكمال شهود الحقّ فيهنّ ، إذ لا يشاهد الحقّ مجرّدا عن الموادّ أبدا ؛ فإنّ اللّه بالذّات غنيّ عن العالمين ، فإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ، ولم تكن الشّهادة إلّا في مادّة ، فشهود الحقّ في النّساء أعظم الشّهود وأكمله ، وأعظم الوصلة النّكاح وهو نظير التّوجّه الإلهيّ على من خلقه على صورته ليخلفه فيرى فيه صورته بل نفسه فسوّاه وعدله ونفخ فيه من روحه الّذي هو نفسه ، فظاهره خلق وباطنه حقّ ) .

 

(ولهذا ) أي : ولتمام شهود الحق في هذه الوصلة مع الكمال المذكور ( أحب عليه السّلام النساء ) ، وإن كن من حيث هن حجبا على الحق والفناء فيهن موجبا للغسل ، ( فكمال شهود الحق فيهن ) باعتبار هذه الوصلة عند التطهر ، وإن كان يتوهم أن رؤية الحق في الصورة التنزيهية أكمل ، ( إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد ) ، بل إنما يرى في المادة الأسمائية أو الكونية ، لكن المادة الأسمائية لا تكون إلا فاعلة ، والمادة الكونية لا تكون إلا أحدهما ،

( فإن اللّه بالذات غني عن العالمين ) ، إذ يشاهد ذاته وكمالاتها بذاته في غاية الظهور ، وإنما يطلب ظهورها بصور الأسماء أو آثارها ، إذ لا مجال للحوادث في ذاته ، فكأنه بهذا الاعتبار محتاج إلى إظهار ذلك ، والفعل بدون الحاجة عبث يمنع صدوره عن الحكيم ، ( فإذا كان الأمر ) أي : أمر المشهود ( من هذا الوجه ) أي : وجه المتجرد عن المواد ( ممتنعا ) ، وليس المراد الامتناع العقلي ؛ لأن الحق يرى ذاته بذاته ، بل ( لم يكن ) يحسب السنة الإلهية ( الشهادة ) لنا ( إلا في مادة ) من الصور الأسمائية أو الكونية .

 

( فشهود الحق في ) وصلة ( النساء أعظم الشهود و أكمله ) ؛ لجمعه بين شهود الذات وشهود حبه لذاته في حبه لمن خلقه على صورته ، وشهود محبوبية الحق لنفسه ولعبده ، والجملة لرؤيته فاعلية الحق ومنفعليته في أمر واحد وهو الرجل ، وكذا المرأة باعتبار تأثيرها في حب الرجل ، ( وأعظم الوصلة النكاح ) لما ذكرنا مع أنه يتضمن باعتبار طلب الولد به إرادة الحق ، وتكوينه للإنسان الكامل لظهور سره فيه ،

وإليه الإشارة بقوله : ( وهي نظير التوجه ) الإرادي الذي استيلاء القدرة ( على من خلقه ) كاملا ؛ لكونه ( على صورته ) ، فتوجه إليه بهذه الإرادة للخليقة ( على صورته ، فيرى فيه ) نفسه ، أي : ذاته بكمال ظهورها ، ولما كان لا يتم الظهور إلا بالتسوية والاعتدال ، ( فسواه ) أي : سوى مزاجه ، وبالغ في تسويته حتى ( عدله ) بحيث لا تميل بعض الأطراف ، ( ونفخ فيه من روحه ) الأعلى من أرواح سائر الحيوانات والنباتات ، فإنها من العناصر وروحه ليس كذلك ، فإنه ( الذي هو كأنه نفسه ) الرحماني وهو عين الحق ، وقد صار باطنه عندما يصور روحه بصورة النار عند اشتعال البدن به ، ( فظاهره خلق وباطنه ) الذي هو مبدأه ( حق ) .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا وصفه بالتّدبير لهذا الهيكل ، فإنّه تعالى :يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ وهو العلوّ ،إِلَى الْأَرْضِ [ السجدة : 5 ] ، وهو أسفل السّافلين ، لأنّها أسفل الأركان كلّها ، وسمّاهنّ بالنّساء وهو جمع لا واحد له من لفظه ، ولذلك قال عليه السّلام : « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : النّساء » ، ولم يقل المرأة ، فراعى تأخّرهنّ في الوجود عنه ، فإنّ النّسأة هي التّأخير قال تعالى :إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [ التوبة : 37 ] والبيع بنسيئة يقول بتأخير ، فلذلك ذكر النّساء ، فما أحبّهنّ إلّا بالمرتبة وأنّهنّ محلّ الانفعال ؛ فهنّ له كالطّبيعة للحقّ الّتي فتح فيها صور العالم بالتّوجّه الإرادي والأمر الإلهيّ الّذي هو نكاح في عالم الصّور العنصريّة ، وهمّة في عالم الأرواح النّوريّة ، وترتيب مقدّمات في المعاني للإنتاج ، وكلّ ذلك نكاح الفرديّة الأولى في كلّ وجه من هذه الوجوه ) .

 

( ولهذا ) أي : ولكون باطن الروح المدبر لهذا الهيكل الإنساني بالاتفاق ( وصفه الحق بالتدبير لهذا الهيكل ) ، فإنه تعالى قال :يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ[ السجدة  :5 ].

، والمعنى المجازي إذا كان أهم من الحقيقي أولى ، فالمراد بالتدبير أعم من التدبير الظاهر والباطن ، والمراد من السماء ما ارتفع حسّا أو معنى ، وهو العلو فتدخل فيه الروح ، والمراد بقوله :إِلَى الْأَرْضِ أي : ما انخفض حسّا أو معنى ، ( وهو أسفل السافلين ) ، فيدخل فيه الهيكل الإنساني ؛ وذلك ( لأنها ) أي : الأرض ( أسفل الأركان كلها ) ، وهي النار والهواء والماء والأرض ، وكذا الهيكل الإنساني أسفل المولدات ، وهي المعادن والنبات والحيوانات والإنسان ، لكن سفل الهيكل الإنساني من حيث التأخر في الرتبة ، وهذا المعنى في لفظ النساء أظهر ؛ وذلك لأنه عليه السّلام ( سماهن بالنساء ، وهو جمع ) بتأخر رتبته عن رتبة الواحد ، وإن كان ( لا واحد له من لفظه ) والتأخر أدنى من التقدم ؛ ( ولذلك قال عليه السّلام : « حبب إليّ من دنياكم ») ، فأشار إلى دنوهن « ثلاث » ، فقدم الثلاث ، ثم قال : " النساء " المشعر بالتأخر من جهة كونه جمعا ، ( ولم يقل : المرأة ) ، وإن كان المقصود المرائية .

 

( فراعى بتأخرهن في الوجود عنه ) ؛ ليظهر أثر الإرادة ، إذ لا أثر لها في التقديم ، وكيف لا ولفظ النساء مشعر بذلك بحسب شبهة الاشتقاق من النسأة والنسيء والنسية ، ( فإن النسأة ) والنسيء والنسية ( هي التأخير ) قال تعالى :"إِنَّمَا النَّسِيءُ" [ التوبة : 37 ] هو مصدر كالشعير والحريق ، أي : تأخير الأشهر الحرم "زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ" [ التوبة : 37 ] بتحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، قال : لعل العرف المتبع ( بنسيئة ) أي : ( بتأخير ) في إذن الثمن ، ( فلذلك ) أي : فلإشعار لفظ النساء بمعنى التأخير المشير إلى نفوذ القدرة بالإرادة ، وإلى الدخول تحت الأمر ( ذكر النساء ) في خبر الحب الذي يتشبه فيه بحب الحق للمراتب المنفعلة منه بظهور صور ذاته وصفاته وأسمائه ، ( فما أحبهن إلا بالمرتبة ) ، أي : باعتبار كونهن مراتب ظهوره عليه السّلام ، والظهور إنما يتم بانفعال المحل بصورة الشخص ،

 

وذلك يقضي أنه إنما أحبهن من حيث ( إنهن محل الانفعال ) ، إذ محل الانفعال هو المتوجه إليه بالإرادة ، وقد أحب الحق ظهوره في محل الانفعال الكلي وهو الطبيعة بهذه الإرادة ؛ لأنها تنتج في الصور المختلفة والنساء بالولادة كذلك ؛ ( فهن له كالطبيعة للحق ) أحبها ؛ لأنها ( التي فتح فيها صور العالم ) التي هي صور ذاته وصفاته وأسمائه ( بالتوجه الإرادي ) كتوجه الناكح إلى طلب الولد.

ثم استشعر سؤالا بأن التشبه بالإله في هذه الوصلة التي أعظمها النكاح ، إنما يتم لو تصور النكاح في حقه عزّ وجل ؟

فأجاب بأن : النكاح الحقيقي وإن لم يتصور ، فالمجازي متصور فيه وهو كاف ، وهو أن يقول ( الأمر الإلهي ) الذي به طلب الإيجاد ( هو النكاح ) ؛ لأنه يجمع ( في عالم الصور العنصرية ) بين العناصر ، ولكن لا جمع للمختلفات في عالم الأرواح والمعادن ، فيقول الأمر الإلهي ( همته ) ، أي : قصده في ( عالم الأرواح النورية ) التي لا تركيب فيها لتجردها ، ( وترتيب المقدمات ) في عالم ( المعاني ) ، ولكن الهمة والترتيب إنما يكونان ( للإنتاج ) ، أي :إنتاج الأرواح والمعاني ، والإنتاج في الحيوان يؤدي إلى النكاح ،

 
فصح أن يقال : ( كل ذلك نكاح الفردية الأول ) ، وهي ذات واردة والنكاح ، إنما هو في الفاعل وقد حصل الاجتماع بين هذه الثلاثة ، فصح إطلاق لفظ النكاح بالمجاز ( في كل وجه من هذه الوجوه ) ، أي : إيجاد عالم الصور العنصرية ، والأرواح النورية ، والمعاني النظرية ،

وإذا كان في حب النساء هذه الأسرار ، وهن رؤية نكاح الفردية الأول ، وأنهن له كالطبيعة للحق في إيجاد صور العالم ، والتوجه الإرادي في إيجاد من يكون على صورته ، وحبه له ولذاته ، ورؤية الحق في الفاعل والمنفعل .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أحبّ النّساء على هذا الحدّ فهو حبّ إلهيّ ، ومن أحبّهنّ على جهة الشّهوة الطّبيعيّة خاصّة نقصه علم هذه الشّهوة ، فكان صورة بلا روح عنده ، وإن كانت تلك الصّورة في نفس الأمر ذات روح ولكنّها غير مشهودة ، لمن جاء امرأته أو أنثى حيث كانت لمجرّد الالتذاذ ولكن لا يدري لمن فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ما لم يسمّه هو بلسانه حتّى يعلم كما قال بعضهم :
صحّ عند النّاس أنّي عاشق  ..... غير أن لم يعرفوا عشقي لمن
كذلك هذا أحبّ الالتذاذ فأحبّ المحلّ الّذي يكون فيه وهو المرأة ولكن غاب عنه روح المسألة، فلو علمها لعلم بمن التذّ ومن التذّ، وكان كاملا).

( فمن أحب النساء على هذا الحد ، فهو حب إلهي ) ، أي : يخلق بحبه تعالى وراجع إلى حبه عزّ وجل ، ( ومن أحبهن على جهة الشهوة الطبيعية ) احتزر بذلك عن جهة كونها مظهر الحب الإلهي ( خاصة ) ، أشار بذلك إلى أن هذه الجهة لو انضمت إلى تلك لم [ . . . ] .

 
 روح المسألة ، ولم ينقص علم الشهوة ( نقصه علم ) سبب إيجاده ( هذه الشهوة ) ، فإنها إنما خلقت ليصير مظهر حبه لمن أوجده على صورته ومظهر توجهه الإرادي إلى إيجاده ، والعلم بالشيء هو روح منه إلى العالم ، فإذا نقصه علم هذه الشهوة ، ( فكان ) حبه لأجلها ( صورة بلا روح ) حصل منها ( عنده ) ، أي : عند هذا الحب ( وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح ) إذلا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ[ الروم : 30 ] ،


فلابدّ أن يوجد مع هذه الشهوة روحها وهي المعنى الذي خلقها اللّه لأجله من كونها مظهرا لحبه وتوجهه الإرادي ، ( ولكنها ) أي : روح هذه الصورة ( غير مشهودة ) ، ولا تخلق بدون الشهود ( لمن جاء امرأته ) المنكوحة أو المملوكة ، وإن كان من شأنها أن يكون حبها تخلقا بالحب الإلهي ، ( أو أنثى ) لشبهه وإن لم تكن محبوبته حتى يتخلق فيها بالمذكور بخلاف من زنا أو لاط ، فإنه لا روح هناك أصلا ، وهنا وإن وجدت ، فهي كالعدم ( حيث كانت ) غير امرأته مما ليس من شأنها ذلك حيث كانت شهوته ( لمجرد الالتذاذ ) ، وإن كان هذا الالتذاذ مظهرا لالتذاذ الحق بحبه لذاته .


( ولكن لا يدري ) هذا الرجل ( لمن ) تحصل هذه اللذة أتحصل لنفسه من حيث هي نفسه فلا وجه لمظهريتها للذة الحق ، ولنفسه من حيث هي مظهر الحق ، فتكون لذاتها مظهر لذاته تعالى ، وهل يلتذ بالمرأة من حيث هي امرأة أو من حيث كونها على صورته أو صورة الحق ، فكأنه لا يدري من نفسه أنها ملتذة أصلا وأن المرأة ملتذة بها ، ( فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ) من لذته .

"" أضافة المحقق :
الحاصل أن العارف لمحل الالتذاذ يظهر ذلك عند نفسه ، ويظهر للغير والجاهل به يخفى عند ذلك ويخفى للغير ، وإن كان الالتذاذ بنفسه ظاهرا له ولغيره . عبد الرحمن الجامي""

( ما لم يسمه هو بلسانه حتى ) بدا من وجه آخر كرؤية أسبابها في حقه ، ولكنه يقع التلذذ في الواقع لمظهر الحق بمظهره وإن لم يشعر به هذا الرجل ، فصار ( كما قال بعضهم : صح عند الناس أني عاشق غير أن لم يعرفوا عشقي لمن ) ؛ لأنه ( كذلك ) الناس ( هذا الرجل أحب الالتذاذ ) بالشهوة من حيث هو الالتذاذ بها ، فصار محبوبا له بالذات ، ( فأحب ) بتبعيته ( المحل الذي يكون منه وهو المرأة ) بينه ؛ لئلا يتوهم أن المرأة نفسه فإنها أيضا محل حصول لهذه اللذة ، فالالتذاذ وإن كان مظهرا لالتذاذ الحق من حبه ذاته والمرأة وإن كانت مظهرا لذاته ، يقال : ومعرفة ذلك روح مسألة حبها ، ( ولكن غاب عند روح المسألة ) ، إذ لم يكن له مقصودا مع أنه يحب كونه مقصودا بالذات وغيره مقصودا بالتبعية ، ( فلو علمها ) أي : روح المسألة ( لعلم بمن التذ ) ، وهو نفسه من حيث هو على صورة ربها ، ( ومن التذ ) وهي المرأة من حيث هي على صورة ربها ، ( فكان كاملا ) يرى الحق في كل شيء وأنه المحب والمحبوب .

 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكما نزلت المرأة عن درجة الرّجل بقوله :وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [ البقرة : 288].
نزل المخلوق على الصّورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته ، فبتلك الدّرجة الّتي تميّز بها عنه ، بها كان غنيّا عن العالمين وفاعلا أوّلا ، فإنّ الصّورة فاعل ثان ، فما له الأوّليّة الّتي للحقّ . فتميّزت الأعيان بالمراتب : فأعطى كلّ ذي حقّ حقّه كلّ عارف ) .




ثم استشعر سؤالا بأنه كيف يفوته روح المسألة مع أن المحب والمحبوب في حقه صورة الحق في الواقع ؟
فأجاب بقوله : ( وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل ) مع كونها مخلوقة على صورته علم ذلك ( بقوله تعالى :وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [ البقرة : 228 ] ؛ لكونهم سبب وجودهن وأصله ( نزل المخلوق على الصورة ) ، أي : صورة الخالق ( عن درجة ) من النشأة على صورته ، إذ كونه منشأ يوجب له درجة رفيعة ، وكيف لا ينزل المخلوق على الصورة المعنوية عن درجة ( من أنشأه على صورته ) بنوع مناسبة ضعيفة مع عظم التفاوت بين الصورتين ، وقد حصل التنزل في صورة المرأة عن درجة الرجل ( مع كونها على صورته ) حسّا ، ومعني بمناسبة قوية مع قلة التفاوت بين الصورتين ، فدل ذلك على التفاوت بين محبة الحق ومحبة صورته ، فإذا قصدت الصورة من حيث هي صورة الحق بمحبة الحق بالذات ، فالصورة بالتبعية وإذا قصدت الصورة نفسها ، فليس هناك محبة الحق أصلا في قصده ،

 
وأشار إلى عظم التفاوت بين صورة الحق والمخلوق على صورته الموجبة للحق درجة عظيمة عليه بقوله : ( فتلك الدرجة التي تميز بها ) الحق ( عنه ) ، أي : عن المخلوق على صورته ( بها ) ، أي : بتلك الدرجة الكائنة عن عظم التفاوت .
( كان ) الحق ( غنيّا عن العالمين ) ، وبها كان ( فاعلا أولا ) في كل فعل حتى في أفعالنا ، ( فإن الصورة فاعل ) كان كحركة صورة المرأة من حركة ذي الصورة ، ( فما له ) أي : الفاعل الثاني ( الأولوية التي للحق ) لا في فعله كما تقوله المعتزلة ، ولا في الذات والصفات والأسماء بالاتفاق ، وإذا وجب التمايز بين الحق والمخلوق على صورته بالدرجة ظهر ذلك فيما بين الأعيان كلها ، ( فتميزت الأعيان بالمراتب ) حتى تميزت أفراد نوع واحدتها ، ومعرفة هذا التمييز موجب لتمييز الحقوق ؛ ( فأعطى كل ذي حق حقه كل عارف ) ، فأعطى الحق حقه من المحبة فيراه محبوبا بالذات ، وأعطى الحق حقه هي المحبة فيراه محبوبا لأجل الحق ، وأكمل العلوم للّه تعالى وقد ظهر به في حبيبه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلهذا كان حبّ النّساء لمحمّد صلّى اللّه عليه وسلّم عن تحبّب إلهيّ وأنّ اللّه تعالى :"أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ" [ طه : 50 ] وهو عين حقّه ، فما أعطاه إلّا باستحقاق استحقّه بمسمّاه ؛ أي بذات ذلك المستحقّ ، وإنما قدّم النساء لأنّهنّ محلّ الانفعال ، كما تقدّمت الطبيعة على من وجد منها بالصّورة ، وليست الطّبيعة على الحقيقة إلّا النّفس الرّحمانيّ ، فإنّه فيه انفتحت صور العالم أعلاه وأسفله لسريان النّفخة في الجوهر الهيولانيّ في عالم الأجرام خاصّة، وأمّا سريانها لوجود الأرواح النّوريّة والأعراض فذلك سريان آخر).

 
( فلهذا كان حب النساء لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم عن تحبب إلهي ) ؛ لأنه لكمال معرفته رأى الحق محبّا ومحبوبا بالذات وغيره بالتبعية ، وإنما كان حب العارف عن تحبيب إلهي دون حب غيره ؛ لأنه صح ( أن اللّه تعالى :أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) أيما كان خلقه عليه من استعداده ، وكيف لا يعطي كل شيء خلقه ( وهو عين حقه ) الثابت في علمه الأزلي ، المطلع على الاستحقاق الذي يوجب الجواد ( أعطاه ) بحسب السنة الإلهية ، فهو وإن أعطاه تفضلا باعتبار غنى ذاته عن الكل ، فما أعطاه باعتبار العلم والجود ( لا باستحقاق ) ، وكيف لا يعطي ذلك الاستحقاق وقدست ( مسماه ) ، أي : باعتبار كونه محل تصرف اسم من أسماء الحق التي لا تغايره من كل وجه ، فكأنه أعطى ذاته ذلك ، ولكن الذات غنية عن العالمين ، فلا يظهر تصرف الأسماء إلا في ذوات الأشياء ؛ فلذلك قال ، ( أي : بذات ذلك المستحق ) الذي استحقه باعتبار كونه محل تصرف الأسماء الإلهية لا باعتبار كونه عينا ثابتة ، فإن ذلك إنما هو في العلم الأزلي وهي لا تقبل التصرف بذلك الاعتبار ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .

( وإنما قدم النساء ) مع اعتبار التأخر بالرتبة في حبهن في بعض الوجوه ؛ لأنهن في هذا الاعتبار يشبهن الطبيعة ؛ ( لأنهن محل الانفعال ) لطلب من هو على صورته وهو الولد ، فقدمهن ( كما تقدمت الطبيعة ) بالصورة النفسية ( على من وجد ) تشبيها من صور العالم ؛ وذلك لأنه ( ليست الطبيعة على الحقيقة ) ، وإن كان المتعارف أنها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ( إلا ) صورة ( النفس الرحماني ) ؛ لذلك صارت مبتدأ الفعل والانفعال ، وهو أعم من المتعارف ؛ لشموله جميع الموجودات تأثيرا أو تأثرا ،


( فإنه ) أي : النفس الرحماني عند تصوره بصورة الطبيعة بسريان نفخته ( فتحت فيه صور العالم ) كصور الحروف في النفس الإنساني ( أعلاه ) الروحاني ، ( وأسفله ) الأجسام وأعراضها وقواها ، لكن انفتاح صور العالم فيه ( بسريان النفخة في الجوهر الهيولاني ) القابل لصور الأجرام كما تقوله الفلاسفة ، لكن لا تقول نقدمه خلافا لهم ( في ) صور ( عالم الأجرام خاصة ، وإنما سريانها ) أي : النفخة
 

( لوجود الأرواح النورية ) احترز به عن القوة النباتية والحيوانية (والأعراض ، فذلك سريان آخر ) غير السريان في الجوهر الهيولاني ، أما الأرواح النورية فلتجردها عن المادة ، وأما الأعراض فلأنها ليست بجواهر حتى تقوم صورها الجوهر الهيولاني .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّه صلّى اللّه عليه وسلّم غلّب في هذا الخبر التّأنيث على التّذكير لأنّه قصد التّهمّم بالنّساء ؛ فقال : « ثلاث » ، ولم يقل : " ثلاثة " بالهاء الّذي هو لعدد الذّكران ، إذ همّه فيها ، ذكر الطّيب وهو مذكّر ، وعادة العرب أن تغلّب التّذكير على التأنيث فتقول : « الفواطم وزيد خرجوا » ، ولا تقول خرجن ، فغلّبوا التّذكير وإن كان واحدا على التّأنيث وإن كنّ جماعة ؛ وهو عربيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فراعى المعنى الّذي قصد به في التّحبّب ما لم يكن يؤثر حبّه ، فعلّمه اللّه ما لم يكن يعلم وكان فضل اللّه عليه عظيما ، فغلّب التّأنيث على التّذكير بقوله : « ثلاث » بغير هاء فما أعلمه صلّى اللّه عليه وسلّم بالحقائق ، وما أشدّ رعايته للحقوق ).


( ثم إنه عليه السّلام غلب في هذا الخبر التأنيث على التذكير ) في العدد المفسر بهما ؛ ( لأنه قصد التهمم بالنساء ) كما ذكرنا من الوجوه ، وكأنه قصدهن بالذات بذلك العدد ، فقال :
" حبب إليّ من دنياكم ثلاث " . بحذف الهاء المختصة بعدد الإناث ، ( ولم يقل ثلاثة بالهاء الذي هو لعدد الذكران ) مع أنه مفسر بما يشتمل على المذكر ( إذ ) مفسره المذكور أن بعده ، ( وفيها ذكر الطيب وهو مذكر ) لفظا ومعنى ، ( وعادة العرب أن يغلب التذكير على التأنيث ) إلا لنكتة ، ( فتقول : الفواطم وزيد خرجوا ، ولا نقول : خرجن ) مع أنهن أكثر وأقدم ، ( فغلبوا التذكير ، وإن كان واحدا على التأنيث ، وإن كن جماعة ) مقدمة ، إلا أنه لم يعتبره الشيخ - رحمه اللّه - لعدم كونه مقدما من كل وجه فيما نحن فيه ، فهنا النساء والصلاة وإن كانتا أكثر من الطيب ، فعادة العرب تقتضي تغليب التذكير على التأنيث ( وهو صلّى اللّه عليه وسلّم عربي ) فلا يترك عادتهم إلا لنكتة .


( فراعى صلّى اللّه عليه وسلّم المعنى الذي قصد به ) ، أي : قصده الحق أن يتحقق عليه السّلام به ( في التحبيب ) إليه ، أي : تحبيب الحق إليه ( ما لم يكن عليه السّلام ) بنفسه ( يؤثر حبه ) وهن النساء ، يعني أنه عزّ وجل لما حبب إليه النساء لما ذكرنا من الوجوه أتم نشأتهن ، فراعى حقهن حتى غلبهن على المذكور في العدد ، ولو كان ذلك عن نفسه لما تحقق بتلك المعاني ، ولم يكن له هذا الاهتمام الموجب لرعاية حقهن ، فلما كان هذا التحبيب الإلهي مقصودا من اللّه لتلك المعاني ، ولم يكن من نفسه عليه السّلام ، ( فعلمه اللّه ) في رعاية حقهن ( ما لم يكن يعلم ) من عادة العرب ،( وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [ النساء : 113 ] .

في إفاضة تلك المعاني عليه في حبه النساء ورعاية حقهن ؛ لأن التحبيب كان من اللّه تعالى بقصد هذه المعاني التي جعلت الأمر النفساني في العادة أجل من الروحاني كالصلاة ، ومن المشرك بين الروحاني والجسماني وهو الطيب ، ( فغلب التأنيث على التذكير ) ؛ للإشارة إلى غلبة حبهن على حب الطيب مع كماله بالاشتراك بين الروحاني والجسماني ( بقوله : « ثلاث » بغير هاء ) ، فكأنه قصد ذكر من دون غيرهن في المجمل من العدد الشامل عليهن وعلى غيرهن ، ( فما أعلمه بالحقائق ) ، إذ علم هذه الوجوه في حبهن وهي أكثر وأجل من التي في حب الطيب والصلاة مع جلالة شأنها ، ( وما أشد رعايته للحقوق ) إذ قدمهن وقصدهن في العدد الشامل عليهن وعلى غيرهن ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّه جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التّأنيث وأدرج بينهما التّذكير ، فبدأ بالنّساء وختم بالصّلاة وكلتاهما تأنيث ، والطّيب بينهما كهو في وجوده ، فإنّ الرّجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه ، فهو بين مؤنّثين : تأنيث ذات ، وتأنيث حقيقيّ ، كذلك النّساء تأنيث حقيقيّ والصّلاة تأنيث غير حقيقيّ والطّيب مذكّر بينهما كآدم بين الذّات الموجود هو عنها وبين حواء الموجودة عنه ، وإن شئت قلت :
الصّفة فمؤنثة أيضا ، وإن شئت قلت : القدرة فمؤنّثة أيضا ، فكن على أيّ مذهب شئت ، فإنك لا تجد إلّا التّأنيث يتقدّم حتّى عند أصحاب العلّة الّذين جعلوا الحقّ علّة في وجود العالم والعلّة مؤنّثة ).

( ثم إنه صلّى اللّه عليه وسلّم جعل الخاتمة ) وهي الصلاة ( نظير الأولي ) ، وهي النساء ؛ ليشعر بأن النهاية تشبه البداية ( في التأنيث ) ؛ ليشعر بأن مرجع الأسماء إلى الذات الإلهية ، ( وأدرج ) أي : وسط ( بينهما التذكير ) ؛ ليشعر بأن تردد الرجال إنما هو بين الذات والأسماء ، لكن لا يقصدون في الأسماء سوى الذات ،

( فبدأ بالنساء ) للاهتمام بهن من حيث كونهن مظهر الذات ، ( وختم بالصلاة ) ليشعر بأن طالب الذات لا يجدها إلا في لبسه الأسماء ، ولكن من حيث رجوعها إلى الذات بدليل اعتبار التأنيث فيها أيضا إذ ( كلتاهما تأنيث والطيب بينهما ) ؛ ليعلم أن الطيب إنما يكون لمن يدور بينهما ، فإنه كمال الرجال ، فالطيب بين التأنيث ( كهو ) ، أي : الرجل ( في الوجود ) الذي هو أول كمالاته وآخرها [ تحت ] أن يشبه الأول .

( فإن الرجل في الوجود مدرج بين ذات ) إلهية ( ظهر عنها ) على صورتها ، ( وبين امرأة ظهرت ) تلك المرأة ( عنه ) على صورته ، ( فهو ) في حال الكمال أيضا ( بين مؤنثين ذات ) وأسماء من حب رجوعها إلى الذات ، لكن في وجوه الأول السابق مؤنث غير حقيقي ، والثاني مؤنث حقيقي ، وفي النهاية كلا المؤنثين غير حقيقيين ؛ لأن الكمال أزال عنهما الانفعال ، لكن الترتيب في الخبر على عكس وجود الرجل

كما أشار إليه بقوله :
( كذلك ) ، أي : مثل وجود الرجل من مؤنثين حقيقي وغير حقيقي الطيب ، إذ ( النساء تأنيث حقيقي ، والصلاة تأنيث غير حقيقي ، والطيب مذكر بينهما ) ، لكن المؤنث الأول في وجود الرجل غير حقيقي ، والثاني حقيقي ، والطيب بالعكس ؛ ليشعر بأن أول أمر الطيب الانفعال بتحصيل الأخلاق الطيبة حتى إذا كمل سار مترددا بين الذات والأسماء في الفعل بهما فيمن دونه ، فمرجعه إلى التأنيث من حيث هو عبد ، لكنه لما تصور بصورة الحق صار كأنه غير منفعل عند ظهور جهة الفاعلية فيه ، وكان عند وجوده الأول لا ينفعل عن الهوى أولا ، ثم صار منفعلا عنه ، ولما لم يظهر هذا التمثيل في كل رجل وامرأة ، وتردد في كون آدم من الذات أو من الصفة عند القائل بهما أو من العلة عند القائل بها .


قال : ( كآدم ) مدرج ( بين الذات الموجود هو عنها ) إما باعتبار الروح فظاهر ، وإما باعتبار البدن ؛ فلأن تجمير طينته منسوب إليها ( وبين حواء الموجودة عنه ) ، وإن كان موجدها الذات أيضا ، لكن السبب يتنزل منزلة الموجد ، ( وإن شئت قلت ) : نظرا إلى استغناء الذات عن العالمين مدرج بين ( الصفة ) الإلهية وبين حواء مؤنثة ، أي : ( فالصفة مؤنثة أيضا وإن شئت قلت ) : نظرا إلى أن في الصفات ما هو مذكور كالعلم ، والسمع والبصر والكلام بين ( القدرة ) وحواء ( فمؤنثه أيضا ، فكن على أي مذهب شئت ، فإنك لا تجد ) في المبدأ ( إلا التأنيث ) مقدما على المذكر حتى ( عند أصحاب العلة ) ، وهم الفلاسفة ( الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم ) ؛ لقولهم : بأنه موجب بالذات ، فجعلوا العالم قديما ؛ لامتناع تخلف المعلول عن علته ( والعلة مؤنثة ) هذا ما يتعلق بحب النساء من الحكمة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا حكمة الطّيب وجعله بعد النّساء فلما في النّساء من روائح التّكوين ، فإنّه أطيب الطّيب عناق الحبيب . كذا قالوا في المثل السائر ، ولمّا خلق عبدا بالأصالة لم يرفع رأسه قطّ إلى السّيادة ، بل لم يزل ساجدا واقفا مع كونه منفعلا حتّى كوّن اللّه عنه ما كوّن . فأعطاه رتبة الفاعليّة في عالم الأنفاس الّتي هي الأعراف الطّيّبة ، فحبّب إليه الطّيب : فلذلك جعله بعد النّساء ، فراعى الدّرجات الّتي للحقّ في قوله :رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ[ غافر : 15 ] لاستوائه عليه باسمه الرّحمن ، فلا يبقى فيمن حوى عليه العرش من لا تصيبه الرّحمة الإلهيّة ؛ وهو قوله تعالى :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف : 156 ] ، والعرش وسع كلّ شيء ، والمستوي الرّحمن فبحقيقته يكون سريان الرّحمة في العالم كما قد بيّناه في غير موضع من هذا الكتاب ومن الفتوح المكّي ).

(وأما حكمة الطيب وجعله بعد النساء فلما في النساء من روائح التكوين ) ، فإنهن ، وإن ظهرت فيهن الذات الإلهية ، فإنما ظهرت فيهن من حيث الانفعال المشار إليه في قوله :وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ[ الشورى : 25 ] ، وهو سابق في حق العبد على تخلقه بالأخلاق الإلهية التي هي الروائح الطيبة ، بل إنما تحصل بالانفعال ، وإنما كانت روائح طيبة إذ بها غاية التقرب من المحبوب بحيث يصير فاعلا بأسمائه كفعله ، فكأنه معانق له والمعانقة غاية الطيب ، ( فإنه من أطيب الطيب عناق الحبيب ) ، وهو وإن لم يكن كلام من يتمسك بقوله من الأنبياء والأولياء ؛ فهو مقبول في العامة فيصح التمسك به في باب الإشارات التي تكفي فيها الخطائيات  إذ هم ( كذا قالوا في المثل السائر ) .
ثم استشعر سؤالا بأنه عليه السّلام كيف قدم جهة الانفعال فيما حبب إليه بعد النبوة التي لا تكون إلا بكمال التخلق ؟

فأجاب بقوله : ( ولما خلق صلّى اللّه عليه وسلّم عبدا ) ؛ لأن جهة العبودية فيه ( بالأصالة لم يرفع رأسه قط إلى السيادة ) التي يفعل بها بالأسماء الإلهية عند التحقيق بها بعد التخلق ، وإن بلغ من كمال التخلق ما بلغ ، بل من كمال التخلق ما بلغ ، ( بل لم يزل ساجدا ) وهو أنه كان عند التخلق بالأسماء الإلهية ( واقفا مع كونه منفعلا ) عنها إلا فاعلا بها ( حتى كون اللّه عنه ما كون ) بأسمائه التي تخلق بها ، ( فأعطاه رتبة الفاعلية ) بتلك الأسماء ؛ ليتحقق بها بعد التخلق الذي هو انفعال عنها ، وذلك بأن جعله عند كمال التخلق بها ( في عالم الأنفاس ) الرحمانية ( التي هي الأعراف ) ، أي : الروائح ( الطيبة ) عن تلك الأسماء للنفخ في الموجودات .


وهي المشار إليها بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « ألا إن للّه في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها » ، رواه الطبراني في الأوسط  والكبير والسيوطي في الجامع الصغير والهيثمي في مجمع الزوائد
فانقسم هذا الطيب إلى طيب التخلق ، ( فحبب إليه الطيب ) عند كمال طيبه المعنوي الطالب لمناسبة الذي هو الطيب الحسي ، وكان الطيب الأول انفعاليّا وهذا فعليّا ؛ ( فلذلك جعله بعد النساء ) كأنه إذ ضل فيهن الطيب الانفعالي ، فكأنه لظهور الحق بأسمائه فيه ترتيب ،
( فراعى ) في ترتيب ما في هذا الخبر ( الدرجات التي للحق ) في ظهوره بالأسماء ، فإنه يظهر أولا بالانفعال وآخرا بالفعل ، وذلك عند استوائه على عرشه الذي هو قلب الكامل .


كما هو المشار إليه ( في قوله :رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) [ غافر : 15 ] ، فأعلى درجات ظهوره كونه ذا العرش ؛ ( لاستوائه عليه باسمه الرحمن ) الذي هو أعلى الأسماء الفاعلية اللاحقة باسم الذات ، في قوله تعالى :قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ[ الإسراء: 110].
؛ ولذلك اختص به تعالى ، وذلك عموم رحمته ( فلا يبقي فيمن حوى العرش من لا تصيبه الرحمة الإلهية ) .
( وهو ) أي : الدليل على ذلك ( قوله تعالى :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) [ الأعراف : 156].

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:58 pm

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية الجزء الثالث .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
الفصّ المحمدي
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية

وكيف لا تسع رحمته كل شيء ( والعرش وسع كل شيء ) ؛ لإحاطته لكن العرش الحقيقي هو الحقيقة المحمدية ، ( والمستوي ) عليه أي : العرش المحمدي اسمه ( الرحمن ) ؛ لإحاطته بجميع المراتب حتى أنه وسع العرش الجسماني وما دونه ، فاستوى اسم الرحمن بالحقيقة عليه ويحسب الظاهر على العرش الجسماني ، ( فبحقيقته يكون سريان الرحمة في العالم ) الذي يدخل فيه العرش الجسماني وغيره ( كما قدمنا في غير موضع ) واحد ، بل في مواضع كثيرة (من هذا الكتاب ومن الفتوح المكي ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد جعل الطّيب في هذا الالتحام النّكاحي في براءة عائشة فقال :الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ[ النور : 26 ] ، فجعل روائحهم طيّبة وأقوالهم صادقة لأنّ القول نفس ، وهو عين الرّائحة فيخرج بالطّيّب والخبيث على حسب ما يظهر في صورة النّطق ، فمن حيث إنه إلهيّ بالأصالة كلّه طيّب ؛ فهو طيّب ؛ ومن حيث ما يحمد ويذمّ فهو طيّب وخبيث .
فقال في خبث الثّوم : هي شجرة أكره ريحها ، ولم يقل أكرهها ؛ فالعين لا تكره ، وإنّما يكره ما يظهر منها ، والكراهة لذلك إمّا عرفا أو بعدم ملائمة طبع أو غرض أو شرع ، أو نقص عن كمال مطلوب وما ثمّ غير ما ذكرناه ، ولمّا انقسم الأمر إلى خبيث وطيّب كما قرّرناه ، حبّب إليه الطّيّب دون الخبيث ووصف الملائكة بأنّها تتأذّى بالرّوائح الخبيثة لما في هذه النّشأة العنصريّة من التّعفين ؛ فإنّه مخلوق من صلصال من حمأ مسنون أي متغيّر الرّيح ، فتكرهه الملائكة بالذّات ، كما أنّ مزاج الجعل يتضرّر برائحة الورد وهي الرّوائح الطّيبة . فليس ريح الورد عند الجعل بريح طيبة . ومن كان على مثل هذا المزاج معنى وصورة أضرّ بالحقّ إذا سمعه وسرّ بالباطل : وهو قوله : وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ[ العنكبوت : 52 ] . )
 
ولذلك قال تعالى فيه :وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [ الأنبياء : 107 ] في الاستواء العرشي أنه ( قد جعل الطيب تعالى في هذا الالتحام النكاحي ) فيما أنزل ( في براءة عائشة - رضي اللّه عنها ، فقال :الْخَبِيثاتُ) من الأزواج ( لِلْخَبِيثِينَ) من الرجال ،( وَالْخَبِيثُونَ ) من الرجال ( لِلْخَبِيثاتِ ) من الأزواج ،( وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ،وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ) حصر كل قسم من النساء والرجال فيمن يناسبه في أمر النكاح الكامل الموجب للمودة والرحمة ، ثم قال :( أُولئِكَ )أي : الطيبون من الرجال والنساء( مُبَرَّؤُنَ )[ النور : 26 ] من خباثة أنفسهم يعرف ذلك
 
( مما يقولون ) ، أي :  من أقوالهم المتزوجة بما في بواطنهم ، ( فجعل روائحهم ) الظاهرة في أقوالهم ( طيبة ) لطيب بواطنهم التي خرجت منها أنفاسهم الحامية لأسرارها وهي ( صادقة أقوالهم ؛ لأن القول نفس ) ، والنفس ريح ، والريح ( هي عين الرائحة ) عند تجاوزها للمريح ، وبواطنهم مريحة ، ( فتخرج ) النفس من الباطن ( بالطيب ) من أثر المريح الباطن وهو الرائحة ، ( وبالخبيث على حسب ما ظهرت ) تلك النفس به عند المقاولة ( في صورة النطق ) ، ولكن إنما يشتم تلك الرائحة الكمّل الذين يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ [ الأعراف : 46] ؛ فلذلك قال تعالى :" فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ " [ محمد : 30 ] .
 
وهذا النفس الإنساني مظهر النفس الرحماني المنزه عن الخباثة ، ( فمن حيث ) هو ، أي : النفس الإنساني ( إلهي بالأصالة ) ، والنفس الإلهي ( كله طيب ) ، فهو أي : النفس الإنساني باعتبار مظهريته له طيب ، ولكنه ( من حيث ما ) تأثر هذا النفس الإنساني من مخرجه بوصفه الذي ( يحمد ) تارة ( ويذم ) أخرى ، ( فهو ) بهذا الاعتبار ( طيب ) تارة ( وخبيث ) أخرى .
 
فالنفس الإنساني في هذا الأمر كسائر الموجودات ، فإنها من حيث أعيانها الثابتة في العلم الإلهي المنزه عن الخبائث كلها طيبة ، ومن حيث اتصافها بالعوارض عند ظهورها بصور الأشياء تنقسم إلى طيبة وخبيثة ، فاعتبر صلّى اللّه عليه وسلّم بعضها باعتبار تلك العوارض ؛
( فقال : « في خبث الثوم هي شجرة ) خبيثة " . ثم أشار إلى أن خبثها من عوارضها ، فقال : ( « أكره ريحها ») ، رواه مسلم وأحمد في  المسند .
 
(ولم يقل أكرهها ) مع أنه وصفه بالخباثة ، والخبيث لا بدّ وأن يكره للإشارة إلى أن خباثتها ليست من ذاتها ، وإلا لكانت حين تثبت في العلم الأزلي خبيثة مع أنها منزه عن الخبائث ، ( فالعين ) من حيث ثبوتها في العلم الأزلي ( لا تكره ، وإنما يكره ما ظهر منها ) ، ومع تك ( الكراهة لذلك ) الظاهر ليس من حيث أنه تلك العين ، أو من حيث أنه الظاهر ، بل ( إما عرفا ) لكونه خلاف ما أطبق عليه الجمهور ( أو بعدم ملائمة طبع ، أو بعدم غرض ، أو ) بعدم موافقة ( شرع ، أو ) بوجود ( نقص عن كمال مطلوب ) ، وهذه كلها عوارض ذلك الظاهر ( وما ثمة ) ، أي : في المكروهات سبب الكراهة ( غير ما ذكرنا ) ، فالأشياء وإن كانت طيبة بالأصالة ونظر الكامل إلى الأصل ؛
ولكن ( لما انقسم الأمر ) ، أي : أمر الموجودات بحسب هذه العبارات ( إلى خبيث وطيب كما قررناه ، حبب إليه الطيب ) ؛ لبقائه على صفة الأصل المحبوب ، فهو في ( الخبيث ) المتغير عن الأصل ؛ لأنه بالتغير صار إلى ضد المحبوب ، وإنما لم يحب الخبيث ؛ لبقائه على أصل الفطرة ، والدليل عليه أنه ( وصف الملائكة ) الذين لا يتغيرون عن الفطرة ( بأنها تتأذي من الروائح الخبيثة ) ، وإن لم يكرهها بعض الإنسان بنشأتها لهذه التغييرات ( لما في هذه النشأة العنصرية من التعفين ؛ فإنه مخلوق منصَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ[ الحجر : 26 ] ،
أي : متغير الريح ) ، فهو يحبها بهذا العوارض ، لكن لا عارض في الملائكة ( فتكرهه الملائكة بالذات ) ، فالشيء الواحد يختلف حاله طيبا وخباثة بالنظر إلى المنتفعين به والمتضررين ،
 
( كما أن مزاج الجعل يتضرر برائحة الورد وهي ) في العرف من ( الروائح الطيبة ) ، لكن لا يتضرر بالطيب أحد يكون عنده طيبا ، ( فليس ريح الورد عند الجعل بريح طيبة ) لغاية بعده عن الأصل بكثرة التغيرات ؛ ولذلك ( من كان على هذا المزاج ) الجعلي ( معنى ) بذهاب إنسانيته ( وصورة ) بدناءة عقله وغمته وتلطخه بالقاذورات آخرية ( الحق ، إذا سمعه وسر بالباطل ) لبعده عن الأصل وألفه للتغيرات الباطلة ، ( وهو ) الذي أشار إليه ( قوله :وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ .)
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ووصفهم بالخسران ؛ فقال :أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [ العنكبوت : 52 ]الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [ الأنعام : 12 ] ؛ فإنّه من لم يدرك الطّيّب من الخبيث فلا إدراك له ، فما حبّب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلّا الطّيّب من كلّ شيء وما ثمّة إلّا هو ، وهل يتصوّر أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلّا الطيّب من كلّ شيء ولا يعرف الخبيث أم لا ؟
قلنا : هذا لا يكون ؛ فإنّا ما وجدناه في الأصل الّذي ظهر العالم منه وهو الحقّ ، فوجدناه يكره ويحبّ ؛ وليس الخبيث إلّا ما يكره ولا الطّيب إلّا ما يحبّ ، والعالم على صورة الحقّ والإنسان على الصّورتين فلا يكون ثمّة مزاج لا يدرك إلّا الأمر الواحد من كلّ شيء ، بل ثمّة مزاج يدرك الطّيّب من الخبيث ، مع علمه بأنّه خبيث بالذّوق طيّب بغير الذّوق ، فيشغله إدراك الطّيّب منه عن الإحساس بخبثه ، هذا قد يكون .
وأمّا رفع الخبيث من العالم أي من الكون فإنّه لا يصحّ ، ورحمة اللّه في الخبيث والطّيب . والخبيث عند نفسه طيّب والطيّب عنده خبيث . فما ثمّة شيء طيّب إلّا وهو من وجه في حقّ مزاج ما خبيث : وكذلك بالعكس ) .
وأشار إلى سبب ذلك بما ( وصفهم بالخسران ) للأصل ، ( فقال :أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [ العنكبوت : 52 ] بطريق الحصر ، ثم بيّن أنه خسران الأصل الذي به إنسانيتهم ، فقال :( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ[ الأنعام : 12 ] ؛ لخسران إنسانيتهم بفوات الإدراك ، ( فإنه لم يدرك الطيب من الخبيث فلا إدراك له ) ، والحب فرع الإدراك ، وهو بقدر الإنسانية ، وهي بقدر البقاء على الفطرة ، ( فما حبب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلا الطيب من كل شيء ) ؛ لكمال بقائه على الفطرة التي هي أنسب للأصل ، فيحب بهذه المناسبة ما بقي على الأصل ،
 
وإن كان ( ما ثمة ) أي : في الأصل ( إلا هو ) ، أي : الطيب باعتبار مظهرية الحق ، ونظر الكامل إنما يكون إلى الأصل ، لكنه مع ذلك إنما يحب ما لم يتغير عنه ، وينظر إلى التغيرات بمزاجه الذي يناسبه ، والكامل من المزاج ، وإن كان يدرك الأصل باعتبار رجوعه إلى الوحدة عند إنكار طبائع أجزائه ، لكن ( هل يتصور أن يكون في العالم مزاج لا ) يدرك ( إلا الطيب من كل شيء ) بحيث ( لا يعرف الخبيث أم لا ، قلنا : هذا ) وإن أمكن عقلا ( لا يكون ) موجودا ، فإن غاية أمر المزاج في ترك الطبائع المختلفة ، والأخذ في الوحدة أن يتشبه بالأصل الذي وجد منه ، لكن ليس هذا في ذلك .
 
( فإن ما وجدناه في الأصل الذي ظهر منه العالم ) الذي من جملته المزاج ، ولما توهم من الأصل هاهنا الهيولى أو العناصر ، قال :وَهُوَ الْحَقُّ[ محمد : 2 ] ، بل وجدنا فيه ما يدل على إدراكه الخبيث والطيب ، ( فوجدناه يكره ) شيئا ( ويحب ) شيئا آخر ، ( وليس الخبيث إلا ما يكره ، ولا الطيب إلا ما يحب ، والعالم على صورة الحق ) ، فوجب في حقه التمييز بينهما كالأصل ( والإنسان على الصورتين ، فلا يكون ) فيه ما ليس منهما ، والمزاج من جملة ما في الإنسان ، فلا يكون ( ثمة ) أي : في الإنسان ( مزاج لا يدرك إلا الأمر الواحد ) وهو الطيب ( من كل شيء ) بحيث لا يعرف الخبيث أصلا ، ( بل ) غاية ما في الباب أن يكون ( ثمة ) أي : في الإنسان ( مزاج يدرك ) الوصف ( الطيب من ) الشيء ( الخبيث ) باعتبار بلوغ ذلك المزاج غاية الوحدة ، لكن ذلك إنما كان له من التعفن في طبائع العناصر التي حصل هذا المزاج من تركبها ، فيكون إدراكه للطيب والخبيث
 
( مع علمه بأنه خبيث ) ، كيف وقد أدرك خبثه ( بالذوق ) ، وما علم من أنه ( طيب ) فهو إنما علم ( بغير الذوق ) ، وهو النظر إلى الأصل والمعلوم بالذوق يغلب المعلوم بغير الذوق في أكثر الأحوال ، لكن قد يغلب في بعض الأشخاص النظر إلى الأصل ؛ ( فيشغله إدراك ) الوصف ( الطيب منه ) أي :
من الخبيث ( عن الإحساس بالخبيث ، هذا قد يكون ) على سبيل الندرة ، ويقرب منه ما روي : « أن عيسى عليه السّلام مرّ مع أصحابه بجيفة ، فقالوا : ما أنتن ريحها ! فقال : ما أحسن بياض أسنانها » ، رواه أبو نعيم في حلية الأولياء ولكن يكون الخبيث محبوبا له لوجوده في العالم .
 
كما أشار إليه بقوله : ( وأما رفع الخبيث من العالم ) ، ولما توهم أن المراد غير الإنسان أزاله بقوله ، ( أي : من الكون ، فإنه لا يصح ) ، بل يجب إيجاده لطيبه بالنظر إلى نفسه ، وبالنظر إلى بعض الموجودات ؛ ولذلك يقول ( رحمة اللّه ) : الإيجادية ( في الخبيث والطيب ) لا كما تقول النبوية من أنه لا ينسب إليه الشر ، كيف ( والخبيث ) إنما يكون ممتنع الإيجاد ولو كان خبيثا في نفسه ، ولكن الخبيث ( عند نفسه طيب ) ، إذ لا يتضرر شيء بنفسه ، ولا يتأذى منه ولا يكرهه أصلا ، ولو امتنع إيجاده لخبثه عند الغير ، لامتنع إيجاد الطيب إذ ( الطيب عنده خبيث ) ، ولو اعتبر انتفاع الغير وتضرره في إيجاد الشيء وإعدامه ، لوجب إيجاد كل شيء وإعدامه معا ، ( فما ثمة ) أي : في العالم ( شيء طيب إلا وهو من وجه في حق مزاج ما خبيث ) ، كالورد في الجعل ، والحق للكافر ، ( وكذلك بالعكس ) ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا الثالث الّذي به كملت الفرديّة فالصّلاة ، فقال : « وجعلت قرّة عيني في الصّلاة » ؛ لأنّها مشاهدة ، وذلك لأنّها مناجاة بين اللّه وبين عبده كما قال :فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ،وهي عبادة مقسومة بين اللّه وبين عبده بنصفين : فنصفها للّه ونصفها للعبد كما ورد في الخبر الصّحيح عن اللّه تعالى أنّه قال : « قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين : فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، يقول العبد :بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِيقول اللّه : ذكرني عبدي ، يقول العبد :الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يقول اللّه : حمدني عبدي ، يقول العبد :الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يقول اللّه : أثنى عليّ عبدي ، يقول العبد :مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يقول اللّه : مجّدني عبدي ، فوّض إليّ عبدي . فهذا النّصف كلّه للّه تعالى خالص ، ثمّ يقول العبد :إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يقول اللّه : هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فأوقع الاشتراك في هذه الآية ، يقول العبد :اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ[ الفاتحة : 71 ] يقول اللّه :" فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل". رواه أحمد في المسند ، وابن حبان.
 فخلص هؤلاء لعبده كما خلص الأوّل له تعالى ، فعلم من هذا وجوب قراءة " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فمن لم يقرأها فما صلّى الصّلاة المقسومة بين اللّه وبين عبده ).
( وأما الثالث الذي كملت به الفردية ) ، أي : بها تمام الإلهية ، فإنه بالأسماء لغنى الذات عن العالمين ، والصفات بالنظر إلى الذات عينها ، وإنما تتميز بالأسماء الجامعة بينهما ، ( فالصلاة ) الموجبة محبة الأسماء عن مشاهدة الحق بصورها .
)قال صلّى اللّه عليه وسلّم : « وجعلت قرة عيني في الصلاة  ( ، وإنما كانت قرة عينه ؛ ( لأنها مشاهدة ) ، أي : مستلزمة لمشاهدة الحبيب الإلهي ، ( وذلك ) أي : استلزامها للمشاهدة ؛ ( لأنها مناجاة بين اللّه وبين عبده ) ، وهي ذكر وهو مستلزم للمجالسة بالحديث ، وهي مستلزمة للمشاهدة على ما يأتي بيانه ، وإنما كانت ذكرا لقوله تعالى :"وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي" [ طه : 14 ] ، وإنما كان الذكر مستلزما للمجالسة ؛ لاستلزامه ذكر العبد ذكر الحق ( كما قال :فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [ البقرة : 152 ] ، فلزم التشارك في الذكر ، وهو يستلزم التشارك في الصلاة ، ولذلك ( عبادة مقسومة بين اللّه وبين عبده ) ، ومن شأن الشريكين في أمر اجتماعهما عنده ، وليس هذا المحل المنقسم مما لا يلتفت إليه أحد الشريكين لقلة نصيبه ، بل هو منقسم ( بنصفين ) ، وهذا النصف وإن كان في القراءة وحدها ، فهي لما كانت أعظم مقاصدها وكانت كلها منقسمة .
( فنصفها للّه ونصفها للعبد كما ورد في الخبر الصحيح ، فعن اللّه تعالى أنه قال :
"قسمت الصلاة " ) أي : بتقسيم القراءة المتضمنة المعاني جميعها ( « بيني وبين عبدي
نصفين  ) رواه مسلم وابن حبان.
  ، ولم أترك هذا القسم منها وإن كنت أترك شركا في عمل أشرك فيه معي غيري ، ( " فنصفها لي ونصفها لعبدي" ) ، ولا أتغلب على العبد بأخذ نصفه كما هو شأن الجبابرة ، بل ( لعبدي ما سأل ) والسؤال بي ( يقول العبد:"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" ،يقول اللّه : ذكرني عبدي ) بأخص أسماء ذاتي وصفاتي ، فكأنما جمع وجوه ذكري ، ( يقول العبد:"الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ"،يقول اللّه : حمدني عبدي ) بجميع محامد العالمين يجعل الحمد عليهم حمدا عليّ ؛ لأنهم إنما استحقوا الحمد بتربيتي إياهم ، فهو حمدي مع الحمد الذي في ذاتي ،
فكأنما جمع وجوه محامدي ، ( يقول العبد:"الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"،يقول اللّه : أثني عليّ عبدي ) بعموم الجود وخصوصه ، ( يقول العبد :"مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ"، يقول اللّه : مجدني عبدي ، فوض إليّ عبدي ) ، فلم يوجب عليه شيئا ، إذ جعلني مالكا فلا يملك على أحد شيئا فيوجبه ، بل الجود بمحض التفضيل منّي ؛ (فهذا النصف ) من القدر المتميز ( كله للّه خالص ) ، وإن كان ذكر فيه العالمون ؛ لأن المقصود ذكر يختص بالربوبية .
 
( ثم ) بعد الفراغ من خالص ما يتعلق بالربوبية الواجب تقديمه على المشترك والمختص للعبد ، ( يقول العبد :"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"،يقول اللّه : هذا بيني وبين عبدي ) من غير تميز ما يختص باللّه ، وما يختص بالعبد في اللفظ ، ( فأوقع الاشتراك في هذه الآية ) وإن كان المقصود منها بذلك العبد واستعانته ، فقد كان المقصود تخصيص الحق بالمعبودية والإعانة ، بدليل تقديمإِيَّاكَ، ( يقول العبد :اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 6 ) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ( 7 )، يقول اللّه : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل » ) من هداية طريق المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين درجتهم من طريقة أهل الغضب من الكفار والفساق ، ومن طريقة أهل الضلال عن موجبات القرب ،
( فخلص هؤلاء لعبده ) وإن ذكر فيه الرب ، ( كما خلص الأول له تعالى ) وإن ذكر فيه العالمون ، إذ لا عبرة بغير المقصود ( فعلم من هذا ) الخبر الجاعل قراءة الفاتحة كل الصلاة في القسمة
( وجوب قراءة :الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) لعله أشار إلى عدم وجوب البسملة كما هو مذهب مالك والشيخ منهم ، وإنما أوردرَبِّ الْعالَمِينَ ؛لئلا يتوهم قيام سورة الأنعام وغيرها مما ابتدأت بالحمد فيه مقامها ، كيف والمقصود من وضع الصلاة هذه القسمة ، ( فمن لم يقرأها ) في ( الصلاة المقسومة بين اللّه وبين عبده ) ، فكأنما ضيع حق اللّه وحق نفسه ، فما حصلت له صلاة كاملة ولا ناقصة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا كانت مناجاة فهي ذكر ، ومن ذكر الحقّ فقد جالس الحقّ وجالسه الحقّ ؛ فإنّه صحّ في الخبر الإلهيّ أنّه تعالى قال : « أنا جليس من ذكرني » ) رواه ابن أبي شيبة في المصنف.
(ومن جالس من ذكره وهو ذو بصر حديد رأى جليسه ، فهذه مشاهدة ورؤية ؛ فإن لم يكن ذا بصر لم يره ، فمن هاهنا يعلم المصلّي رتبته هل يرى الحقّ هذه الرؤية في هذه الصّلاة، أم لا؟
فإن لم يره فليعبده بالإيمان كأنّه يراه فيخيّله في قبلته عند مناجاته ، ويلقي السّمع لما يرد به عليه من الحقّ ).
 
ثم رجع إلى بيان ما أجمل من مقدمات كونها مشاهدة ، فقال : ( ولما كانت ) الصلاة ( مناجاة ) ، لما روي أنس عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : « إن أحدكم إذ قام إلى الصلاة ، فإنما يناجي ربه ، وإن ربه بينه وبين القبلة ، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته ، ولكن عن يساره أو تحت قدمه ، ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ، ثم رد بعضه على بعض ، فقال : أو يفعل هكذا » رواه البخاري ومسلم
( فهي ذكر ) إذ المناجاة مكالمة ، وقد قال تعالى :"وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي" [ طه : 14].
(ومن ذكر الحق فقد جالس الحق وجالسه الحق ، فإنه صح في الخبر الإلهي أنه قال : « أنا جليس من ذكرني » ) ، والمراد ما يلازم المجالسة من الرؤية ، وذلك أن ( من جالس من ذكره وهو ذو بصر حديد رأى جليسه ) ، ولكن لا يمكن رؤية الحق بالبصر الظاهر في الدنيا ، ( فهذه ) الرؤية لذاكره ( مشاهدة ) قلبية ، ( ورؤية ) روحية إن كان لقلبه وروحه بصر ، ( فإن لم يكن ) الذاكر ( ذا بصر ) قلبي ولا روحي ( لم يره ) ، كما لا يبصر أعمي العين الظاهرة جليسه ، والمصلي ذاكر ، ( فمن هنا ) أي : من رؤية الذاكر البصير ، وعدم رؤية الذاكر الأعمى ( يعلم المصلي رتبته هل ) هي رتبة الذاكر البصير ، فهو ( يرى الحق هذه الرؤية ) القلبية أو الروحية ( في هذه الصلاة ) التي هي جامعة وجوه الذكر ، أو هي رتبة الذاكر الأعمال ، فهو لا يرى الحق هذه الرؤية .
 
(فإن لم يره هذه الرؤية فليعبده بالإيمان ) الموجب اعتقاد قربه كما يعتقد الجليس الأعمى قرب جليسه ، فتبلغ بذلك رتبة الإحسان ، فيصير ( كأنه يراه فتخيله في قبلته عند مناجاته ) كما ورد به الحديث المذكور آنفا ، ( ويلقي السمع ) في حالتي الرؤية والإحسان ( لما يرد عليه من الحق ) في معاني كلامه ، وفيما يأتي به من سائر الأفعال إذ يصير كأنه يسمع من اللّه تعالى على ما نقله الشيخ شهاب الدين السهروردي في الباب الثاني من « العوارف » عن الإمام جعفر الصادق : "أنه خرّ مغشيا عليه ، وهو في الصلاة ، فسئل عن ذلك ، فقال : ما زلت أردد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها " .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن كان إماما لعالمه الخاصّ به وللملائكة المصلّين معه فإنّ كلّ مصلّ فهو إمام بلا شكّ ، فإنّ الملائكة تصلّي خلف العبد ؛ إذا صلّى وحده كما ورد في الخبر فقد حصل له رتبة الرّسول في الصّلاة ، وهي النّيابة عن اللّه ، وإذا قال : سمع اللّه لمن حمده ، فيخبر نفسه ومن خلفه بأنّ اللّه قد سمعه ، فتقول الملائكة والحاضرون : ربّنا ولك الحمد ؛ فإنّ اللّه قال على لسان عبده : سمع اللّه لمن حمده ، فانظر علوّ رتبة الصّلاة وإلى أين تنتهي بصاحبها ) رواه البخاري ومسلم .
(فمن لم يحصّل درجة الرّؤية في الصّلاة فما بلغ غايتها ولا كان له قرّة عين ، لأنّه لم ير من يناجيه ، فإن لم يسمع ما يرد من الحقّ عليه فيها فما هو ممّن ألقى السّمع ، ولا سمعه ، ومن لم يحضر فيها مع ربّه مع كونه لم يسمع ولم ير ، فليس بمصلّ أصلا ، ولا هوأَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ ق : 37 ] ) .
 
 ( فيخير نفسه ومن خلفه ) من الناس والملائكة ، ( فإن اللّه قد سمعه ) فيصدقه المخبر لهم ما سمعوا على لسانه من قول اللّه ، ( فيقول ) المخبر لهم وهم ( الملائكة ) ، وإنما تسرون ربنا لك الحمد كما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إذا قال الإمام : سمع اللّه لمن حمده ، فقولوا : اللهم ( ربنا لك الحمد ) ، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه » .
وإلا فلا معنى لهذه الأخبار منه ، وهذا القول منهم عقيب قوله ، فتعين أن اللّه نزله منزلة الرسول الذي ينطق على لسانه ، كما أشار إليه بقوله : ( فإن اللّه قال على لسان عبده : سمع اللّه لمن حمده ) .
 كما ورد في قصة شعيب عليه السّلام : أنه نطق اللّه تعالى على لسانه كما نقله محيى السنة في تفسير قوله تعالى :"وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ" [ الإسراء : 4 ] من معالم التنزيل ، وإذا كان للمصلي رتبة رؤية الحق وسماع كلامه وإمامة الملائكة ، وقد يبلغ في ذلك رتبة الرسل ، ( فانظر علو رتبة الصلاة ، وإلى أين تنتهي بصاحبها ) من مراتب الرسل الذين ينطق على لسانهم الحق ، وذلك بمشاهدة الحق فيها ، وسماع كلامه منه فيها ، ( فمن لم تحصل له درجة الرؤية في الصلاة فما بلغ غايتها ) ، أي : المقصود منها ، ( ولا كان له ) فيها ( قرة عينه ) اللازمة لغايتها ؛ ( لأنه لم ير من يناجيه ) وهي غاية الصلاة .
( فإن لم يسمع ما يرد من الحق عليه فيها ) من جواب قراءته ، وبيان معانيها الخفية ، وأشار أنها اللطيفة وسائر ما يتعلق بالأذكار والأفعال ، ( فما هو ممن ألقى السمع ) ، كما أنه ليس بصاحب الطيب الرائي ، ( ومن لم يحضر فيها مع ربه ) الذي يذكره كما هو شأن من يعبده بالإيمان ( مع كونه لم يسمع ولم ير ) ، أشار بذلك إلى أنه لا يطلب حضور الفاني في الحق والباقي به الرائي إياه ببصره ، والسامع منه بسمعه ، ( فليس بمصلّ أصلا ) عند اللّه ، وعند أصله في حكم الآخرة وإن كانت صلواته تمنع قتله ، وأفتى بصحتها فقهاء الدنيا ،
(ولا ) يقال : ( هو ممن ألقى السمع ) ، لكنه لم يسمع لعدم حضوره ؛ لأنا نقول لا يتصور إلقاء السمع من أحد إلا ( وهو شهيد ) ، وكيف لا يشرط الحضور في صحتها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما ثمّة عبادة تمنع من التّصرّف في غيرها ما دامت سوى الصّلاة ، وذكر اللّه فيها أكبر ما فيها لما تشتمل عليه من أقوال وأفعال ، وقد ذكرنا صفة الرّجل الكامل في الصّلاة في « الفتوحات المكيّة » كيف تكون لأنّ اللّه تعالى يقول :إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ[ العنكبوت : 45 ] ، لأنّه شرع للمصلّي أن لا يتصرّف في غير هذه العبادة ما دام فيها ويقال له : مصلّ ،وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ[ العنكبوت : 45 ] ، يعني فيها : أي الذّكر الّذي يكون من اللّه لعبده حين يجيبه في سؤاله . والثّناء عليه أكبر من ذكر العبد ربّه فيها ، لأنّ الكبرياء للّه تعالى ، ولذلك قال :وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ[ العنكبوت : 45 ] ، وقال :أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ ق : 37 ] فإلقاؤه السّمع هو لما يكون من ذكر اللّه إيّاه فيها ) .
 
( وما ثمة عبادة تمنع من التصرف في غيرها ما دامت ) باقية ( سوى الصلاة ) ، كما أن التصرف فيها شاغل عن الحضور فيها ، كيف والإخلال بالحضور إخلال مقصود الذكر ، ( وذكر اللّه فيها أكبر ما فيها لما يشتمل عليه من أقوال وأفعال ) لا تقصد بعينها لذكر اللّه فيها ، فإذا أخل بمقصود الذكر ، فقد أخل بأكبر ما فيها وللتكبر حكم الكل ، ( وقد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة في « الفتوح المكية » كيف تكون ) في أقواله وأفعاله فيها مستحضرا لمعانيها ، منتظرا لما يرد عليه من الحق فيها ، والغفلة عنها من الفواحش المنافية للصلاة ؛ ( لأن اللّه تعالى يقول :إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [ العنكبوت : 45 ] ، وينعكس بعكس النقيض إلى أن كل ما لا ينهى عن الفحشاء والمنكر فليس بصلاة ، وإنما كانت الغفلة عنها من الفواحش ؛ ( لأنه شرع للمصلي ألا يتصرف في غير هذه العبادة ما دام فيها ) ؛ لأن التصرف في غيرها موجب للغفلة عنها ، وخلاف المشروع فاحشة ، وهذا التصرف وإن لم يكن فاحشة في سائر الأوقات في حق المصلي وغيره ، ولكنه فاحشة في حق المصلي ما دام ( يقال له : مصلّ ) ، وكيف لا يكون فاحشة في حقه ، وهو إعراض عن سماع ذكر اللّه إياه وقت قيامه بين يديه ؟ ! كما أشار إليه بقول :(" وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ") [ العنكبوت : 45 ] .
ولما توهم من إطلاقه أن اللّه تعالى ذاكر له في كل حين ، فيكون كل تصرف شغل عنه فاحشة ، لكن ليس كذلك بالاجتماع ، قال : ( يعني فيها ) ، بدليل أن ذكره تعالى مرتب على ذكر العبد في قوله :"فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" [ البقرة : 152 ] ،
ولما توهم جواز كونه من إضافة المصدر إلى المفعول والاسم المقصود ، قال ( أي : الذكر الذي يكون مع اللّه لعبده ) ، وأشار إلى وجه تخصيصه بحال الصلاة بقوله : ( حين يجيبه في سؤاله ، والثناء عليه ) على ما يدل عليه حديث قسمة الصلاة ( أكبر من ذكر العبد ربه فيها ) ، فهو وإن كان ذاكرا معرض عما هو أكبر ، فكأنه معرض مطلقا ، واستدل على أن المراد إضافة المصدر إلى الفاعل بقوله : ( لأن الكبرياء للّه ) ، ولو كان ذكر اللّه أكبر ، لكان له الكبرياء وهو باطل ؛ ( ولذلك ) أي : ولكبر هذا الذكر ذكر الحق المعرض بالوعيد الشديد ، والمقبل بالمدح ، إذ هم ( قال ) تعالى في حق المعرض :( "وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ") [ العنكبوت : 45 ] .
( وقال ) في حق المقبل :( أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ ق : 37 ] ) ، فألحقه بصاحب القلب ، والآية وإن لم تنزل في حق المصلي خاصة ، فهو داخل فيها ، ( فإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر اللّه إياه فيها ) وهو ثابت بالنص ، فلا يكون من جملة تخيلاته ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن ذلك أنّ الوجود لمّا كان عن حركة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود عمّت الصّلاة جميع الحركات وهي ثلاث : حركة مستقيمة وهي حال قيام المصلّي ، وحركة أفقيّة وهي حال ركوع المصلّي ، وحركة منكوسة ؛ وهي حال سجوده فحركة الإنسان مستقيمة وحركة الحيوان أفقيّة وحركة النّبات منكوسة ؛ وليس للجماد حركة من ذاته : فإذا تحرّك حجر فإنّما يتحرّك بغيره).
 
( ومن ذلك ) أي : ومن علو رتبة الصلاة أنها اشتملت على أنواع الحركات الاختيارية ، والمشبهة بها مما تطلب بها الكمالات ، وتحترز عن النقائص ، وهي التي أخرجت العالم عن غاية النقص إلى غاية الكمال ، وذلك ( أن الوجود ) أي : وجود العالم ( لما كان عن حركة معقولة ) للعالم ( نقلب العالم ) والقدم الذي هو غاية النقص ، ( إلى الوجود ) الذي هو غاية الكمال ، ( عمت الصلاة ) التي تطلب بها الكمالات ، وتهرب بها عن النقائص ( جميع الحركات ) الاختيارية وما أشبهها في السير إلى الجهات المختلفة ، ( وهي ثلاثة : حركة مستقيمة ) يصير بها المتحرك كالخط المستقيم ، ( وهي حال قيام المصلي ، وحركة أفقية ) يتوجه بها المتحرك إلى الأفق الذي هو الدوائر المتوهمة بين النصف الظاهر من الفلك والنصف الباطن منه ، ( وهي حال ركوع المصلي ، وحركة منكوسة ) بجعل أعلى المتحرك أسفله وأسفله أعلاه ، ( وهي حالة سجوده ) ، فجمعت الصلاة هذه الحركات المتفرقة على المواليد التي هي منتهى كمالات العالم مما يتحرك بالاختبار أو بما يشبهه .
 
( فحركة الإنسان ) من القعود والوقوف إلى القيام ( مستقيمة ) بجعله كالخط المستقيم ، ( وحركة الحيوان أفقية ) إذ وجهه إلى الأفق فيها ، ( وحركة النبات ) في نشر عروقها التي بها قوامها ( منكوسة ) ولا عبر بسائر حركاتها كسائر حركات الإنسان والحيوان ، وهذه الحركة النباتية نسبة الاختيارية في أخذ الجهات المختلفة ، ( وليس للجماد ) وإن كان من المواليد حركة ( من ذاته ) باختيار أو بما يشبهه ، وإلا لتحرك مع كونه في مركزه كالإنسان والحيوان والنبات ، ( فإذا تحرك ) حجر في مركزه بالزحزحة مثلا ، فإنما يتحرك ( بغيره ) فليس بها طالبا للكمال لنفسه حتى يعتد بحركته ، فإذا جمعت الصلاة هذه الحركات الكمالية لما هي منتهى كمالات العالم مما يتحرك لطلب الكمال والهرب من النقائص ، كانت الصلاة كذلك بمجرد صور هذه الحركات ، فأين ما يقصد من معانيها ومعاني ما يتلى فيها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا قوله : « وجعلت قرّة عيني في الصّلاة »  ، ولم ينسب الجعل إلى نفسه فإنّ تجلّي الحقّ للمصلّي إنّما هو راجع إليه تعالى لا إلى المصلّي ، فإنّه لو لم يذكر هذه الصّفة عن نفسه لأمره بالصّلاة على غير تجلّ منه له ، فلمّا كان منه ذلك بطريق الامتنان ، كانت المشاهدة بطريق الامتنان ؛ فقال : « وجعلت قرّة عيني في الصّلاة » ، وليست قرّة عينه إلّا مشاهدة المحبوب الّتي تقرّ بها عين المحبّ ، من الاستقرار فتستقرّ العين عند رؤيته فلا تنظر معه إلى شيء غيره في شيء وفي غير شيء ) .
 
ثم أشار إلى أن أعظم ما فيها قرة العين ، وهي من المواهب دون المكاسب ، فقال :
 وأما قوله : « وجعلت قرة عيني في الصلاة » ، فنسب الجعل إلى اللّه تعالى ؛ ليشير إلى أن هذه القرة من جملة المواهب ، وإن كانت مسنده إلى عين العبد ، ولكن ( لم ينسب الجعل إلى نفسه ) التي لها التصرف في عينه ، إذ لا مدخل للكسب فيها ، وهي وإن كانت من الصلاة فهي متوقفة على التجلي ولا فعل للمصلي فيه ، ( فإن تجلي الحق للمصلي ، إنما هو راجع إلى اللّه لا إلى المصلي ) وإن فرض جريان السنة بحصوله عند الصلاة ، والمشاهدة من لوازمه ، والقرة من لوازم المشاهدة ، وإذا لم يكن للعبد قدرة على الملزوم ، لم يكن له قدرة على اللازم ، علمنا أن له قدرة على القرة والمشاهدة من حيث أنهما من فعله ، لكنهما إذا كانا مقدورين كانا مورين ؛ لأنهما من جملة الكمالات سيما في الصلاة ، بل كانا المقصود من الصلاة ولا يمكن الأمر بهما عند التجلي لحصولهما عنده ولا يؤمر بتحصيل الحاصل ، فلا يمكن الأمر بالصلاة عند التجلي ،

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:58 pm

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية الجزء الرابع .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي   

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الرابع
الفصّ المحمدي
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية

وإليه الإشارة بقوله : ( فإنه ) أي : الحق ( لو لم يذكر هذه الصفة ) ، أي : إفادة القرة والمشاهدة ( عن نفسه ) ، بل جعلها من كسب نبيه عليه السّلام ( لأمره بالصلاة ) إذا كان ( على غير تجلّ منه ) ، لكنه مأمور بالصلاة عند التجلي وعدمه بالاتفاق ، فإنه لا يسقطها سوى زوال العقل مع أنهما يتوقفان على التجلي ، فيكون الأمر بهما أمرا بالتجلي الذي لا يقدر على تحصيله ، فلا يؤمر به حين عدم التجلي ؛ لعدم القدرة عليه ولا حين التجلي ؛ لأنه أمر بتحصيل الحاصل ، فعلم أن القرة والمشاهدة غير مقدورة للعبد ، فلا يؤمر بهما ، بل يمن بهما على العبد كالتجلي ،

وإليه الإشارة بقوله : ( فلما كان منه ) ، أي : من الحق ( ذلك ) التجلي ( بطريق الامتنان ) ، إذ لا فعل للعبد فيه أصلا ( كانت المشاهدة ) من حيث لزومها له ( بطريق الامتنان ) ، وإن كانت من فعل العبد ، وكذا لازمها التي هي القرة .
( فقال : « وجعلت قرة عيني في الصلاة »  ) ، وإذا كانت من المشاهدة في الصلاة ، فليس موجبها ( إلا مشاهدة المحبوب التي تقر بها عين المحب ) .

""أضاف المحقق :
القرة إما من المقر يعني البرد فتكون قرة عينه كناية عن المسرة ؛ فإن عين المسرور تبرد لقرار باطنه وعين المهموم تسخن لاضطراب باطنه ، وإما من القرار فيكون المراد بقرة العين ما تستقر عليه العين . عبد الرحمن الجامي ""


 فإن القرة ( من الاستقرار ) ، واستقرار عين المحب برؤية المحبوب لانتهاء طلبها لمرئي آخر عند رؤيته ، ( فتستقر العين عند رؤيته ) عن طلب مرئي آخر ، بل يخاف أن يشارك رؤيته رؤية المحبوب ، ففوته التلذذ بالمحبوب بقدر ما انصرف عن رؤيته إلى الغير ، ( فلا ينظر معه إلى شيء غيره ) سواء رأى المحبوب ( في شيء وفي غير شيء ) ، وهي الرؤية في غير المظاهر كما في الآخرة ، فلا تشغله رؤية الشيء عند رؤية المحبوب فيه ، إذ لا يراه أصلا .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك نهي عن الالتفات في الصّلاة ، فإن الالتفات شيء يحتلسه الشّيطان من صلاة العبد فيحرمه مشاهدة محبوبه ، بل لو كان محبوب هذا الملتفت ، ما التفت في صلاته إلى غير قبلته بوجهه ، والإنسان يعلم حاله في نفسه هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصّة أم لا ، فإنّ "الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ" [ القيامة:14-15 ].
فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه ، لأنّ الشّيء لا يجهل حاله ؛ فإنّ حاله له ذوقيّ ) .

( ولذلك ) أي : ولكون عين المحب لا ينظر عند رؤية المحبوب إلى شيء آخر ( نهى عن الالتفات ) الموجب لرؤية الغير ( في الصلاة ) التي فيها مشاهدة المحبوب ، كيف وهو مانع عن مشاهدة المحبوب ،

 ( فإن الالتفات شيء يختلسه ) ، أي : يختلس بسببه ( الشيطان ) المشاهدة ( من صلاة العبد ، فيحرمه مشاهدة محبوبه ، بل ) يسلب عنه محبته ، إذ ( لو كان محبوب هذا المتلفت ) ( في صلاته ) الموجبة لمشاهدته ( إلى غير قبلته ) التي يشاهد فيها محبوبه على ما أشار إليه الحديث السابق ( بوجهه ) الذي به مشاهدته ، والمقصود من هذا النهي : النهي عن الالتفات إلى غير الحق سواء تخيله في جهة القبلة أم لا ، فيجب الانتهاء عنه ، فيجب على العبد صرف نفسه بالكلية إلى الحق بحيث لا يلتفت إلى غيره ( في هذه العبادة الخاصة ) التي يضيع هو بالكلية بتضييعها عن تضييع التوجه الكلي إلى الحق فيها ( أم لا ، فإنالْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) [ القيامة : 14 ، 15 ] .
بأنه من الدقائق التي فاتته ، وأن حضور نفسه ليس من مقدوراته ، ( فهو يعرف كذبه من صدقه ) ، إذا كانا في نفسه ؛ ( لأن الشيء لا يجهل حاله ) ، وإن دقّ فإن ( حاله له ذوقي ) ، والذوقي في الضروري ، وإن صعب بيانه ، وهذه المشاهدة كانت من مجالسه المصلي مع الحق لاجتماعهما على الصلاة التي انقسمت بينهما .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّ مسمّى الصّلاة له قسمة أخرى ؛ فإنّه تعالى أمرنا أن نصلّي له وأخبرنا أنّه يصلّي علينا ؛ فالصّلاة منّا ومنه ، فإذا كان هو المصلّي فإنما يصلّي باسمه الآخر ، فيتأخّر عن وجود العبد : وهو عين الحقّ الّذي يخلقه العبد في قلبه ، بنظره الفكريّ أو بتقليده وهو الإله المعتقد ، ويتنوّع بحسب ما قام بذلك المحلّ من الاستعداد كما قال الجنيد حين سئل عن المعرفة باللّه والمعارف ؛ فقال : لون الماء لون إنائه ،
وهو جواب سادّ أخبر عن الأمر بما هو عليه ، فهذا هو اللّه الّذي يصلّي علينا ، وإذا صلّينا نحن كان لنا الاسم الآخر فكنّا فيه كما ذكرناه في حال من له هذا الاسم ، فنكون عنده بحسب حالنا ، فلا ينظر إلينا إلّا بصورة ما جئناه بها فإنّ المصلّي هو المتأخّر عن السّابق في الحلبة ، وقوله تعالى :"كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ"[ النور : 41 ] أي : رتبته في التّأخّر في عبادته ربّه ، وتسبيحه الّذي يعطيه من التّنزيه استعداده ، فما من شيء إلّا وهو يسبّح بحمد ربّه الحليم الغفور .).


""أضاف المحقق :
أي : المتنزل إلى رتبة من هو دونه ، وهذا التنزل هو ظهوره بصور الأشياء لإظهار كمالاته ؛ فهو ناظر إلى الحمد ، والغفور أي : الساتر هذا التنزل كما هو مقتضى التنزيه والتسبيح . عبد الرحمن الجامي . ""

( ثم إن مسمى الصلاة ) ، أي : مفهوم لفظها ( له قسمة أخرى ) باعتبار اشتراكها اللفظي بين المعنى القائم بنا ، والمعنى القائم بالحق ، ( فإنه تعالى أمرنا أن نصلي له ) بقوله :
"وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ "[ البقرة : 43 ] ( أخبرنا أنه يصلي علينا ) بقوله :"هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ"[ الأحزاب : 43 ] ،

( فالصلاة ) منها شيء هو الجامع للأذكار والأفعال المخصوصة ، ومنها شيء آخر هو سبب الإخراج من الظلمات إلى النور ، وليس عين الأفعال والأذكار إذ لا يتنافي عنه ، ولا يليق بجنابه ، فهو شيء من تجلياته على المصلي يصدق عليه اسم المصلي ببعض المعاني ، وقد وجدنا المصلي يطلق على الفرس المتأخر من السابق في الحلبة ، فيكون تجليه على المصلي منها بما يناسب هذا المعنى ،

( فإذا كان الحق هو المصلي ، فإنما يصلي باسمه الآخر ) ، وليس هذا الاسم الآخر هو الذي تجلى به على العبد فوجد العبد به ؛ لأنه سبب لإخراج العبد بعد وجوده من الظلمات إلى النور .


( فيتأخر عن وجود العبد ) ، وهذا المتجلي بالاسم الآخر في الصلاة ، المتأخر عن وجود العبد ( هو عين الحق ) الذي يتصوره العبد في قبلته ، والتصوير من فعل العبد ، فهو ( الذي يخلقه العبد في قلبه ) ، وكيف لا وهو يقيده ( بنظره الفكري ، أو بتقليده ) للمتكلمين القائلين بالتنزيه المحض مع أن كونه في قبلته ينافي ذلك ، وإنما هو بالظهور منه مع أنه غير مقيد بذلك الظهور ولا بتنزيه المتكلمين ، ( وهو ) أنه ( المعتقد ) الذي يعتقد تقيده بمعتقده يخرجه من الظلمات إلى النور بحسب اعتقاده .
ولما كان الاعتقاد بحسب استعداد المعتقد ، فهو ( يتنوع ) مع تنزهه في اعتقادات هؤلاء ( بحسب ما قام بذلك المحل ) ، أي : محل الاعتقاد ) من الاستعداد ) لتصوير تنزيهه ، فهذه الصور التنزيهية المتنوعة بحسب تنوع استعدادات محل الاعتقاد من المعتقدين.


( كما قال الجنيد حين سئل عن المعرفة باللّه ، والعارف ، فقال : "لون الماء لون إنائه " ، فإنه لا لون للماء ، وإنما هو للإناء ، لكن يرى في الماء لون الإناء ) ، فكذا الحق منزه عما يقيده المعتقدون فيه وإن قالوا بالتنزيه ، لكن تتقيد صور اعتقاداتهم بحسب ما قام بمحلها من الاستعدادات .

( وهو جواب ساد ) قل من أجاب به ، ولكنه ( أخبر عن الأمر ) ، أي : أمر المعرفة ( بما هو عليه ) ، فإن الحق لا يتقيد بما يتصور العبد إلا في اعتقاده ، وإذا كان الفيض الإلهي في الإخراج من الظلمات إلى النور بحسب الصورة الاعتقادية للعبد ، ( فهذا هو اللّه الذي يصلي علينا ) ، فيفيض علينا بحسب صور اعتقاداتنا المختلفة ، وإن اتفقت في كونها تنزيهية ، لكنها تختلف كمالا ونقصا ، وإذا كان تجلي الحق علينا بالاسم الآخر في الصلاة ، فالمعطي من حيث هو مصلّ مظهر هذا الاسم ، ( فإذا صلينا نحن كان لنا الاسم الآخر ) يظهر به في مرآة الحق عند مشاهدتنا إياه ، ( فكنا فيه ) ، أي : في الحق يعني في مرآته على صور اعتقاداتنا في اللّه ( كما ذكرناه في حال من له هذا الاسم ) المتجلي به فينا حال الصلاة ، أنه يكون بحسب استعدادات محل اعتقاداتنا ، ( فيكون عنده ) من غير حلول فيه كمال حلول له فينا عند ظهوره بمرآتنا ( بحسب حالنا ) من تجليه بهذا الاسم فينا ، وإذا كانت هذه صورتنا في نفوسنا ، وفي مرآتنا .

( فلا ينظر إلينا إلا بصورة ما جئناه بها ) ، ويكون فيضه بحسب هذه الصورة ، وإنما كان تجلي الحق على المصلي بالاسم الآخر ؛ لصدق معنى المتأخر على من صدق عليه اسم المصلي كصدق معنى العابد عليه ، ( فإن المصلي ) من فرس المسابقة ( هو المتأخر عن السابق في الحلبة ) أي : الميدان ،

وقد تقرر إطلاق اسم العابد على مع أن للعابد إنما يسمي مصليا ؛ لتأخر رتبة العبدية عن رتبة الربوبية ، فتعين أن يكون إطلاق اسم المصلي عليه باعتبار تجليه بالاسم الآخر ، وهو ظهوره للعبد بصورة اعتقاده ، وهو أي : الدليل على أن الصلاة بمعنى التأخر أنها قد جاءت في حق العباد بهذا المعنى ، فكيف لا يكون في حق اللّه تعالى بهذا المعنى ( قوله تعالى :كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [ النور : 41 ] .
فإنه من المعلوم أنه لا يصلي كل طير ودابة الصلاة التي هي ذات الأذكار والأفعال المخصوصة ، فلابد له من تأويل ، وأحسن التأويلات ما بين معنى العبادة اللازمة لصلاتنا ، وبين معنى التأخير المفهوم من الصلاة في الجملة اللازم للعبادة ، وهو الذي أشار إليه قوله :

( أي : رتبة في التأخير ) عن درجة ربه عرف تنزيهه عن رتبة نفسه ، وعرف أيضا ( تسبيحه الذي يعطيه من التنزيه ) الكلي الإلهي ( استعداده ) ، فإنه لا يصل أحد إلى كنه تنزيهه الكلي ، وإنما يصل إلى مقدار ما يتنزه في نفسه ، فالملائكة أكثر تنزيها من عامة البشر ، وهم أكثر من الدواب حتى ينتهي تنزيه بعضهم إلى أنه لا يكون عين ذاته لا غير "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ" [ الإسراء : 44 ] في عدم مؤاخذته من لم ينزهه حتى تنزيهه ، كيف وقد تجلي عليهم بالاسم الغفور السائر كنه تنزيهه عليهم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك لا نفقه تسبيح العالم على التّفصيل واحدا واحدا ، وثمّة مرتبة يعود الضّمير على العبد المسبّح فيها في قوله :"وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ" [ الإسراء :44] ، أي : بحمد ذلك الشّيء ، فالضّمير الّذي في قوله "بِحَمْدِهِ" [ الإسراء : 44 ] ، يعود على الشّيء أي بالثّناء الّذي يكون عليه ،
كما قلنا في المعتقد : إنّه إنّما يثني على الإله الّذي في معتقده وربط به نفسه ، وما كان من عمله فهو راجع إليه ، فما أثنى إلّا على نفسه ، فإنّه من مدح الصّنعة فإنّما مدح الصّانع بلا شكّ ، فإنّ حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها ، وإله المعتقد مصنوع للنّاظر فيه ، فهو صنعته فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه ) .


( ولذلك ) أي : ولكون تسبيح الكل بما يعطيه استعداده ، ولكل واحد من الموجودات غير المتناهية استعدادات خاصة تخالف استعداد كل واحد استعداد غيره بوجه من الوجوه ، ولا يمكن لنا الاطلاع على تفاصيلها ( لا نفقه تسبيح العالم ) ، وإن علمنا إجمالا اتفاقهم في تنزيه الحق ( على التفصيل واحدا ) بعد ( واحد ) ، وهذا مبني على أن الضمير في قوله : "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ " يعود إلى اللّه تعالى.


"" أضاف المحقق :
هذا كله في التسبيح والحمد اللذين في مرتبة صلاة العبد ؛ فالمصلي والمسبح والحامد في هذه المرتبة هو العبد . عبد الرحمن الجامي  ""

، ( وثمة ) أي : في الواقع ( مرتبة ) كشفية ( يعود الضمير إلى العبد ) لمن نظر ( فيها ) ، أي : في تلك المرتبة
( في قوله :" وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ" أي : بحمد ذلك الشيء ) ؛ لأنه أقرب المذكورين ، واللّه تعالى أبعدهما في ( الضمير الذي في قوله :بِحَمْدِهِ يعود على الشيء )، أي : وإن لم يقصد حمد نفسه ، بل حمده اللّه تعالى ( بالثناء الذي يكون عليه ) ؛ لأنه إنما يسبح بقدر استعداده ، فهو إنما يثني على من يتصور منزها بقدر استعداده ، فصار ثناؤه عليه ( كما قلنا في المعتقد ) المقيد معبوده ، بل أدى إليه نظره الفكري أو تقليده للمتكلمين ، ( أنه إنما يثني على الإله الذي في معتقده ) ، وكيف لا يكون ثناؤه عليه ، وقد زين نفسه به ، فزعم أنه خالق نفسه ، ( وربط به ) ( ما كان من عمله ، فهو ) أي : ثناؤه على اللّه ( راجع إليه ) ، أي : إلى معتقده الذي بصورة من فعله هو صنعته .

( فما أثنى ) في ثنائه على اللّه ( إلا على نفسه ، فإنه من مدح الصنعة ) ، فإنه مدح الصانع بلا شك ؛ لأن مدح الصنعة ( إنما ) كان فعل ( الصانع ) ورعايته ما ينبغي فيها ، فهو وإن كان قبيحا في سائر الاعتبارات كان ممدوحا باعتبار الصنعة ،
( فإن حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها ) ، والمعتقد اسم الفاعل صانع لما يتصوره من الإله في قلبه ، إذ ( إله المعتقد مصنوع للناظر فيه ) بنظر الحقيقة ، وإن زعم المعتقد إن ذلك الإله في اعتقاده صانعه ، وفي المصنوع أثر صنعة الصانع التي يمدح الصانع من أجلها ، ( فهو ) أي : إله المعتقد من حيث اشتماله على أثر صنعة الصانع المعتقد المصور له صنعة ، فثناؤه على ما اعتقده على أثر ( صنعته ) فيه ، وهو ثناء على صنعته والصنعة من الصانع ، فهو ( ثناؤه على نفسه ) .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا يذمّ معتقد غيره ، ولو أنصف لم يكن له ذلك ، إلّا أنّ صاحب هذا المعبود الخاصّ جاهل بلا شكّ في ذلك لاعتراضه على غيره فيما اعتقده في اللّه ، إذ لو عرف ما قال الجنيد لون الماء لون إنائه لسلّم لكلّ ذي اعتقاد ما اعتقده ، وعرف اللّه في كلّ صورة وكلّ معتقد ، فهو ظان ليس بعالم ).


( ولهذا ) أي : ولكون إله المعتقد من صنعته ( يذم معتقد غيره ) كما يذم بعض الصناع صنعة غيره إذا لم ينصف ، ( ولو أنصف لم يكن له ذلك ) ؛ لأنهما في اعتقاد أصل التنزيه على السوية ، إلا أن الأشعري يزعم أنه إنما ينزه عن النقائص لو ثبتت له صفات زائدة من الحياة والعلم ، والإرادة والقدرة ، والسمع والبصر والكلام والمعتزلي يزعم أنه إنما ينزه عن الكثرة لو كانت الصفات عين الذات ، ولو اتصف العلماء أن كلا منهما مصيب من وجه مخطئ من وجه، فهو منزه عن كثرة الصفات باعتبار استقراره في مقر غيره ، وله صفات باعتبار تعلقه بالعالم،

( إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص ) لا يتأتى له ذلك ، والإنصاف ؛ لأنه ( جاهل ) بالجهل المركب ، فزعم أنه عالم ( بلا شك في ذلك ) المعتقد ؛ ( لاعتراضه على غيره فيما اعتقده في اللّه ) .
ولو لم يكن جهله مركبا لم يعترض عليه ، بل قال مثل قول المحققين ،
وإليه الإشارة بقوله : ( إذ لو عرف ما قال الجنيد : " لون الماء لون إنائه " ، لسلم كل ذي اعتقاد ) من أهل التنزيه ، والجامع بين التنزيه والتشبيه باعتبار استقراره في مقر غيره ، وتعلقه بالعالم ( ما اعتقده ، وعرف اللّه ) ظاهرا ( في كل صورة ) من صور العالم ، ولم ينكر على الصوفية القائلين بظهوره في العالم بصور المحدثات ، فإنه وإن لم يكن له صور في ذاته ، فلا يبعد أن يتصور عند ظهوره في حقائق الأشياء ، كما أنه لا لون لنور الشمس ، وهو يتلون بألوان الزجاجات إذا أشرق عليها فيما يحبها ، وإذا كان ( كل معتقد ) من الأشاعرة والمعتزلة مصيبا من وجه ومخطئا من وجه ، فكل معتقد يقيده ، ( فهو ظانّ ) في الحق "وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً " [ النجم : 28 ] ( ليس بعالم ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلذلك قال : « أنا عند ظنّ عبدي بي » . رواه البخاري  ومسلم  
أي : لا أظهر له إلّا في صورة معتقده : فإن شاء أطلق وإن شاء قيّد ، فإلّه المعتقدات تأخذه الحدود وهو الإله الّذي وسعه قلب عبده ، فإنّ الإله المطلق لا يسعه شيء لأنّه عين الأشياء وعين نفسه ، والشّيء لا يقال فيه يسع نفسه ولا لا يسعها فافهم ،وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [ الأحزاب : 4] .


(ولذلك ) أي : ولكون كل معتقد ظانّا ( قال ) اللّه تعالى : ( « أنا عند ظن عبدي بي » ) ، ولم يقل : عند علم عبدي بي ، ( أي : لا أظهر له ) في الدنيا والآخرة ( إلا في صورة معتقده ) ما دام اعتقاده باقيا على ما مر ، فإذا ظهر في صورة أخرى أنكره ، ( فإن شاء أطلق ) فلا يتقيد بتنزيه في كل موضع ولا بتشبيه في الكل ، فإن التنزيه المحض نقص ، والتشبيه المحض كفر ، ( وإن شاء قيد ) وأخطأ بالنقص أو بالكفر أو البدعة ، قال : ( المعتقدات ) ما حد ( الحدود ) المانعة من دخول معتقد الغير فيه ، فالمنزه يمنع من التشبيه في الظهور أيضا ، والمشبه يمنع من التنزيه والمبتدع يمنع من التنزيه عن النقائص بعدم الصفات ، واللّه تعالى ليس بمحدود .

 
ثم أشار إلى أن المتصور في الإله شيئا من الإفراد بالتنزيه أو التشبيه أو الجمع بينهما ، فإلهه أيضا محدود وإن بلغ حد الكشف بقوله ، ( وهو ) أي : المحدود هو ( الإله الذي وسعه قلب عبده ) دون المطلق ، ( فإن الإله المطلق لا يسعه شيء ؛ لأنه ) باعتبار الظهور ( عين الأشياء ) التي من جملتها قلب هذا العبد ، وباعتبار البطون ( عين نفسه ) ، وليس وسعه القلب باعتبار بطونه ، إذ هو باعتبار التجلي له ، فتعين أن يكون باعتبار الظهور ، ولكنه ليس على الإطلاق في الظهور بحيث يشمل القلب ؛

لأن ( الشيء لا يقال ) أنه ( يسع نفسه ، ولا يسعها ) ذو فهم يعني قوله عزّ وجل : « وسعني قلب عبدي المؤمن » . ؛ فإنه إنما وسعه ما يتصوره ، وإن كان أقرب إلى مطابقة ما عليه الحق في نفسه بالنظر إلى متصرفه من دونه لا في نفس الأمر ،("وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ") [ الأحزاب : 4 ] .

والحمد للّه عدد كل حرف ملء السماوات والأرض ، وملء مالا يدرك له طرق على ما وفقني فيه للتوفيق بين ظاهر الشرع في كل أصل وفرع يظنه المسمى بالحقيقة ،
فأخرجته من ظلمات إنكار المنكرين عن سوء الفهم ، وإقرار من يعترف به مع ما فهم فيه من مخالفة الشرع ، إذ لم يكن له من التوفيق بينهم ، فكانت كلتا الفرقتين في درك مقاصده في ذلك ضلال الهاوية " تَصْلى ناراً حامِيَةً تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ " [ الغاشية : 4 ، 5 ] .
إلى يوم الهداية الجامعة بين أسرار الحقيقة ، وأنوار الشريعة بعون اللّه تعالى "فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ " [ الحاقة : 22 ] .
لا تسمع فيها من مخالفة الشرع والعقل " لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً " [ الغاشية : 11 ] ، فقيل لأربابها : " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ " [ الحاقة : 24 ]
قُطُوفُها من فوائد الكتاب "دانِيَةٌ" [ الحاقة : 23 ] ،
ومن لطائف نكات العلم "عَيْنٌ جارِيَةٌ " [ الغاشية : 12 ] ،
ومن تمهيدات قواعده " سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ " [ الغاشية : 13 ] ،
ومن التقريبات إلى العقل بنقيضه من الكتاب والسنة ، أو قدماء الصوفية ، أو البراهين العقلية "وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ " [ الغاشية : 14].
وقلع أى رفع الشبه ، وأوهام الكفر والبدعة والخشوع "وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ " [ الغاشية : 15 ، 16 ] ،
والحمد للّه الذي نجانا من القوم الظالمين ، وأحلنا برحمته في عباده المؤمنين ،
والحمد للّه الذي هدانا لهذا التحقيق ، وما كنا لنهتدي لهذا التدقيق لولا أن هدانا اللّه بانتهاء أنواع التوفيق ، وقد أضل كثيرا من الشارحين ، فجعلهم "فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ" [ الشعراء : 225 ] ، وفي مواضع الإشارة بعضهم " فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ" [ البقرة : 15].

وصلّ اللّه على سيدنا ، بل سيد الرسل والأنبياء محمد ،
وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ، والملائكة المقربين ،
وأهل السماوات والأرضين من عباده المؤمنين .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 2انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
 مواضيع مماثلة
-
» شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني
» شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» كتاب الشيخ نور الدين عبد الرحمن الجامي نقد النصوص فى شرح نقش فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي
» شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: