منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 2:51 pm

مقدمة الشارح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

مقدمة الشارح اقيصري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

مقدمة الشارح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري على فصوص الحكم الشيخ الأكبر

كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم
751 هـ  - 1350 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي عين الأعيان بفيضه الأقدس الأقدم  وقدرها بعلمه في غيب ذاته وتمم ولطف برش نور التجلي عليها وانعم وأظهرها بمفاتيح خزاين الجود والكرم.
عن مكامن الغيوب ومقار العدم ووهب لكل منها ما قبل استعداده فأكرم.
وأوجد منها ما كان ممكنا واحكم لذاته باظهار ملابس أسمائه في القدم ودبرها بحكمته فاتقن وأبرم.
فسبحان الذي تجلى بذاته لذاته، فاظهر آدم واستخلفه على مظاهر أسمائه المنعوتة بالعالم وأجمل فيه جميع الحقايق وأبهم ليكون صورة اسمه الجامع العزيز الأكرم وحامل أسرار العليم الأعلم فيدل به عليه فيعلم. وصلى الله على من هو الاسم الأعظم الناطق بلسان مرتبته (انا سيد ولد آدم) المبعوث بالرسالة إلىخير الأمم وعلى آله وأصحابه المصطفين من العرب والعجم  الرافعين بأنوارهم أستار الظلم ، وعلى وارثيه من الأولياء الكمل السالكين للطريق الأمم المطلعين بالحق على الاسرار والحكم.
وبعد :
فيقول العبد الضعيف داود بن محمود بن محمد الرومي القيصري  
مولدا الساوي محتدا، انجح الله مقاصده في الدارين.
فلما وفقني الله تعالى وكشف على أنوار أسراره ورفع عن عين قلبي أكنة أستاره وأيدني بالتأييد الرباني باعلام رموزه والتوفيق الصمداني باعطاء كنوزه.
وساقتني الأقدار إلى خدمة مولانا الامام العلامة الكامل المكمل، وحيد دهره وفريدعصره فخر العارفين قرة عين ذات الموحدين ونور بصر المحققين كمال الملة والحق والدين، عبد الرزاق بن جمال الدين أبى الغنائم القاشاني، أدام الله على المستفيدين بركة أنفاسه وأنار بمعارفه قلوب الطالبين وجلاسه.
وكان جملة من الاخوان المشتغلين بتحصيل الكمال الطالبين لأسرار حضرة ذي الجمال والجلال، شرعوا في قراءة كتاب فصوص الحكم الذي أعطاه النبي، صلى الله عليه وسلم، الشيخ الكامل المكمل قطب العارفين وامام الموحدين وقرة عيون المحققين وارث الأنبياء والمرسلين خاتم الولاية المحمدية كاشف الاسرار الآلهية.
الذي لا يسمح بمثله الدهور والأعصار ولا يأتي بقرينه الفلك الدوار محيي الملة والحق والدين، رضى الله عنه وأرضاه وجعل أعلى جنانه موطنه ومثواه.
ليخرجه إلى الخلق ويبين لهم ما ستر من الحقايق ويكشف عليهم ما انحجب من الأسرار والدقايق، لأنه كاد ان ينجلي الحق بالنور الموجب للظهور.
وقرب ان تنكشف لهم ما ستر من الحقايق ويكشف كل مرموز ومستور وحان طلوع شمس  الحقيقة من مغربها وبروز عرش الربوبية من مشرقها .
وكان الحق قد أطلعني على معانيه المتساطعة أنوارها وألهمني بفحاويه المتعالية أسرارها، وأراني في سرى من بشرني بمعرفتي هذا الكتاب وخصصني بالعلم به من بين ساير الأصحاب .
من غير تأمل سابق فيه أو مطالعة واستحضار لمعانيه، عناية من الله الكريم وفضلا من الرب الرحيم، لأنه هو المؤيد بنصره من يشاء من عباده .
والموفق بالظفر على أسرار مبدئه ومعاده، مع تجوال عقول العقلاء حول فنائه وترجاعهم خاسرين وتطواف فهوم الفضلاء حريم حمائه وتردادهم حاسرين.
لكونه منزلا من سماء يحيط بفلك العقل ولا يحاط، ومقاما ينوط بكل ما يناله الفهم ولا يناط.
مشيرا بحقايق، عجزت العقول عن ادراكها وكاشفا لدقايق وقفت القلوب عن ذرى أفلاكها وحارت أعين ذوي البصائر والابصار في عرايس معانيها المتلألئة من وراء الحجاب.
وشخصت ابصار أهل العلم والفهم في محاسن مجاليها المتجلية لأولي الألباب، يحول عقول الخلق حول جنابه ولم يدركوا من برقه غير لمعة من سرابه.
سنح لي ان اكشف بعض أسراره على طالبيه وارفع القناع عن وجوه عرايس معانيه التي فاضت على قلبه المنور وروحه المطهر من حضرة العليم الخبير الحكيم القدير.
بالتجلي منه عليه والدنو منه والتدلي إليه ، امتثالا لأمره وانقيادا لحكمه حيث قال: هذه الرحمة التي وسعتكم فوسعوا.
ودخولا فيمن قال تعالى، فيهم: "ومما رزقناهم ينفقون".
وأداء لشكره كما قال:"واما بنعمة ربك فحدث".
فشرعت فيه مستعينا بالله طالبا لرحمته، ان أقيد بعض ما فتح الله لي فيه وما استفدت من كتب الشيخ وكتب أولاده ، رضوان الله عليهم أجمعين.
بعبارة واضحة وإشارة لايحة، من غير ايجاز مخل ولا تطويل ممل.
شارطا ان لا انزل كلامهم الا على قواعده ولا أتعرض في معاقده الا بأذيال عقايده.
بل أبين بحيث يتضح للناظر معنى الكتاب ويعلم ما هو الباطل من الصواب، فيحق الحق ويبطل الباطل من غير إشارة منى وخطاب، مع اعترافي بالعجز والتقصير واقراري بأنه هو العليم الخبير.
ولما كان العلم بهذه الأسرار موقوفا على معرفة قواعد وأصول اتفقت عليها هذه الطايفة.
قدمت لبيانها فصولا وبينت فيها أصولا تبتنى قاعدة التوحيد عليها وتنتسب هذه الطريقة إليها بحيث يعلم منها أكثر قواعد هذا العلم لمن وفقه الله تعالى وانعم عليه بالفهم.
وجعلتها اثنى عشر فصلا:
الفصل الأول : في الوجود وانه هو الحق.
والفصل الثاني : في أسمائه وصفاته، تعالى
والفصل الثالث : في الأعيان الثابتة والتنبيه على بعض مظاهر الأسماء في الخارج
والفصل الرابع : في الجوهر والعرض وما يتبعهما على هذه الطريقة
والفصل الخامس : في بيان العوالم الكلية والحضرات الخمس الآلهية .
والفصل السادس : فيما يتعلق بالعالم المثالي .
والفصل السابع : في مراتب الكشف وأنواعها اجمالا.
والفصل الثامن : في أن العالم هو صورة الحقيقة الانسانية بحسب مراتبها .
والفصل التاسع : في بيان خلافة الحقيقة المحمدية والأقطاب.
والفصل العاشر : في بيان الروح الأعظم ومراتبه وأسمائه في العالم الإنساني .
والفصل الحادي عشر : في عود الروح ومظاهره العلوية والسفلية إليه، تعالى .
والفصل الثاني عشر في النبوة والرسالة والولاية
ووشحتها بغرايب قد من الله بها على ولم أر في كتب الطائفة شيئا منها ولطايف استنبطها من قواعدهم.
وسميت الكتاب بمطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم.
وجعلته مشرفا بألقاب المولى المعظم الصدر الأعظم صاحب ديوان الأمم دستور الممالك في العالم مربى ضعفاء العرب والعجم سلطان الوزراء وأكمل من في عصره من الوراء حاوي الشيم الملكية مظهر الصفات الرحمانية مجمع الأخلاق الربانية اللطيف بعباد الله المتخلق بأخلاق الله الذي لم يتشرف مسند الوزارة بمثله في الصدارة ولم يمكن إحاطة صفاته بلسان العبارة والإشارة.
شعر
كملت محاسنه فلو اهدى السنا   .... للبدر عند تمامه لم يخسف
وعلى تفنن واصفيه بحسنه    .... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
أردت له مدحا فما من فضيلة   .... تأملت الأجل عنها وقلت
الصاحب غياث الملة والحق والدين، أمير محمد بن صدر السعيد الشهيد المغفور المرحوم رشيد الدنيا والدين.
أنار الله تعالى، ضريح السلف وضاعف جلال الخلف واعز أنصار دولته وأعوان رفعته.
لا زال الحفيظ  لجنابه حفيظا والرقيب المجيب له رقيبا، لكونه متحليا بهذه الأسرار العلية وحاملا للأنوار السنية سالكا طريق الحق متوجها إلى مقعد الصدق مدبرا بظاهره نظام
العالم مشاهدا بباطنه كمال بنى آدم.
فاستحق ان يخلد بخلود ذكره ويحمد بمحامد خلقه وخلقه، ان قرن بعنايته الجسيمة التامة وألطافه العميمة العامة.
ونظر أصحابه المخاديم الكرام وقدوة فضلاء الأنام، أعزهم الله وحرسهم إلى يوم القيام، وكل ناظر فيه بعين الانصاف تاركا طريق الجور والاعتساف.
إذ لا يستفيد بهذا النوع من العلم الا من تنور باطنه بالفهم وجانب طريق الجدل ونظر بنظر من انصف وعدل وانعزل عن شبهات الوهم الموقع في الخطأ والخلل.
وطهر الباطن عن دنس الأغيار وتوجه إلى الله الواحد القهار وآمن بان "فوق كل ذي علم عليم".
وعلم قصور العقل عن إدراك أسرار العزيز الحكيم.
فان أهل الله انما وجدوا هذه المعاني بالكشف واليقين لا بالظن والتخمين.
وما ذكر فيه مما يشبه الدليل والبرهان إنما جئ به تنبيها للمستعدين من الاخوان.
إذ الدليل لا يزيد فيه الا خفاء والبرهان لا يوجب عليه الا جفاء لأنه طور لا يصل إليه الامن
اهتدى ولا يجده عيانا الا من زكى نفسه واقتدى.
فأرجو من الله الكريم ان يحفظني على الطريق القويم ويجعل سعيي مشكورا وكلامي مقبولا، واسأل الله العون والتوفيق والعصمة من الخطأ في مقام التحقيق.
.
التعرف بالشارح  :
شرف الدين داود بن محمود بن محمد القَيْصَري الرومي (ت. 751 ه‍ / 1350 م) 
القرماني الحنفي الصوفي 
هو أديب ومتصوف من أهل قيصرية. 
تعلم بالقيصرية وأقام بضع سنوات في مصر، ثم عاد إلى بلده. 
أخذ عن الشيخ عبد الرزاق القاشاني. 
من آثاره :
كتاب «مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم» 
والذي يسمى أيضا «مقدمة شرح الفصوص» 
و«شرح الخمرية لابن الفارض» 
و«رسالة في أحوال الخضر» 
و«نهاية البيان ودارية الزمان» تحقيق 
تحقيق ماء الحياة وكشف أسرار الظلمات
أصول الوحدانية ومنتهى الفردانية
رسالة في علم الحقائق 





عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 3:47 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الأول في الوجود وانه هو الحق من مباحث مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 3:04 pm

الفصل الأول في الوجود وانه هو الحق من مباحث مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصل الأول من المقدمة على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الفصل الأول في الوجود وانه هو الحق

اعلم، ان الوجود من حيث هو هو غير الوجود الخارجي والذهني.
إذ كل منهما نوع من أنواعه , فهو من حيث هو هو، أي لا بشرط شئ، غير مقيد بالاطلاق والتقييد ولا هو كلي ولا جزئي ولا عام ولا خاص .
ولا واحد بالوحدة الزائدة على ذاته ولا كثير، بل يلزمه هذه الأشياء بحسب مراتبه  وتجلياته ومقاماته المنبهة عليها بقوله: "رفيع الدرجات ذو العرش".
فيصير مطلقا ومقيدا وكليا وجزئيا وعاما وخاصا وواحدا وكثيرا من غير حصول التغيير في ذاته وحقيقته.
وليس بجوهر لأنه موجود في الخارج لا في موضوع أو ماهية . لو وجدت لكانت لا في موضوع.
والوجود ليس كذلك والا يكون كالجواهر المتعينة المحتاجة إلى الوجود الزائد ولوازمه.
وليس بعرض لأنه عبارة عما هو موجود في موضوع أو ماهية لو وجدت لكانت في موضوع، والوجود ليس موجودا بمعنى ان له وجودا زائدا فضلاعن ان يكون موجودا في موضوع.
بل موجوديته بعينه وذاته لا بأمر آخر يغايره عقلا أو خارجا .
وأيضا، لو كان عرضا لكان قائما بموضوع موجود قبله بالذات فيلزم تقدم الشئ على نفسه.
وأيضا، وجودهما زايد عليهما والوجود لا يمكن ان يكون زائدا على نفسه ولأنه مأخوذ في تعريفهما لكونه أعم منهما، فهو غيرهما .
وليس أمرا اعتباريا، كما يقول الظالمون، لتحققه في ذاته مع عدم المعتبرين إياه فضلا عن اعتباراتهم، سواء كانوا عقولا أو غيرها كما قال صلى الله عليه وسلم عليه السلام: "كان الله ولم يكن معه شئ".
وكون الحقيقة بشرط الشركة أمرا عقليا اعتباريا لا يوجب ان يكون لا بشرط الشئ كذلك.
فليس صفة عقلية وجودية كالوجوب والامكان للواجب والممكن.
وهو أعم الأشياء باعتبار عمومه و انبساطه على الماهيات حتى يعرض مفهوم العدم المطلق والمضاف في الذهن عند تصورهما.
ولذلك يحكم العقل عليهما بالامتياز بينهما وامتناع أحدهما وامكان الآخر إذ كل ما هو ممكن وجوده ممكن عدمه.
وغير ذلك من الاحكام وهو أظهر من كل شئ تحققا وإنية حتى قيل فيه: انه بديهي ، وأخفى من جميع الأشياء ماهية وحقيقة، فصدق فيه ما قال اعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم في دعائه: "ما عرفناك حق معرفتك".
ولا يتحقق شئ في العقل ولا في الخارج الا به،
فهو المحيط بجميعها بذاته وقوام الأشياء به، لان الوجود لو لم يكن لم يكن شئ لا فيالخارج و
لا في العقل فهو مقومها بل هو عينها إذ هو الذي يتجلى في مراتبه و يظهر بصورها وحقايقها في العلم والعين فيتسمى بالماهية والأعيان الثابتة.
كما نبينه في الفصل الثالث، انشاء الله تعالى.
فلا واسطة بينه وبين العدم، كمالا واسطة بين الموجود والمعدوم، مطلقا.
والماهية الحقيقية واسطة بين وجودها الخاص وعدمها والمطلقة الاعتبارية لا تحقق لها في نفس الأمر والكلام فيما له تحقق فيه.
ولا ضد له ولا مثل لأنهما موجودان متخالفان أو متساويان ، فخالف جميع الحقايق لوجود أضدادها وتحقق أمثالها دونه، فصدق فيه: "ليس كمثله شئ".
والوجود، من حيث هو واحد، لا يمكن ان يتحقق في مقابله وجود آخر، وبه يتحقق الضدان ويتقوم المثلان، بل هو الذي يظهر بصورة الضدين و غيرهما ويلزم منه الجمع بين النقيضين إذ كل منهما يستلزم سلب الآخر.
اختلاف الجهتين انما هو باعتبار العقل واما في الوجود فتتحد الجهات كلها،فان الظهور والبطون وجميع الصفات الوجودية المتقابلة مستهلكة في عين الوجود فلا مغايرة الا في اعتبار العقل.
والصفات السلبية مع كونها عايدة إلى العدم،أيضا راجعة إلى الوجود من وجه ، فكل من الجهات المتغايرة من حيث وجودها العقلي عين باقيها ولكونهما مجتمعين في عين الوجود يجتمعان أيضا في العقل. إذ لولا وجودهما فيه لما اجتمعا .
وعدم اجتماعهما في الوجود الخارجي الذي هو نوع من أنواع الوجود المطلق لا ينافي اجتماعهما في الوجود من حيث هو هو.
ولا يقبل الانقسام والتجزي أصلا خارجا وعقلا لبساطته، فلا جنس له ولا فصل فلا حد له.
ولا يقبل الاشتداد والضعف في ذاته لأنهما لا يتصوران الا في الحال القار كالسواد والبياض الحالين في محلين.
أو الغير القار متوجها إلى غاية ما من الزيادة أو النقصان كالحركة والزيادة والنقصان والشدة والضعف يقع عليه بحسب ظهوره وخفائه في بعض مراتبه كما في القار الذات كالجسم وغير القار الذات كالحركة والزمان.
وهو خير محض وكلما هو خيرفهو منه وبه. وقوامه بذاته لذاته إذ لا يحتاج في تحققه إلى امر خارج عن ذاته، فهو القيوم الثابت بذاته والمثبت لغيره.
وليس له ابتداء والا لكان محتاجا إلى علة موجودة لا مكانه حينئذ، ولا له انتهاء والا لكان معروضا للعدم فيوصف بضده أو يلزم الانقلاب.
فهو أزلي وأبدى: " فهو الأول والآخر والظاهر والباطن".
للرجوع كلما ظهر في الشهادة أو بطن في الغيب إليه.
وهو بكل شئ عليم لاحاطته بالأشياء بذاته، وحصول العلم لكل عالم انما هو بواسطته فهو أولى بذلك.
بل هو الذي يلزمه جميع الكمالات وبه تقوم كل من الصفات كالحياة والعلم والإرادةوالقدرة والسمع والبصر وغير ذلك.
فهو الحي العليم المريد القادر السميع البصير بذاته لا بواسطة شئ آخر إذ به يلحق الأشياء كلها كمالاتها ، بل هو الذي يظهر بتجليه وتحوله في صور مختلفة
بصور تلك الكمالات ، فيصير تابعا للذوات لأنها أيضا وجودات خاصة مستهلكة في مرتبة أحديته ظاهرة في واحديته.
وهو حقيقة واحدة لا تكثر فيها، وكثرة ظهوراتها وصورها لا يقدح في وحدة ذاتها وتعينها وامتيازها بذاتها لا بتعين زايد عليها .
إذ ليس في الوجود ما يغايره ليشترك معه في شئ ويتميز عنه بشئ.
وذلك لا ينافي ظهورها في مراتبها المتعينة،بل هو أصل جميع التعينات الصفاتية والأسمائية والمظاهر العلمية والعينية.
ولها وحدة لا يقابل الكثرة بل هي أصل الوحدة المقابلة لها وهي عين ذاتهاالأحدية. والوحدة الأسمائية المقابلة للكثرة التي هي ظل تلك الوحدةالأصلية الذاتية أيضا عينها من وجه كما سنبين، انشاء الله تعالى.
وهو نور محض أدبه يدرك الأشياء كلها لأنه ظاهر بذاته ومظهر لغيره و منور سماوات الغيوب والأرواح وارض الأجسام لأنها بهتوجد وتتحقق، ومنبع جميع الأنوار الروحانية والجسمانية.
وحقيقته غير معلومة لما سواه وليست عبارة عن الكون ولا عن الحصول والتحقق والثبوت، ان أريد بها المصدر، لان كلا منها عرض حينئذ ضرورة.
وان أريد بها ما يراد بلفظ الوجود فلا نزاع، كما أراد أهل الله بالكون وجود العالم وحينئذ لا يكون شئ منها جوهرا ولا عرضا كما مر.
ولا معلوما بحسب حقيقته وان كان معلوما بحسب إنيته، والتعريف اللفظي لا بدان يكون بالأشهر ليفيد العلم . والوجود أشهر من الكون وغيره ضرورة.
والوجود العام المنبسط على الأعيان في العلم ظل من أظلاله لتقيده بعمومه.
وكذلك الوجود الذهني والوجود الخارجي ظلان لذلك الظل لتضاعف التقييد.
وإليه الإشارة بقوله : "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا".
فهو الواجب الوجود الحق، سبحانه وتعالى، الثابت بذاته المثبت لغيره الموصوفبالأسماء الإلهية المنعوت بالنعوت الربانية المدعو بلسان الأنبياء والأولياء الهاديخلقه إلى ذاته الداعي مظاهره بأنبيائه إلى عين جمعه ومرتبة ألوهيته.
أخبر بلسانهم انه بهويته مع كل شئ ، وبحقيقته مع كل حي.
ونبه الله تعالى أيضا انه عين الأشياء بقوله"هو الأول ولآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم".
فكونه عين الأشياء بظهوره في ملابس أسمائه وصفاته في عالمي العلم والعين، وكونه غيرها باختفائه في ذاته واستعلائه بصفاته عما يوجب النقص والشين و تنزهه عن الحصر والتعيين وتقدسه عن سمات الحدوث والتكوين.
وايجاده للأشياء، اختفاؤه فيها مع اظهاره إياها واعدامه لها في القيامة الكبرى،ظهوره بوحدته وقهره إياها بإزالة تعيناتها وسماتها وجعلها متلاشية .
كما قال تعالى: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار" و "كل شئ هالك الا وجهه".
وفي الصغرى تحوله من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، أو من صورة إلى صورة في عالم واحد.
فالماهيات صور كمالاته ومظاهر أسمائه وصفاته ، ظهرت أولا في العلم ثم في العين بحسب حبه اظهار آياته ورفع اعلامه وراياته فتكثر بحسب الصور وهو على وحدته الحقيقية وكمالاته السرمدية.
وهو يدرك حقايق الأشياء بما يدرك حقيقة ذاته لا بأمر آخر كالعقل الأول وغيره.
لان تلك الحقايق أيضا عين ذاته حقيقة وان كانت غيرها تعينا.
ولا يدركه غيره كما قال تعالى :
"لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار"
و "ولا يحيطون به علما"
و "ما قدروا الله حق قدره".
"ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد".
نبه عباده تعطفا منه ورحمة لئلا يضيعوا أعمارهم فيما لا يمكن حصوله.
وإذا علمت ان الوجود هو الحق وعلمت سر قوله تعالى :
" وهو معكم أينما كنتم"
"ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون".
" وفي أنفسكم أفلا تبصرون".
"وهو الذي في السماء اله وفي الأرض اله".
وقوله تعالى :
"الله نور السماوات والأرض".
"والله بكل شئ محيط" .
و "كنت سمعه وبصره".
وسر قوله صلى الله عليه وسلم عليه السلام: "لو دليتم بحبل لهبط على الله".
وأمثال ذلك من الاسرارالمنبهة للتوحيد بلسان الإشارة.
تنبيه للمستبصرين بلسان أهل النظر الوجود واجب لذاته إذ لو كان ممكنا لكان له علة موجودة فيلزم تقدم الشئ على نفسه.
لا يقال ، الممكن في وجوده لا يحتاج إلى علة وهو غير موجود عندنا لكونه اعتباريا.
لأنا لا نسلم ان الاعتباري لا يحتاج إلى علة فإنه لا يتحقق في العقل الا باعتبار المعتبر فهو علته.
وأيضا، المعتبر لا يتحققفي الخارج الا بالوجود إذ عند زوال الوجود عنه مطلقا لا يكون الا عدما محضا فلو كان اعتباريا لكان جميع ما في الوجود أيضا اعتباريا إذ الماهيات منفكة عن الوجود أمور اعتبارية وهو ظاهر البطلان.
وتحقق الشئ بنفسه لا يخرجه عن كونه أمرا حقيقيا ولأن طبيعة الوجود من حيث هي هي حاصلة للوجود الخاص الواجبي  وهو في الخارج.
فيلزم ان يكون تلك الطبيعة موجودة فيه لكن لا بوجود زائد عليها، وحينئذ لو كانت ممكنة لكانت محتاجة إلى علة ضرورة.
تنبيه
وآخر الوجود ليس بجوهر ولا عرض لما مر، وكل ما هو ممكن فهو اما جوهر أو عرض ينتجان الوجود ليس بممكن فتعين ان يكون واجبا.
وأيضا، الوجود لا حقيقة له زائدة على نفسه والا يكون كباقي الموجودات فيتحققه بالوجود ويتسلسل، وكل ما هو كذلك فهو واجب بذاته لاستحالة انفكاك ذات الشئ عن نفسه.
فان قلت: الوجوب نسبة تعرض للشئ نظرا إلى الوجود الخارجي،
فمالا وجود له في الخارج زائدا على نفسه لا يكون متصفا بالوجوب.
قلت: الوجوب عارض للشئ الذي هو غير الوجود باعتبار وجوده، اماإذا كان ذلك الشئ عين الوجود فوجوبه بالنظر إلى ذاته لا غير لأن الوجوب يستدعى التغاير مطلقا لا بالحقيقة كما ان العلم يقتضى التغاير بين العالم و المعلوم .
تارة بالاعتبار وهو عند تصور الشئ نفسه، وتارة بالحقيقة، وهو عند تصوره غيره.
وأيضا، كل ما هو غير الوجود يحتاج إليه من حيث وجوده وتحققه، والوجود من حيث هو وجود لا يحتاج إلى شئ فهو غنى في وجوده عن غيره.
وكل ما هو غنى في وجوده عن غيره فهو واجب فالوجود واجب بذاته.
فان قلت: الوجود من حيث هو هو كلي طبيعي وكل كلي طبيعي لا يوجد الا في ضمن فرد من افراده، فلا يكون الوجود من حيث هو واجبا لاحتياجه في تحققه إلى ما هو فرد منه.
قلت: ان أردتم بالكبرى الطبايع الممكنة الوجود فمسلم، ولكن لا ينتج المقصود لان الممكنات من شأنها ان توجد وتعدم وطبيعة الوجود لا تقبل ذلك لما مر ، وإن أردتم ما هو أعم منها فالكبرى ممنوعة.
وليتأمل في قوله تعالى : "ليس كمثله شئ، الآية"،
بل لا نسلم ان الكلى الطبيعي في تحققه متوقف على وجود ما يعرض عليه ، ممكنا كان أو واجبا.
إذ لو كان كذلك لزم الدور، سواء كان العارض منوعا أو مشخصا ، لان العارض لا يتحقق الا بمعروضه فلو توقف معروضه عليه في تحققه لزم الدور.
والحق ان كل كلي طبيعي في ظهوره مشخصا  في عالم الشهادة يحتاج إلى تعينات مشخصة له فائضة عليه من موجده .
وفي ظهوره في عالم المعاني منوعا يحتاج إلى تعينات كلية منوعة له لا في تحققه في نفسه.
وأيضا، كل ما تنوع أو تشخص فهو متأخر عن الطبيعة الجنسية والنوعية
بالذات، والمتأخر لا يكون علة لتحقق المتقدم بل الامر بالعكس أولى، والجاعل للطبيعة طبيعة أولى منهما ان تجعل تلك الطبيعة نوعا أو شخصا بضم ما يعرض عليها من المنوع والمشخص وجميع التعينات الوجودية راجعة إلى عين الوجود.
فلا يلزم احتياج حقيقة الوجود في كونها في الخارج إلى غيرها وفي الحقيقة ليس في الوجود غيره.
تنبيه وآخر
كل ممكن قابل للعدم ولا شئ من الوجود المطلق بقابل له فالوجود واجب بذاته.
لا يقال، ان وجود الممكن قابل للعدم. لأنا نقول، وجود الممكن عبارة عن حصوله في الخارج وظهوره فيه، وهو من أعراض الوجود الحقيقي الراجعة إليه بوجه عند اسقاط الإضافة لا عينه.
وأيضا ، القابل لا بد أن يبقى مع المقبول والوجود لا يبقى مع العدم فالقابل له هو الماهية لا وجودها.
ولا يقال، ان أردتم ان العدم لا يعرض على الوجود فمسلم.
ولكن لم لا يجوز ان يزول الوجود في نفسه ويرتفع؟
لأنا نقول، العدم ليس بشئ حتى تعرض الماهية أو الوجود.
وقولنا الماهية تقبل العدم معناه انها قابلة لزوال الوجود عنها، وهذا المعنى لا يمكن في الوجود والا لزم انقلاب الوجود إلى العدم.
وأيضا امكان عدمه مقتضى ذاته حينئذ والوجود يقتضى بذاته نفسه ضرورة كما مر، وذات الشئ الواحد لا يمكن ان يقتضى نفسه وامكان عدم نفسه فلا يمكن زواله.
وفي الحقيقة الممكن أيضا لا ينعدم بل يختفي ويدخل في الباطن الذي ظهر منه، والمحجوب يزعم انه ينعدم.
وتوهم انعدام وجودالممكن أيضا، انما ينشأ من فرض الافراد للوجود كأفراد الخارجية التي للانسان،مثلا، وليس كذلك.
فان الوجود حقيقة واحدة لا تكثر فيها وافرادها باعتباراضافتها  إلى الماهيات والإضافة امر اعتباري ، فليس لها افراد موجودة ليعدم ويزول.
بل الزائل اضافتها إليها ولا يلزم من زوالها انعدام الوجود وزواله ليلزم انقلاب حقيقة الوجود بحقيقة العدم.
إذ زوال الوجود بالأصالة هو العدم ضرورة وبطلانه ظاهر.
تفريع
وإذا لم يكن للوجود افراد حقيقية مغايرة لحقيقة الوجود لا يكون عرضا عاماعليها.
وأيضا، لو كان عرضا عاما لكان اما جوهرا أو عرضا ، وقد بينا انه ليس بجوهر ولا عرض.
وأيضا، الوجود من حيث هو هو محمول على الوجودات المضافة لصدق قولنا هذا الوجود وجود.
كل ما هو محمول على الشئ لا بد ان يكون بينه وبين موضوعه
ما به الاتحاد وما به الامتياز ، وليس ما به الاتحاد هنا سوى نفس الوجود وما به التغاير سوى نفس الهذية .
فتعين ان يكون الوجود من حيث هو هو عين الوجودات المضافة حقيقة ، والا لم يكن وجودا ضرورة، والمنازع يكابر مقتضى عقله.
الا ان يطلق لفظ الوجود عليها وعلى الوجود من حيث هو هو بالاشتراك اللفظي وهو عين الفساد.
وما يقال بان الوجود يقع على افراده لا على وجه التساوي: فإنه يقع على وجود العلة ومعلولها بالتقدم والتأخر وعلى وجود الجوهر والعرض بالأولوية وعدمها .
وعلى وجود القار وغير القار بالشدة والضعف، فيكون مقولا عليها بالتشكيك.
وكل ما هو مقول بالتشكيك لا تكون ماهية شئ ولا جزوه ، ان أرادوا به ان التقدم والتأخر والأولوية وعدمها والشدة والضعف باعتبار الوجود من حيث هو هو فهو ممنوع.
لكونها من الأمور الإضافية التي لا تتصور الا بنسبة بعضها إلى بعض.
ولأن المقول على سبيل التشكيك انما هو باعتبار الكلية والعموم، والوجود من حيث هو لا عام ولا خاص.
وان أرادوا به انها تلحق الوجود بالقياس إلى الماهيات فهو صحيح.
لكن لا يلزم منه ان يكون الوجودمن حيث هو مقولا عليها بالتشكيك إذ اعتبار المعروضات غير اعتبار الوجود.
و ذلك بعينه كلام أهل الله، لأنهم ذهبوا إلى ان الوجود باعتبار تنزله في مراتب الأكوان وظهوره في حظاير الامكان وكثرة الوسايط يشتد خفاؤه فيضعف ظهوره وكمالاته.
وباعتبار قلتها يشتد نوريته ويقوى ظهوره فتظهر كمالاته وصفاته فيكون اطلاقه على القوى أولى من اطلاقه على الضعيف.
وتحقيق ذلك بان تعلم ان للوجود مظاهر في العقل ، كما ان له مظاهرفي الخارج.
منها هي الأمور العامة والكليات التي لا وجود لها الا في العقل.
وكونه مقولا على الافراد المضافة إلى الماهيات بالتشكيك انما هو باعتبار ذلك الظهور العقلي، ولذلك قيل انه اعتباري.
فلا يكون من حيث هو هو مقولا عليها بالتشكيك بل من حيث انه كلي محمول عقلي.
وهذا المعنى لا ينافي كونه عين ماهية افراده باعتبار كليه الطبيعي كما ان الحيوان طبيعته فقط جزء الافراد غير محمول عليها وباعتبار اطلاقه.
أي لا بشرط شئ، جنس محمول عليها وباعتبار عروضه على فصول الأنواع التي تحتها عرض عام عليها، وهكذا الامر فيكل ما يقع على افراده بالتشكيك.

والتفاوت في افراد الوجود ليس في نفس الوجود بل في ظهور خواصه من العلية والمعلولية في العلة والمعلول .
وبكونه قائما بنفسه في الجوهر غير قائم بنفسه في العرض ولشدة الظهور في قار الذات وضعفه في غير قار الذات.
كما ان التفاوت بين افراد الانسان ليس في نفس الانسانية بل بحسب ظهور خواصها فيها.
فلو كان مخرجا للوجود من ان يكون عين حقيقة الافراد لكان مخرجا للانسانية من ان يكون عين حقيقة افرادها.
والتفاوت الذي بين الافراد الانسانية لا يمكن مثله في افراد شئ آخر من الموجودات ولذلك صار بعضها أعلى مرتبة وأشرف مقاما من الأملاك وبعضها أسفل رتبة وأخس حالا من الحيوان .
كما قال الله تعالى: "أولئك كالانعام بل هم أضل".
وقال تعالى: "لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين".
لذلك يقول الكافر: "يا ليتني كنت ترابا".
وهذا القدر كاف لأهل الاستبصار في هذا الموضع.
ومننور الله عين بصيرته وفهم ما مر، وأمعن النظر فيه لا يعجز عن دفع الشبه الوهمية والمعارضات الباطلة.
والله المستعان وعليه التكلان.
إشارة إلى بعض المراتب الكلية واصطلاحات الطائفة فيها:
حقيقة الوجود إذا اخذت بشرط ان لا يكون معها شئ، فهي المسماة عند القوم بالمرتبة الأحدية  المستهلكة جميع الأسماء والصفات فيها وتسمى جمع الجمع وحقيقة الحقايق والعماء أيضا.
وإذا اخذت بشرط شئ :
فاما ان يؤخذ بشرط جميع الأشياء اللازمة لها كليها وجزئيها، المسماة بالأسماء والصفات فهي المرتبة الآلهية المسماة عندهم بالواحدية ومقام الجمع .
وهذه المرتبة باعتبار الايصال لمظاهر الأسماء التي هي الأعيان والحقايق إلى كمالاتها المناسبة لاستعداداتها في الخارج تسمى مرتبة الربوبية.
وإذا اخذت لا بشرط شئ ولا بشرط لا شيء: فهي المسماة بالهوية السارية في جميع الموجودات.
وإذا اخذت بشرط ثبوت الصور العلمية فيها : فهي مرتبة الاسم الباطن المطلق والأول والعليم رب الأعيان الثابتة.
وإذا اخذت بشرط كليات الأشياء فقط : فهي مرتبة الاسم الرحمان، رب العقل الأول المسمى بلوح القضا وأم الكتاب والقلم الاعلى.
وإذا اخذت بشرط ان يكون الكليات فيها جزئيات مفصلة ثابتة من غير احتجابها عن كلياتها: فهي مرتبة الاسم الرحيم رب النفس الكلية المسماة بلوح القدر وهو اللوح المحفوظ والكتاب المبين.
وإذا اخذت بشرط ان يكون الصور المفصلة جزئية متغيرة : فهي مرتبة الاسم الماحي والمثبت والمحيي والمميت، رب النفس المنطبعة في الجسم الكلى المسماة بلوح المحو والاثبات.
وإذا اخذت بشرط ان يكون قابلة للصور النوعية الروحانية والجسمانية: فهي مرتبة الاسم القابل، رب الهيولى الكلية المشار إليها بالكتاب المسطور والرق المنشور.
وإذا اخذت مع قابلية التأثر: فهي مرتبة الاسم الفاعل المعبر عنه بالموجد والخالق، رب الطبيعة الكلية.
وإذا اخذت بشرط الصور الروحانية المجردة، فهي مرتبة الاسم العليم والمفصل والمدبر، رب العقول والنفوس الناطقة.
وما يسمى باصطلاح الحكماء بالعقل المجرد يسمى باصطلاح أهل الله بالروح. لذلك يقال للعقل الأول روح القدس.
وما يسمى بالنفس المجردة الناطقة عندهم يسمى بالقلب، إذا كانت الكليات فيها مفصلة، وهي شاهدة إياها شهودا عيانيا. والمراد بالنفس عندهم النفس المنطبعة الحيوانية.
وإذا اخذت بشرط الصور الحسية الشهادية، فهي مرتبة الاسم الظاهرالمطلق والآخر، رب عالم الملك.
ومرتبة الانسان الكامل عبارة عن جمع جميع المراتب الآلهية والكونية من العقول والنفوس الكلية والجزئية ومراتب الطبيعة إلى آخر تنزلات الوجود ويسمى بالمرتبة العمائية أيضا.
فهي مضاهية للمرتبة الإلهية ولا فرق بينهما الا بالربوبية والمربوبية ، لذلك صار خليفة الله.
وإذا علمت هذا، علمت الفرق بين المراتب الإلهية والربوبية والكونية.
وجعل بعض المحققين المرتبة الإلهية هي بعينها مرتبة العقل الأول باعتبار جامعية الاسم الرحمان لجميع الأسماء كجامعية الاسم الله لها.
هذا وان كان حقا من وجه لكن كون الرحمان تحت حيطة اسم الله يقضى بتغاير المرتبتين، ولو "كان" لا وجه المغايرة بينهما ما كان تابعا للاسم الله في (بسم الله الرحمن الرحيم)، فافهم.
تنبيه آخر
قد مر ان كل كمال يلحق الأشياء بواسطة الوجود وهو الموجود بذاته.
فهوالحي القيوم العليم المريد القادر بذاته لا بالصفة الزائدة عليها والا يلزم الاحتياج في إفاضة هذه الكمالات منه إلى حياة وعلم وقدرة وإرادة أخرى،إذ لا يمكن إفاضتها الا من الموصوف بها.
وإذا علمت هذا، علمت معنى ما قيل ان صفاته عين ذاته ولاح لك حقيقته.
وان المعنى به ما ذكر، لا ما يسبق إلى الافهام من ان الحياة والعلم والقدرة الفائضة منه اللازمة له عين ذاته، وان كان هذا أيضا صحيحا من وجه آخر،.
فان الوجود في مرتبة أحديته ينفى التعينات كلها، فلا يبقى فيها صفة ولا موصوف ولا اسم ولا مسمى الا الذات فقط.
وفي مرتبة واحديته التي هي مرتبة الأسماء والصفات يكون صفة وموصوفا واسما ومسمى، وهي المرتبة الإلهية.
كما ان المراد من قولنا ان وجوده عين ذاته:  انه موجود بذاته لا بوجود فايض منه وهو عين ذاته، فيتحد الحياة والعلم والقدرة وجميع الصفات الثبوتية كاتحاد الصفة والموصوف في المرتبة الأولى.
وحكم العقل بالمغايرة بينهما في العقل أيضا كالحكم بالمغايرة بين الموصوف والصفة في العقل مع اتحادهما في نفس الوجود.
أي العقل يحكم ان العلم مغاير للقدرة والإرادة في العقل كما يحكم بالمغايرة بين الجنس والفصل.
واما في الوجود فليست الا الذات الأحدية فقط، كما انهما في الخارج شئ واحد وهو النوع.
لذلك قال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: "كمال الاخلاص له نفى الصفات عنه".
وفي المرتبة الثانية يتميز العلم عن القدرة وهي عن الإرادة :
فيتكثر الصفات وبتكثرها يتكثر الأسماء ومظاهرها ويتميز الحقايق الإلهية بعضها عن بعض. فالحياةوالعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات تطلق على تلك الذات وعلى الحقيقة اللازمة لها من حيث انها مغايرة لها بالاشتراك اللفظي لان هذه الحقايق اعراض من وجه لأنها اما إضافة محضة أو صفة حقيقية ذات إضافة، و جواهر من وجه آخر كما في المجردات.
إذ علمها بذواتها عين ذواتها من وجه ، و هكذا الحياة والقدرة، وتلك الذات جلت من ان يكون جوهرا أو عرضا.
و يظهر حقيقة هذا المعنى عند من ظهر له سريان الهوية الإلهية في الجواهر كلها التي
هذه الصفات عينها.
ومن حيث ان هذه الحقايق كلها وجودات خاصه والذات الأحدية وجود مطلق .
والمقيد هو المطلق مع إضافة التعين إليه .
وهو أيضا يحصل من تجلياته، تكون اطلاقها عليها وعلى تلك الذات بالاشتراك المعنوي على سبيل التشكيك.
وعلى افراد نوع واحد منها كالتعينات في العلم، مثلا، على سبيل التواطؤ.
فهذه الحقايق تارة لا جوهر ولا عرض وهي واجبة قديمة، وتارة جواهر ممكنة حادثة، وتارة اعراض تابعة للجواهر.
فمن لاح له حقيقة ما ذكر وظهرت وجوه الاعتبارات عنده خلص من الشكوك والشبهات، والله الهادي.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الثاني في أسمائه وصفاته تعالى من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 3:19 pm

الفصل الثاني في أسمائه وصفاته تعالى من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصل الثاني من المقدمة على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصل الثاني في أسمائه وصفاته تعالى
اعلم، ان للحق سبحانه وتعالى بحسب "كل يوم هو في شأن".
شؤونات وتجليات في مراتب الإلهية وان له بحسب شؤونه ومراتبه صفات وأسماء.
والصفات اما "جلالية او جمالية". ايجابية أو سلبية.
والأولى اما حقيقية لا إضافة فيها كالحياة والوجوب والقيومية على أحد معنييها .
أو إضافة محضة كالأولية والآخرية.
أو ذو إضافة كالربوبية والعلم والإرادة.
والثانية كالغنى والقدوسية والسبوحية.
ولكل منها نوع من الوجود سواء كانت "جلالية او جمالية" .ايجابية أو سلبية.
لان الوجود يعرض العدم والمعدوم أيضا من وجه و ليست الا تجليات ذاته تعالى بحسب مراتبه التي تجمعها مرتبة الألوهية المنعوتة بلسان الشرع بـ (العماء).
وهي أول كثرة وقعت في الوجود وبرزخ بين الحضرة الأحدية الذاتية وبين المظاهر الخلقية. 
لان ذاته تعالى اقتضت بذاته حسب مراتب الألوهية والربوبية صفات متعددة متقابلة كاللطف والقهر والرحمة والغضب والرضا والسخط وغيرها.
وتجمعها النعوت الجمالية والجلالية إذ كل ما يتعلق باللطف هو الجمال وما يتعلق بالقهر هو الجلال.
ولكل جمال أيضا جلال كالهيمان الحاصل من الجمال الإلهي .
فإنه عبارة عن انقهار العقل منه وتحيره فيه .
ولكل جلال جمال وهو اللطف المستور في القهر الإلهي.


كما قال الله تعالى : "ولكم في القصاص حيوة يا أولى الألباب".
وقال أمير المؤمنين، عليه السلام: " سبحان من اتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته واشتدت نقمته لأعدائه في سعة رحمته".
ومن هنا يعلم سر قوله صلى الله عليه وسلم عليه السلام: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".
وهذا المشار إليه برزخ بين كل صفتين متقابلتين.


والذات مع صفة معينة واعتبار تجل من تجلياتها تسمى بالاسم:
فان الرحمان ذات لها الرحمة، والقهار ذات لها القهر.
وهذه الأسماء الملفوظة هي أسماء الأسماء.
ومن هنا يعلم ان المراد بان الاسم عين المسمى ما هو.
وقد يقال الاسم للصفة إذا الذات مشتركة بين الأسماء كلها و التكثر فيها بسبب تكثر الصفات  وذلك التكثر باعتبار مراتبها الغيبية التيهي مفاتيح الغيب وهي معان معقولة في غيب الوجود الحق تعالى يتعين بها شؤون الحق وتجلياته.
وليست بموجودات عينية ولا تدخل في الوجود أصلا، بل الداخل فيهما تعين من الوجود الحق في تلك المراتب من الأسماء فهي موجودة في العقل معدومة في العين .
ولها الأثر والحكم فيما له الوجود العيني كما أشار إليه الشيخ رضى الله عنه، في الفص الأول وسيجئ بيانه، ان شاء الله تعالى.
ومن وجه يرجع التكثر إلى العلم الذاتي ، لان علمه تعالى بذاته لذاتهأوجب العلم بكمالات ذاته في مرتبة أحديته، ثم المحبة الإلهية اقتضت
ظهور الذات بكل منها على انفرادها متعينا في حضرته العلمية ثم العينية،فحصل التكثر فيها.
والصفات ينقسم إلى ماله الحيطة التامة الكلية، وإلى ما لا يكون كذلك في الحيطة وان كانت هي أيضا محيطة بأكثر الأشياء.
فالأول هي الأمهات من الصفات المسماة بالأئمة السبعة، وهي الحياة والعلم والإرادة والقدرةوالسمع والبصر والكلام.
وسمعه عبارة عن تجليه بعلمه المتعلق بحقيقة الكلام الذاتي في مقام جمع الجمع والأعياني في مقامي الجمع والتفصيل ظاهرا وباطنا، لا بطريق الشهود .
وبصره عبارة عن تجليه وتعلق علمه بالحقايق على طريق الشهود.
وكلامه عبارة عن التجلي الحاصل من تعلقي الإرادة والقدرة لاظهار ما في الغيب وايجاده.
قال تعالى: "انما امره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون".
وهذه الصفات، وان كانت أصولا لغيرها، لكن بعضها أيضا مشروطة بالبعض في تحققه، إذا العلم مشروط بالحياة والقدرة بهما وكذلك الإرادة والثلاثة الباقية مشروطة بالأربعة المذكورة.


والأسماء أيضا، تنقسم بنوع من القسمة إلى أربعة أسماء هي الأمهات:
وهي الأول والآخر والظاهر والباطن، ويجمعها الاسم الجامع وهو الله والرحمان.
قال تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى".
أي، فلكل منهما الأسماء الحسنى الداخلة تحت حيطتهما.
فكل اسم يكون مظهره أزليا وأبديا:
فأزليته من الاسم الأول،
وأبديته من الاسم الآخر،
وظهوره من الاسم الظاهر،
وبطونه من الاسم الباطن.
فالأسماء المتعلقة بالابداء والايجاد داخلة في الأول.
والمتعلقة بالإعادة والجزاء داخلة في الآخر.
وما يتعلق بالظهور والبطون داخلة في الظاهر والباطن.
والأشياء لا تخلو من هذه الأربعة: الظهوروالبطون والأولية والآخرية.
وينقسم بنوع من القسمة أيضا، إلى أسماء الذات وأسماء الصفات وأسماء الافعال.
وان كانت كلها أسماء الذات لكن باعتبار ظهور الذات فيها يسمى أسماء الذات.
وبظهور الصفات فيها تسمى أسماء الصفات.
و بظهور الأفعال فيها تسمى أسماء الافعال.
وأكثرها يجمع الاعتبارين أو الثلاث، إذ فيها ما يدل على الذات باعتبار وما يدل على الصفات باعتبار آخر وما يدل على الافعال باعتبار ثالث.
كالرب فإنه بمعنى الثابت للذات وبمعنى المالك للصفة وبمعنى المصلح للفعل.
وأسماء الذات :
هو الله الرب الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر العلى العظيم الظاهر الباطن الأول الآخرالكبير الجليل المجيد الحق المبين الواجد الماجد الصمد المتعال الغنى النور الوارث ذو الجلال الرقيب.
وأسماء الصفات:
وهي الحي الشكور القهار القاهر المقتدر القوى القادر الرحمان الرحيم الكريم الغفار الغفور الودود الرؤف الحليم الصبور البر العليم الخبير المحصي الحكيم الشهيد السميع البصير.
وأسماء الأفعال:
هو المبدئ الوكيل الباعث المجيب الواسع الحسيب المقيت الحفيظ الخالق الباري المصور الوهاب الرزاق الفتاح القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل اللطيف المعيد المحيى المميت الوالي التواب المنتقم المقسط الجامع المغنى المانع الضار النافع الهادي البديع الرشيد.
هكذا عين الشيخ قدس سره، الأسماء في كتابه المسمى بانشاء الدوائر، نقلتها من غير تبديل وتغيير تبركا وتيمنا بأنفاسه المباركة.
ومن الأسماء ما هي مفاتيح الغيب التي لا يعلمها الا هو ومن تجلى له الحق بالهوية الذاتية من الأقطاب والكمل.
قال تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسول".
وإليه أشار النبي، صلى الله عليه وسلم، في دعائه بقوله: "أو استأثرت به في علم غيبك".
وكلها داخل تحت الاسم الأول والباطن بوجه وهي المبدىء للأسماء التي هي المبدأ للأعيان الثابتة كما سنبين،انشاء الله تعالى، ولا تعلق لها بالأكوان.
قال الشيخ، رضى الله عنه، في فتوحاته المكية: "واما الأسماء الخارجة عن الخلق والنسب، فلا يعلمها الا هو لأنه لا تعلقلها بالأكوان".
ومنها ما هي مفاتيح الشهادة، أعني الخارج، إذ قد تطلق ويراد بهاالمحسوس الظاهر فقط، وقد يراد بها أعم من ذلك.
كما قال تعالى : "عالم الغيب والشهادة".
وكلها داخلة تحت الاسم الآخر والظاهر بوجه آخر.
فالأسماء الحسنى هي أمهات الأسماء كلها.
واعلم، ان بين كل اسمين متقابلين اسم ذو وجهين متولد منهما هو برزخ بينهما.
كما ان بين كل صفتين متقابلتين صفة ذات وجهين متولدة منهما هي برزخ .
ويتولد أيضا من اجتماع الأسماء بعضها مع بعض، سواء كانت متقابلة أو غيرمتقابلة، أسماء غير متناهية ولكل منها مظهر في الوجود العلمي والعيني.
تنبيه
اعلم، ان أسماء الأفعال بحسب أحكامها تنقسم أقساما.
منها أسماءلا ينقطع حكمها ولا ينتهى اثرها أزل الآزال وأبد الآباد كالأسماء الحاكمة على الأرواح القدسية والنفوس الملكوتية.
وعلى كل ما لا يدخل تحت الزمان من المبدعات وان كانت داخلة تحت الدهر.
ومنها ما لا ينقطع حكمه أبد الآباد وان كانت منقطعة الحكم أزل الآزال كالأسماء الحاكمة على الآخرة، فإنها أبدية كما دلت الآيات على خلودها وخلود أحكامها.
وغير أزلية بحسب الظهور، إذ ابتداء ظهورها من انقطاع النشأة الدنياوية.
ومنها ما هو مقطوع الحكم أزلا ومتناهي الأثر ابدا كالأسماء الحاكمة على كل ما يدخل تحت الزمان وعلى النشأة الدنياوية فإنها غير أزلية ولا أبدية بحسب الظهور وان كانت نتايجها بحسب الآخرة أبدية.
وما ينقطع احكامه، اما ان ينقطع مطلقا ويدخل الحاكم عليه في الغيب المطلق الإلهي كالحاكم على النشأة الدنياوية ، واما ان يستتر ويختفي تحت حكم الاسم الذي يكون أتم حيطة منه عند ظهور دولته إذ للأسماء دول بحسب ظهوراتها وظهور أحكامها .
وإليها تستند أدوار الكواكب السبعة التي مدة كل دورة الف سنة والشرايع إذ لكل شريعة اسم من الأسماء تبقى ببقاء دولته وتدوم بدوام سلطنته وتنسخ بعد زوالها.
وكذلك التجليات الصفاتية إذ عند ظهور صفة ما منها تختفي احكام غيرها تحتها.
وكل واحد من الأقسام الأسمائية يستدعى مظهرا به يظهر أحكامها وهو الأعيان.
فان كانت قابلة لظهور الأحكام الأسمائية كلها كالأعيان الانسانية كانت في كل آن مظهرا لشأن من شؤونها.
وان لم يكن قابلة لظهور أحكامها كلها كانت مختصة ببعض الأسماء دون البعض كالأعيان الملائكة.
ودوام الأعيان في الخارج وعدم دوامها فيه دنيا وآخرة راجع إلى دوام الدول الأسمائية وعدم دوامها.
فافهم فإنك ان أمعنت النظر في هذا التنبيه وتحققت المطلوب منه، يظهر لك أسرار كثيرة.
والله الهادي.
تنبيه آخر
اعلم، ان الأشياء الموجودة في الخارج كلها داخلة تحت الاسم الظاهر من حيث وجودها الخارجي.
والحق من حيث ظهوره عين الظاهر كما انه من حيث بطونه عين الباطن، فكما ان الأعيان الثابتة أي، طبائع الأعيان الثابتة في العلم من حيث الباطن .
أسمائه تعالى والموجودات الخارجية، مظاهرها كذلك طبايع الأعيان الموجودة في الخارج من حيث الظاهر أسمائه تعالى والأشخاص مظاهرها.
فكل حقيقة خارجية، سواء كانت جنسا أو نوعا، اسم من أمهات الأسماء لكونها كلية مشتملة على افراد جزئية، بل كل شخص أيضا اسم من الأسماء الجزئية لان الشخص هو عين تلك الحقيقة مع عوارض مشخصة لها لا غير.
هذا باعتبار اتحاد الظاهر والمظهر في الخارج واما باعتبار تغايرهما العقلي، فالأشخاص مظاهر للحقايق الخارجة كما انها مظاهر للأعيان الثابتة وهي مظاهر للأسماء والصفات. فافهم.


تنبيه آخر
قال بعض الحكماء من المتأخرين ان علمه تعالى بذاته هو عين ذاته وعلمه بالأشياء الممكنة عبارة عن وجود العقل الأول مع الصور القائمة به هربا من مفاسد تلزمهم.
هذا، وان كان له وجه عند من تعلم الحكمة الإلهية المتعالية من الموحدين ، لكن لا يصح مطلقا ولا على قواعدهم لأنه حادث بالحدوث الذاتي و حقيقة علمه تعالى قديمة لأنها عينه.
فكيف يمكن ان يكون (هو هو) بعينه.
وأيضا، العقل لكونه ممكنا حادثا ومسبوقا بالعدم الذاتي معلوم للحق، لان ما لا يعلم لا يمكن اعطاء الوجود له.
فالعلم به حاصل قبل وجوده ضرورة فهو غيره وماهيته مغايرة لحقيقة العلم بالضرورة لان العلم قد يكون واجبا بالذات، كعلم الحق سبحانه بذاته.
وقد يكون صفة ذات اضافه وقد يكون إضافة محضة بخلاف الماهية.
فان قلت: علمه بذاته مغاير لعلمه بمعلولاته، وهذا العلم هو المسمى بالعقل الأول.
قلت: حقيقة العلم واحدة والمغايرة بين افرادها اعتبارية إذ اختلافها بحسب المتعلقات فهي لا يقدح في وحدة حقيقته.
والحق يعلم الأشياء بعين ما يعلم به ذاته لا بأمر آخر، وكونه صفة ذات إضافة أو إضافة محضة في بعض الصور ينافي كونه عين العقل الأول .
لكون الأول عرضا  والثاني جوهرا، وكونه جوهرا من الجواهر كما مر، انما هو لسريان الهوية الإلهية فيها وليس عندهم كذلك، فلا يمكن ان يكون العلم جوهرا.
وأيضا، كما انه عالم بالأشياء كذلك هو قادر، فكونه عبارة عن علمه دون قدرته ترجيح بلا مرجح بل عكسه أولى لشمول قدرته على كل ما بعده عنده مدون علمه.
وأيضا، القول بأن العقل عين علمه تعالى تبطل العناية الإلهية السابقة على وجود الأشياء كلها.
وليس عبارة عن حضوره عنده تعالى، لان الحضور صفة الحاضر وهوالعقل، وعلمه تعالى صفته فهو غيره.
وأيضا، حضوره متأخر بالذات عن الحق وعلمه لأنه صفته وهو متأخر بالذات عن الحق وعن علمه لأنه مع جميع كمالاته متقدم بالذات على جميع الموجودات، فلا يفسر علمه تعالى بالحضور.
وأيضا، يلزم احتياج ذاته تعالى في أشرف صفاته إلى ما هو غيره صادر منه، ويلزم ان لا يكون عالما بالجزئيات وأحوالها من حيث هي جزئية، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
نعم، لو يقول العارف المحقق انه عين علمه تعالى من حيث انه عالم بحقايق الأشياء والمعاني الكلية على سبيل الاجمال والمظهر عين الظاهر باعتبار، يكون حقا ويكون هو اسمه العليم كما مر بيانه في التنبيه المتقدم.
لان ماهيته عبارةعن الهوية الإلهية المتعينة بتعين خاص سميت به عقلا أولا، لكن لا يختص هوبذلك.
بل النفس الكلية أيضا كذلك لاشتماله على الكليات والجزئيات، بل كل عالم بهذا الاعتبار يكون اسمه العليم لا العقل الأول فقط.
والحكيم لا يشعر بهذا المعنى إذ عنده ان العقل وغيره مغاير للحق تعالى ماهية ووجودا ومعلول من معلولاته.
فيلزم ان يكون في أشرف صفاته محتاجا إلى غيره، تعالى عنه.
والحق ان كل من انصف يعلم في نفسه ان الذي أبدع الأشياء وأوجدها من العدم إلى الوجود، سواء كان العدم زمانيا أو غير زماني.
يعلم تلك الأشياء بحقايقها وصورها اللازمة لها الذهنية والخارجية قبل ايجاده إياها، والا لا يمكن اعطاء الوجود لها فالعلم غيرها.
والقول باستحالة ان يكون ذاته تعالى وعلمه الذي هو عين ذاته محلا للأمور المتكثرة انما يصح إذا كانت غيره تعالى.
كما عند المحجوبين عن الحق ، اما إذا كانت عينه من حيث الوجود والحقيقة وغيره باعتبار التعين والتقيد فلا يلزم ذلك.
وفي الحقيقة ليس حالا ولا محلا بل شئ واحد ظهر بصورة المحلية تارة والحالية أخرى.
فنفس الامر عبارة عن العلم الذاتي الحاوي لصورالأشياء كلها.
كليها وجزئيها، صغيرها وكبيرها، جمعا وتفصيلا، عينية كانت أوعلمية: "لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء."
فان قلت: العلم تابع للمعلوم ، وهو الذات الإلهية وكمالاتها، فكيف يكون عبارة عن نفس الامر؟


قلت الصفات الإضافية لها اعتباران:
اعتبار عدم مغايرتها للذات و اعتبار مغايرتها لها.
فبالاعتبار الأول، العلم والإرادة والقدرة وغيرها من الصفات التي يعرض لها الإضافة ليس تابعا للمعلوم والمراد والمقدور لأنها عين الذات ولا كثرة فيها.
وبالاعتبار الثاني، العلم تابع للمعلوم وكذلك الإرادة والقدرة تابعة للمراد والمقدور.
وفي العلم اعتبار آخر وهو حصول صور الأشياء فيه فهو ليس من حيث تبعيته لها عبارة عن نفس الامر بل من حيث ان صور تلك الأشياء حاصلة فيه عبارة عنه.
ومن حيث تبعيته لها يقال، الأمر في نفسه كذا.
أي تلك الحقيقة التي يتعلق بها العلم وليست غير الذات في نفسها كذا.
وجعل بعض العارفين العقل الأول عبارة عن نفس الامر حق لكونه مظهرا للعلم الإلهي من حيث إحاطته بالكليات المشتملة على جزئياتها ولكون علمه مطابقا لما
ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻭﻛﺬﻟﻚ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﺍﻟﻤﺴﻤﺎﺓ ﺑﺎﻟﻠﻮﺡ ﺍﻟﻤﺤﻔﻮﻅ .
ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻻﻋﺘﺒﺎﺭ ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﻧﻔﺲ ﺍﻻﻣﺮ ﻭﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﻌﻠﻘﻪ ﺑﺎﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ ﺍﻻ ﺍﻟﻠﻪ.
ﻭﺍﻟﺰﻋﻢ ﺑﺒﺪﺍﻫﺘﻪ ﺍﻧﻤﺎ ﻳﻨﺸﺄ ﻣﻦ ﻋﺪﻡ ﺍﻟﻔﺮﻕ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻈﻞ ﻭﻣﺎ ﻫﻮ ﻇﻠﻪ ﻻﻥ ﻋﻠﻮﻡ ﺍﻷﻛﻮﺍﻥ ﻇﻼﻝ ﻛﻮﺟﻮﺩﺍﺗﻬﻢ.
ﻭﺃﻳﻀﺎ ﺣﺼﻮﻟﻪ ﺑﺪﻳﻬﻲ، ﻭﻻ ﻳﻠﺰﻡ ﻣﻦ ﺑﺪﺍﻫﺔ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﺤﺼﻮﻝ ﺍﻟﺸﺊ ﺑﺪﺍﻫﺔ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﺤﻘﻴﻘﺘﻪ ﻭﻣﺎﻫﻴﺘﻪ.
ﻭﺍﻟﻠﻪ ﺍﻋﻠﻢ ﺑﺎﻟﺤﻘﺎﻳﻖ.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الثالث في الأعيان الثابتة والتنبيه على المظاهر الأسمائية من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 3:29 pm

الفصل الثالث في الأعيان الثابتة والتنبيه على المظاهر الأسمائية من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصل الثالث من المقدمة على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصل الثالث في الأعيان الثابتة والتنبيه على المظاهر الأسمائية
اعلم، ان للأسماء الإلهية صورا معقولة في علمه تعالى لأنه عالم بذاته لذاتهوأسمائه وصفاته. وتلك الصور العلمية من حيث انها عين الذات المتجلية
بتعين خاص ونسبة معينة هي المسماة بالأعيان الثابتة ، سواء كانت كلية وجزئية، في اصطلاح أهل الله، ويسمى كلياتها بالماهيات والحقايق وجزئياتها بالهويات عند أهل النظر.
فالماهيات هي الصور الكلية الأسمائية المتعينة في الحضرة العلمية تعينا أوليا.
وتلك الصور فايضة عن الذات الإلهية بالفيض الأقدس والتجلي الأول بواسطة الحب الذاتي وطلب مفاتح الغيب التيلا يعلمها الا هو ظهورها وكمالها.
فان الفيض الإلهي ينقسم بالفيض الأقدس والفيض المقدس.
وبالأول يحصل الأعيان الثابتة واستعدادتها الأصلية في العلم.
وبالثاني يحصل تلك الأعيان في الخارج مع لوازمها وتوابعها.
وإليه أشار الشيخ بقوله(والقابل لا يكون الا من فيضه الأقدس).
وذلك الطلب مستند أولا إلى الاسم الأول والباطن ثم بهما إلى الآخر والظاهر لان الأولية
والباطنية ثابتة للوجود العلمي والآخرية والظاهرية للعيني، والأشياء ما لم توجد في العلم لم يمكن وجودها في العين.
والأعيان بحسب امكان وجودها في الخارج وامتناعها فيه ينقسم إلى قسمين: الأول الممكنات والثاني الممتنعات،
 وهي قسمان:
قسم يختص بفرض العقل إياه كشريك الباري واجتماع النقيضين
والضدين في موضوع خاص ومحل معين وغيرها، وهي أمور متوهمة ينتجها العقل المشوب بالوهم .
وعلم الباري، جل ذكره، يتعلق بهذا القسم من حيث علمه بالعقل والوهم ولوازمهما من توهم مالا وجود له ولا عين وفرضهما إياه لا من حيث ان لها ذواتا في العلم أو صورا أسمائية والا يلزم الشريك في نفس الامر والوجود.
قال الشيخ، رضى الله عنه، في الفتوحات في ذكر أولياء الناهين عن المنكر من الباب الثالث والسبعين:
 (فلم يكن ثمة شريك له عين أصلا بلهو لفظ ظهر تحته العدم المحض، فأنكرته المعرفة بتوحيد الله الوجودي فيسمى منكرا من القول وزورا.)
وقسم لا يختص بالفرض بل هي أمور ثابتة في نفس الأمر موجودة في العلملازمة لذات الحق لأنها صور للأسماء الغيبية المختصة بالباطن من حيث هوضد الظاهر إذ للباطن وجه يجتمع مع الظاهر ووجه لا يجتمع معه  وتختص الممكنات بالأول والممتنعات بالثاني.
وتلك الأسماء هي التي قال، رضى الله عنه، في فتوحاته: (واما الأسماء الخارجة عن الخلق والنسب فلا يعلمها الا هولأنه لا تعلق لها بالأكوان).
وإلى هذه الأسماء أشار النبي، صلى الله عليه وسلم،بقوله: (أو استأثرت به في علم غيبك).
ولما كانت هذه الأسماء بذواتها طالبة للباطن هاربة عن الظاهر لم يكن لها وجود فيه، فصور هذه الأسماء وجودا تعلمية ممتنعة الاتصاف بالوجود العيني ولا شعور لأهل العقل بهذا القسم ولا مدخل للعقل فيه.
والاطلاع بأمثال هذه المعاني انما هو من مشكاة النبوة والولاية والايمان بهما. فالممتنعات حقايق الهية من شأنها عدم الظهور في الخارج كما ان من شأن الممكنات ظهورها فيه.
وكل حقيقة ممكن وجودها، وان كانت باعتبار ثبوتها في الحضرة العلمية أزلاوأبدا ما شمت رائحة الوجود ، لكن باعتبار مظاهرها الخارجية كلها موجودة
فيه وليس شئ منها باق في العلم بحيث لم توجد بعد لأنها بلسان استعداداتهاطالبة للوجود العيني، فلو لم يعط الواهب الجواد وجودها لم يكن الجواد جوادا،ولو أوجد بعضها دون البعض مع انها كلها طالبة للوجود يكون ترجيحا بلا مرجح. 
وافرادها لتوقفها بأزمانها التي يعلمها الحق وقوعها فيها تظهرمن الغيب إلى الشهادة ظهورا غير منقطع إلى انقراض النشأة الدنياوية و
في الآخرة أيضا كما جاء في الحديث الصحيح: (المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة  كما يشتهى).
قال تعالى: (ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم.)والأعيان الممكنة ينقسم إلى الأعيان الجوهرية والعرضية،
والأعيان الجوهرية كلها متبوعات والعرضية كلها توابع. والجواهر ينقسم إلىبسيط روحاني كالعقول والنفوس المجردة، وإلى بسيط جسماني كالعناصر، وإلى مركب في العقل دون الخارج كالماهية الجوهرية المركبة من الجنس والفصل، وإلى مركب فيهما كالمولدات (المواليد) الثلاث.
وكل من الأعيان الجوهرية والعرضية ينقسم إلى أعيان الأجناس العالية والمتوسطة والسافلة، وكل منها ينقسم إلى الأنواع وهي إلى الأصناف وإلى الاشخاص: (فسبحان الذي لا يعزب عن علمه شئ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.)
فعالم الأعيان مظهر الاسم الأول والباطن المطلق، وعالم الأرواح مظهر الاسم الباطن والظاهر المضافين، وعالم الشهادة مظهر الاسم الظاهر المطلق والآخر من وجه، وعالم الآخرة مظهر الاسم الآخر المطلق، ومظهر اسم الله الجامع لهذه الأربعة هو الانسان الكامل الحاكم في العوالم كلها، وعالم المثال مظهر الاسم المتولد من اجتماع الظاهر والباطن  وهو البرزخ بينهما، والأجناس العالية مظاهر أمهات الأسماء التي تشتمل الأسماء الأربعة عليها، والمتوسطة
مظاهر الأسماء التي تحتها في المرتبة، والسافلة مظاهر الأسماء التي دونها في الحيطة والمرتبة.
وكذلك الأنواع الحقيقية مظاهر الأسماء التي تحت حيطة الأنواع الإضافية ، وهي ان كانت بسيطة يكون كل منها مظهرا لاسم خاص معين، وان كانت مركبة يكون كل منها مظهرا لاسم حاصل من اجتماع أسماء متعددة، واشخاصها مظاهر رقايق الأسماء التي تحصل من اجتماع بعضها مع بعض ومن هذه الاجتماعات يحصل أسماء غير متناهية ومظاهر لا يتناهى.
ومن هنا يعلم سر قوله تعالى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل ان تنفدكلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا).
لان كلماته تعالى هي أعيان الحقايق كلها وكمالات الأسماء المشتركة مشتركة بين مظاهرها بخلاف الأسماء المختصة فانكمالاتها أيضا مختصة.
ولا بد ان يعلم ان كل ما هو موجود في الخارج، وله صفات متعددة، فهومظهر لها كلها فان كان يظهر منه في كل حين صفة منها فهو مظهر تلك الصفةفي ذلك الحين، كما ان الشخص الانساني تارة يكون مظهر الرحمة وتارة مظهرالنقمة باعتبار ظهور الصفتين فيه، وان كان يظهر فيه صفة معينة أو صفات متعددة دائما فهو مظهر لها دائما بحسبها.
فالعقول والنفوس المجردة من حيثانها عالمة بمباديها وما يصدر منها مظاهر للعلم الإلهي وكتب الهية.
والعرش مظهر الرحمان ومستواه.
والكرسي مظهر الرحيم .
والفلك السابع مظهر الرزاق.
والسادس مظهر العليم .
والخامس مظهر القهار.
والرابع مظهرالنور والمحيي.
والثالث مظهر المصور.
والثاني مظهر البارئ.
والأول مظهرالخالق.
هذا باعتبار الصفة الغالبة على روحانية الفلك المنسوب إليه ذلك الاسم.
فكلما أمعنت النظر في الموجودات وظهر لك خصايصها تعرف انها مظاهرلها، والله الموفق.
تنبيه
الأعيان من حيث انها صور علمية لا توصف بأنها مجعولة  لأنها حينئذ معدومة في الخارج والمجعول لا يكون الا موجودا، كما لا يوصف الصور العلمية والخيالية التي في أذهاننا بأنها مجعولة ما لم توجد في الخارج، ولو كانت كذلك لكانت الممتنعات أيضا مجعولة لأنها صور علمية.
فالجعل انما يتعلق بها بالنسبة إلى الخارج وليس جعلها الا ايجادها في الخارج لا ان الماهية جعلت ماهية فيه، وبهذا المعنى تعلق الجعل بها في العلم أولى.
وحينئذ يرجع النزاع لفظيا إذ لايمكن ان يقال ان الماهيات ليست بإفاضة مفيض في العلم واختراعه والا يلزم انلا يكون حادثة بالحدوث الذاتي، لكنها ليست مخترعة كاختراع الصور الذهنية التي لنا إذا أردنا اظهار شئ لم يكن، ليلزم تأخر الأعيان العلمية عن الحق في الوجود تأخرا زمانيا.
بل علمه تعالى ذاته بذاته يستلزم الأعيان من غير تأخرهاعنه تعالى في الوجود فبعين العلم الذاتي يعلم تلك الأعيان لا بعلم آخر، كما توهممن جعل علمه بالعالم عين العقل الأول ، فافهم.
تنبيه آخر
اعلم، ان للأعيان الثابتة اعتبارين:
اعتبار انها صور الأسماء ، واعتبارانها حقايق الأعيان الخارجية.
فهي بالاعتبار الأول كالأبدان للأرواح
وبالاعتبارالثاني كالأرواح للأبدان.
وللأسماء أيضا اعتباران:
اعتبار كثرتها واعتبار وحدة الذات المسماة بها كما مر.
فباعتبار تكثرها محتاجة إلى الفيض من الحضرة الإلهيةالجامعة لها وقابلة له كالعالم.
وباعتبار وحدة الذات الموصوفة بالصفات أربابلصورها فياضة إليها.
فبالفيض الأقدس الذي هو التجلي بحسب أولية الذات وباطنيتها يصل الفيض من حضرة الذات إليها وإلى الأعيان دائما، ثم بالفيض المقدس الذي هو التجلي بحسب ظاهريتها وآخريتها وقابلية الأعيان و استعداداتها يصل الفيض من الحضرة الإلهية إلى الأعيان الخارجية.
وكل عين هي كالجنس لما تحتها واسطة في وصول ذلك الفيض إلى ما تحتها من وجه إلى انينتهى إلى الاشخاص كوساطة العقول والنفوس المجردة إلى ما تحتها مما في عالم الأكوان والفساد وان كان يصل الفيض إلى ماله وجود من الوجه الخاص الذي له مع الحق بلا واسطة.
والأعيان من حيث انها أرواح للحقايق الخارجية ولها جهة المربوبية تقبل الفيض بالأولى وترب صورها الخارجية بالثانية.
فالأسماء مفاتيح الغيب والشهادة مطلقا والأعيان الممكنة مفاتيح الشهادة.
ولما كان الفيض عليها وعلى الأسماء كلها من حضرة الجمع من غير انقطاع بحسب استعداداتها، نسب الشيخ، رضى الله عنه، في الكتاب، الفيض مطلقا إلى حضرة الجمع والقابلية إلى لأعيان وان كانت هي أيضا فياضة إلى ما تحتها من الصور من حيث ربوبيتها.
فلا يتوهم متوهم ان الأعيان لها جهة القابلية فقط، والأسماء لها جهة الفاعليةفقط.
وان الأسماء ينقسم إلى ماله التأثير وإلى ماله التأثر، فيجعل البعض منها فاعلا مطلقا والآخر قابلا مطلقا، والله العالم.
هداية للناظرين الماهيات  كلها وجودات خاصة علمية، لأنها ليست ثابتة في الخارج منفكةعن الوجود الخارجي ليلزم الواسطة بين الموجود والمعدوم كما ذهبت إليه المعتزلة.
لان قولنا الشئ اما ان يكون ثابتا في الخارج واما ان لا يكون، بديهي.
والثابت في الخارج هو الموجود فيه بالضرورة وغير الثابت هو المعدوم، وإذا كان كذلك فثبوتها حينئذ منفكة عن الوجود الخارجي في العقل وكل ما في العقل من الصورفايضة من الحق وفيض الشئ من غيره مسبوق بعلمه به فهي ثابتة  في علمه تعالى، وعلمه وجوده لأنه ذاته.
فلو كانت الماهيات غير الوجودات المتعينة
في العلم لكان ذاته تعالى محلا للأمور المتكثرة المغايرة لذاته تعالى حقيقة وهو محال  
وما يقال ، بانا نتصور الماهية مع ذهولنا عن وجودها انما هو بالنسبة إلى الوجود الخارجي.
إذ لو نذهل عن وجودها الذهني لم يكن في الذهن شئ أصلا، ولو سلم ذهولنا عن وجودها الذهني مع عدم الذهول عنها لا يلزم أيضا انها يكون غير الوجود مطلقا لجواز ان يكون الماهية وجودا خاصا يعرض لها الوجود في الذهن وهو كونها في الذهن كما يعرض لها في الخارج وهو كونها في الخارج،فيحصل الذهول عن وجودها في الذهن ولا يحصل عنها.
والوجود قد يعرض لنفسه باعتبار تعدده كعروض الوجود العام اللازم للوجودات الخاصة.
والحق ما مر من ان الوجود يتجلى بصفة من الصفات فيتعين ويمتاز عن الوجود المتجلي بصفة أخرى في صير حقيقة ما من الحقائق الأسمائية.
وصورة تلك الحقيقة في علم الحق تعالى هي المسماة بالماهية والعين الثابتة.
وان شئتقلت، تلك الحقيقة هي الماهية فإنه أيضا صحيح. وهذه الماهية لها وجود خارجي في عالم الأرواح وهو حصولها فيه، ووجود في عالم المثال وهوظهورها في
صورة جسدانية، ووجود في الحس وهو تحققها فيه، ووجود علمي في أذهاننا وهوثبوتها فيه.
ومن هنا قيل، ان الوجود هو الحصول والكون وبقدر ظهورنور الوجود بكمالاته في مظاهره تظهر تلك الماهيات ولوازمها تارة في الذهن و أخرى في الخارج.
فيقوى ذلك الظهور ويضعف بحسب القرب من الحقوالبعد عنه وقلة الوسائط وكثرتها وصفاء الاستعداد وكدره، فيظهر للبعض جميع الكمالات اللازمة لها وللبعض دون ذلك.
فصور تلك الماهيات إذا كانت فيأذهاننا هي ظلالات تلك الصور العلمية، الحاصلة فينا بطريق الانعكاس من المبادي العالية أو بظهور نور الوجود فينا بقدر نصيبنا من تلك الحضرة.
ولذلك صعب العلم بحقايق الأشياء على ما هي عليه الا من تنور قلبه بنور الحق وارتفع الحجاب بينه وبين الوجود المحض، فإنه يدرك بالحق تلك الصور العلمية على ما هي عليه في أنفسها، ومع ذلك بقدر إنيته ينحجب عن ذلك فيحصل التميز بين علم الحق بها وبين علم هذا الكامل. فغاية عرفان العارفين اقرارهم بالعجز والتقصير وعلمهم برجوع الكل إليه وهو العليم الخبير. فان علمت قدرما سمعت فقد أوتيت الحكمة: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا.)
تتميم
الأعيان من حيث تعيناتها العدمية وامتيازها من الوجود المطلق راجعة إلى العدم وان كانت باعتبار الحقيقة والتعينات الوجودية عين الوجود.
فإذا قرع سمعك من كلام العارفين: ان عين المخلوق عدم والوجود كله الله، تلقب القبول، فإنه يقول ذلك من هذه الجهة.
كما قال أمير المؤمنين عليه السلام فيحديث كميل، رضى الله عنه: (صحو المعلوم مع محو الموهوم). وأمثال ذلك كثيرة في كلامهم.
والمراد من قولهم:
الأعيان الثابتة في العدم أو الموجودة من العدم، ليس ان العدم ظرف لها إذ العدم لا شئ محض.
بل المراد انها حال كونها ثابتة في الحضرة العلمية متلبسة بالعدم الخارجي موصوفة به فكأنها كانت ثابتة في عدمها الخارجي ثم ألبسها الحق خلعة الوجود الخارجي فصارت موجودة .
والله اعلم.


.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الرابع في الجوهر والعرض على طريقة أهل الله من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 4:21 pm

الفصل الرابع في الجوهر والعرض على طريقة أهل الله من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصل الرابع من المقدمة على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصل الرابع في الجوهر والعرض على طريقة أهل الله
اعلم، أنك إذا أمعنت النظر في حقايق الأشياء وجدت بعضها مكتنفة بالعوارض وبعضها تابعة لاحقة لها، والمتبوعة هي الجواهر والتابعة هي الأعراض، ويجمعهما الوجود إذ هو المتجلي بصورة كل منهما.
والجواهر متحدة في عين الجوهر فهو حقيقة واحدة هي مظهر الذات الإلهية من حيث قيوميتها وحقيقتها، كما أن العرض مظهر الصفات التابعة لها.
الا ترى كما أن الذات الإلهية لا تزال محتجبة بالصفات فكذلك الجوهرلا يزال مكتنفا بالأعراض، و كما أن الذات مع انضمام صفة من صفاتها اسم من الأسماء، كلية كانت أو جزئية، كذلك الجوهر مع انضمام معنى من المعانيالكلية إليه يصير جوهرا خاصا مظهرا لاسم خاص من الأسماء الكلية بل عينه.
وبانضمام معنى من المعاني الجزئية يصير جوهرا جزئيا كالشخص، وكما انه من اجتماع الأسماء الكلية تتولد أسماء آخر كذلك من اجتماع الجواهر البسيطة يتولد جواهر آخر مركبة منها، وكما أن الأسماء بعضها محيطة بالبعض كذلك
الجواهر بعضها محيطة بالبعض، وكما أن الأمهات من الأسماء منحصرة كذلك أجناس الجواهر وأنواعها منحصرة، وكما أن الفروع من الأسماء غير متناهية كذلك الأشخاص أيضا غير متناهية، وتسمى هذه الحقيقة في اصطلاح أهل الله بالنفس الرحماني والهيولى الكلية، وما تعين منها وصار موجودا من الموجودات بالكلمات الإلهية.
فإن اعتبرت تلك الحقيقة من حيث جنسيتها التي تلحقها بالنسبة إلى الأنواع التي تحتها فيه طبيعة جنسية، وإن اعتبرت من حيث فصليتها التي بها
يصير الأنواع أنواعا فهي طبيعة فصلية، إذ حصة منها مع صفة معينة هي المحمولة على النوع بهو هو لا غيرها، وإن اعتبرت من حيث حصصها المتساوية في افرادها الواقعة تحتها أو تحت نوع من أنواعها على سبيل التواطؤ فهي طبيعة نوعية.
فالجنسية والفصلية والنوعية من المعقولات الثانية اللاحقة إياها.
فالجوهر بحسب حقيقته عين حقايق الجواهر البسيطة والمركبة، فهو حقيقة الحقايق كلها تنزل من عالم الغيب الذاتي إلى عالم الشهادة الحسية وظهر في كل من العوالم بحسب ما يليق بذلك العالم وفيه أقول: شعر
حقيقة  ظهرت في الكون قدرتها    ..... فأظهرت هذه الأكوان والحجبا
تنكرت بعيون العالمين كما     ...... تعرفت بقلوب عرف أدبا
فالخلق كلهم أستار طلعتها    ...... والأمر أجمعهم كانوا لها نقبا
ما في التستر بالأكوان من عجب   ..... بل كونها عينها مما ترى عجبا
وليس انضمامه إلى المعاني الكلية أو الجزئية الا ظهوره فيها وتجليه بها تارة في مراتبه الكلية وأخرى في مراتبه الجزئية.
فهو الذات الواحدة بحسب نفسه المتكثرة بظهوراته في صفاته وهي بحسب حقايقها لازمة لتلك الذات وإن كانت من حيث ظهورها تتوقف على اعتدال يكون عنده بالفعل.
فكل ما في فرده بالفعل أو بالقوة وقتا ما أو دائما من اللوازم والصفات فهو فيها غيب، إذ كلما يظهر فهو قبل ظهوره فيه بالقوة والشدة والألم يمكن ظهوره.
والجوهر لا جنس له ولا فصل فلا حد له وما ذكر من التعريف فهو رسم لهلا حد حقيقي.
ولما كانت التجليات الإلهية المظهرة للصفات متكثرة بحكم ( كل يوم هو في شأن) صارت الأعراض متكثرة غير متناهية.
وهذا التحقيق ينبهك على أن الصفات من حيث تعيناتها في الحضرة الأسمائية حقايق متميزة بعضها عن بعض وان كانت راجعة إلى حقيقة واحدة مشتركة بينها من وجه آخر، كما ان مظاهرها حقايق متمايزة بعضها عن بعض مع كونها مشتركة في العرضية، لان كل ما في الوجود دليل وآية على ما في الغيب.


تنبيه بلسان أهل النظر
اعلم، ان الممكنات منحصرة في الجواهر والأعراض.
والجوهر عين الجواهر في الخارج وامتياز بعضها عن البعض بالاعراض اللاحقة له ، وذلك لان الجواهر كلها مشتركة في الطبيعة الجوهرية وممتازة بعضها عن بعض بأمورغير مشتركة فتلك الأمور المميزة خارجة عن الطبيعة الجوهرية فيكون اعراضا.
لا يقال، لم لا يجوز أن يكون الجوهر عرضا عاما لها؟
لأنا نقول، العرض العام انما يغاير افراد معروضة في العقل لا في الخارج،فهو بالنظر إلى الخارج عين تلك الافراد والا لا يكون محمولا عليها بهو هو وهو المطلوب.
وأيضا، لو كانت الطبيعة الجوهرية عرضا عاما خارجا عن الجواهر في الخارج لكانت الحقايق الجوهرية غير جواهر في أنفسها وذواتها من حيث أنها معروضة لها إذ العارض غير المعروض ضرورة.
وأيضا، إن كانت تلك الطبيعة موجودة بوجود غير وجود أفرادها لكانت كالأمراض فلا يحمل عليها بالمواطاة، ولكان انعدام الطبيعة الجوهرية غير موجب لانعدامها لكونها خارجة عنها، وانعدام اللازم البين ليس موجبا لانعدام ملزومه بل علامة له ، كما مر في الوجود، وان لم يكن موجودة لكانت الأفراد
الجوهرية غير جاهر في الخارج لعدم الجوهرية فيه وهو محال، وإن كانت موجودة بعين وجود الجواهر فهي عينها في الخارج وهو المطلوب.
وأيضا، لو لم يكن الجوهر عين كل ما يصدق عليه من الجزئيات في الخارج حقيقة، لا يخلو إما ان يكون داخلا في الكل فيلزم تركب الماهية من جواهر غير متناهية، ان كان فصلها جواهر، لكونها داخلا في فصلها أيضا لجوهريته ودخول الجوهر فيه ويلزم ان لا يكون شئ من الجواهر بسيطا، أو تركب الماهية من الجوهر والعرض.
ان كان فصلها عرضا، فيكون الماهية الجوهرية عرضية، أو داخلا في البعض دون البعض فيلزم ان يكون البعض المعروض له في حد ذاته مع قطع النظر عن عارضه غير جوهر، أو خارجا عن الكل وهو أشد استحالة من الثاني بعين ما مر.
فتعين أن يكون عين أفراده في الخارج فالامتياز بينها بالاعراض الخاصة إذ لا يجوز أن يكون المميز نفسه ولا فردا من أفراده.
لا يقال، لو كانت الأعيان الجوهرية مختلفة بالأعراض المعينة لها فقط لما كانت بذواتها ممتازة بل مشتركة كاشتراك الأفراد الانسانية في حقيقة واحدة.
لأنا نقول، الجواهر كلها مشتركة في الحقيقة الجوهرية كاشتراك أفراد النوع في حقيقة ذلك النوع أو الامتياز بينها بذواتها بعد حصول ذواتها.
والأنواع لا تصير أنواعا إلا بالإعراض الكلية اللاحقة للحقيقة الجوهرية كما لا يصير الاشخاص اشخاصا الا بالاعراض الجزئية اللاحقة للحقيقة النوعية. 
ألا ترى أن الحيوان يلحقه النطق فيصير به إنسانا ويلحقه الصهيل فيصير به فرسا ويلحقه النهيق فيصير به حمارا، وكل منها عرض.
فإذا أريد ان يحمل بالمواطاة احتيج إلى الاشتقاق فقيل الانسان حيوان ناطق والفرس حيوان صاهل. 
فالنطق محمول بالاشتقاق والناطق محمول بالمواطاة.
والشئ الذي له النطق المفهوم من الناطق هو بعينه الحيوان الذي في الوجود الانساني  وان كان أعم منه في العقل لذلك يحمل بهو هو.
فما ثم غير الحيوان والنطق.
فعلم أن التركيب المعنوي انما هو بين الطبيعة الحيوانية والطبيعة النطقية لا غير، والأول مشترك والثاني غير مشترك.
ولا يلزم تركب الجوهر من الجوهر والعرض لان ماله النطق هو الجوهر لا المركب كالشخص.
والفرق بين المعاني المنوعة و المشخصة بان الأولى انضمام الكلى إلى الكلى فلا يخرجه عن كليته، والثانية انضمام الجزئي بالكلي فيخرجه عنها والعرض العام ما يشمل حقيقتين فصاعدا والخاصة ما يختص بحقيقة واحدة.
الأول كالمشي والاحساس، والثاني كالنطق والضحك.
وما له المشي المعبر عنه بالماشي المسمى بالعرض العام، وماله الضحك المعبر عنه بالضاحك المسمى بالخاصة
عند أهل النظر هو عين الحيوان والإنسان في الوجود لا أمر زائد عليهما خارج منهما وإن كان بحسب المفهوم أعم منهما. 
فما هو عرض عام بالنسبة إلى الأنواع فهو فصل منوع بالنسبة إلى الجنس الذي هذه الأنواع تحته وما هو خاصة فهو فصل للنوع وكون الناطق محمولا على الإنسان بحمل المواطاة يمنع أن يقال إن الشئ الذي له النطق ماهية أخرى محمولة على الإنسان لاتحاد وجودهما، لان حمل ماهية على غيرها مباينة إياها محال واتحاد الوجود لا مدخل له في الحمل إذ الحمل على الماهية لا على الوجود.
ولو جاز ذلك لجاز حمل أجزاء ماهية مركبة من الأجزاء الموجودة عليها عند كونها موجودة بوجود واحد هو وجود المركب.
ولا تظنن ان مبدأ النطق الذي هو النفس الناطقة ليس للحيوان، لينضم معه فيصير الحيوان به إنسانا، مع أنه غير صالح للفصلية لكونه موجودا مستقلا في الخارج، بل هذا المبدء مع كل شئ حتى الجماد أيضا، فان لكل شئ نصيبا من عالم الملكوت والجبروت.
وقد جاء ما يؤيد ذلك من معدن الرسالة المشاهد للأشياء بحقايقها، صلوات الله عليه، مثل تكلم الحيوانات والجمادات معه.
وقال تعالى: (وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
وظهور النطق لكل أحد بحسب العادة والسنة الإلهية موقوف
على اعتدال المزاج الإنساني وأما للكمل فلا.
لكونهم مطلعين على بواطن الأشياء مدركين لكلامها.
وما قال المتأخرون بان المراد بالنطق هو ادراك الكليات لا التكلم، مع كونه مخالفا لوضع اللغة لا يفيدهم لأنه موقوف على ان الناطقة المجردة للانسان فقط، ولا دليل لهم على ذلك ولا شعور لهم. 
على أن الحيوانات ليس لهم إدراك كلي ، والجهل بالشيء لا ينافي وجوده.
وإمعان النظر فيما يصدر منها من العجائب يوجب أن يكون لها إدراكات كلية.
وأيضا لا يمكن إدراك الجزئي بدون كليه إذ الجزئي هو الكلى مع التشخص.
والله الهادي.
تنبيه آخر
العرض كما أنه بالذات طالب لمحل يقوم به وهو الجوهر، كذلك الجوهر أيضا طالب بذاته للعرض ليظهر به بل هو علة وجود العرض وطلبه، فحصل الارتباط بينهما من غير انفكاك. وكل منهما ينقسم بنوع من الانقسام إلى ما هو جوهر وعرض في العقل، وإلى ما هو جوهر وعرض في الخارج.
الأول،  كالأعيان الجوهرية والعرضية الثابتة في الحضرة العلمية و الأجناس والفصول المحمولة بالمواطاة للأنواع الخارجية.
والثاني، كالجواهر والأعراض الموجودة في الخارج، ولذلك عرف الجوهر بأنه ماهية لو وجدت لكانت لا في موضوع أو موجود لافي موضوع والعرض بمقابله.
والتركيب بين الجوهرين أو أكثر من القسم الأول لا ينافي الحمل على ما هو موضوع لهما كالحيوان والناطق المحمولين على الإنسان بمقابله.
تذنيب في الوجوب والامكان والامتناع
لما ذكر الشيخ رضى الله عنه في الكتاب: (الوجوب بالذات وبالغير والامكان والممكن والامتناع)، احتجنا إلى بيان النسب الثلاث على هذه الطريقة.
فنقول: الوجوب والامكان والامتناع من حيث انها نسب عقلية صرفة لا تحقق لها في الأعيان تحقق الأعراض في معروضاتها الخارجية.
ولا وجود لها الا في الأذهان لأنها أحوال تابعة للذوات الغيبية الثابتة في الحضرة العلمية.
أما بالنظر إلى وجوداتها الخارجية كالامكان للمكنات والامتناع للمتنعات، وأما بالنظر إلى عين تلك الذات كالوجوب للوجود من حيث هو هو فإنه واجب بذاته.
وليس وجوبه بالنظر إلى الوجود الزائد الخارجي. فالوجوب هو ضرورة اقتضاء الذات عينها وتحققها في الخارج.
والامتناع هو ضرورة اقتضاء الذات عدم الوجود الخارجي، والامكان عدم اقتضاء الذات الوجود والعدم.
فالامكان والامتناع صفتان سلبيتان من حيث عدم اقتضاء الموصوف بهما الوجود الخارجي والوجوب صفة ثبوتية.
لا يقال، الممتنعات لا ذات لها فلا اقتضاء لها.
لأنا بينا أنها قسمان:
قسم فرضه العقل ولا ذات له.
و قسم أمور ثابتة بالأسماء إلهية.
وقد تقدم في بيان الأعيان ان الوجوب يحيط بجميع الموجودات الخارجية والعلمية لأنها ما لم يجب وجودها لم توجد لا في الخارج ولا في العقل.
فانقسم الوجوب إلى الوجوب بالذات وإلى الوجوب بالغير.
واعلم،
ان هذا الانقسام إنما هو من حيث الامتياز بالربوبية والعبودية، وأما من حيث الوحدة الصرفة فلا وجوب بالغير بل بالذات فقط.
وكل ما هو واجب بالغير فهو ممكن بالذات فقد أحاطها الإمكان أيضا. 
وسبب اتصافها بالامكان هو الامتياز، ولولاه لكان الوجود على وجوبه الذاتي.
ولما كان منشأ هذه النسب الثلاث هو الحضرة العلمية ذهب بعض الأكابر إلى ان حضرة الامكان هي حضرة العلم بعينها.
وهذه المباحث العقلية التي تقدم ذكرها هنا وفي الفصول السابقة وإن كان فيها ما يخالف ظاهر الحكمة النظرية، لكنها في الحقيقة روحها الظاهرة من أنوار الحضرة النبوية العالمة بمراتب الوجود ولوازمها، لذلك لا يتحاشى أهل الله عن إظهارها وإن كان المتفلسفون ومقلدوهم يأبون عن أمثالها.
والله هو الحق وهو يهدى السبيل.


خاتمة في التعين
اعلم:
ان التعين ما به امتياز الشئ عن غيره بحيث لا يشاركه فيه غيره.
و هو قد يكون عين الذات كتعين الواجب الوجود الممتاز بذاته عن غيره وكتعينات الأعيان الثابتة في العلم فإنها أيضا عين ذواتها.
إذا الوجود مع صفة معينة له في الحضرة العلمية يصير ذاتا وعينا ثابتة.
وقد يكون أمرا زائدا على ذاته حاصلاله دون غيره كامتياز الكاتب من الأمي بالكتابة، وقد يكون بعدم حصول ذلك الأمر له كامتياز الأمي من الكاتب بعدم الكتابة.
والأول لا يخلو إما من ان يعتبر حصول هذا الأمر له مع قطع النظر عن عدم حصول غير ذلك الأمر كاعتبارنا حصول الكتابة لزيد مع قطع النظر عن عدم حصول الخياطة له.
أو يعتبر حصوله مع عدم حصول غيره له.
فالتعين الزائد قد يكون وجوديا، وقد يكون عدميا، وقد يكون مركبا من الوجودي والعدمي. 
والنوع الواحد يجمع لجميع أنواعه لان الانسان مثلا ممتاز بذاته عن الفرس، و بحصول صفة وجودية في مظهر من مظاهره يمتاز عن الظاهر بصفة وجودية أخرى كزيد الرحيم الممتاز عن عمرو القهار.
ويمتاز الظاهر بصفة وجودية عن الظاهر بصفة عدمية كالعليم من الجهول.
ويمتاز الكاتب الغير الخياط عن الخياط الغير الكاتب بصفة وجودية مع صفة عدمية أخرى وبالعكس.
والتعينات الزائدة كلها من لوازم الوجود، حتى ان الاعدام المتمايزة بعضها عن بعض تمايزها أيضا باعتبار وجوداتها في ذهن المعتبر لها أو باعتبار وجودات ملكاتها.
فلا يقال، ان الاختلاف بين الموجودات لو كان بالتعينات فقط لما كانت ممتازة بذواتها بل كانت بذواتها مشتركة كاشتراك أفراد الإنسانية في حقيقة واحدة.
لأنا نقول، الذوات انما تصير ذواتا بالتعينات العلمية، واما قبل تلك التعينات فليس الا الذات الإلهية التي هي الوجود المحض لا غير.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (كان الله ولم يكن معه شئ).
فثبت ان اختلاف الأعيان بذواتها انما يحصل أولا من التعينات التي بها يصير الذوات ذواتا كما ان الاشخاص
بالمشخصات صارت أشخاصا لان لها ذوات متمايزة بذواتها أو بصفاتها.
والله اعلم.

.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الثلاثاء يوليو 23, 2019 8:31 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الخامس في بيان العوالم الكلية والحضرات الخمسة الإلهية من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 4:40 pm

الفصل الخامس في بيان العوالم الكلية والحضرات الخمسة الإلهية من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصل الخامس من المقدمة على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصل الخامس في بيان العوالم الكلية والحضرات الخمسة الإلهية
العالم لكونه مأخوذا من العلامة لغة عبارة عما به يعلم الشيء واصطلاحا عبارة عن كل ما سوى الله تعالى.
لأنه يعلم به الله من حيث أسمائه وصفاته ،إذ بكل فرد من أفراد العالم يعلم اسم من الأسماء الإلهية لأنه مظهر اسم خاص منها.
فبالأجناس والأنواع الحقيقية يعلم الأسماء الكلية حتى يعلم بالحيوانات المستحقرة عند العوام  كالذباب والبراغيث والبق وغير ذلك أسماء هي مظاهر لها.
فالعقل الأول لاشتماله على جميع كليات حقايق العالم وصورها على طريق الإجمال عالم كلي يعلم به اسم الرحمان، والنفس الكلية لاشتمالها على جميع جزئيات ما اشتمل عليه العقل الأول تفصيلا، أيضا عالم كلي يعلم به اسم الرحيم.
والإنسان الكامل الجامع لجميعها اجمالا في مرتبة روحه وتفصيلا في مرتبة قلبه عالم كلي يعلم به الاسم الله الجامع للأسماء.
وإذا كان كل فرد من أفراد العالم علامة لاسم إلهي وكل اسم لاشتماله على الذات الجامعة لأسمائها مشتمل عليها.
كان كل فرد من أفراد العالم أيضا عالما يعلم به جميع الأسماء.
فالعوالم غير متناهية من هذا الوجه، لكن لما كانت الحضرات الإلهية الكلية خمسا صارت العوالم الكلية الجامعة لما عداها أيضا كذلك.
وأول الحضرات الكلية حضرة الغيب المطلق وعالمها عالم الأعيان  الثابتة في الحضرة العلمية، 
وفي مقابلتها حضرة الشهادة المطلقة وعالمها عالم الملك
وحضرة الغيب المضاف.
وهي ينقسم إلى ما يكون أقرب من الغيب المطلق وعالمه عالم الأرواح الجبروتية و الملكوتية، أعني عالم العقول والنفوس المجردة وإلى ما يكون أقرب من الشهادة وعالمه عالم المثال.
وانما انقسم الغيب المضاف إلى قسمين، لان للأرواح صورا مثالية مناسبة لعالم الشهادة المطلق وصورا عقلية مجردة مناسبة للغيب المطلق.
والخامسة، الحضرة الجامعة للأربعة المذكورة وعالمها العالم الإنساني الجامع لجميع العوالم وما فيها.
فعالم الملك مظهر عالم الجبروت أي عالم المجردات
وهو مظهر عالم الأعيان الثابتة
وهو مظهر الأسماء الإلهية
والحضرة الواحدية
وهي مظهر الحضرة الأحدية.


تنبيه
يجب ان يعلم ان هذه العوالم كليها وجزئيها كلها كتب إلهية لإحاطتها بكلماته التامات.
فالعقل الأول والنفس الكلية اللتان هما صورتا أم الكتاب وهي الحضرة العلمية كتابان إلهيان.
وقد يقال للعقل الأول أم الكتاب لإحاطته بالأشياء اجمالا.
وللنفس الكلية الكتاب المبين لظهورها فيها تفصيلا.
وكتاب المحو والاثبات هو الحضرة النفس المنطبعة في الجسم الكلي من حيث تعلقها بالحوادث. 
وهذا المحو والإثبات إنما يقع للصور الشخصية التي فيها باعتبار أحوالها اللازمة لأعيانها بحسب استعداداتها الأصلية المشروط ظهورها بالأوضاع الفلكية المعدة لتلك الذوات أن تتلبس بتلك الصور مع أحوالها الفايضة عليها من الحق سبحانه .
وبالاسم المدبر والماحي والمثبت والفعال لما يشاء و أمثال ذلك.
والإنسان الكامل كتاب جامع لهذه الكتب المذكورة لأنه نسخة العالم الكبير.
قال العارف الرباني على بن أبى طالب، كرم الله وجهه:
دوائك فيك وما تشعر  ... وداؤك منك وما تبصر
وتزعم أنك جرم صغير  ... وفيك انطوى العالم الأكبر
فأنت الكتاب المبين الذي  ... بأحرفه يظهر المضمر
وقال الشيخ رضي الله عنه:
أنا القرآن والسبع المثاني  ... وروح الروح لاروح الأواني
فؤادي عند مشهودي مقيم  ... يشاهده وعندكم لساني
فمن حيث روحه وعقله كتاب عقلي مسمى بأم الكتاب.
ومن حيث قلبه كتاب اللوح المحفوظ.
ومن حيث نفسه كتاب المحو والاثبات.
فهي الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة التي لا يمسها ولا يدرك أسرارها ومعانيها الا المطهرون من الحجب الظلمانية.
وما ذكر من الكتب إنما هي أصول الكتب الإلهية واما فروعها، فكل ما في الوجود من العقل والنفس والقوى الروحانية والجسمانية وغيرها لأنها مما ينتقش فيها أحكام الموجودات.
اما كلها أو بعضها، سواء كان مجملا أو مفصلا، وأقل ذلك انتقاش احكام عينها فقط، والله اعلم..


تنبيه آخر
لا بد ان يعرف ان نسبة العقل الأول إلى العالم الكبير وحقايقه بعينها
نسبة الروح الإنساني إلى البدن وقواه ، وان النفس الكلية قلب العالم الكبير كما أن الناطقة قلب الانسان. لذلك يسمى العالم بالإنسان الكبير.
ولا يتوهم ان الصور التي يشتمل العقل الأول اجمالا أو النفس الكلية تفصيلا عليها غير حقايقها بان يفيض من الحق سبحانه عليهما صورا منفكة عن حقايقها بل إفاضة تلك الصور عليهما عبارة عن إيجاد تلك الحقايق فيهما.
وكل ما في الخارج من الحقايق كالظلال لتلك الصور إذ هي التي تظهر في الخارج بواسطة ظهورها فيهما أولا ويحصل لهما العلم بها بعين تلك الصور الفايضة عليهما لا بالصور المنتزعة من الخارج.
وتلك الحقايق عين حقيقة العقل الأول بل عين كلعالم بها بحسب الوجود المحض .
وان كانت من حيث تعيناتها ومعلوميتها غيرها، لأنا بينا أن الحقايق كلها راجعة إلى الوجود المطلق بحسب الحقيقة.
فكل منها عين الآخر باعتبار الوجود وإن كانت متغايرة باعتبار التعيينات. وأيضا، هو أو لصورة ظهرت في الخارج للحضرة الإلهية.
وقد بينا أن الحقايق الأسمائية في هذه المرتبة من وجه عينها ومن وجه غيرها فمظهرها أيضا كذلك.
فاتحاد الحقايق فيه كاتحاد بنى آدم كلهم في آدم قبل ظهورها بتعيناتها وإن كانت بحسب هوياتهم مختلفة عند الظهور بل هو آدم الحقيقي.
ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم عليه السلام: "أول ما خلق الله نوري" .
والاختلاف بالماهيات كالاختلاف بالهويات، فان كلا منهما عبارة عما به الشيء هو هو، والفرق بينهما أن الماهية مستعملة في الكليات والهوية في الجزئيات.
فلا يقال، بنى آدم متحدة بالنوع والماهيات مختلفة بذواتها فلا يمكن اتحادها.
لأنا بينا ان الماهيات وجودات خاصة علمية متعينة بتعيينات كلية وكلها متحدة في الوجود من حيث هو هو.
والتميز العقلي بين العالم والمعلوم لا ينافي الوحدة في الوجود.
فان الأشعة الحاصلة في النهار أو في الليلة القمراء واحدة في الوجود مع ان العقل يحكم بان نور الشمس أو القمر غير نور الكوكب.
واصل اتحاد المعلومات بالعلم والعالم إنما هو اتحاد الصفات والأسماء والأعيان بالحق لا غير. هكذا حال الصور الحاصلة في كل عالم سواء كانت منتزعة أو غير منتزعة.
فإنها ليست منفكة عن حقايقها لأنها كما هي موجودة في الخارج كذلك موجودة في العالم العقلي والمثالي والذهني.
وحصول صورة الشيء منفكة عن حقيقتها لا يكون علما بها ضرورة، إذ الصورة غيرها عندهم. 
والإنسان لكونه نسخة العالم الكبير مشتمل على ما فيه من الحقايق كلها بل هي عينه من وجه بعين ما مر، وما حجبه عنها إلا النشأة العنصرية فبقدر زوال الاحتجاب يظهر الحقايق فيه.

فحاله مع معلوماته كحال العقل الأول.
بل في التحقيق علمه أيضا فعلى من وجه وهو من حيث مرتبته  وان كان انفعاليا من وجه آخر بل هو أشد اتصافا بالعلم الفعلي من العقل الأول لأنه الخليفة والمتصرف في كل العوالم.
وحقيقة هذا الكلام وما ذكر من قبل انما ينجلي لمن يظهر له حقيقة الفعالية ويظهر له وحدة الوجود في مراتب الشهود وإن علمه تعالى عين ذاته ومعلوماته أيضا كذلك والامتياز بتجلياته المعينة فقط.
والله أعلم.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: الفصل السادس فيما يتعلق بالعالم المثالي من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 8:23 pm

الفصل السادس فيما يتعلق بالعالم المثالي من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصل السادس من المقدمة على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم 
الفصل السادس فيما يتعلق بالعالم المثالي
اعلم، أن العالم المثالي هو عالم روحاني من جوهر نوراني شبيه بالجوهر الجسماني في كونه محسوسا مقداريا، وبالجوهر المجرد العقلي في كونه نورانيا. 
وليس بجسم مركب مادي ولا جوهر مجرد عقلي لأنه برزخ وحد فاصل بينهما. 
وكلما هو برزخ بين الشيئين لا بد وأن يكون غيرهما، بل له جهتان يشبه بكل منهما ما يناسب عالمه.
اللهم إلا أن يقال إنه جسم نوري في غاية ما يمكن من اللطافة فيكون حدا فاصلا بين الجواهر الموجودة اللطيفة وبين الجواهر الجسمانية المادية الكثيفة وانكان بعض هذه الأجسام أيضا الطف من البعض كالسماوات بالنسبة إلى غيرها.
فليس بعالم عرضي كما زعم بعضهم لزعمه ان الصور المثالية منفكة عن حقايقها، كما زعم في الصور العقلية. 
والحق أن الحقايق الجوهرية موجودة في كل من العوالم الروحانية والعقلية والخيالية ولها صور بحسب عوالمها، فإذا حققت وجدت القوة الخيالية التي للنفس الكلية المحيطة بجميع ما أحاط به غيرها من
القوى الخياليات مجلي ذلك العالم ومظهره. 
وإنما يسمى بالعالم المثالي لكونه مشتملا على صور ما في العالم الجسماني ، ولكونه أول مثال صوري لما في الحضرة العلمية الإلهية من صور الأعيان والحقايق، ويسمى أيضا بالخيال المنفصل لكونه غير مادي تشبيها بالخيال المتصل. 
فليس معنى من المعاني ولا روح من الأرواح الا وله صورة مثالية مطابقة بكمالاته، إذ لكل منها نصيب من الاسم الظاهر.
لذلك ورد في الخبر الصحيح أن النبي، صلى الله عليه وسلم (رأى جبريل، عليه السلام، في السدرة وله ستمائة جناح). 
وفيه أيضا: (أنه يدخل كل صباح ومساء في نهر الحياة ثم يخرج فينفض أجنحته فيخلق سبحانه من قطراته ملائكة لا عدد لها.)
وهذا العالم المثالي يشتمل على العرش والكرسي والسماوات السبع والأرضين وما في جميعها من الأملاك وغيرها. 
ومن هذا المقام ينتبه الطالب على كيفية المعراج النبوي وشهوده، صلى الله عليه وآله، آدم في السماء الأولى ويحيى وعيسى في الثانية ويوسف في الثالثة وإدريس في الرابعة وهارون في الخامسة وموسى في السادسة وإبراهيم في السابعة، صلوات الله عليهم أجمعين، وعلى الفرق بينما شاهده في النوم والقوة الخيالية من العروج إلى السماء، كما يحصل للمتوسطين في السلوك، وبين ما يشاهد في هذا العالم الروحاني.
وهذه الصور المحسوسة ظلال تلك الصور المثالية لذلك يعرف العارف بالفراسة الكشفية من صورة العبد أحواله.


قال عليه السلام: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله). 
وقال عليه السلام في الدجال: (مكتوب على ناصيته ك، ف، ر ولا يقرؤه إلا مؤمن. )
وقال تعالى: (سيماهم في وجوههم من اثر السجود) في حق أهل الجنة.
وفي حق أهل النار: (يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام.)
والمثالات المقيدة التي هي الخيالات أيضا ليست الا أنموذجا منه وظلا من ظلاله، خلقها الله تعالى دليلا على وجود العالم الروحاني.
ولهذا جعلها أرباب الكشف متصلة بهذا العالم ومستنيرة منه كالجداول والأنهار المتصلة بالبحر والكوى والشبابيك التي يدخل منها الضوء في البيت. 
ولكل من الموجودات التي فيعالم الملك مثال مقيد كالخيال في العالم الانساني، سواء كان فلكا أو كوكبا أو عنصرا أو معدنا أو نباتا أو حيوانا. 
فان لكل منها روحا وقوى روحانية وله نصيب من عالمه والا لم تكن العوالم متطابقة، غاية ما في الباب انه في الجمادات غير ظاهر لظهوره في الحيوان.


قال الله تعالى: و (وان من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم). 
وقد جاء في الخبر الصحيح ما يؤيد ذلك من مشاهدة الحيوانات أمورا لا يشاهدها من بنى آدم الا أرباب الكشف أكثر من ان تحصى. 
وذلك الشهود يمكن ان يكون في عالم المثال المطلق ويمكن أن يكون في المثال المقيد، والله اعلم بذلك. 
ولعدم شهود المحجوبين من الإنسان جعلهم الله أسفل سافلين. 
والسالك إذا اتصل في سيره إلى المثال المطلق بعبوره عن خياله المقيد يصيب في جميع ما يشاهده ويجد الأمر على ما هو عليه لتطابقها بالصور العقلية التي في اللوح المحفوظ وهو مظهر العالم الإلهي، ومن هنا يحصل الاطلاع للإنسان على عينه الثابتة وأحوالها بالمشاهدة لأنه ينتقل من الظلال إلى الأنوار الحقيقية كما يطلع عليها بالانتقال المعنوي.
و سنبين ذلك، انشاء الله تعالى، في الفصل التالي.
وإذا شاهد أمرا ما في خياله المقيد يصيب تارة ويخطئ أخرى، وذلك لان المشاهد اما ان يكون أمرا حقيقيا أولا.
فان كان، فهو الذي يصيب المشاهد فيه وإلا فهو الاختلاق الصادر من التخيلات الفاسدة كما يختلق العقل المشوب بالوهم للوجود وجودا ولذلك الوجود وجودا آخر وللباري تعالى شريكا، وغيرها من الاعتبارات التي لا حقيقة لها في نفس الأمر. 


قال تعالى: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان). 
وللإصابة أسباب بعضها راجع إلى النفس وبعضها إلى البدن وبعضها إليهما جميعا. 
أما الأسباب الراجعة إلى النفس كالتوجه التام إلى الحق والاعتياد بالصدق وميل النفس إلى العالم الروحاني العقلي وطهارتها عن النقايص وإعراضها عن الشواغل البدنية و اتصافها بالمجاهدة الخلقية، لان هذه المعاني توجب تنورها وتقويها وبقدر ما قويت النفس وتنورت يقدر على خرق العالم الحسي ورفع الظلمة الموجبة لعدم الشهود.
وأيضا يقوى بالمناسبة بينها وبين الأرواح المجردة لاتصافها بصفاتها  فيفيض عليها المعاني الموجبة للانجذاب إليها من تلك الأرواح فيحصل الشهود التام.
ثم إذا انقطع حكم ذلك الفيض ترجع النفس إلى الشهادة متصفة بالعلم منتقشة بتلك الصور بسبب انطباعها في الخيال. 
وأما الأسباب الراجعة إلى البدن صحته واعتدال مزاجه الشخصي ومزاجه الدماغي. 
والأسباب الراجعة إليهما الاتي ان بالطاعات والعبادات البدنية والخيرات واستعمال القوى وآلاتها بموجب
الأوامر الإلهية وحفظ الاعتدال بين طرفي الافراط والتفريط فيها ودوام الوضوء وترك الاشتغال بغير الحق دائما بالاشتغال بالذكر وغيره خصوصا من أول الليل إلى وقت النوم. 
وأسباب الخطاء ما يخالف ذلك من سوء مزاج الدماغ واشتغال النفس باللذات الدنيوية واستعمال القوة المتخيلة في التخيلات الفاسدة والانهماك في الشهوات والحرص على المخالفات، فإن كل ذلك مما يوجب الظلمة وازدياد الحجب. 
فإذا أعرضت النفس من الظاهر إلى الباطن بالنوم تتجسد لها هذه المعاني فتشغلها عن عالمها الحقيقي فتقع مناماته أضغاث أحلام لا يعبأ بها أو ترى ما تخيله المتخيلة بعينه.
وما يرى بسبب انحراف المزاج كثيرا ما يكون أمورا مزعجة لها بحسب تغير مزاج بدنها أكثر مما كان. 
فهذه الأمور المشاهدة كلها نتائج أحواله الظاهرة (إن خيرا فخير وإن شرا فشر). 
ومشاهدة الصور تارة يكون في اليقظة وتارة في النوم، وكما ان النوم ينقسم بأضغاث أحلام وغيرها،كذلك ما يرى في اليقظة ينقسم إلى أمور حقيقية محضة واقعة في نفس الامر وإلى أمور خيالية صرفة لا حقيقة لها شيطانية وقد يخالطها الشيطان بيسير من الأمور الحقيقية ليضل الرأي. 
لذلك يحتاج السالك إلى مرشد يرشده وينجيه من المهالك. 
والأول اما ان يتعلق بالحوادث أولا. 
فان كان متعلقا بها فعند وقوعها كما شاهدها، أو على سبيل التعبير وعدم وقوعها يحصل التميز بينها وبين الخيالية الصرفة وعبور الحقيقة عن صورتها الأصلية انما هو للمناسبات التي بين الصور الظاهرة هي فيها وبين الحقيقة و لظهورها فيها، أسباب كلها راجعة إلى أحوال الرائي، وتفصيله يؤدى إلى التطويل. 
وأما إذا لم يكن كذلك فلا فرق بينها وبين الخيالية الصرفة موازين يعرفها أرباب الذوق والشهود بحسب مكاشفاتهم كما ان للحكماء ميزانا يفرق بين الصواب والخطاء وهو المنطق.
منها ما هو ميزان عام وهو القرآن والحديث المنبئ كل منهما عن الكشف التام المحمدي، صلى الله عليه وآله، ومنها ما هو خاص وهو ما يتعلق بحال كل منهم الفايض عليه من الاسم الحاكم والصفة الغالبة عليه، وسنؤمي في الفصل التالي بعضما يعرف به اجمالا، انشاء الله تعالى.


تنبيه
لا بد ان يعلم ان كل ماله وجود في العالم الحسى هو موجود في العالم المثالي دون العكس.
لذلك قال أرباب الشهود: ان العالم الحسي بالنسبة إلى عالم المثالي كحلقة ملقاة في بيداء لا نهاية لها. 
أما إذا أراد الحق تعالى ظهور ما لا صورة لنوعه في هذا العالم في الصور الحسية، كالعقول المجردة وغيرها، يتشكل بأشكال المحسوسات بالمناسبات التي بينها وبينهم وعلى قدر استعداد ماله التشكل كظهور جبرئيل، عليه السلام، بصورة (دحية الكلبي) وبصورة أخرى.
كما نقل عمر من حديث السؤال عن الايمان والاسلام والاحسان. 
وكذلك باقي الملائكة السماوية والعنصرية، والجن أيضا وان كان لها أجسام نارية كما قال الله تعالى، فيهم: (وخلق الجان من مارج من نار). 
والنفوس الانسانية الكاملة أيضا يتشكلون بأشكال غير أشكالهم المحسوسة وهم في دار الدنيا لقوة انسلاخهم من أبدانهم، وبعد انتقالهم أيضا إلى الآخرة .
لازدياد تلك القوة بارتفاع المانع البدني، ولهم الدخول في العوالم الملكوتية كلها كدخول الملائكة في هذا العالم وتشكلهم بأشكال أهله ولهم ان يظهروا في خيالات المكاشفين كما تظهر الملائكة والجن. وهؤلاء هم المسمون بالبدلاء. 
وقد يفرق بينهم وبين الملائكة أصحاب الأذواق بموازينهم الخاصة بهم، وقد يلهمهم الحق سبحانه ما يحصل به العلم بهم وقد يحصل باخبارهم عن أنفسهم .
وإذا ظهروا عند غير المكاشفي من الصالحين والعابدين لا يمكن له أن يفرق بينهم الا بقرائن يحصل منها الظن فقط مثل الإخبار عن المغيبات والاطلاع بالضمائر والإنباء عن الخواطر قبل وقوعها في القلب، والله أعلم.


تنبيه آخر
عليك ان تعلم ان البرزخ الذي يكون الأرواح فيه بعد المفارقة من النشأة الدنياوية هو غير البرزخ الذي بين الأرواح المجردة وبين الأجسام.
لأن مراتب تنزلات الوجود ومعارجه دورية: والمرتبة التي قبل النشأة الدنياوية هي من مراتب التنزلات ولها الأولية، والتي بعدها من مراتب المعارج ولها الآخرية. 
وأيضا، الصور التي يلحق الأرواح في البرزخ الأخير إنما هي صور الأعمال ونتيجة الأفعال السابقة في النشأة الدنياوية، بخلاف صور البرزخ الأول،
فلا يكون كل منهما عين الآخر لكنهما يشتركان في كونهما عالما روحانيا وجوهرانورانيا غير مادي مشتملا لمثال صور العالم. 
وقد صرح الشيخ رضى الله عنه، في الفتوحات في الباب الحادي والعشرون وثلاثمائة بـ :
(هذا لبرزخ غير الأول و يسمى الأول بالغيب الامكاني والثاني بالغيب المحالي لامكان ظهور ما في الأول في الشهادة وامتناع رجوع ما في الثاني إليها إلا في الآخرة وقليل من يكاشفه به بخلاف الأول. 
لذلك يشاهد كثير منا ويكاشف البرزخ الأول. 
فيعلم ما يريد أن يقع في العالم الدنيوي من الحوادث ولا يقدر على مكاشفة أحوال الموتى. والله العليم الخبير.) .


.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: الفصل السابع في مراتب الكشف وأنواعها اجمالا من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 8:51 pm

 الفصل السابع في مراتب الكشف وأنواعها اجمالا من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصل السابع في المقدمة على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصل السابع في مراتب الكشف وأنواعها اجمالا
اعلم، أن الكشف لغة رفع الحجاب. يقال: كشفت المرأة وجهها. أي رفعت نقابها.
واصطلاحا هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا أو شهودا. وهو معنوي وصوري.
وأعني بالصوري ما يحصل في عالم المثال من طريق الحواس الخمس، وذلك إما أن يكون على طريق المشاهدة كرؤية المكاشف صور الأرواح المتجسدة والأنوار الروحانية، وإما أن يكون على طريق السماع كسماع النبي، صلى الله عليه وسلم، الوحي النازل عليه كلاما منظوما أو مثل صلصلة الجرس ودوى النحل كما جاء في الحديث الصحيح فإنه، عليه السلام، كان يسمع ذلك ويفهم المراد منه.
أو على سبيل الاستنشاق وهو التنسم بالنفحات الإلهية والتنسيق لفوحات الربوبية.
قال عليه السلام: "إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها".
وقال: "إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن"، أو على سبيل الملامسة وهي بالاتصال بين النورين أو بين الجسدين المثاليين كما نقله عبد الرحمن بن عوف، رضى الله عنه عن عائشة: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:
"رأيت ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الاعلى يا محمد؟
قلت: أنت
أعلم أي ربى، مرتين،
قال فوضع الله كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات وما في الأرض  ثم تلا هذه الآية: "وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين".
أو على طريق الذوق كمن يشاهد أنواعا من الأطعمة فإذا ذاق منها واكل اطلع على معان غيبية. قال النبي،صلى الله عليه وسلم: "رأيت انى اشرب اللبن حتى خرج الري من أظافيري فأعطيت فضلي عمر فأولت ذلك بالعلم".
وهذه الأنواع قد يجتمع بعضها مع بعض وقد ينفرد.
وكلها تجليات أسمائية، وإذ الشهود من تجليات الاسم البصير والسماع من الاسم السميع وكذلك البواقي، إذ لكل منها اسم يربه وكلها من سوادن الاسم العليم وإن كان كل منها من أمهات الأسماء.
وأنواع الكشف الصوري إما ان يتعلق بالحوادث الدنيوية، أولا.
فإن كانت متعلقة بها كمجئ زيد من السفر وإعطائه لعمر وألفا من الدنانير فتسمى رهبانية لاطلاعهم على المغيبات الدنيوية بحسب رياضتهم ومجاهداتهم.
وأهل السلوك لعدم وقوف همهم العالية في الأمور الدنياوية لا يلتفتون إلى هذا القسم من الكشف
لصرفها في الأمور الأخروية وأحوالها ويعدونه من قبيل الاستدراج والمكر بالعبد بل كثير منهم لا يلتفتون إلى القسم الأخروي أيضا وهم الذين جعلوا غاية
مقاصدهم الفناء في الله والبقاء به.
والعارف المحقق لعلمه بالله ومراتبه وظهوره في مراتب الدنيا والآخرة واقف معه ابدا ولا يرى غيره ويرى جميع ذلك تجليات الهية فينزل كلا منها منزلته. فلا يكون ذلك النوع من الكشف استدراجا في حقه لأنه حال المبعدين الذين يقنعون من الحق بذلك ويجعلونه سبب حصول الجاه والمنصب في الدنيا وهو منزه من القرب والبعد المنبئين بالغيرية مطلقا.
وان لم يكن متعلقة بها بان كانت المكاشفات في الأمور الحقيقية الأخروية والحقايق الروحانية من أرواح العالية والملائكة السماوية والأرضية، فهي مطلوبة معتبرة.
وهذه المكاشفات قل ما تقع مجردة عن الاطلاع بالمعاني الغيبية بل أكثرها يتضمن المكاشفات المعنوية فيكون أعلى مرتبة وأكثر يقينا، لجمعها بين الصورة والمعنى، وله مراتب بارتفاع الحجب كلها أو بعضها دون البعض.
فإن المشاهد للأعيان الثابتة في الحضرة العلمية الإلهية أعلى مرتبة من الكل وبعده من يشاهدها في العقل الأول وغيره من العقول ثم يشاهدها في اللوح المحفوظ وباقي النفوس المجردة ثم في كتاب المحو والاثبات ثم في باقي الأرواح العالية والكتب الإلهية من العرش والكرسي والسماوات والعناصر والمركبات، لان كلا من هذه المراتب كتاب إلهي مشتمل على ما تحته من الأعيان والحقايق.
وأعلى المراتب في طريق السماع سماع كلام الله من غير واسطة :
كسماع نبينا، صلى الله عليه وسلم، في معراجه وفي الأوقات التي أشار إليها بقوله: "لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل".
كسماع موسى، عليه السلام كلامه تعالى.
ثم سماع كلامه بواسطة جبرئيل، عليه السلام، كسماع القرآن الكريم
ثم سماع كلام العقل الأول وغيره من العقول
ثم سماع كلام النفس الكلية و الملائكة السماوية والأرضية على الترتيب المذكور والباقي على هذا القياس.
ومنبع هذه الأنواع من المكاشفات هو قلب الإنسان بذاته وعقله المنور العملي المستعمل
لحواسه الروحانية.
فإن للقلب عينا وسمعا وغير ذلك من الحواس كما أشار إليه سبحانه بقوله:
"فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" و" ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة".
وفي الأحاديث المشهورة ما يؤيد ذلك كثير.
وتلك الحواس الروحانية أصل هذه الحواس الجسمانية فإذا ارتفع الحجاب بينها وبين الخارجية يتحد الأصل مع الفرع فيشاهد بهذه الحواس ما يشاهد بها.
والروح يشاهد جميع ذلك بذاته لأن هذه الحقايق متحد في مرتبته كما مر من ان الحقايق كلها في العقل الأول متحدة.
وهذه المكاشفات عند ابتداء السلوك أولا يقع في خياله المقيد ثم بالتدريج وحصول الملكة ينتقل إلى لعالم المثال المطلق فيطلع على ما يختص بالعناصر ثم السماوات، فيسري صاعدا إلى أن ينتهى إلى اللوح المحفوظ والعقل الأول صورتي أم الكتاب ثم ينتقل إلى حضرة العلم الإلهي فيطلع على الأعيان حيث ما يشاء الحق سبحانه.
كما قال: "ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء".
وهذا أعلى ما يمكن لعباد الله في مراتب الشهود ، لأن فوق هذه المرتبة شهود الذات المفنية للعباد عند التجلي إلا أن يتجلى من وراء الأستار الأسمائية وهي عين الأعيان.
وإليه أشار الشيخ، رضى الله عنه، في الفص الشيثي: "فلا تطمعوا لا تتعب نفسك فإنها الغاية التي ما فوقها غاية."
واما الكشف المعنوي المجرد من صور الحقايق الحاصل من تجليات الاسم العليم والحكيم هو ظهور المعاني الغيبية والحقايق العينية، فله أيضا مراتب:
أولها ظهور المعاني في القوة المفكرة من غير استعمال المقدمات وتركيب القياسات،بل بان ينتقل الذهن من المطالب إلى مباديها ويسمى بالحدس.
ثم في القوة العاقلة المستعملة للمفكرة وهي قوة روحانية غير حالة في الجسم ويسمى بالنور القدسي،والحدس من لوامع أنواره، وذلك لان القوة المفكرة جسمانية فيصير حجاباما للنور الكاشف عن المعاني الغيبية فهي أدنى مراتب الكشف.
ولذلك قيل،الفتح على قسمين: فتح في النفس وهو يعطى العلم التام نقلا وعقلا، وفتح في الروح وهو يعطى المعرفة وجودا لا عقلا ولا نقلا، ثم في مرتبة القلب.
و قد يسمى الالهام في هذا المقام ان كان الظاهر معنى من المعاني الغيبية لا حقيقة من الحقايق ، وروحا من الأرواح المجردة أو عينا من الأعيان الثابتة فيسمى مشاهدة قلبية.
ثم في مرتبة الروح في نعت بالشهود الروحي وهي بمثابة الشمس المنورة لسماوات مراتب الروح وأراضي مراتب الجسد.
فهو بذاته آخذ من الله العليم المعاني الغيبية من غير واسطة على قدر استعداده الأصلي، ويفيض على ما تحته من القلب وقواه الروحانية والجسمانية.
ان كان من الكمل والأقطاب، وإن لم يكن منهم فهو آخذ من الله بواسطة القطب على قدر استعداده وقربه منه أو بواسطة الأرواح التي هو تحت حكمها من الجبروت والملكوت، ثم في مرتبة السر، ثم في مرتبة الخفي بحسب مقاميهما.
ولا تمكن إليه الإشارة ولا يقدر على إعرابها العبارة وسنشير إلى تحقيق هذه المراتب، ان شاء الله تعالى.
وإذا صار هذا المعنى مقاما وملكة للسالك اتصل علمه بعلم الحق اتصال الفرع بالأصل فحصل له أعلى المقامات من الكشف.
ولما كان كل من الكشف الصوري والمعنوي على حسب استعداد السالك ومناسبات روحه وتوجه سره إلى كل من أنواع الكشف وكانت الاستعدادات متفاوتة والمناسبات متكثرة صارت مقامات الكشف متفاوتة بحيث لا يكاد ينضبط.
وأصح المكاشفات و أتمها إنما يحصل لمن يكون مزاجه الروحاني أقرب إلى الاعتدال التام كأرواح الأنبياء والكمل من الأولياء، صلوات الله عليهم ثم لم يكون أقرب إليهم نسبة.
وكيفية الوصول إلى مقام من مقامات الكشف وبيان ما يلزم كل نوع منها يتعلق بعلم السلوك ولا يحتمل المقام أكثر مما ذكر.
وما يكون للمتصرفين في الوجود من أصحاب المقامات والأحوال كالاحياء والإماتة وقلب الحقايق كقلب الهواء ماء وبالعكس وطي الزمان والمكان وغير ذلك إنما يكون للمتصفين بصفة القدرة.
والأسماء المقتضية لذلك عند تحققهم بالوجود الحقاني اما بواسطة روح من الأرواح الملكوتية وإما بغير واسطة بل بخاصية الاسم الحاكم عليهم. فافهم.
تنبيه في الفرق بين الإلهام والوحي
أن الإلهام قد يحصل من الحق تعالى بغير واسطة الملك بالوجه الخاص الذيله مع كل موجود، والوحي يحصل بواسطته.
لذلك لا يسمى الأحاديث القدسية بالوحي والقرآن وإن كانت كلام الله تعالى.
وأيضا، قد مر أن الوحي قد يحصل بشهود الملك وسماع كلامه فهو من الكشف الشهودي المتضمن للكشف المعنوي، والإلهام من المعنوي فقط.
وأيضا، الوحي من خواص النبوة لتعلقه بالظاهر والإلهام من خواص الولاية.
وأيضا هو مشروط بالتبليغ دون الإلهام.
والفرق بين الواردات الرحمانية والملكية والجنية والشيطانية يتعلق بميزان السالك المكاشف، ومع ذلك نؤمي بشئ يسير منها.
وهو أن كل ما يكون سببا للخير بحيث يكون مأمون الغايلة في العاقبة ولا يكون سريع الانتقال إلى غيره ويحصل بعده توجه تام إلى الحق ولذة عظيمة مرغبة في العبادة فهو ملكي أو رحماني، وبالعكس شيطاني.
وما يقال، ان ما يظهر من اليمين أو القدام أكثره ملكي ومن اليسار والخلف أكثره شيطاني ليس من الضوابط.
إذ الشيطان يأتي من الجهات كلها كما ينطقبه القرآن الكريم: "ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن ايمانهم وعنشمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين".
والأول اما ان يتعلق بالأمور الدنيوية، مثلا حضار الشئ الخارجي الغايب عن المكاشف في الحال كاحضار الفواكه الصيفية في الشتاء، مثلا، والاخبار عن قدوم زيد غدا.
وأمثال ذلك مما هو غير معتبرعند أهل الله فهي جنى، وطي المكان والزمان والنفوذ في الجدران من غير الانثلام والانشقاق أيضا من خواصهم وخواص الملائكة التي هي أعلى مرتبة منهم فان كان للكمل منها شئ فمعاونة منهم ومن مقامهم.
وان لم يتعلق بها أو يتعلق بالآخرة أو كان من قبيل الاطلاع بالضماير والخواطر فهو ملكي لان الجن لا يقدرعلى ذلك.
وان كان بحيث يعطى المكاشف قوة التصرف في الملك والملكوت كالاحياء والإماتة والاخراج لمن هو في البرازخ محبوس وادخال من يريد في العوالم الملكوتية من المريدين الطالبين فهو رحماني .
لان أمثال هذه التصرفات من خواص المرتبة الإلهية القائم فيها وبها الكمل والأقطاب.
وقد يقال لغير الشيطاني كلها رحماني.
فإذا عرفت ما بينا لك واعتبرت حالك ومقامك علمت كمال استعدادك ومرتبة كشفك ونقصانهما، والله الحكيم العليم.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الثامن في أن العالم هو صورة الحقيقة الإنسانية من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 9:04 pm

الفصل الثامن في أن العالم هو صورة الحقيقة الإنسانية من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصل الثامن في المقدمة على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصل الثامن في أن العالم هو صورة الحقيقة الإنسانية
قد مر أن الاسم الله مشتمل على جميع الأسماء، وهو متجلي فيها بحسب المراتب الإلهية ومظاهرها، وهو مقدم بالذات والمرتبة على باقي الأسماء، فمظهره أيضا مقدم على المظاهر كلها ومتجلي فيها بحسب مراتبه.
فلهذا الاسم الإلهي بالنسبة إلى غيره من الأسماء اعتباران: اعتبار ظهور ذاته في كل واحد من الأسماء، واعتبار اشتماله عليها كلها من حيث المرتبة الإلهية.
فبالأول، يكون مظاهرها كلها مظهر هذا الاسم الأعظم لأن الظاهر والمظهر في الوجود شئ
واحد لا كثرة فيه ولا تعدد وفي العقل يمتاز كل منهما عن الآخر كما يقول أهل النظر بان الوجود عين الماهية في الخارج وغيره في العقل فيكون اشتماله عليها اشتمالا لحقيقة الواحدة على أفرادها المتنوعة.
وبالثاني يكون مشتملا عليها من حيث المرتبة الإلهية اشتمال الكل المجموعي على الأجزاء التي هي عينه بالاعتبار الأول.
وإذا علمت هذا علمت أن حقايق العالم في العلم والعين كلها مظاهر للحقيقة الإنسانية التي هي مظهر للاسم الله، فأرواحها أيضا كلها جزئيات
الممكن لا اله له، لأنا فرضناه إلها، والممكن إذا لم يكن له اله يكون فاسدا باطلا معدوما لارتفاع المعلول بارتفاع العلة، وإذا كان كذلك فسدت الالهة فلو كانت آلهة للسماوات والأرض لفسدت السماوات والأرض لفسادها ضرورة بطلان المعلول عند بطلان العلة.
وفي قوله تعالى: "وما كان معه من اله اذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون".
أي، لو كان معه إله آخر وكانت الآلهة متعددة لفسد كل اله مع خلقه، والبيان ما عرفته في الآية الأولى.
وقوله تعالى : "ولعلا بعضهم على بعض" حجة أخرى لنفى التعدد.
تقريره : انه لو كان معه تعالى إله آخر، لعلا بعضهم على بعض، وليس الكفاءة بين كل منهما وبين الآخر لأن التام لا يتعدد ولا يتكثر فبعضهم، أي واحدهم، تام وغيره ناقص فالتي
فرضناها آلهة ليست بآلهة.
فالذات الواحدة لها تجلي واحد هو تعينه بأحدية الجمع ولها باعتبار ذلك التجلي اسم واحد هو اسم الله، ولها باعتبار هذا الاسم مظهر واحد هو العين الثابتة الانسانية المعبرة في ألسنتهم بالحقيقة الإنسانية.
وهو القطب الأزلي الأبدي والنشء الدائم السرمدي، وليس ذلك إلا الضياء الأحدي والنور المحمدي، صلى الله عليه وآله،لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين والخاتمة هي الفاتحة.
كما قال الله عز وجل: "لولاك لما خلقت الأفلاك".
ولقوله، صلى الله عليه وآله: "أوتيت جوامع الكلم".
وقوله: "انا سيد ولد آدم".
ولقوله: "وما أرسلناك الا رحمة للعالمين".
فهو الرحمة الواسعة الحقيقية التي وسعت كل شئ بافاضة أعيانهم الثابتة في العلم ووجوداتهم الفائضة في العين وكمالاتهم اللائقة لهم في النشآت كلها فهو الواسطة في الإيجاد والوجود ومجرى إفاضة الخير والجود ومن أسمائه المفيض.
تعليق قوله: "قد مر أن الاسم الله..." أراد أن يبين أن العالم صورة الاسم الله ليثبت
به مرامه، وهو ان العالم صورة حقيقة الانسانية.
وصورة القياس هكذا: العالم صورة الاسم الله، وما هو صورة الاسم الله صورة الحقيقة الانسانية، فالعالم صورة الحقيقة الإنسانية.
اما الصغرى: فإنك قد عرفت فيما سبق ان الذات الإلهية في مرتبة الأحدية الذاتية لا اسم لها ولا رسم وما يعبر به عنها يعبر عنها للأفهام.
و في مرتبة الأحدية الجمع لها اسم جامع لجميع الأسماء وتلك الجامعية تعتبر على وجهين:
أحدهما، جامعية مبدأ الأشياء للأشياء والأصل للفروع كالبذر للإثمار والنواة للأشجار بأوراقها وأغصانها، وبهذا الاعتبار يكون الاسم اسم الذات.
وثانيهما، جامعية الجملة لأجزائه والكل لآحاده كالعسكر للأفواج والحدود للأجناس والفصول، وبهذا الاعتبار يكون اسم الصفة .
وذلك الاسم الجامع المأخوذ بالاعتبارين هو الله:
فباعتبار الأول يكون جميع الأسماء فيه مندمجة كما أن جميع الصفات يكون في مسماه وهو الذات مندمجة، فمنه ينشأ جميع الأسماء كما أن من مسماه وهو الوجود البحت الواجبي ينشأ جميع الوجودات الإلهية والامكانية فهو مقدم على جميع الأسماء ومقوم لكل واحد منها وإذا تقدم عليها فتقدم على جميع مظاهرها العلمية والعينية وإذا تقوم كل واحد منها به فكان مظهر كل واحد منها مظهره فكان مظهر كلها مظهره أيضا.
فإذا كان العالم مظهر جميع الأسماء الإلهية فكان مظهر الاسم الله وصورته فان المراد بالمظهر والصورة واحد.
قال الفيلسوف الإلهي والعارف الرباني مولانا وقائدنا صدر الدين الشيرازي، نور الله برهانه، في الشواهد الربوبية بهذه العبارة: "فالعالم صورة الحق واسمه، والغيب معنى الاسم الباطن والشهادة معنى الاسم الظاهر، وهذا أيضا من الحكمة التي لا يمسها الا المطهرون".
أقول، الاسم عين المسمى فالعالم صورة الاسم الله، وهو المطلوب.


اما الكبرى : فنقول في بيانه المظهر قد يعنى به محل ظهور الشئ من باب اسم المكان كالمرأة التي يظهر فيها صورة الأشياء، وهو غير الظاهر وغير الصورة الظاهرة فيه.
وقد يعنى به ما به يظهر الشئ من باب المصدر الميمي كالصور التي في المرآة فإن بها يظهر ذوات الصور.
ثم انه قد يكون تاما بان يكون لا حيث ولا جهة في الأمر الظاهر فيه الا وهو يظهر في ذلك
المظهر ولا ستر ولا حجاب في المظهر عما في الأمر الظاهر فيه أصلا، وحينئذ يكون الظاهر والمظهروالظهور كلها عينا واحدة لا مغايرة لها أصلا لا في الذات ولا في الاعتبار كما يقال في الفلسفة: العقل والعاقل والمعقول كلها امر واحد بلا تغاير في الذات والاعتبار.
وذلك إذا كان الشئ متجليا لذاته بذاته في ذاته.


فيكون التجلي عين المتجلي كالهوية المتعينة بالتعين الأول في الأحدية الذاتية فإنها تظهر في تلك المرتبة لذاتها بذاتها.
ولعل ذلك الظهور لا يمكن ولا يكون إلا للواجب الوجود بالذات لأن ما سواه يحجب بنفسه عنه تعالى.
بل عن نفس ذاته أيضا بوجه، فان حقيقة ذاته مستور عنه .
كما أشير إليه في قوله تعالى: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم".
وان كان غير محتجب عن نفسه بوجه، لأنه لا يغيب عن نفسه وإنيته.
وقد لا يكون تاما بان يكون بحيث ظهر فيه من المتجلي شئ وتجلى فيه منه شئ لقصورها عن ظهور المتجلي بتمامه فيه.
وذلك عند كون التجلي غير المتجلي.
فحينئذ يكون التجلي مظهرا بوجه وحجابا بوجه.
كيف لا، والتجلي ينحط عن المتجلي ورتبته دون رتبة المتجلي فهو حجاب ذاته وستر كماله.
وذلك كأسمائه تعالى، فإنها، وإن كانت مظاهره، لكنها نقاب وجهه و الروح الأعظم الانساني، سواء كان روحا فلكيا أو عنصريا أو حيوانيا، و صورها صور تلك الحقيقة ولوازمها.
لذلك يسمى عالم المفصل بالإنسان الكبير عند أهل الله لظهور الحقيقة الانسانية ولوازمها فيه، ولهذا الاشتمال وظهورالاسرار الإلهية كلها فيها دون غيرها استحقت الخلافة من بين الحقايق كلها.


ولله در القائل: شعر
سبحان من أظهر ناسوته   .... سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا في صورة الآكل والشارب فأول ظهورها في صورة العقل الأول الذي هو صورة إجمالية للمرتبة العمائية .
المشار إليها في الحديث الصحيح عند سؤال الأعرابي: "أين كان ربنا قبل ان يخلق الخلق؟
قال عليه السلام "صلى الله عليه وسلم ": كان في عماء ما فوقه هواء ولا تحته هواء".
لذلك قال عليه السلام "صلى الله عليه وسلم " : "أول ما خلق الله نوري" .
وأراد العقل كما أيده بقوله: "أول ما خلق الله العقل".
ثم في صورة باقي العقول والنفوس الناطقة الفلكية وغيرها وفي صورة الطبيعة والهيولي الكلية والصورة الجسمية البسيطة والمركبة بأجمعها.
ويؤيد ما ذكرنا قول أمير المؤمنين ولى الله في الأرضين قطب الموحدين على بن أبى طالب، كرم الله وجهه، في خطبة كان يخطبها للناس: "انا نقطة باء بسم الله أنا جنب الله الذي فرطتم فيه  وانا القلم وانا اللوح المحفوظ وأنا العرش وأنا الكرسي وانا السماوات السبع والأرضون".
إلى ان صحا في أثناء الخطبة وارتفع عنه حكم تجلى الوحدة ورجع إلى عالم البشرية وتجلى له الحق بحكم الكثرة،فشرع معتذرا فأقر بعبوديته وضعفه وانقهاره تحت أحكام الأسماء الإلهية.
 ولذلك قيل، الإنسان الكامل لا بد ان يسري في جميع الموجودات كسريان الحق فيها .
وذلك في السفر الثالث الذي من الحق إلى الخلق بالحق، وعند هذا السفر يتم كماله وبه يحصل له حق اليقين.
ومن ها هنا يتبين أن الآخرية هي عين الأولية ويظهر سر "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم".
قال الشيخ رضى الله عنه في فتوحاته في بيان المقام القطبي: (ان الكامل الذي أراد الله ان يكون قطب العالم وخليفة الله فيه إذا وصل إلى العناصر، مثلا متنزلا في السفر الثالث، ينبغي ان يشاهد جميع ما يريد ان يدخل في الوجود من الأفراد الانسانية إلى يوم القيامة وبذلك الشهود أيضا لا يستحق المقام حتى يعلم مراتبهم أيضا فسبحان من دبر كل شئ بحكمته وأتقن كل ما صنع برحمته.)


تنبيه
لما علمت ان للحقيقة الانسانية ظهورات في العالم تفصيلا، فاعلم ان لها أيضا ظهورات في العالم الإنساني اجمالا:
وأول مظاهرها فيه الصورة الروحية المجردة المطابقة بالصورة العقلية.
ثم الصورة القلبية المطابقة بالصورة التي للنفس الكلية.
ثم بالصورة التي للنفس الحيوانية المطابقة بالطبيعة الكلية وبالنفس المنطبعة الفلكية وغيرها.
ثم الصورة الدخانية اللطيفة المسماة بالروح الحيوانية عند الأطباء المطابقة بالهيولى الكلية.
ثم الصورة الدموية المطابقة لصورة الجسم الكل.
ثم الصورة الأعضائية المطابقة لأجسام العالم الكبير.
وبهذه التنزلات في المظاهر الإنسانية حصل التطابق بين النسختين.
وذكر الشيخ، رحمة الله، تفصيل هذا الكلام في كتابه المسمى بالتدبيرات الإلهية في المملكة الانسانية، فمن أراد تحقيق ذلك فليطلب هناك.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: الفصل التاسع في بيان خلافة الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وسلم وانها قطب الأقطاب من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 9:26 pm

الفصل التاسع في بيان خلافة الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وسلم وانها قطب الأقطاب من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني  فصوص الحكم الشيخ الأكبر

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصل التاسع في المقدمة على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصل التاسع في بيان خلافة الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وسلم وانها قطب الأقطاب
لما تقرر ان لكل من الأسماء الإلهية صورة في العلم مسماة بالماهية والعين الثابتة .
وان لكل واحد منها صورة خارجية مسماة بالمظاهر والموجودات العينية وان تلك الأسماء أرباب تلك المظاهر وهي مربوباتها.
وعلمت ان الحقيقة المحمدية صورة الاسم الجامع الإلهي وهو ربها ومنه الفيض والاستمداد على جميع الأسماء.
فاعلم، ان تلك الحقيقة هي التي ترب صور العالم كلها بالرب الظاهر فيها الذي هو رب الأرباب لأنها هي الظاهرة في تلك المظاهر، كما مر.
فبصورتها الخارجية المناسبة لصور العالم التي هي مظهر الاسم الظاهر ترب صور العالم وبباطنها ترب باطن العالم، لأنه صاحب الاسم الأعظم وله الربوبية المطلقة.
لذلك قال صلى الله عليه وآله: "خصصت بفاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة".
وهي تصديره بقوله تعالى: "الحمد لله رب العالمين ". فجميع عوالم الأجسام والأرواح كلها.
وهذه الربوبية إنما هي من جهة حقيقتها لا من جهة بشريتها، فإنها من تلك الجهة عبد مربوب محتاج إلى ربها.
كما نبه سبحانه بهذه الجهة بقوله: "قل انما انا بشر مثلكم يوحى إلى".
وبقوله: "وانه لما قام عبد الله يدعوه".  فسماه عبد الله تنبيها على انه مظهر لهذا الاسم دون اسم آخر.
ونبه بالجهة الاولى بقوله: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". فأسند رميه إلى الله.
ولا يتصور هذه الربوبية إلا باعطاء كل ذي حق حقه وإفاضة جميع ما يحتاج إليه العالم.
وهذا المعنى لا يمكن الا بالقدرة التامة والصفات الإلهية جميعها فله كل الأسماء يتصرف بها في هذا العالم حسب استعداداتهم.
ولما كانت هذه الحقيقة مشتملة على الجهتين:
الإلهية والعبودية لا يصح لها ذلك أصالة بل تبعية وهي الخلافة فلها الاحياء والإماتة واللطف والقهر والرضا والسخط وجميع الصفات ليتصرف في العالم وفي نفسها وبشريتها أيضا لأنها منه.
وبكاؤه، عليه السلام، وضجره وضيق صدره لا ينافي ماذكرنا فإنه بعض مقتضيات ذاته وصفاته.
"ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض" من حيث مرتبته .
وان كان يقول :" أنتم أعلم بأمور دنياكم" من حيث بشريته.
والحاصل، ان ربوبيته للعالم بالصفات الإلهية التي له من حيث مرتبته .
وعجزه ومسكنته وجميع ما يلزمه من النقايص الإمكانية من حيث بشريته الحاصلة من التقيد والتنزل إلى العالم السفلي .
ليحيط بظاهره خواص العالم الظاهر وبباطنه خواص العالم الباطن فيصير مجمع البحرين ومظهر العالمين.
فتنزله أيضا كماله كما ان عروجه إلى مقامه الأصلي كماله، فالنقايص أيضا كمالات باعتبار آخر يعرفها من تنور باطنه وقلبه بالنور الإلهي.
ولما كانت هذه الخلافة واجبة من الله تعالى في العالم بحكم "ما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا أو من وراء حجاب" .
وجب ظهور الخليفة في كل زمان من الأزمنة ليحصل لهم الاستيناس و يتصف بالكمال اللايق به كل من الناس .
كما قال سبحانه : "ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون". 
وظهور تلك الحقيقة بكمالاتها أولا لم يكن ممكنا فظهرت تلك الحقيقة بصور خاصة كل منها في مرتبة لائقة باهل ذلك الزمان والوقت حسب ما يقتضيه اسم الدهر في ذلك الحين من ظهور الكمال وهي صور الأنبياء، عليهم السلام.
فإن اعتبرت تعيناتهم وتشخصاتهم لغلبة أحكام الكثرة والخلقية عليك حكمت بالامتياز بينهم والغيرية وبكونهم غير تلك الحقيقة المحمدية الجامعة للأسماء لظهور كل منهم ببعض الأسماء والصفات.
وان اعتبرت حقيقتهم وكونهم راجعين إلى الحضرة الواحدية بغلبة احكام الوحدة عليك حكمت باتحادهم ووحدة ما جاؤوا به من الدين الإلهي.


كما قال تعالى: "لا نفرق بين أحد من رسله".
فالقطب الذي عليه مدار احكام العالم وهو مركز دائرة الوجود من الأزل إلى الأبد واحد باعتبار حكم الوحدة وهو الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله. وباعتبار حكما لكثرة متعدد.
وقبل انقطاع النبوة قد يكون القائم بالمرتبة القطبية نبيا ظاهرا كإبراهيم، صلوات الله عليه، وقد يكون وليا خفيا كالخضر في زمان موسى، عليهما السلام، قبل تحققه بالمقام القطبي.
وعند انقطاع النبوة أعني نبوة التشريع بإتمام دائرتها وظهور الولاية من الباطن انتقلت القطبية إلى الأولياء مطلقا فلا يزال في هذه المرتبة واحد منهم قائم في هذا المقام لينحفظ به هذا الترتيب والنظام.
قال سبحانه: "ولكل قوم هاد".  "وإن من أمة الا خلا فيها نذير".
إلى ان ينختم بظهور خاتم الأولياء وهو الخاتم للولاية المطلقة فإذا كملت هذه الدائرة أيضا وجب قيام الساعة.
باقتضاء الاسم الباطن والمتولد من الباطن والظاهر الذي هو الحد الفاصل بينهما ظهور كمالاته وأحكامه فيصير كل ما كان صورة معنى وكل ما كان معنى صورة.
أي يظهر ما هو مستور في الباطن من هيئات النفس على صورها الحقيقية ويستتر الصور التي احتجبت المعاني الحقيقية فيها فيحصل صورة الجنة والنار والحشر والنشر على ما أخبر عنه الأنبياء والأولياء، صلوات الله عليهم أجمعين.


تنبيه
لا بد ان يعلم ان للجنة والنار مظاهر في جميع العوالم، إذ لا شك ان لهما أعيانا في الحضرة العلمية .
وقد أخبر الله تعالى، عن إخراج آدم وحواء، عليهما السلام من الجنة فلها وجود في العالم الروحاني قبل وجودها في العالم الجسماني.
وكذلك للنار أيضا وجود فيه لأنه مثال لما في الحضرة العلمية.
وفي الأحاديث الصحيحة ما يدل على وجودهما فيه أكثر من ان يحصى، وأثبت رسول الله، صلى الله عليه و سلم وجودهما في دار الدنيا بقوله"الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".
كما أثبت في عالم البرزخ بقوله: "القبر روضة من رياض الجنة " للمؤمن "أو حفرة من حفر النيران" للكافر. وأمثال ذلك.
وفي العالم الانساني لهما أيضا وجود، إذ مقام الروح والقلب وكمالاتهما عين النعيم ومقام النفس والهوى ومقتضياتهما نفس الجحيم.
لذلك من دخل مقام القلب والروح واتصف بالأخلاق الحميدة والصفات المرضية يتنعم بأنواع النعم.
ومن وقف مع النفس ولذاتها والهوى وشهواتها يتعذب بأنواع البلايا والنقم.
وآخر مراتب مظاهرهما في الدار الآخرة.
ولكل من هذه المظاهر لوازم يليق بعالمه.
وكذلك للساعة أنواع خمسة بعدد الحضرات الخمسة.
منها ما هو في كل آن وساعة، إذ عند كل آن يظهر من الغيب إلى الشهادة ويدخل منها إلى الغيب من المعاني والتجليات والكائنات والفاسدات وغيرها ما لا يحيط به الا الله لذلك سميت باسمها.
قال تعالى: "بل هم في لبس من خلق جديد"، "كل يوم هو في شأن".
منها الموت الطبيعي كما قال،عليه السلام: "من مات فقد قامت قيامته".
وبإزائه الموت الإرادي الذي يحصل للسالكين المتوجهين إلى الحق قبل وقوع الموت الطبيعي. قال عليه السلام " صلى الله عليه وسلم " من أراد ان ينظر إلى ميت يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى أبى بكر".
وقال: "موتوا قبل ان تموتوا".
فجعل عليه السلام، الإعراض عن متاع الدنيا وطيباتها والامتناع عن مقتضيات النفس ولذاتها وعدم اتباع الهوى موتا.
لذلك ينكشف للسالك ما ينكشف للميت، ويسمى بالقيامة الصغرى.
وجعل بعضهم الموت الإرادي مسمى بالقيامة الوسطى لزعمه أنه يقع بين القيامة الصغرى التي هي الموت الطبيعي الحاصل له في النشأة السابقة.
والقيامة الكبرى التي هي الفناء في الذات فيه نظر لا يخفى على الفطن.
ومنها ما هو موعود منتظر للكل كقوله تعالى"إن الساعة آتية لا ريب فيها" – "ان الساعة  آتية أكاد أخفيها" . وغير ذلك من الآيات الدالة عليها.
وذلك بطلوع شمس الذات الأحدية من مغرب المظاهر الخلقية وانكشاف الحقيقة الكلية وظهور الوحدة التامة وانقهار الكثرة .
كقوله: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار" وأمثاله.
وبإزائه ما يحصل للعارفين الموحدين من الفناء في الله والبقاء به قبل وقوع حكم ذلك التجلي على جميع الخلايق ويسمى بالقيامة الكبرى.
ولكل من هذه الأنواع لوازم ونتايج يشتمل على بيان بعضها الكلام المجيد والأحاديث الصحيحة صريحا وإشارة ويحرم كشف بعضها.

والله أعلم بالحقائق.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: الفصل العاشر في بيان الروح الأعظم ومراتبه وأسمائه في العالم الإنساني من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 9:39 pm

الفصل العاشر في بيان الروح الأعظم ومراتبه وأسمائه في العالم الإنساني من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصل العاشر في المقدمة على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصل العاشر في بيان الروح الأعظم ومراتبه وأسمائه في العالم الإنساني
اعلم، ان الروح الأعظم الذي في الحقيقة هو الروح الإنساني مظهر الذات الإلهية من حيث ربوبيها.
لذلك لا يمكن ان يحوم حولها حايم ولا ان يروم وصلها رايم.
الداير حول جنابها يحار والطالب لنور جمالها يتقيد بالأستار .
لا يعلم كنهها الا الله ولا ينال بهذه البغية سواه.
وكما أن له في العالم الكبير مظاهر وأسماء من العقل الأول والقلم الاعلى والنور والنفس الكلية واللوح المحفوظ .
وغير ذلك على ما نبهنا عليه من ان الحقيقة الإنسانية هي الظاهرة بهذه الصور في العالم الكبير.
كذلك له في العالم الصغير الإنساني مظاهر وأسماء بحسب ظهوراته ومراتبه في اصطلاح أهل الله وغيرهم.
وهي السر والخفى والروح والقلب والكلمة والروع، بضم الراء، والفؤاد والصدر والعقل والنفس.
كقوله تعالى: "فإنه يعلم السر وأخفى" . "قل الروح من أمر ربى"
و "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب"، و " كلمة من الله" في عيسى عليه السلام
و "ما كذب الفؤاد ما رأى" و "ألم نشرح لك صدرك " و "ونفس وما سويها".
وفي الحديث الصحيح: "ان روح القدس نفث في روعي ان نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها..." الحديث.
فأما كونه سرا، فباعتبار انه مدرك أنواره لأرباب القلوب والراسخين في العلم بالله دون غيرهم.
وأما الخفي، فلخفاء حقيقته على العارفين وغيرهم.
وأما الروح، فباعتبار ربوبيته للبدن وكونه مصدر الحياة الحسية ومنبع فيضانها على جميع القوى النفسانية.
وأما القلب، فلتقلبه بين الوجه الذي يلي الحق فيستفيض منه الأنوار، وبين الوجه الذي يلي النفس الحيوانية فيفيض عليها ما استفاض من موجدها على حسب استعدادها.
وأما الكلمة، فباعتبار ظهورها في النفس الرحماني كظهور الكلمة في النفس الإنساني.
وأما الفؤاد، فباعتبار تأثيره من مبدعة، فان الفؤاد هو الجرح والتأثير لغة.
وأما الصدر، فباعتبار الوجه الذي يلي البدن لكونه مصدر أنواره وتصدره على البدن.
وأما الروح، فباعتبار خوفه وفزعه من قهر مبدعة القهار إذا خذه من الروع وهو الفزع.
وأما العقل، فلتعلقه ذاته وموجده وتقيده بتعيين خاص وتقييده ما يدركه ويضبطه وحصره إياها فيما تصوره.
وأما النفس، فلتعلقه إلى البدن وتدبيره إياه:
ويسمى عند ظهور الأفعال النباتية منها بسدنتها نفسا نباتية.
وعند ظهور الأفعال الحيوانية منها نفسا حيوانية.
ثم باعتبار غلبة القوى الحيوانية على القوى الروحانية تسمى امارة.
وعند تلألؤ نور القلب من الغيب لإظهار كماله وادراك القوة العاقلة وخامة عاقبتها وفساد أحوالها تسمى لوامة، للومها على أفعالها.
وهذه المرتبة كالمقدمة لظهور المرتبة القلبية.
فإذا غلب النور القلبي وظهر سلطانه على القوى الحيوانية واطمأنت النفس تسمى مطمئنة.
ولما كمل استعدادها وقوى نورها واشراقها وظهر ما كان بالقوة فيها وصار مرآة للتجلي الإلهي، يسمى بالقلب
وهو المجمع بين البحرين وملتقى للعالمين، لذلك وسع الحق وصار عرش الله كما جاء في الخبر الصحيح:
"لا يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقى النقي" و "قلب المؤمن عرش الله".
فالمعتبر ان اعتبر الحقيقة الواحدة المفروضة لهذه الاعتبارات فحكم بان الجميع شئ واحد حقيقة صدق.
وان اعتبرها مع كل من الاعتبارات فحكم بالمغايرة بينها صدق أيضا.
تنبيه
وإذا علمت هذا فاعلم:
ان المرتبة الروحية هو ظل المرتبة الأحدية.
والمرتبة القلبية هي ظل المرتبة الواحدية الإلهية.
ومن أمعن النظر فيما نبهته عليه وطابق بين المراتب يظهر له أسرار آخرى لا يحتاج إلى التصريح بها.
تنبيه آخر
اعلم، أن الروح من حيث جوهره وتجرده وكونه من عالم الأرواح المجردة مغاير للبدن متعلق به تعلق التدبير والتصرف قائم بذاته غير محتاج إليه في بقائه وقوامه.
ومن حيث أن البدن صورته ومظهره ومظهر كمالاته وقواه في عالم الشهادة فهو محتاج إليه غير منفك عنه بل سار فيه لا سريان الحلول والاتحاد المشهورين عند أهل النظر، بل كسريان الوجود المطلق الحق في جميع الموجودات.
فليس بينهما مغايرة من كل الوجوه بهذا الاعتبار.
ومن علم كيفية ظهور الحق في الأشياء وأن الأشياء من أي وجه عينه ومن أي وجه غيره، يعلم كيفية ظهور الروح في البدن، وأنه من أي وجه عينه ومن أي وجه غيره.
لأن الروح رب بدنه، فمن تحقق له حال الرب مع المربوب يتحقق له ما ذكرناه.

والله الهادي.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الحادي عشر في عود الروح ومظاهره إليه تعالى عند القيامة الكبرى من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 9:54 pm

الفصل الحادي عشر في عود الروح ومظاهره إليه تعالى عند القيامة الكبرى من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصل الحادي عشر في المقدمة على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفصل الحادي عشر في عود الروح ومظاهره إليه تعالى عند القيامة الكبرى
قد مر ان للحق، تعالى، تجليات ذاتية وأسمائية صفاتية وان للأسماء والصفات دولا يظهر حكمها وسلطنتها في العالم حين ظهور تلك الدول.
ولا شك أن الآخرة انما يحصل بارتفاع الحجب وظهور الحق بالوحدة الحقيقية كما يظهر كلشئ فيها على صورته الحقيقية، ويتميز الحق عن الباطل، لكونه يوم الفصل والقضاء.
ومحل هذا التجلي ومظهره الروح، فوجب أن يفنى فيه عند وقوع ذلك التجلي و بفنائه يفنى جميع مظاهره.
قال تعالى: "ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله".
وهم الذين سبقت لهم القيامة الكبرى.
لذلك قيل: كل شئ يرجع إلى أصله.
قال الله عز وجل: "ولله ميراث السماوات والأرض"، "كل شئ هالك إلا وجهه"،  "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام".
وذلك قد يكون بزوال التعينات الخلقية وفناء وجه العبودية في وجه الربوبية كانعدام تعيين القطرات عند الوصول إلى البحر وذوبان الجليد بطلوع شمس الحقيقة.
قال تعالى: "يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين".
أي نزيل عنها التعين السماوي ليرجع إلى الوجود المطلق بارتفاع وجوده المقيد.
فقال: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار" مشيرا إلى ظهور دولة حكم المرتبة الأحدية.
وجاء في الخبر الصحيح أيضا، ان الحق، سبحانه، يميت جميع الموجودات حتى الملائكة وملك الموت أيضا.
ثم يعيدها للفصل والقضاء بينهم لينزل كل منزلته من الجنة والنار.
وأيضا، كما ان وجود التعينات الخلقية إنما هو بالتجليات الإلهية في مراتب الكثرة.
كذلك زوالها بالتجليات الذاتية في مراتب الوحدة، ومن جملة الأسماء المقتضية لها، القهار والواحد والأحد والفرد الصمد والغنى والعزيز والمعيد والمميت والماحي وغيرها.
وانكار من لم يذق هذا المشهد من العارفين علما غير الواصلين حالا أو المغرورين بعقولهم الضعيفة العادمة هذه الحالة انما ينشأ من ضعف ايمانهم بالأنبياء عليهم السلام. أعاذنا الله منه.


ومن اكتحل عينه بنور الإيمان وتنور قلبه بطلوع شمس العيان، يجد أعيان العالم دائما متبدلة وتعيناتها متزايلة .
كما قال تعالى: "بل هم في لبس من خلق جديد".
وقد يكون باختفائها فيه كاختفاء الكواكب عند وجود الشمس ويستتر وجه العبودية بوجه الربوبية فيكون الرب ظاهرا والعبد مخفيا.
ومن لسان هذا المقام ينشد: شعر
تسترت عن دهري بظل جناحه  ... فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت  ... وأين مكاني ما درين مكاني
وهذا الاختفاء إنما هو في مقابلة اختفاء الحق بالعبد عند اظهاره إياه، وقد يكون بتبديل الصفات البشرية بالصفات الإلهية دون الذات.
فكلما ارتفع صفة من صفاتها قامت صفة إلهية مقامها فيكون الحق حينئذ سمعه وبصره، كما نطق به الحديث، ويتصرف في الوجود بما أراد الله.
وكل منها قد يكون معجلا كما للكمل والأفراد الذين قامت قيامتهم وفنوا في الحق وهم في الحياة الدنيا صورة.
وقد يكون مؤجلا وهو الساعة الموعودة بلسان الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين.


تنبيه
لا تتوهم ان ذلك الفناء هو الفناء العلمي الحاصل للعارفين الذين ليسوا من أرباب الشهود الحالي مع بقائهم عينا وصفة، فان بين من يتصور المحبة وبين من هي حاله فرقانا عظيما.


كما قال الشاعر:
لا يعرف الحب الا من يكابده  ... ولا الصبابة الا من يعانيها
والحق ان الإعراب عنه لغير ذائقه ستر والاظهار لغير واجده إخفاء.
والعلم بكيفيته على ما هو عليه مختص بالله لا يمكن ان يطلع عليه الا من شاء الله من عباده الكمل .
وحصل له هذا المشهد الشريف والتجلي الذاتي المفنى للأعيان بالأصالة .
كما قال تعالى: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا".
وإذا علمت ما مر، علمت معنى الاتحاد الذي اشتهر بين هذه الطائفة.
وعلمت اتحاد كل اسم من الأسماء مع مظهره وصورته أو اسم مع اسم آخر ومظهر مع مظهر آخر.
وشهودك اتحاد قطرات الأمطار بعد تعددها واتحاد الأنوار مع تكثرها كالنور الحاصل من الشمس والكوكب على وجه الأرض أو من السرج المتعددة في بيت واحد وتبدل صور عالم الكون والفساد على هيولى واحدة، دليل واضح على حقية ما قلنا.
هذا مع ان الجسم كثيف فما ظنك بالخبير اللطيف الظاهر في كل من المراتب الحقير والشريف. والحلول والاتحاد بين الشيئين المتغايرين من كل الوجوه شرك عند أهل الله لفناء الأغيار عندهم بنور الواحد القهار.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الثاني عشر في النبوة والرسالة والولاية من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 10:10 pm

الفصل الثاني عشر في النبوة والرسالة والولاية من مقدمة كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفصل الثاني عشر في المقدمة على منتدي إتقوا الله ويعلمكم الله

الفصل الثاني عشر في النبوة والرسالة والولاية

قد مر أن للحق تعالى، ظاهرا وباطنا، والباطن يشتمل الوحدة الحقيقية التي للغيب المطلق والكثرة العلمية حضرة الأعيان الثابتة.
والظاهر لا يزال مكتنفا بالكثرة لا خلو له عنها من حيث أنه صورة ما يشتمل عليه العلم .
لأن ظهور الأسماء والصفات من حيث خصوصيتها الموجبة لتعددها لا يمكن إلا أن يكون لكل منها صورة مخصوصة فيلزم التكثر.
ولما كان كل منها طالبا لظهوره وسلطنته وأحكامه، حصل النزاع والتخاصم في الأعيان الخارجية باحتجاب كل منها عن الاسم الظاهر في غيره.
فاحتاج الأمر الإلهي إلى مظهر حكم عدل ليحكم بينها ويحفظ نظامها في الدنيا والآخرة .
ويحكم بربه الذي هو رب الأرباب بين الأسماء أيضا بالعدالة ويوصل كلا منها إلى كماله ظاهرا وباطنا .
وهو النبي الحقيقي والقطب الأزلي الأبدي أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وهو الحقيقة
المحمدية، صلى الله عليه وسلم.
كما أشار إليه بقوله: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين"، أي بين العلم والجسم.
وأما الحكم بين المظاهر دون الأسماء فهو النبي الذي يحصل نبوته بعد الظهور نيابة عن النبي الحقيقي.
فالنبي هو المبعوث إلى الخلق ليكون هاديا لهم ومرشدا إلى كمالهم المقدر لهم في الحضرة العلمية باقتضاء استعدادات أعيانهم الثابتة إياه.
وهو قد يكون مشرعا كالمرسلين وقد لا يكون كأنبياء بنى إسرائيل.
والنبوة البعثة وهي اختصاص إلهي حاصل لعينه الثابتة من التجلي الموجب للأعيان في العلم من الفيض الأقدس.
ولما كان كل من الظاهرطالب لهذا المقام الأعظم بحكم التفوق على أبناء جنسه، قرنت النبوة باظهارالمعجزات وخوارق العادات مع التحدي ليتميز النبي من المتنبي.
فالأنبياء، صلوات الله عليهم، مظاهر الذات الإلهية من حيث ربوبيتها للمظاهر وعدالتها بينها. فالنبوة مختصة بالظاهر ويشترك كلهم في الدعوة و الهداية والتصرف في الخلق وغيرها مما لا بد منه في النبوة .
ويمتاز كل منهم عن الآخر في المرتبة بحسب الحيطة التامة كأولي العزم من المرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين. وغير التامة كأنبياء بنى إسرائيل.
فالنبوة دائرة تامة مشتملة على دوائر متناهية متفاوتة في الحيطة.
وقد علمت ان الظاهر لا تأخذ التأييد والقوة والقدرة والتصرف والعلوم وجميع ما يفيض من الحق تعالى عليه الا بالباطن وهو مقام الولاية المأخوذة من الولي وهو القرب.
والولي بمعنى الحبيب أيضا منه.
فباطن النبوة الولاية، وهي ينقسم بالعامة والخاصة.
والأولى تشمل على كل من آمن بالله وعمل صالحا على حسب مراتبهم .
كما قال الله تعالى: "الله ولى الذين آمنوا...".
والثانية، يشمل الواصلين من السالكين فقط عند فنائهم فيه وبقائهم به.
فالخاصة عبارة عن فناء العبد في الخلق، فالولي هو الفاني فيه الباقي به.
وليس المراد بالفناء هنا انعدام عين العبد مطلقا بل المراد منه فناء جهة البشرية في الجهة الربوبية .
إذ لكل عبد جهة من الحضرة الإلهية هي المشار إليها بقوله: "ولكل وجهة هو موليها ..".
والعبد مبدأ لأفعاله وصفاته قبل الاتصاف بمقام الولاية من حيث البشرية وبعد اتصافه بها هو مبدأها من حيث الجهة الربانية.
كما قال: "فإذا أحببته كنت سمعه وبصره..." - الخ.
وذلك الاتصاف لا يحصل الا بالتوجه التام إلى جناب الحق المطلق، سبحانه.
إذ به يقوى جهة حقيته فيغلب جهة خلقيته إلى أن يقهرها ويفنيها بالأصالة كالقطعة من الفحم المجاورة للنار فإنها بسبب المجاورة والاستعداد لقبول النارية والقابلية المختفية فيها يشتعل قليلا قليلا إلى ان يصير نارا .
فيحصل منها ما يحصل من النار من الإحراق والانضاج والإضاءة وغيرها، وقيل الاشتعال كانت مظلمة كدرة باردة.
وذلك التوجه لا يمكن إلا بالمحبة الذاتية الكامنة في العبد، وظهورها لا يكون الا بالاجتناب عما يضادها ويناقضها وهو التقوى عما عداها.
فالمحبة هي المركب والزاد التقوى.
وهذا الفناء موجب لان يتعين العبد بتعينات حقانية وصفات ربانية مرة أخرى، وهو البقاء بالحق فلا يرتفع التعين منه مطلقا.
وهذا المقام دائرته أتم وأكبر من دائرة النبوة.
لذلك انختمت النبوة والولاية دائمة وجعل الولي اسما من أسماء الله تعالى، دون النبي.
ولما كانت الولاية أكبر حيطة من النبوة وباطنا لها شملت الأنبياء والأولياء.
فالأنبياء أولياء فانين في الحق باقين به منبئين عن الغيب وأسراره بحسب اقتضاء الاسم الدهر إنباؤه وإظهاره في كل وقت وحين منه.
و هذا المقام أيضا اختصاص إلهي غير كسبي بل جميع المقامات اختصاصية عطائية غير كسبية حاصلة للعين الثابتة من الفيض الأقدس.
وظهوره بالتدريج بحصول شرائطه وأسبابه يوهم المحجوب فيظن انه كسبي بالتعمل، وليس كذلك في الحقيقة.
فأول الولاية انتهاء السفر الأول الذي هو السفر من الخلق إلى الحق، بإزالة التعشق عن المظاهر والأغيار والخلاص من القيود والأستار والعبور من المنازل والمقامات والحصول بأعلى المراتب والدرجات.
وبمجرد حصول العلم اليقيني للشخص لا يلحق باهل هذا المقام ولا بحصول الكشف الشهودي أيضا، الا ان يكون موجبا لفناء الشاهد في المشهود ومحو العابد في المعبود.
وانما نبهت على هذا المعنى لئلا يتوهم العارف الغير الواصل والمشاهد بقوة استعداده للغيوب والمتصف بالصفات الحميدة والأخلاق المرضية الغير السالك طريق الحق بالفناء عن الافعال والصفات والذات انه ولى واصل بل وصوله علمي أو شهودي.
وهو غير واصل في الحقيقة لكونه في حجاب العلم والشهود.
وإنما يتجلى الحق لمن انمحى رسمه وزال عنه اسمه.
ولما كانت المراتب متميزة، قسم أرباب هذه الطريقة المقامات الكلية إلى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
فعلم اليقين : تصور الامر على ما هو عليه.
وعين اليقين: شهوده كما هو.
وحق اليقين: بالفناء في الحق والبقاء به علما وشهودا وكمالا وحالا، لا علما فقط.
ولا نهاية لكمال الولاية فمراتب الأولياء غير متناهية.
ولما كان بعض المراتب أقرب من البعض في النبوة والولاية.
ذكر الشيخ، رحمه الله، الأنبياء المذكورين في هذا الكتاب حسب مراتبهم لا بالتقدم والتأخر الزماني.
ولما كان المبعوث إلى الخلق تارة من غير تشريع وكتاب منه سبحانه، انقسم النبي إلى المرسل وغيره.
فالمرسلون أعلى مرتبة من غيرهم لجمعهم بين المراتب الثلاث:
الولاية والنبوة والرسالة.
ثم الأنبياء لجمعهم بين المرتبتين: الولاية والنبوة.
وإن كانت مرتبة ولايتهم أعلى من نبوتهم ونبوتهم أعلى من رسالتهم.
لأن ولايتهم جهة حقيتهم لفنائهم فيه .
ونبوتهم جهة ملكيتهم إذ بها يحصل المناسبة لعالم الملائكة فيأخذون الوحي منهم.
ورسالتهم جهة بشريتهم المناسبة للعالم الانساني.
وإليه أشار الشيخ، رضى الله عنه، بقوله:
مقام النبوة في برزخ دون الولي وفوق الرسول، أي النبوة دون الولاية التي لهم وفوق الرسالة.
تتميم
لا بد ان تعلم ان العادة متعلقة بالتقدير الأزلي الواقع في الحضرة العلمية
الجاري على سنة الله، وخرق العادة يتعلق بذلك، لكن لا على السنة بل إظهار القدرة.
وهو قد يصدر من الأولياء فيسمى كرامة، وقد يصدر من أصحاب النفوس القوية من أصل الفطرة .
وإن لم يكونوا أولياء وهم على قسمين:
اما خير بالطبع أو شرير.
والأول إن وصل إلى مقام الولاية فهو ولى، وان لم يصل فهو من الصلحاء والمؤمنين المفلحين. 
والثاني خبيث ساحر.
ولكل منهما التصرف في العالم.
وهؤلاء إن ساعدتهم الأسباب الخارجية استولوا على أهل العالم وصار كل منهم صاحب قرنه وزمانه بحسب الدولة الظاهرة، وان لم تساعدهم الأسباب لم يحصل لهم ذلك الا أنهم بأي شئ اشتغلوا كانوا فيه بالكمال، ولاكمال إلا لله وحده.
هذا آخر ما أردنا بيانه من المقدمات.
وبعد فلنشرع في بيان أسرار ما تضمنه الكتاب، والحمد لله الكريم الوهاب .
والصلاة على نبيه محمد وآله أجمعين.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: شرح داود القيصرى لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 10:35 pm

شرح داود القيصرى الجزء الأول لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح القيصرى لخطبة الشيخ على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

شرح داود قيصرى لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   الجزء الأول

قول الشيخ، رضى الله عنه: (الحمد الله منزل الحكم على قلوب الكلم)
شروع فيما يجب على جميع العباد من الحمد لله والثناء عليه، لذلك صدر الحق تعالى كتابه العزيز بقوله: (الحمد لله رب العالمين) تعليما للعباد وتفهيما لهم طريق الرشاد.
ولما كان (الحمد) و (الثناء) مترتبا على الكمال، ولا كمال إلا لله ومن الله، كان الحمد لله خاصة، وهو قولي وفعلي وحالي:
أما القولي، فحمد اللسان وثناؤه عليه بما أثنى به الحق على نفسه على لسان الأنبياء، عليهم السلام.
وأما الفعلي، فهو الإتيان بالأعمال البدنية من العبادات والخيرات ابتغاء
لوجه الله تعالى وتوجها إلى جنابه الكريم، لأن الحمد، كما يجب على الإنسان باللسان، كذلك يجب عليه بحسب كل عضو، بل على كل عضو، كالشكر،
و عند كل حال من الأحوال.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله على كل حال".
وذلك لا يمكن إلا باستعمال كل عضو فيما خلق لأجله على الوجه المشروع عبادة للحق تعالى وانقيادا لأمره، لا طلبا لحظوظ النفس ومرضاتها.
وأما الحالي، فهو الذي يكون بحسب الروح والقلب، كالاتصاف بالكمالات العلمية والعملية والتخلق بالأخلاق الإلهية.
لأن الناس مأمورون بالتخلق بلسان الأنبياء، صلوات الله عليهم، لتصير الكمالات ملكة نفوسهم وذواتهم.
وفي الحقيقة هذا حمد الحق أيضا نفسه في مقامه التفصيلي المسمى بالمظاهر من حيث عدم مغايرتها له.
وأما حمده ذاته في مقامه الجمعي الإلهي قولا، فهو ما نطق به في كتبه و
صحفه من تعريفاته نفسه بالصفات الكمالية. وفعلا، فهو إظهار كمالاته الجمالية والجلالية من غيبه إلى شهادته ومن باطنه إلى ظاهره ومن علمه إلى عينهفي مجالي صفاته ومحال ولايات أسمائه.
وحالا، فهو تجلياته في ذاته بالفيض الأقدس الأولى وظهور النور الأزلي.
فهو الحامد والمحمود جمعا وتفصيلا،كما قيل:
لقد كنت دهرا قبل أن يكشف الغطاء أخالك إني ذاكر لك شاكرفلما أضاء الليل أصبحت شاهدا بأنك مذكور وذكر وذاكر وكل حامد بالحمد القولي يعرف محموده بإسناد صفات الكمال إليه، فهويستلزم التعريف.
وذكر الشيخ اسم (الله) لأنه اسم للذات من حيث هي هي باعتبار، و اسمها من حيث إحاطتها بجميع الأسماء والصفات باعتبار آخر، وهو اتصافها بالمرتبة الإلهية، فهو أعظم الأسماء وأشرفها.
والحمد المناسب لهذه الحضرة، بعد حمد الله ذاته بذاته، هو الذي يصدر من الإنسان الكامل المكمل الذي له مقام الخلافة العظمى.
لأنه حينئذ يكون منها ولها، إذ الكامل مرآة تلك الحضرة و مظهرها .
وقوله: (منزل الحكم) بفتح النون من (التنزيل). أو بإسكانه من (الإنزال).
والأول أولى، لأنه إنما يكون على سبيل التدريج والتفصيل، بخلافالإنزال.
والأنبياء، عليهم السلام، وإن كان نزول الحكم على كتاب استعداداتهم دفعة واحدة، لكن ظهورها بالفعل لا يمكن إلا على سبيل التدريج.
والإنزال والتنزيل، كلاهما، يستدعيان العلو والسفل.
ولا يتصور هنا العلو المكاني، لأنه منزه عن المكان، فتعين علو المكانة والمرتبة.
وأول مراتب العلو مرتبة الذات، ثم مرتبة الأسماء والصفات، ثم مرتبة الموجود الأول، فالأول بحسب الصفوف إلى آخر مراتب عالم الأرواح.
ثم مراتب السفل من هيولى عالم الأجسام إلى آخر مراتب الوجود.
ولكل من مراتب العلو سفل باعتبار ما فوقها إلا للعلو المطلق، ولمراتب السفل علو باعتبار ما بعدها إلا السفل المطلق.
وقوله: (على قلوب الكلم) وتخصيصه بالقلب يؤيد ما ذهبنا إليه: فإن العلوم والمعارف الفائضة على الروح لا يكون إلا على سبيل الإجمال.
وفي المقام القلبي يتفصل ويتعين، كالعلوم الفائضة على العقل الأول إجمالا ثم على النفس الكلية تفصيلا.
ولذلك جعل مظهر العرش الروحاني الذي هو العقل الأول في عالم الملك فلكا غير مكوكب وهو (الفلك الأطلس)، ومظهر الكرسي الروحي الذي هو النفس الكلية فلكا مكوكبا ومتفاوتا في الصغر والكبر والظهوروالخفاء وهو فلك الثوابت ليستدل بالمظاهر على الظواهر.
كما قال تعالى: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب."
وإنما قال: (الحكم) ولم يقل: المعارف والعلوم.
لأنهم، عليهم السلام، مظاهر الاسم (الحكيم)، إذ (الحكمة) هي العلم بحقائق الأشياء، على ما هيعليه، والعمل بمقتضاه ولذلك انقسمت الحكمة إلى العلمية والعملية.
والمعرفة هي إدراك الحقائق، على ما هي عليه، والعلم إدراك الحقائق ولوازمها، ولذلك يسمى التصديق (علما) والتصور (معرفة).  كما قاله الشيخ ابن الحاجب في أصوله.
وأيضا، المعرفة مسبوقة بنسيان حاصل بعد العلم بخلاف العلم، لذلك يسمى الحق بالعالم دون العارف.
فلما كان العلم والعمل به أتم من كل منهما، أي من العلم والمعرفة جعلهم الحق مظاهر اسم الحكيم عناية عليهم ولاقتضاء مرتبتهم ذلك.
ولكون كل نبي مختصا بحكمة خاصة مودعة في قلبه وهو مظهر لها جمع فقال: (منزل الحكم على قلوب الكلم).
وقد مر تحقيق (القلب) في المبادئ.
والمراد بـ (الكلم) هنا أعيان الأنبياء، عليهم السلام، لذلك أضاف إليها (القلوب.) وقد يراد بها الأرواح.
كما قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب) أي، الأرواح الكاملة.
ويسمى عيسى (كلمة) في مواضع من القرآن مع أن جميع الموجودات كلمات الله، وإليه الإشارة بقوله تعالى: "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا".
ولكون صدور الأشياء من المرتبة العمائية التي أشار إليها النبي، صلى الله عليه وسلم، عند سؤال الأعرابي  عنه: "أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟" بقوله: "كان في عماء ما فوقهواء ولا تحته هواء".
أي، في مرتبة لا تعين لها ولا اسم ولا نعت، فتعمى عنهاالأبصار والفهوم، بواسطة (النفس الرحماني) وهو انبساط الوجود وامتداده.
والأعيان الموجودة عبارة عن التعينات الواقعة في ذلك النفس الوجودي.
سميت الأعيان كلمات، تشبيها بالكلمات اللفظية الواقعة على النفس الإنساني بحسب المخارج. وأيضا، كما يدل الكلمات على المعاني العقلية، كذلك تدل أعيان الموجودات على موجدها وأسمائه وصفاته وجميع كمالاته الثابتة له بحسب ذاته ومراتبه.
وأيضا، كل منها موجودة بكلمة (كن). فأطلق (الكلمة) عليها إطلاق اسم السبب على المسبب.
قوله: (بأحدية الطريق الأمم) متعلق بقوله: (منزل الحكم). و (الباء) للسببية.
أي، بسبب اتحاد الطرق الموصلة إلى الله بالتوجه والدعوة إليه وسلوك طريق يوجب تنور القلوب، نزل الحكم والمعارف اليقينية على قلوب الكلم الربانية، فإن اختلاف الطرق يوجب الغواية والضلال.
قال عز من قائل: "وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله". أوبمعنى (في). أي، منزل الحكم على قلوب الحكم في أحدية الطريق الأمم.
أو لتضمين التنزيل أو الإنزال معنى الإخبار، كقوله: "أنزل القرآن بتحريم الربا وتحليل البيع". أي، أخبر به.
فالباء للصلة. أي، مخبر الحكم على قلوب الكلم بأحدية الطريق الأمم.
أو للملابسة. أي، منزل الحكم متلبسا بأحدية الطريق الأمم. و (الأمم)، بفتح الهمزة، المستقيم.
واعلم، أن الطرق إلى الله إنما يتكثر بتكثر السالكين واستعداداتهم المتكثرة .
كقوله تعالى: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها. إن ربى على صراط مستقيم".
وكقوله تعالى: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا".
ولهذا قيل: "الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق" وكل منها في الانتهاء إلى الرب مستقيم.
إلا أنهالا توصف بالاستقامة الخاصة التي أريد بقوله تعالى: "إهدنا الصراط المستقيم."
فاللام هنا للعهد، والمعهود طريق التوحيد ودين الحق الذي جميع الأنبياء ومتابعيهم عليه، وبه تتحد طرقهم.
كما قال تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله". لا ما ذكر في سورة هود، عليه السلام: " إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) " سورة هود.
وإلا يكون طرق أهل الضلال أيضا موجبا لإفاضة الحكم، وبيان الحق للصراط المستقيم
بقوله: "صراط الذين أنعمت عليهم"- الآية، يدل على ذلك. ولذلك صدق اللاحق منهم السابق، وما وقع بينهم التخالف في التوحيد ولوازمه.
والاختلاف الواقع في الشرائع ليس إلا في الجزئيات من الأحكام بحسب الأزمنة ولواحقها.
فأحدية الطريق عبارة عن استهلاك كثرة طرق السالكين من الأنبياء و الأولياء في وحدة الصراط المستقيم المحمدي وشريعته المرضية عند الله.
كقوله تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه". و "إن الدين عند الله الإسلام".


هذا بحسب اقتضاء الاسم الظاهر، وأما بحسب الاسم الباطن فطريقان جامعان للطرق الروحانية كلها:
أحدهما، طريق العقول والنفوس المجردة التي هي واسطة في وصول الفيض الإلهي والتجلي الرحماني إلى قلوبنا.
وثانيهما، طريق الوجه الخاص الذي هو لكل قلب به يتوجه إلى ربه من حيث عينه الثابتة ويسمى طريق السر ومن هذا الطريق أخبر العارف الرباني بقوله: "حدثني قلبي عن ربى".
وقال سيد البشر صلى الله عليه وآله: "لي مع الله وقتلا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل". لكونه من الوجه الخاص الذيلا واسطة بينه وبين ربه.
ولا شك في أحدية الطريق الأول. وكذا في الثاني. إذ لا شك في وحدة الفياض وفيضه.
كما قال: "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر".
وتكثر قوابل الفيض لا يقدح في وحدة الطريق، كما لا يقدح تكثر الشبابيك في وحدة النور الداخل فيها.
والسالك على الطريق الأول هو الذي يقطع الحجب الظلمانية وهي البرازخ الجسمانية، والنورية وهي الجواهر الروحانية، بكثرة الرياضات و المجاهدات الموجبة لظهور المناسبات التي بينه وبين ما يصل إليه من النفوس والعقول المجردة إلى أن يصل إلى المبدأ الأول وعلة العلل.
وقل من يصل من هذا الطريق إلى المقصد لبعده وكثرة عقباته وآفاته.
والسالك على الطريق الثاني، وهو الطريق الأقرب ، هو الذي يقطع الحجب بالجذبات الإلهية. وهذا السالك لا يعرف المنازل والمقامات إلا عند رجوعه من الحق إلى الخلق.
لتنوره بالنور الإلهي وتحققه بالوجود الحقاني،حينئذ، فيحصل له العلم من العلة بالمعلول ويكمل له الشهود بنوره في مراتب الوجود، فيكون أكمل وأتم من غيره في العلم والشهود.
وقوله: (من المقام الأقدم) إشارة إلى المرتبة الأحدية الذاتية التي هي منبع فيضان الأعيان واستعداداتها في الحضرة العلمية أولا.
ووجودها وكمالاتها في الحضرة العينية بحسب عوالمها وأطوارها الروحانية والجسمانية ثانيا.

وإنما قال على صيغة أفعل التفضيل، لأن للقدم مراتب وكلها في الوجود سواء، لكن العقل باستناد بعضها إلى البعض يجعل قديما وأقدم.
كترتب بعض الأسماء علىالبعض، إذ الشئ لا يمكن أن يكون مريدا إلا بعد أن يكون عالما، ولا يمكن أن يكون عالما إلا بعد أن يكون حيا، وكذلك الصفات.
وجميع الأسماء والصفات مستندة إلى الذات، فلها المقام الأقدم من حيث المرتبة الأحدية وإن كانت الأسماء والصفات أيضا قديمة .
قوله: (إن اختلفت الملل والنحل لاختلاف الأمم) للمبالغة. و (الملة) الدين، و (النحلة) المذهب والعقيدة.
أي، أصل طرق الأنبياء واحد، وإن اختلفت أديانهم وشرائعهم لأجل اختلاف أممهم.
وذلك لأن أهل كل عصر يختص باستعداد كلي خاص يشمل استعدادات أفراد أهل ذلك العصر وقابلية معينة كذلك ومزاج يناسب ذلك العصر.
والنبي المبعوث إليهم إنما يبعث بحسب قابلياتهم واستعداداتهم فاختلفت شرائعهم باختلاف القوابل.
وذلك لا يقدح في وحدة أصل طرقهم وهو الدعوة إلى الله ودين الحق، كما لا يقدح اختلاف المعجزات في وحدة حقيقة المعجزة.
ولذلك كان معجزات كل منالأنبياء، عليهم السلام، بحسب ما هو غالبة على ذلك القوم: كما أتى موسى بما يبطل السحر لغلبته عليهم.
وعيسى، عليه السلام، بإبراء الأكمة والأبرص، لماغلب على قومه الطب.
ونبينا، صلى الله عليه وسلم، بالقرآن الكريم المعجز بفصاحته كل مغلق بليغ ومصقع فصيح، لما كان الغالب على قومه التفاخر بالفصاحة والبلاغة.
قوله: (وصلى الله على ممد الهمم) إتيان بما يجب بعد حمد الحق تعالى منالصلاة على من هو فصل الخطاب والواسطة بين أهل العالم ورب الأرباب علما وعينا، كما مر بيانه في الفصل الثامن. قيل: "الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء."
واعلم، أن الرحمة من الله يتعلق بكل شئ بحسب استعداد ذلك الشئ و
طلبه إياها من حضرة الله تعالى: فالرحمة على العاصين المذنبين، الغفران والعفو عنهم، ثم ما يبتنى على المغفرة من الجنة وغيرها.
وعلى المطيعين الصالحين، الجنة والرضاء ولقاء الحق تعالى، وغير ذلك (مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).
وعلى العارفين الموحدين مع ذلك، إفاضة العلوم اليقينية والمعارف الحقيقية.
وعلى المحققين الكاملين المكملين من الأنبياء والأولياء عليهم السلام، التجليات الذاتية والأسمائية والصفاتية، وأعلى مراتب الجنان من جنات الأعمال والصفات والذات،  وأعنى بجنة الذات والصفات ما به ابتهاج المبدأ الأول من ذاته وكمالاته الذاتية.
فالرحمة المتعلقة بقلب النبي، صلى الله عليه وآله، وروحه، هي أعلى مراتب التجليات الذاتية والأسمائية لكمال استعداده وقوة طلبه إياها، وفيضها من الاسم الجامع الإلهي الذي هو منبع الأنوار كلها لأنه ربه.


لذلك قال تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبي". ولم يقل: إن الرحمن والرحيم أو غيرهما.
ولما كانت الملائكة مظاهر الأسماء التي هي سدنة الاسم الأعظم، والسادن لا بد له من متابعة سيده، حصل له الفيض من جميع الأسماء، واستغفر له مظاهرها بأسرها.
ودعاء المؤمنين له، صلى الله عليه وسلم، إنما هو مجازاة ذاتية يقتضى أعيانهم الثابتة بلسان استعداداتهم الذاتية ذلك.
وكما كان، صلى الله عليه وسلم، واسطة لوجوداتهم في العلم والعين ماهية ووجودا، كذلك كان واسطة لكمالاتهم.
قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
وممد لكل عين، وهمتها بإيصالها إلى كمالها كفرا كان أو أيمانا، إذ من ربه يفيض ما يفيض
لحقائق العالم.
فاللام في (الهمم) لاستغراق الجنس، لأنه الجمع المحلى بالألف واللام،وهو يفيد الاستغراق، كما تقرر عند علماء الظاهر.
وإن جعلنا إمداده مخصوصا بالكمال السابق في الذهن بحسب الظاهر، فاللام للعهد.
أي، يمد الهمم القابلة للكمال بإرشاده طريقه وإيضاحه تحقيقه، وتسليكه سبيلا يوجب الكشف والشهود وترغيبه فيما يوجب الذوق والوجود.
وأمره بالعبادات والأخلاق المرضية ونهيه عما يوجب النقص والرين من المنهيات الشرعية ليترقى الهمم العالية إلى أوجها وذروتها ويتخلص من قيود الحضيض بذكر مقامها الأصلي ونشأتها.
و (الهمم) جمع (الهمة)، وهي مأخوذة من (الهم)، وهو القصد. يقال: هم بكذا. إذا قصده.
قال تعالى: "ولقد همت به وهم بها".
وفي الاصطلاح، توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جناب الحق لحصول الكمال له أو لغيره.
قوله: (من خزائن الجود والكرم) متعلق بقوله : (ممد الهمم). والخزائن هي الحقائق الإلهية المعبر عنها بالأسماء والصفات.
ولما كان كل من هو الجواد الكريم لا يعطى ما يعطى إلا من خزائنه بحسب جوده وكرمه، أضاف "الخزائن" إلى "الجود والكرم". و (اللام) فيهما عوض عن الإضافة.
أي، من خزائن جوده وكرمه تعالى.


وقيل: "الفرق بينه وبين الكرم، أن الجود صفة ذاتية للجواد ولا يتوقف بالاستحقاق ولا بالسؤال بخلاف الكرم، فإنه مسبوق بالاستحقاق القابل والسؤال منه"
وإمداد النبي، صلى الله عليه وسلم، الهمم من خزائن الجود والكرم التي للحضرة الإلهية، إنما هو لقطبيته وخلافته: فالخزائن لله والتصرف لخليفته  
قوله: (بالقيل الأقوم) متعلق بـ "ممد الهمم" بالقول الأصدق الأعدل الذي لا انحراف فيه بوجه من الوجوه.
، لأنه مظهر الاسم الجامع الإلهي، وهو بلسان استعداد مرتبته الواقعة على غاية الكمال والاعتدال يستفيض من الحق فيفيض على الهمم بحسب استعداداتهم.
وهو أصدق الألسنة وأفصحها كما قيل: لسان الحال أفصح من لسان القال.
ولسان الحال والقال يتبع لسان الاستعداد، فإذا كان الاستعداد في غاية الكمال، يكون القال والحال في غاية الصدق.
فقوله، صلى الله عليه وسلم، أقوم الأقوال وحاله أصدق الأحوال.
قوله: (محمد وآله وسلم) عطف بيان "ممد الهمم".
وهذا إشارة إلى أن النبي، صلى الله عليه وسلم، يمد أرواح جميع الأنبياء السابقين عليه بحسب الظهور والزمان حال كونه في الغيب، لكونه قطب الأقطاب أزلا وأبدا.
كما يمد أرواح الأولياء اللاحقين به بإيصالهم إلى مرتبة كما لهم في حال كونه موجودا في الشهادة ومنتقلا إلى الغيب، وهو دار الآخرة .
فأنواره غير منقطعة عن العالم قبل تعلق روحه بالبدن وبعده، سواء كان حيا أو ميتا.
و (آله)، عليهم السلام، أهله وأقاربه.
والقرابة إما أن يكون صورة فقط، أو معنى فقط، أو صورة ومعنى.
فمن صحت نسبته إليه صورة ومعنى فهوالخليفة والإمام القائم مقامه، سواء كان قبله، كأكابر الأنبياء الماضين، أو بعده، كالأولياء الكاملين.
ومن صحت نسبته إليه معنى فقط، كباقي الأولياء السابقين عليه كمؤمني آل فرعون وصاحب يس، فهو ولده الروحي القائم بما تهيأ لقبوله من معناه.
لذلك قال، صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا" إشارة إلى القرابة المعنوية، ومن صحت نسبته إليه صورة فقط، فهو إما أن يكون بحسب طينته، كالسادات والشرفاء، أو بحسب دينه ونبوته، كأهل الظاهر من المجتهدين وغيرهم من العلماء والصلحاء والعباد وسائر المؤمنين.
فالقرابة المعتبرة التامة هي القرابة الجامعة للصورة والمعنى، ثم القرابة المعنوية الروحية، ثم القرابة الصورية الدينية، ثم القرابة الطينية.
و "التسليم" من الله عبارة عن تجليه له، عليه السلام، من حضرة الاسم" السلام" الموجب لسلامته عن كل ما يوجب النقص والرين المهيئ للتجليات الجمال المخلص عن سطوات الجلال.
ومن المؤمنين قولا، الدعاء له، وفعلا، الاستسلام والانقياد طوعا لا كرها.
كما قال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما".
قوله: (أما بعد، فإني رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في مبشرة)(أريتها في العشر الآخر من المحرم لسنة سبع وعشرين وستمأة) 
هذا تمهيد عذر لإظهار هذا الكتاب إلى الخلق، فإن الأولياء أمناء الله تعالى.
والأمين لا بد لهمن أن يحفظ الأسرار التي أؤتمن عنده ويصونها عن الأغيار.
كما قال:
يقولون خبرنا فأنت أمينها      ..... وما أنا إذ خبرتهم بأمين
اللهم إلا أن يؤمروا بإظهارها، فحينئذ يجب عليهم الإظهار والإخبار.
و لما كانت الرؤية إما بالبصيرة أو بالبصر، والكمل لهم الظهور في جميع العوالم حيثما شاء الله لعدم تقيدهم في البرازخ كتقيد المحجوبين.
نبه أنها كانت في"مبشرة"، أي في رؤيا مبشرة، وهي لا يكون إلا بالبصيرة، وهي عين الباطن.
قال، عليه السلام، عند إخباره عن انقطاع الوحي: "لم تبق بعدي من النبوة إلا المبشرات".
فقالوا: "وما المبشرات يا رسول الله؟" قال: "الرؤيا الصالحة يراها المؤمن".
وهي لا يستعمل مع موصوفها، فلا يقال: رؤيا مبشرة.
كما لا يقال: أرض بطحاء.
قوله: "أريتها" على صيغة المبنى للمفعول من "الإراءة". أي، أرانيها الحق من غير إرادة منى وكسب وتعمل، ليكون مبرأ من الأغراض النفسانية ومنزها عن الخيالات الشيطانية.
قوله: (بمحروسة دمشق وبيده، صلى الله عليه وسلم، كتاب).
(فقال لي: "هذا كتاب فصوص الحكم". خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به).
(فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولى الأمر منا كما أمرنا).
متعلق بقوله:
"رأيت" أي، رأيته في محروسة دمشق. وفي قوله: "بيده كتاب" إشارة إلى أن الأسرار والحكم التي يتضمنها هذا الكتاب إنما هي مما في يد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وملكه وتحت تصرفه.
كما يقال: هذه المدينة في يد فلان. أي في تصرفه. وهي مظهر التصرف بالأخذ والعطاء.
وقوله: "هذا كتاب فصوص الحكم" يحتمل أن يكون إخبارا منه، صلى الله عليه و سلم، بأن اسمه عند الله هذا.
وأن يكون سماه، صلى الله عليه وسلم، بذلك ولابد أن يكون بين الاسم والمسمى مناسبة ما عند أهل التحقيق.
فهذا الاسم يدل على أن مسماه خلاصة الحكم والأسرار المنزلة على أرواح الأنبياء المذكورين فيه، إذ فص الشئ خلاصته وزبدته، كما سنبين إنشاء الله تعالى.
وأيضا، لما كان مراتب تنزلات الوجود ومعارجه دورية وقلب الإنسان الكامل محلا لنقوش الحكم الإلهية، شبهها بحلقة الخاتم.
والقلب بالفص الذي هو محل النقوش، كما قال في آخر الفص الأول: "وفص كل حكمة الكلمة التي نسبت إليها".
وسمى الكتاب بفصوص الحكم، لما فيه بيانها وبيان حكمها.
قوله: "خذه واخرج به إلى الناس" أي، خذه منى في سرك وغيبك واخرج به إلى عالم الحس والشهادة بتعبيرك إياه وتقريرك معناه بعبارة تناسبه وإشارة توافقه لينتفع به الناس ويرتفع عنهم حجابهم.
قوله: "فقلت: السمع والطاعة لله" بالنصب. أي، سمعت السمع وأطعت الطاعة لله، لأنه رب الأرباب. "ولرسوله" لأنه خليفته وقطب الأقطاب.
"وأولى الأمر" أي، الخلفاء والأقطاب الذين لهم الحكم في الباطن أو السلاطين والملوك الذين هم الخلفاء للخليفة الحقيقية في الظاهر.
وقوله: (منا) أي، من جنسنا وأهل ديننا.
وقوله: "كما أمرنا" إشارة إلى قوله: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم".
وإلى قوله: "وإذا وليتم أميرا فأطيعوه ولو كان عبدا حبشيا" .
وفي التحقيق كل الطاعة لله تعالى: تارة في مقام جمعه، وتارة في مقام تفصيله وأكمل مظاهره.
و قوله : (فحققت الأمنية وأخلصت النية وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب، كما حده لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة ولا نقصان.)
أي، جعلت أمنية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حقا محققا، أي، ثابتا في الخارج وظاهرا في الحس بتعبيري إياه وإظهاري فحواه على النفوس المستعدة الطالبة لمعناه.
كما قال تعالى حكاية عن يوسف، عليه السلام: "هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا". أي، أخرجها وأظهرها في الحس. فاللام للعهد، أو عوض عن الإضافة.
و "الأمنية" هو المقصود والمطلوب. وإنما أضفناها إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دون الشيخ، لأن الآمر بالإخراج هو الرسول والشيخ مأمور، أراد ذلك أو لم يرد.
اللهم إلا أن يقول الشيخ طلبه بلسان استعداد عينه وروحه عن حضرة روح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فحينئذ تكون الأمنية من طرفه.
والأول أولى. وإطلاق هذه اللفظة المأخوذة من "التمني" على الأنبياء سائغ، كما
قال تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته".
وتجريد القصد والهمة، إنما هو عن الأغراض النفسانية والالقاءات الشبهية الشيطانية.
فإنه يلقىفي القلب عند كل حال من الأحوال ما يناسبها، والعارف المحقق يعلم ذلك فيخلصها عما ألقاه لأنه المؤيد بنور الله.
قوله: "كما حده" أي، عينه من غير زيادة منى في المعنى أو نقصان.
و "سألت الله أن يجعلني فيه" أي، في إبراز هذا الكتاب (وفي جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان).
أي، تسلط وغلبة. قال عز منقائل: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان."
واعلم، أن عباد الله، الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، هم العارفون الذين يعرفون مداخلة الواقفون مع الأمر الإلهي لا يتعدون عنه.
والموحدون الذين لا يرون لغيره وجودا ولا ذاتا، ولا يعلمون الأشياء إلا مظاهره ومجاليه، فيكون عباداتهم وحركاتهم وسكناتهم كلها بالله من الله إلى الله لله.
قال الله تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه". والذين يعبدون الله من حيث ألوهيته وذاته المستحقة للعبادة، لا من حيث أنه منعم أو رحيم.
فإن عبد "المنعم" لا يكون عبد "المنتقم" وعبد "الرحيم" لا يكون عبد "القهار" ولا لدخول الجنة ولاللخلاص من النار، فإنه حينئذ عبد حظه وأسير نفسه فلا يكون عبد الله.
لذلك أضافهم الحق إلى نفسه في قوله: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان".
وفيه أقول:
عبدنا الهوى أيام جهل وإننا ... لفي غمرة من سكرنا من شرابه
وعشنا زمانا نعبد الحق للهوى ... من الجنة الأعلى وحسن ثوابه
فلما تجلى نوره في قلوبنا ... عبدنا رجاء في اللقاء وخطابه
فمرجع أنواع العبودية الهوى ... سوى من يكن عبدا لعز جنابه
ويعبده من غير شئ من الهوى ... ولا للنوى من ناره وعقابه
ولا بد أن يعلم أن هؤلاء محفوظون من الأعمال الشيطانية، لا من الالقاءات والخواطر.
كما قال تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته". لذلك قيد بالأحوال.
قوله: (وأن يخصني في جميع ما يرقمه بناني وينطق به لساني وينطوي عليه جناني)
إشارة إلى باقي مراتب الوجود، لأن للشئ وجودا في الأعيان ووجودا في الأذهان ووجودا في الكتابة ووجودا في العبارة والإشارة.
ولما سأل الله أن يحفظه من الشيطان في أحواله التي يوجد في الأعيان، سأل أن يخصه بالالقاءات الرحمانية ويحفظه من الخواطر الشيطانية، ليكون مصونا في مراتب الوجود كلها. وإنما قدم الموجود في الكتابة على غيره بقوله: "فيما يرقمه بناني" ثم الموجود في العبارة على الموجود الذهني بقوله: "وينطق به لساني" لقرب الأول من الوجود العيني في الثبوت، وقرب الثاني من الأول في الظهور.
وتأخير الوجود الذهني، إشارة إلى أنه آخر مراتب الوجود باعتبار، وإن كان أول مراتبه باعتبار آخر، ليكون الأول بعينه الآخر باعتبارين.
و "الرقم" الكتابة، و "الجنانط بفتح الجيم، القلب.
قوله: (بالإلقاء السبوحي والنفث الروحي في الروع النفسي بالتأييد الاعتصامي) متعلق بـ "أن يخصني."
واعلم، أن الإلقاء، أي إلقاء الخاطر، رحماني وشيطاني وكل منهما بلا واسطة أو بواسطة.
والأول، هو الذي يحصل من الوجه الخاص الرحماني الذي يكون لكل موجود إلى ربه، وهو المراد بـ "الإلقاء السبوحي" أي بالإلقاء الرحماني المنزه عما يقتضى الاسم "المضل" من الإلقاءات الشيطانية.
والثاني، وهو الذي يفيض على العقل الأول، ثم منه على الأرواح القدسية، ثم منها على النفوس الحيوانية المنطبعة، على ما سبق تقريره في بيان الطرق.
وهو المراد بـ "النفث الروحي" أي الحاصل من "روح القدس"، مأخوذة من قوله، صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى يستكملرزقها".
و "النفث" هو إرسال النفس، أستعير لما يفيض من "الروح."
قوله: "في الروع النفسي" إشارة إلى ما يحصل للنفس المنطبعة من الإلقاء الملكي بواسطة النفس الناطقة.
وهذا قد يكون من الأرواح المجردة غير الروح الإنساني، وقد يكون من الروح الإنساني.
إذ كل ما يفيض من غير الوجه الخاص على الأدنى إنما هو بواسطة الأشرف، وهو الروح، ثم القلب.
و "الروع" بضم الراء وسكون الواو، هو النفس.
والمراد به هنا الوجه الذي يلي القلب المسمى بـ "الصدر"، في اصطلاح القوم، ولذلك وصفه ونسبه إلى النفس.
و "المحترز منه" هو الشيطان، وهو بلا واسطة كالإلقاء من الاسم المضل،أو بواسطة كالإلقاء النفساني.
وقوله: "بالتأييد" متعلق ب "أن يخصني". و الباء بمعنى مع. أي، وأن يخصني بالإلقاء السبوحي مع التأييد الاعتصامي.
أو للملابسة، أي، ملتبسا بالتأييد. و الاعتصام  من العصمة. وهي الحفظ باسم العاصم و الحفيظ.
قال تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعا".
وقال: "ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم."


قوله: (حتى أكون مترجما لا متحكما ليتحقق من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب، أنه من مقام التقديس المنزه عن الأغراض النفسية التي يدخلها التلبيس).
إشارة إلى أن هذه العبارة ليست ملقاة عليه في العالم الروحاني، بل شاهد الشيخ، رضى الله عنه، رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في صورةمثالية.
فأعطاه الكتاب، وألهمه الحق المعاني والحكم التي تضمنها الكتاب، فتجلت له وانكشفت عليه هذه الحقائق، ثم عبر عنها بألفاظه بقوله: "حتى أكون مترجما" أي، سألت الله العصمة والتأييد حتى أكون مترجما لما أراد الله إظهاره بلساني من المعاني والحكم التي أعلمني الله إياها من الكتاب الذي أعطانيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا متحكما بالتصرف النفساني فيها بالزيادةأو النقصان، فإنهما من فعل الشيطان.
والمراد بـ "أهل الله"، الكاملون من أرباب الكشف والشهود، الواصلون إلى حضرة الذات والوجود، الراجعون من حضرة الجمع إلى مقام القلب.
لذلك بين بقوله: "أصحاب القلوب". فإن الإنسان إنما يكون صاحب القلب، إذا تجلى له الغيب وانكشف له السر وظهر عنده حقيقة الأمر وتحقق بالأنوار الإلهية وتقلب في أطوار الربوبية.
لأن المرتبة القلبية هي الولادة الثانية المشار إليها بقول عيسى، عليه السلام: "لن يلج ملكوت السماوات والأرض من لم يولد مرتين." .
قوله: "أنه من مقام التقديس" أي، ليتحقق أهل الله بالحقيقة واليقين أن
هذا الكتاب، أي معانيه وأسراره لا ألفاظه، منزل من مقام التقديس، وهو مقامأحدية جمع الجمع. وتقديسه وتنزيهه إنما يكون من الثنوية والأغيار باعتبار أحديته، ومن الشوائب النفسانية والأغراض الشيطانية الموجبة للنقصان باعتبارمقام تفصيله وكثرته.
و "التلبيس" سر الحقيقة وإظهارها بخلاف ما هي عليها.


يقال: لبس فلان على فلان. إذا ستر عنه الشئ وأراه بخلاف ما هو عليه.
قوله: (وأرجو أن يكون الحق تعالى لما سمع دعائي قد أجاب ندائي) لسان أدب مع الله تعالى.
فإن الكمل المطلعين بأعيانهم الثابتة واستعداداتها مستجابوا الدعوة، لأنهم لا يطلبون من الله تعالى إلا ما يقتضيه استعداداتهم وأعيانهم.
كما تأدب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قوله لأمته: "سلوا لي الوسيلة".
فإنها لا يكون إلا لعبد من عباد الله. وأرجو ان أكون أنا ذلك العبد .
مع تحقق رسول الله،صلى الله عليه وسلم، أنها له، لكن بدعاء الأمة، فاقتدى بالنبي، صلى الله عليه وسلم، فيه.
وقوله: "لما سمع دعائي" إشارة إلى قوله تعالى: "إن ربى لسميع الدعاء."
فإن الدعاء يتعلق بحضرة السميع، ثم يجيب المجيب لذلك، وإليه الإشارةبقوله: "قد أجاب ندائي" أي، سؤالي.
قوله : (فما ألقى إلا ما يلقى إلى ولا أنزل في هذا المسطور إلا ما ينزل به على).
أي، فلست ملقيا عليكم إلا ما يلقى على من الحضرة المحمدية من أسرار الأنبياء والحكم الخصيصة بهم.
ولا أخبر في هذا الكتاب إلا ما أخبر به على في صورة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من حضرة الذات الأحدية.
فليس لأحد من المحجوبين أن يعترض على ما تضمنه الكتاب فيحكم عليه بأحكام  يقتضيها الحجاب.
وكونه مخصوصا بهذا الأمر إنما هو للمناسبة التامة الواقعة بين عينهما،إذ الأحكام الوجودية العينية تابعة للأحكام المعنوية الغيبية.
ولما عرف، رضى الله عنه، أن المحجوبين عن الحق لا بد أن ينسبوه فيما قال إلى ادعاء النبوة ويتوهموا ذلك منه.
قال: (ولست بنبي ولا رسول) لأن النبوة التشريعية والرسالة، كما مر بيانهما اختصاص إلهي.
إذ هو الذي يختص برحمته من يشاء.


وقد انقطعتا بحسب الظاهر، إذ لا مشرع بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالأصالة،لأنه، عليه السلام، أتى بكمال الدين.
كما قال تعالى" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي". أي، نعمة الإسلام والإيمان.
وقال، عليه السلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". والريادة على الكمال نقصان.
قال : (ولكني وارث ولآخرتي حارث) أي، ولكني وارث رسول الله.
واعلم،أن كل وارث يأخذ من مورثه ما يكون له من الأموال بحسب نصيبه المقدر له.
وأموال الأنبياء، صلوات الله عليهم، هي العلوم الإلهية والأحوال الربانية والمقامات والمكاشفات والتجليات.
كما قال، عليه السلام: "الأنبياء ما ورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
فالعلم الحاصل لهذا الوارث أكمل وأتم من الحاصل لوارث نبي آخر، لأنه، عليه السلام، أكمل الأنبياء علما وحالا ومقاما.
فكذا وارثه أكمل الوارثين علما وحالا ومقاما وكما تحكم أن المال الموروث يتملكه الوارث قهرا من الله، أراد الوارث ذلك أو لم يرد.
كذلك هذا الوارث يأخذ العلم والحال والمقام من الله على حسب استعداده إن شاء ذلك أو لم يشأ، فإنه تمليك قهري.
فمعنى قوله، عليه السلام: "فمن أخذه" أي، من أخذ العلم الإلهي من الله، القائم بربوبيته باطن رسول الله وظاهره، فقد سعد وخلص من الشكوك والشبهات الوهمية.
.
يتبع


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الثلاثاء يوليو 23, 2019 10:41 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: شرح داود القيصرى الجزء الثاني لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 10:38 pm

شرح داود القيصرى الجزء الثاني لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح القيصرى لخطبة الشيخ على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

شرح داود قيصرى لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   الجزء الثاني

ولما كانت علومهم وأحوالهم ومقاماتهم حاصلة من التجليات الأسمائية والذاتية على سبيل الجذب والوهب، من غير تعمل وكسب، كان علوم هذا الوارث وأحواله ومقاماته أيضا كذلك من غير تعمل وكسب.
قال تعالى: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم".
فعلوم الأولياء والكمل غير مكتسبة بالعقل ولا مستفادة من النقل، بل مأخوذ من الله، معدن الأنوار ومنبع الأسرار. 
 و
إتيانهم بالمنقولات فيما بينوه إنما هو استشهاد لما علموه، وإتيانهم المعاني بالدلائل العقلية تنبيه للمحجوبين وتأنيس لهم رحمة منهم عليهم، إذ كل أحد لا يقدر على الكشف والشهود، ولا يفي استعداده بإدراك أسرار الوجود، فلهم نصيب منالإنباء والرسالة بحكم الوارثة لا بالأصالة، كما للمجتهدين من العلماء في الظاهر نصيب من التشريع، لذلك لا يزالون منبئون عن المعاني الغيبية والأسرار الإلهية.
ولما كانت الأمور السابقة في النشأة الدنياوية سببا للوصول إلى ما قدر له فيالآخرة، كما قال، عليه السلام: "الدنيا مزرعة الآخرة".
قال: "لآخرتي حارث" ولا يريد به أجر الآخرة ودخول الجنة وغيرها، فإن الكمل لا يعبدون الله للجنة.
بل المراد بـ "الآخرة" ما به ينتهى آخر أمره من الفناء في الحق والبقاء به.
قال الشيخ:
(فمن الله فاسمعوا ... وإلى الله فارجعوا
فإذا ما سمعتم ما ... أتيت به فعوا
ثم بالفهم فصلوا ... مجمل القول وأجمعوا
ثم منو به على ... طالبيه لا تمنعوا
هذه الرحمة التي ... وسعتكم فوسعوا)
قوله: "فمن الله فاسمعوا وإلى الله فارجعوا" جواب شرط مقدر.
أي، إذاكان ما بينته من الأنوار وكشفته من الأسرار من الله، من غير تصرف منى، وأنا مأمور بإبرازه: "فمن الله فاسمعوا" لا منى "وإلى الله فارجعوا" عند سماعكم مالا طاقة لكم بسماعه لعدم علمكم بحقيقة الأمر، وعدم استبانتكم في بعض أسراره لا إلى.
فإنه ميسر كل عسير ليطلعكم بمعانيه كما هي، بإشراق أنواره فيقلوبكم.
وفيه تنبيه على أن النبي، صلى الله عليه وسلم، مظهر لهذا الاسم الجامع، لأنه هو الآمر بالإبراز والإظهار.
"فإذا ما سمعتم ما أتيت به فعوا". "عوا" أمر من وعا، يعى إذا حفظ.
أي، فإذا سمعتم ما أتيت به من الله، لا منى، بفنائي فيه وبقائي به، فعوا واحفظوا بدرك معانيه وبتحقيق أسراره.
"ثم بالفهم فصلوا مجمل القول وأجمعوا" أي، إذا سمعتم وفهمتم معناه وتحققتم بعلمه، فصلوا ما فيه من الإجمال وفرعوا عليه التفاريع المترتبة عليه.
لأن أسرار هذا الكتاب أصول كلية، ومن علامات العلم بالأصول تعدى الذهن منها إلى تفاريعها، فمن لم يتفطن بتفاريعها لم يكن عالما بهذا الفن الذوقي و لا بهذا الكتاب.
و "أجمعوا" أي، تلك التفاريع في أصولها لتكونوا عالمين بالفروع في عين الأصول.
وبالأصول في عين الفروع، فتعلموا أن الحق سبحانه وتعالى.
يعلم جزئيات الأشياء في عين كلياتها: "ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء".
أو فصلوا مجمل القول الذي ذكرته من المراتب والمقامات، وأجمعوا بين كل مقام وأهله من الأنبياء والأولياء بتنزيل كل في مقامه  .
ثم منوا به على طالبيه ولا تمنعوا)  أي، منوا بما سمعتم وفهمتم معناهعلى طالبيه بإرشادهم وتنبيههم على المعاني المودعة فيه. أي، أعطوهم عطاءامتنانيا غير طالبين منهم عوضا لتكونوا داخلين فيمن قال تعالى فيهم: (وممارزقناهم ينفقون).
 ولا تمنعوهم ضنة وبخلا: "فإن رحمة الله قريب من المحسنين".
الذين لا يبخلون بما رزقهم الله.
واعلم، أن المنة على قسمين:
محمودة : وهي المشار إليها بقوله: "بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان".
ومذمومة: وهي المنبه عليها بقوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى".
ولما كانت الأولى صفة إلهية وبها يسمى الحق بـ "المنان" أمرنا، رضى الله عنه، بها لنتخلق بالأخلاق الإلهية ونتحقق بالصفات الحقانية.
قوله : (هذه الرحمة التي وسعتكم فوسعوا)
أي، هذه الأسرار والمعاني التي فاضت عليكم من الله رحمة عليكم وسعتكم وشملتكم، فوسعوا أنتم أيضا تلك الرحمة على الطالبين لتكونوا شاكرين لنعمه، مؤدين لحقوقه، مقتدين برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما قال: "اللهم ارزقني وارزق أمتي فتلحقوا بالوارثين."
قوله: (ومن الله أرجو أن أكون ممن أيد فتأيد، وأيد وقيد بالشرع المطهر المحمدي فتقيد وقيد، وأن يحشرنا في زمرته كما جعلنا من أمته).
لسان أدب مع حضرة رسول الله، لأنه على يقين أنه ممن أيده الله وقيده بالشرع المحمدي باتباعه.
أي، ومن هذه الحضرة الجامعة أرجو أن أكون ممن أيده الله بتأييده وتوفيقه فتأيد بقبوله إياه، لا ممن رده الله من حضرته بإبعاده فجحد أمره وأباه.
وبعد التأييد يؤيد غيره بأن يجعله مستعدا للتأييد الإلهي بالإرشاد والتنبيه.
ولما كان نبينا، صلى الله عليه وسلم، أكمل العالم، والسعادة التامة لا يحصل إلا بمتابعته والتقيد بشريعته.
كما قال: "لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي". طلب هذا الوارث المحمدي أن يكون مقيدا بشريعته ومتحليا بطريقته، ليكون متحققا بأعلى المقامات ومتدرجا بأكمل الدرجات.
وإنما أتى على صيغة المبنى للمفعول في قوله: "أيد وقيد" تعظيما وإجلالا للفاعل، إذ تأييده، رضى الله عنه، بالنسبة إلى لطف الله وكرمه تعالى أمر قليل.
لذلك قال: "ممن" أي، من جملة الذين أيدهم الله ووفقهم وقيدهم بشريعة نبيه، عليه السلام.
فقوله: "فتقيد" أي، إذا قيده الله بشرع أكمل الأنبياء، صلوات الله عليهم، تقيد بالقبول والانقياد والطاعة، وقيد غيره بتنبيهه على جلالة قدره و كمال عظمته وأمره.
قوله: "وأن يحشرنا في زمرته" أي، يحشرنا ويجعلنا في الآخرة من أهل الله، التابعين لرسول الله، الفائزين بالسعادة العظمى والدرجة العليا، كما جعلنا من أمته في دار الدنيا.


قوله: (فأول ما ألقاه المالك على العبد من ذلك) مبتدأ.
خبره، قوله: (فص حكمة إلهية في كلمة آدمية.)
وإنما قال: "المالك" و "العبد" لأن الإلقاء لا يمكن إلا أن يكون بين الملقى والملقى عليه.
والملقى هو الله تعالى، من حيث ربوبيته، و "الرب" هوالمالك لأنه من جملة معانيه.
والملقى عليه هو العبد.
وأيضا، إلقاء هذه المعاني ليس إلا لتكميل المستعدين القابلين للوصول إلى مقام الجمع والوحدة الحقيقية.
وذلك لا يمكن إلا بالتربية. ولما كان الملقى عليه عبدا، ذكر ما يقابله وهو المالك الذي هو بمعنى الرب.
والمراد بـ  "العبد" نفسه.
أي، أول ما ألقاه الله تعالى في قلبي على سبيل الإلهام من الحكم والأسرار "فص حكمة إلهية" وإن كان معطي الكتاب هو الرسول، صلى الله عليه وسلم.
ويمكن أن يكون المراد بـ "المالك" الرسول، لأنه الاسم الأعظم الإلهي باعتبار اتحاد الظاهر والمظهر.
ولا يجوز أن يقال، المراد بالمالك هو الحق وبالعبد هو النبي، صلى الله عليه وسلم، لما يلزم من إساءة الأدب،وإن كان عبدا له ورسولا منه و "ذلك" إشارة إلى الكتاب.
أي، أول ماألقاه المالك على قلب العبد من ذلك الكتاب، أي من معانيه، فص حكمة إلهية.
و "فص" الشئ خلاصته وزبدته، وفص الخاتم ما يزين به الخاتم ويكتب عليه اسم صاحبه ليختم به على خزائنه.
وقال ابن السكيت: "كل ملتقى عظمين فص".
وفص الأمر مفصله. وقال الشاعر:
ورب امرء خلته مائقا   ....         ويأتيك بالأمر من فصه
والأولان أنسب بالمقام.
ومعنى "الحكمة" ما ذكر من أنها علم بحقائق الأشياء على ما هي عليه.
وعمل بمقتضاه ففص كل حكمة:
على الأول، عبارة عن خلاصة علوم حاصلة لروح نبي من الأنبياء المذكورين، عليهم السلام، التي يقتضيها الاسم الغالب عليه، في فيضها على روح ذلك النبي بحسب استعداده وقابليته.
وعلى الثاني، هو القلب المنتقش بالعلوم الخاصة به. ويؤيد هذا الوجه ماذكره في آخر الفص
من قوله: "وفص كل حكمة الكلمة التي نسبت إليها".
فمعنى قوله: "فص حكمة إلهية" أي، محل الحكمة الإلهية هو القلب الثابت في الكلمة الآدمية، والإلهية اسم مرتبة جامعة لمراتب الأسماء وحقائقها كلها.
ولهذا صار الاسم (الله) متبوعا لجميع الأسماء والصفات وموصوفا بها.
وتخصيص الحكمة الإلهية بالكلمة "الآدمية"، هو أن آدم، عليه السلام، لما خلق للخلافة وكانت مرتبته جامعة لجميع مراتب العالم.
صار مرآة للمرتبة الإلهية قابلا لظهور جميع الأسماء فيه، ولم تكن لغيره تلك المرتبة ولا قابلية ذلك الظهور، لذلك خصها به.
وأيضا، هو مظهر لهذا الاسم، كما قيل:
"سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقبثم بدا في خلقه ظاهرا في صورة الآكل والشارب"
والمراد بـ "الكلمة الآدمية"، الروح الكلى الذي هو مبدأ النوع الإنساني.
كما قال، رضى الله عنه: "فآدم هو النفس الواحدة التي خلق منها هذا النوع الإنساني".
وسيأتي بيانه في آخر الفص، إن شاء الله.
ولما كان آدم أبو البشر،عليه السلام، أول أفراده في الشهادة ومظهر الاسم (الله) من حيث جامعيته خواص أولاده الكمل.
خص، رضى الله عنه، الفص باسمه وبين فيه ما يختص بكلمته، كما بين ما يختص بكلمة كل نبي في الفص المنسوب إليه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 11:21 pm

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية  الجزء الأول

قوله: (لما شاء الحق سبحانه من حيث أسمائه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء) شروع في المقصود. 
ولما كان وجود العالم مستندا إلى الأسماء وكان الإنسان مقصودا أصليا من الإيجاد، أولا في العلم وآخرا في العين ، نبه على أن الحق تعالى من حيث أسمائه الحسنى أوجد العالم.
 وبين العلة الغائية من إيجاد العالم الإنساني، وهي رؤيته تعالى ذاته بذاته في مرآة عين جامعة إنسانية من مرايا الأعيان .
كما قال: "كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فتحببت إليهم بالنعم، فعرفوني". 
فهذا القول كتمهيد أصل يترتب عليه ظهورالحكم الكلية من الأسماء الإلهية في مظاهرها.
واستعمل (لما شاء) مجازا، إذ هو مشعر بحصول المشية بعد أن لم تكن، وليس كذلك، لكونها أزلية وأبدية. 
وجواب (لما) محذوف. تقديره: لما شاء الحق أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله، لكونه متصفا بالوجود ويظهر به سره، أوجد آدم، عليه السلام. 
أو يكون قوله: (فاقتضى الأمر) جواب (لما) ودخول الفاء في الجواب للاعتراض الواقع بين الشرط والجزاء وهو قوله: (وقد كان الحق أوجد العالم)... والأول أظهر. 
ومشيئته تعالى عبارة عن تجليه الذاتي والعناية السابقة لإيجاد المعدوم، أو إعدام الموجود. وإرادته عبارة عن تجليه لإيجاد المعدوم. فالمشيئة أعم من الإرادة. 
ومن تتبع مواضع استعمالات(المشية) و (الإرادة) في القرآن يعلم ذلك، وإن كان بحسب اللغة يستعمل كل منهما مقام الآخر، إذ لا فرق بينهما فيها
والمراد بالأسماء الحسنى، الأسماء الكلية والجزئية، لا التسعة والتسعون فقط المروية في الحديث.
لذلك قال: (التي لا يبلغها الإحصاء) أي، العدد. فإن الأسماء الجزئية غير متناهية، وإن كانت كلياتها متناهية. 
وقد سبق معنى (الاسم)و (اسم الاسم) في الفصل الثاني من المقدمات. 
وإنما جاء بالحق الذي هو اسم الذات ليتبين أن هذه المشية والإرادة للذات بحكم المحبة الذاتية التي منها وإليها، لكن ليس للذات من حيث هي هي مع قطع النظر عن الأسماء والصفات، وليست لها، أيضا، من حيث غنائها عن العالمين، بل من حيث سمائها الحسنى التي بذواتها وحقائقها تطلب المظاهر والمجالي، لتظهر أنوارها المكنونة وتنكشف أسرارها المخزونة فيها التي باعتبارها .
قال تعالى: "كنت كنزا مخفيا". - الحديث.
قوله: (أن يرى أعيانها وإن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله)
بيان متعلق المشية. والمراد بقوله: (أعيانها) يجوز أن يكون الأعيان الثابتة التي هي صور حقائق الأسماء الإلهية في الحضرة العلمية.
ويجوز أن يكون نفس تلك الأسماء التي هي أرباب الأعيان والماهيات الكونية.
ويجوز أن يكون تلك الأعيان، الأعيان الخارجية.
لذلك قال: (وإن شئت قلت، أن يرى عينه) أي، عين الحق. 
فإن جميع الحقائق الأسمائية في الحضرة الأحدية عين الذات وليست غيرها، وفي الواحدية عينها من وجه وغيرها من آخر.
و (الكون) في اصطلاح هذه الطائفة، عبارة عن وجود العالم، من حيث هوعالم، لا من حيث إنه حق، وإن كان مرادفا للوجود المطلق، عند أهل النظر. 
وهو هنا بمعنى المكون. أي، شاء أن يرى أعيان أسمائه أو عين ذاته في موجود جامع لجميع حقائق العالم، مفرداتها ومركباتها، بحسب مرتبته يحصر ذلك الموجود أمر الأسماء والصفات من مقتضياتها وأفعالها وخواصها ولوازمها كلها.
و (اللام) في قوله (الأمر) للاستغراق، أي جميع الأمور الإلهية، أو عوض من الإضافة. 
و (الأمر) بمعنى الفعل. أو يحصر الشأن الإلهي في مرتبته فيكون بمعنى الشأن، وهو أعم من الفعل لأنه قد يكون حالا من الأحوال من غير فعل. 
أويحصر ما تعلق به الأمر الذي هو قوله: (كن). فحينئذ يكون مجازا من قبيل إطلاق الملزوم وإرادة اللازم.
و (الكون الجامع) هو الإنسان الكامل المسمى بـ (آدم). وغيره ليس له هذه القابلية والاستعداد. 
والسر في هذه المشيئة والحصر، أن الحق تعالى كان يشاهد ذاته وكمالاته الذاتية المسماة بـ (الأسماء)، ومظاهرها كلها في ذاته بذاته في عين أوليته وباطنيته مجموعة مندمجة بعضها في بعض.
فأراد أن يشاهدها فيحضرة آخريته وظاهريته كذلك، ليطابق الأول الآخر والظاهر والباطن، ويرجع كل إلى أصله.
فقوله: (لكونه متصفا بالوجود ويظهر به سره إليه) تعليل للحصر لا للرؤية. 
فإن الحق يعلم الأسماء وأعيانها ومظاهرها، ويراها ويشاهدها من غير ظهور الإنسان الكامل ووجوده في الخارج.
كما قال أمير المؤمنين على، كرم الله وجهه: "بصير إذ لا منظور إليه من خلقه". 
إلا أن تحمل "الرؤية" على الرؤية الحاصلة في المظهر الإنساني، فإن هذه الرؤية أيضا للحق. وحينئذ يكون تعليلا لها فيكون معناه: إنه شاء أن يرى الأعيان أو عينه بآدم في آدم لكونه متصفا بالوجود الحق، إذ هو من حيث ذاته معدوم ومن حيث الوجود الحق موجود. 
وله قابلية ظهور جميع أسرار الوجود فيه، فصار بالاتصاف به، والقابلية المذكورة كونا حاصرا لجميع أمر الأسماء وخصوصياتها.
لأن وجود الملزوم يوجب وجوداللازم، سواء كان بالواسطة أو غيرها.
وقوله: "ويظهر به سره إليه" يجوز أن يعطف على قوله: "يحصر الأمر"
فيرفع وإنما أخره عن قوله: "لكونه متصفا بالوجود" ليكون تتمة من التعليل، يجوز أن يعطف على "يرى" فينصب. 
وضمير "به" عائد إلى "الكون الجامع".
وضمير "سره" و "إليه" عائد إلى "الحق". 
و (إليه) صلة (يظهر)يقال: ظهر له وإليه. والمراد ب "السر"عين الحق وكمالاته الذاتية، فإنها غيب الغيوب كلها.
كما قيل: "وليس وراء عبادان قرية". أي، شاء أن يشاهد عينه وكمالاته الذاتية التي كانت غيبا مطلقا في الشهادة المطلقة الإنسانية في مرآة الإنسان الكامل .
ويجوز أن يقال، إنه تعليل للرؤية من غير أن يحمل أنها في المظهر الإنساني، ومعناه: أنه تعالى، وإن كان مشاهدا نفسه وكمالاته في غيب ذاته بالعلم الذاتي ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
لكن هذا النوع من الرؤية والشهود الذي يحصل بواسطة المرايا، لم يكن حاصلا بدونها، لأن خصوصيات المرايا تعطى ذلك، فشاء الحق أن يشاهدها كذلك أيضا. 
ويؤيد هذا المعنى قوله: (فإن رؤية الشئ نفسه بنفسه، ما هي مثل رؤيته نفسه في أمرآخر يكون له كالمرآة، فإنه تظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن 
يظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجليه له هذا). 
تعليل للمشية وإيماء إلى سؤالمقدر، وهو أن الله بصير قبل أن يوجد العالم الإنساني، فكيف شاء ذلك؟ فأجاببأنه ليس رؤية الشئ نفسه بنفسه في نفسه، كرؤية نفسه في شئ آخر يكون لهذلك الشئ مثل المرآة. وذلك لأن المرآة لها خصوصية في ظهور عين ذلكالشئ، وتلك الخصوصية لا يحصل بدون تلك المرآة، ولا بدون تجلى ذلك الشئ لها، كاهتزاز النفس والتذاذها عند مشاهدة الإنسان صورته الجميلة في المرآة الذي هو غير حاصل له عند تصوره لها.
وكظهور الصورة المستطيلة في المرآة المستديرة مستديرة، والصورة المستديرة في المرآة المستطيلة مستطيلة، وكظهورالصورة الواحدة في المرايا المتعددة متعددة، وأمثال ذلك.
لا يقال، حينئذ يلزم أن يكون الحق مستكملا بغيره، لأن هذا الشئ الذي هو له كالمرآة من جملة لوازم ذاته ومظاهرها التي ليست غيره مطلقا، بل من وجه عينه ومن آخر غيره، كما مر في الفصل الثالث من أن الأعيان الثابتة أيضا عين الحق ومظاهره العلمية.
فلا يكون مستكملا بالغير وإلى هذا المعنى أشاربقوله: (يكون له كالمرآة) ولم يقل: في المرآة. لأن المرآة غير الناظر فيها من حيث تعيناتهما المانعان عن أن يكون كل واحد منهما عين الآخر. وليس هنا كذلك، لأن التعين الذاتي أصل جميع التعينات التي في المظاهر فلا ينافيها  
وقوله: (في أمر آخر) أي، بحسب الصورة لا بالحقيقة. 
وقوله: (فإنه يظهر) تعليل عدمالمماثلة. والضمير للشأن تفسره الجملةالتي بعده.
و (من) في (مما) للبيان. أي، تظهر له نفسه في صورة من الصور التي لم تكن تظهر للرائي بلا وجود هذا المحل ولا بقابلة له. 
ولما كان الرائي ههنا هوالحق، عبر عن التقابل بالتجلي. فضمير (تجليه) للحق، وضمير (له) للمحل. وقرأ بعضهم: (ولا تجلية) بالتاء على وزن تفعلة. أي، منغير وجود
هذا المحل ومن غير تجليته للمحل من الجلاء.
قوله: (وقد كان الحق أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه، فكان) .
أي العالم (كمرآة غير مجلوة. ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا ولا بد أن يقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه، وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال).
إعتراض وقعبين الشرط والجزاء، على أن قوله: (فاقتضى) جواب (لما)(الواو) للحال.
وقوله: (وجود شبح) صفة مصدر محذوف. أي، أعطى وجودا مثل وجود شبح.
ومعناه: أن الحق تعالى قد كان أوجد الأعيان الثابتة التي للعالم الكبيردون الصغير الإنساني بالوجود العيني مفصلا كالموجود الذي لا روح فيه، والمرآة التي لا جلاء لها. 
وكان من شأن الحق وحكمة الإلهي وسنته أنه ما أوجد شيئا وسواه إلا ولا بد أن يكون ذلك الموجود قابلا للروح الإلهي، ليكون به حياته ويترتب عليه كمالاته وتظهر به الربوبية فيه، وذلك القبول هو المعبر ب (النفخ) فيه. 
قال تعالى، في آدم، عليه السلام: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحيفقعوا له ساجدين). فنفخه تعالى إعطاؤه القابلية والاستعداد.
وقوله: (وما هو) أي، ليس ذلك (النفخ) إلا حصول الاستعداد من الصورة المسواة، أي، من ذلك الموجود لقبول الفيض المقدس الذي هو التجلي الدائم الحاصل عليه وعلى غيره لم يزل ولا يزال، إذ لو فرض انقطاعه آنا واحدا لعدم الأشياء كلها، سواء كانت موجودة بالوجود العلمي أو العيني.
فـ (التجلي) بدل الكل من (الفيض)
وفي بعض النسخ: (لقبول فيض التجلي) بالإضافة. فمعناه: لقبول الفيض الحاصل من التجلي. 
ولا يكون ذلك الفيض نفس التجلي حينئذ بل حاصلا منه، ولا ينبغي أن يتوهم أن هذه الأعيان
كانت موجودة زمانا من الأزمنة والإنسان معدوم فيه مطلقا، وإلا يلزم وجودها مع عدم روحها. وأيضا، الإنسان أبدى بحسب النشأة الأخروية، وكل ما هوأبدى فهو أزلي كعكسه. 
بل لا بد أن يعلم أنه من حيث النشأة العنصرية بعد كلموجود بعدية زمانية ، لتوقفها على حصول الاستعداد المزاجي الحاصل من الأركان العنصرية بالفعل والانفعال والتربية.
كما أشار إليه بقوله تعالى: "خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحا" وإنه من حيث النشأة العلمية قبل جميع الأعيان لأنها تفاصيل الحقيقة الإنسانية، كما مر بيانه في المقدمات. 
ومن حيث النشأة الروحانية الكلية أيضا قبل جميع الأرواح، كما أشار إليه النبي، صلىالله عليه وسلم، بقوله: "أول ما خلق الله نوري"
ومن حيث النشأة الروحانية الجزئية التي في العالم المثالي أيضا من قبيل المبدعات، وإن كان متأخرا عن العقول والنفوس الفلكية تأخرا ذاتيا لا زمانيا، فلا يكون معدوما في الخارج مطلقا،لذلك قيل في حقه قبل نشأته العنصرية: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء". 
وأخرج من الجنة بالمخالفة لأمر الله تعالى. هذا مع أن صاحب الشهود والمحقق العارف بمراتب الوجود، يعلم أنه موجود في جميع المظاهر السماوية والعنصرية، ويشاهده فيها بالصور المناسبة لمواطنها ومراتبها عند التنزل من الحضرة العلمية إلى العينية ومن العينية إلى الشهادة المطلقة قبل ظهوره في هذه الصورة الإنسانية الحادثة الزمانية، شهودا محققا. 
ولا يحيط بما أشرنا إليه إلا من أحاط بسر قوله تعالى: "وقد خلقكم أطوارا."
قوله: "وما بقى إلا قابل، والقابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس" تتميم لما ذكره. 
لأن القابل الذي يقبل الروح الإلهي هو أيضا يستدعى من يستند وجوده إليه، لأنه بالنظر إلى ذاته معدوم. 
ولما كان كذلك، بين أنه أيضا مستند إلىالحق تعالى فائض منه، لذلك قال: "والقابل لا يكون" أي، لا يحصل إلا من " فيضه الأقدس" أي، الأقدس من شوائب الكثرة الأسمائية ونقائص الحقائق
الإمكانية. 
وقد علمت فيما مر من المقدمات أن الأعيان التي هي القوابلللتجليات الإلهية كلها فائضة من الله بـ "الفيض الأقدس". 
وهو عبارة عن التجلي الحبى الذاتي الموجب لوجود الأشياء واستعداداتها في الحضرة العلمية، ثم العينية كما قال: "كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف...". و "الفيض المقدس" عبارة عن التجليات الأسمائية الموجبة لظهور ما يقتضيه استعدادات تلك الأعيان في الخارج. 
فـ "الفيض المقدس" مترتب على "الفيض الأقدس". 
وإذا علمت هذا، علمت أن لا منافاة بين هذا القول وبين قوله في "الفص العزيري" وغيره: 
(إن علم الله في الأشياء على ما أعطته المعلومات بما هي عليه مننفسها)
وقوله: (فلله الحجة البالغة). 
وقوله: (فالمحكوم عليه حاكم على الحاكم أن يحكم عليه بذلك). 
وقوله، صلى الله عليه وسلم: "من وجد خيرا، فليحمد الله. ومن وجد دون ذلك، فلا يلومن إلا نفسه."
قوله: (فالأمر كله منه، ابتداؤه وانتهاؤه، وإليه يرجع الأمر كله، كما ابتدأ منه) جواب شرط مقدر. 
أي، إذا كان القابل ما يترتب عليه من الاستعدادات والكمالات والعلوم والمعارف وغيرها فائضا من الحق تعالى حاصلا منه، فالأمر،أي الشأن بحسب الإيجاد والتكميل، كله منه ابتداء وانتهاء. والمراد بـ (الأمر) المأمور بالوجود بقول (كن). 
كما قال: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون). 
وكما كان هو (أولا) ومبدء لكل شئ، كذلك كان (آخرا) ومرجعا لكل شئ. 
قال تعالى: (وإليه يرجع الأمر كله). أي، ما حصل بالأمر. 
وهذا الرجوع إنما يتحقق عند القيامة الكبرى بفناء الأفعال والصفات والذات فيأفعاله وصفاته وذاته الموجب لرفع الإثنينية وظهور حكم الأحدية. 
هذا إنجعلنا (وإليه يرجع الأمر كله) تكرارا مؤكدا للأول. 
وإن حملناه على التجليات الفائضة بالفيض المقدس كل حين، فنقول أن الحق يتجلى بحكم (كل يوم هو في شأن). 
كل لحظة، بل عند كل آن، لعباده، فينزل الأمر الإلهي من الحضرة الأحدية، ثم الواحدية إلى المرتبة العقلية الروحية، ثم اللوحية، ثم الطبيعة الكلية، ثم الهيولى الجسمية، ثم العرش، ثم الكرسي والسماوات السبع منحدرا من المراتب الكلية إلى الجزئية، إلى أن ينتهى إلى الإنسان منصبغا بأحكام جميع ما مر عليه، في آن واحد من غير تخلل زمان، كذلك إذا انتهى إليه وانصبغ بأحكام الغالبة عليه، ينسلخ منه انسلاخا معنويا ويرجع إلى الحضرة الإلهية.
فإن كان المنتهى إليه من الكمل، فالنازل يكون قد تم دائرته وصارت آخريته عين أوليته لأنه مظهر المرتبة الجامعة الإلهية.
وإن كان من السائرين الذين قطعوا بعض المنازل والمقامات، أو الباقين في أسفل السافلين والظلمات، فيكون قطع نصف الدائرة أو أكثر، ثم انسلخ ورجع إلى الحضرة بالحركة المعنوية. فمعنى قوله: (وإليه يرجع الأمر كله) أي، إلى الله يرجع الأمر التجلي الإلهي النازل كللحظة إلى العالم الإنساني، كما ابتدأ منه.
قوله: (فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة). رجوع إلى ما كان بصدد بيانه، أو جواب (لما) والفاء للسببية. 
أي، بسبب أن الحق أوجد العالم وجود شبح لا روح فيه وكان كمرآة غير مجلوة، اقتضى الأمر الإلهي جلاء مرآة العالم ليحصل ما هو المقصود منها، وهوظهور الأسرار الإلهية المودعة في الأسماء والصفات التي مظهر جميعا الإنسان إجمالا وتفصيلا. 
وكان آدم، أي الإنسان الكامل، عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة، إذ بوجوده تم العالم وظهر أسراره وحقائقه. 
فإن ما في العالم موجود ظهر له حقيقته وحقيقة غيره بحيث إنه علم أن عين الأحدية هي التي ظهرت وصارت عين هذه الحقائق إلا الإنسان. 
وإليه الإشارة بقوله: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض) أي، على أهل السماوات والأرض من ملكوتها وجبروتها. 
(فأبين أن يحملنها) حيث ما أعطيت استعداداتهم تحملها. 
(وحملهاالإنسان) لما في استعداده ذلك. (إنه كان ظلوما جهولا). أي، ظلوما على نفسه مميتا إياها مفنيا ذاته في ذاته تعالى، جهولا لغيره.
ناسيا لما سواه نافيا لما عداه بقوله: (لا اله إلا الله) فالأرواح المجردة وغيرهم وإن كانوا عالمين بالأشياء المنتقشة فيهم الصادرة عن الحق بواسطتهم، لكنهم لم يعلموا حقائقها وأعيانها الثابتة كما هي، بل صورها ولوازمها، ولذلك أنبأهم آدم بأسمائهم عند عجزهم عن الإنباء واعترافهم بقولهم: (لا علم لنا إلا ما علمتنا). 
وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وما منا إلا له مقام معلوم). أي، لا نتعدى طورنا. 
كما قال جبرئيل،عليه السلام: (لو دنوت أنملة لاحترقت.)
قوله: (وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير) عطف على قوله: (فكان آدم). 
والمراد بـ (الملائكة) هنا غير أهل الجبروت والنفوس المجردة.
لذلك قال: (من بعض قوى تلك الصورة) إذ أنواع الروحانيات متكثرة: منهم أهل الجبروت،كالعقل الأول والملائكة المهيمة والعقول السماوية والعنصرية البسيطة والمركبةالتي هي المولدات الثلاث على اختلاف طبقاتها وصنوفها ودرجاتها، ومنهم أهل الملكوت، كالنفس الكلية والنفوس المجردة السماوية والعنصرية البسيطة والمركبة.
على أن ما في الوجود شئ إلا وله من الجبروت والملكوت عقل ونفس، ومنهم النفوس المنطبعة في الأجرام العلوية والسفلية.
ومنهم القوى الجسمانية التي هي سدنة النفوس المنطبعة، ومنهم الجن والشياطين. 
ولا يطلق القوى إلا على التوابع من القوى الروحانية والنفوس المنطبعة وتوابعها كما يقال: قوى الروح وقوى القلب. 
ولا يجعل (القلب) و (الروح) قوة من القوى، لأنهما سيدا جميع المظاهر.
وإنما عبر عن (العالم) في الاصطلاح القوم، أي أهل التصوف، بـ (الإنسان الكبير) لأن جميع ما في العالم عبارة عن مجموع ما اندرج في النشأة الإنسانية.
كما مر التنبيه عليه من أن أعيان العالم هو تفصيل النشأة الإنسانية، فالإنسان عالم صغير مجمل صورة، والعالم إنسان كبير مفصل. 
وإنما قيد (صورة)لأن الإنسان هو العالم الكبير مرتبة، والعالم هو الإنسان الصغير درجة، لأن الخليفة مستعلية على ما استخلف عليه.
فقوله: (فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية والحسية التي هي في النشأة الإنسانية) نتيجة لما ذكره. 
أي، لما كانت الملائكة من بعض قوى صورة العالم والعالم هو الإنسان الكبير، صارت نسبة الملائكة إلى العالم كنسبة القوى الروحانية والحسية إلى الإنسان.
فكما أن النفس الناطقة المدبرة للبدن مدبر بالقوى الروحانية التي هي العقل النظري والعملي والوهم والخيال وما شابهها والحيوانية والنباتية كالحواس الخمس الظاهرة والغاذية والنامية والمولدة للمثل وغيرها، كذلك النفس الكلية مدبرة للعالم كله بواسطة الملائكة المدبرة.
كما قال تعالى: (فالمدبرات أمرا)وهي روحانيات الكواكب السبعة وغيرها من الثوابت وأجرامها.
قوله(وكل قوة منها محجوبة بنفسها، لا ترى أفضل من ذاتها) أي، كلواحدة من هذه القوى الروحانية سواء كانت داخلية في النشأة الإنسانية أو خارجية منها، محجوبة بنفسها، لا ترى أفضل من نفسها، كالملائكة التي نازعت في آدم.
وكالعقل والوهم، فإن كلا منهما يدعى السلطنة على هذا العالم الإنساني ولا ينقاد لغيره، إذ العقل يدعى أنه محيط بإدراك جميع الحقائق والماهيات، على ما هي عليه، بحسب قوته النظرية.
وليس كذلك، ولهذا انحجب أرباب العقول عن إدراك الحق والحقائق لتقليدهم عقولهم. 
وغاية عرفانهم العلم الإجمالي بأن لهم موجدا ربا منزها عن الصفات الكونية، ولا يعلمون من الحقائق إلا لوازمها وخواصها. 
وأرباب التحقيق وأهل الطريق علموا ذلك مجملا وشاهدوا تجلياته وظهوراته مفصلا، فاهتدوا بنوره وسروا في الحقائق سريان تجليه فيها وكشفوا عنها خواصها ولوازمها، كشفا لا تمازجه شبهة، وعلموا الحقائق علما لا يطرأ عليه ريبة.
فهم عباد الرحمان الذين يمشون في أرض الحقائق هونا وأرباب النظر عباد عقولهم الصادر فيهم: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم). 
أي، جهنم البعد والحرمان عن إدراك الحقائق وأنواره، أي، لا يقبلون إلا ما أعطته عقولهم. وهكذا الوهم يدعى السلطنة و يكذبه في كل ما هو خارج عن طوره، لإدراكه المعاني الجزئية دون الكلية. ولكل منهما نصيب من السلطنة.
قوله: (وأن فيها فيما تزعم، الأهلية لكل منصب عال ومنزلة رفيعة عند الله، لما عندها من الجمعية الإلهية) جملة ابتدائية أو حالية أو عطف على (أفضل). 
وعلى الأول (إن) مكسورة، وعلى الثاني والثالث مفتوحة. وضمير
(فيها) على التقادير الثلاثة عائد إلى (النشأة) وفاعل (تزعم) ضمير يرجع إليها أيضا. 
و (ما) (فيما تزعم) مصدرية. و (الأهلية) منصوب على أنها اسم (أن). 
وضمير (لما عندها) عائد إلى (النشأة). فمعناه، على كسر الهمزة: وإنفي النشأة الإنسانية الأهلية لكل منصب عال، كما في زعمها لما عندها من الجمعية الإلهية. 
وعلى فتحها حالا: أي، والحال أن في النشأة الإنسانية الأهلية كما فيزعمها لما عندها من الجمعية الإلهية. 
وإسناد (الزعم) إلى (النشأة) مجاز. أي، كما في زعم أهلها. إذ كل فرد من أفراد هذا النوع يزعم أن له الأهلية لكل منصب عال. 
وعلى فتحها عطفا، معناه: أن كل قوة محجوبة بنفسها لا ترى أفضل منذاتها ولا ترى أن في النشأة الإنسانية الأهلية لكل منصب عال، كما تزعم هذه النشأة بسبب الجمعية التي عندها، لاحتجابها بنفسها عن إدراك كمال غيرها لزعمها أن لها الأهلية، لا للنشأة. 
وفي بعض النسخ: (مايزعم). أي، شيئا يزعم وهو القلب أو العقل أو الوهم:
أما القلب فلكونه سلطانا في هذه النشأة، وأما العقل فلادعائه إدراك الحقائق كلها، وأماالوهم فلسلطانه على العالم الحسى و إدراكه المعاني الجزئية. 
فيكون (الأهلية) منصوبة بيزعم، و (ما) اسما. و الظاهر أنه تصرف ممن لا يقدر على حل تركيبه، لأن أكثر النسخ المعتبرة المقروة علىالشيخ وتلاميذه بخلاف ذلك.
قوله: (بين ما يرجع من ذلك إلى الجناب الإلهي، وإلى جانب حقيقة الحقائق و، في النشأة الحاملة لهذه الأوصاف، إلى ما يقتضيه الطبيعة الكلية). 
وفي بعض النسخ: (الطبيعة الكل). فـ (الكل) بدل منها أو عطف بيان لها.
قوله: (التي حضرت قوابل العالم كله أعلاه وأسفله) إشارة إلى أن هذهالجمعية حاصلة لها من أمور ثلاثة دائرة بينها:
أولها، راجع إلى الجناب الإلهي. وهو الحضرة الواحدية، حضرة الأسماء والصفات التي لكل موجود منها وجه خاص إليه من غير واسطة. كما مر تقريره.
ثانيها، راجع إلى الحضرة الإمكانية الجامعة لحقائق الممكنات الموجودة والمعدومة. 
وهو الوجه الكوني الذي به تميزت عن الربوبية واتصفت بالعبودية وحقيقة الحقائق كلها. 
وإذ كانت هي الحضرة الأحدية والواحدية لكن لما جعلها قسيما ومقابلا للجناب الإلهي الشامل للحضرة الأحدية والواحدية وكان المراد منها الحقائق الكونية فقط لا الإلهية، حملناها على حضرة الإمكان. 
وقد تطلق ويراد بها حضرة الجمع والوجود، وهي مرتبة الإنسان الكامل، كما ذكره شيخنا، قدس الله روحه، في كتاب المفتاح. 
وقد يطلق أيضا ويراد بها (الجواهر)، كماصرح به الشيخ في كتاب إنشاء الدوائر. وذكر فيه أنه أصل العالم كله. وهذاالنص يؤكد ما ذهبنا إليه من أن المراد بها ما يجمع حقائق الكونية لا الإلهية، لذلكجعلها قسيما للجناب الإلهي.
وثالثها، راجع إلى الطبيعة الكلية وهي مبدأ الفعل والانفعال في الجواهر كلها، وهي القابلة لجميع التأثيرات الأسمائية. 
وذلك إشارة إلى (ما) فيقوله: (ما يرجع). و (من) زائدة. أي، تلك الجمعية دائرة بين شئ يرجع ذلك الشئ إلى الجناب الإلهي، وبين شئ يرجع إلى جناب حقيقة الحقائق، وبين شئ يرجع إلى ما يقتضيه الطبيعة الكلية. 
والمراد بقوله: (وإلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية) الاستعداد الخاص الحاصل لصاحب هذه الجمعية وقابليته فيهذه النشأة الطبيعية التي حصرت قوابل العالم كله أعلاه وأسفله.
ففي قوله: (وفي النشأة الحاملة لهذه الأوصاف، إلى ما تقتضيه الطبيعةالكلية) تقديم وتأخير. تقديره: وإلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية في هذه النشأة الحاملة لهذه الأوصاف. 
والمراد بـ (النشأة) هنا النشأة العنصرية، إذ للإنسان ثلاث نشآت: 
روحية، وطبيعية عنصرية، ومرتبية، وهي مقام الجمع بينهما. 
والمراد ب (الأوصاف) الكمالات الإنسانية. ويجوز أن يكون المراد بها القوى الروحانية والجسمانية، لذلك قال: (في النشأة الحاصلة لهذه الأوصاف) أي،النشأة التي تحمل هذه القوى جميعا لتضاهي به مقام الجمع الإلهي والكمالات لا توصف بالمحمولية.
وإنما سماها (أوصافا) مجازا، لأنها لا يقوم بنفسها، كما لا يقوم الصفات إلا بموصوفها، ولأنها مبدأ الأوصاف، فأطلق اسم الأثر على المؤثر مجازا. 
وكل من المعنيين يستلزم الآخر، إذ بين الأثر والمؤثر ملازمة من الطرفين. 
والمراد بـ (العالم) يجوز أن يكون عالم الملك السماوي والعلوي والعنصري السفلى، ويجوز أن يراد به العالم كله، الروحاني والجسماني.
لان مرتبة الطبيعة الكلية محيطة بالعالم الروحاني والجسماني وحاصرة لقوابلهما، والعلو والسفل يكونان فيهما بحسب المرتبة، فالعلو للعالم الروحاني والسفل للعالم الجسماني.
قوله: (وهذا لا يعرفه عقل بطريق نظر فكري، بل هذا الفن من الإدراك لا يكون إلا عن كشف إلهي منه يعرف ما أصل صور العالم القابلة لأرواحه) .
أي، هذا الأمر المذكور وتحقيقه، على ما هو عليه، طور وراء أطوار العقل، أي النظري، فإن إدراكه يحتاج إلى نور رباني يرفع الحجب عن عين القلب ويحدبصره فيراه القلب بذلك النور، بل يكشف جمع الحقائق الكونية والإلهية. 
وأما العقل بطريق النظر الفكري وترتيب المقدمات والأشكال القياسية، فلا يمكن أن يعرف من هذه الحقائق شيئا، لأنها لا تفيد إلا إثبات الأمور الخارجية عنها اللازمة إياها لزوما غير بين. والأقوال الشارحة لا بد وأن يكون أجزاؤها معلومة قبلها إنكان المحدود مركبا، والكلام فيها كالكلام في الأول. 
وإن كان بسيطا لا جزء له في العقل ولا في الخارج، فلا يمكن تعريفه إلا باللوازم البينة، فالحقائق على حالها مجهولة. 
فمتى توجه العقل النظري إلى معرفتها من غير تطهير المحل من الريون الحاجبة إياه عن إدراكها، كما هي، يقع في تيه الحيرة وبيداء الظلمة ويخبط خبطةعشواء. 
وأكثر من أخذت الفطانة بيده وأدرك المعقولات من وراء الحجاب لغاية الذكاء وقوة الفطنة من الحكماء زعم أنه أدركها على ما هي عليه، ولما تنبه في آخر أمره، إعترف بالعجز والقصور. كما قال أبو على عند وفاته عن نفسه:
يموت وليس له حاصل * سوى علمه أنه ما علم وقال أيضا:
إعتصام الورى بمغفرتك  ....    عجز الواصفون عن صفتك 
تب علينا فإننا بشر   .....     ما عرفناك حق معرفتك 

وقال الإمام:
نهاية إدراك العقول عقال  .....   وغاية سعى العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا  .....  سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
وأما الذات الإلهية فحار فيها جميع الأنبياء والأولياء، كما قال، صلى الله عليه وسلم: "ما عرفناك حق معرفتك" و "ما عبدناك حق عبادتك". 
وقال أبو بكر،رضى الله عنه: "العجز عن درك الإدراك إدراك"
وقال آخر:
قد تحيرت فيك خذ بيدي   .....     يا دليلا لمن تحير فيكا
وقال الشيخ:
ولست أدرك من شئ حقيقته  ....    وكيف أدركه وأنتم فيه
وإنما قيد قوله: (بطريق نظري فكري) لأن القلب إذا تنور بالنور الإلهي، يتنور العقل أيضا بنوره ويتبع القلب، لأنه قوة من قواه، فيدرك الحقائق بالتبعية إدراكا مجردا من التصرف فيها، ويسلم أمره إلى الله المتصرف بالحقيقة في كل شئ.
ويعترف اعترافه الأول بقوله: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم."
قوله: (منه يعرف)... أي، من الكشف الإلهي يعرف ما الذي ظهر على صور العالم التي قبلت لأرواحه. 
وضمير (أرواحه) عائد إلى (العالم). وإنما قيد (الكشف) بـ (الإلهي) لخروج الصوري والملكي والجني، وكشف الخواطر والضمائر وأمثالها، فإنها لا تعطى ذلك. 
بل كشف الحقائق الأسمائية والتجليات الصفاتية تعد القلوب للتجليات الذاتية المفنية لما سواها الجاعلة لجبال الإنيات دكا، فتفنى فيها فناء يوجب البقاء الأبدي، فتطلع بحقيقتها وحقيقةغيرها بالحق، وتعلم أن الذات الإلهية هي التي تظهر بصور العالم، وأن أصل تلك الحقائق وصورها، تلك الذات، وأنها هي التي ظهرت في الصورة الجوهرية المطلقة التي قبلت هذه الصور كلها من حيث قيوميتها.
والمراد بـ (الصور) يجوز أن يكون الأجسام القابلة للأرواح، ويجوز أن يكون الأجسام والأجساد المثالية والهياكل النورية، فيكون مشتملا على جميع العقول والنفوس المجردة وغير المجردة والجن وغيرها، لأن لكل منها صورة في عالم الأرواح حسب ما يليق بكمالاته، كما مر بيانه في المقدمات.
(فسمى هذا المذكور إنسانا وخليفة. فأما إنسانيته فلعموم نشأته وحصره الحقائق كلها. 
وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي به يكون النظر، وهوالمعبر عنه بالبصر، فلهذا سمى إنسانا) 
أي، سمى هذا الكون الجامع إنسانا وخليفة. 
أما تسميته (إنسانا) فلوجهين:
أحدهما، عموم نشأته. أي، اشتمال نشأته المرتبية على مراتب العالم وحصره الحقائق، أي المفصلة في العالم. 
وذلك لأن (الإنسان) إما مأخوذ من (الأنس) أو من (النسيان)
فإن كان من (الأنس)، وهو ما يؤنس به، فهو حاصل للإنسان لكونه مجمع الأسماء ومظاهرها وتؤنس به الحقائق وتحصر في نشئاته الجسمانية والروحانية والمثالية لإحاطة النشأة إياها. 
وإن كان من (النسيان)، وهو الذهول عن بعض الأشياء بعد التوجه إليه بالاشتغال إلى غيره، فالإنسان
بحكم اتصافه بـ (كل يوم هو في شأن) لا يمكن وقوفه بشأن واحد. وهذا، أيضا يقتضى العموم والإحاطة، إذ لو لم تكن نشأته محيطة بها، لكانت على منوال واحد ونسق معين كغيره من الموجودات. 
وأيا ما كان سمى الإنسان إنسانا، لهذه المناسبة الجامعة بين الاسم والمسمى.
وثانيهما، أنه للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي يحصل به النظر،
وهو الذي يعبر عنه بالبصر وكما أن إنسان العين هو المقصود والأصل من العين، إذ به يكون النظر ومشاهدة عالم الظاهر الذي هو صورة الحق، كذلك الإنسان هو المقصود الأول من العالم كله، إذ به يظهر الأسرار الإلهية والمعارف الحقيقية المقصودة من الخلق، وبه يحصل اتصال الأول بالآخر، وبمرتبته يكمل مراتب عالم الباطن والظاهر.
ففي قوله: (وهو للحق) أي، الإنسان للحق.
(بمنزلة إنسان العين) إشارة إلى نتيجة قرب الفرائض، وهو كون العبدسمع الحق وبصره ويده، الحاصلة للإنسان الكامل عند فناء الذات وبقائها به فيمقام الفرق بعد الجمع. وهذا أعلى رتبة من نتيجة قرب النوافل، وهو كون الحق سمع العبد وبصره، لأنه عند فناء الصفات فالإنسان الذي للحقبمنزلة إنسان العين من العين هو الإنسان الكامل لا غير. 
وأيضا، الكامل لكونه واسطة بين الحق والعالم باعتبار، صار بمنزلة إنسان العين من العين، لأنه أيضا واسطةبين الرائي الحقيقي وبين المرئي.
قوله: (فإنه به نظر الحق إلى الخلق فرحمهم) 
تعليل لقوله: (وهوللحق بمنزلة إنسان العين من العين) 
وإشارة إلى أن الكامل هو سبب إيجاد العالم وبقائه وكمالاته أزلا وأبدا دنيا وآخرة. 
وذلك إما في العلم: فلأن الحق تعالى لما تجلى لذاته بذاته وشاهد جميع صفاته وكمالاته في ذاته وأراد أن يشاهدها في حقيقة تكون له كالمرآة .
كما ذكره في أول الفص - أوجد (الحقيقة المحمدية) التي هي حقيقة هذا النوع الإنساني في الحضرة العلمية.
فوجدت حقائق العالم كلها بوجودها، وجودا إجماليا، لاشتمالها عليها من حيث مضاهاتها للمرتبة الإلهية الجامعة للأسماء كلها، ثم أوجدهم فيها وجودا تفصيليا، فصارت أعيانا ثابتة،كما تقرر في موضعها. 
وإما في العين بحسب وجوداتهمفلأنه جعل الوجودالخارجي مطابقا للوجود العلمي بإيجاد العقل الأول الذي هو النور المحمدي .
المعرب عنه: (أول ما خلق الله نوري) أولا، ثم غيره من الموجودات التي تضمنها العقل الأول وعلمها ثانيا. 
وإما بحسب كمالاتهم: فلأنه جعل قلب الإنسان الكامل مرآة التجليات الذاتية والأسمائية ليتجلى له أولا، ثم بواسطته تجلى للعالم، كانعكاس النور من المرآة المقابلة للشعاع إلى ما يقابلها، فأعيانهم في العلم والعين وكمالاتهم إنما حصلت بواسطة الإنسان الكامل .
وأيضا، لما كان الإنسان مقصودا أوليا ووجوده الخارجي يستدعى وجود حقائق العالم، أوجد أجزاء العالم أولا ليوجد الإنسان آخرا، لذلك جاء في الخبر: "لولاك لما خلقت الأفلاك". 
وهذا الشهود الأزلي، والإيجاد العلمي والعيني عبارة عن النظر إليهم وإفاضة الرحمة الرحمانية المجملة والرحيمية المفصلة عليهم، إذ جميع الكمالات مترتبة على الوجود لازمة له. 
فالوجود هو الرحمة الأصلية التي يتبعها جميع أنواع الرحمة والسعادة الدنيوية والأخروية.
قوله: (فهو الإنسان الحادث الأزلي والنشيء الدائم الأبدي والكلمة الفاصلة الجامعة) نتيجة لما ذكر. 
أي، إذا كان به نظر الحق إلى خلقه فرحمهم بإعطاء الوجود، فهو الحادث الأزلي: أما حدوثه الذاتي فلعدم اقتضاء ذاته من حيث هي هي الوجود.
وإلا لكان واجب الوجود، وأما حدوثه الزماني فلكون نشأته العنصرية مسبوقة بالعدم الزماني، وأما أزليته فبالوجود العلمي، لأن العلم نسبة بين العالم والمعلوم وهو أزلي، فعينه الثابتة أزلية، وبالوجود العيني الروحاني، فلأنه غير زماني متعال عنه وعن أحكامه مطلقا. 
وإليه أشار النبي، صلى الله عليه وسلم، بقوله: (نحن الآخرون السابقون). 
والفرق بين أزلية المبدع إياها أن أزلية الحق تعالى نعت سلبي ينفى الأولية بمعنى افتتاح الوجود
عن العدم لأنه عين الوجود، وأزليتها دوام وجودها بدوام الحق مع افتتاح الوجودعن العدم لكونه من غيرها. 
وأما دوامه وأبديته، فلبقائه ببقاء موجده دنيا وآخرة وأيضا، كل ما هو أزلي فهو أبدى وبالعكس.
وإلا يلزم تخلف المعلول عن العلة، أو التسلسل في العلل، لأن علته إن كانت أزلية لزم التخلف، وإن لم يكن كذلك، لزم استنادها أيضا إلى علة حادثة بالزمان.
وحينئذ إن كان للزمانفيها مدخل، يجب أن يكون معلولها غير أبدى لكون أجزاء الزمان متجددة متصرمة بالضرورة والفرض بخلافه، وإن لم يكن له فيها مدخل، فالكلام فيها كالكلام في الأول، فيتسلسل.
والتسلسل في العلل التي لا مدخل للزمان فيها باطل، وإلا يلزم نفى الواجب. 
فالأبديات مستندة إلى علل أزلية أبدية، كما أن الحوادث الزمانية مستندة إلى علل متجددة متصرمة. 
والنفوس الناطقة الإنسانية حدوثها بحسب التعلق إلى الأبدان لا بحسب ذواتها. 
والصور الأخراوية كما أنها أبدية، كذلك أزلية حاصلة في الحضرة العلمية والكتب العقلية والصحف النورية وإن كانت ظهورها بالنسبة إلينا حادثا بالحدوث الزماني فلا تردد وأماكونه كلمة فاصلة، فلتميزه بين المراتب الموجبة للتكثر والتعدد في الحقائق، بل هو المفصل لما تحويه ذاته بظهوره بحسب غلبة كل صفة عليه في صورة تناسبهاعلما وعينا، وإليه الإشارة بكونه، عليه السلام: (قاسما بين الجنة والنار). 
إذ هذه القسمة واقعة أزلا، والآخر مطابق للأول. وأما كونه كلمة جامعة، فلإحاطة حقيقته بالحقائق الإلهية والكونية كلها علما وعينا.
وأيضا، هو الذي يفصل بين الأرواح وصورها في الحقيقة، وإن كان الفاصل ملكا معينا لأنه بحكمه يفصل، وكذلك هو الجامع بينهما، لأنه الخليفة الجامعة للأسماء ومظاهرها.
قوله: (فتم العالم بوجوده) أي، لما وجد هذا الكون الجامع، تم العالمبوجوده الخارجي لأنه روح العالم المدبر له والمتصرف فيه. 
ولا شك أن الجسد لا يتم كماله إلا بروحه التي تدبره وتحفظه من الآفات. 
وإنما تأخر نشأته العنصرية في الوجود العيني لأنه لما جعلت حقيقته متصفة بجميع الكمالات جامعة لحقائقها، وجب أن يوجد الحقائق كلها في الخارج قبل وجوده حتى تمر عند تنزلاته عليها فيتصف بمعانيها طورا بعد طور من أطوار الروحانيات والسماويات والعنصريات، إلى أن يظهر في صورته النوعية الحسية. 
والمعاني النازلة عليه من الحضرات الأسمائية لا بد أن تمر على هذه الوسائط أيضا، إلى أن يصل إليه وتكمله. 
وذلك المرور إنما هو لتهيئة استعداده للكمالات اللائقة به، ولاجتماعما فصل من مقام جمعه من الحقائق والخصائص فيه، وللإشهاد والاطلاع على ماأريد أن يكون خليفة عليه، ولهذا لا تجعل خليفة وقطبا إلا عند انتهاء السفر الثالث، ولولا هذا المرور لما أمكن العروج للكمل، إذ الخاتمة مضاهية للسابقة وبه تتم الحركة الدورية المعنوية.
وما يقال: (إن علم الأولياء تذكري لا تفكري). 
وقوله، عليه السلام: "الحكمة ضالة المؤمن" . إشارة إلى هذا المعنى، لا إلى أنه وجد في النشأة العنصرية مرة أخرى، ثم عرض له النسيان بواسطة التعلق بنطفة أخرى ومرور الزمان عليه إلى أوان تذكره، كما على رأى أهل التناسخ.
وأيضا، لما كان عينه في الخارج مركبا من العناصر المتأخر عن الأفلاك وأرواحها وعقولها، وجب أن توجد قبله لتقدم الجزء على الكل بالطبع.
قوله: (فهو من العالم كفص الخاتم من الخاتم الذي هو محل النقش والعلامة التي بها يختم الملك على خزائنه وسماه (خليفة) من أجل هذا) شروع في بيان تسميته بـ (الخليفة). 

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 11:24 pm

10 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني

شبه حال الإنسان باعتبارية:
إعتبار كونه من العالم، واعتبار كونه عالما آخر برأسه، له شأن آخر بالفص، لأن الفص أيضا قد يكون جزء من الخاتم وهو محل النقش، وقد يكون مركبا عليه.
وإنما يركب في الخاتم ليكون جزء منه عند الفراغ من عمله فهو آخر العمل، كذلك الإنسان نوع من الحيوان وآخر ما ينتهى به دائرة وجود العيني.
وكما أن الفص له شأن آخر وهو كونه محل النقوش التي بها يختم ويحفظ الخزائن، كذلك الإنسان هو محل جميع نقوش الأسماء الإلهية والحقائق الكونية التي يتمكن بها من (الخلافة). وبهذاالاعتبار سماه الحق (خليفة) بقوله: "إني جاعل في الأرض خليفة" 
قوله: (لأنه الحافظ خلقه كما يحفظ بالختم الخزائن، فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلا بإذنه.
فاستخلفه في حفظ العالم ، فلا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل) تعليل لتسميته بالخليفة .
وذلك لأن الملك إذاأراد أن يحفظ خزائنه عند غيبته عنها، يختم عليها لئلا يتصرف فيها أحد فيبقى محفوظة، فالختم حافظ لها بالخلافة لا بالأصالة.
فكذلك الحق يحفظ خلقه بالإنسان الكامل عند استتاره بمظاهر أسمائه وصفات عزه، وكان هو الحافظ لها قبل الاستتار والاختفاء وإظهار الخلق، فحفظ الإنسان لها بالخلافة، فسمى بـ (الخليفة) لذلك.
وحفظه للعالم عبارة عن إبقاء صور أنواع الموجودات على ما خلقت عليها الموجب لإبقاء كمالاتها وآثارها باستمداده من الحق التجليات الذاتية والرحمة الرحمانية والرحيمية بالأسماء والصفات التي هذه الموجودات صارت مظاهرها ومحل استوائها.
إذ الحق إنما يتجلى لمرآة قلب هذا الكامل، فينعكس الأنوار منقلبه إلى العالم، فيكون باقيا بوصول ذلك الفيض إليها، فما دام هذا الإنسان موجودا في العالم يكون محفوظا بوجوده وتصرفه في عوالمه العلوية والسفلية.
فلا يجسر أحد من حقائق العالم وأرواحها على فتح الخزائن الإلهية والتصرف فيها إلا بإذن هذا الكامل، لأنه هو صاحب الاسم الأعظم الذي به يرب العالم كله.
فلا يخرج من الباطن إلى الظاهر معنى من المعاني إلا بحكمه، ولا يدخل من الظاهر في الباطن شئ إلا بأمره، وإن كان يجهله عند غلبة البشرية عليه، فهو البرزخ بين البحرين والحاجز بين العالمين.
وإليه الإشارة بقوله: "مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ".
قوله: (ألا تراه إذا زال وفك من خزانة الدنيا لم تبق فيها ما اختزنه الحق فيها وخرج ما كان فيها، والتحق بعضه ببعض، وانتقل الأمر إلى الآخرة، فكانختما على خزانة الآخرة ختما أبديا) تعليل واستشهاد لقوله: (فلا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل).
(ألا تراه) أي، ألا ترى الإنسان الكامل. (إذا زال وفك) أي، فارق وانتقل من الدنيا إلى الآخرة ولم يبق في الأفراد الإنساني من يكون متصفا بكماله ليقوم مقامه، ينتقل معه الخزائن الإلهية إلى الآخرة، إذ الكمالات كلها ما كانت قائمة مجموعة ومنحصرة محفوظة إلا به، فلما انتقل، انتقلت معه ولم يبق في خزانة الدنيا ما اختزنه الحق فيها من الكمالات.
فان قلت: الكامل ختم حافظ للخزائن، ولا يلزم من انتقال الختم الحافظ انتقال الخزائن، فكيف قال: (ولم يبق فيها ما اختزنه الحق)؟
قلت: الكامل ختم للخزائن وحافظ لوجودها، إذ الأسرار الإلهية مفصلة في العالم ومجموعة في الكامل، كما قال الشاعر:
كل الجمال غدا لوجهك مجملا  ...  لكنه في العالمين مفصلا
ولا يتجلى الحق على العالم الدنيوي إلا بواسطته، كما مر، فعند انتقاله ينقطع عنه الإمداد الموجب لبقاء وجوده وكمالاته، فينتقل الدنيا عند انتقاله ويخرج ما كان فيها من المعاني والكمالات إلى الآخرة.
قال، رضى الله عنه، في التسمية الإلهي بالاسم الرباني: (ألا ترى الدنيا باقية ما دام هذا الشخص الإنسان فيها) والكائنات يتكون والمسخرات تتسخر، فإذا انتقل إلى الدار الآخرة، مارت
هذه السماء مورا وسارت الجبال سيرا ودكت الأرض دكا، وانتشرت الكواكب وكورت الشمس وذهبت الدنيا وقامت العمارة في الدار الآخرة بنقل الخليفة إليها.
قوله(والتحق بعضه ببعض) أي، التحق بعض ما اختزنه الحق في الدنيا ببعض ما اختزنه في الآخرة.
وذلك لأن كل ما هو موجود في الظاهر من الحقائق والمعاني موجودة في عالم الباطن الذي بظهوره يحصل الآخرة على صورة يقتضيهاعالمها، وهو أصل بالنسبة إلى ما في الظاهر.
فإذا انتقل هذا البعض منها، التحق ببعضه الذي هو أصله في الآخرة، وانتقل الأمر الإلهي إليها.
(فكان ختما) أي، هذا الكامل كان ختما حافظا على خزانة الآخرة ختما أبديا.
وهذا معنى ما يقال: إن القرآن يرفع إلى السماء، لأنه خلق الكامل، كما قالت عائشة: (وكان خلقه القرآن).
بل هو القرآن والكتاب المبين الإلهي. كما قال، رضى الله عنه:
أنا القرآن والسبع المثاني  .....  وروح الروح لا روح الأواني
فؤادي عند مشهودى مقيم  .....  يشاهده وعندكم لساني
 قال أمير المؤمنين على، كرم الله وجهه:
وأنت الكتاب المبين الذي  ....   بأحرفه يظهر المضمر
وجاء في الخبر أيضا: "أن الحق تعالى ينزع العلم بانتزاع العلماء حتى لم يبقعلى وجه الأرض من يعلم مسألة علمية ومن يقول: الله الله، ثم عليهم تقوم القيامة" وكون الكامل ختما على خزانة الآخرة، دليل على أن التجليات الإلهية لأهل الآخرة.
إنما هي بواسطة الكامل كما في الدنيا، والمعاني المفصلة لأهلها متفرعة عن مرتبته ومقام جمعه أبدا، كما تفرع منها أزلا، فما للكامل من الكمالات في الآخرة لا يقال بما له من الكمالات في الدنيا، إذ لا قياس لنعم الآخرة بنعم الدنيا.
وقد جاء في الخبر الصحيح: "إن الرحمة مأة جزء. جزء منهالأهل الدنيا، وتسعة وتسعون لأهل الآخرة"  ومن يتحقق بهذا المقام ويمعن النظر فيه، يظهر له عظمة الإنسان الكامل وقدره.
قوله: (فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية، فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود، وبه قامت الحجة لله تعالى على الملائكة) أي، لما استخلف الإنسان وجعله ختما على خزائن الدنيا والآخرة، ظهر جميع مافي الصورة الإلهية من الأسماء في النشأة الإنسانية الجامعة بين النشأة العنصرية والروحانية، أي صارت جميع هذه الكمالات فيها بالفعل.
وقد صرح شيخنا، رضى الله عنه، في كتاب المفتاح: "إن من علامات الكامل أن يقدر على الإحياء والإماتة وأمثالهما" . وإطلاق (الصورة) على الله مجاز، إذ لا يستعمل في الحقيقة إلا في المحسوسات وفي المعقولات مجازا.
هذا باعتبار أهل الظاهر. وأما عند المحقق فحقيقة، لأن العالم بأسره صورة الحضرةالإلهية تفصيلا، والإنسان الكامل صورته جمعا.
قال النبي، صلى الله عليه وآله: "إن الله خلق آدم على صورته".
فالنشأة الإنسانية حازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود، أي بالوجود العيني، وذلك لأنه حاز بجسمه رتبة الأجسام وبروحه رتبة الأرواح، وبه، أي بهذا الجمع، قامت الحجة على الملائكة لإحاطتهبما لم يحيطوا به.
قوله: (فتحفظ فقد وعظك الله بغيرك، وانظر من أين أتى على من أتى عليه) تنبيه للسالك بالتأدب بين يدي الله تعالى وخلفائه والمشايخ والعلماءوالمؤمنين، لئلا يظهر بالأنانية وإظهار العلم والكمال عندهم، لأنه يسلكللفناء. وذلك لا يحصل إلا برؤية ما لغيره من الكمال وعدم رؤية ما لنفسه لابالعكس. وفيه أقول:
تعلم من العينين إن كنت عاقلا * شهود جمال الغير عند التواصل ولا تك كالطاووس يعشق نفسه * ويبقى ملوما عند كل الكوامل أي، وعظك الله بزجره للملائكة بقوله: (إني أعلم مالا تعلمون)
و (أتى) مبنى للمفعول. يقال: أتاه وأتى به وأتى عليه. وإنما جاء هنا ب (على) لأنهفي معرض التوبيخ والزجر، كأنه قال: وانظر من أين هلك من هلك.
قوله: (فإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذه الخليفة ولا وقفت مع ماتقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية) بيان سبب وقوع الملائكة في التوبيخ.
وليس (الوقوف) هنا بمعنى الشعور والاطلاع وإلا كان الواجب أن يقول: على مايعطيه. فإنه تعدى بـ (على). بل بمعنى الثبوت.
فمعناه: أن الملائكة ما قنعت ولا وقفت مع ما أعطته مرتبة هذه الخليفة أزلا، بحسب نشأته الروحانية، مما هي عليه من التسبيح والتهليل والكمال اللائق بها، بل تعدت عنه وطلبت الزيادة على ما وهبت.
يقال: فلان وقف مع فلان وواقف معه. إذا لم يتعد عنه في السير.
ولم يقف معه. إذا تعدى عنه. وهذا الكلام إشارة إلى ما مر من أن جميع الموجودات ما يأخذون كمالهم إلا من مرتبة الإنسان الكامل، ولا يحصل لهم المدد في كل آن إلا منها، لأن الأسماء كلها مستمدون من اسم (الله) الذي هذا الكامل مظهره.
ويجوز إن يراد بـ (النشأة) ههنا نشأة رتبته الجامعة للنشأتين، ويجوز أن يراد النشأة الروحانية وحدها.
قوله: (ولا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية) بيان سبب آخر، لذلك أعاد قوله: (ولا وقفت). وقوله: (من العبادة) بيان (ما.) وصلة (تقتضيه) محذوفة. تقديره: مع ما تقتضيه حضرة الحق ويطلبه منهم من العبادة.
ومعناه: أنهم ما وقفوا على ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة التي تقتضيها ذواتهم أن يعبد الحق بحسب الأسماء التي صارت مظاهر لها بالانقياد والطاعة لأمره، أو العبادة التي يقتضيها الذات الإلهية أن يعبد بها. وحضرة الحق حضرة الذات، إذ (الحق) اسم من أسماءها.
قوله: (فإنه ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته) تعليل لعدم الوقوف مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة.
أي، لأنه لا يعرف أحد من العباد شيئا من أسماء الحق وصفاته إلا ما تعطى ذات ذلك العبد بحسب استعداده، ولا يعبده أحد إلا بمقدار علمه ومعرفته بالحق، لأن العبادة مسبوقة بمعرفة المعبود من كونه ربا مالكا يستحق العبادة.
وبمعرفة العبد من كونه مربوبا مملوكا يستحق العبودية، فمن لا يعطى استعداد ذاته العلم والمعرفة بجميع الأسماء والصفات،لا يمكنه أن يعبد الحق بجميع الأسماء، لذلك لا يعبد الحق عبادة تامة إلا الإنسانالكامل، فهو العبد التام.
ولاستلزام العبادة المعرفة قال: (فإنه لا يعرف أحد) كما فسر العبادة بالمعرفة في قوله: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"
قوله: (وليس للملائكة جمعية آدم) . (الواو) للحال. أي، والحال أن الملائكة ليس لهم جمعية الأسماء التي لآدم، لكونهم يعبدون الله من حيث اسم خاص معين لا يتعدونه عنه، وآدم يعبده بجميع أسمائه.
قوله: (ولا وقفت مع الأسماء الإلهية إلا التي تخصها) أي، تخص الملائكة.
وضمير الفاعل يرجع إلى (الأسماء). (وسبحت الحق بها) أي،بتلك الأسماء.
(وقدسته، وما علمت أن لله أسماء ما وصل علمها إليها) أي، علم الملائكة إلى تلك الأسماء. (فما سبحته بها) أي، بتلك الأسماء. (ولا قدسته)  ،فغلب عليها ما ذكرناه، وحكم عليها هذا الحال.
فقالت من حيث النشأة: (أتجعل فيها من يفسد فيها)  أي، ما وقفت الملائكة مع الأسماء التي تخص الملائكة وسبحت الحق بها وقدسته. (فغلب عليها) أي، على الملائكة.
(ما ذكرناه) من عدم الوقوف مع ما أعطته مرتبة الإنسان الكامل ومع ما اقتضته حضرة الحق منهامن العبادة والانقياد لكل ما أمر الله به. (وحكم عليها) أي، على الملائكة.
(هذا الحال) أي، عدم الوقوف (فقالت من حيث النشأة) أي، من حيث نشأتهم الخاصة بهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟)
ولا ينبغي أن تحمل (النشأة) على النشأة العنصرية الإنسانية ليكون معناه: فقالت هذا القول من حيث النشأة الجسمية التي هي لآدم، مع غفلتهم عن النشأة الروحية والمرتبية.
لأن قوله: (فلولا نشأتهم تعطى ذلك، ما قالوا في حق آدم ما قالوا) تصريح على أن المراد بالنشأة هنا هي النشأة التي تخصهم.
أي، قالت الملائكة من حيث نشأتهم التي هم عليها: (أتجعل فيها من يفسد فيها؟)و (التسبيح) أعم من (التقديس) لأنه تنزيه الحق عن نقائص الإمكان والحدوث، .
و (التقديس) تنزيهه عنها وعن الكمالات اللازمة للأكوان، لأنهامن حيث إضافتها إلى الأكوان يخرج عن إطلاقها ويقع في نقائص التقييد.
قوله : (وليس إلا النزاع وهو عين ما وقع منهم، فما قالوه في حق آدم هو عين ما هم فيه مع الحق) أي، ليس هذا المعنى الذي غلب وحكم عليهم، وهو القول فيحق آدم، إلا المنازعة والمخالفة لأمر الحق، وهو، أي النزاع، عين ما وقع منهم مع الحق، فما قالوه في حق آدم من النقص والمخالفة هو عين ما هم فيه مع الحق، إذ ليس ذلك النقصان المنسوب إلى آدم إلا المنازعة والمخالفة للحق. وهو، أي ذلك النقصان، عين ما وقع منهم حالة الطعن فيه.
قوله : (فلو لا أن نشأتهم تعطى ذلك، ما قالوا في حق آدم ما قالوه، وهم لا يشعرون) أي، فلو لا أن نشأتهم التي حجبتهم عن معرفة مرتبة آدم تعطى ذلك النزاع.
ماقالوا في حق آدم ما قالوه، وهم لا يشعرون إن استعداداتهم وذواتهم يقتضى ذلك الذي نسبوا إلى آدم، كما قيل: "كل إناء يترشح بما فيه."
وهذا تنبيه على أن الملائكة التي نازعوا في آدم ليسوا من أهل الجبروت، ولامن أهل الملكوت السماوية، فإنهم لغلبة النورية عليهم وإحاطتهم بالمراتب يعرفون شرف الإنسان الكامل ورتبته عند الله وإن لم يعرفوا حقيقته كما هي، بل الملائكة الأرض والجن والشياطين الذين غلبت عليهم الظلمة والنشأة الموجبة للحجاب وفي قوله: "إني جاعل في الأرض خليفة".
بتخصيص (الأرض) بالذكر، و إن كان الكامل خليفة في العالم كله في الحقيقة، إيماء أيضا بأن ملائكة الأرض هم الطاعنون، إذ الطعن لا يصدر إلا ممن هو في معرض ذلك المنصب، وأهل السماوات مدبرات للعالم العلوي بالقصد الأولى، وللسفلى بالقصد الثاني.
وإذا حققت الأمر وأمعنت النظر، تجدهم في هذه النشأة الإنسانية أيضا أنهم هم المفسدون - كما قال الله: "ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".
ألا ترى أن القوة الشهوية والغضبية هما ملكان من ملائكة الأرض، هما اللتان تغلبان على النفس الناطقة ويجعلان لها أسيرا منقادا لأفاعيلهما وأغراضهما.
وعند ذلك تصير النفس (أمارة بالسوء) فهم المفسدون في الحقيقة.
وكون السفك والفساد صادرا من القوى الجسمانية لا الروحانية القلبية، دليل واضح على ما ذهبنا إليه من أن أهل الجبروت والملكوت السماوية لا يتنازعون مع الحق ولا يخالفون أمره ونهيه، إذ القوى الروحانية والقلبية لا يتأتى منهم ما يخالف أمر الله، فافهم


تنبيه
اعلم، أن هذه المقاولة يختلف باختلاف العوالم التي يقع التقاول فيها: فإن كان واقعا في العالم المثالي فهو شبيه المكالمة الحسية.
وذلك بأن يتجلى لهم الحق تجليا مثاليا كتجليه لأهل الآخرة بالصور المختلفة  كما نطق به حديث
(التحول)، وإن كان واقعا في عالم الأرواح من حيث تجردها فهو كالكلام النفسي.
فيكون قول الله لهم إلقاؤه في قلوبهم المعنى المراد، وهو جعله خليفة في الأرض من غيرهم. وقولهم عدم رضاهم بذلك وإنكارهم له، الناشئين من احتجابهم برؤية أنفسهم وتسبيحهم عن مرتبة من هو أكمل منهم، واطلاعهم على نقائصه دون كمالاته.
ومن هذا التنبيه يتنبه الفطن على كلام الله ومراتبه:
فإنه عين المتكلم في مرتبة، ومعنى قائم به في أخرى كالكلام النفسي وإنه مركب من الحروف و معبر بها في عالمي المثالي والحسي بحسبهما.
كما بينا في رسالتنا المسمى بكشف الحجاب عن كلام رب الأرباب. والله أعلم.
قوله : (فلو عرفوا نفوسهم لعلموا، ولو علموا لعصموا) أي، لو عرفوا ذواتهم وحقائقهم، لعلموا لوازمها من كمالاتها ونقائصها وعدم علمها بمرتبة الإنسان الكامل، وبأن لله تعالى أسماء ما يحققوا بها.
ولو علموا ذلك، لعصموا من نقائص الجرح لغيرهم وتزكية أنفسهم.
ولما كان العلم اليقيني موجبا لخلاص النفس عن الوقوع في المهالك غالبا،
قال، رضى الله عنه: (ولوعلموا لعصموا.)
قوله : (ثم لم يقفوا مع التجريح حتى زادوا في الدعوى بما هم عليه من التقديس والتسبيح) أي، ما اكتفوا بالطعن والجرح في آدم، بل زكوا أنفسهم وظهروا بدعوى التقديس والتسبيح، ولو علموا حقيقتهم، لعلموا أن الحق هو المسبح والمقدس لنفسه في مظاهرهم، وأن هذه الدعوى توجب الشرك الخفي.
قوله: (وعند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة تقف عليها، فما سبحتربها بها ولا قدسته عنها تقديس آدم وتسبيحه) .
"الملائكة" هنا هم الطاعنون في آدم، أو الملائكة مطلقا، ليكون (اللام) للعهد في الأول والجنس في الثاني، وكلاهما حق.
فإن كلا منها له مقام معين، لا يمكن له التجاوز عنه ولا تسبيح له إلابحسب ذلك المقام، بخلاف الإنسان فان مقامه يشتمل على جميع المقامات،علوا وسفلا، وهو مسبح فيها كلها، يعلم ذلك من أحاط علمه بمطلع قوله تعالى: و "إن من شئ إلا يسبح بحمده".
وشاهد كيفية تسبيحهم الحسى والمثالي والمعنوي بلسان حالهم واستعدادهم في كل حين، وعرف أنه مسبح في مراتب نقصانه، كما أنه مسبح في مراتب كماله، فنقصانه أيضا من وجه كماله ألا ترى أن (التواب) و (الغفار) و (العفو) و (الرؤف) و (الرحيم) و (المنتقم) و (القهار) .
وأمثالها يقتضى المخالفة والذنب، كاقتضاء (الرب) المربوب و (الرزاق) المرزوق.
فالحكمة الإلهية اقتضت ظهور المخالفة من الإنسان ليظهر منه الرحمة والغفران، كما جاء في الحديث القدسي: "لو لم تذنبوا، لذهبت بكم وخلقتخلقا يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم."
وأيضا، المخالفة للأمر في الظاهر إنما هي للإنقياد بمقتضى الإرادة في الباطن، إذ كل يعمل بمقتضى الاسم الذي هو ربه، فهو في عين الطاعة لربه عند الإتيان بالمعصية وإن كان مخالفا للأمر في الصورة.
وأيضا، الذنب يقتضى الانكسار والافتقار إلى الرحمة والرجاء في المغفرة، و عدمه غالبا يقتضى العجب والأنانية، وهو أشد من الذنب كقوله، عليه السلام:
(... لو لم تذنبوا، لخشيت عليكم ما هو أشد من الذنب: ألا، وهو العجب العجب العجب).
ولهذه الحكمة خلق آدم بيديه، أي بصفاته الجلالية و الجمالية.
ولذلك ظهر في ابني آدم، قابيل وهابيل، ما كان مستورا فيه من الطاعة والمخالفة، فظهر أن الطاعة في أحدهما والمخالفة في آخر.
(فوصف الحق لنا ما جرى) أي، في العلم بين أعيانهم، أو في العالم الروحاني بين أرواحهم. قوله : (لنقف عنده ونتعلم الأدب مع الله تعالى، فلا ندعي مانحن متحققون به، وحاوون عليه بالتقييد، فكيف أن نطلق في الدعوى، فنعم بها ماليس لنا بحال، ولا نحن عنه على علم فنفتضح؟ فهذا التعريف الإلهي مما أدب الحقبه عباده الأدباء الأمناء الخلفاء) ظاهر  
(ثم نرجع إلى الحكمة فنقول، اعلم أن الأمور الكلية وإن لم يكن لها وجود فيعينها، فهي معقولة معلومة بلا شك في الذهن، فهي باطنة لا تزول عن الوجود العيني). أي، نعرض عن حكاية الملائكة ونرجع إلى تقرير الحكمة الإلهية.
ومراده، رضى الله عنه، بيان الارتباط بين الحق والعالم، وأن الإنسان مخلوق على صورته، فبنى أصلا يتفرع عليه المقصود بقوله: (اعلم، أن الأمور الكلية) أي الحقائق اللازمة للطبائع الموجودة في الخارج، كالحياة والعلم والقدرة والإرادة وغيرها، مما هي أمور عقلية ولا أعيان لها في الخارج.
و (إن لم يكن لها وجود في عينها) أي، وإن لم يكن لها ذات موجودة في الخارج، فهي موجودة في العقل بلا شك، فهي باطنة من حيث إنها معقولة ومع ذلك لا تزول عن الوجود العيني ولا ينفك منه، إذ هي من جملة لوازم الأعيان الموجودة في الخارج.
وفي بعض النسخ: (لا تزال عن الوجود الغيبي) على أن (لا تزال) مبنى للمفعول من "أزال، يزيل".
و (الغيبي) بالغين المعجمة والباء. ومعناه: هي باطنة لا يمكن أن يزال عن كونها أمورا عقلية.

(ولها الحكم والأثر في كل ماله وجود عيني) أي، ولهذه الأمور الكلية، التي لا أعيان لها في الخارج منفكة عن التقيد المشخص إياها والمعروضات التي تعرض لها حكم وأثر في الأعيان الكونية والحقائق الخارجية بحسب وجودها وكمالاتها  
أما الأول، فلأن الأعيان معلولة للأسماء، والاسم ذات مع صفة معينة، فالأعيان من حيث تكثرها لا يتحصل إلا بالصفات، وهي هذه الأمور الكلية التي لا أعيان لها في الخارج. ولهذا ذهب الحكماء أيضا إلى أن علم الواجب فعلى وسبب لوجود الموجودات، وهكذا القدرة والإرادة المعبرة عنها بالعناية الإلهية.
وأما الثاني، فلأن العين الموجودة إن لم يكن لها الحياة، لا توصف بأنها حية ولا يتصف بأنواع الكمالات، إذ العلم والقدرة والإرادة كلها مشروطة بالحياة، وكذلك العلم إن لم يكن حاصلا، لم يكن لها إرادة وقدرة، لأنهما لا يتعلقان إلابالمعلوم. وهكذا جميع الصفات.
فهذه الأمور الكلية حاكمة على الطبائع التي تعرض لها بأن يقال عليها أنها حية ذات علم وإرادة وقدرة، ويترتب عليها ما يلزمها من الأفعال والآثار، إذ لا شك أن الطبيعة الموجودة بالعلم تميز بين الأشياء وبالإرادة تخصص وبالقدرة يتمكن من الأفعال.
قوله: (بل هو عينها لا غيرها، أعني أعيان الموجودات العينية)  
 
إضراب عن قوله: (ولها الحكم والأثر) بأن الذي له وجود عيني هو عين هذه الأمور المعقولة المنعوتة بالعوارض واللوازم، لأن الحقيقة الواحدة التي هي حقيقة الحقائق كلها هي الذات الإلهية، وباعتبار تعيناتها وتجلياتها في مراتبها المتكثرة تتكثر وتصير حقائق مختلفة: جوهرية متبوعة وعرضية تابعة. 
فالأعيان من حيث تعددها وكونها أعيانا ليست إلا عين أعراض شتى اجتمعت فصارت حقيقة جوهرية خاصة، كما ذكره في آخر (الفص الشعيبي). 
ألا ترى أن الحيوان هو الجسم الحساس المتحرك بالإرادة، والجسم ماله طول وعرض وعمق،
فالحيوان ذات لها هذه الأعراض مع الحس والحركة الإرادية، وكما اجتمعت هذه الأعراض في هذه الذات المعينة وصارت حيوانا.
كذلك إذا انضمت إليها أعراض أخر، كالنطق والصهيل، يسمى بالإنسان والفرس. 
فالذات الواحدة باعتبار الصفات المتكثرة صارت جواهر متكثرة، وأصل الكل هو الذات الإلهية التي صفاتها عينها .
فقوله: (أعني أعيان الموجودات) تفسير (هو) العائد إلى ماله وجود عيني. 
وضمير (عينها) راجع إلى (الأمور الكلية) ولا يجوز أن يكون تفسيرالضمير (عينها) لفساد المعنى.
إذ معناه حينئذ: بل ماله وجود عيني هو عين الموجودات العينية. إلا أن يقال، هو عائد إلى (الأمور الكلية) وتذكيره باعتبار(الأمر). 
وحينئذ يكون معناه: بل هذه الأمور الكلية عين أعيان الموجودات العينية لا غيرها. 
وهذا عين المعنى الأول.
وقيل: معناه: بل الأمر الكلى، كالعلم والحياة، عين الوصفين الموجود ينفي ذلك الموصوف لا غيرهما، والمراد بقوله: (أعني أعيان الموجودات) أعيانالأوصاف، لا أعيان الموصوفات، لأن للموصوفات أيضا أمورا كلية وهو الكلى الطبيعي وفيه نظر. 
لأن المراد أن هذه الأمور الكلية التي ليست لها ذات موجودة في الخارج لها حكم وأثر في الموجودات الخارجية، بل هي عين هذه الموجودات الخارجية.
فإن الظاهر والمظهر متحد في الوجود الخارجي وإن كان متعددا في العقل، لأن الكلام في الأمور الكلية التي لا أعيان لها في الخارج غير هذه الموجودات العينية. 
وفائدة الإضراب لا يظهر إلا بحسب هذا المعنى والتفسير بقوله: (أعني أعيان الموجودات). وقوله: (فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات، كما هي الباطنة من حيث معقوليتها) يؤيد ما ذهبنا إليه.
قوله: (لم تزل عن كونها معقولة في نفسها أي، مع أنها في الخارج عين الأعيان الموجودة،) هي في نفسها أمور معقولة (لم تزل) عن معقوليتها، بضم الزاء، من "زال، يزول"، أو بفتحها وضم التاء، من "تزال" المبنى للمفعول.
قوله: (فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات، كما هي الباطنة من حيث معقوليتها).
 أي، تلك الأمور الكلية ظاهرة باعتبار أنها عين الأعيان الموجودة وباعتبار الآثار الظاهرة منها، وباطنة باعتبار أنها أمور معقولة لا أعيان لها في الخارجبنفسها.
قوله: (فاستناد كل موجود عيني لهذه الأمور الكلية التي لا يمكن رفعهاعن العقل، ولا يمكن وجودها في العين وجودا تزول به عن أن تكون معقولة) .
نتيجة لقوله: "ولها الحكم والأثر في كل ماله وجود عيني" أي، لما تقرر أن الموجودات العينية إنما تعينت وتكثرت بالصفات، وهي هذه الأمورالكلية، فاستناد كل موجود عيني واجب ثابت لهذه الأمور الكلية التي هي حقائق معقولة.
و (اللام) في "لهذه الأمور" بمعنى (إلى). لأن الطبائع بذواتها تقتضي عروضها واتصافها بها، إذ هي كمالاتها، فهي من حيث كمالاتها مستندة إلى هذه الأمور الكلية.
وهذه الأمور لا يمكن أن ينكر كونها معقولة ولا يمكن أن توجد في الأعيان من غير عروضها في معروضاتها.
وخبر قوله: "فاستناد" متعلق الظرف، وهو (واجب) أو (ثابت). و يجوز أن يكون (اللام) في قوله: "لهذه الأمور الكلية" بمعنى (إلى) متعلقا إلى (الاستناد) وخبره محذوفا. تقديره: فاستناد كل موجود عيني إلى هذه الأمورالكلية واجب.
قوله: (وسواء كان ذلك الموجود العيني موقتا أو غير موقت نسبة الموقت وغيرالموقت إلى هذا الأمر الكلى المعقول نسبة واحدة) أي، لا يختص هذا التأثر ببعض من الموجودات دون البعض، بل الجميع مشترك في كونها محكوما ومتأثرا من هذه الأمور الكلية، سواء كان ذلك الموجود مقترنا بالزمان، كالمخلوقات، أو غير مقترن به، كالمبدعات، روحانيا كان أو جسمانيا.
فإن اقترانه بالزمان وعدم اقترانه لا يخرجه عن استناده إلى هذه الأمور الكلية، إذ نسبة الموقت وغير الموقت في الوجود والكمالات إليها نسبة واحدة.
قوله: (غير أن هذا الأمر الكلى يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسبما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينية، كنسبة العلم إلى العالم والحياة إلى الحي).
فـ (الحياة) حقيقة معقولة و (العلم) حقيقة معقولة متميزة عن الحياة، كما أن الحياة متميزة عنه. 
قوله: (ثم نقول في الحق تعالى، أن له علما وحياة فهو الحي العالم.
ونقول في الملك، أن له حياة وعلما فهو الحي العالم.
ونقول في الإنسان، أن له حياة وعلما فهو الحي العالم. 
وحقيقة العلم واحدة وحقيقة الحياة واحدة ونسبتها إلى الحي والعالم نسبة واحدة
ونقول في علم الحق، أنه قديم، وفي علم الإنسان، أنه محدث فانظر ما أحدثته الإضافة من الحكم  في هذه الحقيقة المعقولة)
 تأكيد لبيان الارتباط. 
كقول الشاعر مؤكدا في المدح:
ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم .....     تعاب بنسيان الأحبة والوطن 
أي، استناد كل موجودعيني وما يتبعه من اللوازم،أي هذه الأمور
الكلية، واجب من حيث إنها مؤثرة فيه، إلا أن لهذه الموجودات أيضا حكما وأثرا في هذه الأمور الكلية بحسب اقتضاء أعيان الموجودات. 
وذلك لأن (الحياة) حقيقة واحدة و (العلم) حقيقة واحدة وكل منهما متميز عن الآخر، فنقول في الحق تعالى، أنه حي عالم وحياته وعلمه عين ذاته، فيحكم بأنهما عينه وبعدم امتياز أحدهما عن الآخر في المرتبة الأحدية، ونقول بقدمها.
وفي غيره تعالى، كالملك والإنسان، يحكم بأنهما غيره، ونقول أنهما حادثان فيهما، فاتصافهما بالحدوث والقدم وكونهما عينا أو غيرا.
إنما هو باعتبار الموجودات العينية، فكما حكمت هذه الأمور في كل ماله وجود عيني، كذلك حكمت الموجودات عليها بالحدوث والقدم، وهذا الحكم إنما نشأ من الاستناد والإضافة، وإلا عند اعتباركل منهما وحده لا يلزم ذلك.
قوله: (وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات والموجودات العينية، فكما حكم العلم على من قام به أن يقال فيه إنه عالم، حكم الموصوف به على العلم بأنه حادث في حق الحادث، قديم في حق القديم، فصار كل واحد محكوما به ومحكوما عليه) 
تصريح بالمقصود، وهو بيان الارتباط بين الأشياء العينية والأمور الغيبيةالتي لا أعيان لها، وإذا كان الارتباط بينهما حاصلا، فالارتباط بين الحق والعالم الموجودين في الخارج أقوى وأحق. وفحواه ظاهر.
لا يقال: إن الذهن يحكم على من قام به العلم بأنه عالم لا العلم، فكيف أسند الحكم إليه؟
لأنا نقول: حكم الذهن أيضا تابع لحكم العلم، إذ لو لم تعط حقيقة العلم عند المقارنة بينهما ذلك، لما جاز للذهن أن يحكم به، لأن حكمه إن لم يكن مطابقا للواقع فلا اعتبار به، وإن كان مطابقا، يلزم أن يكون الأمر في نفسه كذلك.
قوله: (ومعلوم أن هذه الأمور الكلية وإن كانت معقولة) أي، موجودة في العقل
قوله: (فإنها معدومة في العين) أي، في الخارج، إذ لا ذات في الخارج يسمى بالحياة والعلم قوله: (موجودة الحكم) أي، على الأعيان الموجودة. 
قوله: (كما هي محكوم عليها إذا نسبت إلى الموجود العيني) أي، كما يحكم الموجودات عليها بالحدوث والقدم، وبأنها عين الذات أو غيرها. 
قوله: (فتقبل الحكم من الأعيان الموجودة ولا تقبل التفصيل ولا التجزي، فإن ذلك محال عليها) أي، تقبل تلك الأمور الكليةالحكم من الموجودات العينية حال كونها عارضة عليها، ولا تقبل التفصيل ولا التجزي. 
وذلك لأن الحقيقة الكلية إن انقسمت، ففي كل من أقسامها: إن بقيت بأعيانها،فلا انقسام كالإنسانية في كل شخص، وإن بقيت دون عينها، فعين تلك الحقيقة منعدمة حينئذ لانعدام بعضها، وإن لم يبق فكذلك أيضا. 
هذا مع أن الحقيقة البسيطة لا يمكن أن يطرء عليها التجزي أصلا.
قوله: (فإنها بذاتها في كل موصوف بها، كالإنسانية في كل شخص شخص من هذا النوع الخاص لم تتفصل ولم تتعدد بتعدد الأشخاص) 
أي، فإن تلك الحقيقةالكلية بذاتها موجودة في كل موصوف بها، كالانسانية، وهو الكلى الطبيعي الذي للإنسان، فإنها موجودة في كل شخص شخص من هذا النوع، ولم تتفصل ولمتتعدد بتعدد الأشخاص.
فإن قلت: الحصة التي في (زيد) منها، غير الحصة التي في (عمرو) منها، فتتفصل بهذاالاعتبار.
قلت: إن أردت بالحصة بعض تلك الحقيقة فغير صحيح، لأن البعض غيرالكل فلا يكون تلك الحقيقة في شئ من الأفراد. 
وإن أردت أن تلك الحقيقة تكتنف بعوارض مشخصة لها في زيد فتصير بهذا الاعتبار غير الحقيقة المكتنفة بعوارض أخر التي لعمرو، فمسلم.
ولا يلزم منه التفصيل في نفس الحقيقة، وهكذا الحقيقة الجنسية بالنسبة إلى أنواعها، لأنها في كل نوع منها مع عدم التجزي والتعدد.
(ولا برحت معقولة) أي، لا تزال تلك الحقيقة الكلية موجودة في العقللا تتغير بالعروض على معروضاتها، ولا تتكثر بتكثر موضوعاتها، كالحقائقالموجودة في الأعيان. 
وهذا البيان للتنبيه والإشارة إلى أن الذات الواجبية التيهي حقيقة الحقائق كلها ظاهرة فيها من غير طريان التجزي والتكثر عليها في تلك المراتب ولا يقدح في وحدة عينها تكثر مظاهرها.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثالث .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 11:26 pm

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثالث .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثالث

قوله : (وإذا كان الارتباط بين من له وجود عيني وبين من ليس له وجود عيني قدثبت وهي نسبة عدمية، فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل، لأنه على كل حال بينهما جامع وهو  الوجود العيني) 
وإنما قال: إن تلك الأمور الكلية نسب عدمية، لأنها صفات لا أعيان لها غير معروضاتها في الخارج، فهي بالنسبة إلى الخارج عدمية، وإن كانت بالنسبة إلى العقل وجودية. 
وكونها (نسبا) إنما هو باعتبار أنها غير الذات لازمة لها.

قوله : (وهناك فما ثم - ثمة - جامع) أي، بين الأمور العدمية وبين الموجودات الخارجية. 
قوله : (وقد وجد الارتباط بعدم الجامع) أي، مع عدم الجامع.

قوله : (فبالجامع أقوى وأحق. ولا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه وافتقاره إلى محدثأ حدثه) أي، إلى موجد أوجده. 
قوله : (لإمكانه بنفسه فوجوده من غيره، فهو مرتبطبه ارتباط افتقار) أي، المحدث مرتبط بموجده ارتباط افتقار. 
قوله : (ولا بد أن يكون المستند إليه واجب الوجود لذاته غنيا في وجوده بنفسه غير مفتقر، وهو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث فانتسب إليه) أي، هذا الحادث إلى الواجب الوجود لذاته .

قوله : (ولما اقتضاه لذاته كان واجبا به) أي، ولما اقتضى الواجب لذاتههذا الحادث، صار الحادث واجبا بالواجب الوجود. 
ويجوز أن يكون ضميرالفاعل راجعا إلى (الحادث) أي، ولما اقتضى الحادث لذاته من يوجده، وهوالواجب، كان الحادث واجبا به، إذا المعلول واجب بعلته.

قوله : (ولما كان استناده) أي، استناد الحادث. 
قوله : (إلى من ظهر عنه لذاته، اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شئ، من اسم وصفة، ما عدا الوجوب الذاتي، فإن ذلك لا يصح للحادث وإن كان واجب الوجود, ولكن وجوبه بغيره لا بنفسه) أي، اقتضى هذا الاستناد أن يكون الحادث على صورة الواجب، أي، يكون متصفا بصفاته وجميع ما ينسب إليه من الكمالات ما عدا الوجوب الذاتي، وإلا لزم انقلاب الممكن من حيث هو ممكن واجبا وذلك لأنه اتصف بالوجود والأسماء والصفات لازمة للوجود فوجب أيضا اتصافه بلوازم الوجود وإلا لزم تخلف اللازم عن الملزوم. 
ولأن المعلول أثر العلة، والآثار بذواتها وصفاتها دلائل على صفات المؤثر وذاته، ولا بد أن يكون في الدليل شيء من المدلول، لذلك صار الدليل العقلي أيضا مشتملا على النتيجة: فإن إحدى مقدمتيه مشتملة على موضوع النتيجة، والأخرى على محمولها، والأوسط جامع بينهما. 
ولأن العلة الغائية من إيجاد الحادث عرفان الموجد، كما قال تعالى: "وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". 
والعبادة تستلزم معرفة المعبود ولو بوجه، معأن عباس، رضى الله عنه، فسرها هنا بالمعرفة. ولا يعرف الشئ إلا بما فيه منغيره، لذلك قال، عليه السلام، حين سئل:" بم عرفت الله؟ عرفت الأشياء بالله." أي، عرفته به أولا، ثم عرفت به غيره. 
ولما كان وجوده من غيره،صار أيضا وجوبه بغيره. وغير الإنسان من الموجودات، وإن كان متصفا بالوجود، لكن لا صلاحية له لظهور جميع الكمالات فيه، كما مر في أول الفص.

وقوله: "لذاته" يجوز أن يكون متعلقا ب "الاستناد". أي، ولما كان استناد الحادث إلى من يوجده لذات الحادث، اقتضى أن يكون على صورة موجده. 
ويجوز أن يكون متعلقا بـ "ظهر" وعلى هذا ضمير "لذاته" يجوز أن يعود إلى "من" ويجوز أن يعود إلى "الحادث". 
وعلى الأول معناه: لما كان استناد الحادث إلى موجد ظهر الحادث عنه لاقتضاء ذات الموجد إياه، اقتضى أن يكون علىصورته، وعلى الثاني، ظهر لاقتضاء ذات الحادث الموجد إياه. 
والله أعلم.

وقوله: (ثم ليعلم أنه لما كان الأمر على ما قلناه من ظهوره بصورته) أي، ظهور هذا الحادث، وهو الإنسان الكامل، بصورة الحق. 
وضمير "أنه" للشأن. و"من" بيان "ما". 
وقوله: (أحالنا تعالى في العلم به) أي بالحق. 
وقوله: (على النظر في الحادثات) بقول نبيه، صلى الله عليه وسلم: "من عرف نفسه فقد عرف ربه.".

وقوله: (وذكر أنه أرانا آياته فيه) أي، في الحادث بقوله: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفيأنفسهم". 
وقوله: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون."

وإنما قدم (إراءة الآيات في الآفاق) لأنها تفصيل مرتبة الإنسان، وفي الوجود العيني مقدم عليه. وأيضا رؤية الآيات مفصلا في العالم الكبير للمحجوب أهون من رؤيتها في نفسه وإن كان بالعكس أهون للعارف
وقوله: (فاستدللنا بنا عليه) كالاستدلال من الأثر إلى المؤثر. 
(فما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف) أي، كنا نحن متصفا بذلك الوصف.

ولما كانت الصفات الحقيقية عين هذه الأعيان الحادثة، على ما قررنا من أنالذات مع صفة تصير اسما وعينا ثابتة والعالم من حيث الكثرة ليس إلا مجموع الأعراض، 
وقوله: (كنا نحن ذلك الوصف) وفي بعض النسخ: (إلا كنا ذلك الوصف)
وقوله: (إلا الوجوب الذاتي الخاص) أي بالحق.
وقوله: (فلما علمناه بنا ومنا نسبنا إليه كل ما نسبناه إلينا) من الكمالات،لا النقائص، إلا ما نسبه الحق إلى نفسه منها.
وقوله: (وبذلك وردت الأخبار الإلهية) مثل: "إن الله خلق آدم على صورته."
و "لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه". و "مرضت فلم تعدني". 
وغير ذلك من "القرض" و "الاستهزاء" و "السخرية" و "الضحك"، 
كقوله: "واقرضوا الله قرضا حسنا". 
و "الله يستهزء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون". 
و"سخر الله منهم". 
و "ضحك الله مما فعلتها البارحة". 

وقوله: (على ألسنة التراجم) من الأنبياء والأولياء. 
وقوله: (إلينا فوصف) أي الحق. 
وقوله: (نفسه لنا بنا) أي بصفاتنا، لماكانت عائدة إلى عيننا الثابتة من وجه، كما مر، قال: (بنا). 
وقوله: (فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا) لأن ذواتنا عين ذاته لا مغايرة بينهما إلا بالتعين والإطلاق.
أو شهدنا نفوسنا فيه لأنه مرآة ذواتنا. 
وقوله: (و إذا شهدنا) أي الحق. 
وقوله: (شهد نفسه) أي، ذاته التي تعينت وظهرت في صورتنا. أو شهد نفسه فينا لكوننا مرآة لذاته وصفاته.
وقوله: (ولا نشك أنا كثيرون بالشخص والنوع) ويجوز أن يكون (أنا) عبارة عن لسان أهل العالم، أي، أهل العالم أي، إنا كثيرون. 
بالأشخاص والأنواع التي فيه، ويجوز أن يكون عن لسان الأفراد الإنسانية، أي، إنا كثيرون بالشخص وبحسب الأنواع التي فينا لتركبنا من العالمين الروحاني والجسماني. ويؤيد الثاني مابعده .
وهو قوله: (وإنا وإن كنا على حقيقة واحدة) أي، وإن كنا مشتملة على حقيقة نوعية هي 
قوله: (تجمعنا، فنعلم قطعا أن ثمة فارقا به) أي، بذلك الفارق.
قوله: (تميزت الأشخاص بعضها عن بعض، ولو لا ذلك) أي الفارق. 
قوله: (ما كانت الكثرة في الواحد) أي، حاصلة ومتصورة في الواحد. 
قوله: (فكذلك أيضا وإن وصفناه) أيالحق. 
قوله: (بما وصف به نفسه من جميع الوجوه، فلا بد من فارق.)
لما شبه في الأول، أراد أن ينزه هنا ليجمع بين (التنزيه) و (التشبيه) على ما هو طريقة الأنبياء.
(وليس) ذلك الفارق. 
قوله: (إلا افتقارنا إليه في الوجود، وتوقف وجودنا عليه، لإمكاننا وغناه عن مثل ما افتقرنا إليه) وإنما حصر الفارق في افتقارنا وغناه، لأن غيرهما أيضا عائد إليهما، سواء كان وجوديا أو عدميا. 
قوله: (فبهذا صح له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم، فلاتنسب إليه الأولية مع كونه الأول) أي، بسبب هذا الغناء صح له أن يكون أزليا وأبديا وقديما في ذاته وصفاته.
(فبهذا صح له الأزل و القدم الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم.
فلا تنسب إليه الأولية  مع كونه الأول. و لهذا قيل فيه الآخر.)
وإنما وصف (الأزل) و (القدم) بقوله: "انتفت عنه الأولية" بمعنى "افتتاح الوجود عن العدم" لأن الأعيان والأرواح أيضا أزلية، لكن أزليتها وقدمها زمانية لا ذاتية، وأزلية الحق ذاتية، لغنائه في وجوده عن غيره. 
فانتفت (الأولية) منه بمعنى افتتاح الوجود عن عدم، فلا تنسب إليه الأولية بهذا المعنى، كما تنسب به إلى الأرواح والأعيان. 
كما قال، صلى الله عليه وسلم: "أول ما خلق الله العقل". أي، أول ما افتتح من العدم إلى الوجود العقل، لكونه مسبوقا بالعدم الذاتي، وإن كان غير مسبوق بالعدم الزماني. 
بل ينسب "الأولية" إليه بمعنى آخر وهو كونه "مبدأ" كل شئ، كما أن آخريته عبارة عن كونه منتهى كل شئ ومرجعه، أو كونه في مقام أحديته بحيث لا شئ معه.
كما قال عليه السلام: "كان الله ولم يكن معه شئ". 
وهذا المعنى يجتمع مع الآخرية. لذلك قال الجنيد، قدس الله روحه،عند سماعه لهذا الحديث: "والآن كما كان". أي، لم يتغير هذا المقام عن حاله، وإن كان في المرتبة الواحدية معه أسماء وصفات وأعيان ثابتة للأكوان. 
ويظهر هذا المقام للعارف عند التجلي الذاتي له، لتقوم قيامته الكبرى فيفنى ويفنى الخلق عند نظره، ثم يبقى ويشاهد ربه بربه. رزقنا الله وإياكم.
قوله : (ولهذا قيل فيه الآخر). 
قوله : (فلو كانت أوليته أولية وجود التقييد، لم يصح أن يكون الآخر للمقيد، لأنه لا آخر للممكن لأن الممكنات غير متناهية فلا آخر لها.)
قوله : (وإنما كان آخرا لرجوع الأمر كله إليه بعد نسبة ذلك إلينا. فهو الآخر في عين أوليته والأول في عين آخريته). 
أي، ولأجل أن أوليته ليست عبارة عن افتتاح الوجود عن عدم، قيل فيه الآخر، كما قال الله تعالى: (هو الأول والآخر.)...
فلو كانت أولية الحق تعالى مثل أولية الموجود المقيد، بمعنى افتتاح الوجود عن العدم، لم يصح أن يكون آخرا، لأن الآخرية عبارة حينئذ عن انتهاء الموجودات المقيدة والممكنات غير متناهية، فلا آخر لها. 
وهذا الكلام إنما هو بحسب الدار الآخرة. وأما بحسب الدنيا فهي متناهية فلا ينبغي أن يتوهم أنه رضي الله عنه قائل بقدم الدنيا، لذلك قال: (إذا زال وفك) أي الخاتم. 
قوله : "وينتقل الأمر إلى الآخرة، فيكون ختما أبديا على خزانة الآخرة"
وقال في نقش الفصوص"تخرب الدنيا بزواله وتنتقل العمارة إلى الآخرة من أجله". 
وفي جميع كتبه إشارة إلى هذا المعنى. ولولا مخافة التطويل، لأوردت ذلك بألفاظه. بل آخريته عبارة عن فناء الموجودات ذاتا وصفة وفعلا في ذاته وصفاته وأفعاله بظهور القيامة الكبرى ورجوع الأمر إليه كله.
وإنما قال: (بعد نسبته إلينا) لأن هذه الأشياء كانت لله تعالى أولا، ثم نسبت إلينا، فعند الرجوع إلى أصلها تفنى فيه.
كفناء القطرة في البحر وذوبان الجليد في الماء، فلا ينعدم أصلا، بل ينعدم تعينها وتستهلك في التعين الذاتي الذي منه تفرعت التعينات، لأن أصله كان عدما، فيرجع إلى أصله. لذلك قيل: "التوحيد إسقاط الإضافات."
وقد يحصل رجوع الأمر إليه قبل القيامة الكبرى بالقيامة الدائمة المشاهدةللعارفين. وهو نوع من أنواع القيامات. 
وذلك لأن الحق تعالى في كل آن يخلقخلقا جديدا، كما قال: (بل هم في لبس من خلق جديد). ويمد الأكوان بأنواعالتجليات الذاتية والصفاتية، ويصل ذلك الفيض إلى الإنسان الذي هو آخرالموجودات، ثم يرجع منه بالانسلاخ المعنوي إلى ربه. 
وقد جاء في الحديث أيضا: "إن ملائكة النهار ترجع إلى الحضرة عند الليل، وملائكة الليل ترجعإليها عند النهار، ويخبرون الحق بأفعال العباد وهو أعلم بها منهم". 
وإذا كان الأمر كذلك، فهو أول في عين آخريته وآخر في عين أوليته. 
وهما دائمتان أزلا وأبدا.
قوله: (ثم ليعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر وباطن) مزيد بيان لما مرمن أن الحق تعالى خلق آدم على صورته وكمالاته، ليستدل بها عليه ويتمكنالسالك من الوصول إليه. 
"فأوجد العالم" أي، العالم الإنساني. وإن شئت قلت العالم الكبير لأنه أيضا صورة الإنسان، لذلك يسمى بالإنسان الكبير. 
والأول أنسب بالمقام، إذ المقصود أن الإنسان مخلوق على صورته لا العالم.
قوله: (عالم غيب وشهادة) أي، عالم الأرواح والأجسام. 
قوله: (لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا). 
هذا دليل على أن المراد بـ "العالم" هو العالم الإنساني. 
أي، لندرك عالم الباطن، وهو عالم الجبروت والملكوت، بروحنا وقلبنا وقوانا الروحانية، وندرك عالم الظاهر بأبداننا ومشاعرنا وقوانا المنطبعة فيها. 
أو ندرك غيب الحق من حيث أسمائه وصفاته لا من حيث ذاته، فإنه لا يمكن لأحد معرفتها.
إذ لا نسبة بينها وبين غيرها من العالمين بغيبنا، أي بأعياننا لغيبته.
وندرك ظاهره وهو مظاهر تلك الأسماء الغيبية من العقول والنفوس وغيرهم من الملائكة.
فإنهم وإن كانوا غيبا باطنا بالنسبة إلى الشهادة المطلقة، لكنهم ظاهر بالنسبة إلى الأسماء والصفات التي هي أربابهم لظهورهم في العين بعد بطونهم فيالعلم. 
وقد مر تحقيقه في بيان العوالم في المقدمات.  
"بشهادتنا" أي، بروحنا وقلبنا وقوانا وأبداننا الموجودة في الخارج.
قوله: (ووصف نفسه بالرضا والغضب) حيث قال: "رضى الله عنهم ورضوا عنه". 
وقال: (سبقت رحمتي غضبي)
قوله: (فأوجد العالم ذا خوف ورجاء فنخاف غضبه ونرجو رضاه). 
وإنما جاء بلازم الرضا والغضب، وهو الخوف والرجاء،ولم يقل: فأوجدنا ذا رضاء وغضب. وإن كنا متصفين بهما، ليؤكد المقصود الأول أيضا، وهو بيان الارتباط بين الحق والعالم، إذ كل من الصفات الأفعالية والانفعالية يستدعى الآخر، لذلك أعاد الارتباط في الأبيات الثلاثة المذكورة بعد.
وقوله: (فأوجد العالم ذا خوف ورجاء) دليل على ما ذهبنا إليه من أن المراد بالعالم هو العالم الإنساني، لأن الخوف والرجاء من شأن الإنسان لا العالم الكبير،إذ الخوف إنما هو بسبب الخروج عن الأمر، والرجاء إنما يحصل لمن يطمع في الترقي، وهما للإنسان فقط. 
وكذلك قوله: (فنخاف غضبه ونرجو رضاه) يدل على ذلك، 
وكذلك قوله: (ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال، فأوجدنا على هيبة وأنس، وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به) ينبئ عن ذلك.
والمراد بـ (الجميل) الصفات الجمالية، وهي ما يتعلق باللطف والرحمة، وبـ (الجلال)، ما يتعلق بالقهر والعزة والعظمة والستر.
قوله: (فأوجدنا على هيبة وأنس) مثال يجمع بين المقصودين، وهما بيان الارتباط وكون الإنسان مخلوقا على صورته تعالى. 
وذلك لأن (الهيبة) قد يكون من الصفات الفعلية كما يقول: هذا السلطان مهيب. أي له عظمة في قلوب الناس. 
وقد يكون من الصفات الانفعالية كما يقول: حصل في قلبي هيبة من السلطان. 
أي دهشة وحيرة من عظمته وكذلك (الأنس) بالنسبة إلى من هو أعظم مرتبة منك وإلى من هو دونك في المرتبة. 
فإن الأول يوجب الانفعال، والثاني يوجب الفعل، لأن الأنس رفع الدهشة والهيبة. 
ففي الصورة الأولى صاحب المرتبة الأعلى يرفع منك الدهشة، وفي الثانية أنت رافعها من غيرك. والهيبة من (الجلال) والأنس من (الجمال.)
(فعبر عن هاتين الصفتين) أي، الجمال والجلال. (باليدين) مجازا. إذ بهما يتم الأفعال الإلهية وبهما تظهر الربوبية، كما باليدين يتمكن الإنسان من الأخذ والعطاء، وبهما تتم أفعاله. 
(اللتين توجهتا منه) أي، من الحق. 
(على خلق الإنسان الكامل) كقوله تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟" وخلقه بيديه عبارة عن الاستتار بالصورة الإنسانية وجعله متصفا بالصفات الجمالية والجلالية. 
قوله: (لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته) أي، لكون الإنسان جامعا لحقائق العالم التي هي مظاهر للصفات الجمالية والجلالية كلها، وهي الأعيان الثابتة التي للعالم. 
والمراد بالمفردات الموجودات الخارجية. 
فكأنه يقول:
لكون الإنسان جامعا لجميع الأعيان الثابتة بعينه الثابتة ولجميع الموجودات الخارجية بعينه الخارجية، فله أحدية الجمع علما وعينا وقد مر، في المقدمات، من أن أعيان العالم إنما حصلت في العلم من تفصيل العين الثابتة الإنسانية.
واعلم، أن للعالم اعتبارين: إعتبار أحديته، واعتبار كثرته. فباعتبار أحديته الجامعة يسمى بالإنسان الكبير، وباعتبار كثرةأفراده ليس له الأحدية الجامعة كأحدية الإنسان، إذ لكل منها مقام معين. 
فلا يصح أن يقال، ليس للعالم أحدية الجمع مطلقا. كيف لا؟ وهو من حيث المجموع صورة الاسم الإلهي كما للإنسان، لذلك يسمى بالإنسان الكبير، إلا أن يراد به أفراده.
(فالعالم شهادة والخليفة غيب، ولهذا تحجب السلطان) أي، العالم ظاهر والخليفة باطن. 
وإنما أطلق (الشهادة) عليه، مع أن بعضه غيب كعالم الأرواح المجردة، مجازا بإطلاق اسم البعض على الكل. 
فالمراد بـ (العالم) هنا العالم الكبير الروحاني والجسماني، لأنه صورة الحقيقة الإنسانية وهي غيبه. ولما كان الإنسان الكامل مظهرا لكمالات هذه الحقيقة وخليفة ومدبرا للعالم، جعله غيبا باعتبار حقيقته التي لا تزال في الغيب وإن كان الخليفة موجودا في الخارج. 
وكون الخليفة غيبا أيضا اتصاف بصفة إلهية، فإن هويته لا تزال في الغيب. وإنما جعلنا الخليفة غيب الأرواح أيضا، لأن ما يفيض على العقل الأول وغيره من الأرواح أيضا إنما هو بواسطة الحقيقة الإنسانية لأنه أول مظاهرها.
كما قال صلى الله عليه وسلم: "أول ما خلق الله نوري". أي، نور تعيني وحقيقتي الذي هو العقل الأول الذي ظهر في عالم الأرواح أولا. 
ولا شك أن المظهر مربوب لما ظهر فيه، وإن كان باعتبار آخر هو يرب ما دونه من الأرواح وغيرها، لذلك يبايع القطب هو ومندونه ويستفيد منه.
الظلمانية والنورية، كما قال: "إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة، لوكشفها، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". 
ولما كانت الأجسام الطبيعية مظاهر لصفات تستر الذات سترا لا تكاد تظهر بها، جعلها حجبا ظلمانية للذات بقوله: (وهي الأجسام الطبيعية). 
وكذلك جعل الأرواح حجبا نورانية مع أنها حجب هي مظاهر للصفات المظهرة للذات
بوجه، كما أنها ساتره لها بوجه. ألا ترى أن الشعاع وإن كان يستر الشمس لكن يدل عليها ويظهرها أيضا.
(فالعالم بين لطيف وكثيف) أي، كما أن الحق موصوف بالحجب الظلمانية والنورانية، كذلك العالم موصوف بالكثافة واللطافة، فهو دائر بين الكثيف واللطيف. 
(وهو عين الحجاب على نفسه) أي، العالم هو عين الحجاب على نفسه، أي، تعينه وإنيته التي بها تميز عن الحق وتسمى بالعالم هو عين حجابه، فلو رفعت الإنية ينعدم العالم. 

وإليه أشار الحلاج (رض) بقوله: 
بيني وبينك إني ينازعني  ...  فارفع بلطفك إنيي من البين.
ويجوز أن يعود الضمير إلى الحق. أي، الحق من حيث أنواره عين الحجاب على نفسه كما قيل: "وليس حجابه إلا النور ولا خفاؤه إلا الظهور."
(فلا يدرك الحق إدراكه لنفسه) أي، فلا يدرك العالم الحق كما يدرك نفسه ذوقا ووجدانا، لأن الشئ لا يدرك غيره بالذوق إلا بحسب ما فيه منه، وليس في العالم، من حيث إنه عالم وسوى، إلا الحجب النورانية والظلمانية، فلا يدرك بالذوق إلا إياها. 
فضمير (إدراكه) و (نفسه) عائد إلى (العالم). ويجوز أن يعود الضمير إلى (الحق). أي لا يدرك العالم الحق كما يدرك الحق نفسه. فإن العالم من حيث إنه مظهر للحق مشتمل عليه، فيدركه في الجملة، لكن لا يمكن أن يدركه على الحقيقة كما هي. 
(فلا يزال في حجاب لا يرفع) أي، فلا يزال العالم في حجاب لا يرفع، بمعنى أنه محجوب عن الحق بإنيته، ولا يقدر على حق معرفته ولا على معرفة نفسه، فإنه لو عرف نفسه لعرف ربه، لأن ذاته عين الذات الإلهية وما فاز بهذه المعرفة إلا الإنسان الكامل، لذلك صار سيد العالم و
خليفة عليه.
(مع علمه بأنه متميز عن موجده بسبب افتقاره إليه) أي، لا يزال العالم في الحجاب، مع علم العالم بأنه متميز عن موجده بسبب افتقاره إليه. 
والعلم بامتيازالشئ عن غيره يوجب العلم بهما، فالعالم عالم بالحق من حيث إنه غنى وواجب بالذات. ولما كان العالم مفتقرا إليه ومتصفا بالإمكان، وإن كان متصفا بالصفات الإلهية.
استدرك بقوله: (ولكن لا حظ له في الوجوب الذاتي الذي لوجود الحق) أو استدراك من قوله: (فأوجد العالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهربشهادتنا). 
أي، العالم متصف بصفاته، إلا بالوجوب الذاتي الذي لوجود الحق. 
(فلايدركه أبدا) أي، فلا يدرك العالم الحق أبدا من حيث وجوبه الذاتي، لأن المدرك ما يدرك شيئا بالذوق والوجدان إلا بما فيه منه، وليس له حظ في الوجوب الذاتي، فلا نسبة بينهما. 
(فلا يزال الحق من هذه الحيثية) أي، من حيث الوجوب الذاتي. 
(غير معلوم علم ذوق وشهود، لأنه لا قدم للحادث في ذلك)
وإنما قيد بقوله: (علم ذوق وشهود) لأن الذوق والشهود يقتضى اتصاف الذائق بما يذوقه حالا، بخلاف العلم التصوري، فإنه بمجرد الاطلاع على الوجوب الذاتي وماله ذلك، يقدر على الحكم بأنه متصف به.
(فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفا) أي، ما جمع الله في خلق آدم بين يديه اللتين يعبر عنهما بالصفات الجمالية والجلالية إلا تشريفا وتكريما.
كما قال: "ولقد كرمنا بنى آدم وحملنا هم في البر والبحر". فصار جامعا لجميع الصفات الإلهية وكانت عينه متصفة بجميع الصفات الكونية، فحصل عنده جميع الأيادي المعطية والأخذية. 
قوله : (ولهذا قال لإبليس: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟" وما هو) أي، وليس ذلك التشريف أو ليس ذلك الخلق. 
(إلا عين جمعه بين الصورتين: صورة العالم) وهي الحقائق الكونية. 
(وصورة الحق) وهي الحقائق الإلهية. (وهما يدا الحق.)
وإنما جعل صورة العالم (يدا الحق) لأنهما مظاهر الصفات والأسماء، لذلكعبر عن الصفات الجمالية والجلالية باليدين كما مر. 
وعبر هنا عن الصورتين بـ (اليدين) تنبيها على عدم المغايرة بينهما في الحقيقة إلا في الظاهرية والمظهرية. 
وأيضا، لما كان الفاعل والقابل شيئا واحدا في الحقيقة ظاهرا في صورة الفاعلية تارة والقابلية أخرى، عبر عنهما باليدين: فيمنا هما الصورة الفاعلية المتعلقةبحضرة الربوبية، ويسرا هما الصورة القابلية المتعلقة بحضرة العبودية، ويجمع المعنيين تفسيرهما بالصفات المتقابلة.
(وإبليس جزء من العالم، لم تحصل له هذه الجمعية) لأنه مظهر اسم "المضل" وهو من الأسماء الداخلة في الاسم (الله) الذي مظهره آدم، فلا يكون له جمعية الأسماء والحقائق. 
قيل: "إبليس هو القوة الوهمية الكلية التي في العالم الكبير، والقوى الوهمية التي في الأشخاص الإنسانية والحيوانية. إفرادها لمعارضتها مع العقل الهادي طريق الحق". وفيه نظر. 
لأن (النفس المنطبعة) هي الأمارة بالسوء و (الوهم) من سدنتها وتحت حكمها، لأنها من قواها، فهي أولى بذلك، كما قال تعالى: "ونعلم ما توسوس به نفسه". وقال: "إن النفس لأمارة بالسوء". وقال، صلى الله عليه وسلم: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك". وقال: "إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم". وهذا شأن(النفس). ولو كان تكذيبه للعقل موجبا لكونه شيطانا، لكان العقل أيضا كذلك، لأنه يكذب ما وراء طوره مما يدرك بالمكاشفات الحقيقية، كأحوال الآخرة وأيضا، إدراكه للمعاني الجزئية وإظهاره لها حق ونوع من الهداية للاهتداء به في الجزئيات التي هي نهاية المظاهر.
قال الشيخ في "الفص الإلياسي": "فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الكاملة الإنسانية وبه جاءت الشرائع المنزلة فشبهت ونزهت، والشيطان مظهر الإضلال والإغواء لا للاهتداء، وفي باقي الحيوانات فهو بمثابة العقل. 
ومن أمعن النظر، يعلم أن القوة الوهمية هي التي إذا قويت وتنورت  تصير عقلا مدركا للكليات وذلك لأنه نور من أنوار العقل الكلى المنزل إلى العالم السفلى مع الروح الإنساني، فصغر وضعف نوريته وإدراكه لبعده من منبع الأنوار العقلية فتسمى بـ (الوهم). 
فإذا رجع وتنور بحسب اعتدال المزاج الإنساني، قوى إدراكه وصار عقلا من العقول. 
كذلك يترقى العقل أيضا ويصيرعقلا مستفادا."


(ولهذا كان آدم، عليه السلام، خليفة). أي، ولأجل حصول هذه الجمعية لآدم، صار خليفة في العالم.
(فإن لم يكن آدم ظاهرا بصورة من استخلفه) وهو الحق. 
(فيما استخلف فيه وهو العالم) أي، إن لم يكن متصفا بكمالاته متسما بصفاته قادرا على تدبير العالم. 
(فما هو خليفة، وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا التي استخلفه عليها،لا يكون استنادها) أي، استناد الرعايا. (إليه). أي، إلى آدم الذي هو الخليفة، فليس بخليفة. وحذف الجواب لدلالة الجواب الأول والذي يأتي بعده عليه. 
وإنما كان العالم مسندا إليه، لأنه رب للعالم بحسب مرتبته، وعبد للحق بحسب حقيقته، وإذا كان العالم مستندا إليه (فلا بد أنيقوم بجميع ما يحتاج إليه  وإلا فليس بخليفة عليهم، فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل). 
أي، وإذا كان الأمر كذلك، فما صحت هذه المرتبة إلا له.

واعلم، أن لكل فرد من أفراد الإنسان نصيبا من هذه الخلافة يدبر به ما يتعلق به، كتدبير السلطان لملكه وصاحب المنزل لمنزله. وأدناه تدبير الشخص لبدنه. وهو الحاصل للأولاد بحكم الوراثة من الوالد الأكبر، والخلافة العظمى إنما هي للإنسان الكامل.
واعلم، أن الشيطان أيضا مربوب لحقيقة آدم وإن كان أخرجه من الجنة وأضله بالوسوسة، لأنها تمد من عالم الغيب مظاهر جميع الأسماء، كما أن ربه يمد الأسماء كلها. 
فهو المضل بنفسه في الحقيقة لنفسه، ليصل كل من أفراده إلى الكمال المتناسب له، ويدخل الدار الطالبة إياه من الجنة والنار ولولا ذلك الإمداد، لا يكون له سلطنة عليه. 
ومن هنا يعلم سر قوله تعالى: "فلا تلوموني ولوموا أنفسكم". وبه قامت الحجة عليهم، لان أعيانهم اقتضت ذلك. فإضلاله لآدم وإخراجه من الجنة الروحانية لا يقدح في خلافته وربوبية.

(فأنشأ صورته الظاهرة) أي، صورته الموجودة في الخارج من جسمه و روحه من حقائق عالم الملك والملكوت.
لذلك قال: (من حقائق العالم وصوره) وما اكتفى بذكر الصور. 
(وإنشاء صورته الباطنة على صورته تعالى) أي، وإنشاء صورته الموجودة في العلم، وهي عينه الثابتة متصفة بصفات الحق تعالى وأسمائه. 
ولما كانت الحقيقة يظهر بالصورة في الخارج، أطلق (الصورة) على الأسماء والصفات مجازا، لأن الحق بها يظهر في الخارج.
واعلم، أن كلا من (الظاهر) و (الباطن) ينقسم على قسمين: باطن مطلق، وباطن مضاف، وظاهر مطلق، وظاهر مضاف. 
فأما الباطن المطلق فهوالذات الإلهية وصفاته والأعيان الثابتة.

والباطن المضاف هو عالم الأرواح.
فإنه ظاهر بالنسبة إلى الباطن المطلق، باطن بالنسبة إلى الظاهر المطلق، وهو عالم الأجسام، لذلك جعل صورته الظاهرة، أي صورة الإنسان، من حقائق العالم وصوره. 
ويجوز أن يراد بـ (الصورة الظاهرة) جسمه وبدنه، فإنه مركب من حقائق عالم الكون والفساد. ويؤيده قوله آخرا: (فقد علمت حكمة نشأة جسد آدم،أعني صورته الظاهرة). 
وبـ (الصورة الباطنة) روحه وقلبه والقوى الروحانية المتصفة بصفات الحق وأسمائه. 
(ولذلك قال فيه: كنت سمعه وبصره. وما قال: كنت عينه وأذنه. 
(ففرق بين الصورتين) أي، لأجل أنه تعالى أنشأ صورته الباطنةعلى صورته تعالى، قال في حق آدم: (كنت سمعه وبصره). فأتى بـ (السمع) و (البصر) اللذين من الصفات السبعة التي هي الأئمة. (وما قال: كنت عينه وأذنه) الذين هما من جوارح الصورة البدنية وآلتان للسمع والبصر. (ففرق بين الصورتين) أي صورة الباطن أو الظاهر، وإن كان الظاهر مظهرا للباطن.
قوله : (وهكذا هو في كل موجود من العالم بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود) أي،كما أن الحق وهويته سار في آدم، كذلك هو سار في كل موجود من العالم. 
لكن سريانه وظهوره في كل حقيقة من حقائق العالم إنما هو بقدر استعداد تلك الحقيقة التي لذلك الموجود وقابليته. 
(لكن ليس لأحد مجموع ما للخليفة) استدراك منقوله: (وهكذا هو في كل موجود)
(فما فاز إلا بالمجموع) أي، فما فاز بالمجموع إلا الخليفة. 
لأن المراد حصر الفوز بالمجموع في الخليفة، وهو الحصر في المحكوم عليه لا الحصر في المحكوم به، كما هو ظاهر الكتاب، إذ يلزم منه أن الخليفة ما فاز بشئ مما فاز به العالم إلا بالمجموع، وهذا غير صحيح. 
فإنه فاز بكل ما فاز به العالم مع اختصاصه بالزائد، وهو الفوز بالمجموع.
قوله : (ولولا سريان الحق في الموجودات والظهور فيها بالصورة ما كان للعالم وجود) أي، لولا سريان ذات الحق وهويته في الموجودات وظهوره فيها بالصورة، أي بصفاته تعالى، ما كان للعالم وجود ولا ظهور لأنه بحسب نفسه معدوم. 
واكتفى بذكر (الصورة) من الذات لكونها عينها، أو لاستلزام الصورة إياها. (كما أنه) الضمير للشأن. 
قوله : (لولا تلك الحقائق المعقولة الكلية، ما ظهر حكم في الموجودات العينية) أي، كما أنه لو لا تلك الحقائق الكلية، التي في القديم قديم وفي الحادث حادث، ومعروضاتها من الحقائق العينية، ما ظهر حكم من أحكام أسماء الحق وصفاته في الموجودات العينية. 
فكما أن وجود العالم بسريان الحق في الموجودات بذاته وصفاته، كذلك ظهور أحكام أسمائه وصفاته بالحقائق المعقولة التابعة والمتبوعة. 
فارتبط العالم بالحق ارتباط الافتقار في وجوده والحق بالعالم من حيث ظهور أحكامه وصفاته. فافتقر كل منهما إلى الآخر لكن الجهة غير متحدة.
(ومن هذه الحقيقة) أي، ومن هذا الارتباط الذي للحق، هو المعنى الثابت في نفس الأمر، إذ (الحق) هو الثابت لغة. 
(كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده) (كان) تامة بمعنى حصل. 
وإنما قال: (في وجوده) ولم يتعرض بذاته، تنبيها على أن الأعيان ليست مجعولة لجعل الجاعل مع أنها فائضة من الحق بالفيض الأقدس، لأن الجعل إنما يتعلق بالوجود الخارجي. كما مر تحقيقه في المقدمات.

قوله شعر:

(فالكل مفتقر، ما الكل مستغن  ....  هذا هو الحق قد قلناه لا نكنى)
أي، فكل واحد من العالم وربه مفتقر إلى الآخر: أما العالم ففي وجوده وكمالاته، وأما ربه ففي ظهوره وظهور أسمائه وأحكامهما فيه. (ما) في (ماالكل) للنفي. و (مستغن) خبره. 
ورفعه على رأى الكوفيين، كقوله تعالى: "ماهذا بشر". عند من قرأ بالرفع.



ولما كان الارتباط وافتقار كل منهما إلى الآخر ثابتا في نفس الأمر، قال: "هذا هو الحق قد قلناه لا نكنى" وهو من (الكناية) وهو الستر. أي، لا نستره إرشادا للطالبين.
(فإن ذكرت غنيا لا افتقار به  ....   فقد علمت الذي من قولنا نعنى)
أي، فإن قلت، إن الحق غنى عن العالمين ولا افتقار له، فقد علمت من الذين عنى بقولنا: (فالكل مفتقر) لأن كلامنا في الارتباط بين الحق والعالم، وذلك بالأسماء التي تطلب العالم بذاتها، فهي مفتقرة إلى العالم، لا الذات الإلهية منحيث هي هي، فإنها من هذا الوجه غنى عن العالمين. 
و (الباء) في (به) بمعنى اللام. أي، لا افتقار له. أو بمعنى (في). أي، لا افتقار في كونه غنيا.
(فالكل بالكل مربوط وليس له  .... عنه انفكاك خذوا ما قلته عنى) 
ضمير (له) عائد إلى العالم. وضمير (عنه) إلى الحق. والباقي ظاهر.
قوله : (فقد علمت حكمة نشأة جسد آدم، أعني صورته الظاهرة) وتلك الحكمة هي ظهور أحكام الأسماء والصفات فيها. 
قوله : (وقد علمت) حكمة (نشأة روح آدم، أعني صورته الباطنة) أي، حكمة نشأة روح آدم، وهي الربوبية والخلافةعلى العالم. 
(فهو الحق الخلق) يعنى، فآدم هو الحق باعتبار ربوبيته للعالم واتصافه بالصفات الإلهية، والخلق باعتبار عبوديته ومربوبيته.
أو هو الحق باعتبار روحه، والخلق باعتبار جسده. 
كما قال الشيخ (رضي الله عنه ) في بيت من قطعة:
حقيقة الحق لا تحد  .... وباطن الرب لا يعد 
فباطن لا يكاد يخفى  .... وظاهر لا يكاد يبد
وفإن يكن باطنا ورب  .... وإن يكن ظاهرا فعبد
(وقد علمت نشأة رتبته وهي المجموع الذي به استحق الخلافة) إنما جعل (الخلافة للمجموع) لأنه بالنشأة الروحانية آخذ من الله، وبالنشأة الجسمانية مبلغ إلى الخلق، وبالمجموع تتم دولته وتكمل مرتبته، كما قال الله: "فلو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون". أي، ليجانسكم فيبلغكم أمري.
(فآدم هو النفس الواحدة التي خلق منها هذا النوع الإنساني) أي، إذا علمت أن آدم هو الخليفة على العالم ومدبره، فآدم في الحقيقة هو النفس الواحدة.
وهوالعقل الأول الذي هو الروح المحمدي في الحقيقة الظاهر في هذه النشأة العنصرية المشار إليه بقوله، صلى الله عليه وسلم: "أول ما خلق الله نوري". 
الذي منه يخلق هذا النوع الإنساني بل جميع الأنواع مخلوق منه، وبقوله: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين". 
وذلك لأن للحقيقة الإنسانية مظاهر في جميع العوالم: فمظهرهالأول في عالم الجبروت، هو الروح الكلى المسمى بـ (العقل الأول) فهو آدم أول، و (حواه) النفس الكلية التي خلقت من ضلعه الأيسر الذي يلي الخلق، فإن يمينه هو الجانب الذي يلي الحق. 
وفي عالم الملكوت، هو النفس الكلية التي يتولد منها النفوس الجزئية الملكوتية، وحواه الطبيعة الكلية التي في الأجسام. وفي عالم الملك هو آدم أبو البشر.
قال الشيخ (رضي الله عنه) في الباب العاشر من الفتوحات: "فأول موجود ظهر من الأجسام الإنسانية كان آدم، عليه السلام، وهو الأب الأول من هذا الجنس". 
وقال في نقش الفصوص: "وأعنى بآدم وجود العالم الإنساني". فأراد بما قال في الفتوحات ونقش الفصوص، آدم عالم الملك، إذ به يتحقق وجود العالم الإنساني أولا. 
ونبه هنا على آدم، عالم الجبروت والملكوت الذي هو الخليفة أزلا وأبدا،تنبيها للمتكلمين وإرشادا للطالبين.
(وهو قوله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء".) الضمير عائد إلى المعنى الذي ذكره من قوله: "فآدم هو النفس الواحدة" إلى آخره. أي، هذا المعنى المذكور هو معنى قوله تعالى: (يا أيها الناس...) - الآية. ومعناها بالنسبة إلى عالم الجبروت:

(اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة). أي، من عين واحدة، هو العقل الأول. 
(وخلق منها زوجها) التي هي النفس الكلية. 
(وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) أي عقولا ونفوسا مجردة. 
وبالنسبة إلى عالم الملكوت: خلقكم من ذات واحدة، هي النفس الكلية، وخلق منها زوجها، أي الطبيعة الكلية، وبث منهما رجالا كثيرا، وهي النفوس الناطقة المجردة، ونساء، وهي النفوس المنطبعة، وباقي القوى. وبالنسبة إلى عالم الملك فظاهر.
(فقوله اتقوا ربكم اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم، و اجعلوا ما بطن منكم، وهو ربكم،
وقاية لكم: فإن الأمر ذم و حمد: فكونوا وقايته في الذم و اجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين). 
لما استشهد بالآية، ذكر مطلعها وعلم السالك التأدب بين يدي الله تعالى لتزداد نوريته ولا يقع في مهالك الإباحة.
فإن توحيد الأفعال يقتضى إسناد الخير والشر إلى الله تعالى. 

فالسالك إذا أسندهما إليه قبل زكاء النفس وطهارتها، يقع في الإباحة.
وبعد طهارتها، يكون مسيئا للأدب بإسناد القبائح إليه. ولكون (الاتقاء) مأخوذا من (وقى، يقي) كما يقال: وقيته وقاء فاتقى. أي، إتخذ الوقاية.
فسر (اتقوا) بقوله: (إجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم) أي، آلة الوقاية.
كما قال تعالى: "خذوا حذركم". أي آلة الحذر،كالترس وغيره من السلاح.
فالمراد بـ (ما ظهر) هو الجسد مع النفس المنطبعة فيه. أي، انسبوا النقائص إلى أنفسكم لتكونوا وقايته في الذم. 
واجعلوا ما بطن منكم، وهو الروح الذي يربكم وقاية لكم في الحمد.
أي، انسبوا الكمالات إلى ربكم، كما قال عن لسان الملائكة: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا".
  وعند نسبة الكمالات إلى الله تعالى يكون لكم الخلاص من ظهور إنياتكم وأنفسكم، ولا يكون للشيطان عليكم سلطان.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الرابع .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 11:28 pm

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الرابع .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية    الجزء الرابع

وإنما جعل الظاهر وقاية للباطن في الذم، والباطن وقاية للظاهر في الحمد، وأثبت الربوبية للباطن: فإن الظاهر من حيث النفس المنطبعة منبع النقائص ومحل التصرفات الشيطانية، وهو عبد مربوب أبدا. 
والباطن منبع الأنوار ومرأة التجليات الرحمانية، فله ربوبية من حيث اتصافه بالكمالات وإن كان له عبودية من حيث إنه يستفيض من الرب المطلق دائما. 

فلا يقال، إنه جعل الرب آلة الاتقاء، لأن المتقى اسم مفعول. لأن الباطن الذي جعله آلة الاتقاء هو عبد من وجه. وأيضا، جعل الباطن تارة آلة الاتقاء والظاهر متقى، وأخرى الظاهر آلة الاتقاء والباطن متقى. والظاهر والباطن كلاهما حق، فهو المتقى والمتقى به،كما قال، عليه السلام: "أعوذ بك منك."
(ثم، إنه تعالى أطلعه على ما أودع فيه) أي، آدم. 
(في قبضتيه: القبضة الواحدة فيها العالم، وفي القبضة الأخرى آدم وبنوه وبين مراتبهم فيه). أي، بعد أن أوجد آدم وجعله متصفا بصفاته وخليفة في ملكه، أطلعه على ما أودع فيحقيقته من المعارف والأسرار الإلهية، كما قال: "وعلم آدم الأسماء كلها". 

وجعل ذلك المودع في قبضتيه، أي، في ظهوري الحق وتجلييه بالقدرة لإيجاد العالم الكبير مرة والصغير أخرى، أو في عالميه الكبير والصغير، لأنه قد يقال (القبضة) ويراد بها المقبوض. 
قال الله تعالى: "والأرض جميعا قبضته". أي،مقبوضة مسخرة في يد قدرته. 
القبضة الواحدة فيها العالم، أي، أعيان الموجودات على سبيل التفصيل، وفي القبضة الأخرى آدم وبنوه المشتمل على كل من الموجودات على الإجمال. 
والمراد بهما (اليدان) المعبر عنهما بالصفات الفاعلية والقابلية: فالعالم هو اليد القابلة، وآدم هو اليد الفاعلة المتصرفة في القابلة. 
وقوله: (وبين مراتبهم فيه) أي، مراتب بنى آدم في آدم المشتمل عليهم، كما قالفي الحديث: (إن الله مسح بيده ظهر آدم وأخرج بنيه مثل الذر). - الحديث. ويجوز أن يعود ضمير (فيه) إلى الحق. أي، بين مراتبهم في الحق. والأول أولى.
قوله : (ولما أطلعني الله تعالى في سرى على ما أودع في هذا الإمام الوالد الأكبر،
جعلت في هذا الكتاب منه ما حد لي، لا ما وقفت عليه، فإن ذلك لا يسعه كتاب ولاالعالم الموجود الآن.)
"الوالد الأكبر" وآدم الحقيقي الذي هو الروح المحمدي، و "الوالد الأكبر" هو آدم أبوالبشر.
وإنما قال: (فإن ذلك لا يسعه كتاب) إلى آخره. لأن الكمالات الإنسانية هي مجموع كمالات العالم بأسره مع زيادة تعطيها الحضرة الجامعية والهيئة الاجتماعية، فلو يكشفها كلها، لا يسعها كتاب ولا يسعها أهل العالم بحسب الإدراك، لقصورهم وعجزهم عن إدراك الحقائق على ما هي عليه.
(فمما شهدته مما نودعه في هذا الكتاب كما حده لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم: )
 (حكمة إلهية في كلمة آدمية) وهو هذا الباب الذي مر قولنا فيه) أي، فمن جملة ماشهدته من الذي أودعته في هذا الكتاب ("حكمة إلهية في كلمة آدمية."
و (من) في (مما نودعه) بيان (لما). فقوله: (حكمة) مبتداء، خبره:
(مما شهدته). قدم عليه تخصيصا للنكرة. ثم يتلوه (الفص الشيثي) وهكذا إلى آخر الفصوص. 
وسنذكر سبب تخصيص كل حكمة بكلمة منسوبة إليها في مواضعها، إنشاء الله تعالى.
(ثم، حكمة نفثية في كلمة شيثية.
ثم، حكمة سبوحية في كلمة نوحية 
ثم، حكمة قدوسية في كلمة إدريسية 
ثم، حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية
ثم، حكمة حقية في كلمة إسحاقية
ثم، حكمة علية في كلمة إسماعيلية
ثم، حكمة روحية في كلمة يعقوبية
ثم، حكمة نورية في كلمة يوسفية
ثم، حكمة أحدية في كلمة هودية
ثم، حكمة فاتحية في كلمة صالحية
ثم، حكمة قلبية في كلمة شعيبية
ثم، حكمة ملكية في كلمة لوطية
ثم، حكمة قدرية في كلمة عزيرية
ثم، حكمة نبوية في كلمة عيسوية
ثم، حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
ثم، حكمة وجودية في كلمة داودية
ثم، حكمة نفسية في كلمة يونسية
ثم، حكمة غيبية في كلمة أيوبية
ثم، حكمة جلالية في كلمة يحيوية
ثم، حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
ثم، حكمة إيناسية في كلمة إلياسية
ثم، حكمة إحسانية في كلمة لقمانية
ثم، حكمة إمامية في كلمة هارونية
ثم، حكمة علوية في كلمة موسوية
ثم، حكمة صمدية في كلمة خالدية
ثم، حكمة فردية في كلمة محمدية)

وسنذكر سبب تخصيص كلمة (حكمة) بـ (اكلمة) منسوبة إليها في مواضعها، إنشاء الله تعالى.
(وفص كل حكمة الكلمة المنسوبة إليها فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب. 
فامتثلث على ما رسم لي ووقفت
عند ما حد لي، ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت، فإن الحضرة تمنع من ذلك.
والله الموفق، لا رب غيره) وفص كل حكمة أي محل نقوش كل (حكمة) روح ذلك النبي الذي نسبت (الحكمة) إلى كلمته. 
والمراد بـ (أم الكتاب) الحضرةالعلمية، فإنها أصل الكتب الإلهية.
وإنما قال: (ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت) لأنه وإن أحاط بعلوم وأسرار غير متناهية مودعة في آدم، عليه السلام، لكن العبد الكامل لا يكون  وذلك لأن الفص أحدية جمع حلقة الخاتم، وكان الحلقة منه ظهرت وبه ختمت، وكذلك كل دورة من أدوار النبوة بمنزلة دائرة تامة نبي تلك الدورة أحدية جمعها. 
وكل الدوائر نقاط دائرة الختمية وفصها الخاتم حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله إلا بأمر الحق وإرادته، فلو أراد أن يزيد على ماعينه الحق بحسب نفسه، تمنعه الغيرة الإلهية وما يمكنه من ذلك. 
كما جاء في النبي، صلى الله عليه وسلم: "ليس لك من الأمر شئ، وما عليك إلا البلاغ، إنأنت إلا نذير."
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الأول .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالأربعاء يوليو 24, 2019 11:04 am

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الأول .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية   الجزء الأول

(النفث) لغة إرسال النفس رخوا. ويستعمله أرباب العزائم عقيب الدعاء لزوال المرض.
وهنا استعارة عن إلقاء الحق العلوم الوهبية والعطايا الإلهية في روع هذا النبي وقلبه.
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي: أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها. ألا، فأجملوا في الطلب". - الحديث.
ومعنى (شيث) في اللغة العبرانية، (هبة الله) تعالى. وهو أول من وهبه الله
تعالى آدم بعد تفجعه. وهو أول من وهبه الله تعالى على فقد هابيل فعوضه الله تعالىعن هابيل شيث.
ولما كان آدم تعينا أوليا إجماليا مشتملا مرتبته على جميع مراتب العالم وأراد الله أن يبين ويفصل ذلك الإجمال بحسب "النفس الرحماني" الذي هو عبارة عن انبساط الوجود على الأعيان الثابتة من حضرة "الوهاب" و "الجواد" الذين عليهما يتفرع "المبدئ" و "الخالق" وكان يعد المرتبة الإلهية المرتبة المبدئية والموجودية وهي لا تحصل إلا بنفث النفس الرحماني في الوجود الأعياني ليكون ظاهرا كما كان باطنا، أورد الحكمة الإلهية وخصصها بالكلمة (الشيثية) التي هي بعد التعين الأولى ومظهر التجلي الجودي، فطابق اسمه مسماه.
ولما كان تعينه بحسب الفيض الجودي والمنح الوهبي، شرع (رض) في تحقيق العطايا وبيان أقسامها:
فقال: (اعلم، أن العطايا والمنح الظاهرة في الكون) أي، الحاصلة في الوجود الخارجي. (على أيدي العباد) أي، بواسطتهم، كالعلم الحاصل
للمتعلم والمريد من المعلم والشيخ، وكالحاصل للكمل بواسطة الملائكة وأرواح الأنبياء، عليهم السلام، والأقطاب بعدهم. (وعلى غير أيديهم) كالعلم الحاصل لهما من باطنهما من غير تعليم المعلم وإرشاد الشيخ، بل من الوجه الخاص الذي يلي الحق المتجلى به لكل موجود.
ويجوز أن يراد بقوله: (على أيدي العباد وعلى غير أيديهم) الأسباب الظاهرة فقط.
(على قسمين: منها ما يكون عطايا ذاتية وعطايا أسمائية، وتتميز عند أهل الأذواق) أي، ينقسم على قسمين: عطايا ذاتية، وعطايا أسمائية.
والمراد بالعطايا الذاتية ما يكون مبدأه الذات من غير اعتبار صفة من الصفات معها، وإن كان لا يحصل ذلك إلا بواسطة الأسماء والصفات، إذ لا يتجلى الحق من حيث ذاته على الموجودات إلا من وراء حجاب من الحجب الأسمائية. وبالأسمائية ما يكون مبدأه صفة من الصفات من تعينها وامتيازها عن الذات.
وللأول مراتب:
أولها، (الفيض الأقدس) الذي يفيض من ذاته على ذاته، فيحصل منه الأعيان واستعداداتها  وثانيها، ما يفيض على الطبائع الكلية الخارجية من تلك الأعيان.
وثالثها، ما يفيض منها على أشخاصها الموجودةبحسب مراتبها.
وهذه العطايا الذاتية لا يزال يكون إحدى النعث كقوله تعالى: "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر".
وبحسب الأسماء والصفات ومظاهرها، التي هي القوابل، يتكثر ويتعدد.
والعطايا الأسمائية بخلافها، إذ الصادر من الاسم (الرحيم) يضاد ما يصدر من (المنتقم) لتقيد كل منهما بمرتبة معينة. ومصدرالعطايا الذاتية من حيث الأسماء هو الاسم (الله) و (الرحمن) و (الرب) وغيرهامن أسماء الذات. وقد تقدم بيانها في فصل الأسماء.
وأهل الكشف والشهود يفرق بينهما عند حصول الفيض والتجلي، ويعرف منبع فيضانه بميزانه الخاص له الحاصل من كشفه.
والمراد بأهل الذوق من يكون حكم تجلياته نازلا من مقام روحه وقلبه إلى مقام نفسه وقواه، كأنه يجد ذلك حسا فيدركه ذوقا، بل يلوح ذلك من وجوهم.
قال تعالى: "يعرف في وجوههم نضرة النعيم". وهذا مقام الكمل والأفراد، ولا يتجلى الحق بالأسماء الذاتية إلا لهم.
(كما أن منها) أي، من العطايا.
(ما يكون عن سؤال) أي لفظي. (في معين وعن سؤال في غير معين) شبه إنقسام العطايا بالذاتية والأسمائية من جهة الفاعل بانقسامها بالقسمين من جهة القابل:
أحدهما ما يكون عن سؤال، أي عن طلب العبد، إما في أمر معين كطلب العلم واليقين، أو غير معين كما يقول:
اللهم أعطني ما فيه مصلحتي، فإنك أعلم بحالي وما فيه صلاحي.
وثانيهما قوله: (ومنها ما لا يكون عن سؤال) أي، سؤال لفظي.
فإن السؤال لا بد منه إما بلسان القال أو الحال أو الاستعداد.
(سواء كانت الأعطية ذاتية أو أسمائية.) (الأعطية) جمع (عطاء)، كالأغطية جمع (غطاء.)
قال الشيخ رضي الله عنه : (فالمعين كمن يقول: يا رب أعطني كذا. فيعين أمرا مالا يخطر له سواه) أي،سوى ذلك الأمر. (وغير المعين كمن يقول: يا رب أعطني ما تعلم فيه مصلحتي المعين) بفتح الياء.
أي، فالسؤال المعين كسؤال من يقول: يا رب أعطني كذا. وبالكسر، على أنه اسم فاعل، لا يناسب ما ذكره في التقسيم وهو قوله: (ما يكونعن سؤال في معين) .
وإن كان مناسبا لقوله: (كمن يقول يا رب أعطني) ولايحتاج إلى تقدير السؤال.
(من غير تعيين لكل جزء ذاتي من لطيف وكثيف) أي، بلا تعيين للأجزاء المنسوبة إلى الذات، اللطيفة الروحانية، كالروح والقلب والعقل وقواها، أو للأجزاء الكثيفة البدنية، كالقلب والدماغ والعين.
كما عين النبي، صلى الله عليه وسلم، في دعائه بقوله: (اللهم، اجعل لي في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا...) - الحديث.
وفي بعض النسخ: (لكل جزء من ذاتي من لطيف وكثيف).
أي، كمن يقول: أعطني لكل جزء من ذاتي مافيه مصلحتي من غير تعين المطلوب من لطيف وكثيف ففيه تقديم وتأخير.
وقوله: (لكل جزء) متعلق بـ (أعطني). وعلى الأول متعلق ب (تعيين). وقوله: (من غير تعيين) أي، للمطلوب.
وقوله: (من ذاتي) هو بتخفيف الياء، على الإضافة، لا بتشديدها الذي هو مرادف لجزء الماهية، لأنالجزء أظهر منه ولا يبين الأظهر بالأخفى.
وليس المراد بالذاتي هنا جزء الماهية ولاالأعراض الذاتية التي لها.
فقوله: (من ذاتي) صفة (لكل جزء). فـ (من) فيقوله: (من ذاتي) للتبعيض.
وفي قوله: (من لطيف وكثيف) للبيان. والمبين يجوز أن يكون (ما) في قوله: (ما فيه مصلحتي) ومعناه: أعطني لكل جزء منذاتي ما فيه مصلحتي من لطيف، كالعلوم والمعارف والأرزاق الروحانية، وكثيف، كالمال والولد والأرزاق الجسمانية.
ويجوز أن يكون المبين (لكل جزء) أي، لكل جزء من لطيف كالروح والقلب، وكثيف كأعضاء البدن. كمامر أولا. والظاهر أن تشديد (الياء) وحذف (من) تصرف ممن لا يعرف معنىكلامه.
(والسائلون صنفان) أي، السائلون بلسان القال مع صرف الهمة إلى
المسؤول عنه صنفان.
وإنما قلت: (مع صرف الهمة إلى المسؤول عنه) لأن السائلالذي سئل امتثالا لأمر الله، لا طلبا لشئ من الكمالات لعلمه بحصول ما هومستعد له في كل حين، سائل بلسان القال أيضا، لكن إتيانا بحكم (أدعوني أستجب لكم).
ولأنه تعالى يجب أن يسأل منه، كما قيل:
الله يغضب إن تركت سؤاله وسليل آدم حين يسأله يغضب ولما لم يكن همته متعلقة فيما سأل، فكأنه ليس من السائلين في الحقيقة.
لذلك قال: (صنفان).
وأورد الصنف الثالث بعد الفراغ من ذكر صنفين آخرين، كما يأتي بيانه (صنف بعثه على السؤال الاستعجال الطبيعي، فإن الإنسان خلق عجولا)
أي، يسأل ويطلب الكمال قبل حلول أو انه.
قال الشيخ رضي الله عنه : (والصنف الآخر بعثه على السؤال لما علم أن ثمة أمورا عند الله قد سبق العلم) أي، الإلهي.
(بأنها لا تنال إلا بعد سؤال) فيقول، فلعل ما نسأله سبحانه يكون من هذا القبيل.
فسؤاله احتياط لما هو الأمر عليه من الإمكان) أي، بعثه على السؤال علمه بأن حصول بعض المطالب مشروط بالسؤال والدعاء وإن كان البعض الآخر غير مشروط به، فيقول يمكن أن يكونالمطلوب من قبيل المشروط بالدعاء فيحتاط ويسأل.
وإنما أضمر فاعل (بعثه) لأن قوله: (لما علم) يدل عليه.
(وبعثه) جواب (لما) تقديره: والصنف الآخر لما علم أن ثمة أمورا عند الله قد سبقالعلم بأنها لا تنال إلا بعد سؤال، بعثه علمه عليه، أي، بعثه على السؤال علمه.
فالشرط مع الجزاء خبر المبتدأ. ويجوز أن يقال: لما علم، بكسر اللام على أنهللتعليل. أي، والصنف الآخر بعثه على السؤال علمه لكونه علم أن ثمة أموراعند الله لا تنال إلا بالسؤال.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهو لا يعلم ما في علم الله ولا ما يعطيه استعداده في القبول) أي، لا يعلمما عين له في علم الله من الكمال، ولا يعلم ما يعطيه استعداده الجزئي في كلوقت، ولا ما هو قابل له فيه.
(لأنه من أغمض المعلومات الوقوف في كل زمان فرد) أي معين.
(على استعداد الشخص في ذلك الزمان). أي، لأن الشأن أن الوقوف على ما يعطيه استعداد الشخص في كل زمان معين من أغمض
المعلومات، إذ الاطلاع عليه موقوف على الاطلاع بما في علم الله تعالى، أو كتبه التي هي نسخ علمه:
كالعقل الأول الذي هو (اللوح المحفوظ)
والنفس الكلية التي هي (الكتاب المبين)
والنفس المنطبعة التي هي (كتاب المحو والإثبات) وإلا لا يمكن أن يقف عليه.
كما قال تعالى: "وما تدرى نفس ما ذا تكسب غدا".
(ولو لا ما أعطاه الاستعداد السؤال، ما سأل) أي، وإن كان يعلم إجمالا أنه لو لا طلب استعداده السؤال، ما سأل.
(فغاية أهل الحضور الذين لا يعلمون مثل هذا) أي، في كل وقت معين.


قال الشيخ رضي الله عنه : (أن يعلمون في الزمان الذي يكونون فيه، فإنهم لحضورهم يعلمون ما أعطاهم الحق في ذلك الزمان) أي، غاية أهل الحضور والمراقبة الذين لا يعلمون استعدادهم في كل زمان من الأزمنة، أن يعلموااستعدادهم في زمان حضورهم بما أعطاهم الحق من الأحوال.
(وأنهم ما قبلوهإلا بالاستعداد). أي، ويعلمون أنهم ما قبلوا ذلك إلا بالاستعداد الجزئي فيذلك الزمان.
(وهم صنفان: صنف يعلمون من قبولهم استعدادهم) وهم كالمستدلينمن الأثر على المؤثر إلى الأثر. (وصنف يعلمون من استعدادهم ما يقبلونه) كالمستدلين من المؤثر.
(وهذا أتم ما يكون في معرفة الاستعداد في هذا الصنف) لأنهم طلع بعينه الثابتة وبأحوالها في كل زمان، بل بأعيان غيره أيضا وأحوالهم (في كتاب مرقوم يشهده المقربون).
وهذا الكامل هو الذي يقدر على تكميل غيره من المريدين والطالبين.
(ومن هذا الصنف من يسأل لا للاستعجال ولا للإمكان، و إنما يسأل امتثالا لأمر الله في قوله تعالى: "أدعوني أستجب لكم".
فهو العبد المحض أي، هو العبد التام في العبودية الممتثل لأوامره كلها من غير شوب من الحظوظ،لأنه بحضوره دائما يعرف استعداده وما يفيض من الحق من التجليات بحسب استعداده عليه، فيكون سؤاله لفظا امتثالا لأمره تعالى كما مر.
قال الشيخ رضي الله عنه (وليس لهذا الداعي همة متعلقة فيما يسأل منه من معين أو غير معين، وإنما همته في امتثال أوامرسيده) لأنه منزه عن طلب غير الحق من المطالب الدنياوية والأخراوية، بل نظره على الحق جمعا في مقام وحدته، وتفصيلا في مظاهره.
(فإذا اقتضى الحال السؤال) أي اللفظي. (يسأل عبودية، وإذا اقتضى) أي الحال.
(التفويض والسكوت، سكت. فقد ابتلى أيوب وغيره وما سألوا رفعما ابتلاهم الله به. ثم اقتضى لهم الحال) أي اقتضى حالهم.
(في زمان آخر أن يسألوهرفع ذلك، فسألوا، فرفعه الله عنهم). ظاهر.
(والتعجيل بالمسؤول فيه والإبطاء للقدر المعين له) أي، للمسؤول فيه.
(عند الله). أي، التعجيل في الإجابة والإبطاء فيها إنما هو للقدر، أي، لأجل القدرالمعين وقته في علم الله وتقديره كذلك.
فقوله: (للقدر) خبر المبتدأ وهو (التعجيل.)
(فإذا وافق السؤال الوقت أسرع بالإجابة) أي، حصول المسؤول في الحال.
(وإذا تأخر الوقت) أي، وقت حصول المسؤول.
(إما في الدنيا) كالمطالب الدنياوية إذا تأخرت إجابتها.
(وإما في الآخرة) كالمطالب الأخراوية.
(تأخرت الإجابة، أي المسؤول فيه) إلى حصول وقتها. (لا الإجابة التي هي لبيكمن الله، فافهم هذا). إشارة إلى ما جاء في الحديث الصحيح: (إن العبد إذا دعاربه، يقول الله : لبيك يا عبدي). في الحال من غير تأخر عن وقت الدعاء. ومعنى (لبيك) من الله ليس إلا إجابة المسؤول في الحال، لكن ظهوره موقوف إلى الوقت المقدر له.
بل الحق تعالى ما يلقى في قلب العبد الدعاء والطلب إلا للإجابة، لذلك قال: (لا الإجابة التي هي لبيك من الله.)
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما القسم الثاني وهو قولنا: ومنها ما لا يكون عن سؤال، فالذي لا يكون عن سؤال، فإنما أريد بالسؤال التلفظ به، فإنه في نفس الأمر لا بد من سؤال، إما باللفظ أو بالحال أو بالاستعداد)
القسم الثاني وهو السؤال بلسان الحال والاستعداد، والأول كقيام الفقير بين يدي الغنى لطلب الدنيا، وسؤال الحيوانما يحتاج إليه. لذلك قيل لسان الحال أفصح من لسان القال. وقال الشاعر:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة    ..... سكوتي بيان عندكم وخطاب
والسؤال بلسان الاستعداد، كسؤال الأسماء الإلهية ظهور كمالاتها و
سؤال الأعيان الثابتة وجوداتها الخارجية. ولو لا ذلك السؤال، ما كان يوجدموجود قط، لأن ذاته تعالى غنية عن العالمين.
قال الشيخ رضي الله عنه : (كما أنه لا يصح حمد مطلق قط إلا في اللفظ، وأما في المعنى فلا بد أن يقيده الحال. فالذي يبعثك على حمد الله هو المقيد لك باسم فعل أو باسم تنزيه). أي، لا بدفي نفس الأمر من سؤال، وذلك السؤال لا يصح أن يكون مطلقا إلا في اللفظ، ﻛﻤﺎﻻ ﻳﺼﺢ ﺍﻟﺤﻤﺪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﺇﻻ ﻓﻴﻪ.
ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻭﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﻳﻘﻴﺪ ﺍﻟﻤﺴﺆﻭﻝ ﺑﻤﺎ ﻳﻘﺘﻀﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﺍﻟﻤﺨﺼﻮﺹ ﻭﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺍﻟﻤﻌﻴﻦ، ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺍﻟﺤﻤﺪ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻣﻘﻴﺪ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﺍﻟﻤﻌﻴﻦ.
ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺒﺎﻋﺚ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﺑﺄﻥ ﻳﺘﻘﻴﺪ ﻭﻳﺤﻤﺪ ﺍﻟﺤﻖ ﺑﺎﺳﻢ ﻓﻌﻞ ﻙ "ﺍﻟﻤﻌﻄﻰ" ﻭ "ﺍﻟﺮﺯﺍﻕ" ﻭ "ﺍﻟﻮﻫﺎﺏ"، ﺃﻭ ﺑﺎﺳﻢ ﺻﻔﺔ ﺗﻨﺰﻳﻬﻴﺔ ﻙ "ﺍﻟﻘﺪﻭﺱ" ﻭ "ﺍﻟﻐﻨﻰ" ﻭ "ﺍﻟﺼﻤﺪ"، ﺃﻭ ﺑﺎﺳﻢ ﺻﻔﺔ ﺇﺿﺎﻓﻴﺔ ﻙ "ﺍﻟﻌﻠﻴﻢ" ﻭ "ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ" ﻭ "ﺍﻟﻘﺎﺩﺭ"، ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺕ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﺃﻳﻀﺎ، ﻟﻴﻘﻴﺪﻫﺎ ﺑﺄﺯﻣﻨﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ.
ﻭﺍﻋﻠﻢ، ﺃﻥ ﺣﻘﻴﻘﺔ "ﺍﻟﺤﻤﺪ"، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻫﻲ ﻫﻲ، ﻻ ﻟﺴﺎﻥ ﻟﻬﺎ ﻭﻻ ﺣﻜﻢ، ﻭ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻃﻼﻗﻬﺎ ﻭﻋﻤﻮﻣﻬﺎ، ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺤﻤﻮﺩﺓ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻧﺒﺴﺎﻃﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻛﻮﺍﻥ.
ﻭﻟﺴﺎﻧﻬﺎ ﻗﻮﻟﻨﺎ: "ﺍﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺣﺎﻝ". ﻭﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﻘﻴﺪﻫﺎ ﺑﺤﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ، ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺤﻤﻮﺩ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﻘﻴﺪ ﺑﺎﺳﻢ ﻓﻌﻞ ﺃﻭ ﺻﻔﺔ ﺃﻭ ﺗﻨﺰﻳﻪ. "
ﻭﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺃﻳﻀﺎ ﻛﺬﻟﻚ.(ﻭﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻻ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻪ ﺻﺎﺣﺒﻪ، ﻭﻳﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﺤﺎﻝ، ﻷﻧﻪ ﻳﻌﻠﻢ ﺍﻟﺒﺎﻋﺚ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺤﺎﻝ. ﻓﺎﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺃﺧﻔﻰ ﺳﺆﺍﻝ).
ﺃﻱ، ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﻻ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺎﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ ﺍﻟﺠﺰﺋﻲ ﺍﻟﻤﻘﺘﻀﻰ ﻟﻔﻴﻀﺎﻥ ﻣﻌﻨﻰ ﺟﺰﺋﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻟﺨﻔﺎﺋﻪ، ﻓﺈﻥ ﺍﻻﻃﻼﻉ ﻋﻠﻴﻪ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﻜﻤﻞ، ﻻ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺒﺘﺪﻳﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻠﻮﻙ، ﻭﻻ ﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﺃﺭﺑﺎﺏ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻫﻢ ﺍﻟﻤﺘﻮﺳﻄﻮﻥ ﻓﻴﻪ.
ﻭﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺤﺎﻟﻪ ﻭﻳﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﺒﺎﻋﺚ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﻫﻮ ﺍﻟﺤﺎﻝ، ﻭﻣﻨﻪ ﻳﺴﺘﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ، ﻓﺈﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺃﻣﺮﺍ ﺧﻔﻴﺎ، ﻓﺴﺆﺍﻟﻪ ﺃﻳﻀﺎ ﺧﻔﻰ ﻣﺜﻠﻪ. ﻭﻗﺪ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻣﺸﻌﻮﺭﺍ ﺑﻪ ﻟﻐﻴﺮ ﺻﺎﺣﺒﻪ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ، ﻛﺸﻌﻮﺭ ﺍﻟﻐﻨﻰ ﺑﻔﻘﺮ ﺍﻟﻔﻘﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﺘﺎﺝ.
ﻭﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﻟﻼﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺕ ﺇﻻ ﻟﻠﻜﻤﻞ ﻭﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﻤﻄﻠﻌﻴﻦ ﺑﺎﻷﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﺤﻖ ﺗﻌﺎﻟﻰ. (ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻳﻤﻨﻊ ﻫﺆﻻﺀ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﻋﻠﻤﻬﻢ ﺑﺄﻥ ﻟﻠﻪ ﻓﻴﻬﻢ ﺳﺎﺑﻘﺔ ﻗﻀﺎﺀ، ﻓﻬﻢ ﻗﺪ ﻫﻴﺌﻮﺍ ﻣﺤﻠﻬﻢ ﻟﻘﺒﻮﻝ ﻣﺎ ﻳﺮﺩ ﻣﻨﻪ ﻭﻗﺪ ﻏﺎﺑﻮﺍ ﻋﻦ ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ﻭﺃﻏﺮﺍﺿﻬﻢ) ( ﺃﻱ، ﻟﻤﺎ ﻋﻠﻤﻮﺍ ﻫﺆﻻﺀ ﺃﻥ ﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺣﻘﻬﻢ ﺣﻜﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻀﺎﺀ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻮﺩﻫﻢ، ﻭﻻ ﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﺼﻞ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻭﺍﻟﺸﺮ ﻭﺍﻟﻜﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﻨﻘﺼﺎﻥ ﻭﻛﻞ ﻣﺎ ﻗﺪﺭ ﻟﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻷﺯﻝ، ﺍﺳﺘﺮﺍﺣﻮﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻠﺐ، ﻭﻣﻨﻊ ﻋﻠﻤﻪ ﻫﺬﺍ ﺃﻥ ﻳﺴﺄﻟﻮﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺷﻴﺌﺎ، ﻭﺍﺷﺘﻐﻠﻮﺍ ﺑﺘﻄﻬﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﻞ ﻋﻦ ﺩﺭﻥ ﺍﻟﺘﻌﻠﻘﺎﺕ ﺑﺎﻷﻣﻮﺭ ﺍﻟﻔﺎﻧﻴﺔ ﻭﻗﻄﻊ ﺍﻟﻌﻼﺋﻖ، ﻟﺘﻜﻮﻥ ﻣﺮﺁﺓ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﻃﺎﻫﺮﺓ ﻣﺠﻠﻮﺓ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﺃﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻭﻳﻘﺒﻞ ﻣﺎ ﻳﺮﺩ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺕ، ﻭﻳﺒﻘﻰ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩ ﻋﻠﻰ ﻃﻬﺎﺭﺗﻪ ﻭﻻ ﻳﻨﺼﺒﻎ ﺑﺼﺒﻎ ﺍﻟﻤﺤﻞ، ﻓﻴﻔﻴﺪ ﻏﻴﺒﺘﻬﻢ ﻋﻦ ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ﻭﺃﻏﺮﺍﺿﻬﻢ، ﻓﻴﻔﻨﻮﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﻳﺒﻘﻮﺍ ﺑﺒﻘﺎﺋﻪ.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ﻭﻣﻦ ﻫﺆﻻﺀ ﻣﻦ ﻳﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﺣﻮﺍﻟﻪ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﺣﺎﻝ ﺛﺒﻮﺕ ﻋﻴﻨﻪ ﻗﺒﻞ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ) ﺃﻱ، ﻭﺟﻮﺩ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻌﻴﻦ. (ﻭﻳﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﻻ ﻳﻌﻄﻴﻪ ﺇﻻ ﻣﺎ ﺃﻋﻄﺘﻪ ﻋﻴﻨﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﻪ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﺣﺎﻝ ﺛﺒﻮﺗﻪ، ﻓﻴﻌﻠﻢ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺃﻳﻦ ﺣﺼﻞ. ﻭﻣﺎ ﺛﻢ ﺻﻨﻒ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻰ ﻭﺃﻛﺸﻒ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺼﻨﻒ، ﻓﻬﻢ ﺍﻟﻮﺍﻗﻔﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺳﺮ ﺍﻟﻘﺪﺭ).
ﻗﻴﻞ: ﺇﻥ ﺣﻀﺮﺓ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﻫﻲ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻷﻭﻝ، ﻭﻫﻮ ﻧﻮﻉ ﻣﻨﺸﻌﺐ ﺇﻟﻰ ﺃﺭﻭﺍﺡ ﻓﺎﺋﺘﺔ ﻟﻠﺤﺼﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﺃﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﻜﻤﻞ ﻣﻦ ﻧﻮﻉ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ، ﻭﻫﻲ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﺭﻭﺣﺎﻧﻴﺔ ﻣﺘﻤﺎﻳﺰﺓ ﻛﻞ ﺭﻭﺡ ﻣﻨﻬﺎ، ﻣﻨﺘﻘﺶ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻳﺠﺮﻯ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺍﻷﺯﻝ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﺑﺪ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻤﺴﻤﺎﺓ ﺏ "ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ".
ﻫﺬﺍ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻧﺘﻘﺎﺵ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺍﻷﻭﻝ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﺤﺘﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﺍﻟﻤﻤﻜﻨﺔ ﺣﻘﺎ، ﻟﻜﻦ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻷﻭﻝ ﺃﻳﻀﺎ ﻋﻴﻦ ﻣﺘﺼﻔﺔ ﺑﺎﻟﺜﺒﻮﺕ ﻗﺒﻞ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ، ﻓﺎﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻗﺒﻞ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ، ﻷﻥ ﺍﻟﻜﻞ ﻓﻲ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻣﻮﺻﻮﻓﺔ ﺑﺎﻟﻌﺪﻡ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻲ ﻭﺍﻟﺜﺒﻮﺕ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ ﻣﺸﺘﺮﻙ.
ﻭﺍﻟﺤﻖ ﻣﺎ ﺑﻴﻨﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ: ﺇﻥ ﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺃﺳﻤﺎﺀ ﻫﻲ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﺍﻟﻐﻴﺐ، ﻭﻟﻬﺎ ﻟﻮﺍﺯﻡ ﺗﺴﻤﻰ ﺑﺎﻷﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ. ﻭﻛﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﻏﻴﺐ ﺍﻟﺤﻖ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻭﺣﻀﺮﺗﻪ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ، ﻭﻟﻴﺴﺖ ﺇﻻ ﺷﺆﻭﻧﻪ ﻭﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﺔ ﻓﻲ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻟﺒﺎﻃﻦ. ﻓﻠﻤﺎ ﺃﺭﺍﺩ ﺍﻟﺤﻖ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺇﻳﺠﺎﺩﻫﻢ ﻟﻴﺘﺼﻔﻮﺍ ﺑﺎﻟﻮﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ، ﻛﻤﺎ ﺍﺗﺼﻔﻮﺍ ﺑﺎﻟﺜﺒﻮﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﻃﻦ، ﺃﻭﺟﺪ ﻫﻢ ﺑﺄﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ.
ﻭﺃﻭﻝ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺇﻳﺠﺎﺩﻫﻢ ﺇﺟﻤﺎﻻ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻷﻭﻝ ﻟﻴﺪﺧﻠﻮﺍ ﺗﺤﺖ ﺣﻜﻢ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﻭﻳﺘﺠﻠﻰ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﻧﻮﺍﺭﻩ، ﻓﻬﻮ ﻣﻈﻬﺮ ﻟﻠﺤﻀﺮﺓ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻣﻈﻬﺮ ﻟﻠﻘﺪﺭﺓ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ. ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ، ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻬﺎ، ﻓﻴﺪﺭﻛﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻟﻮﺍﺯﻣﻬﺎ ﻭﺃﺣﻜﺎﻣﻬﺎ.
ﻭﻗﺪ ﺑﻴﻨﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ "ﺍﻷﺣﺪﻳﺔ" ﻋﻴﻦ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻣﻄﻠﻘﺎ، ﻭﻓﻲ "ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﻳﺔ" ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺣﻀﺮﺓ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﻭ ﺍﻟﺼﻔﺎﺕ ﻧﺴﺒﺔ ﻣﻐﺎﻳﺮﺓ ﻟﻠﺬﺍﺕ، ﻓﻤﺎ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻠﻢ، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻪ ﻧﺴﺒﺔ، ﺇﻻ ﻣﺎ ﺃﻋﻄﺘﻪ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺗﺎﺑﻌﺎ ﻟﻠﻤﻌﻠﻮﻡ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻻﻋﺘﺒﺎﺭ.
ﻓﺈﺫﺍ ﻋﺮﻓﺖ ﺫﻟﻚ، ﻓﻨﻘﻮﻝ: ﻣﻦ ﻫﺆﻻﺀ، ﺃﻱ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻨﻒ ﺍﻟﺬﻱ ﻣﻨﻌﻬﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﻋﻠﻤﻬﻢ، ﻣﻦ ﻳﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﺣﻮﺍﻟﻪ ﻫﻮ ﺗﺎﺑﻊ ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﺣﺎﻝ ﺛﺒﻮﺗﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻴﺐ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﻗﺒﻞ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ ﺍﻟﻌﻴﻨﻲ، ﻭﻳﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻻ ﻳﻌﻄﻰ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻌﻴﻨﻲ ﺇﻻ ﻣﺎ ﺃﻋﻄﻰ ﺍﻟﺤﻖ ﻋﻴﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﻪ.
ﺃﻱ ﺑﺎﻟﻌﺒﺪ، ﻓﻴﻌﻠﻢ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﺃﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺑﻪ ﺣﺎﺻﻞ ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻴﺐ، ﻭﺇﺫﺍ ﻋﻠﻢ ﺃﻥ ﻣﺎ ﻳﺤﺼﻞ ﻟﻪ ﻫﻮ "ﻣﻨﻪ" ﻭ "ﻋﻠﻴﻪ" ﺣﺘﻰ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﺤﻖ ﺃﻳﻀﺎ ﺗﺎﺑﻊ ﻟﻌﻴﻨﻪ، ﻻ ﻳﻄﻠﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻖ ﺷﻴﺌﺎ.
ﻭﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﻗﺎﻝ ﺑﻌﺾ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺸﻄﺢ: "ﺍﻟﻔﻘﻴﺮ ﻻ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻠﻤﻪ ﻣﻔﺼﻼ. (ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻴﻪ) ﺃﻱ، ﻓﻲ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻣﻦ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ.
ﻭﺫﻟﻚ ﻳﻜﻮﻥ (ﺇﻣﺎ ﺑﺈﻋﻼﻡ ﺍﻟﻠﻪ ﺇﻳﺎﻩ ﺑﻤﺎ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﻋﻴﻨﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﻪ ) ﺃﻱ، ﺑﺄﻥ ﻳﻠﻘﻴﻪ ﻓﻲ ﺭﻭﺣﻪ ﻭﻗﻠﺒﻪ ﻭﻳﻌﻠﻤﻪ ﺑﺄﻥ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻳﻘﺘﻀﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﻤﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺃﻥ ﻳﻄﻠﻌﻪ ﻋﻠﻰ ﻋﻴﻨﻪ ﻛﺸﻔﺎ.
(ﻭﺇﻣﺎ ﺑﺄﻥ ﻳﻜﺸﻒ ﻟﻪ ﻋﻦ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻭﺍﻧﺘﻘﺎﻻﺕ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺘﻨﺎﻫﻰ) ﻓﻴﺸﺎﻫﺪﻫﺎ ﻭﻳﻄﻠﻊ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻋﻠﻰ ﻟﻮﺍﺯﻣﻬﺎ ﻭﺃﺣﻮﺍﻟﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻠﺤﻘﻬﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻘﺎﻡ ﻭﻣﺮﺗﺒﺔ.
ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻥ ﻋﻴﻨﻪ ﻣﻈﻬﺮﺍ ﻟﻺﺳﻢ ﺍﻟﺠﺎﻣﻊ ﺍﻹﻟﻬﻲ، ﻛﻌﻴﻦ ﻧﺒﻴﻨﺎ ﻭﻋﻴﻦ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺻﻠﻮﺍﺕ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﻛﺎﻥ ﻣﻄﻠﻌﺎ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﻣﻦ ﻋﻴﻦ ﺍﻃﻼﻋﻪ ﻋﻠﻰ ﻋﻴﻨﻪ ﻹﺣﺎﻃﺔ ﻋﻴﻨﻪ ﺑﻬﺎ، ﻛﺈﺣﺎﻃﺔ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻣﻈﻬﺮﻩ ﺑﺎﻷﺳﻤﺎﺀ ﻛﻠﻬﺎ.
ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻗﺮﻳﺒﺎ ﻣﻨﻪ ﻓﻲ ﺍﻹﺣﺎﻃﺔ، ﻛﺎﻥ ﻣﻄﻠﻌﺎ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺒﻪ. ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻪ ﺇﺣﺎﻃﺔ ﺃﺻﻼ، ﻻ ﻳﻄﻠﻊ ﺇﻻ ﻋﻠﻰ ﻋﻴﻨﻪ ﻓﻘﻂ.
(ﻭﻫﻮ ﺃﻋﻠﻰ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﻋﻴﻨﻪ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻪ، ﻷﻥ ﺍﻷﺧﺬ ﻣﻦ ﻣﻌﺪﻥ ﻭﺍﺣﺪ) ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻌﻴﻦ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺔ.
ﺃﻱ، ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﻓﻴﻌﻠﻤﻪ، ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﻋﻠﻢ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﺎﻣﻞ ﺑﻪ ﻓﻴﻌﻠﻤﻪ، ﺇﻻ ﺃﻥ ﺍﻟﻔﺮﻕ ﺣﺎﺻﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﻦ: ﺑﺄﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﻟﺬﺍﺗﻪ ﻻ ﺑﻮﺍﺳﻄﺔ ﺃﻣﺮ ﺁﺧﺮ ﻏﻴﺮ ﺫﺍﺗﻪ، ﻭﻋﻠﻢ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﺑﻌﻴﻨﻪ ﻭ ﺃﺣﻮﺍﻟﻬﺎ ﺣﻴﻨﺌﺬ ﺑﻮﺍﺳﻄﺔ ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺣﻘﻪ. ﻭﻫﺬﺍ ﻣﻌﻨﻰ ﻗﻮﻟﻪ: (ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻋﻨﺎﻳﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﻘﺖ ﻟﻪ، ﻫﻲ ﻣﻦ ﺟﻤﻠﺔ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ، ﻳﻌﺮﻓﻬﺎ ﺻﺎﺣﺐ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﺇﺫﺍ ﺃﻃﻠﻌﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ، ﺃﻱ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﻋﻴﻨﻪ) ﻭﻫﺬﺍ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻣﻘﺎﻣﺎﺕ ﺍﻟﻤﻜﺎﺷﻔﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻔﺮ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ.
ﺑﻴﻦ ﺃﻭﻻ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﺴﺎﺋﻠﻴﻦ ﻣﺒﺘﺪﺀﺍ ﻣﻦ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻟﻤﺤﺠﻮﺑﻴﻦ ﻣﺘﺪﺭﺟﺎ ﺇﻟﻰ ﻏﺎﻳﺔ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻟﻤﻜﺎﺷﻔﻴﻦ.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالخميس يوليو 25, 2019 5:04 am

10 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني

شبه حال الإنسان باعتبارية:
إعتبار كونه من العالم، واعتبار كونه عالما آخر برأسه، له شأن آخر بالفص، لأن الفص أيضا قد يكون جزء من الخاتم وهو محل النقش، وقد يكون مركبا عليه.
وإنما يركب في الخاتم ليكون جزء منه عند الفراغ من عمله فهو آخر العمل، كذلك الإنسان نوع من الحيوان وآخر ما ينتهى به دائرة وجود العيني.
وكما أن الفص له شأن آخر وهو كونه محل النقوش التي بها يختم ويحفظ الخزائن، كذلك الإنسان هو محل جميع نقوش الأسماء الإلهية والحقائق الكونية التي يتمكن بها من (الخلافة). وبهذاالاعتبار سماه الحق (خليفة) بقوله: "إني جاعل في الأرض خليفة" 
قوله: (لأنه الحافظ خلقه كما يحفظ بالختم الخزائن، فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلا بإذنه.
فاستخلفه في حفظ العالم ، فلا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل) تعليل لتسميته بالخليفة .
وذلك لأن الملك إذاأراد أن يحفظ خزائنه عند غيبته عنها، يختم عليها لئلا يتصرف فيها أحد فيبقى محفوظة، فالختم حافظ لها بالخلافة لا بالأصالة.
فكذلك الحق يحفظ خلقه بالإنسان الكامل عند استتاره بمظاهر أسمائه وصفات عزه، وكان هو الحافظ لها قبل الاستتار والاختفاء وإظهار الخلق، فحفظ الإنسان لها بالخلافة، فسمى بـ (الخليفة) لذلك.
وحفظه للعالم عبارة عن إبقاء صور أنواع الموجودات على ما خلقت عليها الموجب لإبقاء كمالاتها وآثارها باستمداده من الحق التجليات الذاتية والرحمة الرحمانية والرحيمية بالأسماء والصفات التي هذه الموجودات صارت مظاهرها ومحل استوائها.
إذ الحق إنما يتجلى لمرآة قلب هذا الكامل، فينعكس الأنوار منقلبه إلى العالم، فيكون باقيا بوصول ذلك الفيض إليها، فما دام هذا الإنسان موجودا في العالم يكون محفوظا بوجوده وتصرفه في عوالمه العلوية والسفلية.
فلا يجسر أحد من حقائق العالم وأرواحها على فتح الخزائن الإلهية والتصرف فيها إلا بإذن هذا الكامل، لأنه هو صاحب الاسم الأعظم الذي به يرب العالم كله.
فلا يخرج من الباطن إلى الظاهر معنى من المعاني إلا بحكمه، ولا يدخل من الظاهر في الباطن شئ إلا بأمره، وإن كان يجهله عند غلبة البشرية عليه، فهو البرزخ بين البحرين والحاجز بين العالمين.
وإليه الإشارة بقوله: "مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ".
قوله: (ألا تراه إذا زال وفك من خزانة الدنيا لم تبق فيها ما اختزنه الحق فيها وخرج ما كان فيها، والتحق بعضه ببعض، وانتقل الأمر إلى الآخرة، فكانختما على خزانة الآخرة ختما أبديا) تعليل واستشهاد لقوله: (فلا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل).
(ألا تراه) أي، ألا ترى الإنسان الكامل. (إذا زال وفك) أي، فارق وانتقل من الدنيا إلى الآخرة ولم يبق في الأفراد الإنساني من يكون متصفا بكماله ليقوم مقامه، ينتقل معه الخزائن الإلهية إلى الآخرة، إذ الكمالات كلها ما كانت قائمة مجموعة ومنحصرة محفوظة إلا به، فلما انتقل، انتقلت معه ولم يبق في خزانة الدنيا ما اختزنه الحق فيها من الكمالات.
فان قلت: الكامل ختم حافظ للخزائن، ولا يلزم من انتقال الختم الحافظ انتقال الخزائن، فكيف قال: (ولم يبق فيها ما اختزنه الحق)؟
قلت: الكامل ختم للخزائن وحافظ لوجودها، إذ الأسرار الإلهية مفصلة في العالم ومجموعة في الكامل، كما قال الشاعر:
كل الجمال غدا لوجهك مجملا  ...  لكنه في العالمين مفصلا
ولا يتجلى الحق على العالم الدنيوي إلا بواسطته، كما مر، فعند انتقاله ينقطع عنه الإمداد الموجب لبقاء وجوده وكمالاته، فينتقل الدنيا عند انتقاله ويخرج ما كان فيها من المعاني والكمالات إلى الآخرة.
قال، رضى الله عنه، في التسمية الإلهي بالاسم الرباني: (ألا ترى الدنيا باقية ما دام هذا الشخص الإنسان فيها) والكائنات يتكون والمسخرات تتسخر، فإذا انتقل إلى الدار الآخرة، مارت
هذه السماء مورا وسارت الجبال سيرا ودكت الأرض دكا، وانتشرت الكواكب وكورت الشمس وذهبت الدنيا وقامت العمارة في الدار الآخرة بنقل الخليفة إليها.
قوله(والتحق بعضه ببعض) أي، التحق بعض ما اختزنه الحق في الدنيا ببعض ما اختزنه في الآخرة.
وذلك لأن كل ما هو موجود في الظاهر من الحقائق والمعاني موجودة في عالم الباطن الذي بظهوره يحصل الآخرة على صورة يقتضيهاعالمها، وهو أصل بالنسبة إلى ما في الظاهر.
فإذا انتقل هذا البعض منها، التحق ببعضه الذي هو أصله في الآخرة، وانتقل الأمر الإلهي إليها.
(فكان ختما) أي، هذا الكامل كان ختما حافظا على خزانة الآخرة ختما أبديا.
وهذا معنى ما يقال: إن القرآن يرفع إلى السماء، لأنه خلق الكامل، كما قالت عائشة: (وكان خلقه القرآن).
بل هو القرآن والكتاب المبين الإلهي. كما قال، رضى الله عنه:
أنا القرآن والسبع المثاني  .....  وروح الروح لا روح الأواني
فؤادي عند مشهودى مقيم  .....  يشاهده وعندكم لساني
 قال أمير المؤمنين على، كرم الله وجهه:
وأنت الكتاب المبين الذي  ....   بأحرفه يظهر المضمر
وجاء في الخبر أيضا: "أن الحق تعالى ينزع العلم بانتزاع العلماء حتى لم يبقعلى وجه الأرض من يعلم مسألة علمية ومن يقول: الله الله، ثم عليهم تقوم القيامة" وكون الكامل ختما على خزانة الآخرة، دليل على أن التجليات الإلهية لأهل الآخرة.
إنما هي بواسطة الكامل كما في الدنيا، والمعاني المفصلة لأهلها متفرعة عن مرتبته ومقام جمعه أبدا، كما تفرع منها أزلا، فما للكامل من الكمالات في الآخرة لا يقال بما له من الكمالات في الدنيا، إذ لا قياس لنعم الآخرة بنعم الدنيا.
وقد جاء في الخبر الصحيح: "إن الرحمة مأة جزء. جزء منهالأهل الدنيا، وتسعة وتسعون لأهل الآخرة"  ومن يتحقق بهذا المقام ويمعن النظر فيه، يظهر له عظمة الإنسان الكامل وقدره.
قوله: (فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية، فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود، وبه قامت الحجة لله تعالى على الملائكة) أي، لما استخلف الإنسان وجعله ختما على خزائن الدنيا والآخرة، ظهر جميع مافي الصورة الإلهية من الأسماء في النشأة الإنسانية الجامعة بين النشأة العنصرية والروحانية، أي صارت جميع هذه الكمالات فيها بالفعل.
وقد صرح شيخنا، رضى الله عنه، في كتاب المفتاح: "إن من علامات الكامل أن يقدر على الإحياء والإماتة وأمثالهما" . وإطلاق (الصورة) على الله مجاز، إذ لا يستعمل في الحقيقة إلا في المحسوسات وفي المعقولات مجازا.
هذا باعتبار أهل الظاهر. وأما عند المحقق فحقيقة، لأن العالم بأسره صورة الحضرةالإلهية تفصيلا، والإنسان الكامل صورته جمعا.
قال النبي، صلى الله عليه وآله: "إن الله خلق آدم على صورته".
فالنشأة الإنسانية حازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود، أي بالوجود العيني، وذلك لأنه حاز بجسمه رتبة الأجسام وبروحه رتبة الأرواح، وبه، أي بهذا الجمع، قامت الحجة على الملائكة لإحاطتهبما لم يحيطوا به.
قوله: (فتحفظ فقد وعظك الله بغيرك، وانظر من أين أتى على من أتى عليه) تنبيه للسالك بالتأدب بين يدي الله تعالى وخلفائه والمشايخ والعلماءوالمؤمنين، لئلا يظهر بالأنانية وإظهار العلم والكمال عندهم، لأنه يسلكللفناء. وذلك لا يحصل إلا برؤية ما لغيره من الكمال وعدم رؤية ما لنفسه لابالعكس. وفيه أقول:
تعلم من العينين إن كنت عاقلا * شهود جمال الغير عند التواصل ولا تك كالطاووس يعشق نفسه * ويبقى ملوما عند كل الكوامل أي، وعظك الله بزجره للملائكة بقوله: (إني أعلم مالا تعلمون)
و (أتى) مبنى للمفعول. يقال: أتاه وأتى به وأتى عليه. وإنما جاء هنا ب (على) لأنهفي معرض التوبيخ والزجر، كأنه قال: وانظر من أين هلك من هلك.
قوله: (فإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذه الخليفة ولا وقفت مع ماتقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية) بيان سبب وقوع الملائكة في التوبيخ.
وليس (الوقوف) هنا بمعنى الشعور والاطلاع وإلا كان الواجب أن يقول: على مايعطيه. فإنه تعدى بـ (على). بل بمعنى الثبوت.
فمعناه: أن الملائكة ما قنعت ولا وقفت مع ما أعطته مرتبة هذه الخليفة أزلا، بحسب نشأته الروحانية، مما هي عليه من التسبيح والتهليل والكمال اللائق بها، بل تعدت عنه وطلبت الزيادة على ما وهبت.
يقال: فلان وقف مع فلان وواقف معه. إذا لم يتعد عنه في السير.
ولم يقف معه. إذا تعدى عنه. وهذا الكلام إشارة إلى ما مر من أن جميع الموجودات ما يأخذون كمالهم إلا من مرتبة الإنسان الكامل، ولا يحصل لهم المدد في كل آن إلا منها، لأن الأسماء كلها مستمدون من اسم (الله) الذي هذا الكامل مظهره.
ويجوز إن يراد بـ (النشأة) ههنا نشأة رتبته الجامعة للنشأتين، ويجوز أن يراد النشأة الروحانية وحدها.
قوله: (ولا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية) بيان سبب آخر، لذلك أعاد قوله: (ولا وقفت). وقوله: (من العبادة) بيان (ما.) وصلة (تقتضيه) محذوفة. تقديره: مع ما تقتضيه حضرة الحق ويطلبه منهم من العبادة.
ومعناه: أنهم ما وقفوا على ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة التي تقتضيها ذواتهم أن يعبد الحق بحسب الأسماء التي صارت مظاهر لها بالانقياد والطاعة لأمره، أو العبادة التي يقتضيها الذات الإلهية أن يعبد بها. وحضرة الحق حضرة الذات، إذ (الحق) اسم من أسماءها.
قوله: (فإنه ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته) تعليل لعدم الوقوف مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة.
أي، لأنه لا يعرف أحد من العباد شيئا من أسماء الحق وصفاته إلا ما تعطى ذات ذلك العبد بحسب استعداده، ولا يعبده أحد إلا بمقدار علمه ومعرفته بالحق، لأن العبادة مسبوقة بمعرفة المعبود من كونه ربا مالكا يستحق العبادة.
وبمعرفة العبد من كونه مربوبا مملوكا يستحق العبودية، فمن لا يعطى استعداد ذاته العلم والمعرفة بجميع الأسماء والصفات،لا يمكنه أن يعبد الحق بجميع الأسماء، لذلك لا يعبد الحق عبادة تامة إلا الإنسانالكامل، فهو العبد التام.
ولاستلزام العبادة المعرفة قال: (فإنه لا يعرف أحد) كما فسر العبادة بالمعرفة في قوله: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"
قوله: (وليس للملائكة جمعية آدم) . (الواو) للحال. أي، والحال أن الملائكة ليس لهم جمعية الأسماء التي لآدم، لكونهم يعبدون الله من حيث اسم خاص معين لا يتعدونه عنه، وآدم يعبده بجميع أسمائه.
قوله: (ولا وقفت مع الأسماء الإلهية إلا التي تخصها) أي، تخص الملائكة.
وضمير الفاعل يرجع إلى (الأسماء). (وسبحت الحق بها) أي،بتلك الأسماء.
(وقدسته، وما علمت أن لله أسماء ما وصل علمها إليها) أي، علم الملائكة إلى تلك الأسماء. (فما سبحته بها) أي، بتلك الأسماء. (ولا قدسته)  ،فغلب عليها ما ذكرناه، وحكم عليها هذا الحال.
فقالت من حيث النشأة: (أتجعل فيها من يفسد فيها)  أي، ما وقفت الملائكة مع الأسماء التي تخص الملائكة وسبحت الحق بها وقدسته. (فغلب عليها) أي، على الملائكة.
(ما ذكرناه) من عدم الوقوف مع ما أعطته مرتبة الإنسان الكامل ومع ما اقتضته حضرة الحق منهامن العبادة والانقياد لكل ما أمر الله به. (وحكم عليها) أي، على الملائكة.
(هذا الحال) أي، عدم الوقوف (فقالت من حيث النشأة) أي، من حيث نشأتهم الخاصة بهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟)
ولا ينبغي أن تحمل (النشأة) على النشأة العنصرية الإنسانية ليكون معناه: فقالت هذا القول من حيث النشأة الجسمية التي هي لآدم، مع غفلتهم عن النشأة الروحية والمرتبية.
لأن قوله: (فلولا نشأتهم تعطى ذلك، ما قالوا في حق آدم ما قالوا) تصريح على أن المراد بالنشأة هنا هي النشأة التي تخصهم.
أي، قالت الملائكة من حيث نشأتهم التي هم عليها: (أتجعل فيها من يفسد فيها؟)و (التسبيح) أعم من (التقديس) لأنه تنزيه الحق عن نقائص الإمكان والحدوث، .
و (التقديس) تنزيهه عنها وعن الكمالات اللازمة للأكوان، لأنهامن حيث إضافتها إلى الأكوان يخرج عن إطلاقها ويقع في نقائص التقييد.
قوله : (وليس إلا النزاع وهو عين ما وقع منهم، فما قالوه في حق آدم هو عين ما هم فيه مع الحق) أي، ليس هذا المعنى الذي غلب وحكم عليهم، وهو القول فيحق آدم، إلا المنازعة والمخالفة لأمر الحق، وهو، أي النزاع، عين ما وقع منهم مع الحق، فما قالوه في حق آدم من النقص والمخالفة هو عين ما هم فيه مع الحق، إذ ليس ذلك النقصان المنسوب إلى آدم إلا المنازعة والمخالفة للحق. وهو، أي ذلك النقصان، عين ما وقع منهم حالة الطعن فيه.
قوله : (فلو لا أن نشأتهم تعطى ذلك، ما قالوا في حق آدم ما قالوه، وهم لا يشعرون) أي، فلو لا أن نشأتهم التي حجبتهم عن معرفة مرتبة آدم تعطى ذلك النزاع.
ماقالوا في حق آدم ما قالوه، وهم لا يشعرون إن استعداداتهم وذواتهم يقتضى ذلك الذي نسبوا إلى آدم، كما قيل: "كل إناء يترشح بما فيه."
وهذا تنبيه على أن الملائكة التي نازعوا في آدم ليسوا من أهل الجبروت، ولامن أهل الملكوت السماوية، فإنهم لغلبة النورية عليهم وإحاطتهم بالمراتب يعرفون شرف الإنسان الكامل ورتبته عند الله وإن لم يعرفوا حقيقته كما هي، بل الملائكة الأرض والجن والشياطين الذين غلبت عليهم الظلمة والنشأة الموجبة للحجاب وفي قوله: "إني جاعل في الأرض خليفة".
بتخصيص (الأرض) بالذكر، و إن كان الكامل خليفة في العالم كله في الحقيقة، إيماء أيضا بأن ملائكة الأرض هم الطاعنون، إذ الطعن لا يصدر إلا ممن هو في معرض ذلك المنصب، وأهل السماوات مدبرات للعالم العلوي بالقصد الأولى، وللسفلى بالقصد الثاني.
وإذا حققت الأمر وأمعنت النظر، تجدهم في هذه النشأة الإنسانية أيضا أنهم هم المفسدون - كما قال الله: "ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".
ألا ترى أن القوة الشهوية والغضبية هما ملكان من ملائكة الأرض، هما اللتان تغلبان على النفس الناطقة ويجعلان لها أسيرا منقادا لأفاعيلهما وأغراضهما.
وعند ذلك تصير النفس (أمارة بالسوء) فهم المفسدون في الحقيقة.
وكون السفك والفساد صادرا من القوى الجسمانية لا الروحانية القلبية، دليل واضح على ما ذهبنا إليه من أن أهل الجبروت والملكوت السماوية لا يتنازعون مع الحق ولا يخالفون أمره ونهيه، إذ القوى الروحانية والقلبية لا يتأتى منهم ما يخالف أمر الله، فافهم


تنبيه
اعلم، أن هذه المقاولة يختلف باختلاف العوالم التي يقع التقاول فيها: فإن كان واقعا في العالم المثالي فهو شبيه المكالمة الحسية.
وذلك بأن يتجلى لهم الحق تجليا مثاليا كتجليه لأهل الآخرة بالصور المختلفة  كما نطق به حديث
(التحول)، وإن كان واقعا في عالم الأرواح من حيث تجردها فهو كالكلام النفسي.
فيكون قول الله لهم إلقاؤه في قلوبهم المعنى المراد، وهو جعله خليفة في الأرض من غيرهم. وقولهم عدم رضاهم بذلك وإنكارهم له، الناشئين من احتجابهم برؤية أنفسهم وتسبيحهم عن مرتبة من هو أكمل منهم، واطلاعهم على نقائصه دون كمالاته.
ومن هذا التنبيه يتنبه الفطن على كلام الله ومراتبه:
فإنه عين المتكلم في مرتبة، ومعنى قائم به في أخرى كالكلام النفسي وإنه مركب من الحروف و معبر بها في عالمي المثالي والحسي بحسبهما.
كما بينا في رسالتنا المسمى بكشف الحجاب عن كلام رب الأرباب. والله أعلم.
قوله : (فلو عرفوا نفوسهم لعلموا، ولو علموا لعصموا) أي، لو عرفوا ذواتهم وحقائقهم، لعلموا لوازمها من كمالاتها ونقائصها وعدم علمها بمرتبة الإنسان الكامل، وبأن لله تعالى أسماء ما يحققوا بها.
ولو علموا ذلك، لعصموا من نقائص الجرح لغيرهم وتزكية أنفسهم.
ولما كان العلم اليقيني موجبا لخلاص النفس عن الوقوع في المهالك غالبا،
قال، رضى الله عنه: (ولوعلموا لعصموا.)
قوله : (ثم لم يقفوا مع التجريح حتى زادوا في الدعوى بما هم عليه من التقديس والتسبيح) أي، ما اكتفوا بالطعن والجرح في آدم، بل زكوا أنفسهم وظهروا بدعوى التقديس والتسبيح، ولو علموا حقيقتهم، لعلموا أن الحق هو المسبح والمقدس لنفسه في مظاهرهم، وأن هذه الدعوى توجب الشرك الخفي.
قوله: (وعند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة تقف عليها، فما سبحتربها بها ولا قدسته عنها تقديس آدم وتسبيحه) .
"الملائكة" هنا هم الطاعنون في آدم، أو الملائكة مطلقا، ليكون (اللام) للعهد في الأول والجنس في الثاني، وكلاهما حق.
فإن كلا منها له مقام معين، لا يمكن له التجاوز عنه ولا تسبيح له إلابحسب ذلك المقام، بخلاف الإنسان فان مقامه يشتمل على جميع المقامات،علوا وسفلا، وهو مسبح فيها كلها، يعلم ذلك من أحاط علمه بمطلع قوله تعالى: و "إن من شئ إلا يسبح بحمده".
وشاهد كيفية تسبيحهم الحسى والمثالي والمعنوي بلسان حالهم واستعدادهم في كل حين، وعرف أنه مسبح في مراتب نقصانه، كما أنه مسبح في مراتب كماله، فنقصانه أيضا من وجه كماله ألا ترى أن (التواب) و (الغفار) و (العفو) و (الرؤف) و (الرحيم) و (المنتقم) و (القهار) .
وأمثالها يقتضى المخالفة والذنب، كاقتضاء (الرب) المربوب و (الرزاق) المرزوق.
فالحكمة الإلهية اقتضت ظهور المخالفة من الإنسان ليظهر منه الرحمة والغفران، كما جاء في الحديث القدسي: "لو لم تذنبوا، لذهبت بكم وخلقتخلقا يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم."
وأيضا، المخالفة للأمر في الظاهر إنما هي للإنقياد بمقتضى الإرادة في الباطن، إذ كل يعمل بمقتضى الاسم الذي هو ربه، فهو في عين الطاعة لربه عند الإتيان بالمعصية وإن كان مخالفا للأمر في الصورة.
وأيضا، الذنب يقتضى الانكسار والافتقار إلى الرحمة والرجاء في المغفرة، و عدمه غالبا يقتضى العجب والأنانية، وهو أشد من الذنب كقوله، عليه السلام:
(... لو لم تذنبوا، لخشيت عليكم ما هو أشد من الذنب: ألا، وهو العجب العجب العجب).
ولهذه الحكمة خلق آدم بيديه، أي بصفاته الجلالية و الجمالية.
ولذلك ظهر في ابني آدم، قابيل وهابيل، ما كان مستورا فيه من الطاعة والمخالفة، فظهر أن الطاعة في أحدهما والمخالفة في آخر.
(فوصف الحق لنا ما جرى) أي، في العلم بين أعيانهم، أو في العالم الروحاني بين أرواحهم. قوله : (لنقف عنده ونتعلم الأدب مع الله تعالى، فلا ندعي مانحن متحققون به، وحاوون عليه بالتقييد، فكيف أن نطلق في الدعوى، فنعم بها ماليس لنا بحال، ولا نحن عنه على علم فنفتضح؟ فهذا التعريف الإلهي مما أدب الحقبه عباده الأدباء الأمناء الخلفاء) ظاهر  
(ثم نرجع إلى الحكمة فنقول، اعلم أن الأمور الكلية وإن لم يكن لها وجود فيعينها، فهي معقولة معلومة بلا شك في الذهن، فهي باطنة لا تزول عن الوجود العيني). أي، نعرض عن حكاية الملائكة ونرجع إلى تقرير الحكمة الإلهية.
ومراده، رضى الله عنه، بيان الارتباط بين الحق والعالم، وأن الإنسان مخلوق على صورته، فبنى أصلا يتفرع عليه المقصود بقوله: (اعلم، أن الأمور الكلية) أي الحقائق اللازمة للطبائع الموجودة في الخارج، كالحياة والعلم والقدرة والإرادة وغيرها، مما هي أمور عقلية ولا أعيان لها في الخارج.
و (إن لم يكن لها وجود في عينها) أي، وإن لم يكن لها ذات موجودة في الخارج، فهي موجودة في العقل بلا شك، فهي باطنة من حيث إنها معقولة ومع ذلك لا تزول عن الوجود العيني ولا ينفك منه، إذ هي من جملة لوازم الأعيان الموجودة في الخارج.
وفي بعض النسخ: (لا تزال عن الوجود الغيبي) على أن (لا تزال) مبنى للمفعول من "أزال، يزيل".
و (الغيبي) بالغين المعجمة والباء. ومعناه: هي باطنة لا يمكن أن يزال عن كونها أمورا عقلية.

(ولها الحكم والأثر في كل ماله وجود عيني) أي، ولهذه الأمور الكلية، التي لا أعيان لها في الخارج منفكة عن التقيد المشخص إياها والمعروضات التي تعرض لها حكم وأثر في الأعيان الكونية والحقائق الخارجية بحسب وجودها وكمالاتها  
أما الأول، فلأن الأعيان معلولة للأسماء، والاسم ذات مع صفة معينة، فالأعيان من حيث تكثرها لا يتحصل إلا بالصفات، وهي هذه الأمور الكلية التي لا أعيان لها في الخارج. ولهذا ذهب الحكماء أيضا إلى أن علم الواجب فعلى وسبب لوجود الموجودات، وهكذا القدرة والإرادة المعبرة عنها بالعناية الإلهية.
وأما الثاني، فلأن العين الموجودة إن لم يكن لها الحياة، لا توصف بأنها حية ولا يتصف بأنواع الكمالات، إذ العلم والقدرة والإرادة كلها مشروطة بالحياة، وكذلك العلم إن لم يكن حاصلا، لم يكن لها إرادة وقدرة، لأنهما لا يتعلقان إلابالمعلوم. وهكذا جميع الصفات.
فهذه الأمور الكلية حاكمة على الطبائع التي تعرض لها بأن يقال عليها أنها حية ذات علم وإرادة وقدرة، ويترتب عليها ما يلزمها من الأفعال والآثار، إذ لا شك أن الطبيعة الموجودة بالعلم تميز بين الأشياء وبالإرادة تخصص وبالقدرة يتمكن من الأفعال.
قوله: (بل هو عينها لا غيرها، أعني أعيان الموجودات العينية)  
 
إضراب عن قوله: (ولها الحكم والأثر) بأن الذي له وجود عيني هو عين هذه الأمور المعقولة المنعوتة بالعوارض واللوازم، لأن الحقيقة الواحدة التي هي حقيقة الحقائق كلها هي الذات الإلهية، وباعتبار تعيناتها وتجلياتها في مراتبها المتكثرة تتكثر وتصير حقائق مختلفة: جوهرية متبوعة وعرضية تابعة. 
فالأعيان من حيث تعددها وكونها أعيانا ليست إلا عين أعراض شتى اجتمعت فصارت حقيقة جوهرية خاصة، كما ذكره في آخر (الفص الشعيبي). 
ألا ترى أن الحيوان هو الجسم الحساس المتحرك بالإرادة، والجسم ماله طول وعرض وعمق،
فالحيوان ذات لها هذه الأعراض مع الحس والحركة الإرادية، وكما اجتمعت هذه الأعراض في هذه الذات المعينة وصارت حيوانا.
كذلك إذا انضمت إليها أعراض أخر، كالنطق والصهيل، يسمى بالإنسان والفرس. 
فالذات الواحدة باعتبار الصفات المتكثرة صارت جواهر متكثرة، وأصل الكل هو الذات الإلهية التي صفاتها عينها .
فقوله: (أعني أعيان الموجودات) تفسير (هو) العائد إلى ماله وجود عيني. 
وضمير (عينها) راجع إلى (الأمور الكلية) ولا يجوز أن يكون تفسيرالضمير (عينها) لفساد المعنى.
إذ معناه حينئذ: بل ماله وجود عيني هو عين الموجودات العينية. إلا أن يقال، هو عائد إلى (الأمور الكلية) وتذكيره باعتبار(الأمر). 
وحينئذ يكون معناه: بل هذه الأمور الكلية عين أعيان الموجودات العينية لا غيرها. 
وهذا عين المعنى الأول.
وقيل: معناه: بل الأمر الكلى، كالعلم والحياة، عين الوصفين الموجود ينفي ذلك الموصوف لا غيرهما، والمراد بقوله: (أعني أعيان الموجودات) أعيانالأوصاف، لا أعيان الموصوفات، لأن للموصوفات أيضا أمورا كلية وهو الكلى الطبيعي وفيه نظر. 
لأن المراد أن هذه الأمور الكلية التي ليست لها ذات موجودة في الخارج لها حكم وأثر في الموجودات الخارجية، بل هي عين هذه الموجودات الخارجية.
فإن الظاهر والمظهر متحد في الوجود الخارجي وإن كان متعددا في العقل، لأن الكلام في الأمور الكلية التي لا أعيان لها في الخارج غير هذه الموجودات العينية. 
وفائدة الإضراب لا يظهر إلا بحسب هذا المعنى والتفسير بقوله: (أعني أعيان الموجودات). وقوله: (فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات، كما هي الباطنة من حيث معقوليتها) يؤيد ما ذهبنا إليه.
قوله: (لم تزل عن كونها معقولة في نفسها أي، مع أنها في الخارج عين الأعيان الموجودة،) هي في نفسها أمور معقولة (لم تزل) عن معقوليتها، بضم الزاء، من "زال، يزول"، أو بفتحها وضم التاء، من "تزال" المبنى للمفعول.
قوله: (فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات، كما هي الباطنة من حيث معقوليتها).
 أي، تلك الأمور الكلية ظاهرة باعتبار أنها عين الأعيان الموجودة وباعتبار الآثار الظاهرة منها، وباطنة باعتبار أنها أمور معقولة لا أعيان لها في الخارجبنفسها.
قوله: (فاستناد كل موجود عيني لهذه الأمور الكلية التي لا يمكن رفعهاعن العقل، ولا يمكن وجودها في العين وجودا تزول به عن أن تكون معقولة) .
نتيجة لقوله: "ولها الحكم والأثر في كل ماله وجود عيني" أي، لما تقرر أن الموجودات العينية إنما تعينت وتكثرت بالصفات، وهي هذه الأمورالكلية، فاستناد كل موجود عيني واجب ثابت لهذه الأمور الكلية التي هي حقائق معقولة.
و (اللام) في "لهذه الأمور" بمعنى (إلى). لأن الطبائع بذواتها تقتضي عروضها واتصافها بها، إذ هي كمالاتها، فهي من حيث كمالاتها مستندة إلى هذه الأمور الكلية.
وهذه الأمور لا يمكن أن ينكر كونها معقولة ولا يمكن أن توجد في الأعيان من غير عروضها في معروضاتها.
وخبر قوله: "فاستناد" متعلق الظرف، وهو (واجب) أو (ثابت). و يجوز أن يكون (اللام) في قوله: "لهذه الأمور الكلية" بمعنى (إلى) متعلقا إلى (الاستناد) وخبره محذوفا. تقديره: فاستناد كل موجود عيني إلى هذه الأمورالكلية واجب.
قوله: (وسواء كان ذلك الموجود العيني موقتا أو غير موقت نسبة الموقت وغيرالموقت إلى هذا الأمر الكلى المعقول نسبة واحدة) أي، لا يختص هذا التأثر ببعض من الموجودات دون البعض، بل الجميع مشترك في كونها محكوما ومتأثرا من هذه الأمور الكلية، سواء كان ذلك الموجود مقترنا بالزمان، كالمخلوقات، أو غير مقترن به، كالمبدعات، روحانيا كان أو جسمانيا.
فإن اقترانه بالزمان وعدم اقترانه لا يخرجه عن استناده إلى هذه الأمور الكلية، إذ نسبة الموقت وغير الموقت في الوجود والكمالات إليها نسبة واحدة.
قوله: (غير أن هذا الأمر الكلى يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسبما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينية، كنسبة العلم إلى العالم والحياة إلى الحي).
فـ (الحياة) حقيقة معقولة و (العلم) حقيقة معقولة متميزة عن الحياة، كما أن الحياة متميزة عنه. 
قوله: (ثم نقول في الحق تعالى، أن له علما وحياة فهو الحي العالم.
ونقول في الملك، أن له حياة وعلما فهو الحي العالم.
ونقول في الإنسان، أن له حياة وعلما فهو الحي العالم. 
وحقيقة العلم واحدة وحقيقة الحياة واحدة ونسبتها إلى الحي والعالم نسبة واحدة
ونقول في علم الحق، أنه قديم، وفي علم الإنسان، أنه محدث فانظر ما أحدثته الإضافة من الحكم  في هذه الحقيقة المعقولة)
 تأكيد لبيان الارتباط. 
كقول الشاعر مؤكدا في المدح:
ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم .....     تعاب بنسيان الأحبة والوطن 
أي، استناد كل موجودعيني وما يتبعه من اللوازم،أي هذه الأمور
الكلية، واجب من حيث إنها مؤثرة فيه، إلا أن لهذه الموجودات أيضا حكما وأثرا في هذه الأمور الكلية بحسب اقتضاء أعيان الموجودات. 
وذلك لأن (الحياة) حقيقة واحدة و (العلم) حقيقة واحدة وكل منهما متميز عن الآخر، فنقول في الحق تعالى، أنه حي عالم وحياته وعلمه عين ذاته، فيحكم بأنهما عينه وبعدم امتياز أحدهما عن الآخر في المرتبة الأحدية، ونقول بقدمها.
وفي غيره تعالى، كالملك والإنسان، يحكم بأنهما غيره، ونقول أنهما حادثان فيهما، فاتصافهما بالحدوث والقدم وكونهما عينا أو غيرا.
إنما هو باعتبار الموجودات العينية، فكما حكمت هذه الأمور في كل ماله وجود عيني، كذلك حكمت الموجودات عليها بالحدوث والقدم، وهذا الحكم إنما نشأ من الاستناد والإضافة، وإلا عند اعتباركل منهما وحده لا يلزم ذلك.
قوله: (وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات والموجودات العينية، فكما حكم العلم على من قام به أن يقال فيه إنه عالم، حكم الموصوف به على العلم بأنه حادث في حق الحادث، قديم في حق القديم، فصار كل واحد محكوما به ومحكوما عليه) 
تصريح بالمقصود، وهو بيان الارتباط بين الأشياء العينية والأمور الغيبيةالتي لا أعيان لها، وإذا كان الارتباط بينهما حاصلا، فالارتباط بين الحق والعالم الموجودين في الخارج أقوى وأحق. وفحواه ظاهر.
لا يقال: إن الذهن يحكم على من قام به العلم بأنه عالم لا العلم، فكيف أسند الحكم إليه؟
لأنا نقول: حكم الذهن أيضا تابع لحكم العلم، إذ لو لم تعط حقيقة العلم عند المقارنة بينهما ذلك، لما جاز للذهن أن يحكم به، لأن حكمه إن لم يكن مطابقا للواقع فلا اعتبار به، وإن كان مطابقا، يلزم أن يكون الأمر في نفسه كذلك.
قوله: (ومعلوم أن هذه الأمور الكلية وإن كانت معقولة) أي، موجودة في العقل
قوله: (فإنها معدومة في العين) أي، في الخارج، إذ لا ذات في الخارج يسمى بالحياة والعلم قوله: (موجودة الحكم) أي، على الأعيان الموجودة. 
قوله: (كما هي محكوم عليها إذا نسبت إلى الموجود العيني) أي، كما يحكم الموجودات عليها بالحدوث والقدم، وبأنها عين الذات أو غيرها. 
قوله: (فتقبل الحكم من الأعيان الموجودة ولا تقبل التفصيل ولا التجزي، فإن ذلك محال عليها) أي، تقبل تلك الأمور الكليةالحكم من الموجودات العينية حال كونها عارضة عليها، ولا تقبل التفصيل ولا التجزي. 
وذلك لأن الحقيقة الكلية إن انقسمت، ففي كل من أقسامها: إن بقيت بأعيانها،فلا انقسام كالإنسانية في كل شخص، وإن بقيت دون عينها، فعين تلك الحقيقة منعدمة حينئذ لانعدام بعضها، وإن لم يبق فكذلك أيضا. 
هذا مع أن الحقيقة البسيطة لا يمكن أن يطرء عليها التجزي أصلا.
قوله: (فإنها بذاتها في كل موصوف بها، كالإنسانية في كل شخص شخص من هذا النوع الخاص لم تتفصل ولم تتعدد بتعدد الأشخاص) 
أي، فإن تلك الحقيقةالكلية بذاتها موجودة في كل موصوف بها، كالانسانية، وهو الكلى الطبيعي الذي للإنسان، فإنها موجودة في كل شخص شخص من هذا النوع، ولم تتفصل ولمتتعدد بتعدد الأشخاص.
فإن قلت: الحصة التي في (زيد) منها، غير الحصة التي في (عمرو) منها، فتتفصل بهذاالاعتبار.
قلت: إن أردت بالحصة بعض تلك الحقيقة فغير صحيح، لأن البعض غيرالكل فلا يكون تلك الحقيقة في شئ من الأفراد. 
وإن أردت أن تلك الحقيقة تكتنف بعوارض مشخصة لها في زيد فتصير بهذا الاعتبار غير الحقيقة المكتنفة بعوارض أخر التي لعمرو، فمسلم.
ولا يلزم منه التفصيل في نفس الحقيقة، وهكذا الحقيقة الجنسية بالنسبة إلى أنواعها، لأنها في كل نوع منها مع عدم التجزي والتعدد.
(ولا برحت معقولة) أي، لا تزال تلك الحقيقة الكلية موجودة في العقللا تتغير بالعروض على معروضاتها، ولا تتكثر بتكثر موضوعاتها، كالحقائقالموجودة في الأعيان. 
وهذا البيان للتنبيه والإشارة إلى أن الذات الواجبية التيهي حقيقة الحقائق كلها ظاهرة فيها من غير طريان التجزي والتكثر عليها في تلك المراتب ولا يقدح في وحدة عينها تكثر مظاهرها.
.

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثالث .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالخميس يوليو 25, 2019 5:05 am

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثالث .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثالث

قوله : (وإذا كان الارتباط بين من له وجود عيني وبين من ليس له وجود عيني قدثبت وهي نسبة عدمية، فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل، لأنه على كل حال بينهما جامع وهو  الوجود العيني) 
وإنما قال: إن تلك الأمور الكلية نسب عدمية، لأنها صفات لا أعيان لها غير معروضاتها في الخارج، فهي بالنسبة إلى الخارج عدمية، وإن كانت بالنسبة إلى العقل وجودية. 
وكونها (نسبا) إنما هو باعتبار أنها غير الذات لازمة لها.

قوله : (وهناك فما ثم - ثمة - جامع) أي، بين الأمور العدمية وبين الموجودات الخارجية. 
قوله : (وقد وجد الارتباط بعدم الجامع) أي، مع عدم الجامع.

قوله : (فبالجامع أقوى وأحق. ولا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه وافتقاره إلى محدثأ حدثه) أي، إلى موجد أوجده. 
قوله : (لإمكانه بنفسه فوجوده من غيره، فهو مرتبطبه ارتباط افتقار) أي، المحدث مرتبط بموجده ارتباط افتقار. 
قوله : (ولا بد أن يكون المستند إليه واجب الوجود لذاته غنيا في وجوده بنفسه غير مفتقر، وهو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث فانتسب إليه) أي، هذا الحادث إلى الواجب الوجود لذاته .

قوله : (ولما اقتضاه لذاته كان واجبا به) أي، ولما اقتضى الواجب لذاتههذا الحادث، صار الحادث واجبا بالواجب الوجود. 
ويجوز أن يكون ضميرالفاعل راجعا إلى (الحادث) أي، ولما اقتضى الحادث لذاته من يوجده، وهوالواجب، كان الحادث واجبا به، إذا المعلول واجب بعلته.

قوله : (ولما كان استناده) أي، استناد الحادث. 
قوله : (إلى من ظهر عنه لذاته، اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شئ، من اسم وصفة، ما عدا الوجوب الذاتي، فإن ذلك لا يصح للحادث وإن كان واجب الوجود, ولكن وجوبه بغيره لا بنفسه) أي، اقتضى هذا الاستناد أن يكون الحادث على صورة الواجب، أي، يكون متصفا بصفاته وجميع ما ينسب إليه من الكمالات ما عدا الوجوب الذاتي، وإلا لزم انقلاب الممكن من حيث هو ممكن واجبا وذلك لأنه اتصف بالوجود والأسماء والصفات لازمة للوجود فوجب أيضا اتصافه بلوازم الوجود وإلا لزم تخلف اللازم عن الملزوم. 
ولأن المعلول أثر العلة، والآثار بذواتها وصفاتها دلائل على صفات المؤثر وذاته، ولا بد أن يكون في الدليل شيء من المدلول، لذلك صار الدليل العقلي أيضا مشتملا على النتيجة: فإن إحدى مقدمتيه مشتملة على موضوع النتيجة، والأخرى على محمولها، والأوسط جامع بينهما. 
ولأن العلة الغائية من إيجاد الحادث عرفان الموجد، كما قال تعالى: "وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". 
والعبادة تستلزم معرفة المعبود ولو بوجه، معأن عباس، رضى الله عنه، فسرها هنا بالمعرفة. ولا يعرف الشئ إلا بما فيه منغيره، لذلك قال، عليه السلام، حين سئل:" بم عرفت الله؟ عرفت الأشياء بالله." أي، عرفته به أولا، ثم عرفت به غيره. 
ولما كان وجوده من غيره،صار أيضا وجوبه بغيره. وغير الإنسان من الموجودات، وإن كان متصفا بالوجود، لكن لا صلاحية له لظهور جميع الكمالات فيه، كما مر في أول الفص.

وقوله: "لذاته" يجوز أن يكون متعلقا ب "الاستناد". أي، ولما كان استناد الحادث إلى من يوجده لذات الحادث، اقتضى أن يكون على صورة موجده. 
ويجوز أن يكون متعلقا بـ "ظهر" وعلى هذا ضمير "لذاته" يجوز أن يعود إلى "من" ويجوز أن يعود إلى "الحادث". 
وعلى الأول معناه: لما كان استناد الحادث إلى موجد ظهر الحادث عنه لاقتضاء ذات الموجد إياه، اقتضى أن يكون علىصورته، وعلى الثاني، ظهر لاقتضاء ذات الحادث الموجد إياه. 
والله أعلم.

وقوله: (ثم ليعلم أنه لما كان الأمر على ما قلناه من ظهوره بصورته) أي، ظهور هذا الحادث، وهو الإنسان الكامل، بصورة الحق. 
وضمير "أنه" للشأن. و"من" بيان "ما". 
وقوله: (أحالنا تعالى في العلم به) أي بالحق. 
وقوله: (على النظر في الحادثات) بقول نبيه، صلى الله عليه وسلم: "من عرف نفسه فقد عرف ربه.".

وقوله: (وذكر أنه أرانا آياته فيه) أي، في الحادث بقوله: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفيأنفسهم". 
وقوله: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون."

وإنما قدم (إراءة الآيات في الآفاق) لأنها تفصيل مرتبة الإنسان، وفي الوجود العيني مقدم عليه. وأيضا رؤية الآيات مفصلا في العالم الكبير للمحجوب أهون من رؤيتها في نفسه وإن كان بالعكس أهون للعارف
وقوله: (فاستدللنا بنا عليه) كالاستدلال من الأثر إلى المؤثر. 
(فما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف) أي، كنا نحن متصفا بذلك الوصف.

ولما كانت الصفات الحقيقية عين هذه الأعيان الحادثة، على ما قررنا من أنالذات مع صفة تصير اسما وعينا ثابتة والعالم من حيث الكثرة ليس إلا مجموع الأعراض، 
وقوله: (كنا نحن ذلك الوصف) وفي بعض النسخ: (إلا كنا ذلك الوصف)
وقوله: (إلا الوجوب الذاتي الخاص) أي بالحق.
وقوله: (فلما علمناه بنا ومنا نسبنا إليه كل ما نسبناه إلينا) من الكمالات،لا النقائص، إلا ما نسبه الحق إلى نفسه منها.
وقوله: (وبذلك وردت الأخبار الإلهية) مثل: "إن الله خلق آدم على صورته."
و "لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه". و "مرضت فلم تعدني". 
وغير ذلك من "القرض" و "الاستهزاء" و "السخرية" و "الضحك"، 
كقوله: "واقرضوا الله قرضا حسنا". 
و "الله يستهزء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون". 
و"سخر الله منهم". 
و "ضحك الله مما فعلتها البارحة". 

وقوله: (على ألسنة التراجم) من الأنبياء والأولياء. 
وقوله: (إلينا فوصف) أي الحق. 
وقوله: (نفسه لنا بنا) أي بصفاتنا، لماكانت عائدة إلى عيننا الثابتة من وجه، كما مر، قال: (بنا). 
وقوله: (فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا) لأن ذواتنا عين ذاته لا مغايرة بينهما إلا بالتعين والإطلاق.
أو شهدنا نفوسنا فيه لأنه مرآة ذواتنا. 
وقوله: (و إذا شهدنا) أي الحق. 
وقوله: (شهد نفسه) أي، ذاته التي تعينت وظهرت في صورتنا. أو شهد نفسه فينا لكوننا مرآة لذاته وصفاته.
وقوله: (ولا نشك أنا كثيرون بالشخص والنوع) ويجوز أن يكون (أنا) عبارة عن لسان أهل العالم، أي، أهل العالم أي، إنا كثيرون. 
بالأشخاص والأنواع التي فيه، ويجوز أن يكون عن لسان الأفراد الإنسانية، أي، إنا كثيرون بالشخص وبحسب الأنواع التي فينا لتركبنا من العالمين الروحاني والجسماني. ويؤيد الثاني مابعده .
وهو قوله: (وإنا وإن كنا على حقيقة واحدة) أي، وإن كنا مشتملة على حقيقة نوعية هي 
قوله: (تجمعنا، فنعلم قطعا أن ثمة فارقا به) أي، بذلك الفارق.
قوله: (تميزت الأشخاص بعضها عن بعض، ولو لا ذلك) أي الفارق. 
قوله: (ما كانت الكثرة في الواحد) أي، حاصلة ومتصورة في الواحد. 
قوله: (فكذلك أيضا وإن وصفناه) أيالحق. 
قوله: (بما وصف به نفسه من جميع الوجوه، فلا بد من فارق.)
لما شبه في الأول، أراد أن ينزه هنا ليجمع بين (التنزيه) و (التشبيه) على ما هو طريقة الأنبياء.
(وليس) ذلك الفارق. 
قوله: (إلا افتقارنا إليه في الوجود، وتوقف وجودنا عليه، لإمكاننا وغناه عن مثل ما افتقرنا إليه) وإنما حصر الفارق في افتقارنا وغناه، لأن غيرهما أيضا عائد إليهما، سواء كان وجوديا أو عدميا. 
قوله: (فبهذا صح له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم، فلاتنسب إليه الأولية مع كونه الأول) أي، بسبب هذا الغناء صح له أن يكون أزليا وأبديا وقديما في ذاته وصفاته.
(فبهذا صح له الأزل و القدم الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم.
فلا تنسب إليه الأولية  مع كونه الأول. و لهذا قيل فيه الآخر.)
وإنما وصف (الأزل) و (القدم) بقوله: "انتفت عنه الأولية" بمعنى "افتتاح الوجود عن العدم" لأن الأعيان والأرواح أيضا أزلية، لكن أزليتها وقدمها زمانية لا ذاتية، وأزلية الحق ذاتية، لغنائه في وجوده عن غيره. 
فانتفت (الأولية) منه بمعنى افتتاح الوجود عن عدم، فلا تنسب إليه الأولية بهذا المعنى، كما تنسب به إلى الأرواح والأعيان. 
كما قال، صلى الله عليه وسلم: "أول ما خلق الله العقل". أي، أول ما افتتح من العدم إلى الوجود العقل، لكونه مسبوقا بالعدم الذاتي، وإن كان غير مسبوق بالعدم الزماني. 
بل ينسب "الأولية" إليه بمعنى آخر وهو كونه "مبدأ" كل شئ، كما أن آخريته عبارة عن كونه منتهى كل شئ ومرجعه، أو كونه في مقام أحديته بحيث لا شئ معه.
كما قال عليه السلام: "كان الله ولم يكن معه شئ". 
وهذا المعنى يجتمع مع الآخرية. لذلك قال الجنيد، قدس الله روحه،عند سماعه لهذا الحديث: "والآن كما كان". أي، لم يتغير هذا المقام عن حاله، وإن كان في المرتبة الواحدية معه أسماء وصفات وأعيان ثابتة للأكوان. 
ويظهر هذا المقام للعارف عند التجلي الذاتي له، لتقوم قيامته الكبرى فيفنى ويفنى الخلق عند نظره، ثم يبقى ويشاهد ربه بربه. رزقنا الله وإياكم.
قوله : (ولهذا قيل فيه الآخر). 
قوله : (فلو كانت أوليته أولية وجود التقييد، لم يصح أن يكون الآخر للمقيد، لأنه لا آخر للممكن لأن الممكنات غير متناهية فلا آخر لها.)
قوله : (وإنما كان آخرا لرجوع الأمر كله إليه بعد نسبة ذلك إلينا. فهو الآخر في عين أوليته والأول في عين آخريته). 
أي، ولأجل أن أوليته ليست عبارة عن افتتاح الوجود عن عدم، قيل فيه الآخر، كما قال الله تعالى: (هو الأول والآخر.)...
فلو كانت أولية الحق تعالى مثل أولية الموجود المقيد، بمعنى افتتاح الوجود عن العدم، لم يصح أن يكون آخرا، لأن الآخرية عبارة حينئذ عن انتهاء الموجودات المقيدة والممكنات غير متناهية، فلا آخر لها. 
وهذا الكلام إنما هو بحسب الدار الآخرة. وأما بحسب الدنيا فهي متناهية فلا ينبغي أن يتوهم أنه رضي الله عنه قائل بقدم الدنيا، لذلك قال: (إذا زال وفك) أي الخاتم. 
قوله : "وينتقل الأمر إلى الآخرة، فيكون ختما أبديا على خزانة الآخرة"
وقال في نقش الفصوص"تخرب الدنيا بزواله وتنتقل العمارة إلى الآخرة من أجله". 
وفي جميع كتبه إشارة إلى هذا المعنى. ولولا مخافة التطويل، لأوردت ذلك بألفاظه. بل آخريته عبارة عن فناء الموجودات ذاتا وصفة وفعلا في ذاته وصفاته وأفعاله بظهور القيامة الكبرى ورجوع الأمر إليه كله.
وإنما قال: (بعد نسبته إلينا) لأن هذه الأشياء كانت لله تعالى أولا، ثم نسبت إلينا، فعند الرجوع إلى أصلها تفنى فيه.
كفناء القطرة في البحر وذوبان الجليد في الماء، فلا ينعدم أصلا، بل ينعدم تعينها وتستهلك في التعين الذاتي الذي منه تفرعت التعينات، لأن أصله كان عدما، فيرجع إلى أصله. لذلك قيل: "التوحيد إسقاط الإضافات."
وقد يحصل رجوع الأمر إليه قبل القيامة الكبرى بالقيامة الدائمة المشاهدةللعارفين. وهو نوع من أنواع القيامات. 
وذلك لأن الحق تعالى في كل آن يخلقخلقا جديدا، كما قال: (بل هم في لبس من خلق جديد). ويمد الأكوان بأنواعالتجليات الذاتية والصفاتية، ويصل ذلك الفيض إلى الإنسان الذي هو آخرالموجودات، ثم يرجع منه بالانسلاخ المعنوي إلى ربه. 
وقد جاء في الحديث أيضا: "إن ملائكة النهار ترجع إلى الحضرة عند الليل، وملائكة الليل ترجعإليها عند النهار، ويخبرون الحق بأفعال العباد وهو أعلم بها منهم". 
وإذا كان الأمر كذلك، فهو أول في عين آخريته وآخر في عين أوليته. 
وهما دائمتان أزلا وأبدا.
قوله: (ثم ليعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر وباطن) مزيد بيان لما مرمن أن الحق تعالى خلق آدم على صورته وكمالاته، ليستدل بها عليه ويتمكنالسالك من الوصول إليه. 
"فأوجد العالم" أي، العالم الإنساني. وإن شئت قلت العالم الكبير لأنه أيضا صورة الإنسان، لذلك يسمى بالإنسان الكبير. 
والأول أنسب بالمقام، إذ المقصود أن الإنسان مخلوق على صورته لا العالم.
قوله: (عالم غيب وشهادة) أي، عالم الأرواح والأجسام. 
قوله: (لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا). 
هذا دليل على أن المراد بـ "العالم" هو العالم الإنساني. 
أي، لندرك عالم الباطن، وهو عالم الجبروت والملكوت، بروحنا وقلبنا وقوانا الروحانية، وندرك عالم الظاهر بأبداننا ومشاعرنا وقوانا المنطبعة فيها. 
أو ندرك غيب الحق من حيث أسمائه وصفاته لا من حيث ذاته، فإنه لا يمكن لأحد معرفتها.
إذ لا نسبة بينها وبين غيرها من العالمين بغيبنا، أي بأعياننا لغيبته.
وندرك ظاهره وهو مظاهر تلك الأسماء الغيبية من العقول والنفوس وغيرهم من الملائكة.
فإنهم وإن كانوا غيبا باطنا بالنسبة إلى الشهادة المطلقة، لكنهم ظاهر بالنسبة إلى الأسماء والصفات التي هي أربابهم لظهورهم في العين بعد بطونهم فيالعلم. 
وقد مر تحقيقه في بيان العوالم في المقدمات.  
"بشهادتنا" أي، بروحنا وقلبنا وقوانا وأبداننا الموجودة في الخارج.
قوله: (ووصف نفسه بالرضا والغضب) حيث قال: "رضى الله عنهم ورضوا عنه". 
وقال: (سبقت رحمتي غضبي)
قوله: (فأوجد العالم ذا خوف ورجاء فنخاف غضبه ونرجو رضاه). 
وإنما جاء بلازم الرضا والغضب، وهو الخوف والرجاء،ولم يقل: فأوجدنا ذا رضاء وغضب. وإن كنا متصفين بهما، ليؤكد المقصود الأول أيضا، وهو بيان الارتباط بين الحق والعالم، إذ كل من الصفات الأفعالية والانفعالية يستدعى الآخر، لذلك أعاد الارتباط في الأبيات الثلاثة المذكورة بعد.
وقوله: (فأوجد العالم ذا خوف ورجاء) دليل على ما ذهبنا إليه من أن المراد بالعالم هو العالم الإنساني، لأن الخوف والرجاء من شأن الإنسان لا العالم الكبير،إذ الخوف إنما هو بسبب الخروج عن الأمر، والرجاء إنما يحصل لمن يطمع في الترقي، وهما للإنسان فقط. 
وكذلك قوله: (فنخاف غضبه ونرجو رضاه) يدل على ذلك، 
وكذلك قوله: (ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال، فأوجدنا على هيبة وأنس، وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به) ينبئ عن ذلك.
والمراد بـ (الجميل) الصفات الجمالية، وهي ما يتعلق باللطف والرحمة، وبـ (الجلال)، ما يتعلق بالقهر والعزة والعظمة والستر.
قوله: (فأوجدنا على هيبة وأنس) مثال يجمع بين المقصودين، وهما بيان الارتباط وكون الإنسان مخلوقا على صورته تعالى. 
وذلك لأن (الهيبة) قد يكون من الصفات الفعلية كما يقول: هذا السلطان مهيب. أي له عظمة في قلوب الناس. 
وقد يكون من الصفات الانفعالية كما يقول: حصل في قلبي هيبة من السلطان. 
أي دهشة وحيرة من عظمته وكذلك (الأنس) بالنسبة إلى من هو أعظم مرتبة منك وإلى من هو دونك في المرتبة. 
فإن الأول يوجب الانفعال، والثاني يوجب الفعل، لأن الأنس رفع الدهشة والهيبة. 
ففي الصورة الأولى صاحب المرتبة الأعلى يرفع منك الدهشة، وفي الثانية أنت رافعها من غيرك. والهيبة من (الجلال) والأنس من (الجمال.)
(فعبر عن هاتين الصفتين) أي، الجمال والجلال. (باليدين) مجازا. إذ بهما يتم الأفعال الإلهية وبهما تظهر الربوبية، كما باليدين يتمكن الإنسان من الأخذ والعطاء، وبهما تتم أفعاله. 
(اللتين توجهتا منه) أي، من الحق. 
(على خلق الإنسان الكامل) كقوله تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟" وخلقه بيديه عبارة عن الاستتار بالصورة الإنسانية وجعله متصفا بالصفات الجمالية والجلالية. 
قوله: (لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته) أي، لكون الإنسان جامعا لحقائق العالم التي هي مظاهر للصفات الجمالية والجلالية كلها، وهي الأعيان الثابتة التي للعالم. 
والمراد بالمفردات الموجودات الخارجية. 
فكأنه يقول:
لكون الإنسان جامعا لجميع الأعيان الثابتة بعينه الثابتة ولجميع الموجودات الخارجية بعينه الخارجية، فله أحدية الجمع علما وعينا وقد مر، في المقدمات، من أن أعيان العالم إنما حصلت في العلم من تفصيل العين الثابتة الإنسانية.
واعلم، أن للعالم اعتبارين: إعتبار أحديته، واعتبار كثرته. فباعتبار أحديته الجامعة يسمى بالإنسان الكبير، وباعتبار كثرةأفراده ليس له الأحدية الجامعة كأحدية الإنسان، إذ لكل منها مقام معين. 
فلا يصح أن يقال، ليس للعالم أحدية الجمع مطلقا. كيف لا؟ وهو من حيث المجموع صورة الاسم الإلهي كما للإنسان، لذلك يسمى بالإنسان الكبير، إلا أن يراد به أفراده.
(فالعالم شهادة والخليفة غيب، ولهذا تحجب السلطان) أي، العالم ظاهر والخليفة باطن. 
وإنما أطلق (الشهادة) عليه، مع أن بعضه غيب كعالم الأرواح المجردة، مجازا بإطلاق اسم البعض على الكل. 
فالمراد بـ (العالم) هنا العالم الكبير الروحاني والجسماني، لأنه صورة الحقيقة الإنسانية وهي غيبه. ولما كان الإنسان الكامل مظهرا لكمالات هذه الحقيقة وخليفة ومدبرا للعالم، جعله غيبا باعتبار حقيقته التي لا تزال في الغيب وإن كان الخليفة موجودا في الخارج. 
وكون الخليفة غيبا أيضا اتصاف بصفة إلهية، فإن هويته لا تزال في الغيب. وإنما جعلنا الخليفة غيب الأرواح أيضا، لأن ما يفيض على العقل الأول وغيره من الأرواح أيضا إنما هو بواسطة الحقيقة الإنسانية لأنه أول مظاهرها.
كما قال صلى الله عليه وسلم: "أول ما خلق الله نوري". أي، نور تعيني وحقيقتي الذي هو العقل الأول الذي ظهر في عالم الأرواح أولا. 
ولا شك أن المظهر مربوب لما ظهر فيه، وإن كان باعتبار آخر هو يرب ما دونه من الأرواح وغيرها، لذلك يبايع القطب هو ومندونه ويستفيد منه.
الظلمانية والنورية، كما قال: "إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة، لوكشفها، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". 
ولما كانت الأجسام الطبيعية مظاهر لصفات تستر الذات سترا لا تكاد تظهر بها، جعلها حجبا ظلمانية للذات بقوله: (وهي الأجسام الطبيعية). 
وكذلك جعل الأرواح حجبا نورانية مع أنها حجب هي مظاهر للصفات المظهرة للذات
بوجه، كما أنها ساتره لها بوجه. ألا ترى أن الشعاع وإن كان يستر الشمس لكن يدل عليها ويظهرها أيضا.
(فالعالم بين لطيف وكثيف) أي، كما أن الحق موصوف بالحجب الظلمانية والنورانية، كذلك العالم موصوف بالكثافة واللطافة، فهو دائر بين الكثيف واللطيف. 
(وهو عين الحجاب على نفسه) أي، العالم هو عين الحجاب على نفسه، أي، تعينه وإنيته التي بها تميز عن الحق وتسمى بالعالم هو عين حجابه، فلو رفعت الإنية ينعدم العالم. 

وإليه أشار الحلاج (رض) بقوله: 
بيني وبينك إني ينازعني  ...  فارفع بلطفك إنيي من البين.
ويجوز أن يعود الضمير إلى الحق. أي، الحق من حيث أنواره عين الحجاب على نفسه كما قيل: "وليس حجابه إلا النور ولا خفاؤه إلا الظهور."
(فلا يدرك الحق إدراكه لنفسه) أي، فلا يدرك العالم الحق كما يدرك نفسه ذوقا ووجدانا، لأن الشئ لا يدرك غيره بالذوق إلا بحسب ما فيه منه، وليس في العالم، من حيث إنه عالم وسوى، إلا الحجب النورانية والظلمانية، فلا يدرك بالذوق إلا إياها. 
فضمير (إدراكه) و (نفسه) عائد إلى (العالم). ويجوز أن يعود الضمير إلى (الحق). أي لا يدرك العالم الحق كما يدرك الحق نفسه. فإن العالم من حيث إنه مظهر للحق مشتمل عليه، فيدركه في الجملة، لكن لا يمكن أن يدركه على الحقيقة كما هي. 
(فلا يزال في حجاب لا يرفع) أي، فلا يزال العالم في حجاب لا يرفع، بمعنى أنه محجوب عن الحق بإنيته، ولا يقدر على حق معرفته ولا على معرفة نفسه، فإنه لو عرف نفسه لعرف ربه، لأن ذاته عين الذات الإلهية وما فاز بهذه المعرفة إلا الإنسان الكامل، لذلك صار سيد العالم و
خليفة عليه.
(مع علمه بأنه متميز عن موجده بسبب افتقاره إليه) أي، لا يزال العالم في الحجاب، مع علم العالم بأنه متميز عن موجده بسبب افتقاره إليه. 
والعلم بامتيازالشئ عن غيره يوجب العلم بهما، فالعالم عالم بالحق من حيث إنه غنى وواجب بالذات. ولما كان العالم مفتقرا إليه ومتصفا بالإمكان، وإن كان متصفا بالصفات الإلهية.
استدرك بقوله: (ولكن لا حظ له في الوجوب الذاتي الذي لوجود الحق) أو استدراك من قوله: (فأوجد العالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهربشهادتنا). 
أي، العالم متصف بصفاته، إلا بالوجوب الذاتي الذي لوجود الحق. 
(فلايدركه أبدا) أي، فلا يدرك العالم الحق أبدا من حيث وجوبه الذاتي، لأن المدرك ما يدرك شيئا بالذوق والوجدان إلا بما فيه منه، وليس له حظ في الوجوب الذاتي، فلا نسبة بينهما. 
(فلا يزال الحق من هذه الحيثية) أي، من حيث الوجوب الذاتي. 
(غير معلوم علم ذوق وشهود، لأنه لا قدم للحادث في ذلك)
وإنما قيد بقوله: (علم ذوق وشهود) لأن الذوق والشهود يقتضى اتصاف الذائق بما يذوقه حالا، بخلاف العلم التصوري، فإنه بمجرد الاطلاع على الوجوب الذاتي وماله ذلك، يقدر على الحكم بأنه متصف به.
(فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفا) أي، ما جمع الله في خلق آدم بين يديه اللتين يعبر عنهما بالصفات الجمالية والجلالية إلا تشريفا وتكريما.
كما قال: "ولقد كرمنا بنى آدم وحملنا هم في البر والبحر". فصار جامعا لجميع الصفات الإلهية وكانت عينه متصفة بجميع الصفات الكونية، فحصل عنده جميع الأيادي المعطية والأخذية. 
قوله : (ولهذا قال لإبليس: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟" وما هو) أي، وليس ذلك التشريف أو ليس ذلك الخلق. 
(إلا عين جمعه بين الصورتين: صورة العالم) وهي الحقائق الكونية. 
(وصورة الحق) وهي الحقائق الإلهية. (وهما يدا الحق.)
وإنما جعل صورة العالم (يدا الحق) لأنهما مظاهر الصفات والأسماء، لذلكعبر عن الصفات الجمالية والجلالية باليدين كما مر. 
وعبر هنا عن الصورتين بـ (اليدين) تنبيها على عدم المغايرة بينهما في الحقيقة إلا في الظاهرية والمظهرية. 
وأيضا، لما كان الفاعل والقابل شيئا واحدا في الحقيقة ظاهرا في صورة الفاعلية تارة والقابلية أخرى، عبر عنهما باليدين: فيمنا هما الصورة الفاعلية المتعلقةبحضرة الربوبية، ويسرا هما الصورة القابلية المتعلقة بحضرة العبودية، ويجمع المعنيين تفسيرهما بالصفات المتقابلة.
(وإبليس جزء من العالم، لم تحصل له هذه الجمعية) لأنه مظهر اسم "المضل" وهو من الأسماء الداخلة في الاسم (الله) الذي مظهره آدم، فلا يكون له جمعية الأسماء والحقائق. 
قيل: "إبليس هو القوة الوهمية الكلية التي في العالم الكبير، والقوى الوهمية التي في الأشخاص الإنسانية والحيوانية. إفرادها لمعارضتها مع العقل الهادي طريق الحق". وفيه نظر. 
لأن (النفس المنطبعة) هي الأمارة بالسوء و (الوهم) من سدنتها وتحت حكمها، لأنها من قواها، فهي أولى بذلك، كما قال تعالى: "ونعلم ما توسوس به نفسه". وقال: "إن النفس لأمارة بالسوء". وقال، صلى الله عليه وسلم: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك". وقال: "إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم". وهذا شأن(النفس). ولو كان تكذيبه للعقل موجبا لكونه شيطانا، لكان العقل أيضا كذلك، لأنه يكذب ما وراء طوره مما يدرك بالمكاشفات الحقيقية، كأحوال الآخرة وأيضا، إدراكه للمعاني الجزئية وإظهاره لها حق ونوع من الهداية للاهتداء به في الجزئيات التي هي نهاية المظاهر.
قال الشيخ في "الفص الإلياسي": "فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الكاملة الإنسانية وبه جاءت الشرائع المنزلة فشبهت ونزهت، والشيطان مظهر الإضلال والإغواء لا للاهتداء، وفي باقي الحيوانات فهو بمثابة العقل. 
ومن أمعن النظر، يعلم أن القوة الوهمية هي التي إذا قويت وتنورت  تصير عقلا مدركا للكليات وذلك لأنه نور من أنوار العقل الكلى المنزل إلى العالم السفلى مع الروح الإنساني، فصغر وضعف نوريته وإدراكه لبعده من منبع الأنوار العقلية فتسمى بـ (الوهم). 
فإذا رجع وتنور بحسب اعتدال المزاج الإنساني، قوى إدراكه وصار عقلا من العقول. 
كذلك يترقى العقل أيضا ويصيرعقلا مستفادا."


(ولهذا كان آدم، عليه السلام، خليفة). أي، ولأجل حصول هذه الجمعية لآدم، صار خليفة في العالم.
(فإن لم يكن آدم ظاهرا بصورة من استخلفه) وهو الحق. 
(فيما استخلف فيه وهو العالم) أي، إن لم يكن متصفا بكمالاته متسما بصفاته قادرا على تدبير العالم. 
(فما هو خليفة، وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا التي استخلفه عليها،لا يكون استنادها) أي، استناد الرعايا. (إليه). أي، إلى آدم الذي هو الخليفة، فليس بخليفة. وحذف الجواب لدلالة الجواب الأول والذي يأتي بعده عليه. 
وإنما كان العالم مسندا إليه، لأنه رب للعالم بحسب مرتبته، وعبد للحق بحسب حقيقته، وإذا كان العالم مستندا إليه (فلا بد أنيقوم بجميع ما يحتاج إليه  وإلا فليس بخليفة عليهم، فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل). 
أي، وإذا كان الأمر كذلك، فما صحت هذه المرتبة إلا له.

واعلم، أن لكل فرد من أفراد الإنسان نصيبا من هذه الخلافة يدبر به ما يتعلق به، كتدبير السلطان لملكه وصاحب المنزل لمنزله. وأدناه تدبير الشخص لبدنه. وهو الحاصل للأولاد بحكم الوراثة من الوالد الأكبر، والخلافة العظمى إنما هي للإنسان الكامل.
واعلم، أن الشيطان أيضا مربوب لحقيقة آدم وإن كان أخرجه من الجنة وأضله بالوسوسة، لأنها تمد من عالم الغيب مظاهر جميع الأسماء، كما أن ربه يمد الأسماء كلها. 
فهو المضل بنفسه في الحقيقة لنفسه، ليصل كل من أفراده إلى الكمال المتناسب له، ويدخل الدار الطالبة إياه من الجنة والنار ولولا ذلك الإمداد، لا يكون له سلطنة عليه. 
ومن هنا يعلم سر قوله تعالى: "فلا تلوموني ولوموا أنفسكم". وبه قامت الحجة عليهم، لان أعيانهم اقتضت ذلك. فإضلاله لآدم وإخراجه من الجنة الروحانية لا يقدح في خلافته وربوبية.

(فأنشأ صورته الظاهرة) أي، صورته الموجودة في الخارج من جسمه و روحه من حقائق عالم الملك والملكوت.
لذلك قال: (من حقائق العالم وصوره) وما اكتفى بذكر الصور. 
(وإنشاء صورته الباطنة على صورته تعالى) أي، وإنشاء صورته الموجودة في العلم، وهي عينه الثابتة متصفة بصفات الحق تعالى وأسمائه. 
ولما كانت الحقيقة يظهر بالصورة في الخارج، أطلق (الصورة) على الأسماء والصفات مجازا، لأن الحق بها يظهر في الخارج.
واعلم، أن كلا من (الظاهر) و (الباطن) ينقسم على قسمين: باطن مطلق، وباطن مضاف، وظاهر مطلق، وظاهر مضاف. 
فأما الباطن المطلق فهوالذات الإلهية وصفاته والأعيان الثابتة.

والباطن المضاف هو عالم الأرواح.
فإنه ظاهر بالنسبة إلى الباطن المطلق، باطن بالنسبة إلى الظاهر المطلق، وهو عالم الأجسام، لذلك جعل صورته الظاهرة، أي صورة الإنسان، من حقائق العالم وصوره. 
ويجوز أن يراد بـ (الصورة الظاهرة) جسمه وبدنه، فإنه مركب من حقائق عالم الكون والفساد. ويؤيده قوله آخرا: (فقد علمت حكمة نشأة جسد آدم،أعني صورته الظاهرة). 
وبـ (الصورة الباطنة) روحه وقلبه والقوى الروحانية المتصفة بصفات الحق وأسمائه. 
(ولذلك قال فيه: كنت سمعه وبصره. وما قال: كنت عينه وأذنه. 
(ففرق بين الصورتين) أي، لأجل أنه تعالى أنشأ صورته الباطنةعلى صورته تعالى، قال في حق آدم: (كنت سمعه وبصره). فأتى بـ (السمع) و (البصر) اللذين من الصفات السبعة التي هي الأئمة. (وما قال: كنت عينه وأذنه) الذين هما من جوارح الصورة البدنية وآلتان للسمع والبصر. (ففرق بين الصورتين) أي صورة الباطن أو الظاهر، وإن كان الظاهر مظهرا للباطن.
قوله : (وهكذا هو في كل موجود من العالم بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود) أي،كما أن الحق وهويته سار في آدم، كذلك هو سار في كل موجود من العالم. 
لكن سريانه وظهوره في كل حقيقة من حقائق العالم إنما هو بقدر استعداد تلك الحقيقة التي لذلك الموجود وقابليته. 
(لكن ليس لأحد مجموع ما للخليفة) استدراك منقوله: (وهكذا هو في كل موجود)
(فما فاز إلا بالمجموع) أي، فما فاز بالمجموع إلا الخليفة. 
لأن المراد حصر الفوز بالمجموع في الخليفة، وهو الحصر في المحكوم عليه لا الحصر في المحكوم به، كما هو ظاهر الكتاب، إذ يلزم منه أن الخليفة ما فاز بشئ مما فاز به العالم إلا بالمجموع، وهذا غير صحيح. 
فإنه فاز بكل ما فاز به العالم مع اختصاصه بالزائد، وهو الفوز بالمجموع.
قوله : (ولولا سريان الحق في الموجودات والظهور فيها بالصورة ما كان للعالم وجود) أي، لولا سريان ذات الحق وهويته في الموجودات وظهوره فيها بالصورة، أي بصفاته تعالى، ما كان للعالم وجود ولا ظهور لأنه بحسب نفسه معدوم. 
واكتفى بذكر (الصورة) من الذات لكونها عينها، أو لاستلزام الصورة إياها. (كما أنه) الضمير للشأن. 
قوله : (لولا تلك الحقائق المعقولة الكلية، ما ظهر حكم في الموجودات العينية) أي، كما أنه لو لا تلك الحقائق الكلية، التي في القديم قديم وفي الحادث حادث، ومعروضاتها من الحقائق العينية، ما ظهر حكم من أحكام أسماء الحق وصفاته في الموجودات العينية. 
فكما أن وجود العالم بسريان الحق في الموجودات بذاته وصفاته، كذلك ظهور أحكام أسمائه وصفاته بالحقائق المعقولة التابعة والمتبوعة. 
فارتبط العالم بالحق ارتباط الافتقار في وجوده والحق بالعالم من حيث ظهور أحكامه وصفاته. فافتقر كل منهما إلى الآخر لكن الجهة غير متحدة.
(ومن هذه الحقيقة) أي، ومن هذا الارتباط الذي للحق، هو المعنى الثابت في نفس الأمر، إذ (الحق) هو الثابت لغة. 
(كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده) (كان) تامة بمعنى حصل. 
وإنما قال: (في وجوده) ولم يتعرض بذاته، تنبيها على أن الأعيان ليست مجعولة لجعل الجاعل مع أنها فائضة من الحق بالفيض الأقدس، لأن الجعل إنما يتعلق بالوجود الخارجي. كما مر تحقيقه في المقدمات.

قوله شعر:

(فالكل مفتقر، ما الكل مستغن  ....  هذا هو الحق قد قلناه لا نكنى)
أي، فكل واحد من العالم وربه مفتقر إلى الآخر: أما العالم ففي وجوده وكمالاته، وأما ربه ففي ظهوره وظهور أسمائه وأحكامهما فيه. (ما) في (ماالكل) للنفي. و (مستغن) خبره. 
ورفعه على رأى الكوفيين، كقوله تعالى: "ماهذا بشر". عند من قرأ بالرفع.



ولما كان الارتباط وافتقار كل منهما إلى الآخر ثابتا في نفس الأمر، قال: "هذا هو الحق قد قلناه لا نكنى" وهو من (الكناية) وهو الستر. أي، لا نستره إرشادا للطالبين.
(فإن ذكرت غنيا لا افتقار به  ....   فقد علمت الذي من قولنا نعنى)
أي، فإن قلت، إن الحق غنى عن العالمين ولا افتقار له، فقد علمت من الذين عنى بقولنا: (فالكل مفتقر) لأن كلامنا في الارتباط بين الحق والعالم، وذلك بالأسماء التي تطلب العالم بذاتها، فهي مفتقرة إلى العالم، لا الذات الإلهية منحيث هي هي، فإنها من هذا الوجه غنى عن العالمين. 
و (الباء) في (به) بمعنى اللام. أي، لا افتقار له. أو بمعنى (في). أي، لا افتقار في كونه غنيا.
(فالكل بالكل مربوط وليس له  .... عنه انفكاك خذوا ما قلته عنى) 
ضمير (له) عائد إلى العالم. وضمير (عنه) إلى الحق. والباقي ظاهر.
قوله : (فقد علمت حكمة نشأة جسد آدم، أعني صورته الظاهرة) وتلك الحكمة هي ظهور أحكام الأسماء والصفات فيها. 
قوله : (وقد علمت) حكمة (نشأة روح آدم، أعني صورته الباطنة) أي، حكمة نشأة روح آدم، وهي الربوبية والخلافةعلى العالم. 
(فهو الحق الخلق) يعنى، فآدم هو الحق باعتبار ربوبيته للعالم واتصافه بالصفات الإلهية، والخلق باعتبار عبوديته ومربوبيته.
أو هو الحق باعتبار روحه، والخلق باعتبار جسده. 
كما قال الشيخ (رضي الله عنه ) في بيت من قطعة:
حقيقة الحق لا تحد  .... وباطن الرب لا يعد 
فباطن لا يكاد يخفى  .... وظاهر لا يكاد يبد
وفإن يكن باطنا ورب  .... وإن يكن ظاهرا فعبد
(وقد علمت نشأة رتبته وهي المجموع الذي به استحق الخلافة) إنما جعل (الخلافة للمجموع) لأنه بالنشأة الروحانية آخذ من الله، وبالنشأة الجسمانية مبلغ إلى الخلق، وبالمجموع تتم دولته وتكمل مرتبته، كما قال الله: "فلو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون". أي، ليجانسكم فيبلغكم أمري.
(فآدم هو النفس الواحدة التي خلق منها هذا النوع الإنساني) أي، إذا علمت أن آدم هو الخليفة على العالم ومدبره، فآدم في الحقيقة هو النفس الواحدة.
وهوالعقل الأول الذي هو الروح المحمدي في الحقيقة الظاهر في هذه النشأة العنصرية المشار إليه بقوله، صلى الله عليه وسلم: "أول ما خلق الله نوري". 
الذي منه يخلق هذا النوع الإنساني بل جميع الأنواع مخلوق منه، وبقوله: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين". 
وذلك لأن للحقيقة الإنسانية مظاهر في جميع العوالم: فمظهرهالأول في عالم الجبروت، هو الروح الكلى المسمى بـ (العقل الأول) فهو آدم أول، و (حواه) النفس الكلية التي خلقت من ضلعه الأيسر الذي يلي الخلق، فإن يمينه هو الجانب الذي يلي الحق. 
وفي عالم الملكوت، هو النفس الكلية التي يتولد منها النفوس الجزئية الملكوتية، وحواه الطبيعة الكلية التي في الأجسام. وفي عالم الملك هو آدم أبو البشر.
قال الشيخ (رضي الله عنه) في الباب العاشر من الفتوحات: "فأول موجود ظهر من الأجسام الإنسانية كان آدم، عليه السلام، وهو الأب الأول من هذا الجنس". 
وقال في نقش الفصوص: "وأعنى بآدم وجود العالم الإنساني". فأراد بما قال في الفتوحات ونقش الفصوص، آدم عالم الملك، إذ به يتحقق وجود العالم الإنساني أولا. 
ونبه هنا على آدم، عالم الجبروت والملكوت الذي هو الخليفة أزلا وأبدا،تنبيها للمتكلمين وإرشادا للطالبين.
(وهو قوله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء".) الضمير عائد إلى المعنى الذي ذكره من قوله: "فآدم هو النفس الواحدة" إلى آخره. أي، هذا المعنى المذكور هو معنى قوله تعالى: (يا أيها الناس...) - الآية. ومعناها بالنسبة إلى عالم الجبروت:

(اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة). أي، من عين واحدة، هو العقل الأول. 
(وخلق منها زوجها) التي هي النفس الكلية. 
(وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) أي عقولا ونفوسا مجردة. 
وبالنسبة إلى عالم الملكوت: خلقكم من ذات واحدة، هي النفس الكلية، وخلق منها زوجها، أي الطبيعة الكلية، وبث منهما رجالا كثيرا، وهي النفوس الناطقة المجردة، ونساء، وهي النفوس المنطبعة، وباقي القوى. وبالنسبة إلى عالم الملك فظاهر.
(فقوله اتقوا ربكم اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم، و اجعلوا ما بطن منكم، وهو ربكم،
وقاية لكم: فإن الأمر ذم و حمد: فكونوا وقايته في الذم و اجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين). 
لما استشهد بالآية، ذكر مطلعها وعلم السالك التأدب بين يدي الله تعالى لتزداد نوريته ولا يقع في مهالك الإباحة.
فإن توحيد الأفعال يقتضى إسناد الخير والشر إلى الله تعالى. 

فالسالك إذا أسندهما إليه قبل زكاء النفس وطهارتها، يقع في الإباحة.
وبعد طهارتها، يكون مسيئا للأدب بإسناد القبائح إليه. ولكون (الاتقاء) مأخوذا من (وقى، يقي) كما يقال: وقيته وقاء فاتقى. أي، إتخذ الوقاية.
فسر (اتقوا) بقوله: (إجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم) أي، آلة الوقاية.
كما قال تعالى: "خذوا حذركم". أي آلة الحذر،كالترس وغيره من السلاح.
فالمراد بـ (ما ظهر) هو الجسد مع النفس المنطبعة فيه. أي، انسبوا النقائص إلى أنفسكم لتكونوا وقايته في الذم. 
واجعلوا ما بطن منكم، وهو الروح الذي يربكم وقاية لكم في الحمد.
أي، انسبوا الكمالات إلى ربكم، كما قال عن لسان الملائكة: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا".
  وعند نسبة الكمالات إلى الله تعالى يكون لكم الخلاص من ظهور إنياتكم وأنفسكم، ولا يكون للشيطان عليكم سلطان.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الرابع .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالخميس يوليو 25, 2019 5:05 am

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الرابع .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية    الجزء الرابع

وإنما جعل الظاهر وقاية للباطن في الذم، والباطن وقاية للظاهر في الحمد، وأثبت الربوبية للباطن: فإن الظاهر من حيث النفس المنطبعة منبع النقائص ومحل التصرفات الشيطانية، وهو عبد مربوب أبدا. 
والباطن منبع الأنوار ومرأة التجليات الرحمانية، فله ربوبية من حيث اتصافه بالكمالات وإن كان له عبودية من حيث إنه يستفيض من الرب المطلق دائما. 

فلا يقال، إنه جعل الرب آلة الاتقاء، لأن المتقى اسم مفعول. لأن الباطن الذي جعله آلة الاتقاء هو عبد من وجه. وأيضا، جعل الباطن تارة آلة الاتقاء والظاهر متقى، وأخرى الظاهر آلة الاتقاء والباطن متقى. والظاهر والباطن كلاهما حق، فهو المتقى والمتقى به،كما قال، عليه السلام: "أعوذ بك منك."
(ثم، إنه تعالى أطلعه على ما أودع فيه) أي، آدم. 
(في قبضتيه: القبضة الواحدة فيها العالم، وفي القبضة الأخرى آدم وبنوه وبين مراتبهم فيه). أي، بعد أن أوجد آدم وجعله متصفا بصفاته وخليفة في ملكه، أطلعه على ما أودع فيحقيقته من المعارف والأسرار الإلهية، كما قال: "وعلم آدم الأسماء كلها". 

وجعل ذلك المودع في قبضتيه، أي، في ظهوري الحق وتجلييه بالقدرة لإيجاد العالم الكبير مرة والصغير أخرى، أو في عالميه الكبير والصغير، لأنه قد يقال (القبضة) ويراد بها المقبوض. 
قال الله تعالى: "والأرض جميعا قبضته". أي،مقبوضة مسخرة في يد قدرته. 
القبضة الواحدة فيها العالم، أي، أعيان الموجودات على سبيل التفصيل، وفي القبضة الأخرى آدم وبنوه المشتمل على كل من الموجودات على الإجمال. 
والمراد بهما (اليدان) المعبر عنهما بالصفات الفاعلية والقابلية: فالعالم هو اليد القابلة، وآدم هو اليد الفاعلة المتصرفة في القابلة. 
وقوله: (وبين مراتبهم فيه) أي، مراتب بنى آدم في آدم المشتمل عليهم، كما قالفي الحديث: (إن الله مسح بيده ظهر آدم وأخرج بنيه مثل الذر). - الحديث. ويجوز أن يعود ضمير (فيه) إلى الحق. أي، بين مراتبهم في الحق. والأول أولى.
قوله : (ولما أطلعني الله تعالى في سرى على ما أودع في هذا الإمام الوالد الأكبر،
جعلت في هذا الكتاب منه ما حد لي، لا ما وقفت عليه، فإن ذلك لا يسعه كتاب ولاالعالم الموجود الآن.)
"الوالد الأكبر" وآدم الحقيقي الذي هو الروح المحمدي، و "الوالد الأكبر" هو آدم أبوالبشر.
وإنما قال: (فإن ذلك لا يسعه كتاب) إلى آخره. لأن الكمالات الإنسانية هي مجموع كمالات العالم بأسره مع زيادة تعطيها الحضرة الجامعية والهيئة الاجتماعية، فلو يكشفها كلها، لا يسعها كتاب ولا يسعها أهل العالم بحسب الإدراك، لقصورهم وعجزهم عن إدراك الحقائق على ما هي عليه.
(فمما شهدته مما نودعه في هذا الكتاب كما حده لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم: )
 (حكمة إلهية في كلمة آدمية) وهو هذا الباب الذي مر قولنا فيه) أي، فمن جملة ماشهدته من الذي أودعته في هذا الكتاب ("حكمة إلهية في كلمة آدمية."
و (من) في (مما نودعه) بيان (لما). فقوله: (حكمة) مبتداء، خبره:
(مما شهدته). قدم عليه تخصيصا للنكرة. ثم يتلوه (الفص الشيثي) وهكذا إلى آخر الفصوص. 
وسنذكر سبب تخصيص كل حكمة بكلمة منسوبة إليها في مواضعها، إنشاء الله تعالى.
(ثم، حكمة نفثية في كلمة شيثية.
ثم، حكمة سبوحية في كلمة نوحية 
ثم، حكمة قدوسية في كلمة إدريسية 
ثم، حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية
ثم، حكمة حقية في كلمة إسحاقية
ثم، حكمة علية في كلمة إسماعيلية
ثم، حكمة روحية في كلمة يعقوبية
ثم، حكمة نورية في كلمة يوسفية
ثم، حكمة أحدية في كلمة هودية
ثم، حكمة فاتحية في كلمة صالحية
ثم، حكمة قلبية في كلمة شعيبية
ثم، حكمة ملكية في كلمة لوطية
ثم، حكمة قدرية في كلمة عزيرية
ثم، حكمة نبوية في كلمة عيسوية
ثم، حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
ثم، حكمة وجودية في كلمة داودية
ثم، حكمة نفسية في كلمة يونسية
ثم، حكمة غيبية في كلمة أيوبية
ثم، حكمة جلالية في كلمة يحيوية
ثم، حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
ثم، حكمة إيناسية في كلمة إلياسية
ثم، حكمة إحسانية في كلمة لقمانية
ثم، حكمة إمامية في كلمة هارونية
ثم، حكمة علوية في كلمة موسوية
ثم، حكمة صمدية في كلمة خالدية
ثم، حكمة فردية في كلمة محمدية)

وسنذكر سبب تخصيص كلمة (حكمة) بـ (اكلمة) منسوبة إليها في مواضعها، إنشاء الله تعالى.
(وفص كل حكمة الكلمة المنسوبة إليها فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب. 
فامتثلث على ما رسم لي ووقفت
عند ما حد لي، ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت، فإن الحضرة تمنع من ذلك.
والله الموفق، لا رب غيره) وفص كل حكمة أي محل نقوش كل (حكمة) روح ذلك النبي الذي نسبت (الحكمة) إلى كلمته. 
والمراد بـ (أم الكتاب) الحضرةالعلمية، فإنها أصل الكتب الإلهية.
وإنما قال: (ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت) لأنه وإن أحاط بعلوم وأسرار غير متناهية مودعة في آدم، عليه السلام، لكن العبد الكامل لا يكون  وذلك لأن الفص أحدية جمع حلقة الخاتم، وكان الحلقة منه ظهرت وبه ختمت، وكذلك كل دورة من أدوار النبوة بمنزلة دائرة تامة نبي تلك الدورة أحدية جمعها. 
وكل الدوائر نقاط دائرة الختمية وفصها الخاتم حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله إلا بأمر الحق وإرادته، فلو أراد أن يزيد على ماعينه الحق بحسب نفسه، تمنعه الغيرة الإلهية وما يمكنه من ذلك. 
كما جاء في النبي، صلى الله عليه وسلم: "ليس لك من الأمر شئ، وما عليك إلا البلاغ، إنأنت إلا نذير."
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الأول .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالخميس يوليو 25, 2019 5:09 am

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الأول .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية   الجزء الأول

(النفث) لغة إرسال النفس رخوا. ويستعمله أرباب العزائم عقيب الدعاء لزوال المرض.
وهنا استعارة عن إلقاء الحق العلوم الوهبية والعطايا الإلهية في روع هذا النبي وقلبه.
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي: أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها. ألا، فأجملوا في الطلب". - الحديث.
ومعنى (شيث) في اللغة العبرانية، (هبة الله) تعالى. وهو أول من وهبه الله
تعالى آدم بعد تفجعه. وهو أول من وهبه الله تعالى على فقد هابيل فعوضه الله تعالىعن هابيل شيث.
ولما كان آدم تعينا أوليا إجماليا مشتملا مرتبته على جميع مراتب العالم وأراد الله أن يبين ويفصل ذلك الإجمال بحسب "النفس الرحماني" الذي هو عبارة عن انبساط الوجود على الأعيان الثابتة من حضرة "الوهاب" و "الجواد" الذين عليهما يتفرع "المبدئ" و "الخالق" وكان يعد المرتبة الإلهية المرتبة المبدئية والموجودية وهي لا تحصل إلا بنفث النفس الرحماني في الوجود الأعياني ليكون ظاهرا كما كان باطنا، أورد الحكمة الإلهية وخصصها بالكلمة (الشيثية) التي هي بعد التعين الأولى ومظهر التجلي الجودي، فطابق اسمه مسماه.
ولما كان تعينه بحسب الفيض الجودي والمنح الوهبي، شرع (رض) في تحقيق العطايا وبيان أقسامها:
فقال: (اعلم، أن العطايا والمنح الظاهرة في الكون) أي، الحاصلة في الوجود الخارجي. (على أيدي العباد) أي، بواسطتهم، كالعلم الحاصل
للمتعلم والمريد من المعلم والشيخ، وكالحاصل للكمل بواسطة الملائكة وأرواح الأنبياء، عليهم السلام، والأقطاب بعدهم. (وعلى غير أيديهم) كالعلم الحاصل لهما من باطنهما من غير تعليم المعلم وإرشاد الشيخ، بل من الوجه الخاص الذي يلي الحق المتجلى به لكل موجود.
ويجوز أن يراد بقوله: (على أيدي العباد وعلى غير أيديهم) الأسباب الظاهرة فقط.
(على قسمين: منها ما يكون عطايا ذاتية وعطايا أسمائية، وتتميز عند أهل الأذواق) أي، ينقسم على قسمين: عطايا ذاتية، وعطايا أسمائية.
والمراد بالعطايا الذاتية ما يكون مبدأه الذات من غير اعتبار صفة من الصفات معها، وإن كان لا يحصل ذلك إلا بواسطة الأسماء والصفات، إذ لا يتجلى الحق من حيث ذاته على الموجودات إلا من وراء حجاب من الحجب الأسمائية. وبالأسمائية ما يكون مبدأه صفة من الصفات من تعينها وامتيازها عن الذات.
وللأول مراتب:
أولها، (الفيض الأقدس) الذي يفيض من ذاته على ذاته، فيحصل منه الأعيان واستعداداتها  وثانيها، ما يفيض على الطبائع الكلية الخارجية من تلك الأعيان.
وثالثها، ما يفيض منها على أشخاصها الموجودةبحسب مراتبها.
وهذه العطايا الذاتية لا يزال يكون إحدى النعث كقوله تعالى: "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر".
وبحسب الأسماء والصفات ومظاهرها، التي هي القوابل، يتكثر ويتعدد.
والعطايا الأسمائية بخلافها، إذ الصادر من الاسم (الرحيم) يضاد ما يصدر من (المنتقم) لتقيد كل منهما بمرتبة معينة. ومصدرالعطايا الذاتية من حيث الأسماء هو الاسم (الله) و (الرحمن) و (الرب) وغيرهامن أسماء الذات. وقد تقدم بيانها في فصل الأسماء.
وأهل الكشف والشهود يفرق بينهما عند حصول الفيض والتجلي، ويعرف منبع فيضانه بميزانه الخاص له الحاصل من كشفه.
والمراد بأهل الذوق من يكون حكم تجلياته نازلا من مقام روحه وقلبه إلى مقام نفسه وقواه، كأنه يجد ذلك حسا فيدركه ذوقا، بل يلوح ذلك من وجوهم.
قال تعالى: "يعرف في وجوههم نضرة النعيم". وهذا مقام الكمل والأفراد، ولا يتجلى الحق بالأسماء الذاتية إلا لهم.
(كما أن منها) أي، من العطايا.
(ما يكون عن سؤال) أي لفظي. (في معين وعن سؤال في غير معين) شبه إنقسام العطايا بالذاتية والأسمائية من جهة الفاعل بانقسامها بالقسمين من جهة القابل:
أحدهما ما يكون عن سؤال، أي عن طلب العبد، إما في أمر معين كطلب العلم واليقين، أو غير معين كما يقول:
اللهم أعطني ما فيه مصلحتي، فإنك أعلم بحالي وما فيه صلاحي.
وثانيهما قوله: (ومنها ما لا يكون عن سؤال) أي، سؤال لفظي.
فإن السؤال لا بد منه إما بلسان القال أو الحال أو الاستعداد.
(سواء كانت الأعطية ذاتية أو أسمائية.) (الأعطية) جمع (عطاء)، كالأغطية جمع (غطاء.)
قال الشيخ رضي الله عنه : (فالمعين كمن يقول: يا رب أعطني كذا. فيعين أمرا مالا يخطر له سواه) أي،سوى ذلك الأمر. (وغير المعين كمن يقول: يا رب أعطني ما تعلم فيه مصلحتي المعين) بفتح الياء.
أي، فالسؤال المعين كسؤال من يقول: يا رب أعطني كذا. وبالكسر، على أنه اسم فاعل، لا يناسب ما ذكره في التقسيم وهو قوله: (ما يكونعن سؤال في معين) .
وإن كان مناسبا لقوله: (كمن يقول يا رب أعطني) ولايحتاج إلى تقدير السؤال.
(من غير تعيين لكل جزء ذاتي من لطيف وكثيف) أي، بلا تعيين للأجزاء المنسوبة إلى الذات، اللطيفة الروحانية، كالروح والقلب والعقل وقواها، أو للأجزاء الكثيفة البدنية، كالقلب والدماغ والعين.
كما عين النبي، صلى الله عليه وسلم، في دعائه بقوله: (اللهم، اجعل لي في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا...) - الحديث.
وفي بعض النسخ: (لكل جزء من ذاتي من لطيف وكثيف).
أي، كمن يقول: أعطني لكل جزء من ذاتي مافيه مصلحتي من غير تعين المطلوب من لطيف وكثيف ففيه تقديم وتأخير.
وقوله: (لكل جزء) متعلق بـ (أعطني). وعلى الأول متعلق ب (تعيين). وقوله: (من غير تعيين) أي، للمطلوب.
وقوله: (من ذاتي) هو بتخفيف الياء، على الإضافة، لا بتشديدها الذي هو مرادف لجزء الماهية، لأنالجزء أظهر منه ولا يبين الأظهر بالأخفى.
وليس المراد بالذاتي هنا جزء الماهية ولاالأعراض الذاتية التي لها.
فقوله: (من ذاتي) صفة (لكل جزء). فـ (من) فيقوله: (من ذاتي) للتبعيض.
وفي قوله: (من لطيف وكثيف) للبيان. والمبين يجوز أن يكون (ما) في قوله: (ما فيه مصلحتي) ومعناه: أعطني لكل جزء منذاتي ما فيه مصلحتي من لطيف، كالعلوم والمعارف والأرزاق الروحانية، وكثيف، كالمال والولد والأرزاق الجسمانية.
ويجوز أن يكون المبين (لكل جزء) أي، لكل جزء من لطيف كالروح والقلب، وكثيف كأعضاء البدن. كمامر أولا. والظاهر أن تشديد (الياء) وحذف (من) تصرف ممن لا يعرف معنىكلامه.
(والسائلون صنفان) أي، السائلون بلسان القال مع صرف الهمة إلى
المسؤول عنه صنفان.
وإنما قلت: (مع صرف الهمة إلى المسؤول عنه) لأن السائلالذي سئل امتثالا لأمر الله، لا طلبا لشئ من الكمالات لعلمه بحصول ما هومستعد له في كل حين، سائل بلسان القال أيضا، لكن إتيانا بحكم (أدعوني أستجب لكم).
ولأنه تعالى يجب أن يسأل منه، كما قيل:
الله يغضب إن تركت سؤاله وسليل آدم حين يسأله يغضب ولما لم يكن همته متعلقة فيما سأل، فكأنه ليس من السائلين في الحقيقة.
لذلك قال: (صنفان).
وأورد الصنف الثالث بعد الفراغ من ذكر صنفين آخرين، كما يأتي بيانه (صنف بعثه على السؤال الاستعجال الطبيعي، فإن الإنسان خلق عجولا)
أي، يسأل ويطلب الكمال قبل حلول أو انه.
قال الشيخ رضي الله عنه : (والصنف الآخر بعثه على السؤال لما علم أن ثمة أمورا عند الله قد سبق العلم) أي، الإلهي.
(بأنها لا تنال إلا بعد سؤال) فيقول، فلعل ما نسأله سبحانه يكون من هذا القبيل.
فسؤاله احتياط لما هو الأمر عليه من الإمكان) أي، بعثه على السؤال علمه بأن حصول بعض المطالب مشروط بالسؤال والدعاء وإن كان البعض الآخر غير مشروط به، فيقول يمكن أن يكونالمطلوب من قبيل المشروط بالدعاء فيحتاط ويسأل.
وإنما أضمر فاعل (بعثه) لأن قوله: (لما علم) يدل عليه.
(وبعثه) جواب (لما) تقديره: والصنف الآخر لما علم أن ثمة أمورا عند الله قد سبقالعلم بأنها لا تنال إلا بعد سؤال، بعثه علمه عليه، أي، بعثه على السؤال علمه.
فالشرط مع الجزاء خبر المبتدأ. ويجوز أن يقال: لما علم، بكسر اللام على أنهللتعليل. أي، والصنف الآخر بعثه على السؤال علمه لكونه علم أن ثمة أموراعند الله لا تنال إلا بالسؤال.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهو لا يعلم ما في علم الله ولا ما يعطيه استعداده في القبول) أي، لا يعلمما عين له في علم الله من الكمال، ولا يعلم ما يعطيه استعداده الجزئي في كلوقت، ولا ما هو قابل له فيه.
(لأنه من أغمض المعلومات الوقوف في كل زمان فرد) أي معين.
(على استعداد الشخص في ذلك الزمان). أي، لأن الشأن أن الوقوف على ما يعطيه استعداد الشخص في كل زمان معين من أغمض
المعلومات، إذ الاطلاع عليه موقوف على الاطلاع بما في علم الله تعالى، أو كتبه التي هي نسخ علمه:
كالعقل الأول الذي هو (اللوح المحفوظ)
والنفس الكلية التي هي (الكتاب المبين)
والنفس المنطبعة التي هي (كتاب المحو والإثبات) وإلا لا يمكن أن يقف عليه.
كما قال تعالى: "وما تدرى نفس ما ذا تكسب غدا".
(ولو لا ما أعطاه الاستعداد السؤال، ما سأل) أي، وإن كان يعلم إجمالا أنه لو لا طلب استعداده السؤال، ما سأل.
(فغاية أهل الحضور الذين لا يعلمون مثل هذا) أي، في كل وقت معين.


قال الشيخ رضي الله عنه : (أن يعلمون في الزمان الذي يكونون فيه، فإنهم لحضورهم يعلمون ما أعطاهم الحق في ذلك الزمان) أي، غاية أهل الحضور والمراقبة الذين لا يعلمون استعدادهم في كل زمان من الأزمنة، أن يعلموااستعدادهم في زمان حضورهم بما أعطاهم الحق من الأحوال.
(وأنهم ما قبلوهإلا بالاستعداد). أي، ويعلمون أنهم ما قبلوا ذلك إلا بالاستعداد الجزئي فيذلك الزمان.
(وهم صنفان: صنف يعلمون من قبولهم استعدادهم) وهم كالمستدلينمن الأثر على المؤثر إلى الأثر. (وصنف يعلمون من استعدادهم ما يقبلونه) كالمستدلين من المؤثر.
(وهذا أتم ما يكون في معرفة الاستعداد في هذا الصنف) لأنهم طلع بعينه الثابتة وبأحوالها في كل زمان، بل بأعيان غيره أيضا وأحوالهم (في كتاب مرقوم يشهده المقربون).
وهذا الكامل هو الذي يقدر على تكميل غيره من المريدين والطالبين.
(ومن هذا الصنف من يسأل لا للاستعجال ولا للإمكان، و إنما يسأل امتثالا لأمر الله في قوله تعالى: "أدعوني أستجب لكم".
فهو العبد المحض أي، هو العبد التام في العبودية الممتثل لأوامره كلها من غير شوب من الحظوظ،لأنه بحضوره دائما يعرف استعداده وما يفيض من الحق من التجليات بحسب استعداده عليه، فيكون سؤاله لفظا امتثالا لأمره تعالى كما مر.
قال الشيخ رضي الله عنه (وليس لهذا الداعي همة متعلقة فيما يسأل منه من معين أو غير معين، وإنما همته في امتثال أوامرسيده) لأنه منزه عن طلب غير الحق من المطالب الدنياوية والأخراوية، بل نظره على الحق جمعا في مقام وحدته، وتفصيلا في مظاهره.
(فإذا اقتضى الحال السؤال) أي اللفظي. (يسأل عبودية، وإذا اقتضى) أي الحال.
(التفويض والسكوت، سكت. فقد ابتلى أيوب وغيره وما سألوا رفعما ابتلاهم الله به. ثم اقتضى لهم الحال) أي اقتضى حالهم.
(في زمان آخر أن يسألوهرفع ذلك، فسألوا، فرفعه الله عنهم). ظاهر.
(والتعجيل بالمسؤول فيه والإبطاء للقدر المعين له) أي، للمسؤول فيه.
(عند الله). أي، التعجيل في الإجابة والإبطاء فيها إنما هو للقدر، أي، لأجل القدرالمعين وقته في علم الله وتقديره كذلك.
فقوله: (للقدر) خبر المبتدأ وهو (التعجيل.)
(فإذا وافق السؤال الوقت أسرع بالإجابة) أي، حصول المسؤول في الحال.
(وإذا تأخر الوقت) أي، وقت حصول المسؤول.
(إما في الدنيا) كالمطالب الدنياوية إذا تأخرت إجابتها.
(وإما في الآخرة) كالمطالب الأخراوية.
(تأخرت الإجابة، أي المسؤول فيه) إلى حصول وقتها. (لا الإجابة التي هي لبيكمن الله، فافهم هذا). إشارة إلى ما جاء في الحديث الصحيح: (إن العبد إذا دعاربه، يقول الله : لبيك يا عبدي). في الحال من غير تأخر عن وقت الدعاء. ومعنى (لبيك) من الله ليس إلا إجابة المسؤول في الحال، لكن ظهوره موقوف إلى الوقت المقدر له.
بل الحق تعالى ما يلقى في قلب العبد الدعاء والطلب إلا للإجابة، لذلك قال: (لا الإجابة التي هي لبيك من الله.)
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما القسم الثاني وهو قولنا: ومنها ما لا يكون عن سؤال، فالذي لا يكون عن سؤال، فإنما أريد بالسؤال التلفظ به، فإنه في نفس الأمر لا بد من سؤال، إما باللفظ أو بالحال أو بالاستعداد)
القسم الثاني وهو السؤال بلسان الحال والاستعداد، والأول كقيام الفقير بين يدي الغنى لطلب الدنيا، وسؤال الحيوانما يحتاج إليه. لذلك قيل لسان الحال أفصح من لسان القال. وقال الشاعر:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة    ..... سكوتي بيان عندكم وخطاب
والسؤال بلسان الاستعداد، كسؤال الأسماء الإلهية ظهور كمالاتها و
سؤال الأعيان الثابتة وجوداتها الخارجية. ولو لا ذلك السؤال، ما كان يوجدموجود قط، لأن ذاته تعالى غنية عن العالمين.
قال الشيخ رضي الله عنه : (كما أنه لا يصح حمد مطلق قط إلا في اللفظ، وأما في المعنى فلا بد أن يقيده الحال. فالذي يبعثك على حمد الله هو المقيد لك باسم فعل أو باسم تنزيه). أي، لا بدفي نفس الأمر من سؤال، وذلك السؤال لا يصح أن يكون مطلقا إلا في اللفظ، ﻛﻤﺎﻻ ﻳﺼﺢ ﺍﻟﺤﻤﺪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﺇﻻ ﻓﻴﻪ.
ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻭﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﻳﻘﻴﺪ ﺍﻟﻤﺴﺆﻭﻝ ﺑﻤﺎ ﻳﻘﺘﻀﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﺍﻟﻤﺨﺼﻮﺹ ﻭﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺍﻟﻤﻌﻴﻦ، ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺍﻟﺤﻤﺪ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻣﻘﻴﺪ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﺍﻟﻤﻌﻴﻦ.
ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺒﺎﻋﺚ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﺑﺄﻥ ﻳﺘﻘﻴﺪ ﻭﻳﺤﻤﺪ ﺍﻟﺤﻖ ﺑﺎﺳﻢ ﻓﻌﻞ ﻙ "ﺍﻟﻤﻌﻄﻰ" ﻭ "ﺍﻟﺮﺯﺍﻕ" ﻭ "ﺍﻟﻮﻫﺎﺏ"، ﺃﻭ ﺑﺎﺳﻢ ﺻﻔﺔ ﺗﻨﺰﻳﻬﻴﺔ ﻙ "ﺍﻟﻘﺪﻭﺱ" ﻭ "ﺍﻟﻐﻨﻰ" ﻭ "ﺍﻟﺼﻤﺪ"، ﺃﻭ ﺑﺎﺳﻢ ﺻﻔﺔ ﺇﺿﺎﻓﻴﺔ ﻙ "ﺍﻟﻌﻠﻴﻢ" ﻭ "ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ" ﻭ "ﺍﻟﻘﺎﺩﺭ"، ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺕ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﺃﻳﻀﺎ، ﻟﻴﻘﻴﺪﻫﺎ ﺑﺄﺯﻣﻨﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ.
ﻭﺍﻋﻠﻢ، ﺃﻥ ﺣﻘﻴﻘﺔ "ﺍﻟﺤﻤﺪ"، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻫﻲ ﻫﻲ، ﻻ ﻟﺴﺎﻥ ﻟﻬﺎ ﻭﻻ ﺣﻜﻢ، ﻭ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻃﻼﻗﻬﺎ ﻭﻋﻤﻮﻣﻬﺎ، ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺤﻤﻮﺩﺓ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻧﺒﺴﺎﻃﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻛﻮﺍﻥ.
ﻭﻟﺴﺎﻧﻬﺎ ﻗﻮﻟﻨﺎ: "ﺍﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺣﺎﻝ". ﻭﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﻘﻴﺪﻫﺎ ﺑﺤﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ، ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺤﻤﻮﺩ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﻘﻴﺪ ﺑﺎﺳﻢ ﻓﻌﻞ ﺃﻭ ﺻﻔﺔ ﺃﻭ ﺗﻨﺰﻳﻪ. "
ﻭﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺃﻳﻀﺎ ﻛﺬﻟﻚ.(ﻭﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻻ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻪ ﺻﺎﺣﺒﻪ، ﻭﻳﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﺤﺎﻝ، ﻷﻧﻪ ﻳﻌﻠﻢ ﺍﻟﺒﺎﻋﺚ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺤﺎﻝ. ﻓﺎﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺃﺧﻔﻰ ﺳﺆﺍﻝ).
ﺃﻱ، ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﻻ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺎﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ ﺍﻟﺠﺰﺋﻲ ﺍﻟﻤﻘﺘﻀﻰ ﻟﻔﻴﻀﺎﻥ ﻣﻌﻨﻰ ﺟﺰﺋﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻟﺨﻔﺎﺋﻪ، ﻓﺈﻥ ﺍﻻﻃﻼﻉ ﻋﻠﻴﻪ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﻜﻤﻞ، ﻻ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺒﺘﺪﻳﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻠﻮﻙ، ﻭﻻ ﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﺃﺭﺑﺎﺏ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻫﻢ ﺍﻟﻤﺘﻮﺳﻄﻮﻥ ﻓﻴﻪ.
ﻭﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺤﺎﻟﻪ ﻭﻳﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﺒﺎﻋﺚ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﻫﻮ ﺍﻟﺤﺎﻝ، ﻭﻣﻨﻪ ﻳﺴﺘﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ، ﻓﺈﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺃﻣﺮﺍ ﺧﻔﻴﺎ، ﻓﺴﺆﺍﻟﻪ ﺃﻳﻀﺎ ﺧﻔﻰ ﻣﺜﻠﻪ. ﻭﻗﺪ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻣﺸﻌﻮﺭﺍ ﺑﻪ ﻟﻐﻴﺮ ﺻﺎﺣﺒﻪ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ، ﻛﺸﻌﻮﺭ ﺍﻟﻐﻨﻰ ﺑﻔﻘﺮ ﺍﻟﻔﻘﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﺘﺎﺝ.
ﻭﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﻟﻼﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺕ ﺇﻻ ﻟﻠﻜﻤﻞ ﻭﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﻤﻄﻠﻌﻴﻦ ﺑﺎﻷﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﺤﻖ ﺗﻌﺎﻟﻰ. (ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻳﻤﻨﻊ ﻫﺆﻻﺀ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﻋﻠﻤﻬﻢ ﺑﺄﻥ ﻟﻠﻪ ﻓﻴﻬﻢ ﺳﺎﺑﻘﺔ ﻗﻀﺎﺀ، ﻓﻬﻢ ﻗﺪ ﻫﻴﺌﻮﺍ ﻣﺤﻠﻬﻢ ﻟﻘﺒﻮﻝ ﻣﺎ ﻳﺮﺩ ﻣﻨﻪ ﻭﻗﺪ ﻏﺎﺑﻮﺍ ﻋﻦ ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ﻭﺃﻏﺮﺍﺿﻬﻢ) ( ﺃﻱ، ﻟﻤﺎ ﻋﻠﻤﻮﺍ ﻫﺆﻻﺀ ﺃﻥ ﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺣﻘﻬﻢ ﺣﻜﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻀﺎﺀ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻮﺩﻫﻢ، ﻭﻻ ﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﺼﻞ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻭﺍﻟﺸﺮ ﻭﺍﻟﻜﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﻨﻘﺼﺎﻥ ﻭﻛﻞ ﻣﺎ ﻗﺪﺭ ﻟﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻷﺯﻝ، ﺍﺳﺘﺮﺍﺣﻮﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻠﺐ، ﻭﻣﻨﻊ ﻋﻠﻤﻪ ﻫﺬﺍ ﺃﻥ ﻳﺴﺄﻟﻮﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺷﻴﺌﺎ، ﻭﺍﺷﺘﻐﻠﻮﺍ ﺑﺘﻄﻬﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﻞ ﻋﻦ ﺩﺭﻥ ﺍﻟﺘﻌﻠﻘﺎﺕ ﺑﺎﻷﻣﻮﺭ ﺍﻟﻔﺎﻧﻴﺔ ﻭﻗﻄﻊ ﺍﻟﻌﻼﺋﻖ، ﻟﺘﻜﻮﻥ ﻣﺮﺁﺓ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﻃﺎﻫﺮﺓ ﻣﺠﻠﻮﺓ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﺃﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻭﻳﻘﺒﻞ ﻣﺎ ﻳﺮﺩ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺕ، ﻭﻳﺒﻘﻰ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩ ﻋﻠﻰ ﻃﻬﺎﺭﺗﻪ ﻭﻻ ﻳﻨﺼﺒﻎ ﺑﺼﺒﻎ ﺍﻟﻤﺤﻞ، ﻓﻴﻔﻴﺪ ﻏﻴﺒﺘﻬﻢ ﻋﻦ ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ﻭﺃﻏﺮﺍﺿﻬﻢ، ﻓﻴﻔﻨﻮﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﻳﺒﻘﻮﺍ ﺑﺒﻘﺎﺋﻪ.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ﻭﻣﻦ ﻫﺆﻻﺀ ﻣﻦ ﻳﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﺣﻮﺍﻟﻪ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﺣﺎﻝ ﺛﺒﻮﺕ ﻋﻴﻨﻪ ﻗﺒﻞ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ) ﺃﻱ، ﻭﺟﻮﺩ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻌﻴﻦ. (ﻭﻳﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﻻ ﻳﻌﻄﻴﻪ ﺇﻻ ﻣﺎ ﺃﻋﻄﺘﻪ ﻋﻴﻨﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﻪ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﺣﺎﻝ ﺛﺒﻮﺗﻪ، ﻓﻴﻌﻠﻢ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺃﻳﻦ ﺣﺼﻞ. ﻭﻣﺎ ﺛﻢ ﺻﻨﻒ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻰ ﻭﺃﻛﺸﻒ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺼﻨﻒ، ﻓﻬﻢ ﺍﻟﻮﺍﻗﻔﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺳﺮ ﺍﻟﻘﺪﺭ).
ﻗﻴﻞ: ﺇﻥ ﺣﻀﺮﺓ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﻫﻲ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻷﻭﻝ، ﻭﻫﻮ ﻧﻮﻉ ﻣﻨﺸﻌﺐ ﺇﻟﻰ ﺃﺭﻭﺍﺡ ﻓﺎﺋﺘﺔ ﻟﻠﺤﺼﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﺃﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﻜﻤﻞ ﻣﻦ ﻧﻮﻉ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ، ﻭﻫﻲ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﺭﻭﺣﺎﻧﻴﺔ ﻣﺘﻤﺎﻳﺰﺓ ﻛﻞ ﺭﻭﺡ ﻣﻨﻬﺎ، ﻣﻨﺘﻘﺶ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻳﺠﺮﻯ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺍﻷﺯﻝ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﺑﺪ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻤﺴﻤﺎﺓ ﺏ "ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ".
ﻫﺬﺍ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻧﺘﻘﺎﺵ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺍﻷﻭﻝ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﺤﺘﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﺍﻟﻤﻤﻜﻨﺔ ﺣﻘﺎ، ﻟﻜﻦ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻷﻭﻝ ﺃﻳﻀﺎ ﻋﻴﻦ ﻣﺘﺼﻔﺔ ﺑﺎﻟﺜﺒﻮﺕ ﻗﺒﻞ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ، ﻓﺎﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻗﺒﻞ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ، ﻷﻥ ﺍﻟﻜﻞ ﻓﻲ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻣﻮﺻﻮﻓﺔ ﺑﺎﻟﻌﺪﻡ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻲ ﻭﺍﻟﺜﺒﻮﺕ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ ﻣﺸﺘﺮﻙ.
ﻭﺍﻟﺤﻖ ﻣﺎ ﺑﻴﻨﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ: ﺇﻥ ﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺃﺳﻤﺎﺀ ﻫﻲ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﺍﻟﻐﻴﺐ، ﻭﻟﻬﺎ ﻟﻮﺍﺯﻡ ﺗﺴﻤﻰ ﺑﺎﻷﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ. ﻭﻛﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﻏﻴﺐ ﺍﻟﺤﻖ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻭﺣﻀﺮﺗﻪ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ، ﻭﻟﻴﺴﺖ ﺇﻻ ﺷﺆﻭﻧﻪ ﻭﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﺔ ﻓﻲ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻟﺒﺎﻃﻦ. ﻓﻠﻤﺎ ﺃﺭﺍﺩ ﺍﻟﺤﻖ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺇﻳﺠﺎﺩﻫﻢ ﻟﻴﺘﺼﻔﻮﺍ ﺑﺎﻟﻮﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ، ﻛﻤﺎ ﺍﺗﺼﻔﻮﺍ ﺑﺎﻟﺜﺒﻮﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﻃﻦ، ﺃﻭﺟﺪ ﻫﻢ ﺑﺄﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ.
ﻭﺃﻭﻝ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺇﻳﺠﺎﺩﻫﻢ ﺇﺟﻤﺎﻻ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻷﻭﻝ ﻟﻴﺪﺧﻠﻮﺍ ﺗﺤﺖ ﺣﻜﻢ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﻭﻳﺘﺠﻠﻰ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﻧﻮﺍﺭﻩ، ﻓﻬﻮ ﻣﻈﻬﺮ ﻟﻠﺤﻀﺮﺓ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻣﻈﻬﺮ ﻟﻠﻘﺪﺭﺓ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ. ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ، ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻬﺎ، ﻓﻴﺪﺭﻛﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻟﻮﺍﺯﻣﻬﺎ ﻭﺃﺣﻜﺎﻣﻬﺎ.
ﻭﻗﺪ ﺑﻴﻨﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ "ﺍﻷﺣﺪﻳﺔ" ﻋﻴﻦ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻣﻄﻠﻘﺎ، ﻭﻓﻲ "ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﻳﺔ" ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺣﻀﺮﺓ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﻭ ﺍﻟﺼﻔﺎﺕ ﻧﺴﺒﺔ ﻣﻐﺎﻳﺮﺓ ﻟﻠﺬﺍﺕ، ﻓﻤﺎ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻠﻢ، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻪ ﻧﺴﺒﺔ، ﺇﻻ ﻣﺎ ﺃﻋﻄﺘﻪ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺗﺎﺑﻌﺎ ﻟﻠﻤﻌﻠﻮﻡ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻻﻋﺘﺒﺎﺭ.
ﻓﺈﺫﺍ ﻋﺮﻓﺖ ﺫﻟﻚ، ﻓﻨﻘﻮﻝ: ﻣﻦ ﻫﺆﻻﺀ، ﺃﻱ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻨﻒ ﺍﻟﺬﻱ ﻣﻨﻌﻬﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﻋﻠﻤﻬﻢ، ﻣﻦ ﻳﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﺣﻮﺍﻟﻪ ﻫﻮ ﺗﺎﺑﻊ ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﺣﺎﻝ ﺛﺒﻮﺗﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻴﺐ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﻗﺒﻞ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ ﺍﻟﻌﻴﻨﻲ، ﻭﻳﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻻ ﻳﻌﻄﻰ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻌﻴﻨﻲ ﺇﻻ ﻣﺎ ﺃﻋﻄﻰ ﺍﻟﺤﻖ ﻋﻴﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﻪ.
ﺃﻱ ﺑﺎﻟﻌﺒﺪ، ﻓﻴﻌﻠﻢ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﺃﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺑﻪ ﺣﺎﺻﻞ ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻴﺐ، ﻭﺇﺫﺍ ﻋﻠﻢ ﺃﻥ ﻣﺎ ﻳﺤﺼﻞ ﻟﻪ ﻫﻮ "ﻣﻨﻪ" ﻭ "ﻋﻠﻴﻪ" ﺣﺘﻰ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﺤﻖ ﺃﻳﻀﺎ ﺗﺎﺑﻊ ﻟﻌﻴﻨﻪ، ﻻ ﻳﻄﻠﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻖ ﺷﻴﺌﺎ.
ﻭﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﻗﺎﻝ ﺑﻌﺾ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺸﻄﺢ: "ﺍﻟﻔﻘﻴﺮ ﻻ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻠﻤﻪ ﻣﻔﺼﻼ. (ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻴﻪ) ﺃﻱ، ﻓﻲ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻣﻦ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ.
ﻭﺫﻟﻚ ﻳﻜﻮﻥ (ﺇﻣﺎ ﺑﺈﻋﻼﻡ ﺍﻟﻠﻪ ﺇﻳﺎﻩ ﺑﻤﺎ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﻋﻴﻨﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﻪ ) ﺃﻱ، ﺑﺄﻥ ﻳﻠﻘﻴﻪ ﻓﻲ ﺭﻭﺣﻪ ﻭﻗﻠﺒﻪ ﻭﻳﻌﻠﻤﻪ ﺑﺄﻥ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻳﻘﺘﻀﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﻤﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺃﻥ ﻳﻄﻠﻌﻪ ﻋﻠﻰ ﻋﻴﻨﻪ ﻛﺸﻔﺎ.
(ﻭﺇﻣﺎ ﺑﺄﻥ ﻳﻜﺸﻒ ﻟﻪ ﻋﻦ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻭﺍﻧﺘﻘﺎﻻﺕ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺘﻨﺎﻫﻰ) ﻓﻴﺸﺎﻫﺪﻫﺎ ﻭﻳﻄﻠﻊ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻋﻠﻰ ﻟﻮﺍﺯﻣﻬﺎ ﻭﺃﺣﻮﺍﻟﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻠﺤﻘﻬﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻘﺎﻡ ﻭﻣﺮﺗﺒﺔ.
ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻥ ﻋﻴﻨﻪ ﻣﻈﻬﺮﺍ ﻟﻺﺳﻢ ﺍﻟﺠﺎﻣﻊ ﺍﻹﻟﻬﻲ، ﻛﻌﻴﻦ ﻧﺒﻴﻨﺎ ﻭﻋﻴﻦ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺻﻠﻮﺍﺕ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﻛﺎﻥ ﻣﻄﻠﻌﺎ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﻣﻦ ﻋﻴﻦ ﺍﻃﻼﻋﻪ ﻋﻠﻰ ﻋﻴﻨﻪ ﻹﺣﺎﻃﺔ ﻋﻴﻨﻪ ﺑﻬﺎ، ﻛﺈﺣﺎﻃﺔ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻣﻈﻬﺮﻩ ﺑﺎﻷﺳﻤﺎﺀ ﻛﻠﻬﺎ.
ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻗﺮﻳﺒﺎ ﻣﻨﻪ ﻓﻲ ﺍﻹﺣﺎﻃﺔ، ﻛﺎﻥ ﻣﻄﻠﻌﺎ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺒﻪ. ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻪ ﺇﺣﺎﻃﺔ ﺃﺻﻼ، ﻻ ﻳﻄﻠﻊ ﺇﻻ ﻋﻠﻰ ﻋﻴﻨﻪ ﻓﻘﻂ.
(ﻭﻫﻮ ﺃﻋﻠﻰ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﻋﻴﻨﻪ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻪ، ﻷﻥ ﺍﻷﺧﺬ ﻣﻦ ﻣﻌﺪﻥ ﻭﺍﺣﺪ) ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻌﻴﻦ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺔ.
ﺃﻱ، ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﻓﻴﻌﻠﻤﻪ، ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﻋﻠﻢ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﺎﻣﻞ ﺑﻪ ﻓﻴﻌﻠﻤﻪ، ﺇﻻ ﺃﻥ ﺍﻟﻔﺮﻕ ﺣﺎﺻﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﻦ: ﺑﺄﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﻟﺬﺍﺗﻪ ﻻ ﺑﻮﺍﺳﻄﺔ ﺃﻣﺮ ﺁﺧﺮ ﻏﻴﺮ ﺫﺍﺗﻪ، ﻭﻋﻠﻢ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﺑﻌﻴﻨﻪ ﻭ ﺃﺣﻮﺍﻟﻬﺎ ﺣﻴﻨﺌﺬ ﺑﻮﺍﺳﻄﺔ ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺣﻘﻪ. ﻭﻫﺬﺍ ﻣﻌﻨﻰ ﻗﻮﻟﻪ: (ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻋﻨﺎﻳﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﻘﺖ ﻟﻪ، ﻫﻲ ﻣﻦ ﺟﻤﻠﺔ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ، ﻳﻌﺮﻓﻬﺎ ﺻﺎﺣﺐ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﺇﺫﺍ ﺃﻃﻠﻌﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ، ﺃﻱ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﻋﻴﻨﻪ) ﻭﻫﺬﺍ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻣﻘﺎﻣﺎﺕ ﺍﻟﻤﻜﺎﺷﻔﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻔﺮ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ.
ﺑﻴﻦ ﺃﻭﻻ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﺴﺎﺋﻠﻴﻦ ﻣﺒﺘﺪﺀﺍ ﻣﻦ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻟﻤﺤﺠﻮﺑﻴﻦ ﻣﺘﺪﺭﺟﺎ ﺇﻟﻰ ﻏﺎﻳﺔ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻟﻤﻜﺎﺷﻔﻴﻦ.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 9:54 am

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية  الجزء الثاني

ﻭﺍﻋﻠﻢ، ﺃﻥ ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ ﻳﻨﻘﺴﻢ ﻋﻠﻰ ﻗﺴﻤﻴﻦ:
ﻗﺴﻢ ﻣﺎ ﻳﻘﺘﻀﻴﻬﺎ ﺍﻟﻌﻴﻦ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﺑﺎﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻫﺎ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﺗﺒﻌﺎ ﻟﻬﺎ،
ﻭﻗﺴﻢ ﻳﻘﺘﻀﻴﻬﺎ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻻ ﺍﻟﻌﻴﻦ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻜﻞ ﺭﺍﺟﻌﺎ ﺇﻟﻴﻬﺎ.
ﻭﺃﻣﺎ ﺍﻷﻭﻝ، ﻓﻬﻮ ﺑﺤﺴﺐ ﻓﻴﻀﻪ ﺍﻟﻤﻘﺪﺱ ﺍﻟﻤﺘﺮﺗﺐ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﻭﺃﺣﻮﺍﻟﻬﺎ ﻭﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺗﻬﺎ.
ﻭﺃﻣﺎ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ، ﻓﻬﻮ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﻔﻴﺾ ﺍﻷﻗﺪﺱ ﺍﻟﺠﺎﻋﻞ ﻟﻬﺎ ﻭﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺗﻬﺎ.
ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﻣﺘﺒﻮﻋﺔ، ﺇﺫ ﺍﻟﻔﻴﺾ ﺍﻷﻗﺪﺱ ﺃﻳﻀﺎ ﻳﺘﺮﺗﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ.
ﻭﺃﺭﺍﺩ ﺍﻟﺸﻴﺦ رضي الله عنه ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺍﻷﻭﻝ، ﻟﺬﻟﻚ ﻧﺴﺐ ﺇﻟﻰ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﻌﺒﺪ.
(ﻓﺈﻧﻪ) ﺍﻟﻀﻤﻴﺮ ﻟﻠﺸﺄﻥ. (ﻟﻴﺲ ﻓﻲ ﻭﺳﻊ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻕ، ﺇﺫﺍ ﺃﻃﻠﻌﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﺃﻥ ﻳﻄﻠﻊ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻋﻠﻰ ﺇﻃﻼﻉ ﺍﻟﺤﻖ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻓﻲ ﺣﺎﻝ ﻋﺪﻣﻬﺎ، ﻷﻧﻬﺎ ﻧﺴﺐ ﺫﺍﺗﻴﺔ ﻻ ﺻﻮﺭﺓ ﻟﻬﺎ).
ﻫﺬﺍ ﺗﻌﻠﻴﻞ ﻟﻘﻮﻟﻪ: (ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻋﻨﺎﻳﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ) ﺃﻱ، ﻟﻴﺲ ﻓﻲ ﻭﺳﻊ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻕ ﺃﻧﻪ ﺇﺫﺍ ﺃﻃﻠﻌﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﻳﻄﻠﻊ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﺎﻝ ﺍﻃﻼﻋﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﻮﺍﻟﻬﺎ ﻛﺸﻔﺎ ﻭﺷﻬﻮﺩﺍ ﻛﻤﺎ ﻳﻄﻠﻊ ﺍﻟﺤﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺷﻬﻮﺩﺍ، ﻷﻧﻬﺎ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﻘﻊ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ.
ﻛﺎﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﺬﻫﻨﻴﺔ ﻣﺜﻼ ﻓﻲ ﺃﺫﻫﺎﻧﻨﺎ ﺃﻭ ﺍﻟﻌﻴﻨﻲ ﻛﺎﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ ﻟﻠﺸﺊ، ﻧﺴﺐ ﺫﺍﺗﻴﺔ ﻻ ﺻﻮﺭﺓ ﻟﻬﺎ، ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻄﻠﻊ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻕ ﻛﻤﺎ ﻳﻄﻠﻊ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺤﻖ.
ﻭﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳﺘﻮﻫﻢ ﺃﻧﻪ ﻳﻨﻔﻰ ﺍﻻﻃﻼﻉ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻓﻲ ﺣﺎﻝ ﻋﺪﻣﻬﺎ، ﻷﻧﻪ ﺫﻛﺮ ﻓﻲ ﻓﺘﻮﺣﺎﺗﻪ: (ﺇﻥ ﺍﻟﺴﺎﻟﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻔﺮ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﻳﺸﺎﻫﺪ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺎ ﻳﺘﻮﻟﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻨﺎﺻﺮ ﺇﻟﻰ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻗﺒﻞ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ).
ﻭﻗﺎﻝ: (ﻭﺑﻬﺬﺍ ﻻ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺍﻟﻘﻄﺒﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺮﺍﺗﺒﻬﻢ ﺃﻳﻀﺎ). ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻻﻃﻼﻉ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺇﻻ ﺑﺎﻻﻃﻼﻉ ﻋﻠﻰ ﺃﻋﻴﺎﻧﻬﻢ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ، ﻓﻬﺬﺍ ﺃﻳﻀﺎ ﻓﺮﻕ ﺁﺧﺮ ﺑﻴﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﺤﻖ ﺑﺎﻷﻋﻴﺎﻥ ﻭﺑﻴﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻌﺒﺪ.
ﻭﺿﻤﻴﺮ (ﻷﻧﻬﺎ) ﻋﺎﺋﺪ ﺇﻟﻰ (ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ). ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺭﺍﺟﻌﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﺴﺐ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﺼﻔﺎﺕ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ، ﺣﻜﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻧﺴﺐ ﺫﺍﺗﻴﺔ.
ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺺ ﺍﻷﻭﻝ: (ﺑﻞ ﻫﻮ ﻋﻴﻨﻬﺎ ﻻ ﻏﻴﺮﻫﺎ). ﺃﻋﻨﻲ، ﺃﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ. ﻓﺴﻠﺐ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻋﻨﻬﺎ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺟﻪ، ﻭﺇﻻ ﻓﺎﻷﻋﻴﺎﻥ ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﺘﻌﻴﻨﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ، ﻭ ﺃﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﻤﻤﻜﻨﺎﺕ ﺃﻳﻀﺎ ﻟﻬﺎ ﺻﻮﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ، ﻓﻼ ﻳﺼﺪﻕ ﺳﻠﺐ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻋﻨﻬﺎ ﺧﺎﺭﺟﺎ ﻭﻋﻠﻤﺎ.
ﻭﻗﻴﻞ ﺿﻤﻴﺮ (ﻷﻧﻬﺎ) ﻋﺎﺋﺪ ﺇﻟﻰ (ﺍﻻﻃﻼﻉ)، ﻭﺗﺄﻧﻴﺜﻪ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﻭﻫﻮ (ﺍﻟﻨﺴﺐ). ﻭﻓﻴﻪ ﻧﻈﺮ. ﺇﺫ ﻻ ﻳﺼﺪﻕ ﻋﻠﻰ ﺍﻻﻃﻼﻉ ﺃﻧﻪ ﻧﺴﺐ ﺫﺍﺗﻴﺔ، ﻷﻧﻪ ﻧﺴﺒﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺴﺐ ﻻ ﻛﻠﻬﺎ.
(ﻓﺒﻬﺬﺍ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﻧﻘﻮﻝ، ﺇﻥ ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﺳﺒﻘﺖ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﻤﺴﺎﻭﺍﺓ ﻓﻲ ﺇﻓﺎﺩﺓ ﺍﻟﻌﻠﻢ) ﻇﺎﻫﺮ ﻣﻤﺎ ﻣﺮ. )
ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻳﻘﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ: (ﺣﺘﻰ ﻧﻌﻠﻢ). ﻭﻫﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻣﺤﻘﻘﺔ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ، ﻣﺎ ﻫﻲ ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻮﻫﻤﻪ ﻣﻦ ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺸﺮﺏ) ﺃﻱ، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺗﺎﺑﻊ ﻟﻠﻤﻌﻠﻮﻡ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ.
ﻳﻘﻮﻝ ﺍﻟﺤﻖ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻓﻲ ﻛﻼﻣﻪ: "ﺣﺘﻰ ﻧﻌﻠﻢ ﺍﻟﻤﺠﺎﻫﺪﻳﻦ ﻣﻨﻜﻢ ﻭﺍﻟﺼﺎﺑﺮﻳﻦ ﻭﻧﺒﻠﻮ ﺃﺧﺒﺎﺭﻛﻢ". ﺃﻱ، ﻳﺘﻌﻠﻖ ﻋﻠﻤﻪ ﺑﺎﻷﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻠﻤﺠﺎﻫﺪﻳﻦ ﻭﺍﻟﺼﺎﺑﺮﻳﻦ، ﻓﻴﺤﺼﻞ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﺄﻥ ﺍﻷﺷﺨﺎﺹ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻨﻬﻢ ﻣﺠﺎﻫﺪ، ﺃﻭ ﻣﻦ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻨﻬﻢ ﺻﺎﺑﺮ، ﺃﻭ ﻣﻦ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﻛﺬﻟﻚ.
ﻻ ﻳﻘﺎﻝ: ﻳﻠﺰﻡ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﺤﺪﻭﺙ ﻟﺤﺼﻮﻝ ﻋﻠﻤﻪ ﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺣﻴﻨﺌﺬ. ﻷﻧﺎ ﻧﻘﻮﻝ: ﺗﻌﻠﻖ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﺎﻟﻤﻌﻠﻮﻡ ﺃﺯﻟﻲ ﻭﺃﺑﺪﻯ، ﻓﻼ ﻳﻠﺰﻡ ﺫﻟﻚ.
ﻏﺎﻳﺔ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﺃﻧﻪ ﻳﻠﺰﻡ ﺗﻘﺪﻡ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺗﻌﻠﻖ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﻪ، ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺃﻳﻀﺎ، ﺗﻘﺪﻣﺎ ﺫﺍﺗﻴﺎ ﻻ ﺯﻣﺎﻧﻴﺎ ﻟﻴﻠﺰﻡ ﺍﻟﺤﺪﻭﺙ ﺍﻟﺰﻣﺎﻧﻲ. ﻭﻫﻮ ﺣﻖ. ﻷﻥ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻪ ﻣﻐﺎﺋﺮ ﻟﻠﺬﺍﺕ ﻧﺴﺒﺔ ﺫﺍﺗﻴﺔ، ﻓﻴﻘﺘﻀﻰ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻭﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻡ، ﻭﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻻ ﺑﺪ ﻭﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻘﺪﻣﺎ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻣﺮ. (ﻭﻫﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻣﺤﻘﻘﺔ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ) ﻓﻲ ﻧﻔﺲ ﺍﻷﻣﺮ، ﻟﻴﺲ ﻛﻤﺎ ﻳﻈﻨﻪ ﺍﻟﻤﺤﺠﻮﺏ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺸﺮﺏ.
ﻭﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ: (ﺣﺘﻰ ﻧﻌﻠﻢ...) ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﺘﻔﺼﻴﻠﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻈﺎﻫﺮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ، ﻭﻻ ﺷﻚ ﻓﻲ ﺗﺠﺪﺩ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻓﻴﻬﺎ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺣﻴﻨﺌﺬ ﻭﻗﺎﻳﺔ ﻟﺮﺑﻬﺎ ﻋﻦ ﺳﻤﺔ ﺍﻟﺤﺪﻭﺙ ﻭﻧﻘﺺ ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ، ﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺣﻴﻨﺌﺬ. (ﻭﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﻤﻨﺰﻩ ﺃﻥ ﻳﺠﻌﻞ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺤﺪﻭﺙ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻟﻠﺘﻌﻠﻖ، ﻭﻫﻮ ﺃﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻠﻤﺘﻜﻠﻢ ﺑﻌﻘﻠﻪ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ.
ﻟﻮ ﻻ ﺃﻧﻪ ﺃﺛﺒﺖ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺯﺍﺋﺪﺍ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺬﺍﺕ، ﻓﺠﻌﻞ ﺍﻟﺘﻌﻠﻖ ﻟﻪ ﻻ ﻟﻠﺬﺍﺕ.
ﻭﺑﻬﺬﺍ ﺍﻧﻔﺼﻞ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﺤﻘﻖ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻭﺍﻟﻮﺟﻮﺩ( ﺃﻱ، ﻏﺎﻳﺔ ﻣﻦ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﺑﻌﻘﻠﻪ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﻭﻳﻨﺰﻩ ﺍﻟﺤﻖ ﻋﻦ ﺳﻤﺔ ﺍﻟﺤﺪﻭﺙ ﻭﻧﻘﺎﺋﺼﻪ، ﺃﻥ ﻳﺠﻌﻞ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺤﺪﻭﺙ ﻟﻠﺘﻌﻠﻖ، ﺑﺄﻥ ﻳﻘﻮﻝ، ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺃﺯﻟﻲ ﻭﺗﻌﻠﻘﻪ ﺑﺎﻷﺷﻴﺎﺀ ﺣﺎﺩﺙ ﺣﺪﻭﺛﺎ ﺯﻣﺎﻧﻴﺎ، ﻟﺌﻼ ﻳﻠﺰﻡ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﺤﺎﺩﺙ ﺻﻔﺔ ﻟﻠﻮﺍﺟﺐ. ﻭﻫﻮ ﺃﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ ﻟﻠﻤﺘﻜﻠﻢ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺑﻨﻈﺮﻩ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ.
ﻭﺟﻮﺍﺏ (ﻟﻮ ﻻ) ﻣﺤﺬﻭﻑ، ﺗﻘﺪﻳﺮﻩ: ﻟﻮ ﻻ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺘﻜﻠﻢ ﺃﺛﺒﺖ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺯﺍﺋﺪﺍ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺬﺍﺕ، ﻓﺠﻌﻞ ﺍﻟﺘﻌﻠﻖ ﻟﻪ ﻻ ﻟﻠﺬﺍﺕ، ﻟﻜﺎﻥ ﻣﻤﻦ ﻓﺎﺯ ﺑﺎﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻭﺍﺗﺼﻞ ﺑﺄﻫﻠﻪ.
(ﻭﺑﻬﺬﺍ ﺍﻧﻔﺼﻞ) ﺃﻱ، ﻳﺠﻌﻠﻪ ﺯﺍﺋﺪﺍ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻣﻄﻠﻘﺎ، ﻋﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺘﺤﻘﻴﻖ، ﺇﺫ ﺍﻟﻤﺤﻘﻖ ﻗﺎﺋﻞ ﺑﺄﻧﻪ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻓﻲ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻣﻄﻠﻘﺎ، ﻭﻓﻲ ﺃﺧﺮﻯ ﻋﻴﻨﻪ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ، ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ ﺁﺧﺮ، ﻭﻫﻲ ﻋﻨﺪ ﻛﻮﻧﻪ ﻧﺴﺒﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺴﺐ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ.
ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﺑﺎﻟﻤﺤﻘﻖ ﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﻧﻜﺸﻒ ﻟﻪ ﺃﺣﺪﻳﺔ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺳﺮﻳﺎﻧﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩﻳﺔ ﺍﻟﻤﻮﺟﺒﺔ ﻟﻠﺘﻌﺪﺩ ﻭﺍﻟﺘﻜﺜﺮ ﺍﻟﻤﻮﻫﻤﺔ ﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻷﻏﻴﺎﺭ ﻭﺷﺎﻫﺪ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻭﺍﻟﺬﻭﻕ، ﻗﺎﻝ رضي الله عنه : (ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻭﺍﻟﻮﺟﻮﺩ).
ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﺑﺎﻟﻮﺟﻮﺩ ﻫﻨﺎ (ﺍﻟﻮﺟﺪﺍﻥ). ﻭﻣﻦ ﺃﻣﻌﻦ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﻣﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺎﺕ ﻭﺗﺤﻘﻖ ﺑﺄﺳﺮﺍﺭﻩ، ﻻ ﻳﺰﺍﺣﻤﻪ ﺍﻟﺸﻜﻮﻙ ﻭﺍﻟﺸﺒﻬﺎﺕ ﺍﻟﻮﻫﻤﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﻓﻲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺒﺎﺣﺚ. (ﺛﻢ ﻧﺮﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﻋﻄﻴﺎﺕ، ﻓﻨﻘﻮﻝ، ﺇﻥ ﺍﻷﻋﻄﻴﺎﺕ ﺇﻣﺎ ﺫﺍﺗﻴﺔ، ﺃﻭ ﺃﺳﻤﺎﺋﻴﺔ ﻓﺄﻣﺎ ﺍﻟﻤﻨﺢ ﻭﺍﻟﻬﺒﺎﺕ ﻭﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ ﻓﻼ ﺗﻜﻮﻥ ﺃﺑﺪﺍ ﺇﻻ ﻋﻦ ﺗﺠﻠﻰ ﺇﻟﻬﻲ، ﻭﺍﻟﺘﺠﻠﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺃﺑﺪﺍ ﺇﻻ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ، ﻏﻴﺮ ﺫﻟﻚ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ. ﻓﺈﺫﺍ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ، ﻣﺎ ﺭﺃﻯ ﺳﻮﻯ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﻓﻲ ﻣﺮﺃﺓ ﺍﻟﺤﻖ).
(ﺍﻷﻋﻄﻴﺎﺕ) ﺟﻤﻊ (ﺃﻋﻄﻴﺔ) ﻭﻫﻲ ﺟﻤﻊ (ﻋﻄﺎﺀ)، ﻓﻬﻲ ﺟﻤﻊ ﺍﻟﺠﻤﻊ. ﻭ (ﺍﻟﻤﻨﺢ) ﺟﻤﻊ (ﻣﻨﺤﺔ) ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ. ﻭﻟﻤﺎ ﺫﻛﺮ ﻓﻲ ﺃﻭﻝ ﺍﻟﻔﺺ: (ﺇﻥ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﺫﺍﺗﻴﺔ ﻭﻣﻨﻬﺎ ﺃﺳﻤﺎﺋﻴﺔ) ﻭﺷﺒﻪ ﺍﻧﻘﺴﺎﻣﻪ ﺑﺎﻟﻘﺴﻤﻴﻦ ﺑﺎﻧﻘﺴﺎﻡ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺑﻘﺴﻤﻴﻦ ﻭﻓﺮﻉ ﻋﻦ ﺗﻘﺮﻳﺮﻩ، ﺷﺮﻉ ﺑﺬﻛﺮ ﺍﻟﻔﺮﻕ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ،
ﻓﻘﺎﻝ: (ﺇﻣﺎ... ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ ﻓﻼ ﺗﻜﻮﻥ... ﺇﻻ ﻋﻦ ﺗﺠﻠﻰ ﺇﻟﻬﻲ) ﺃﻱ، ﻋﻦ ﺣﻀﺮﺓ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﺳﻢ ﺇﻻ ﻓﻴﻬﺎ. ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻣﺎ ﺩﺍﻡ ﺑﺎﻗﻴﺎ ﻻ ﻳﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻘﻴﻮﺩ، ﺑﻞ ﻳﺒﻘﻰ ﻣﺎ ﺑﻪ ﺗﻌﻴﻨﻪ، ﻓﻼ ﻳﺤﺼﻞ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺍﻟﺘﺎﻣﺔ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻓﻠﻢ ﻳﻤﻜﻦ ﺭﺅﻳﺘﻪ ﻭﺷﻬﻮﺩﻩ، ﻛﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﻤﻜﻦ ﺭﺅﻳﺘﻪ ﺍﻟﻤﻮﺿﻊ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﻯ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ ﺍﻟﺼﻘﻴﻠﺔ، ﻓﺈﻧﻚ ﺇﺫﺍ ﺭﺃﻳﺖ ﺻﻮﺭﺗﻚ ﻓﻴﻬﺎ، ﺗﻌﺠﺰ ﻋﻦ ﺭﺅﻳﺘﻬﺎ ﻣﻊ ﺃﻧﻚ ﺗﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﺻﻮﺭﺗﻚ ﻣﺎ ﻇﻬﺮﺕ ﺇﻻ ﻓﻴﻬﺎ.
ﺍﻟﺠﺎﻣﻊ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻓﻘﻂ، ﻭﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺁﺧﺮ ﺍﺳﻢ ﻟﻠﺬﺍﺕ ﻣﻊ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺼﻔﺎﺕ ﻭﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺃﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻙ (ﺍﻟﻐﻨﻰ) ﻭ (ﺍﻟﻘﺪﻭﺱ) ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬﻤﺎ.
ﻭﺍﻟﺘﺠﻠﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺇﻻ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻭﺑﺤﺴﺐ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ، ﻷﻥ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻻ ﺻﻮﺭﺓ ﻟﻬﺎ ﻣﺘﻌﻴﻨﺔ ﻟﻴﻈﻬﺮ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺑﻬﺎ، ﻭﻫﻲ ﻣﺮﺁﺓ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ، ﻓﺘﻈﻬﺮ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻘﺪﺭ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻲ ﻣﺮﺍﻳﺎ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﺑﺤﺴﺐ ﺇﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺗﻬﺎ ﻭﻗﺎﺑﻠﻴﺎﺗﻬﺎ ﺑﻈﻬﻮﺭ ﺃﺣﻜﺎﻣﻪ، ﻏﻴﺮ ﺫﻟﻚ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ، ﺇﺫ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻲ ﻭﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ، ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻲ ﻭﺟﻮﺩﺍ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻏﻴﺮ ﻣﻘﻴﺪ ﺑﺎﺳﻢ ﺟﺰﺋﻲ ﻭﺻﻔﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ.
ﻛﺬﻟﻚ ﻻ ﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ ﻣﺨﻠﺼﺎ ﻋﻦ ﺭﻕ ﺍﻟﻘﻴﻮﺩ ﺍﻟﻤﺸﺨﺼﺔ ﻭ ﻋﺒﻮﺩﻳﺔ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﺇﻻ ﻋﻦ ﺍﻟﻘﻴﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﺑﻪ ﺗﻤﻴﺰﺕ ﺫﺍﺗﻪ ﻋﻦ ﺭﺑﻪ، ﻷﻥ ﺍﻟﺸﺊ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺘﺨﻠﺺ ﻋﻦ ﺫﺍﺗﻪ ﺇﻻ ﺑﺎﻟﻔﻨﺎﺀ، ﻭﺣﻴﻨﺌﺬ ﻳﻨﻌﺪﻡ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ ﻭﺍﻟﻜﻼﻡ ﻣﻊ ﺑﻘﺎﺋﻪ. ﻓﻬﺬﺍ ﺍﻟﻘﻴﺪ ﻻ ﻳﻘﺪﺡ ﻓﻲ ﺇﻃﻼﻗﻪ، ﺇﺫ ﺑﻪ ﻫﻮ ﻫﻮ.
ﻓﺈﺫﺍ ﺧﻠﺺ ﻋﻨﻬﺎ ﻭﺣﺼﻠﺖ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻴﺜﻴﺔ ﺑﻴﻨﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﺭﺑﻪ، ﺣﺼﻞ ﺍﻟﺘﺠﻠﻲ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ، ﻭﻻ ﻳﺮﻯ ﺣﻴﻨﺌﺬ ﺳﻮﻯ ﺻﻮﺭﺓ ﻋﻴﻨﻪ ﻓﻲ ﻣﺮﺁﺓ ﺍﻟﺤﻖ.
ﻭﻣﺎ ﺍﺷﺘﻬﺮ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﺠﻠﻲ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﻳﻮﺟﺐ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﻭﺍﺭﺗﻔﺎﻉ ﺍﻹﺛﻨﻴﻨﻴﺔ، ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺘﺠﻠﻲ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﺑﺼﻔﺔ (ﺍﻟﻘﻬﺮ) ﻭ (ﺍﻟﻮﺣﺪﺓ) ﺍﻟﻤﻘﺘﻀﻴﺔ ﻻﺭﺗﻔﺎﻉ ﺍﻟﻐﻴﺮﻳﺔ ﻭ ﺍﻧﻘﻬﺎﺭﻫﺎ،
ﻭﻟﺬﻟﻚ ﺟﺎﺀ: (ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ ﺍﻟﻘﻬﺎﺭ) ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: (ﻟﻤﻦ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻟﻠﻪ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ ﺍﻟﻘﻬﺎﺭ).
ﺃﻭ ﻧﻘﻮﻝ، ﺇﻥ ﻛﻼﻣﻪ ضي الله عنه  ﻣﺤﻤﻮﻝ ﻋﻠﻰ ﺣﺎﻝ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ، ﻭ ﺣﻴﻨﺌﺬ ﻻ ﻳﻮﺟﺐ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﻣﺮﺓ ﺃﺧﺮﻯ. ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﺏ (ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ) ﻫﻨﺎ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺍﻟﻜﻠﻰ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻌﻴﻦ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ ﺑﻌﺪ ﺗﺨﻠﺼﻬﺎ ﻋﻦ ﻣﻘﺘﻀﻴﺎﺕ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻭﻃﻬﺎﺭﺗﻬﺎ ﻋﻦ ﻛﺪﻭﺭﺍﺗﻬﺎ، ﻻ ﺍﻟﺠﺰﺋﻲ، ﻭﺇﻻ ﻳﺸﺘﺒﻪ ﺍﻷﻣﺮ.
ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻗﺪ ﻳﺘﺠﻠﻰ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻤﻘﺎﻣﺎﺕ ﻭﺗﻈﻬﺮ ﺑﺎﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﺘﺨﻠﺺ ﻋﻦ ﺭﻕ ﺍﻟﻘﻴﻮﺩ، ﻭﻳﻜﻮﻥ ﺷﻴﻄﺎﻧﻴﺎ ﻻ ﺭﺣﻤﺎﻧﻴﺎ، ﻭﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻳﻤﻴﺰ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ. ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻳﺪﻋﻰ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻭﻳﻈﻬﺮ ﺑﺎﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ، ﻛﺎﻟﻔﺮﺍﻋﻨﺔ. (ﻭﻣﺎ ﺭﺃﻯ ﺍﻟﺤﻖ، ﻭﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺮﺍﻩ ﻣﻊ ﻋﻠﻤﻪ ﺃﻧﻪ ﻣﺎ ﺭﺃﻯ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﺇﻻ ﻓﻴﻪ، ﻛﺎﻟﻤﺮﺁﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺎﻫﺪ ﺇﺫﺍ ﺭﺃﻳﺖ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﻓﻴﻬﺎ: ﻻ ﺗﺮﺍﻫﺎ ﻣﻊ ﻋﻠﻤﻚ ﺃﻧﻚ ﻣﺎ ﺭﺃﻳﺖ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺃﻭ ﺻﻮﺭﺗﻚ) ﻭﺍﻟﺤﺎﺻﻞ ﺃﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺇﺫﺍ ﻛﻤﻞ، ﻳﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ ﺍﻟﺤﺼﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ، ﻭﻣﺎ ﻫﻲ ﺇﻻ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻻ ﻏﻴﺮ، ﻓﻤﺎ ﺭﺃﻯ ﺍﻟﺤﻖ ﺑﻞ ﺭﺃﻯ ﺻﻮﺭﺓ ﻋﻴﻨﻪ، ﻓﻼ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺇﻻ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻭﺑﺤﺴﺐ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ، ﻷﻥ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻻ ﺻﻮﺭﺓ ﻟﻬﺎ ﻣﺘﻌﻴﻨﺔ ﻟﻴﻈﻬﺮ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺑﻬﺎ، ﻭﻫﻲ ﻣﺮﺁﺓ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ.
ﻓﺘﻈﻬﺮ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻘﺪﺭ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻲ ﻣﺮﺍﻳﺎ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﺑﺤﺴﺐ ﺇﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺗﻬﺎ ﻭﻗﺎﺑﻠﻴﺎﺗﻬﺎ ﺑﻈﻬﻮﺭ ﺃﺣﻜﺎﻣﻪ، ﻏﻴﺮ ﺫﻟﻚ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ، ﺇﺫ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻲ ﻭﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ، ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻲ ﻭﺟﻮﺩﺍ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻏﻴﺮ ﻣﻘﻴﺪ ﺑﺎﺳﻢ ﺟﺰﺋﻲ ﻭﺻﻔﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ، ﻛﺬﻟﻚ ﻻ ﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ ﻣﺨﻠﺼﺎ ﻋﻦ ﺭﻕ ﺍﻟﻘﻴﻮﺩ ﺍﻟﻤﺸﺨﺼﺔ ﻭ ﻋﺒﻮﺩﻳﺔ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﺇﻻ ﻋﻦ ﺍﻟﻘﻴﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﺑﻪ ﺗﻤﻴﺰﺕ ﺫﺍﺗﻪ ﻋﻦ ﺭﺑﻪ، ﻷﻥ ﺍﻟﺸﺊ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺘﺨﻠﺺ ﻋﻦ ﺫﺍﺗﻪ ﺇﻻ ﺑﺎﻟﻔﻨﺎﺀ، ﻭﺣﻴﻨﺌﺬ ﻳﻨﻌﺪﻡ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ ﻭﺍﻟﻜﻼﻡ ﻣﻊ ﺑﻘﺎﺋﻪ.
ﻓﻬﺬﺍ ﺍﻟﻘﻴﺪ ﻻ ﻳﻘﺪﺡ ﻓﻲ ﺇﻃﻼﻗﻪ، ﺇﺫ ﺑﻪ ﻫﻮ ﻫﻮ. ﻓﺈﺫﺍ ﺧﻠﺺ ﻋﻨﻬﺎ ﻭﺣﺼﻠﺖ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻴﺜﻴﺔ ﺑﻴﻨﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﺭﺑﻪ، ﺣﺼﻞ ﺍﻟﺘﺠﻠﻲ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ، ﻭﻻ ﻳﺮﻯ ﺣﻴﻨﺌﺬ ﺳﻮﻯ ﺻﻮﺭﺓ ﻋﻴﻨﻪ ﻓﻲ ﻣﺮﺁﺓ ﺍﻟﺤﻖ. ﻭﻣﺎ ﺍﺷﺘﻬﺮ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﺠﻠﻲ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﻳﻮﺟﺐ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﻭﺍﺭﺗﻔﺎﻉ ﺍﻹﺛﻨﻴﻨﻴﺔ، ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺘﺠﻠﻲ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﺑﺼﻔﺔ (ﺍﻟﻘﻬﺮ) ﻭ (ﺍﻟﻮﺣﺪﺓ) ﺍﻟﻤﻘﺘﻀﻴﺔ ﻻﺭﺗﻔﺎﻉ ﺍﻟﻐﻴﺮﻳﺔ ﻭ ﺍﻧﻘﻬﺎﺭﻫﺎ، ﻭﻟﺬﻟﻚ ﺟﺎﺀ: (ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ ﺍﻟﻘﻬﺎﺭ) ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: "ﻟﻤﻦ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻟﻠﻪ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ ﺍﻟﻘﻬﺎﺭ". ﺃﻭ ﻧﻘﻮﻝ، ﺇﻥ ﻛﻼﻣﻪ رضي الله عنه ﻣﺤﻤﻮﻝ ﻋﻠﻰ ﺣﺎﻝ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ، ﻭ ﺣﻴﻨﺌﺬ ﻻ ﻳﻮﺟﺐ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﻣﺮﺓ ﺃﺧﺮﻯ.
ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﺏ (ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ) ﻫﻨﺎ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺍﻟﻜﻠﻰ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻌﻴﻦ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ ﺑﻌﺪ ﺗﺨﻠﺼﻬﺎ ﻋﻦ ﻣﻘﺘﻀﻴﺎﺕ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻭﻃﻬﺎﺭﺗﻬﺎ ﻋﻦ ﻛﺪﻭﺭﺍﺗﻬﺎ، ﻻ ﺍﻟﺠﺰﺋﻲ، ﻭﺇﻻ ﻳﺸﺘﺒﻪ ﺍﻷﻣﺮ.
ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻗﺪ ﻳﺘﺠﻠﻰ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻤﻘﺎﻣﺎﺕ ﻭﺗﻈﻬﺮ ﺑﺎﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﺘﺨﻠﺺ ﻋﻦ ﺭﻕ ﺍﻟﻘﻴﻮﺩ، ﻭﻳﻜﻮﻥ ﺷﻴﻄﺎﻧﻴﺎ ﻻ ﺭﺣﻤﺎﻧﻴﺎ، ﻭﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻳﻤﻴﺰ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ.
ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻳﺪﻋﻰ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻭﻳﻈﻬﺮ ﺑﺎﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ، ﻛﺎﻟﻔﺮﺍﻋﻨﺔ.
(ﻭﻣﺎ ﺭﺃﻯ ﺍﻟﺤﻖ، ﻭﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺮﺍﻩ ﻣﻊ ﻋﻠﻤﻪ ﺃﻧﻪ ﻣﺎ ﺭﺃﻯ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﺇﻻ ﻓﻴﻪ، ﻛﺎﻟﻤﺮﺁﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺎﻫﺪ ﺇﺫﺍ ﺭﺃﻳﺖ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﻓﻴﻬﺎ: ﻻ ﺗﺮﺍﻫﺎ ﻣﻊ ﻋﻠﻤﻚ ﺃﻧﻚ ﻣﺎ ﺭﺃﻳﺖ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺃﻭ ﺻﻮﺭﺗﻚ) ﻭﺍﻟﺤﺎﺻﻞ ﺃﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺇﺫﺍ ﻛﻤﻞ، ﻳﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ ﺍﻟﺤﺼﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ، ﻭﻣﺎ ﻫﻲ ﺇﻻ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻻ ﻏﻴﺮ، ﻓﻤﺎ ﺭﺃﻯ ﺍﻟﺤﻖ ﺑﻞ ﺭﺃﻯ ﺻﻮﺭﺓ ﻋﻴﻨﻪ، ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺮﺍﻩ ﻟﺘﻘﻴﺪﻩ ﻭﺇﻃﻼﻕ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺗﻌﺎﻟﻴﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﻌﻴﻨﺔ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﺓ ﻟﻪ. (ﻓﺄﺑﺮﺯ ﺍﻟﻠﻪ ﺫﻟﻚ ﻣﺜﺎﻻ ﻧﺼﺒﻪ ﻟﺘﺠﻠﻴﻪ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﻟﻴﻌﻠﻢ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻟﻪ، ﺃﻧﻪ ﻣﺎ ﺭﺁﻩ). ﺫﻟﻚ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ، ﺫﻛﺮﻩ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﻣﺎ ﺑﻌﺪﻩ ﻭﻫﻮ (ﻣﺜﺎﻻ) ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻘﻮﻝ: ﺫﻟﻚ ﻣﺜﺎﻝ ﺃﺑﺮﺯﻩ ﺍﻟﻠﻪ.
ﻟﺬﻟﻚ ﻗﺎﻝ: (ﻧﺼﺒﻪ) ﻭﻟﻢ ﻳﻘﻞ: ﻧﺼﺒﻬﺎ. ﺃﻭ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺃﻧﻬﺎ ﺟﺮﻡ. ﻭ (ﻣﺎ) ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﺬﻱ. ﺃﻱ، ﺍﻟﺬﻱ ﺭﺁﻩ. ﻭﻫﻮ ﻣﻔﻌﻮﻝ ﻳﻌﻠﻢ. ﺃﻭ ﺃﻱ ﺷﺊ ﺭﺁﻩ. ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ ﺍﺳﺘﻔﻬﺎﻣﻴﺔ.
(ﻭﻣﺎ ﺛﻤﺔ ﻣﺜﺎﻝ ﺃﻗﺮﺏ ﻭﻻ ﺃﺷﺒﻪ ﺑﺎﻟﺮﺅﻳﺔ ﻭﺍﻟﺘﺠﻠﻲ) ﺃﻱ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ. (ﻣﻦ ﻫﺬﺍ) ﺃﻱ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ. (ﻭﺃﺟﻬﺪ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻚ ﻋﻨﺪ ﻣﺎ ﺗﺮﻯ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ). (ﻣﺎ) ﻣﺼﺪﺭﻳﺔ. ﺃﻱ، ﻋﻨﺪ ﺭﺅﻳﺘﻚ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻓﻴﻬﺎ. (ﺃﻥ ﺗﺮﻯ ﺟﺮﻡ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ ﻻ ﺗﺮﺍﻩ ﺃﺑﺪﺍ ﺃﻟﺒﺘﺔ، ﺣﺘﻰ ﺃﻥ ﺑﻌﺾ ﻣﻦ ﺃﺩﺭﻙ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﻓﻲ ﺻﻮﺭ ﺍﻟﻤﺮﺍﻳﺎ) ﺟﻤﻊ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ. (ﺫﻫﺐ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﺮﺋﻴﺔ ﺑﻴﻦ ﺑﺼﺮ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ ﻭ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ).
ﺃﻱ، ﻫﻲ ﺣﺎﺻﻠﺔ ﺑﻴﻦ ﺑﺼﺮ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ، ﻭﻫﻲ ﺣﺎﺟﺒﺔ ﻋﻦ ﺭﺅﻳﺔ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ.
(ﻭﻫﺬﺍ ﺃﻋﻈﻢ ﻣﺎ ﻗﺪﺭ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻢ، ﻭﺍﻷﻣﺮ ﻛﻤﺎ ﻗﻠﻨﺎﻩ ﻭ ﺫﻫﺒﻨﺎ ﺇﻟﻴﻪ). ﻣﻦ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﺜﺎﻝ، ﻧﺼﺒﻬﺎ ﺍﻟﺤﻖ ﻟﺘﺠﻠﻴﻪ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﺣﺘﻰ ﻳﻨﻈﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻞ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻭﻻ ﻳﺮﻯ ﺳﻮﻯ ﺻﻮﺭﺗﻪ، ﻓﻴﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺮﻯ ﺇﻻ ﺣﻴﻦ ﺍﻟﺘﺠﻠﻲ ﺍﻷﺳﻤﺎﺋﻲ ﻣﻦ ﻭﺭﺍﺀ ﺍﻟﺤﺠﺐ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﺍﻟﺼﻔﺎﺗﻴﺔ، ﻛﻤﺎ ﺟﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻷﺣﺎﺩﻳﺚ ﺍﻟﺼﺤﻴﺤﺔ: "ﺳﺘﺮﻭﻥ ﺭﺑﻜﻢ ﻛﻤﺎ ﺗﺮﻭﻥ ﺍﻟﻘﻤﺮ ﻟﻴﻠﺔ ﺍﻟﺒﺪﺭ". ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻪ.
ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺸﺎﻋﺮ:
ﻛﺎﻟﺸﻤﺲ ﻳﻤﻨﻌﻚ ﺍﺟﺘﻼﺋﻚ ﻭﺟﻬﻬﺎ   ... ﻭﺇﺫﺍ ﺍﻛﺘﺴﺐ ﺑﺮﻗﻴﻖ ﻏﻴﻢ ﺃﻣﻜﻨﺎ
(ﻭﻗﺪ ﺑﻴﻨﺎ ﻫﺬﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺘﻮﺣﺎﺕ ﺍﻟﻤﻜﻴﺔ) ﺫﻛﺮه رضي الله عنه ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﻭﺍﻟﺴﺘﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺘﻮﺣﺎﺕ ﺍﻟﻤﻜﻴﺔ، ﻓﻲ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﻘﺎﺀ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺮﺯﺥ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺍﻵﺧﺮﺓ ﻟﺘﻌﺮﻑ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺒﺮﺯﺥ ﻭﻗﺎﻝ: (ﺇﻧﻪ ﺣﺎﺟﺰ ﻣﻌﻘﻮﻝ ﺑﻴﻦ ﻣﺘﺠﺎﻭﺭﻳﻦ)، ﻟﻴﺲ ﻫﻮ ﻋﻴﻦ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﻭﻓﻴﻪ ﻗﻮﺓ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻛﺎﻟﺨﻂ ﺍﻟﻔﺎﺻﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻈﻞ ﻭﺍﻟﺸﻤﺲ. ﻭﻟﻴﺲ ﺇﻻ ﺍﻟﺨﻴﺎﻝ ﻛﻤﺎ ﻳﺪﺭﻙ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ ﻭﻳﻌﻠﻢ ﻗﻄﻌﺎ ﺃﻧﻪ ﺃﺩﺭﻙ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﺑﻮﺟﻪ، ﻭﺃﻧﻪ ﻣﺎ ﺃﺩﺭﻙ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﺑﻮﺟﻪ، ﻟﻤﺎ ﻳﺮﺍﻫﺎ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺼﻐﺮ ﻟﺼﻐﺮ ﺟﺮﻡ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﻭﺍﻟﻜﺒﺮ ﻟﻌﻈﻤﻪ. ﻭﻻ ﻳﻘﺪﺭ ﺃﻥ ﻳﻨﻜﺮ ﺃﻧﻪ ﺭﺃﻯ ﺻﻮﺭﺗﻪ، ﻭﻳﻌﻠﻢ ﺃﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ ﺻﻮﺭﺓ، ﻭﻻ ﻫﻲ ﺑﻴﻨﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ، ﻓﻠﻴﺲ ﺑﺼﺎﺩﻕ ﻭﻻ ﻛﺎﺫﺏ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ: ﺇﻧﻪ ﺭﺃﻯ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﻣﺎ ﺭﺃﻯ ﺻﻮﺭﺗﻪ.
ﻓﻤﺎ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ؟ ﻭﻣﺎ ﺷﺄﻧﻬﺎ؟ ﻭﺃﻳﻦ ﻣﺤﻠﻬﺎ؟
ﻓﻬﻲ ﻣﻨﻔﻴﺔ ﺛﺎﺑﺘﺔ، ﻣﻮﺟﻮﺩﺓ ﻣﻌﺪﻭﻣﺔ، ﻣﻌﻠﻮﻣﺔ ﻣﺠﻬﻮﻟﺔ. ﺃﻇﻬﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻫﺬﻩ ﻟﻌﺒﺪﻩ ﺿﺮﺏ ﻣﺜﺎﻝ ﻟﻴﻌﻠﻢ ﻭﻳﺘﺤﻘﻖ ﺃﻧﻪ ﺇﺫﺍ ﻋﺠﺰ ﻭ ﺣﺎﺭ ﻓﻲ ﺩﺭﻙ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻫﺬﺍ، (ﻭﻫﻮ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻭﻟﻢ ﻳﺤﺼﻞ ﻋﻨﺪﻩ ﻋﻠﻢ ﺑﺘﺤﻘﻴﻘﻪ، ﻓﻬﻮ ﺑﺨﺎﻟﻘﻬﺎ ﺃﻋﺠﺰ ﻭﺃﺟﻬﻞ ﻭﺃﺷﺪ ﺣﻴﺮﺓ).
ﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﻟﻘﻴﺘﻪ ﻣﻦ ﻛﻼﻣﻪ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺒﺎﺏ. ﻭ ﺫﻫﺐ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﺮﺋﻴﺔ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺨﻴﺎﻟﻲ ﻭﻣﻘﺎﺑﻠﺔ ﺍﻟﺠﺮﻡ ﺍﻟﺼﻘﻴﻞ ﺷﺮﻁ ﻟﻈﻬﻮﺭﻫﺎ ﻓﻴﻪ.
ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ، ﻟﻜﺎﻥ ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻠﻨﺎﻇﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ ﺻﻮﺭﺓ ﺃﺧﺮﻯ ﻏﻴﺮ ﺻﻮﺭﺓ ﻣﻘﺎﺑﻠﻬﺎ، ﻛﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺴﺘﻌﻤﻠﻪ ﺍﻟﻤﻌﺰﻣﻮﻥ ﻣﻦ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﺠﻦ ﻭ ﻏﻴﺮﻫﺎ.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الثالث .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 9:55 am

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الثالث .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية  الجزء الثالث

(ﻭﺇﺫﺍ ﺫﻗﺖ ﻫﺬﺍ، ﺫﻗﺖ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻴﺲ ﻓﻮﻗﻬﺎ ﻏﺎﻳﺔ ﻓﻲ ﺣﻖ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻕ، ﻓﻼ ﺗﻄﻤﻊ ﻭﻻ ﺗﺘﻌﺐ ﻧﻔﺴﻚ ﻓﻲ ﺃﻥ ﺗﺮﻗﻰ ﻓﻲ ﺃﻋﻠﻰ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺪﺭﺝ ﻓﻤﺎ ﻫﻮ ﺛﻤﺔ ﺃﺻﻼ، ﻭﻣﺎ ﺑﻌﺪﻩ ﺇﻻ ﺍﻟﻌﺪﻡ ﺍﻟﻤﺤﺾ) ﺃﻱ، ﺇﺫﺍ ﻭﺟﺪﺕ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺑﺎﻟﺬﻭﻕ ﻭﺍﻟﻮﺟﺪﺍﻥ، ﻻ ﺑﺎﻟﻌﻠﻢ ﻭﺍﻟﻌﺮﻓﺎﻥ، ﻭﺣﺼﻞ ﻟﻚ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺠﻠﻲ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ، ﻓﻘﺪ ﺣﺼﻞ ﻟﻚ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ ﻭﺍﻧﺘﻬﻴﺖ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻷﻥ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺃﺳﻔﺎﺭ ﺍﻟﺴﺎﻟﻜﻴﻦ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻫﻮ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻻ ﻏﻴﺮ.
ﻭﻗﻮﻟﻪ: (ﻓﻲ ﺃﻥ ﺗﺮﻗﻰ) ﻣﺘﻌﻠﻖ ﺏ (ﻻ ﺗﻄﻤﻊ). ﻭ "ﻓﻲ ﺃﻋﻠﻰ" ﻣﺘﻌﻠﻖ ﺏ "ﺗﺮﻗﻰ". ﺿﻤﻨﻪ ﻣﻌﻨﻰ ﺍﻟﺪﺧﻮﻝ ﻓﻌﺪﺍﻩ ﺏ "ﻓﻲ" ﻷﻧﻪ ﻳﺘﻌﺪﻯ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﻭﺏ "ﻋﻠﻰ" ﻻ بـ"ﻓﻲ".
ﻳﻘﺎﻝ: ﺭﻗﺎﻩ. ﺇﺫﺍ ﺻﻌﺪﻩ. ﺃﻭ، ﺭﻗﺎ ﻋﻠﻴﻪ. ﺇﺫﺍ ﺻﻌﺪ ﻋﻠﻴﻪ. ﻭﻻ ﻳﻘﺎﻝ: ﺭﻗﻰ ﻓﻴﻪ. ﻛﻤﺎﻻ ﻳﻘﺎﻝ: ﺻﻌﺪ ﻓﻴﻪ. ﺇﻻ ﻋﻨﺪ ﺗﻀﻤﻨﻪ ﻣﻌﻨﻰ ﺍﻟﺪﺧﻮﻝ.
ﻭﺍﻟﻀﻤﻴﺮ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ: "ﻓﻤﺎ ﻫﻮ" ﻋﺎﺋﺪ ﺇﻟﻰ "ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ" ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻴﻪ ﻗﻮﻟﻪ: "ﺃﻋﻠﻰ" ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ. ﻭ "ﺛﻤﺔ" ﺃﻳﻀﺎ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ.
ﺃﻱ، ﻓﻠﻴﺲ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﻭﺻﻠﺖ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻤﺤﺾ، ﻣﻘﺎﻡ ﺁﺧﺮ ﺗﺼﻞ ﺇﻟﻴﻪ ﺃﺻﻼ، ﺇﺫ ﻟﻴﺲ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻤﺤﺾ ﺇﻻ ﺍﻟﻌﺪﻡ ﺍﻟﻤﺤﺾ.
ﻭﺍﻋﻠﻢ، ﺃﻥ ﻇﻬﻮﺭ ﻋﻴﻨﻪ ﻟﻪ ﻋﻴﻦ ﻇﻬﻮﺭ ﺍﻟﺤﻖ ﻟﻪ ﻭﺭﺅﻳﺔ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﻋﻴﻦ ﺭﺅﻳﺘﻪ ﺍﻟﺤﻖ، ﻷﻥ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻐﺎﻳﺮﺓ ﻟﻠﺤﻖ ﻣﻄﻠﻘﺎ، ﺇﺫ ﻫﻲ ﺷﺄﻥ ﻣﻦ ﺷﺆﻭﻧﻪ ﻭﺻﻔﺔ ﻣﻦ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﻭﺍﺳﻢ ﻣﻦ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ. ﻭﻗﺪ ﻋﺮﻓﺖ ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ ﻋﻴﻨﻪ ﻭﻣﻦ ﻭﺟﻪ ﻏﻴﺮﻩ، ﻓﺈﺫﺍ ﺷﺎﻫﺪﺕ ﺫﻟﻚ، ﺷﺎﻫﺪﺗﻪ.
ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ ﺍﻟﻤﻨﺼﻮﺭ ﺍﻟﺤﻼﺝ ﻗﺪﺱ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺮﻩ:
ﺃﻧﺎ ﻣﻦ ﺃﻫﻮﻯ، ﻭﻣﻦ ﺃﻫﻮﻯ ﺃﻧﺎ    ... ﻧﺤﻦ ﺭﻭﺣﺎﻥ ﺣﻠﻠﻨﺎ ﺑﺪﻧﺎ
ﻓﺈﺫﺍ ﺃﺑﺼﺮﺗﻨﻲ ﺃﺑﺼﺮﺗﻪ     ..... ﻭﺇﺫﺍ ﺃﺑﺼﺮﺗﻪ ﺃﺑﺼﺮﺗﻨﺎ
ﻓﻬﻮ ﻣﺮﺁﺗﻚ ﻓﻲ ﺭﺅﻳﺘﻚ ﻧﻔﺴﻚ، ﻭﺃﻧﺖ ﻣﺮﺃﺗﻪ ﻓﻲ ﺭﺅﻳﺘﻪ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﻭﻇﻬﻮﺭ ﺃﺣﻜﺎﻣﻬﺎ(. ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﺑﺎﻟﻮﺟﻮﺩ ﺗﻈﻬﺮ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻭﻛﻤﺎﻻﺗﻬﺎ، ﻭﺑﺎﻷﻋﻴﺎﻥ ﺗﻈﻬﺮ ﺻﻔﺎﺕ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻭﺃﺳﻤﺎﺅﻩ ﻭﺃﺣﻜﺎﻡ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﻷﻧﻬﺎ ﻣﺤﻞ ﺳﻠﻄﻨﺘﻬﺎ.
ﻭﺇﻟﻴﻪ ﺃﺷﺎﺭ ﺍﻟﻨﺒﻲ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺼﻼﺓ ﻭﺍﻟﺴﻼﻡ، ﺑﻘﻮﻟﻪ: "ﺍﻟﻤﺆﻣﻦ ﻣﺮﺁﺓ ﺍﻟﻤﺆﻣﻦ".
ﺇﺫﺍ ﺍﻟﻤﺆﻣﻦ ﻣﻦ ﺟﻤﻠﺔ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ. "ﻭﻟﻴﺴﺖ ﺳﻮﻯ ﻋﻴﻨﻪ" ﺃﻱ، ﻓﻠﻴﺴﺖ ﻣﺮﺁﺗﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻋﻴﻨﻚ ﻏﻴﺮ ﻋﻴﻨﻪ ﻣﻄﻠﻘﺎ، ﻛﻤﺎ ﺗﺰﻋﻢ ﺍﻟﻤﺤﺠﻮﺏ.
"ﻓﺎﺧﺘﻠﻂ ﺍﻷﻣﺮ ﻭﺍﻧﺒﻬﻢ" ﺃﻱ، ﻓﺎﺧﺘﻠﻂ ﺃﻣﺮ ﺍﻟﻤﺮﺋﻲ ﻭ ﺍﻧﺒﻬﻢ ﺃﻧﻪ ﺣﻖ ﺃﻭ ﻋﺒﺪ، ﻷﻥ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻳﺮﻯ ﻓﻲ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﺤﻖ ﻋﻴﻨﻪ، ﻭﺍﻟﺤﻖ ﻳﺮﻯ ﻓﻲ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ، ﻭﻋﻴﻦ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﺣﻖ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ، ﻷﻧﻬﺎ ﻣﻦ ﺟﻤﻠﺔ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﻭﺃﺳﻤﺎﺅﻩ ﻋﻴﻨﻪ.
ﻓﺎﻧﺒﻬﻢ ﺣﺎﻝ ﺍﻟﻤﺮﺍﺋﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﺗﻴﻦ ﺃﻧﻪ ﺣﻖ ﺃﻭ ﻋﺒﺪ. (ﻓﻤﻨﺎ ﻣﻦ ﺟﻬﻞ ﻓﻲ ﻋﻠﻤﻪ) ﺃﻱ، ﺗﺤﻴﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻤﻴﺰ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺣﺎﻝ ﻋﻠﻤﻪ ﺑﻬﺎ. "ﻓﻘﺎﻝ: "ﺍﻟﻌﺠﺰ ﻋﻦ ﺩﺭﻙ ﺍﻹﺩﺭﺍﻙ ﺇﺩﺭﺍﻙ.
ﻭ ﻣﻨﺎ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ  ﺃﻱ، ﻣﻴﺰ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ. (ﻓﻠﻢ ﻳﻘﻞ ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﻭﻫﻮ ﺃﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﻮﻝ). ﺃﻱ، ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﻜﻮﺕ ﻭﻋﺪﻡ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺑﻤﺜﻠﻪ ﺃﻋﻠﻰ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻘﻮﻝ، ﻷﻥ ﻓﻴﻪ ﺇﻇﻬﺎﺭ ﺍﻟﻌﺠﺰ.
(ﺑﻞ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﺴﻜﻮﺕ ﻣﺎ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﻌﺠﺰ) ﺃﻱ، ﺃﻋﻄﺎﻩ ﻋﻠﻤﻪ ﺑﺎﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺃﻥ ﻳﺴﻜﺖ ﻭﻻ ﻳﻀﻄﺮﺏ ﻛﻤﺎ ﺃﻋﻄﻰ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻵﺧﺮ ﺍﻟﻌﺠﺰ.
(ﻭﻫﺬﺍ ﻫﻮ ﺃﻋﻠﻰ ﻋﺎﻟﻢ ﺑﺎﻟﻠﻪ) ﻷﻧﻪ ﻳﻌﺮﻑ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﻭﺍﻟﻤﻘﺎﻣﺎﺕ ﻭﻳﻌﻄﻰ ﺣﻖ ﻛﻞ ﻣﻘﺎﻡ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﻣﻪ. (ﻭﻟﻴﺲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺇﻻ ﻟﺨﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ ﻭﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ) ﻷﻥ ﺍﻹﺣﺎﻃﺔ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﺍﻟﻤﻘﺎﻣﺎﺕ ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ، ﻛﻠﻴﻬﺎ ﻭ ﺟﺰﺋﻴﻬﺎ، ﺟﻠﻴﻠﻬﺎ ﻭﺣﻘﻴﺮﻫﺎ، ﻭﺍﻟﺘﻤﻴﺰ ﺑﻴﻨﻬﺎ، ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺇﻻ ﻟﻤﻦ ﻟﻪ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻷﻋﻈﻢ ﻇﺎﻫﺮﺍ ﻭﺑﺎﻃﻨﺎ، ﻭﻫﻮ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ ﻭﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ. ﺃﻣﺎ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ، ﻓﻠﻜﻮﻥ ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻻ ﻳﺸﺎﻫﺪﻭﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﻣﺮﺍﺗﺒﻪ ﺇﻻ ﻣﻦ ﻣﺸﻜﺎﺗﻪ ﺍﻟﻤﻤﺪﺓ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺎﻃﻦ، ﻭ ﺃﻣﺎ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ، ﻓﻸﻥ ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻻ ﻳﺄﺧﺬﻭﻥ ﻣﺎ ﻟﻬﻢ ﺇﻻ ﻣﻨﻪ، ﺣﺘﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﺮﺳﻞ، ﺃﻳﻀﺎ، ﻻ ﻳﺮﻭﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﺇﻻ ﻣﻦ ﻣﺸﻜﺎﺗﻪ ﻭﻣﻘﺎﻣﻪ.
ﻭﺇﻟﻴﻪ ﺃﺷﺎﺭ ﺑﻘﻮﻟﻪ: (ﻭﻣﺎ ﻳﺮﺍﻩ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍﻟﺮﺳﻞ ﺇﻻ ﻣﻦ ﻣﺸﻜﺎﺓ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ، ﻭﻻ ﻳﺮﺍﻩ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺇﻻ ﻣﻦ ﻣﺸﻜﺎﺓ ﺍﻟﻮﻟﻲ ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ، ﺣﺘﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﺮﺳﻞ ﻻ ﻳﺮﻭﻧﻪ ﻣﺘﻰ ﺭﺃﻭﻩ ﺇﻻ ﻣﻦ ﻣﺸﻜﺎﺓ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ).
ﻭﺍﻋﻠﻢ، ﺃﻥ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﺃﻣﻬﺎﺕ ﺃﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺤﻖ، ﻭﻫﻲ ﺩﺍﺧﻠﺔ ﻓﻲ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻷﻋﻈﻢ ﺍﻟﺠﺎﻣﻊ، ﻭﻣﻈﻬﺮﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻳﺔ، ﻟﺬﻟﻚ ﺻﺎﺭﺕ ﺃﻣﺘﻪ ﺧﻴﺮ ﺍﻷﻣﻢ ﻭ ﺷﻬﺪﺍﺀ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ، ﻭﻫﻮ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﻳﺰﻛﻴﻬﻢ ﻋﻨﺪ ﺭﺑﻬﻢ.
ﻭﻗﺎﻝ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ: "ﻋﻠﻤﺎﺀ ﺃﻣﺘﻲ ﻛﺄﻧﺒﻴﺎﺀ ﺑﻨﻰ ﺇﺳﺮﺍﺋﻴﻞ " ﻓﻠﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻭﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻣﺄﺧﻮﺫﺍ ﻣﻦ ﻣﻘﺎﻣﻪ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻭﻗﺪ ﺍﻧﺨﺘﻤﺖ ﻣﺮﺗﺒﺘﻬﺎ ﻭﺑﻘﻴﺖ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺑﺎﻃﻦ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻭﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻷﻧﻬﺎ ﻏﻴﺮ ﻣﻨﻘﻄﻌﺔ، ﻓﻴﻈﻬﺮ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻬﻢ ﺷﻴﺌﺎ ﻓﺸﻴﺌﺎ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﻳﻈﻬﺮ ﺑﺘﻤﺎﻣﻬﺎ ﻓﻴﻤﻦ ﻫﻮ ﻣﺴﺘﻌﺪ ﻟﻬﺎ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﺑﺨﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ، ﻭﻫﻮ ﻋﻴﺴﻰ عليه السلام  ﻛﻤﺎ ﺳﻴﺄﺗﻲ ﺑﻴﺎﻧﻪ.
ﻭﺻﺎﺣﺐ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺃﻳﻀﺎ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﺒﺎﻃﻦ ﻫﻮ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ، ﻷﻧﻪ ﻫﻮ ﻣﻈﻬﺮ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻟﺠﺎﻣﻊ. ﻭﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻳﺘﺠﻠﻰ ﻣﻦ ﻭﺭﺍﺀ ﺣﺠﺐ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﺖ ﻣﺮﺗﺒﺘﻪ ﻟﻠﺨﻠﻖ، ﻛﺬﻟﻚ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ ﻳﺘﺠﻠﻰ ﻋﻦ ﻋﺎﻟﻢ ﻏﻴﺒﻪ ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺓ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻟﻠﺨﻠﻖ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ ﻣﻈﻬﺮﺍ ﻟﻠﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﺘﺎﻣﺔ، ﻭﻳﻜﻮﻥ ﻛﻞ ﻣﻦ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺻﺎﺣﺐ ﻭﻻﻳﺔ، ﻭﻫﻮ ﻣﻈﻬﺮ ﻟﺠﻤﻴﻌﻬﺎ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﻣﻈﻬﺮ ﺣﺼﺔ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﻣﻘﺎﻡ ﺟﻤﻌﻪ.
ﻓﺨﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ ﻣﺎ ﺭﺃﻯ ﺍﻟﺤﻖ ﺇﻻ ﻣﻦ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻭﻻﻳﺔ ﻧﻔﺴﻪ، ﻻ ﻣﻦ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻏﻴﺮﻩ، ﻓﻼ ﻳﻠﺰﻡ ﺍﻟﻨﻘﺺ. ﻭﻣﺜﺎﻟﻪ ﺍﻟﺨﺎﺯﻥ ﺇﺫﺍ ﺃﻋﻄﻰ ﺑﺄﻣﺮ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻟﻠﺤﻮﺍﺷﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﺰﻳﻨﺔ ﺷﻴﺌﺎ ﻭ ﻟﻠﺴﻠﻄﺎﻥ ﺃﻳﻀﺎ، ﻓﺎﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺃﺧﺬ ﻣﻨﻪ ﻛﻐﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻮﺍﺷﻲ ﻭﻻ ﻧﻘﺺ.
(ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻭﺍﻟﻨﺒﻮﺓ، ﺃﻋﻨﻲ ﻧﺒﻮﺓ ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻊ ﻭﺭﺳﺎﻟﺘﻪ، ﺗﻨﻘﻄﻌﺎﻥ ﻭﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻻ ﺗﻨﻘﻄﻊ ﺃﺑﺪﺍ).
ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻭﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻔﺎﺕ ﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ ﺍﻟﺰﻣﺎﻧﻴﺔ ﻓﻴﻨﻘﻄﻊ ﺑﺎﻧﻘﻄﺎﻉ ﺯﻣﺎﻥ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻭﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ، ﻭﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺻﻔﺔ ﺇﻟﻬﻴﺔ، ﻟﺬﻟﻚ ﺳﻤﻰ ﻧﻔﺴﻪ بـ "ﺍﻟﻮﻟﻲ" ﺍﻟﺤﻤﻴﺪ ﻭﻗﺎﻝ: "ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻟﻰ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺁﻣﻨﻮﺍ..." ﻓﻬﻲ ﻏﻴﺮ ﻣﻨﻘﻄﻌﺔ ﺃﺯﻻ ﻭﺃﺑﺪﺍ.
ﻭﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﻮﺻﻮﻝ ﻷﺣﺪ ﻣﻦ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ، ﻭﻏﻴﺮﻫﻢ، ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﺇﻻ ﺑﺎﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺑﺎﻃﻦ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ.
ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺟﺎﻣﻌﻴﺔ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻷﻋﻈﻢ ﻟﺨﺎﺗﻢ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻇﻬﻮﺭﻫﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ ﺑﺘﻤﺎﻣﻬﺎ ﻟﺨﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ، ﻓﺼﺎﺣﺒﻬﺎ ﻭﺍﺳﻄﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺤﻖ ﻭ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ.
ﻭﻣﻦ ﺃﻣﻌﻦ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺟﻮﺍﺯ ﻛﻮﻥ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﻭﺍﺳﻄﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ، ﻻ ﻳﺼﻌﺐ ﻋﻠﻴﻪ ﻗﺒﻮﻝ ﻛﻮﻥ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﺬﻱ ﻣﻈﻬﺮ ﺑﺎﻃﻦ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻟﺠﺎﻣﻊ ﻭﺃﻋﻠﻰ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻭﺍﺳﻄﺔ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﺤﻖ. ﻭﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ: (ﺃﻋﻨﻲ ﻧﺒﻮﺓ ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻊ ﻭﺭﺳﺎﻟﺘﻪ) ﺳﺮ، 
ﻭﻫﻮ ﺃﻥ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻭﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﺗﻨﻘﺴﻢ ﺇﻟﻰ ﻗﺴﻤﻴﻦ:
ﻗﺴﻢ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﺘﺸﺮﻳﻊ.
ﻭﻗﺴﻢ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻹﻧﺒﺎﺀ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻭﺃﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﻐﻴﻮﺏ ﻭﺇﺭﺷﺎﺩ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﺒﺎﻃﻦ، ﻭﺇﻇﻬﺎﺭ ﺃﺳﺮﺍﺭ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﻭﺍﻟﻤﻠﻜﻮﺕ، ﻭﻛﺸﻒ ﺳﺮ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﺘﺮﺓ ﺑﻤﻈﺎﻫﺮ ﺍﻷﻛﻮﺍﻥ ﻟﻘﻴﺎﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ ﻭﻇﻬﻮﺭ ﻣﺎ ﺳﺘﺮﻩ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺃﺧﻔﻰ.
(ﻓﺎﻟﻤﺮﺳﻠﻮﻥ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻬﻢ ﺃﻭﻟﻴﺎﺀ ﻻ ﻳﺮﻭﻥ ﻣﺎ ﺫﻛﺮﻧﺎﻩ ﺇﻻ ﻣﻦ ﻣﺸﻜﺎﺓ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ، ﻓﻜﻴﻒ ﻣﻦ ﺩﻭﻧﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ).
ﻭﺫﻛﺮ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺏ ﻋﻨﻘﺎﺀ ﺍﻟﻤﻐﺮﺏ: (ﺇﻥ ﺃﺑﺎ ﺑﻜﺮ ﺗﺤﺖ ﻟﻮﺍﺋﻪ، ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺗﺤﺖ ﻟﻮﺍﺀ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺘﺎﺑﻌﺔ).
(ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺗﺎﺑﻌﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﻟﻤﺎ ﺟﺎﺀ ﺑﻪ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻊ ﻓﺬﻟﻚ ﻻ ﻳﻘﺪﺡ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﻣﻪ ﻭﻻ ﻳﻨﺎﻗﺾ ﻣﺎ ﺫﻫﺒﻨﺎ ﺇﻟﻴﻪ) ﻣﻦ ﺃﻧﻪ ﻣﺘﺒﻮﻉ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ.
ﻭﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳﺘﻮﻫﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﺑﺨﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺍﻟﻤﻬﺪﻯ. ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺸﻴﺦ، ﻗﺪﺱ ﺳﺮﻩ، ﺻﺮﺡ ﺑﺄﻧﻪ ﻋﻴﺴﻰ غليه السلام . ﻭﻫﻮ ﻳﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺠﻢ، ﻭﺍﻟﻤﻬﺪﻯ ﻣﻦ ﺃﻭﻻﺩ ﺍﻟﻨﺒﻲ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻭﻳﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺮﺏ. ﻛﻤﺎ ﺳﻨﺬﻛﺮﻩ ﺑﺄﻟﻔﺎﻇﻪ. (ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﺃﻧﺰﻝ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﺃﻋﻠﻰ. ﻭﻗﺪ ﻇﻬﺮ ﻓﻲ ﻇﺎﻫﺮ ﺷﺮﻋﻨﺎ ﻣﺎ ﻳﺆﻳﺪ ﻣﺎ ﺫﻫﺒﻨﺎ ﺇﻟﻴﻪ) ﻣﻦ ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ ﺃﻧﺰﻝ ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ ﺃﻋﻠﻰ.
(ﻓﻲ ﻓﻀﻞ ﻋﻤﺮ ﻓﻲ ﺃﺳﺎﺭﻯ ﺑﺪﺭ ﺑﺎﻟﺤﻜﻢ ﻓﻴﻬﻢ).
ﻭﺍﻟﺤﻜﺎﻳﺔ ﻣﺸﻬﻮﺭﺓ ﻭﻓﻲ ﺍﻟﺘﻔﺎﺳﻴﺮ ﻣﺬﻛﻮﺭﺓ ﻭ ﻋﻮﺗﺐ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﺑﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: "ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻟﻨﺒﻲ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻪ ﺃﺳﺮﻯ ﺣﺘﻰ ﻳﺜﺨﻦ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ". 
(ﻭﻓﻲ ﺗﺄﺑﻴﺮ ﺍﻟﻨﺨﻞ) ﻣﻨﻊ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﺎﻣﺎ ﺗﺄﺑﻴﺮ ﺍﻟﻨﺨﻞ. ﻓﻤﺎ ﺃﺛﻤﺮ.

ﻓﻘﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ صلى الله عليه وسلم : "ﺃﻧﺘﻢ ﺃﻋﻠﻢ ﺑﺄﻣﻮﺭ ﺩﻧﻴﺎﻛﻢ". ﻓﺄﺛﺒﺖ ﺍﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻟﻠﻤﺨﺎﻃﺒﻴﻦ، ﻭﺃﺛﺒﺖ ﺍﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻟﻌﻤﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻢ، ﻣﻊ ﺃﻧﻪ ﺳﻴﺪ ﺍﻷﻭﻟﻴﻦ ﻭﺍﻵﺧﺮﻳﻦ، ﻓﺬﻟﻚ ﻻ ﻳﻘﺪﺡ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﻣﻪ ﻭﻣﺮﺗﺒﺘﻪ. (ﻓﻤﺎ ﻳﻠﺰﻡ ﺍﻟﻜﺎﻣﻞ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻪ ﺍﻟﺘﻘﺪﻡ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﺊ ﻭﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮﺗﺒﺔ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻧﻈﺮ ﺍﻟﺮﺟﺎﻝ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻘﺪﻡ ﻓﻲ ﺭﺗﺒﺔ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﻫﻨﺎﻟﻚ ﻣﻄﻠﺒﻬﻢ، ﻭﺃﻣﺎ ﺣﻮﺍﺩﺙ ﺍﻷﻛﻮﺍﻥ ﻓﻼ ﺗﻌﻠﻖ ﻟﺨﻮﺍﻃﺮﻫﻢ ﺑﻬﺎ، ﻓﺘﺤﻘﻖ ﻣﺎ ﺫﻛﺮﻧﺎﻩ). ﻣﻌﻨﺎﻩ ﻇﺎﻫﺮ. (ﻭﻟﻤﺎ ﻣﺜﻞ ﺍﻟﻨﺒﻲ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺑﺎﻟﺤﺎﺋﻂ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﺒﻦ ﻭﻗﺪ ﻛﻤﻞ ﺳﻮﻯ ﻣﻮﺿﻊ ﻟﺒﻨﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻓﻜﺎﻥ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻠﺒﻨﺔ، ﻏﻴﺮ ﺃﻧﻪ) ﺃﻱ ﺇﻻ ﺃﻧﻪ.
(ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻻ ﻳﺮﺍﻫﺎ ﺇﻻ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ، ﻟﺒﻨﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ. ﻭﺃﻣﺎ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻓﻼ ﺑﺪ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺮﺅﻳﺔ، ﻓﻴﺮﻯ ﻣﺎ ﻣﺜﻠﻪ ﺑﻪ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻭﻳﺮﻯ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺎﺋﻂ ﻣﻮﺿﻊ ﻟﺒﻨﺘﻴﻦ، ﻭﺍﻟﻠﺒﻦ ﻣﻦ ﺫﻫﺐ ﻭﻓﻀﺔ، ﻓﻴﺮﻯ ﺍﻟﻠﺒﻨﺘﻴﻦ ﺍﻟﻠﺘﻴﻦ ﺗﻨﻘﺺ ﺍﻟﺤﺎﺋﻂ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻭﻳﻜﻤﻞ ﺑﻬﻤﺎ ﻟﺒﻨﺔ ﺫﻫﺐ ﻭﻟﺒﻨﺔ ﻓﻀﺔ، ﻓﻼ ﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﺮﻯ ﻧﻔﺴﻪ ﺗﻨﻄﺒﻊ ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻊ ﺗﻴﻨﻚ ﺍﻟﻠﺒﻨﺘﻴﻦ) ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺗﻴﻨﻚ ﺍﻟﻠﺒﻨﺘﻴﻦ. (ﻓﻴﻜﻤﻞ ﺍﻟﺤﺎﺋﻂ) ﺟﻮﺍﺏ (ﻟﻤﺎ).
ﻗﻮﻟﻪ: (ﻓﻼ ﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﺮﻯ ﻧﻔﺴﻪ ﺗﻨﻄﺒﻊ) ﺃﻱ، ﻟﻤﺎ ﻣﺜﻞ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺑﺎﻟﺤﺎﺋﻂ ﻭ ﺭﺃﻯ ﻧﻔﺴﻪ ﺗﻨﻄﺒﻊ ﻓﻴﻪ، ﻻ ﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﺮﻯ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻧﻔﺴﻪ ﻛﺬﻟﻚ، ﻟﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﻭﺍﻻﺷﺘﺮﺍﻙ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ. ﻭﻣﻌﻨﺎﻩ ﻇﺎﻫﺮ. ﻗﺎﻝ رضي الله عنه ﻓﻲ ﻓﺘﻮﺣﺎﺗﻪ ﺃﻧﻪ ﺭﺃﻯ ﺣﺎﺋﻄﺎ ﻣﻦ ﺫﻫﺐ ﻭﻓﻀﺔ، ﻭﻗﺪ ﻛﻤﻞ ﺇﻻ ﻣﻮﺿﻊ ﻟﺒﻨﺘﻴﻦ: ﺇﺣﺪﻳﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﻓﻀﺔ ﻭﺍﻷﺧﺮﻯ ﻣﻦ ﺫﻫﺐ، ﻓﺎﻧﻄﺒﻊ رضي الله عنه ﻣﻮﺿﻊ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻠﺒﻨﺘﻴﻦ ﻭﻗﺎﻝ ﻓﻴﻪ: (ﻭﺃﻧﺎ ﻻ ﺃﺷﻚ ﺇﻧﻲ ﺃﻧﺎ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ، ﻭﻻ ﺃﺷﻚ ﺇﻧﻲ ﺃﻧﺎ ﺍﻟﻤﻨﻄﺒﻊ ﻣﻮﺿﻌﻬﻤﺎ، ﻭﺑﻲ ﻛﻤﻞ ﺍﻟﺤﺎﺋﻂ. ﺛﻢ ﻋﺒﺮﺕ ﺍﻟﺮﺅﻳﺎ ﺑﺎﻧﺨﺘﺎﻡ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺑﻲ. ﻭﺫﻛﺮﺕ ﺍﻟﻤﻨﺎﻡ ﻟﻠﻤﺸﺎﻳﺦ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻛﻨﺖ ﻓﻲ ﻋﺼﺮﻫﻢ، ﻭﻣﺎ ﻗﻠﺖ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ، ﻓﻌﺒﺮﻭﺍ ﺑﻤﺎ ﻋﺒﺮﺕ ﺑﻪ). ﻭﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﻣﻤﺎ ﻭﺟﺪﺕ ﻓﻲ ﻛﻼﻣﻪ  رضي الله عنه ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺃﻧﻪ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻤﻘﻴﺪﺓ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻳﺔ، ﻻ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻤﺮﺗﺒﺘﻪ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ.
ﻭﻟﺬﻟﻚ ﻗﺎﻝ ﻓﻲ ﺃﻭﻝ ﺍﻟﻔﺘﻮﺣﺎﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺸﺎﻫﺪﺓ: (ﻓﺮﺁﻧﻲ، ﺃﻱ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﺭﺍﺀ ﺍﻟﺨﺘﻢ ﻻﺷﺘﺮﺍﻙ ﺑﻴﻨﻲ ﻭﺑﻴﻨﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻢ).
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺍﻟﺴﻴﺪ: ﻫﺬﺍ ﻋﺪﻳﻠﻚ ﻭﺍﺑﻨﻚ ﻭﺧﻠﻴﻠﻚ. ﻭ "ﺍﻟﻌﺪﻳﻞ" ﻫﻮ ﺍﻟﻤﺴﺎﻭﻱ.
ﻗﺎﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﺸﺮ ﻣﻦ ﺃﺟﻮﺑﺔ ﺍﻹﻣﺎﻡ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺮﻣﺬﻱ، ﻗﺪﺱ ﺳﺮﻩ.(ﺍﻟﺨﺘﻢ ﺧﺘﻤﺎﻥ: ﺧﺘﻢ ﻳﺨﺘﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻣﻄﻠﻘﺎ، ﻭﺧﺘﻢ ﻳﺨﺘﻢ ﺑﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻳﺔ.
ﻓﺄﻣﺎ ﺧﺘﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻃﻼﻕ ﻓﻬﻮ ﻋﻴﺴﻰ عليه السلام.
ﻓﻬﻮ ﺍﻟﻮﻟﻲ ﺑﺎﻟﻨﺒﻮﺓ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻓﻲ ﺯﻣﺎﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻣﺔ، ﻭﻗﺪ ﺣﻴﻞ ﺑﻴﻨﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﻧﺒﻮﺓ ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻊ ﻭﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ.
ﻓﻴﻨﺰﻝ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﻭﺍﺭﺛﺎ ﺧﺎﺗﻤﺎ ﻻ ﻭﻟﻰ ﺑﻌﺪﻩ، ﻓﻜﺎﻥ ﺃﻭﻝ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﻣﺮ ﻧﺒﻲ ﻭﻫﻮ ﺁﺩﻡ، ﻭﺁﺧﺮﻩ ﻧﺒﻲ ﻭﻫﻮ ﻋﻴﺴﻰ، ﺃﻋﻨﻲ، ﻧﺒﻮﺓ ﺍﻻﺧﺘﺼﺎﺹ.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الرابع .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 9:56 am

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الرابع .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية  الجزء الرابع

ﻓﻴﻜﻮﻥ ﻟﻪ ﺣﺸﺮﺍﻥﺣﺸﺮ ﻣﻌﻨﺎ، ﻭﺣﺸﺮ ﻣﻊ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍﻟﺮﺳﻞ.
ﻭﺃﻣﺎ ﺧﺘﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻳﺔ ﻓﻬﻮ ﻟﺮﺟﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﻣﻦ ﺃﻛﺮﻣﻬﺎ ﺃﺻﻼ ﻭ يدا. ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﺯﻣﺎﻧﻨﺎ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻣﻮﺟﻮﺩ.
ﻋﺮﻓﺖ ﺑﻪ ﺳﻨﺔ ﺧﻤﺲ ﻭﺗﺴﻌﻴﻦ ﻭﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ، ﻭﺭﺃﻳﺖ ﺍﻟﻌﻼﻣﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺃﺧﻔﺎﻫﺎ ﺍﻟﺤﻖ ﻓﻴﻪ ﻋﻦ ﻋﻴﻮﻥ ﻋﺒﺎﺩﻩ، ﻭﻛﺸﻔﻬﺎ ﻟﻲ ﺑﻤﺪﻳﻨﺔ ﻓﺎﺱ ﺣﺘﻰ ﺭﺃﻳﺖ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻣﻨﻪ، ﻭﻫﻮ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ.

ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﻻ ﻳﻌﻠﻤﻪ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ. ﻭﻗﺪ ﺍﺑﺘﻼﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﺄﻫﻞ ﺍﻹﻧﻜﺎﺭ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺗﺤﻘﻖ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻖ ﻓﻲ ﺳﺮﻩ.
ﻭﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﺧﺘﻢ ﺑمﺤﻤﺪ صلى الله عليه وسلم ﻧﺒﻮﺓ ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻊ، ﻛﺬﻟﻚ ﺧﺘﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺑﺎﻟﺨﺘﻢ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻱ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺤﺼﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺍﺭﺙ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻱ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻻ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﺼﻞ ﻣﻦ ﺳﺎﺋﺮ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ.
ﻓﺈﻥ ﻣﻦ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻣﻦ ﻳﺮﺙ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﻭﻣﻮﺳﻰ ﻭﻋﻴﺴﻰ. ﻭﻫﺆﻻﺀ ﻳﻮﺟﺪﻭﻥ ﺑﻌﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﺘﻢ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻱ ﻭﺑﻌﺪﻩ ﻭﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻭﻟﻰ ﻋﻠﻰ ﻗﻠﺐ ﻣﺤﻤﺪ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ. ﻫﺬﺍ ﻣﻌﻨﻰ ﺧﺘﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻳﺔ.
ﻭﺃﻣﺎ ﺧﺘﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺑﻌﺪﻩ ﻭﻟﻰ، ﻓﻬﻮ ﻋﻴﺴﻰ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ.
ﻭﻗﺎﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﺸﺮ ﻣﻨﻬﺎ (ﻓﺄﻧﺰﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻣﻦ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﺧﺘﺼﺎﺻﻪ ﻭﺍﺳﺘﺤﻖ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻮﻻﻳﺘﻪ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺧﺘﻢ ﻳﻮﺍﻃﻲ ﺍﺳﻤﻪ ﺍﺳﻤﻪ ﻭﻳﺤﻮﺯ ﺧﻠﻘﺔ". ﻭﻣﺎ ﻫﻮ ﺑﺎﻟﻤﻬﺪﻱ ﺍﻟﻤﺴﻤﻰ ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﺍﻟﻤﻨﺘﻈﺮ، ﻓﺈﻥ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﻋﺘﺮﺗﻪ ﻭﺳﻼﻟﺘﻪ ﺍﻟﺤﺴﻴﺔ، ﻭﺍﻟﺨﺘﻢ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺳﻼﻟﺘﻪ ﺍﻟﺤﺴﻴﺔ، ﻭﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﺳﻼﻟﺔ ﺃﻋﺮﺍﻗﻪ ﻭﺃﺧﻼﻗﻪ). ﻭﺍﻟﻜﻞ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﻧﻔﺴﻪ رضى الله عنه. ﻭﺍﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ ﺑﺎﻟﺤﻘﺎﺋﻖ.
(ﻭﺍﻟﺴﺒﺐ ﺍﻟﻤﻮﺟﺐ ﻟﻜﻮﻧﻪ ﺭﺁﻫﺎ ﻟﺒﻨﺘﻴﻦ، ﺃﻧﻪ ﺗﺎﺑﻊ ﻟﺸﺮﻉ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻭﻫﻮ) ﺃﻱ ﻛﻮﻧﻪ ﺗﺎﺑﻌﺎ. 
(ﻣﻮﺿﻊ ﺍﻟﻠﺒﻨﺔ ﺍﻟﻔﻀﻴﺔ، ﻭﻫﻮ ﻇﺎﻫﺮﻩ ﻭﻣﺎ ﻳﺘﺒﻌﻪ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻜﺎﻡ) ﺃﻱ، ﻣﻮﺿﻊ ﺍﻟﻠﺒﻨﺔ ﺍﻟﻔﻀﻴﺔ ﺻﻮﺭﺓ ﻣﺘﺎﺑﻌﺔ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻟﺨﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ، ﻭ ﺻﻮﺭﺓ ﻣﺎ ﻳﺘﺒﻌﻪ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﺣﻜﺎﻡ ﺍﻟﺸﺮﻉ، ﻭﺑﺎﻧﻄﺒﺎﻋﻪ ﻣﻮﺿﻊ ﺍﻟﻠﺒﻨﺔ ﺍﻟﻔﻀﻴﺔ ﻳﻜﻤﻞ ﺍﻟﻤﺘﺎﺑﻌﺔ ﻭﻻ ﻳﺒﻘﻰ ﺑﻌﺪﻩ ﻣﺘﺎﺑﻊ ﺁﺧﺮ، ﻛﻤﺎﻻ ﻳﺒﻘﻰ ﺑﻌﺪﻩ ﻭﻟﻰ ﺁﺧﺮ، ﻛﻤﺎ ﺃﺷﺎﺭ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﻘﻮﻟﻪ: (ﻓﺈﺫﺍ ﻗﺒﻀﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻗﺒﺾ ﻣﺆﻣﻨﻲ ﺯﻣﺎﻧﻪ، ﺑﻘﻰ ﻣﻦ ﺑﻘﻰ ﻣﺜﻞ ﺍﻟﺒﻬﺎﺋﻢ ﻻ ﻳﺤﻠﻮﻥ ﺣﻼﻻ ﻭ ﻻ ﻳﺤﺮﻣﻮﻥ ﺣﺮﺍﻣﺎ، ﻳﺘﺼﺮﻓﻮﻥ ﺑﺤﻜﻢ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺷﻬﻮﺓ ﻣﺠﺮﺩﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﺸﺮﻉ، ﻓﻌﻠﻴﻬﻢ ﻳﻘﻮﻡ ﺍﻟﺴﺎﻋﺔ).
ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻣﺜﻞ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺑﺎﻟﻠﺒﻨﺔ ﺍﻟﻔﻀﻴﺔ، ﻷﻥ ﺍﻟﻔﻀﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻴﺎﺽ ﻭ ﺳﻮﺍﺩ، ﻭﺍﻟﺒﻴﺎﺽ ﻳﻨﺎﺳﺐ ﺍﻟﻨﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﺤﻘﺎﻧﻴﺔ، ﻭﺍﻟﺴﻮﺍﺩ ﻳﻨﺎﺳﺐ ﺍﻟﻈﻠﻤﺔ ﺍﻟﺨﻠﻘﻴﺔ، ﻭ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺻﻔﺔ ﺧﻠﻘﻴﺔ ﻓﻨﺎﺳﺐ "ﻓﺘﻨﺎﺳﺐ" ﺻﻮﺭﺗﻬﺎ ﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﺟﺰﺋﻴﻬﺎ، ﻭﺍﻟﺬﻫﺐ ﻟﻜﻮﻧﻪ ﻏﻴﺮ ﻣﺮﻛﺐ ﻣﻦ ﻣﺨﺘﻠﻔﻴﻦ ﻭﻛﻮﻧﻪ ﺃﺷﺮﻑ، ﻧﺎﺳﺐ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ.
(ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺁﺧﺬ ﻋﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺮ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺑﺎﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻣﺘﺒﻊ ﻓﻴﻪ). ﺃﻱ، ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ ﻟﻠﻮﻻﻳﺔ ﺗﺎﺑﻊ ﻟﻠﺸﺮﻉ ﻇﺎﻫﺮﺍ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﺁﺧﺬ ﻋﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﺎﻃﻨﺎ ﻟﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺘﺒﻊ ﻓﻴﻪ ﻟﻠﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ. ﻑ "ﻣﺎ" ﻣﻊ ﻣﺎ ﺑﻌﺪﻩ ﻣﻔﻌﻮﻝ (ﺁﺧﺬ).
(ﻷﻧﻪ ﻳﺮﻯ ﺍﻷﻣﺮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻼ ﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﺮﺍﻩ ﻫﻜﺬﺍ) ﺗﻌﻠﻴﻞ ﻟﻘﻮﻟﻪ: (ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺁﺧﺬ ﻋﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺮ) ﺃﻱ، ﻷﻧﻪ ﻣﻄﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻜﺎﻡ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻭﻣﺸﺎﻫﺪ ﻟﻪ، ﻭﻻ ﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﺮﺍﻩ ﻭﻳﺸﺎﻫﺪﻩ ﻭ ﺇﻻ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺧﺎﺗﻤﺎ.
(ﻭﻫﻮ ﻣﻮﺿﻊ ﺍﻟﻠﺒﻨﺔ ﺍﻟﺬﻫﺒﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﻃﻦ) ﺃﻱ، ﻛﻮﻧﻪ ﺭﺍﺋﻴﺎ ﻟﻸﻣﺮ ﺍﻹﻟﻬﻲ، ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻴﺐ، ﻫﻮ ﻣﻮﺿﻊ ﺍﻟﻠﺒﻨﺔ ﺍﻟﺬﻫﺒﻴﺔ.
(ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺄﺧﺬ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﺪﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺄﺧﺬ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻮﺣﻰ ﺑﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ) ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺤﻖ ﺗﻌﺎﻟﻰ.
(ﻓﺎﻥ ﻓﻬﻤﺖ ﻣﺎ ﺃﺷﺮﺕ ﺇﻟﻴﻪ ﻓﻘﺪ ﺣﺼﻞ ﻟﻚ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﻨﺎﻓﻊ) ﺃﻱ، ﺇﻥ ﺍﻃﻠﻌﺖ ﻭ ﻗﺒﻠﺖ ﻣﺎ ﺃﺷﺮﺕ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﻥ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻬﻢ ﺃﻭﻟﻴﺎﺀ، ﻭﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻛﻠﻬﻢ ﻻ ﻳﺮﻭﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﺇﻻ ﻣﻦ ﻣﺸﻜﺎﺓ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ، ﻓﻘﺪ ﺣﺼﻞ ﻟﻚ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﻨﺎﻓﻊ ﻓﻲ ﺍﻵﺧﺮﺓ.
ﺃﻭ ﺇﻥ ﻓﻬﻤﺖ ﺍﻟﺮﻣﺰ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺷﺮﺕ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺃﻥ ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ ﻫﻮ ﺑﻌﻴﻨﻪ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﻟﺒﻴﺎﻥ ﺍﻷﺳﺮﺍﺭ ﻭﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺁﺧﺮﺍ، ﻛﻤﺎ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﺣﻜﺎﻡ ﻭﺍﻟﺸﺮﺍﺋﻊ ﺃﻭﻻ، ﻓﻘﺪ ﺣﺼﻞ ﻟﻜﻢ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﻨﺎﻓﻊ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻣﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﻨﻴﻴﻦ. (ﻓﻜﻞ ﻧﺒﻲ ﻣﻦ ﻟﺪﻥ ﺁﺩﻡ ﺇﻟﻰ ﺁﺧﺮ ﻧﺒﻲ، ﻣﺎ ﻣﻨﻬﻢ ﺃﺣﺪ ﻳﺄﺧﺬ) ﺃﻱ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ.
(ﺇﻻ ﻣﻦ ﻣﺸﻜﺎﺓ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﻨﺒﻴﻴﻦ ﻭﺇﻥ ﺗﺄﺧﺮ ﻭﺟﻮﺩ ﻃﻴﻨﺘﻪ، ﻓﺈﻧﻪ ﺑﺤﻘﻴﻘﺘﻪ ﻣﻮﺟﻮﺩ ) ﻭﻫﻮ ﻗﻮﻟﻪ: "ﻛﻨﺖ ﻧﺒﻴﺎ ﻭﺁﺩﻡ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻭﺍﻟﻄﻴﻦ".
(ﻭﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻧﺒﻴﺎ ﺇﻻ ﺣﻴﻦ ﺑﻌﺚ). ﺇﻧﻤﺎ ﺃﻋﺎﺩ ﻣﺎ ﺫﻛﺮﻩ ﻟﻴﺒﻴﻦ ﺃﻧﻪ ﻭﺇﻥ ﺗﺄﺧﺮ ﻭﺟﻮﺩ ﻃﻴﻨﺘﻪ، ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻮﺟﻮﺩ ﺑﺤﻘﻴﻘﺘﻪ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡ.
ﻭﻫﻮ ﻧﺒﻲ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﻮﺟﺪ ﻭﻳﺒﻌﺚ ﻟﻠﺮﺳﺎﻟﺔ ﺃﻱ ﺍﻷﻣﺔ، ﻷﻧﻪ ﻗﻄﺐ ﺍﻷﻗﻄﺎﺏ ﻛﻠﻬﺎ ﺃﺯﻻ ﻭ ﺃﺑﺪﺍ. ﻭﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻟﻴﺲ ﻟﻬﻢ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺇﻻ ﺣﻴﻦ ﺍﻟﺒﻌﺜﺔ ﻷﻧﻪ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭ ﺳﻠﻢ، ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻘﺼﻮﺩ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ ﺃﻭﻻ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻠﻢ.
ﻭﺑﺘﻔﺼﻴﻞ ﻣﺎ ﻳﺸﺘﻤﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺮﺗﺒﺘﻪ ﺣﺼﻞ ﺃﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻓﻴﻪ، ﻭﺃﻳﻀﺎ، ﺃﻋﻴﺎﻥ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺗﻬﻢ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻃﺎﻟﺒﻴﻦ ﺇﻇﻬﺎﺭ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻓﻴﻬﻢ، ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻈﻬﺮﻭﺍ ﻣﻊ ﺃﻧﻮﺍﺭ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻳﺔ، ﻛﺎﺧﺘﻔﺎﺀ ﺍﻟﻜﻮﺍﻛﺐ ﻭﺃﻧﻮﺍﺭﻫﺎ ﻋﻨﺪ ﻃﻠﻮﻉ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﻧﻮﺭﻫﺎ.
ﻓﻠﻤﺎ ﺗﺤﻘﻘﻮﺍ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﺠﺴﻤﻴﺔ ﻭﻇﻠﻤﺔ ﺍﻟﻠﻴﺎﻟﻲ ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻳﺔ، ﻇﻬﺮﻭﺍ ﺑﺄﻧﻮﺍﺭﻫﻢ ﺍﻟﻤﺨﺘﺼﺔ ﻛﻈﻬﻮﺭ ﺍﻟﻘﻤﺮ ﻭﺍﻟﻜﻮﺍﻛﺐ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺍﻟﻤﻈﻠﻢ.

ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺣﺎﻝ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻛﺬﻟﻚ، ﻗﺎﻝ: )ﻭﻛﺬﻟﻚ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻛﺎﻥ ﻭﻟﻴﺎ ﻭﺁﺩﻡ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻭﺍﻟﻄﻴﻦ.
ﻭ ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻭﻟﻴﺎ ﺇﻻ ﺑﻌﺪ ﺗﺤﺼﻴﻠﻪ ﺷﺮﺍﺋﻂ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻣﻦ ﺍﻷﺧﻼﻕ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻻﺗﺼﺎﻑ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﻛﻮﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻳﺴﻤﻰ ﺑﺎﻟﻮﻟﻲ ﺍﻟﺤﻤﻴﺪ( ﻭﺷﺮﺍﺋﻂ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺗﺤﻘﻘﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻌﻴﻨﻲ ﻭﺗﻄﻬﺮﻫﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﺼﻔﺎﺕ ﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻭﺗﻨﺰﻫﻬﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﺨﻴﺎﻻﺕ ﺍﻟﻮﻫﻤﻴﺔ ﻭﺗﺨﻠﻘﻬﻢ ﺑﺎﻷﺧﻼﻕ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻭﺗﺨﻠﺼﻬﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﻘﻴﻮﺩ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ.
ﻭﺃﺩﺍﺀ ﺃﻣﺎﻧﺔ ﻭﺟﻮﺩﺍﺕ ﺍﻷﻓﻌﺎﻝ ﻭ ﺍﻟﺼﻔﺎﺕ ﻭﺍﻟﺬﺍﺕ ﺇﻟﻰ ﻣﻦ ﻫﻮ ﻣﺎﻟﻜﻬﺎ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ، ﻓﻌﻨﺪ ﻓﻨﺎﺋﻬﻢ ﻋﻦ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﻭﺑﻘﺎﺋﻬﻢ ﺑﺎﻟﺤﻖ ﻳﺘﺼﻔﻮﻥ ﺑﺎﻟﻮﻻﻳﺔ ﻭﺗﺤﺼﻞ ﻟﻬﻢ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ، ﻷﻥ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻣﻦ ﺟﻤﻠﺔ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ. (ﻓﺨﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻭﻻﻳﺘﻪ ﻧﺴﺒﺘﻪ ﻣﻊ ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ ﻟﻠﻮﻻﻳﺔ ﻧﺴﺒﺔ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍﻟﺮﺳﻞ ﻣﻌﻪ، ﻓﺈﻧﻪ ﺍﻟﻮﻟﻲ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﻨﺒﻲ، ﻭﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺍﻟﻮﻟﻲ ﺍﻟﻮﺍﺭﺙ ﺍﻵﺧﺬ ﻋﻦ ﺍﻷﺻﻞ ﺍﻟﻤﺸﺎﻫﺪ ﻟﻠﻤﺮﺍﺗﺐ) ﺍﺳﺘﻌﻤﻞ (ﻣﻊ) ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻮﺿﻌﻴﻦ ﺑﻤﻌﻨﻰ (ﺇﻟﻰ).
ﻭﻟﻤﺎ ﺫﻛﺮ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺮﺳﻠﻴﻦ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻛﻮﻧﻬﻢ ﺃﻭﻟﻴﺎﺀ، ﻻ ﻳﺮﻭﻥ ﻣﺎ ﻳﺮﻭﻥ ﺇﻻ ﻣﻦ ﻣﺸﻜﺎﺓ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ. ﻭﻛﺎﻥ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺘﻮﻫﻢ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﻓﻲ ﺣﻖ ﻏﻴﺮ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺳﻞ، ﺻﺮﺡ ﻫﺎﻫﻨﺎ ﺃﻥ ﻧﺴﺒﺘﻪ، ﺃﻳﻀﺎ، ﺇﻟﻰ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻧﺴﺒﺔ ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ، ﻭﻻ ﺗﻔﺎﺿﻞ ﻷﻧﻪ ﺻﺎﺣﺐ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﻃﻦ ﻭﺍﻟﺨﺎﺗﻢ ﻣﻈﻬﺮﻫﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ.
ﻭﻳﻨﻜﺸﻒ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﻟﻤﻦ ﺍﻧﻜﺸﻒ ﻟﻪ ﺃﻥ ﻟﻠﺮﻭﺡ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻱ، ﺻﻠﻮﺍﺕ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺳﻼﻣﻪ ﻋﻠﻴﻪ، ﻣﻈﺎﻫﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ.
ﻭﺫﻛﺮ ﺍﻟﺸﻴﺦ رضي الله عنه ﻓﻲ ﺁﺧﺮ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ ﻋﺸﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺘﻮﺣﺎﺕ: (ﻭﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻱ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﻣﻈﺎﻫﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ. ﻭﺃﻛﻤﻞ ﻣﻈﺎﻫﺮﻩ ﻓﻲ ﻗﻄﺐ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﻭﻓﻲ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﻭﻓﻲ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻳﺔ ﻭﺧﺘﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻋﻴﺴﻰ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻤﻌﺒﺮ ﻋﻨﻪ ﺑﻤﺴﻜﻨﻪ).
ﻭﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳﺤﻤﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻨﺎﺳﺦ، ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﺨﺼﻮﺻﺎ ﺑﺎﻟﺒﻌﺾ ﺩﻭﻥ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﻭ ﻫﺬﺍ ﻣﺨﺼﻮﺹ ﺑﺎﻟﻜﻤﻞ.
ﻭﺳﻴﺄﺗﻲ ﺗﻘﺮﻳﺮﻩ ﻣﺸﺒﻌﺎ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﺺ. ﺇﻧﺸﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ.
ﻭﺍﻋﻠﻢ، ﺃﻥ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺗﻨﻘﺴﻢ ﺑﺎﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﺍﻟﻤﻘﻴﺪﺓ، ﺃﻱ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻭﺍﻟﺨﺎﺻﺔ.
ﻷﻧﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻫﻲ ﻫﻲ ﺻﻔﺔ ﺍﻟﻬﻴﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ، ﻭﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﺳﺘﻨﺎﺩﻫﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻣﻘﻴﺪﺓ، ﻭﺍﻟﻤﻘﻴﺪ ﻣﺘﻘﻮﻡ ﺑﺎﻟﻤﻄﻠﻖ، ﻭﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﻇﺎﻫﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻘﻴﺪ.
ﻓﻮﻻﻳﺔ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻛﻠﻬﻢ ﺟﺰﺋﻴﺎﺕ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻧﺒﻮﺓ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﺟﺰﺋﻴﺎﺕ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ.
ﻓﺈﺫﺍ ﻋﻠﻤﺖ ﻫﺬﻩ، ﻓﺎﻋﻠﻢ ﺃﻥ ﻣﺮﺍﺩ ﺍﻟﺸﻴﺦرضي الله عنه ﻣﻦ ﻭﻻﻳﺔ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ ﻭﻻﻳﺘﻪ ﺍﻟﻤﻘﻴﺪﺓ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ.
ﻭﻻ ﺷﻚ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻧﺴﺒﺘﻬﺎ ﻣﻊ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻛﻨﺴﺒﺔ ﻧﺒﻮﺓ ﺳﺎﺋﺮ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﻧﺒﻮﺗﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ.
(ﻭﻫﻮ ﺣﺴﻨﺔ ﻣﻦ ﺣﺴﻨﺎﺕ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ ﻣﺤﻤﺪ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻣﻘﺪﻡ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻭﺳﻴﺪ ﻭﻟﺪ ﺁﺩﻡ ﻓﻲ ﻓﺘﺢ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﺸﻔﺎﻋﺔ).
ﺃﻱ، ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ ﻟﻠﻮﻻﻳﺔ ﻫﻮ ﺻﻮﺭﺓ ﺩﺭﺟﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺭﺟﺎﺕ ﻭﺣﺴﻨﺔ ﻣﻦ ﺣﺴﻨﺎﺕ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﺮﺳﻞ ﻭﻣﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮﻫﺎ. ﻭﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺴﻨﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴﻤﻰ ﺑﺎﻟﻮﺳﻴﻠﺔ ﺃﻋﻠﻰ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﺠﻨﺎﻥ. ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍﻟﻤﺤﻤﻮﺩ ﺍﻟﻤﻮﻋﻮﺩ ﻟﻠﻨﺒﻲ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ.
(ﻓﻌﻴﻦ ﺣﺎﻻ ﺧﺎﺻﺎ، ﻣﺎ ﻋﻤﻢ) ﺃﻱ، ﻋﻴﻦ ﺃﻥ ﺳﻴﺎﺩﺗﻪ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﻭﻛﻮﻧﻪ ﻣﻘﺪﻣﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﻌﻴﻨﻪ ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻓﻲ ﺣﺎﻝ ﺍﻟﺸﻔﺎﻋﺔ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ.
ﻭ "ﻣﺎ ﻋﻤﻢ" ﻟﻴﻠﺰﻡ ﺗﻘﺪﻣﻪ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﻭﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﻭﺍﻟﻜﻠﻴﺔ، ﻟﺬﻟﻚ ﻗﺎﻝ: "ﺃﻧﺘﻢ ﺃﻋﻠﻢ ﺑﺄﻣﻮﺭ ﺩﻧﻴﺎﻛﻢ". (ﻭﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﺍﻟﺨﺎﺹ) ﺃﻱ ﺣﺎﻝ ﺍﻟﺸﻔﺎﻋﺔ.
(ﺗﻘﺪﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ ﻣﺎ ﺷﻔﻊ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻤﻨﺘﻘﻢ ﻓﻲ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺒﻼﺀ ﺇﻻ ﺑﻌﺪ ﺷﻔﺎﻋﺔ ﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻴﻦ، ﻓﻔﺎﺯ ﻣﺤﻤﺪ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﺑﺎﻟﺴﻴﺎﺩﺓ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍﻟﺨﺎﺹ) ﻭﻫﻮ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻟﺸﻔﺎﻋﺔ. (ﻓﻤﻦ ﻓﻬﻢ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﻭﺍﻟﻤﻘﺎﻣﺎﺕ ﻟﻢ ﻳﻌﺴﺮﻩ ﻗﺒﻮﻝ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﻼﻡ).
ﺗﻘﺪﻣﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﺟﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ: ﺇﻥ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﻫﻮ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﻳﻔﺘﺢ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﺸﻔﺎﻋﺔ، ﻓﻴﺸﻔﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻠﻖ، ﺛﻢ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ، ﺛﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ، ﺛﻢ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻮﻥ، ﻭﺁﺧﺮ ﻣﻦ ﻳﺸﻔﻊ ﻫﻮ ﺃﺭﺣﻢ ﺍﻟﺮﺍﺣﻤﻴﻦ. ﻭﻣﻦ ﻳﻔﻬﻢ ﻭﻳﻄﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪﻳﺔ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻤﺘﻜﺜﺮﺓ ﻭﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻛﻞ ﻣﻮﺟﻮﺩ ﻟﻪ ﺳﻴﺎﺩﺓ ﻓﻲ ﻣﺮﺗﺒﺘﻪ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻟﻜﻞ ﺍﺳﻢ ﺳﻠﻄﻨﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻪ، ﻻ ﻳﻌﺴﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﻗﺒﻮﻝ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﺃﻻ ﺗﺮﻯ ﺃﻥ "ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ" ﻣﻊ ﺃﻧﻪ ﺍﺳﻢ ﺟﺎﻣﻊ ﻟﻸﺳﻤﺎﺀ ﻭﻟﻪ ﺍﻟﺤﻴﻄﺔ ﺍﻟﺘﺎﻣﺔ، ﻳﺸﻔﻊ ﻋﻨﺪ "ﺍﻟﻤﻨﺘﻘﻢ" ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻣﻦ ﺳﺪﻧﺘﻪ ﺑﻌﺪ ﺷﻔﺎﻋﺔ ﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻴﻦ ﻛﻠﻬﻢ ﻭﺫﻟﻚ ﺍﻟﺘﺄﺧﺮ ﻻ ﻳﻮﺟﺐ ﻧﻘﺼﻪ.
ﻭﺳﺮ ﺫﻟﻚ ﺃﻥ "ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ" ﺟﺎﻣﻊ ﻟﻸﺳﻤﺎﺀ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻭﻣﻦ ﺟﻤﻠﺘﻬﺎ "ﺍﻟﻤﻨﺘﻘﻢ"، ﻓﻬﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻇﻬﺮ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﺑﺼﻔﺔ ﺍﻻﻧﺘﻘﺎﻡ ﻭﺻﺎﺭ ﻣﻨﺘﻘﻤﺎ، ﻛﻤﺎ ﻇﻬﺮ ﻓﻲ ﻣﻮﺍﻃﻦ ﺃﺧﺮ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎﻭﻳﺔ ﻭﺍﻷﺧﺮﺍﻭﻳﺔ ﺑﺼﻔﺔ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍﻟﻤﻔﻬﻮﻣﺔ ﻣﻦ ﻇﺎﻫﺮ ﺍﺳﻤﻪ، ﻭﻟﻬﺬﺍ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺣﻜﺎﻳﺔ ﻋﻦ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ: "ﻳﺎ ﺃﺑﺖ ﺇﻧﻲ ﺃﺧﺎﻑ ﺃﻥ ﻳﻤﺴﻚ ﻋﺬﺍﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ".
ﻓﻈﻬﺮ ﺳﺮ ﺍﻷﻭﻟﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻵﺧﺮﻳﺔ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﻔﺎﻋﺔ. 
(ﻭﺃﻣﺎ ﺍﻟﻤﻨﺢ ﺍﻷﺳﻤﺎﺋﻴﺔ، ﻓﺎﻋﻠﻢ ﺃﻥ ﻣﻨﺢ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺧﻠﻘﻪ ﺭﺣﻤﺔ ﻣﻨﻪ ﺑﻬﻢ. ﻭﻫﻲ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ: ﻓﺈﻣﺎ ﺭﺣﻤﺔ ﺧﺎﻟﺼﺔ ﻛﺎﻟﻄﻴﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺯﻕ ﺍﻟﻠﺬﻳﺬ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﺍﻟﺨﺎﻟﺺ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ، ﻭﻳﻌﻄﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ، ﻓﻬﻮ ﻋﻄﺎﺀ ﺭﺣﻤﺎﻧﻲ.
ﻭﺇﻣﺎ ﺭﺣﻤﺔ ﻣﻤﺘﺰﺟﺔ ﻛﺸﺮﺏ ﺍﻟﺪﻭﺍﺀ ﺍﻟﻜﺮﻳﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻘﺐ ﺷﺮﺑﻪ ﺍﻟﺮﺍﺣﺔ، ﻭﻫﻮ ﻋﻄﺎﺀ ﺇﻟﻬﻲ.
ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺇﻃﻼﻕ ﻋﻄﺎﺋﻪ ﻣﻨﻪ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻱ ﺳﺎﺩﻥ ﻣﻦ ﺳﺪﻧﺔ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ).
ﻟﻤﺎ ﻓﺮﻉ ﻣﻦ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﺍﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ، ﻭﻣﺎ ﺍﻧﺠﺮ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﺇﻟﻴﻪ، ﺷﺮﻉ ﻓﻲ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﺍﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﻷﺳﻤﺎﺋﻴﺔ ﻭﻣﻨﺤﻬﺎ، ﻓﻘﺎﻝ: (ﺍﻋﻠﻢ، ﺃﻥ ﻣﻨﺢ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺧﻠﻘﻪ ﺭﺣﻤﺔ ﻣﻨﻪ ﺑﻬﻢ) ﺃﻱ، ﺇﻥ ﺍﻟﻤﻨﺢ ﻭﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﻻ ﺗﻔﻴﺾ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﻤﺸﺘﻤﻠﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻭﺍﻟﺼﻔﺎﺕ، ﻟﻜﻦ ﻻ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺫﺍﺗﻬﺎ ﺑﻞ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺻﻔﺎﺗﻬﺎ ﻭﺃﺳﻤﺎﺋﻬﺎ.
ﻭﺃﻭﻝ ﻣﺎ ﻳﻔﻴﺾ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺭﺣﻤﺔ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻭﺍﻟﺤﻴﺎﺓ، ﺛﻢ ﻣﺎ ﻳﺘﺒﻌﻬﻤﺎ.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الخامس .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 9:57 am

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الخامس .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية  الجزء الخامس

ﻭﻫﻲ ﻳﻨﻘﺴﻢ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﻗﺴﺎﻡ: ﺭﺣﻤﺔ ﻣﺤﻀﺔ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﻭﺍﻟﺒﺎﻃﻦ، ﻭﺭﺣﻤﺔ ﻣﻤﺘﺰﺟﺔ.
ﻭﻫﻲ ﺇﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﺭﺣﻤﺔ ﻭﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﻃﻦ ﻧﻘﻤﺔ، ﺃﻭ ﺑﺎﻟﻌﻜﺲ.
ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺃﻣﻴﺮ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ: (ﺳﺒﺤﺎﻥ ﻣﻦ ﺍﺗﺴﻌﺖ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﻷﻭﻟﻴﺎﺋﻪ ﻓﻲ ﺷﺪﺓ ﻧﻘﻤﺘﻪ، ﻭﺍﺷﺘﺪﺕ ﻧﻘﻤﺘﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻋﺪﺍﺋﻪ ﻓﻲ ﺳﻌﺔ ﺭﺣﻤﺘﻪ).
ﺍﻷﻭﻟﻰ، ﻛﺎﻟﺮﺯﻕ ﺍﻟﻠﺬﻳﺬ ﺍﻟﻄﻴﺐ، ﺃﻱ ﺍﻟﺤﻼﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻭﻛﺎﻟﻌﻠﻮﻡ ﻭﺍﻟﻤﻌﺎﺭﻑ ﺍﻟﻨﺎﻓﻌﺔ ﻓﻲ ﺍﻵﺧﺮﺓ.
ﻭﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ، ﻛﺎﻷﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﻤﻼﺋﻤﺔ ﻟﻠﻄﺒﻊ، ﻛﺄﻛﻞ ﺍﻟﺤﺮﺍﻡ ﻭ ﺷﺮﺏ ﺍﻟﺨﻤﺮ ﻭﺳﺎﺋﺮ ﺍﻟﻔﺴﻮﻕ ﺍﻟﻤﻮﺍﻓﻘﺔ ﻟﻠﻨﻔﺲ ﺍﻟﻤﺒﻌﺪﺓ ﻟﻠﻘﻠﺐ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻖ.
ﻭﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ، ﻛﺸﺮﺏ ﺍﻟﺪﻭﺍﺀ ﺍﻟﻜﺮﻳﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻘﺐ ﺷﺮﺑﻪ ﺍﻟﺮﺍﺣﺔ ﻭﺍﻟﺼﺤﺔ. ﻭﺍﻷﻭﻟﻰ ﻋﻄﺎﺀ ﺭﺣﻤﺎﻧﻲ ﺑﺤﺴﺐ ﻇﻬﻮﺭ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍﻟﻤﺤﻀﺔ ﻣﻨﻪ، ﻫﺬﺍ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻪ ﺻﻔﺔ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻺﺳﻢ "ﺍﻟﻤﻨﺘﻘﻢ" ﻻ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻪ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻣﻊ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺼﻔﺎﺕ، ﻛﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: "ﻗﻞ ﺍﺩﻋﻮﺍ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻭ ﺍﺩﻋﻮﺍ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ".
ﻭﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻋﻄﺎﺀ ﺇﻟﻬﻲ، ﺃﻱ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺟﺎﻣﻌﻴﺘﻪ ﻟﻠﺼﻔﺎﺕ ﻻ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺍﻟﺬﺍﺕ.
ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﺇﻻ ﻋﻠﻰ ﻳﺪ ﺳﺎﺩﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﺪﻧﺔ، ﺃﻱ ﺧﺎﺩﻡ ﻣﻦ ﺧﺪﻣﺔ ﺍﻷﺷﻴﺎﺀ، ﻷﻥ ﺍﻟﻌﻄﺎﺀ ﻻ ﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻌﻴﻨﺎ. ﻭﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ، ﻳﻨﺴﺐ ﺇﻟﻰ ﺍﺳﻢ ﻳﻘﺘﻀﻴﻪ ﻓﻴﻨﺴﺐ ﺇﻟﻴﻪ: (ﻓﺘﺎﺭﺓ ﻳﻌﻄﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻱ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ، ﻓﻴﺨﻠﺺ ﺍﻟﻌﻄﺎﺀ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻮﺏ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﻼﺋﻢ ﺍﻟﻄﺒﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ) ﺃﻱ، ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻏﻴﺮ ﺧﺎﻟﺺ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺂﻝ. ﻓﺈﻥ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﺍﻟﻤﻮﺍﻓﻘﺔ ﻟﻠﻄﺒﻊ ﻏﺎﻟﺒﺎ ﻣﻤﺎ ﻳﺘﻀﻤﻦ ﺍﻟﻨﻘﻤﺔ، ﻓﺘﺪﺧﻞ ﺗﺤﺖ ﺣﻜﻢ )ﺍﻟﻤﻨﺘﻘﻢ( ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺍﻵﺧﺮﺓ.
(ﺃﻭ ﻻ ﻳﻨﻴﻞ ﺍﻟﻐﺮﺽ) ﺃﻱ، ﻳﺨﻠﺺ ﻣﻤﺎ ﻳﻤﻨﻊ ﻣﻦ ﻧﻴﻞ ﺍﻟﻐﺮﺽ.
(ﻭﻣﺎ ﺃﺷﺒﻪ ﺫﻟﻚ) ﻣﻦ ﻣﻮﺟﺒﺎﺕ ﺍﻟﻜﺪﻭﺭﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺃﻭ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﻧﻊ ﻟﺤﺼﻮﻝ ﺍﻟﻐﺮﺽ. ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻄﺎﺀ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻱ "ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ" ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻌﻄﺎﺀ ﺍﻟﺮﺣﻤﺎﻧﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﺫﻛﺮ ﺃﻧﻪ ﺭﺣﻤﺔ ﻣﺤﻀﺔ ﻟﺘﻀﻤﻨﻪ ﺍﻟﻨﻘﻤﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺎﻝ .
(ﻭﺗﺎﺭﺓ ﻳﻌﻄﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻱ ﺍﻟﻮﺍﺳﻊ ﻓﻴﻌﻢ) ﺃﻱ، ﻳﺸﻤﻞ ﺍﻟﺨﻼﺋﻖ ﻋﻤﻮﻣﺎ ﻛﺎﻟﺼﺤﺔ ﻭﺍﻟﺮﺯﻕ.
(ﺃﻭ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻱ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ، ﻓﻴﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺍﻷﺻﻠﺢ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ). ﺇﺫ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﻻ ﻳﻌﻤﻞ ﺇﻻ ﺑﻤﻘﺘﻀﻰ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ، ﻭﻻ ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻻ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺼﻠﺤﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ، ﻓﻴﻌﻄﻰ ﻣﺎ ﻳﻨﺎﺳﺐ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﻭﺍﻟﻮﻗﺖ.
(ﺃﻭ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻱ ﺍﻟﻮﻫﺎﺏ، ﻓﻴﻌﻄﻰ ﻟﻴﻨﻌﻢ. ﻭﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻊ ﺍﻟﻮﺍﻫﺐ ﺗﻜﻠﻴﻒ ﺍﻟﻤﻌﻄﻰ ﻟﻪ ﺑﻌﻮﺽ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺷﻜﺮ ﺃﻭ ﻋﻤﻞ) ﺃﻱ، ﻳﻌﻄﻰ ﺍﻟﻮﺍﻫﺐ ﺇﻇﻬﺎﺭﺍ ﻹﻧﻌﺎﻣﻪ ﻭﺟﻮﺩﻩ ﺑﻼ ﻃﻠﺐ ﻋﻮﺽ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﻫﻮﺏ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺷﻜﺮ ﺃﻭ ﻋﻤﻞ ﺃﻭ ﺣﻤﺪ ﻭﺛﻨﺎﺀ.
ﻭﻭﺟﻮﺏ ﺷﻜﺮ ﺍﻟﻤﻨﻌﻢ ﻷﺟﻞ ﻋﺒﻮﺩﻳﺘﻪ ﻻ ﻹﻧﻌﺎﻡ ﺍﻟﻤﻨﻌﻢ، ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻦ ﺷﻜﺮ ﻟﻺﻧﻌﺎﻡ ﻳﻜﻮﻥ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻤﻨﻌﻢ ﻻ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺤﻖ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻫﻮ ﻫﻮ. ﻭﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻗﻮﻟﻪ: "ﻟﻴﻨﻌﻢ" ﻣﻔﺘﻮﺡ ﺍﻟﻴﺎﺀ: ﻓﻴﻌﻄﻰ ﻟﻴﻨﻌﻢ ﺍﻟﻤﻌﻄﻰ ﻟﻪ ﻟﻴﻌﻴﺶ ﻃﻴﺒﺎ.
(ﺃﻭ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻱ ﺍﻟﺠﺒﺎﺭ، ﻓﻴﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻮﻃﻦ ﻭﻣﺎ ﻳﺴﺘﺤﻘﻪ) ﺃﻱ، ﻳﻨﻈﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﻭﻳﺠﺒﺮ ﺍﻧﻜﺴﺎﺭﻩ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﺳﺘﺤﻘﺎﻗﻪ. ﺃﻭ ﻳﻘﻬﺮ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻣﺘﺠﺒﺮﺍ ﻋﻠﻰ ﻋﺒﺎﺩ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻣﺘﻜﺒﺮﺍ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﺇﺫ "ﺍﻟﺠﺒﺎﺭ" ﻳﺴﺘﻌﻤﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻌﻨﻴﻴﻦ. (ﺃﻭ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻱ ﺍﻟﻐﻔﺎﺭ، ﻓﻴﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺤﻞ ﻭﻣﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺣﺎﻝ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺍﻟﻌﻘﻮﺑﺔ، ﻓﻴﺴﺘﺮﻩ ﻋﻨﻬﺎ، ﺃﻭ ﻋﻠﻰ ﺣﺎﻝ ﻻ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺍﻟﻌﻘﻮﺑﺔ، ﻓﻴﺴﺘﺮﻩ ﻋﻦ ﺣﺎﻝ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺍﻟﻌﻘﻮﺑﺔ، ﻓﻴﺴﻤﻰ ﻣﻌﺼﻮﻣﺎ ﻭﻣﻌﺘﻨﻰ ﺑﻪ ﻭﻣﺤﻔﻮﻇﺎ) ﻣﻌﻨﺎﻩ ﻇﺎﻫﺮ.
ﻭ "ﺍﻟﺴﺘﺮ" ﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﻤﺤﻮﻫﺎ ﻭﺇﺛﺒﺎﺕ ﻣﺎ ﻳﻘﺎﺑﻠﻬﺎ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: "ﺃﻭﻟﺌﻚ ﻳﺒﺪﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﻴﺌﺎﺗﻬﻢ ﺣﺴﻨﺎﺕ ".
ﺃﻭ ﺑﺈﻋﻄﺎﺀ ﻧﻮﺭ ﻳﺴﺘﺮ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ ﻟﺌﻼ ﻳﻄﻠﻊ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﺳﻮﻯ ﺍﻟﺤﻖ، ﺃﻭ ﺑﺎﻟﻌﻔﻮ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻌﺪ ﺇﻃﻼﻋﻬﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﺃﻭ ﻳﺤﻔﻈﻪ ﻋﻤﺎ ﻳﺸﻴﻨﻪ ﻭﻳﺴﺘﺤﻖ ﺑﻪ ﺍﻟﻌﻘﻮﺑﺔ، ﻓﻴﺒﻘﻰ ﻣﺤﻔﻮﻇﺎ ﻣﻌﺘﻨﻰ ﺑﻪ.
(ﻭﻏﻴﺮ ﺫﻟﻚ ﻣﻤﺎ ﻳﺸﺎﻛﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻮﻉ) ﺃﻱ، ﻭﻗﺲ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﻏﻴﺮ ﻣﺎ ﺫﻛﺮ ﻣﻤﺎ ﻳﺸﺎﻛﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻄﺎﺀ ﺍﻷﺳﻤﺎﺋﻲ.
(ﻭﺍﻟﻤﻌﻄﻰ ﻫﻮ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺧﺎﺯﻥ ﻟﻤﺎ ﻋﻨﺪﻩ ﻓﻲ ﺧﺰﺍﺋﻨﻪ. ﻓﻤﺎ ﻳﺨﺮﺟﻪ ﺇﻻ ﺑﻘﺪﺭ ﻣﻌﻠﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻱ ﺍﺳﻢ ﺧﺎﺹ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻷﻣﺮ). ﺃﻱ، ﺍﻟﻤﻌﻄﻰ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﻭﻏﻴﺮﻫﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻠﻪ، ﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﺳﻢ ﺧﺎﺹ ﻭﻫﻮ ﺧﺎﺯﻥ ﻟﻤﺎ ﻋﻨﺪﻩ: "ﻭﻟﻠﻪ ﺧﺰﺍﺋﻦ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﺍﻷﺭﺽ".
ﻭﻫﻲ ﺃﻋﻴﺎﻧﻬﺎ ﺍﻟﻤﻨﺘﻘﺸﺔ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺃﻭ ﻳﻜﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ. ﻓﻤﺎ ﻳﺨﺮﺟﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻐﻴﺐ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ ﺇﻻ ﺑﻘﺪﺭ ﻣﻌﻠﻮﻡ. ﻭﻋﻠﻰ ﻳﺪﻱ ﺍﺳﻢ ﺧﺎﺹ ﻳﻜﻮﻥ ﺣﻜﻢ ﺫﻟﻚ ﺍﻷﻣﺮ ﺑﻴﺪﻩ.
(ﻓﺄﻋﻄﻰ ﻛﻞ ﺷﺊ ﺧﻠﻘﻪ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻱ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻟﻌﺪﻝ ﻭﺃﺧﻮﺍﺗﻪ) ﺃﻱ، ﺃﻋﻄﻰ ﻛﻞ ﺷﺊ ﻣﻦ ﺍﻷﺷﻴﺎﺀ ﻣﺎ ﺍﻗﺘﻀﻰ ﻋﻴﻨﻪ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺕ، ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﺳﻤﻪ ﺍﻟﻌﺪﻝ ﻭ ﺃﺧﻮﺍﺗﻪ ﻙ "ﺍﻟﻤﻘﺴﻂ" ﻭ "ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ". ﻓﻼ ﻳﻘﺎﻝ: ﻟﻢ ﻛﺎﻥ ﻫﺬﺍ ﻓﻘﻴﺮﺍ ﻭﺫﺍﻙ ﻏﻨﻴﺎ ﻭﻫﺬﺍ ﻋﺎﺻﻴﺎ ﻭﺫﺍﻙ ﻣﻄﻴﻌﺎ؟ ﻛﻤﺎ ﻻ ﻳﻘﺎﻝ ﻟﻢ ﻛﺎﻥ ﻫﺬﺍ ﺇﻧﺴﺎﻧﺎ ﻭﺫﺍﻙ ﻛﻠﺒﺎ.
ﻷﻥ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﻌﺪﻝ ﻻ ﻳﻌﻄﻰ ﻛﻞ ﺷﺊ ﺇﻻ ﻣﺎ ﺗﻌﻄﻴﻪ ﻋﻴﻨﻪ. ﻓﻠﻠﻪ ﺍﻟﺤﺠﺔ ﺍﻟﺒﺎﻟﻐﺔ.
(ﻭﺃﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ ﻻ ﺗﺘﻨﺎﻫﻰ، ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻌﻠﻢ ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻋﻨﻬﺎ) ﺃﻱ، ﺑﻤﺎ ﻳﺼﺪﺭ ﻭﻳﺤﺼﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻵﺛﺎﺭ ﻭﺍﻷﻓﻌﺎﻝ.
(ﻭﻣﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻨﻬﺎ ﻏﻴﺮ ﻣﺘﻨﺎﻩ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺃﺻﻮﻝ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ ﻫﻲ ﺃﻣﻬﺎﺕ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ، ﺃﻭ ﺣﻀﺮﺍﺕ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ) ﺃﻱ، ﻭﺃﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﺴﺪﻧﺔ ﻏﻴﺮ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ، ﻟﻜﻦ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻷﻣﻬﺎﺕ ﻭﺍﻷﺻﻮﻝ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ ﻛﺘﻨﺎﻫﻲ ﺃﻣﻬﺎﺕ ﻣﻈﺎﻫﺮﻫﺎ، ﻭﻫﻲ ﺍﻷﺟﻨﺎﺱ ﻭﺍﻷﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻣﻊ ﻋﺪﻡ ﺗﻨﺎﻫﻰ ﺍﻷﺷﺨﺎﺹ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﺖ ﺃﻧﻮﺍﻋﻬﺎ.
ﻭﻗﻮﻟﻪ: "ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻌﻠﻢ" ﺍﺳﺘﺪﻻﻝ ﻣﻦ ﺍﻷﺛﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺆﺛﺮ. ﺃﻱ، ﻷﻥ ﻛﻞ ﺍﺳﻢ ﻟﻪ ﻋﻤﻞ ﺧﺎﺹ ﺑﻪ، ﻭﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﻏﻴﺮ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ، ﻓﻬﻲ ﻣﺴﺘﻨﺪﺓ ﺇﻟﻰ ﺃﺳﻤﺎﺀ ﻏﻴﺮ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ ﻫﻲ ﺣﺎﺻﻠﺔ ﻣﻦ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺭﻗﺎﺋﻖ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ، ﻭﻛﻠﻬﺎ ﺩﺍﺧﻠﺔ ﺗﺤﺖ ﺣﻴﻄﺔ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﻣﻬﺎﺕ.
ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻻﺳﺘﺪﻻﻝ ﺗﻨﺒﻴﻪ ﻟﻠﻄﺎﻟﺐ، ﻷﻧﻪ ﻣﺴﺘﻨﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻢ، ﺑﻞ ﻣﺴﺘﻨﺪﻩ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﺍﻟﺼﺮﻳﺢ ﺍﻟﺘﺎﻡ.
(ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻓﻤﺎ ﺛﻢ ﺇﻻ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﺗﻘﺒﻞ ﺟﻤﻴﻊ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﺴﺐ ﻭﺍﻹﺿﺎﻓﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻜﻨﻰ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﺎﻷﺳﻤﺎﺀ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ) ﺃﻱ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﻣﺘﻜﺜﺮﺓ، ﻟﻜﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﺎ ﺛﻢ ﺇﻻ ﺫﺍﺕ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﺗﻘﺒﻞ ﺟﻤﻴﻊ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﺴﺐ ﻭﺍﻹﺿﺎﻓﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻌﺘﺒﺮ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ، ﻭﺗﺴﻤﻰ بـ (ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ). (ﻭﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻌﻄﻰ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻜﻞ ﺍﺳﻢ ﻳﻈﻬﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﺎﻻ ﻳﺘﻨﺎﻫﻰ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻳﺘﻤﻴﺰ) ﺫﻟﻚ ﺍﻻﺳﻢ.
(ﺑﻬﺎ ﻋﻦ ﺍﺳﻢ ﺁﺧﺮ، ﻭﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺑﻬﺎ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺍﻻﺳﻢ ﻫﻲ ﻋﻴﻨﻪ ﻻ ﻣﺎ ﻳﻘﻊ ﻓﻴﻪ ﺍﻻﺷﺘﺮﺍﻙ).
ﺃﻱ، ﺍﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻳﻘﺘﻀﻰ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻜﻞ ﺍﺳﻢ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺘﻤﻴﺰﺓ ﻟﻪ ﻋﻦ ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ. ﻭﻟﻴﺴﺖ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺇﻻ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﺼﻔﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﻋﺘﺒﺮﺕ ﻣﻊ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻭ ﺻﺎﺭﺕ ﺍﺳﻤﺎ.
ﻓﺎﻷﺳﻤﺎﺀ، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﻜﺜﺮﻫﺎ، ﻟﻴﺴﺖ ﺇﻻ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﻨﺴﺐ ﻭﺍﻹﺿﺎﻓﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﻤﺎﺓ ﺑﺎﻟﺼﻔﺎﺕ، ﺇﺫ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻣﺸﺘﺮﻛﺔ ﻓﻴﻬﺎ، ﻓﻼ ﻓﺮﻕ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﻭﺍﻟﺼﻔﺎﺕ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻗﺮﺭ.
ﻭﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺃﻥ ﺍﻻﺳﻢ ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﺠﻤﻮﻉ، ﻳﺤﺼﻞ ﺍﻟﻔﺮﻕ. ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻘﺪﻳﺮﻳﻦ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺸﺘﺮﻙ ﺍﺳﻤﺎ، ﻓﺈﻥ "ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻥ" ﻣﺸﺘﺮﻙ ﺑﻴﻦ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﻏﻴﺮﻩ.
ﻭﻻ ﻳﻘﺎﻝ، ﺇﻥ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻫﻲ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻥ. ﺑﻞ ﺍﻟﻨﺎﻃﻖ ﺃﻭ ﻣﺎ ﻳﺤﺼﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ.
ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻨﺎﻃﻖ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻣﻔﻬﻮﻣﻪ ﻣﺎﻟﻪ ﺍﻟﻨﻄﻖ، ﻟﻜﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﺊ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﻫﻮ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻥ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ، ﻓﺎﻟﻨﺎﻃﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﻫﻮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ.
(ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻷﻋﻄﻴﺎﺕ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﻛﻞ ﺃﻋﻄﻴﺔ)ﻋﻠﻰ ﻭﺯﻥ "ﺃﻓﻌﻠﺔ". ﺃﻱ، ﻳﺘﻤﻴﺰ ﻛﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ. (ﻋﻦ ﻏﻴﺮﻫﺎ).
ﻭﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ "ﺃﻋﻄﻴﺔ" ﻋﻠﻰ ﻭﺯﻥ "ﺃﻣﻨﻴﺔ"، ﻭﺍﻷﻋﻄﻴﺎﺕ، ﺑﺘﺸﺪﻳﺪ ﺍﻟﻴﺎﺀ ﻭﺿﻢ ﺍﻟﻬﻤﺰﺓ، ﺟﻤﻌﻬﺎ، ﻟﺬﻟﻚ ﻗﺎﻝ: (ﺑﺸﺨﺼﻴﺘﻬﺎ، ﻭ ﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﻣﻦ ﺃﺻﻞ ﻭﺍﺣﺪ) ﻣﻨﺒﻊ ﺍﻟﺨﻴﺮﺍﺕ ﻭﺍﻟﻜﻤﺎﻻﺕ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻻﺳﻢ "ﺍﻟﻮﻫﺎﺏ" ﻭ "ﺍﻟﻤﻌﻄﻰ" ﻭﺃﻣﺜﺎﻝ ﺫﻟﻚ.
(ﻓﻤﻌﻠﻮﻡ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺧﺮﻯ، ﻭﺳﺒﺐ ﺫﻟﻚ ﺗﻤﻴﺰ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ).
ﺷﺒﻪ ﺍﻣﺘﻴﺎﺯ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ ﻭﺭﺟﻮﻋﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﺑﺎﻣﺘﻴﺎﺯ ﻣﻮﺍﻫﺒﻬﺎ ﻭ ﺭﺟﻮﻋﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺃﺻﻞ ﻭﺍﺣﺪ.
ﺛﻢ ﺑﻴﻦ ﺃﻥ ﺳﺒﺐ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﻣﺘﻴﺎﺯ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﻫﻮ ﺍﻻﻣﺘﻴﺎﺯ ﺍﻷﺳﻤﺎﺋﻲ، ﺇﺫ ﺍﺧﺘﻼﻑ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻻﺕ ﻣﺴﺘﻨﺪﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﺧﺘﻼﻑ ﻋﻠﻠﻬﺎ، ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﻟﻜﻞ ﺍﺳﻢ ﻋﻄﺎﺀ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﻤﺮﺗﺒﺔ ﻭﻗﺎﺑﻠﻴﺔ ﻋﻴﻦ ﻫﻲ ﻣﻈﻬﺮﻩ.
ﻭﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ، (ﻓﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻻﺗﺴﺎﻋﻬﺎ ﺷﺊ ﻳﺘﻜﺮﺭ ﺃﺻﻼ ﻫﺬﺍ ﻫﻮ ﺍﻟﺤﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﻧﻌﻮﻝ ﻋﻠﻴﻪ) ﺃﻱ، ﻧﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻪ.
ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﻏﻴﺮ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ، ﻭﺍﻟﻔﺎﺋﺾ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﻦ ﺍﺳﻢ ﻭﺍﺣﺪ ﺑﺤﺴﺐ ﺷﺨﺼﻴﺘﻪ ﻳﻐﺎﻳﺮ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﺜﻠﻪ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻤﺜﻠﻴﻦ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﺘﻐﺎﺋﺮﺍﻥ، ﻓﻼ ﺗﻜﺮﺍﺭ ﺃﺻﻼ.
ﻟﺬﻟﻚ ﻗﻴﻞ: ﺇﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﻻ ﻳﺘﺠﻠﻰ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﻣﺮﺗﻴﻦ.
ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺩ ﻋﻨﺪﻩ ﺃﻥ ﺍﻷﻋﺮﺍﺽ ﻭﺍﻟﺠﻮﺍﻫﺮ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺁﻥ ﻳﺘﺒﺪﻝ، ﻛﻤﺎ ﺳﻴﺄﺗﻲ ﻭﻻ ﺗﻜﺮﺍﺭ، ﻗﺎﻝ: (ﻭﻫﺬﺍ ﻫﻮ ﺍﻟﺤﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﻧﻌﻮﻝ ﻋﻠﻴﻪ) ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻣﻠﺰﻭﻡ ﻛﻤﺎﻻﺕ ﺍﻟﺸﺊ ﺣﺎﺻﻞ ﻟﻠﻤﻮﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺁﻥ ﺣﺼﻮﻻ ﺟﺪﻳﺪﺍ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: "ﺑﻞ ﻫﻢ ﻓﻲ ﻟﺒﺲ ﻣﻦ ﺧﻠﻖ ﺟﺪﻳﺪ".
ﻓﺤﺼﻮﻝ ﻣﺎ ﻳﺘﺒﻌﻪ ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﺘﺠﺪﺩ ﻋﻠﻰ ﻃﺮﻳﻖ ﺍﻷﻭﻟﻰ.
ﻭ ﻳﻈﻬﺮ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﻟﻤﻦ ﺗﺤﻘﻖ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻌﻄﻰ ﻟﻠﻮﺟﻮﺩ ﻫﻮ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻘﻂ، ﺳﻮﺍﺀ ﻛﺎﻥ ﺑﻄﺮﻳﻖ ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﺃﻭ ﺑﺎﻹﺭﺍﺩﺓ ﻭﺍﻻﺧﺘﻴﺎﺭ ﻭﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺃﻭ ﺑﻮﺍﺳﻄﺔ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﻭﺻﻔﺎﺗﻪ ﻭﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﻭﻭﺳﺎﺋﻂ، ﻭﻓﻴﻀﻪ ﺩﺍﺋﻢ ﻻ ﻳﻨﻘﻄﻊ.
ﻓﺎﻟﻤﺴﺘﻔﻴﺾ، ﺳﻮﺍﺀ ﻛﺎﻥ ﻋﻘﻮﻻ ﻭﻧﻔﻮﺳﺎ ﻣﺠﺮﺩﺓ ﺃﻭ ﺃﺷﻴﺎﺀ ﺯﻣﺎﻧﻴﺔ، ﻳﺤﺼﻞ ﻟﻬﻢ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺁﻥ ﻭﺟﻮﺩ ﻣﺜﻞ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻷﻭﻝ ﻭﻻ ﺗﻜﺮﺍﺭ، ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﺒﻌﻪ. ﻭﺍﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ.
(ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻢ ﺷﻴﺚ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ. ﻭﺭﻭﺣﻪ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻤﺪ ﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻓﻲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﻣﻦ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡ).
ﺃﻱ، ﻋﻠﻢ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﺮﺗﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍﻷﻋﻄﻴﺎﺕ، ﻛﺎﻥ ﻣﺨﺘﺼﺎ ﺑﺸﻴﺚ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺃﻭﻻﺩ ﺁﺩﻡ ﻣﻦ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺳﻮﻯ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ، ﻓﺈﻧﻪ ﺁﺧﺬ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻤﺎﻻﺕ، ﻛﻤﺎ ﻳﺬﻛﺮﻩ. ﻟﺬﻟﻚ ﺧﺺ رضى الله عنه ﺍﻷﻋﻄﻴﺎﺕ ﻓﻲ ﺣﻜﻤﺘﻪ ﻭﻣﺮﺗﺒﺘﻪ.
ﻓﻤﻦ ﺭﻭﺣﻪ ﻳﺴﺘﻤﺪ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻠﻢ، ﻷﻥ ﻛﻞ ﻋﻴﻦ ﻣﺨﺘﺼﺔ ﺑﻤﺮﺗﺒﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺑﻬﺎ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﻋﻦ ﻏﻴﺮﻫﺎ، ﻓﻤﻈﻬﺮﻫﺎ ﻳﺄﺧﺬ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺬﺍﺗﻪ، ﻭﻏﻴﺮﻩ ﻳﺄﺧﺬ ﻣﻨﻪ ﺑﻘﺪﺭ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺑﻴﻨﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻈﻬﺮ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻛﻞ ﺍﺳﻢ ﻣﺨﺘﺺ ﺑﺼﻔﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ، ﺑﻬﺎ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﻋﻦ ﻏﻴﺮﻫﺎ.
ﻭﺃﻧﻤﺎ ﻗﺎﻝ: (ﻭ ﺭﻭﺣﻪ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻤﺪ) ﻷﻥ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻳﺄﺧﺬ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺑﺮﻭﺣﻪ ﻣﻦ ﺭﻭﺡ ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ، ﺑﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺃﻳﻀﺎ، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻭﻻﻳﺘﻪ، ﻳﺄﺧﺬ ﻣﺎ ﻳﺄﺧﺬ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻮﺍﺳﻄﺔ ﻣﺮﺗﺒﺘﻪ، ﻛﻤﺎ ﻣﺮ ﺑﻴﺎﻧﻪ ﻣﻦ ﺃﻧﻪ ﺻﺎﺣﺐ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻓﻠﻪ ﺍﻹﻣﺪﺍﺩ ﻭ ﺍﻹﻋﻄﺎﺀ ﻟﻠﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﻤﺄﺧﻮﺫ.
ﻭﻻ ﻳﻠﺰﻡ ﻣﻦ ﻛﻮﻥ ﺭﻭﺣﻪ ﻣﻤﺪﺍ ﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﻻ ﻳﺴﺘﻤﺪ ﺑﺮﻭﺣﻪ ﻣﻦ ﺭﻭﺡ ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ. (ﻣﺎ ﻋﺪﺍ ﺭﻭﺡ ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ، ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳﺄﺗﻴﻪ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ، ﻻ ﻣﻦ ﺭﻭﺡ ﻣﻦ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡ، ﺑﻞ ﻣﻦ ﺭﻭﺣﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻟﺠﻤﻴﻊ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡ). ﻇﺎﻫﺮ ﻣﻤﺎ ﻣﺮ.
ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ: (ﺑﻞ ﻣﻦ ﺭﻭﺣﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ) ﺃﻱ، ﻣﻦ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺭﻭﺣﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻟﺠﻤﻴﻊ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡ.
ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻗﻠﻨﺎ ﻛﺬﻟﻚ، ﻻﻥ ﺷﻴﺚ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﻭﺍﻟﻜﻤﻞ ﻭﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﻳﺄﺧﺬﻭﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﻭﺍﻟﺤﻜﻢ، ﻛﻤﺎ ﻳﺄﺧﺬ ﻣﺘﺒﻮﻋﻬﻢ ﻣﻨﻪ. ﻭﻗﺪ ﺻﺮﺡ ﺍﻟﺸﻴﺦ رضي الله عنه ﻓﻲ ﻣﻮﺍﺿﻊ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺘﻮﺣﺎﺕ ﺑﺬﻟﻚ.
ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﻟﺮﻭﺡ ﺍﻟﺨﺘﻢ ﺑﺎﻹﺻﺎﻟﺔ ﻭﻟﻐﻴﺮﻩ ﻧﺼﻴﺐ ﻣﻨﻬﺎ.
ﻗﺎﻝ رضى الله عنه (ﺑﻞ ﻣﻦ ﺭﻭﺣﻪ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻻ ﻳﻌﻘﻞ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻓﻲ ﺯﻣﺎﻥ ﺗﺮﻛﻴﺐ ﺟﺴﺪﻩ ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻱ). ﺃﻱ، ﻭﺇﻥ ﺣﺠﺒﻪ ﺗﺮﻛﻴﺐ ﺟﺴﺪﻩ ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻱ ﻋﻦ ﺗﻌﻘﻞ ﻣﺎ ﻗﻠﻨﺎ، ﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﺮﺗﺒﺘﻪ ﻭﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ﻳﻌﻠﻢ ﺫﻟﻚ.
ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ: "ﺃﻧﺘﻢ ﺃﻋﻠﻢ ﺑﺄﻣﻮﺭ ﺩﻧﻴﺎﻛﻢ". ﻣﻊ ﺃﻥ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﺪﻫﻢ ﺑﺎﻟﻌﻠﻢ ﺑﻬﺎ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻐﻠﺒﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﺍﻷﻭﻗﺎﺕ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺗﻌﻄﻴﻪ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ.
ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻗﻴﺪ ﺍﻟﺠﺴﺪ ﺏ "ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻱ"، ﻷﻥ ﺍﻟﺠﺴﺪ ﺍﻟﻤﺜﺎﻟﻲ ﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻲ ﻻ ﻳﻤﻨﻌﻪ ﻋﻦ ﺗﻌﻘﻞ ﻣﺎ ﻳﻌﻄﻴﻪ ﻣﺮﺗﺒﺘﻪ. ﻭﺍﻋﻠﻢ، ﺃﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻜﺎﻣﻞ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ﻋﺎﻟﻤﺎ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﻑ ﻭﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ، ﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻈﻬﺮ ﺫﻟﻚ ﺇﻻ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻈﻬﻮﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻌﻴﻨﻲ ﻭﺍﻟﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻤﺰﺍﺝ ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻱ، ﻷﻥ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺤﺲ ﻳﺤﺼﻞ ﺍﻟﻈﻬﻮﺭ ﺍﻟﺘﺎﻡ ﻟﻸﻋﻴﺎﻥ ﻓﻜﺬﻟﻚ ﺑﺎﻗﻲ ﻛﻤﺎﻻﺗﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﻘﻮﺓ ﻻ ﻳﻈﻬﺮ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﺇﻻ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻳﺘﺤﻘﻖ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﻭﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﺒﺪﻥ.
ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺗﺮﻛﻴﺒﻪ ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻱ ﺃﻭﻻ ﺳﺒﺐ ﺣﺠﺎﺑﻪ ﻭﻏﻔﻠﺘﻪ ﻏﺎﻟﺒﺎ ﻋﻦ ﻛﻤﺎﻟﻪ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﺍﻷﺯﻣﺎﻥ، ﻛﺰﻣﻦ ﺍﻟﺼﺒﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﻠﻮﻍ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ، ﻭﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﺃﻳﻀﺎ ﺑﻌﻴﻨﻪ ﺳﺒﺐ ﻇﻬﻮﺭ ﻛﻤﺎﻻﺗﻪ ﻭﻣﻌﺎﺭﻓﻪ.
ﻗﺎﻝ رضى الله عنه : (ﻓﻬﻮ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ﻭﺭﺗﺒﺘﻪ ﻋﺎﻟﻢ ﺑﺬﻟﻚ ﻛﻠﻪ ﺑﻌﻴﻨﻪ ) . ( ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺟﺎﻫﻞ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺗﺮﻛﻴﺒﻪ ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻱ) ﺃﻱ، ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﺎﻣﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻣﻦ ﺭﻭﺣﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺪﺩ ﻟﺠﻤﻴﻊ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡ، ﻋﺎﻟﻢ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ﻭﺭﺗﺒﺘﻪ ﺑﺄﻥ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡ ﻛﻠﻬﺎ ﻳﺴﺘﻤﺪ ﻣﻨﻪ ﻭﻫﻮ ﻳﻤﺪﻫﻢ ﻓﻲ ﻋﻠﻮﻣﻬﻢ ﻭ ﻛﻤﺎﻻﺗﻬﻢ، ﻭﻫﻮ ﺑﻌﻴﻨﻪ ﺟﺎﻫﻞ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﺮﻛﻴﺒﻪ ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻱ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﻭﺍﻹﻣﺪﺍﺩ.
فـ  "ﻣﻦ ﺣﻴﺚ" ﺍﻷﻭﻝ ﻣﺘﻌﻠﻖ بـ (ﻋﺎﻟﻢ)، ﻭﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﺏ (ﺟﺎﻫﻞ).
ﻗﻴﻞ : "ﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ "ﻣﺎ" ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ: "ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﺎ ﻫﻮ" ﺑﻤﻌﻨﻰ " ﻟﻴﺲ " ﻭ ﺧﺒﺮﻩ ﻣﺮﻓﻮﻉ، ﻋﻠﻰ ﻟﻐﺔ ﺗﻤﻴﻢ  ﻭﻓﻴﻪ ﻧﻈﺮ.
ﻷﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ ﺇﺛﺒﺎﺕ ﺍﻟﻀﺪﻳﻦ، ﻻ ﻧﻔﻰ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء السادس .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 9:58 am

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء السادس .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية  الجزء السادس

ﺑﻞ ﻫﻲ ﻣﻮﺻﻮﻟﺔ، ﺃﻭ ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﺸﺊ. ﻟﺬﻟﻚ ﺑﻴﻦ ﺑﻘﻮﻟﻪ: (ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺗﺮﻛﻴﺒﻪ ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻱ).
ﻭﻟﻴﺲ ﺑﻘﻮﻟﻪ: "ﺑﻌﻴﻨﻪ" ﺍﻟﻌﻴﻦ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﺑﻞ ﺗﺄﻛﻴﺪ. ﺃﻱ، ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻋﺎﻟﻢ ﺑﻌﻴﻨﻪ ﻫﻮ ﺟﺎﻫﻞ، ﻟﺬﻟﻚ ﻗﺎﻝ: (ﻓﻬﻮ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺠﺎﻫﻞ، ﻓﻴﻘﺒﻞ ﺍﻻﺗﺼﺎﻑ ﺑﺎﻷﺿﺪﺍﺩ). ﺃﻱ، ﻓﻲ ﻣﻘﺎﻡ ﻭﺍﺣﺪ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻳﻦ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﺗﺼﺎﻓﻪ ﺑﺎﻟﺼﻔﺎﺕ ﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ، ﻭﺃﻣﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﺗﺼﺎﻓﻪ ﺑﺎﻟﺼﻔﺎﺕ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻓﺒﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﻭﺍﺣﺪ ﻟﻤﺎ ﺳﻨﺒﻴﻨﻪ.
(ﻛﻤﺎ ﻗﻴﻞ ﺍﻷﺻﻞ ﺍﻻﺗﺼﺎﻑ ﺑﺬﻟﻚ، ﻛﺎﻟﺠﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﺠﻤﻴﻞ، ﻭﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﻭﺍﻟﺒﺎﻃﻦ، ﻭﺍﻷﻭﻝ ﻭﺍﻵﺧﺮ).
ﺃﻱ، ﻳﻘﺒﻞ ﺍﻟﻜﺎﻣﻞ ﺍﻻﺗﺼﺎﻑ ﺑﺎﻷﺿﺪﺍﺩ، ﻛﻤﺎ ﻗﺒﻞ ﺃﺻﻠﻪ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﻭﺍﻟﺼﻔﺎﺕ ﺍﻟﺠﻼﻟﻴﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ، ﻻ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻷﺣﺪﻳﺔ، ﺇﺫ ﻻ ﻛﺜﺮﺓ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻮﺟﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ، ﻭﻛﻮﻧﻬﺎ ﺃﺻﻼ ﻟﻠﻜﺎﻣﻞ ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ ﻣﺨﻠﻮﻕ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺗﻪ.
ﻗﺎﻝ رضى الله عنه ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻷﻭﻝ ﻣﻦ ﺃﺟﻮﺑﺔ ﺍﻹﻣﺎﻡ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺮﻣﺬﻱ، ﻗﺪﺱ ﺍﻟﻠﻪ ﺭﻭﺣﻪ: (ﻭﺃﻣﺎ ﻣﺎ ﺗﻌﻄﻴﻪ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺬﻭﻗﻴﺔ، ﻓﻬﻮ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﻇﺎﻫﺮ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺑﺎﻃﻦ)، ﻭﺑﺎﻃﻦ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻇﺎﻫﺮ. ﻭﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻋﻴﻦ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺁﺧﺮ، ﻭﺁﺧﺮ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻋﻴﻦ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺃﻭﻝ. ﻻ ﻳﺘﺼﻒ ﺃﺑﺪﺍ ﺑﻨﺴﺒﺘﻴﻦ ﻣﺨﺘﻠﻔﺘﻴﻦ، ﻛﻤﺎ ﻳﻘﺮﺭﻩ ﻭﻳﻌﻘﻠﻪ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺫﻭ ﻓﻜﺮ.
ﻭﻟﻬﺬﺍ ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺳﻌﻴﺪ ﺍﻟﺨﺮﺍﺯ، ﻗﺪﺱ ﺍﻟﻠﻪ ﺭﻭﺣﻪ، ﻭﻗﺪ ﻗﻴﻞ ﻟﻪ: "ﺑﻤﺎ ﻋﺮﻓﺖ ﺍﻟﻠﻪ"؟
ﻓﻘﺎﻝ: "ﺑﺠﻤﻌﻪ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻀﺪﻳﻦ".
ﺛﻢ ﺗﻼ "ﻫﻮ ﺍﻷﻭﻝ ﻭ ﺍﻵﺧﺮ ﻭﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﻭﺍﻟﺒﺎﻃﻦ". ﻓﻠﻮ ﻛﺎﻥ ﻋﻨﺪﻩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻣﻦ ﻧﺴﺒﺘﻴﻦ ﻣﺨﺘﻠﻔﻴﻦ، ﻣﺎ ﺻﺪﻕ ﻗﻮﻟﻪ: "ﺑﺠﻤﻌﻪ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻀﺪﻳﻦ". ﺃﻱ، ﻻ ﻳﻨﺴﺒﺎﻥ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺟﻬﺘﻴﻦ ﻣﺨﺘﻠﻔﺘﻴﻦ، ﺑﻞ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻪ ﺃﻭﻝ، ﺑﻌﻴﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻴﺜﻴﺔ ﻫﻮ ﺁﺧﺮ.
ﻭﻫﺬﺍ ﻃﻮﺭ ﻓﻮﻕ ﻃﻮﺭ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺍﻟﻤﺸﻮﺏ ﺑﺎﻟﻮﻫﻢ، ﺇﺫ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻻ ﻳﻨﺴﺐ ﺍﻟﻀﺪﻳﻦ ﺇﻟﻰ ﺷﺊ ﻭﺍﺣﺪ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺟﻬﺘﻴﻦ ﻣﺨﺘﻠﻔﺘﻴﻦ  (ﻭﻫﻮ ﻋﻴﻨﻪ ﻭﻟﻴﺲ ﻏﻴﺮﻩ، ﻓﻴﻌﻠﻢ ﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﻳﺪﺭﻯ ﻻ ﻳﺪﺭﻯ ﻳﺸﻬﺪ ﻻ ﻳﺸﻬﺪ). ﺃﻱ، ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﺎﻣﻞ ﻫﻮ ﻋﻴﻦ ﺃﺻﻠﻪ ﻭﻟﻴﺲ ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، ﻭﺍﻟﺘﻐﺎﻳﺮ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻹﻃﻼﻕ ﻭﺍﻟﺘﻘﻴﻴﺪ، ﻓﻴﻘﺒﻞ ﺍﻻﺗﺼﺎﻑ ﺑﺎﻟﻀﺪﻳﻦ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻓﻴﺼﺪﻕ ﺃﻧﻪ ﻳﻌﻠﻢ ﻭﻻ ﻳﻌﻠﻢ، ﻭﻳﺪﺭﻱ ﻭﻻ ﻳﺪﺭﻱ، ﻭﻳﺸﻬﺪ ﻭﻻ ﻳﺸﻬﺪ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺃﺻﻠﻪ ﻳﻌﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻭﻣﻈﺎﻫﺮﻩ ﺍﻟﻜﻤﺎﻟﻴﺔ، ﻭﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﻓﻲ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻇﻬﻮﺭﻩ ﻓﻲ ﺻﻮﺭ ﺍﻟﺠﺎﻫﻠﻴﻦ. ﻭ ﻛﺬﻟﻚ ﺍﻟﺒﻮﺍﻗﻲ.
(ﻭﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺳﻤﻰ " ﺷﻴﺚ" ﻷﻥ ﻣﻌﻨﺎﻩ "ﻫﺒﺔ ﺍﻟﻠﻪ".)
ﺃﻱ، ﻭﺑﺴﺒﺐ ﺃﻥ ﺷﻴﺚ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﻛﺎﻥ ﻣﺨﺘﺼﺎ ﺑﻌﻠﻢ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﻭﻣﻌﻨﻰ "ﺷﻴﺚ"(ﻫﺒﺔ ﺍﻟﻠﻪ) ﺑﺎﻟﻌﺒﺮﺍﻧﻴﺔ، ﺳﻤﻰ ﺑﻪ ﻟﻴﻄﺎﺑﻖ ﺍﺳﻤﻪ ﻣﺴﻤﺎﻩ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻣﻈﻬﺮ "ﺍﻟﻮﻫﺎﺏ" ﻭ "ﺍﻟﻔﺘﺎﺡ").(ﻓﺒﻴﺪﻩ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﺧﺘﻼﻑ ﺃﺻﻨﺎﻓﻬﺎ ﻭﻧﺴﺒﻬﺎ).
ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﻣﺨﺘﺼﺎ ﺑﻪ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﻭﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﺃﺣﺪ ﺷﻴﺌﺎ ﺑﺎﻟﺬﻭﻕ ﻭﺍﻟﻮﺟﺪﺍﻥ ﺇﻻ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻨﻪ، ﺻﺢ ﺃﻧﻪ ﺑﻴﺪﻩ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ، ﺇﺫ ﻫﻮ ﻣﺸﺘﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﻛﻠﻬﺎ ﻭﻣﻈﻬﺮ ﻟﻠﻮﻫﺎﺏ، ﻓﺼﺎﺭ ﺭﻭﺣﻪ ﻣﻈﻬﺮﺍ ﻟﻠﻌﻄﺎﻳﺎ ﻭﺍﻟﻤﻮﺍﻫﺐ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ.
ﻓﻤﻦ ﺭﻭﺣﻪ ﺗﻔﻴﺾ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻠﺪﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻜﻤﺎﻻﺕ ﺍﻟﻮﻫﺒﻴﺔ، ﻋﻠﻰ ﺍﺧﺘﻼﻑ ﺃﺻﻨﺎﻓﻬﺎ ﻭ ﻧﺴﺒﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡ ﻛﻠﻬﺎ، ﺇﻻ ﻋﻠﻰ ﺭﻭﺡ ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺄﺧﺬ ﻣﻨﻪ ﺑﻼ ﻭﺍﺳﻄﺔ.
ﻭﻟﻤﺎ ﺫﻛﺮﻧﺎ ﺃﻥ ﺷﻴﺚ ﻫﺒﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﺣﺼﻠﺖ ﻣﻦ ﺍﻻﺳﻢ "ﺍﻟﻮﻫﺎﺏ" ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻈﻬﺮﺍ ﻟﻪ ﻭﺑﻴﺪﻩ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ، ﻋﻠﻞ ﺑﻘﻮﻟﻪ: (ﻓﺎﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻫﺒﻪ ﻵﺩﻡ ﺃﻭﻝ ﻣﺎ ﻭﻫﺒﻪ).
ﻗﻴﻞ: (ﻗﺪ ﻣﺮ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﺏ (ﺁﺩﻡ) ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻷﻋﻈﻢ، ﻭﻳﻜﻮﻥ ﺃﻭﻝ ﻣﻮﻟﻮﺩ ﻭﻫﺒﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻫﻲ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺍﻟﻨﺎﻃﻘﺔ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻭﺍﻟﻘﻠﺐ ﺍﻷﻋﻈﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﺍﻷﺳﻤﺎﺋﻴﺔ).
ﻭﻫﺬﺍ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻟﻪ ﻭﺟﻪ، ﺇﻻ ﺃﻥ ﺗﻨﺰﻳﻠﻬﻤﺎ ﺑﺎﻟﺮﻭﺡ ﻭﺍﻟﻘﻠﺐ ﺩﻭﻥ ﻏﻴﺮﻫﻤﺎ ﻣﻦ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭﻳﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﺗﺮﺟﻴﺢ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﻣﺮﺟﺢ .
ﻭﻗﻮﻝ ﺍﻟﺸﻴﺦ رضى الله عنه : (ﻭﺃﻋﻨﻰ ﺑﺂﺩﻡ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺧﻠﻖ ﻣﻨﻬﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ).
ﻻ ﻳﻨﺎﻓﻲ ﺁﺩﻡ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﻠﻚ، ﻛﻤﺎ ﻣﺮ. (ﻭﻣﺎ ﻭﻫﺒﻪ ﺇﻻ ﻣﻨﻪ) ﻷﻥ ﺁﺩﻡ ﻳﺸﺘﻤﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﻞ ﻋﻠﻰ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﻭﻻﺩﻩ، ﻟﺬﻟﻚ ﺃﺧﺮﺟﻮﺍ ﻣﻦ ﻇﻬﺮﻩ ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﺬﺭ، ﻛﻤﺎ ﻧﻄﻖ ﺑﻪ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ.
ﻷﻥ ﺍﻟﻮﻟﺪ ﺳﺮ ﺃﺑﻴﻪ، ﺃﻱ، ﻣﺴﺘﻮﺭ ﻓﻲ ﻭﺟﻮﺩ ﺃﺑﻴﻪ ﻭﻣﻮﺟﻮﺩ ﻓﻴﻪ ﺑﺎﻟﻘﻮﺓ. (ﻓﻤﻨﻪ ﺧﺮﺝ ﻭﺇﻟﻴﻪ ﻋﺎﺩ) ﺃﻱ، ﺧﺮﺝ ﻣﻨﻪ ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﻨﻄﻔﺔ ﺍﻟﻤﻠﻘﺎﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺣﻢ، ﻭﺇﻟﻴﻪ ﻋﺎﺩ ﺑﺼﻴﺮﻭﺭﺗﻪ ﺇﻧﺴﺎﻧﺎ ﺩﺍﺧﻼ ﻓﻲ ﺣﺪﻩ ﻭ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ.
ﻭﻓﻴﻪ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺁﺩﻡ ﺃﻳﻀﺎ ﺳﺮ ﺍﻟﺤﻖ، ﻷﻧﻪ ﻣﻨﻪ ﻇﻬﻮﺭﻩ ﻭﺇﻟﻴﻪ ﻋﻮﺩﻩ، ﻟﺬﻟﻚ ﻗﺎﻝ ﻛﺎﺷﻒ ﺍﻷﺳﺮﺍﺭ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ، ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ: (ﺇﻧﻲ ﺫﺍﻫﺐ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻰ ﻭ ﺃﺑﻴﻜﻢ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻱ).
ﻓﺄﻃﻠﻖ ﺍﺳﻢ "ﺍﻷﺏ" ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻇﺎﻫﺮﺍ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻋﻠﻰ "ﺭﻭﺡ ﺍﻟﻘﺪﺱ".
(ﻓﻤﺎ ﺃﺗﺎﻩ ﻏﺮﻳﺐ ﻟﻤﻦ ﻋﻘﻞ ﻋﻦ ﺍﻟﻠﻪ) ﺑﺎﻟﻌﻴﻦ ﺍﻟﻤﻬﻤﻠﺔ ﻭﺍﻟﻘﺎﻑ ﺑﻌﺪﻫﺎ. ﻭﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻨﺴﺦ ﺑﺎﻟﻐﻴﻦ ﺍﻟﻤﻌﺠﻤﺔ ﻭﺍﻟﻔﺎﺀ ﺑﻌﺪﻫﺎ. ﻓﻌﻠﻰ ﺍﻷﻭﻝ "ﻣﺎ" ﻟﻠﻨﻔﻲ. ﺃﻱ، ﻣﺎ ﺃﺗﺎﻩ ﻏﺮﻳﺐ، ﺑﻞ ﻫﻮ ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻪ ﻻ ﻣﻦ ﺧﺎﺭﺝ ﻋﻨﻪ.
(ﻟﻤﻦ ﻋﻘﻞ ﻋﻦ ﺍﻟﻠﻪ) ﺃﻱ، ﻓﻬﻢ ﻭﺃﺩﺭﻙ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ. ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﺑﻤﻌﻨﻰ "ﺍﻟﺬﻱ". ﺃﻱ، ﻓﺎﻟﺬﻱ ﺃﺗﺎﻩ ﻏﺮﻳﺐ ﻟﻤﻦ ﻳﻜﻮﻥ ﻏﺎﻓﻼ ﻋﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺃﻓﻌﺎﻟﻪ ﻭﺃﺳﺮﺍﺭﻩ. ﻭﺍﻷﻭﻝ ﺃﺻﺢ.
ﻭﻗﻮﻟﻪ : "ﻋﻦ ﺍﻟﻠﻪ" ﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻘﻮﻟﻪ: "ﻏﺮﻳﺐ" ﺃﻱ، ﻓﻤﺎ ﺃﺗﺎﻩ ﻏﺮﻳﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ، ﺑﻞ ﺃﺗﺎﻩ ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻪ ﻋﻨﺪ ﻣﻦ ﻋﻘﻞ ﻋﻴﻨﻪ ﻭﻋﺮﻑ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ.
ﻭﻳﺆﻳﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﻗﻮﻟﻪ: (ﻓﻤﺎ ﻓﻲ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺷﺊ، ﻭﻻ ﻓﻲ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺳﻮﻯ ﻧﻔﺴﻪ ﺷﺊ) ﻓﻤﻦ ﻋﺮﻑ ﺃﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺷﻴﺌﺎ ﺇﻻ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﻌﻄﻴﻪ ﻋﻴﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﺊ، ﻓﻼ ﻳﺴﺘﻐﺮﺏ ﺫﻟﻚ.
ﻭﻳﻘﺎﻝ: ﺃﺗﺎﻩ ﻭﺃﺗﻰ ﺑﻪ ﻭﺃﺗﻰ ﻋﻠﻴﻪ. ﻛﻤﺎ ﻳﻘﺎﻝ: ﺟﺎﺀﻩ ﻭﺟﺎﺀ ﺑﻪ ﻭﺟﺎﺀ ﻋﻠﻴﻪ.
ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: "ﻫﻞ ﺃﺗﻴﻚ ﺣﺪﻳﺚ ﺍﻟﻐﺎﺷﻴﺔ". (ﻭﻛﻞ ﻋﻄﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺠﺮﻯ) ﺃﻱ، ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻨﺰﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻳﺪﻱ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺃﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﻜﻤﻞ، ﻭﻣﻨﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺗﺤﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﺃﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩ، ﻟﻴﺲ ﺇﻻ ﻣﻨﻬﻢ ﻭﺇﻟﻴﻬﻢ، ﻓﺈﻥ ﺃﻋﻴﺎﻧﻬﻢ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﺍﻗﺘﻀﺖ ﺫﻟﻚ ﺑﺤﺴﺐ ﻗﺎﺑﻠﻴﺘﻬﻢ، ﻭﺍﻟﺤﻖ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻪ.
(ﻓﻤﺎ ﻓﻲ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺷﺊ ﻭﻻ ﻓﻲ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺳﻮﻯ ﻧﻔﺴﻪ ﺷﺊ. ﻭﺇﻥ ﺗﻨﻮﻋﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺼﻮﺭ) ﺃﻱ، ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍﻷﻣﺮ ﺑﺤﺴﺐ ﻗﺎﺑﻠﻴﺘﻬﻢ، ﻓﻤﺎ ﻓﻲ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺷﺊ ﺳﻮﻯ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ، ﻭﻻ ﻓﻲ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺳﻮﻯ ﻧﻔﺴﻪ ﺷﺊ، ﻓﺈﻥ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪ، ﻓﻬﻮ ﺍﻗﺘﻀﺎﺀ ﻋﻴﻨﻪ، ﻭﺍﻟﺤﻖ ﻳﻌﻄﻰ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺑﺤﺴﺒﻪ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﻔﺎﺋﻀﺔ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﺊ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ، ﻭﺫﻟﻚ ﺍﻟﺘﻨﻮﻉ ﺃﻳﻀﺎ ﺭﺍﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ. ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﻫﺎﻫﻨﺎ، ﻣﺎ ﻳﺘﺮﺗﺐ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻴﺾ ﺍﻟﻤﻘﺪﺱ ﻻ ﺍﻷﻗﺪﺱ.
ﻭﺇﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻨﺎﻗﻀﺎ ﻟﻘﻮﻟﻪ: (ﻓﺎﻷﻣﺮ ﻛﻠﻪ ﻣﻨﻪ ﺍﺑﺘﺪﺍﺅﻩ ﻭﺍﻧﺘﻬﺎﺅﻩ).
ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻗﻠﻮﺏ ﻋﺒﺎﺩ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﺎﺑﻌﺔ ﻟﻠﺘﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺓ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻭ (ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﻫﻮ ﻓﻲ ﺷﺄﻥ) ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺘﻨﻮﻉ ﻛﻼﻣﻪ رضى الله عنه  ﻓﻲ ﺑﻴﺎﻥ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻭﺍﻷﺳﺮﺍﺭ: ﻓﺘﺎﺭﺓ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻔﻴﺾ ﺍﻷﻗﺪﺱ ﻭﻳﺠﻌﻞ ﺍﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﺗﺎﺭﺓ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻘﺘﻀﻰ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﻓﻴﻨﺴﺐ ﺫﻟﻚ ﺇﻟﻴﻬﺎ، ﻓﻼ ﺗﻨﺎﻗﺾ.
(ﻭﻣﺎ ﻛﻞ ﺃﺣﺪ ﻳﻌﺮﻑ ﻫﺬﺍ ﻭﺃﻥ ﺍﻷﻣﺮ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ، ﺇﻻ ﺁﺣﺎﺩ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻠﻪ). ﻭﻫﻢ ﺍﻟﻤﻄﻠﻌﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﻘﺪﺭ.
(ﻓﺈﺫﺍ ﺭﺃﻳﺖ ﻣﻦ ﻳﻌﺮﻑ ﺫﻟﻚ، ﻓﺎﻋﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻪ) ﺃﻱ، ﻋﻠﻰ ﻗﻮﻟﻪ، ﻷﻧﻪ ﺣﻖ ﻣﻄﺎﺑﻖ ﻟﻤﺎ ﻓﻲ ﻧﻔﺲ ﺍﻷﻣﺮ. ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺴﺎﻟﻚ ﺍﻟﻮﺍﺻﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﻄﻊ ﺍﻟﺴﻔﺮ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻭﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﻭﻳﺼﻞ ﺇﻟﻰ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻷﻗﻄﺎﺏ ﻭﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﻭﻗﻠﻴﻼ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺨﻼﺻﺔ.
ﻗﺎﻝ: (ﻓﺬﻟﻚ ﻫﻮ ﻋﻴﻦ ﺻﻔﺎﺀ ﺧﻼﺻﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﻣﻦ ﻋﻤﻮﻡ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻠﻪ).
ﻭﻫﻢ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻣﺮ ﺫﻛﺮﻫﻢ ﻋﻨﺪ ﺑﻴﺎﻥ ﺍﻟﺴﺎﻟﻜﻴﻦ ﻭﺍﻟﺨﻼﺻﺔ ﺍﻟﻮﺍﺻﻞ، ﻭﺧﺎﺻﺔ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺍﻟﺬﻱ ﺭﺟﻊ ﺑﺎﻟﺤﻖ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﻠﻖ، ﻭﺻﻔﺎﺀ ﺧﻼﺻﺔ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﻭﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﺤﻘﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺼﺎﻓﻴﺔ ﻋﻦ ﺷﻮﺏ ﺍﻷﻛﻮﺍﻥ ﻭﻧﻘﺎﺋﺺ ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ .
ﻓﺄﻱ ﺻﺎﺣﺐ ﻛﺸﻒ ﺷﺎﻫﺪ ﺻﻮﺭﺓ ﻳﻠﻘﻰ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻋﻨﺪﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﻑ ﻭﺗﻤﻨﺤﻪ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻗﺒﻞ ﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﻳﺪﻩ، ﻓﺘﻠﻚ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻋﻴﻨﻪ ﻻ ﻏﻴﺮﻩ، ﻓﻤﻦ ﺷﺠﺮﺓ ﻧﻔﺴﻪ ﺟﻨﻰ ﺛﻤﺮﺓ ﻏﺮﺳﻪ .
ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻫﻲ ﻣﻦ ﺻﻮﺭ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺗﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻌﻴﻨﻪ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻳﺘﻤﺜﻞ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻴﺎﻝ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍﻟﻤﻘﻴﺪ، ﻓﻴﻠﻘﻰ ﺇﻟﻴﻪ ﻓﻬﻮ ﺍﻟﻤﻔﻴﺾ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻪ ﻻ ﻏﻴﺮﻩ، ﺇﺫ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻔﻴﺾ ﻋﻠﻴﻪ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻪ ﻭ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺗﻪ.
ﻭﻟﻜﻦ ﻛﻞ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﻣﺸﺘﻤﻼ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺍﺷﺘﻤﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ، ﻻ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﺃﻥ ﻳﻘﺎﻝ ﺃﻧﻬﺎ ﺻﻮﺭﺓ ﻣﻠﻚ ﺃﻭ ﺟﻦ ﺃﻭ ﻛﺎﻣﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻤﻞ ﻏﻴﺮﻩ، ﺑﻞ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻗﺘﻀﺖ ﺃﻥ ﻳﺘﺼﻮﺭ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﻦ ﺣﻘﺎﺋﻘﻪ ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻭﺗﻠﻘﻴﻪ ﻋﻠﻰ ﻗﻠﺒﻪ ﺍﻟﻤﺸﻐﻮﻝ ﺑﺘﺪﺑﻴﺮ ﺟﺴﺪﻩ، ﻓﻴﻄﻠﻊ ﻋﻠﻴﻪ.
(ﻛﺎﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻣﻨﻪ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ ﺍﻟﺠﺴﻢ ﺍﻟﺼﻘﻴﻞ ﻟﻴﺲ ﻏﻴﺮﻩ ﺇﻻ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺤﻞ، ﺃﻭ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺭﺃﻯ ﻓﻴﻬﺎ ﺻﻮﺭﺓ ﻧﻔﺴﻪ، ﻳﻠﻘﻰ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﺘﻘﻠﺐ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ ﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ).
ﺃﻱ، ﻟﻴﺲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﺮﺍﺋﻲ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ ﻟﻴﺴﺖ ﻏﻴﺮﻩ، ﺇﻻ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺭﺃﻯ ﻓﻴﻬﺎ ﺻﻮﺭﺓ ﻧﻔﺴﻪ ﺗﻠﻘﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﻣﺘﻘﻠﺒﺎ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ، ﻟﺬﻟﻚ ﻳﻈﻬﺮ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﺴﻦ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺴﻦ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﻭﺍﻟﺸﺮﻳﺮ ﺍﻟﻈﺎﻟﻢ ﻋﻠﻰ ﺃﻗﺒﺤﻬﺎ، ﻛﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻜﻠﺐ ﻭﺍﻟﺴﺒﺎﻉ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻤﺎ ﻳﻘﺘﻀﻴﻪ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ.
ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺨﻴﺎﻝ ﻳﻈﻬﺮ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﻛﻤﺎ ﻫﻲ، ﺃﻭ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭ ﺻﻔﺎﺕ ﻏﺎﻟﺒﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻻﻏﻴﺮ، ﻓﻴﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺮ. ﻓﺎﻟﺒﺎﺀ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ: "ﺑﺘﻘﻠﺐ" ﺑﻤﻌﻨﻰ "ﻣﻊ". ﻭ "ﺍﻟﻼﻡ" ﻓﻲ "ﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ" ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻞ. ﺃﻱ، ﻷﺟﻞ ﺍﻗﺘﻀﺎﺀ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺘﻘﻠﺐ. (ﻛﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ ﺻﻐﻴﺮﺍ. ﻭﻳﻈﻬﺮ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﻤﺴﺘﻄﻴﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﺘﻄﻴﻠﺔ ﻣﺴﺘﻄﻴﻼ ﻭﺍﻟﻤﺘﺤﺮﻛﺔ ﻣﺘﺤﺮﻛﺎ).
ﺃﻱ، ﻭﻳﻈﻬﺮ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺘﺤﺮﻙ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ ﺍﻟﻤﺘﺤﺮﻛﺔ ﻣﺘﺤﺮﻛﺎ، ﻛﺎﻟﻤﺎﺀ ﺣﺎﻝ ﻛﻮﻧﻪ ﻣﺘﺤﺮﻛﺎ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻈﻬﺮ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺳﺎﻛﻦ ﻋﻨﺪﻩ ﻣﺘﺤﺮﻛﺎ.
(ﻭﻗﺪ ﺗﻌﻄﻴﻪ ﺍﻧﺘﻜﺎﺱ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﻣﻦ ﺣﻀﺮﺓ ﺧﺎﺻﺔ) ﻭﺫﻟﻚ ﻣﺜﻞ ﺍﻟﻤﺎﺀ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺇﺫﺍ ﻧﻈﺮ ﻓﻴﻪ ﻳﺮﻯ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﻣﻨﺘﻜﺴﺔ.
ﻭﻛﻞ ﺟﺴﻢ ﺻﻘﻴﻞ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ ﺍﻷﺭﺽ ﻓﻬﻮ ﻳﻌﻄﻰ ﺍﻻﻧﺘﻜﺎﺱ. (ﻭﻗﺪ ﺗﻌﻄﻴﻪ ﻋﻴﻦ ﻣﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﻣﻨﻬﺎ، ﻓﻴﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻨﻬﺎ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ) ﺃﻱ، ﻭﻗﺪ ﺗﻌﻄﻰ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﻟﻠﺮﺍﺋﻲ ﻋﻴﻦ ﻣﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺗﻐﻴﻴﺮ، ﻓﺤﻴﻨﺌﺬ ﻳﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﺮﺋﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ.
ﻑ "ﻣﻦ" ﻓﻲ "ﻣﻨﻬﺎ" ﺍﻷﻭﻝ ﺑﻴﺎﻥ "ﻣﺎ".
ﻭﻫﺬﺍ ﺃﻳﻀﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺎﺀ: ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻨﻬﺎ ﻳﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ. ﻭﻗﻴﻞ: (ﺇﻥ ﻓﻲ ﺣﻀﺮﺓ ﺍﻟﺴﺮ ﻭﺣﻀﺮﺓ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﻳﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻨﻬﺎ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ).
ﻓﺄﻧﺖ ﺗﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻭﺍﻟﺸﻤﺎﻝ، ﺑﻞ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻣﻄﻠﻘﺎ، ﻻ ﻳﺘﺼﻮﺭ ﺇﻻ ﻓﻲ ﺣﻀﺮﺓ ﺍﻟﺨﻴﺎﻝ ﻭﺍﻟﺤﺲ، ﻭﺣﻀﺮﺍﺕ ﺍﻟﺴﺮ ﻭﺍﻟﺮﻭﺡ ﻭﺍﻟﺨﻔﻰ، ﻭﻏﻴﺮﻫﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺔ، ﻛﻠﻬﺎ ﻣﺠﺮﺩﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﻭﺟﻬﺎﺗﻬﺎ، ﻣﻊ ﺃﻥ ﺍﻟﻐﺮﺽ ﺗﻤﺜﻴﻞ ﺍﻟﻤﻌﻘﻮﻝ ﺑﺎﻟﻤﺤﺴﻮﺱ ﻻ ﺗﻤﺜﻴﻞ ﺍﻟﻤﻌﻘﻮﻝ ﺑﺎﻟﻤﻌﻘﻮﻝ.
(ﻭﻗﺪ ﻳﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﺍﻟﻴﺴﺎﺭ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻐﺎﻟﺐ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﻳﺎ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﺍﻟﻌﺎﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﻮﻡ).
ﻭ ﺫﻟﻚ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻻﻋﺘﺒﺎﺭ، ﻓﺈﻧﻚ ﺇﺫﺍ ﺍﻋﺘﺒﺮﺕ ﺟﻬﺔ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﺮﺋﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ، ﻭﺟﺪﺕ ﻳﻤﻴﻨﻬﺎ ﻣﻘﺎﺑﻼ ﻟﻴﺴﺎﺭﻙ ﻭﻳﺴﺎﺭﻫﺎ ﻣﻘﺎﺑﻼ ﻟﻴﻤﻴﻨﻚ، ﻛﺎﻹﻧﺴﺎﻥ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻣﻘﺎﺑﻼ ﻭﺟﻬﻪ ﺇﻟﻰ ﻭﺟﻬﻚ.
ﻭﺃﻣﺎ ﺇﺫﺍ ﺍﻋﺘﺒﺮﺕ ﺍﻟﺘﻘﺎﺑﻞ ﺑﻴﻦ ﺻﻮﺭﺗﻚ ﻭﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﺮﺋﻴﺔ ﻓﻴﻬﺎ، ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻨﻚ ﻣﻘﺎﺑﻼ ﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ، ﺃﻻ ﺗﺮﻯ ﺇﻧﻚ ﺇﺫﺍ ﻭﺿﻌﺖ ﺃﺻﺒﻌﻚ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻬﻚ ﺍﻷﻳﻤﻦ، ﻣﺜﻼ، ﻳﻈﻬﺮ ﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﺎﺑﻞ ﻭﺟﻬﻚ ﺍﻷﻳﻤﻦ، ﻓﻬﻮ ﻳﻤﻴﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، ﻭﺇﻥ ﻛﻨﺖ ﺗﺘﻮﻫﻢ ﺃﻧﻪ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻷﻳﺴﺮ، ﻷﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﻫﻮ ﻋﻴﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﻣﻨﻚ ﻻ ﻏﻴﺮﻩ.
(ﻭﺑﺨﺮﻕ ﺍﻟﻌﺎﺩﺓ ﻳﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻭﻳﻈﻬﺮ ﺍﻻﻧﺘﻜﺎﺱ). ﻫﺬﺍ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﻦ ﺧﺼﻮﺻﻴﺔ ﺍﻟﻤﺎﺀ. ﻓﺈﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺇﺫﺍ ﻭﻗﻒ ﻋﻠﻰ ﺟﻨﺐ ﺍﻟﻨﻬﺮ، ﻳﺮﻯ ﻓﻴﻪ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﻣﻨﺘﻜﺴﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻨﻬﺎ ﻇﺎﻫﺮﺍ.
ﻭﻣﺎ ﺭﺃﻳﻨﺎ ﻓﻲ ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺮﺁﻳﺎ ﺃﻥ ﻳﺮﻯ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻭﻳﻈﻬﺮ ﺍﻻﻧﺘﻜﺎﺱ، ﺑﻞ ﺇﺫﺍ ﺣﻘﻘﺖ ﺍﻟﻨﻈﺮ، ﻭﺟﺪﺕ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﺃﻳﻀﺎ ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ، ﻓﺎﻥ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺇﺫﺍ ﺍﻧﺘﻜﺲ، ﻳﻨﻘﻠﺐ ﻳﻤﻴﻨﻪ ﻳﺴﺎﺭﺍ ﻭﻳﺴﺎﺭﻩ ﻳﻤﻴﻨﺎ. ﻓﻤﺎ ﻳﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﺑﺎﻟﻴﻤﻴﻦ ﻣﻊ ﺍﻻﻧﺘﻜﺎﺱ ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺧﺮﻕ ﺍﻟﻌﺎﺩﺓ، ﻏﻴﺮ ﻣﻌﻠﻮﻡ ﻟﻨﺎ.
ﻗﻴﻞ: (ﺇﻥ ﻳﻤﻴﻦ ﺍﻟﺸﻜﻞ ﺍﻟﻤﺮﺋﻲ، ﻓﻲ ﺃﻱ ﻣﺮﺁﺓ، ﻛﺎﻧﺖ ﻻ ﻳﺰﺍﻝ ﻣﻘﺎﺑﻼ ﻟﻠﻴﻤﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ ﻭﺍﻟﻴﺴﺎﺭ ﻟﻠﻴﺴﺎﺭ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻳﻈﻦ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ ﻋﻜﺴﻪ ﻟﻈﻨﻪ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺮﺋﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ، ﻭﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺮﺍﺋﻲ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻣﺴﺘﻘﺒﻼ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺒﻠﺔ، ﻣﺜﻼ، ﻳﻜﻮﻥ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﺴﺘﻘﺒﻼ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺒﻠﺔ، ﻓﺎﻟﻤﺮﺋﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻜﻞ ﻫﻮ ﺍﻟﻘﻔﺎﺀ، ﻟﻜﻦ ﻻ ﻗﻔﺎﺀ ﻟﻪ، ﻷﻧﻪ ﻭﺟﻪ ﻛﻠﻪ، ﻓﻼ ﻳﺰﺍﻝ ﻳﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻭ ﺍﻟﻴﺴﺎﺭ ﺍﻟﻴﺴﺎﺭ). ﻭﻓﻴﻪ ﻧﻈﺮ.
ﺇﺫﺍ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﻭﺍﻟﻈﻬﺮ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺇﻻ ﻟﺠﺮﻡ ﻛﺜﻴﻒ، ﻭﻣﺎ ﺛﻢ ﺇﻻ ﺍﻟﻌﻜﺲ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺑﻞ ﺍﻟﺤﻖ ﺃﻧﻪ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺮﺋﻲ ﻭﺍﻟﺮﺍﺋﻲ ﻳﻈﻬﺮ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﺷﻤﺎﻻ ﻭﺍﻟﺸﻤﺎﻝ ﻳﻤﻴﻨﺎ، ﻭﺃﻣﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺍﻟﺘﻘﺎﺑﻞ ﻓﻘﻂ، ﺩﻭﻥ ﺍﻟﺠﻬﺔ، ﻓﻜﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ ﻭﺍﻟﺸﻤﺎﻝ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻟﻤﺎ ﻫﻮ ﻋﻜﺴﻪ.
(ﻭﻫﺬﺍ ﻛﻠﻪ ﻣﻦ ﺃﻋﻄﻴﺎﺕ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻰ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻧﺰﻟﻨﺎﻫﺎ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﺍﻟﻤﺮﺁﻳﺎ) ﻓﺎﻟﺤﺎﺻﻞ، ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺮﻯ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﺗﻌﻄﻰ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺧﺼﻮﺻﻴﺔ ﻣﺎ، ﻻ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻐﻴﺮﻫﺎ، ﻓﺈﺫﺍ ﺭﺃﻯ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺻﻮﺭﺍ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ﻓﻲ ﺣﻀﺮﺍﺕ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ، ﻛﺤﻀﺮﺍﺕ ﺍﻟﺨﻴﺎﻝ ﻭﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﺍﻟﺮﻭﺡ، ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳﺘﻮﻫﻢ ﺃﻧﻬﺎ ﻏﻴﺮﻩ، ﻛﻤﺎ ﻳﺠﺪ ﺍﻟﺘﻨﻮﻉ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﺘﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺍﻳﺎ ﺍﻟﻤﺘﻌﺪﺩﺓ ﻣﻊ ﺃﻧﻪ ﻋﺎﻟﻢ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﻻ ﻏﻴﺮ.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء السابع .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 9:59 am

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء السابع .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية  الجزء السايع

قال الشيخ رضي الله عنه : (ﻓﻤﻦ ﻋﺮﻑ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ ﻋﺮﻑ ﻗﺒﻮﻟﻪ، ﻭﻣﺎ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻋﺮﻑ ﻗﺒﻮﻟﻪ ﻳﻌﺮﻑ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ ﺇﻻ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻘﺒﻮﻝ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﺮﻓﻪ ﻣﺠﻤﻼ). ﻟﻤﺎ ﺫﻛﺮ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﻘﻮﺍﺑﻞ ﻳﺘﻨﻮﻉ، ﺃﻋﺎﺩ ﻛﻼﻣﻪ ﻓﻲ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ.
ﻭ "ﺍﻟﻔﺎﺀ" ﻓﻲ "ﻓﻤﻦ ﻋﺮﻑ" ﻟﻠﻨﺘﻴﺠﺔ.
ﺃﻱ، ﻓﻤﻦ ﻋﺮﻑ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ ﻭﻣﺎ ﻳﻌﻄﻴﻪ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻭﻗﺖ، ﻋﺮﻑ ﺻﻮﺭﺓ ﻗﺒﻮﻟﻪ، ﺃﻱ ﺻﻮﺭﺓ ﻣﺎ ﻳﻘﺒﻠﻪ ﺫﻟﻚ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﺎﻟﻌﻠﺔ ﻟﻠﺸﺊ، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻫﻲ ﻋﻠﺔ ﻟﻪ، ﻳﻮﺟﺐ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﻤﻌﻠﻮﻟﻬﺎ. ﻭﻟﻴﺲ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻳﻌﺮﻑ ﻗﺒﻮﻟﻪ ﻟﺸﺊ ﻳﻌﺮﻑ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺳﺒﺐ ﻟﺬﻟﻚ ﺍﻟﻘﺒﻮﻝ، ﺇﻻ ﻣﺠﻤﻼ، ﻭﻻ ﻳﻌﺮﻓﻪ ﻣﻔﺼﻼ ﺇﻻ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻘﺒﻮﻝ، ﻓﺈﻧﻪ ﺣﻴﻨﺌﺬ ﻳﻌﺮﻑ ﺫﻟﻚ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺍﻟﻤﻌﻴﻦ ﻣﻤﺎ ﻗﺒﻠﻪ.
(ﺇﻻ ﺃﻥ ﺑﻌﺾ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺍﻟﻌﻘﻮﻝ ﺍﻟﻀﻌﻴﻔﺔ ﻳﺮﻭﻥ ﺃﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻟﻤﺎ ﺛﺒﺖ ﻋﻨﺪﻫﻢ ﺃﻧﻪ ﻓﻌﺎﻝ ﻟﻤﺎ ﻳﺸﺎﺀ، ﺟﻮﺯﻭﺍ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻳﻨﺎﻗﺾ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻭﻣﺎ ﻫﻮ ﺍﻷﻣﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ).
ﻟﻤﺎ ﻗﺮﺭ ﺃﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻻ ﻳﻌﻄﻰ ﻷﺣﺪ ﺷﻴﺌﺎ ﺇﻻ ﻣﺎ ﻳﻘﺘﻀﻴﻪ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ﻭﺗﻄﻠﺒﻪ ﻣﻦ ﺣﻀﺮﺗﻪ، ﻓﻜﺎﻥ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﻳﻌﺘﻘﺪﻭﻥ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﻓﻌﺎﻝ ﻟﻤﺎ ﻳﺸﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻷﺯﻝ ﻣﻊ ﻗﻄﻊ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ ﺣﻜﻤﺘﻪ ﻭﻓﻌﺎﻝ ﻟﻤﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﻓﻲ ﺍﻷﺑﺪ ﻣﻊ ﻗﻄﻊ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻋﻨﻬﺎ ﻭﻋﻦ ﺍﻗﺘﻀﺎﺀ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﻓﻌﺎﻝ، ﺍﺳﺘﺜﻨﻰ ﻗﻮﻟﻬﻢ.
ﻓﻬﻮ ﺍﺳﺘﺜﻨﺎﺀ ﻣﻨﻘﻄﻊ. ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻧﺴﺐ ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻀﻌﻒ، ﻷﻧﻬﻢ ﻣﺎ ﺷﺎﻫﺪﻭﺍ ﺍﻷﻣﺮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﻻ ﺍﻃﻠﻌﻮﺍ ﻋﻠﻰ ﺳﺮ ﺍﻟﻘﺪﺭ، ﻭﺯﻋﻤﻮﺍ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﻳﻔﻌﻞ ﺍﻷﻓﺎﻋﻴﻞ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺣﻜﻤﺔ، ﺣﺘﻰ ﺟﻮﺯﻭﺍ ﻋﻠﻴﻪ ﺗﻌﺬﻳﺐ ﻣﻦ ﻫﻮ ﻣﺴﺘﺤﻖ ﻟﻠﺮﺣﻤﺔ ﻭﺗﻨﻌﻴﻢ ﻣﻦ ﻫﻮ ﻣﺴﺘﻌﺪ ﻟﻠﻨﻘﻤﺔ. ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻋﻦ ﺫﻟﻚ ﻋﻠﻮﺍ ﻛﺒﻴﺮﺍ. ﻭﻣﻨﺸﺄ ﺯﻋﻤﻬﻢ ﻫﺬﺍ ﺃﻧﻬﻢ ﺣﻜﻤﻮﺍ ﺑﻤﻔﻬﻮﻡ "ﺍﻟﻤﺸﻴﺔ" ﻭﺇﺛﺒﺎﺗﻬﺎ ﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻭﻣﺎ ﻋﺮﻓﻮﺍ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺸﻴﺔ ﻣﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﻔﻴﺾ ﺍﻷﻗﺪﺱ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: "ﺃ ﻟﻢ ﺗﺮ ﺇﻟﻰ ﺭﺑﻚ ﻛﻴﻒ ﻣﺪ ﺍﻟﻈﻞ". ﺃﻱ، ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻲ،(ﻭﻟﻮ ﺷﺎﺀ ﻟﺠﻌﻠﻪ ﺳﺎﻛﻨﺎ). ﺃﻱ، ﻣﻨﻘﻄﻌﺎ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺎ.
ﻭﺍﻹﺭﺍﺩﺓ ﻣﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﻔﻴﺾ ﺍﻟﻤﻘﺪﺱ،ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: "ﺇﻧﻤﺎ ﺃﻣﺮﻩ ﺇﺫﺍ ﺃﺭﺍﺩ ﺷﻴﺌﺎ ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻝ ﻟﻪ ﻛﻦ ﻓﻴﻜﻮﻥ". ﻓﺎﻹﺭﺍﺩﺓ ﻣﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺈﻳﺠﺎﺩ ﺍﻟﻤﻤﻜﻨﺎﺕ ﺑﺨﻼﻑ ﺍﻟﻤﺸﻴﺔ، ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻣﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺈﻓﺎﺿﺔ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ، ﻟﻜﻦ ﺑﺤﺴﺐ ﻣﺎ ﻳﻘﺘﻀﻰ ﺣﻜﻤﺘﻪ ﻭﺃﺳﻤﺎﺅﻩ ﻭﺻﻔﺎﺗﻪ ﻻ ﻣﻄﻠﻘﺎ.
ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: "ﻓﻠﻮ ﺷﺎﺀ ﻟﻬﺪﺍﻛﻢ ﺃﺟﻤﻌﻴﻦ". ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺸﺄ، ﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻗﺘﻀﺖ ﻋﺪﻡ ﻣﺸﻴﺘﻪ، ﻟﺬﻟﻚ ﻋﺒﺮﻭﺍ ﻋﻨﻬﺎ ﺏ (ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﺍﻷﺯﻟﻴﺔ).
ﻭﺍﻹﺭﺍﺩﺓ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻷﻋﻴﺎﻥ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺗﻬﺎ ﻭﻗﺒﻮﻟﻬﺎ ﻟﻠﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﻤﺮﺍﺩ. ﻓﺎﻟﺤﻖ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻓﻌﺎﻻ ﻟﻤﺎ ﻳﺸﺎﺀ، ﻟﻜﻦ ﻣﺸﻴﺘﻪ ﺑﺤﺴﺐ ﺣﻜﻤﺘﻪ، ﻭﻣﻦ ﺣﻜﻤﺘﻪ ﺃﻥ ﻻ ﻳﻔﻌﻞ ﺇﻻ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺍﻷﺷﻴﺎﺀ: ﻓﻼ ﻳﺮﺣﻢ ﻣﻮﺿﻊ ﺍﻻﻧﺘﻘﺎﻡ ﻭﻻ ﻳﻨﺘﻘﻢ ﻣﻮﺿﻊ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ.
ﻭﻣﺎ ﺟﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻷﺧﺒﺎﺭ ﺃﻧﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳﺮﺣﻢ ﺑﺎﻟﻔﻀﻞ ﻭﻳﻨﺘﻘﻢ ﺑﺎﻟﻌﺪﻝ ﻭﻳﺸﻔﻊ ﺃﺭﺣﻢ ﺍﻟﺮﺍﺣﻤﻴﻦ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻤﻨﺘﻘﻢ، ﻓﺬﻟﻚ ﺃﻳﻀﺎ ﺭﺍﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻭﺍﺳﺘﺤﻘﺎﻗﻪ ﺍﻟﻤﺨﻔﻰ ﻓﻲ ﻋﻴﻨﻪ ﻻ ﻳﻄﻠﻊ ﻋﻠﻴﻪ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ. (ﻭﻟﻬﺬﺍ ﻋﺪﻝ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻨﻈﺎﺭ ﺇﻟﻰ ﻧﻔﻰ ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ ﻭﺇﺛﺒﺎﺕ ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ ﻭ ﺑﺎﻟﻐﻴﺮ).
ﺃﻱ، ﻟﻤﺎ ﺟﻮﺯﻭﺍ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻳﻨﺎﻗﺾ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻭﻣﺎ ﻋﺮﻓﻮﺍ ﺃﻥ ﻟﻠﺤﻖ ﺃﻓﻌﺎﻻ ﺑﺤﺴﺐ ﻣﺮﺍﺗﺒﻪ ﻭﻻ ﻋﺮﻓﻮﺍ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ، ﻋﺪﻝ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﻧﻔﻰ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ ﻭ ﺇﺛﺒﺎﺕ ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ ﻭﺑﺎﻟﻐﻴﺮ ﻓﻘﻂ. (ﻭﺍﻟﻤﺤﻘﻖ ﻳﺜﺒﺖ ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ ﻭﻳﻌﺮﻑ ﺣﻀﺮﺗﻪ، ﻭﺍﻟﻤﻤﻜﻦ ﻭﻣﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻤﻜﻦ(. ﻭﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻨﺴﺦ: )ﺍﻟﻤﻤﻜﻦ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻤﻜﻦ).
ﻣﻊ ﻋﺪﻡ ﺍﻟﻮﺍﻭ. ﺃﻱ، ﻳﻌﺮﻑ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻤﻜﻦ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ. ﻓﻘﻮﻟﻪ: (ﻣﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻤﻜﻦ)
ﺑﺪﻝ، ﺃﻭ ﻋﻄﻒ ﺑﻴﺎﻥ ﻟﻘﻮﻟﻪ: "ﻭﺍﻟﻤﻤﻜﻦ".
(ﻭﻣﻦ ﺃﻳﻦ ﻫﻮ ﻣﻤﻜﻦ ﻭﻫﻮ ﺑﻌﻴﻨﻪ ﻭﺍﺟﺐ ﺑﺎﻟﻐﻴﺮ. ﻭﻣﻦ ﺃﻳﻦ ﺻﺢ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻐﻴﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﻗﺘﻀﻰ ﻟﻪ ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ. ﻭﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ﺇﻻ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﺧﺎﺻﺔ).
ﻗﺪ ﻣﺮ ﺃﻥ "ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ" ﻭ "ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ" ﻭ "ﺍﻻﻣﺘﻨﺎﻉ" ﺣﻀﺮﺍﺕ ﻭﻣﺮﺍﺗﺐ ﻣﻌﻘﻮﻟﺔ، ﻛﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻏﻴﺮ ﻣﻮﺟﻮﺩﺓ ﻭﻻ ﻣﻌﺪﻭﻣﺔ، ﻛﺒﺎﻗﻲ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ، ﻧﻈﺮﺍ ﺇﻟﻰ ﺫﻭﺍﺗﻬﺎ ﺍﻟﻤﻌﻘﻮﻟﺔ، ﻟﻜﻦ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻻ ﺗﺨﻠﻮ ﻋﻦ ﺍﻻﺗﺼﺎﻑ ﺇﻣﺎ ﺑﺎﻟﻮﺟﻮﺩ ﺃﻭ ﺑﺎﻟﻌﺪﻡ، ﺑﺨﻼﻑ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻀﺮﺍﺕ ﺍﻟﺜﻼﺙ، ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺑﺎﻗﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺣﺎﻟﻬﺎ ﻻ ﺗﺘﺼﻒ ﺑﺎﻟﻮﺟﻮﺩ ﻭﻻ ﺑﺎﻟﻌﺪﻡ ﺃﺑﺪﺍ ﺃﻟﺒﺘﺔ، ﻭﻗﺪ ﺟﻌﻠﻬﺎ ﺍﻟﺤﻖ ﺻﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻟﺒﺎﻗﻲ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ.
ﻓﺈﻥ "ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ" ﺻﻔﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﻟﻠﻤﻤﻜﻨﺎﺕ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺓ، ﻟﻜﻨﻪ ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﺘﻔﺎﻭﺕ:
ﻓﺈﻧﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺍﺟﺐ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ، ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻤﻤﻜﻨﺎﺕ ﺑﺎﻟﻐﻴﺮ.
ﻭ "ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ" ﺻﻔﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻟﺠﻤﻴﻊ ﺍﻟﻤﻤﻜﻨﺎﺕ.
ﻭ "ﺍﻻﻣﺘﻨﺎﻉ" ﺻﻔﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻟﻠﻤﺘﻨﻌﺎﺕ.
ﻭﺇﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻀﺮﺍﺕ ﻫﻲ ﺧﺰﺍﺋﻦ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﻏﻴﺒﻴﺔ
ﻓﺤﻀﺮﺓ "ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ" ﺧﺰﻳﻨﺔ ﻳﻄﻠﺐ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﺍﻟﺨﺮﻭﺝ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻌﻴﻨﻲ ﻟﺘﻜﻮﻥ ﻣﺤﻞ ﻭﻻﻳﺔ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻤﻤﻜﻨﺎﺕ.
ﻭﺣﻀﺮﺓ "ﺍﻻﻣﺘﻨﺎﻉ" ﺧﺰﻳﻨﺔ ﺗﻄﻠﺐ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻷﻋﻴﺎﻥ ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ ﻓﻲ ﻏﻴﺐ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﻋﻠﻤﻪ ﻭﻋﺪﻡ ﺍﻟﻈﻬﻮﺭ ﺑﺎﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻲ، ﻭﻟﻴﺲ ﻟﻺﺳﻢ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﺒﻴﻞ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻤﻤﺘﻨﻌﺎﺕ.
ﻭﺣﻀﺮﺓ "ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ" ﺧﺰﻳﻨﺔ ﻳﻄﻠﺐ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻻﺗﺼﺎﻑ ﺑﺎﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ ﻭﺍﻟﻌﻴﻨﻲ، ﺃﺯﻻ ﻭﺃﺑﺪﺍ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻮﺍﺟﺐ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ ﻭﺑﺎﻟﻐﻴﺮ.
ﻭﺍﻟﻤﻤﻜﻨﺎﺕ ﻛﻠﻬﺎ ﺷﺆﻭﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﻓﻲ ﻏﻴﺐ ﺫﺍﺗﻪ ﻭﺃﺳﻤﺎﺋﻪ، ﻭﻭﻗﻊ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻐﻴﺮﻳﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻮﺍﺳﻄﺔ ﺍﻟﺘﻌﻴﻦ ﻭﺍﻻﺣﺘﻴﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﻣﻦ ﻳﻮﺟﺪﻫﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻴﻦ.
ﻭﺑﻌﺪ ﺍﺗﺼﺎﻓﻪ ﺑﺎﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻌﻴﻨﻲ ﺻﺎﺭ ﻭﺍﺟﺒﺎ ﺑﺎﻟﻐﻴﺮ ﻻ ﻳﻨﻌﺪﻡ ﺃﺑﺪﺍ، ﺑﻞ ﻳﺘﻐﻴﺮ ﻭﻳﺘﺒﺪﻝ ﺑﺤﺴﺐ ﻋﻮﺍﻟﻤﻪ ﻭ ﻃﺮﻳﺎﻥ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﻋﻠﻴﻪ. ﻓﻈﻬﺮ ﺍﻟﻔﺮﻕ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﺑﻴﻦ "ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ ﺑﺎﻟﻐﻴﺮ" ﻭﺑﻴﻦ "ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ": ﺇﺫﺍ ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ ﺑﺎﻟﻐﻴﺮ ﺑﻌﺪ ﺍﻻﺗﺼﺎﻑ ﺑﺎﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻌﻴﻨﻲ، ﻭﺍﻹﻣﻜﺎﻥ ﺛﺎﺑﺖ ﻗﺒﻠﻪ ﻭﺑﻌﺪﻩ.
ﻭﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ﻳﻘﻴﻨﺎ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺍﻧﻜﺸﻒ ﻟﻪ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﻋﺮﻑ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ، ﻭﻫﻢ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﺧﺎﺻﺔ.
ﻭﻣﻦ ﻋﺮﻑ ﻣﺎ ﺣﻘﻘﺘﻪ ﻭﺃﺷﺮﺕ ﺑﻪ ﺇﻟﻴﻪ، ﻳﺠﺪ ﻓﻲ ﻗﻠﺒﻪ ﺃﺳﺮﺍﺭﺍ ﻳﻤﻸ ﺍﻟﻌﻮﺍﻟﻢ ﻇﻬﻮﺭﻫﺎ ﺃﻧﻮﺍﺭﺍ. ﻭﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﻒ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ ﺑﺈﺩﺭﺍﻙ ﺍﻟﺤﻖ، ﻓﻬﻮ ﻣﻌﺬﻭﺭ "ﻭﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﺠﻌﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﻟﻪ ﻧﻮﺭﺍ ﻓﻤﺎﻟﻪ ﻣﻦ ﻧﻮﺭ".
قال الشيخ رضي الله عنه : (ﻭﻋﻠﻰ ﻗﺪﻡ ﺷﻴﺚ ﻳﻜﻮﻥ ﺁﺧﺮ ﻣﻮﻟﻮﺩ ﻳﻮﻟﺪ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ، ﻭﻫﻮ ﺣﺎﻣﻞ ﺃﺳﺮﺍﺭﻩ ﻭﻟﻴﺲ ﺑﻌﺪﻩ ﻭﻟﺪ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻮﻉ، ﻓﻬﻮ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻻﺩ.
ﻭﺗﻮﻟﺪ ﻣﻌﻪ ﺃﺧﺖ ﻟﻪ، ﻓﺘﺨﺮﺝ ﻗﺒﻠﻪ ﻭﻳﺨﺮﺝ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﻭﻳﻜﻮﻥ ﺭﺃﺳﻪ ﻋﻨﺪ ﺭﺟﻠﻴﻬﺎ.
ﻭﻳﻜﻮﻥ ﻣﻮﻟﺪﻩ ﺑﺎﻟﺼﻴﻦ، ﻭ ﻟﻐﺘﻪ ﻟﻐﺔ ﺑﻠﺪﻩ.
ﻭﻳﺴﺮﻯ ﺍﻟﻌﻘﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺟﺎﻝ ﻭﺍﻟﻨﺴﺎﺀ ﻓﻴﻜﺜﺮ ﺍﻟﻨﻜﺎﺡ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﻭﻻﺩﺓ. ﻭﻳﺪﻋﻮﻫﻢ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ، ﻓﻼ ﻳﺠﺎﺏ. ﻓﺈﺫﺍ ﻗﺒﻀﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻗﺒﺾ ﻣﺆﻣﻨﻲ ﺯﻣﺎﻧﻪ، ﺑﻘﻰ ﻣﻦ ﺑﻘﻰ ﻣﺜﻞ ﺍﻟﺒﻬﺎﺋﻢ، ﻻ ﻳﺤﻠﻮﻥ ﺣﻼﻻ ﻭﻻ ﻳﺤﺮﻣﻮﻥ ﺣﺮﺍﻣﺎ، ﻳﺘﺼﺮﻓﻮﻥ ﺑﺤﻜﻢ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺷﻬﻮﺓ ﻣﺠﺮﺩﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭ ﺍﻟﺸﺮﻉ، ﻓﻌﻠﻴﻬﻢ ﺗﻘﻮﻡ ﺍﻟﺴﺎﻋﺔ). 
ﻭﺍﻋﻠﻢ، ﺃﻧﻪ رضى الله عنه ﻟﻤﺎ ﺑﻴﻦ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﺺ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﻤﺒﺪﺋﻴﺔ ﻭﻛﺎﻥ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺨﺘﻢ ﻣﺜﻠﻬﺎ ﻭﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ ﻋﻨﺪ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻛﻤﺎ ﻓﻲ ﻇﺎﻫﺮ ﺍﻟﺸﺮﻉ، ﺫﻛﺮ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ ﺍﻟﻔﺺ ﻣﻦ ﺑﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﺨﺘﻢ ﻭﺃﻟﻤﻊ ﺑﺒﻌﺾ ﺷﺆﻭﻧﻪ ﻣﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻭﻻﺩﺗﻪ ﻭﻣﻮﻟﺪﻩ ﻭﻛﻮﻧﻪ ﺣﺎﻣﻼ ﻟﻸﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺨﺘﺼﺔ ﺑﺸﻴﺚ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ.
ﻗﺎﻝ ﻓﻲ ﻓﺘﻮﺣﺎﺗﻪ، ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﺸﺮ، ﻣﻦ ﺍﻷﺟﻮﺑﺔ ﻟﻠﺤﻜﻴﻢ ﺍﻟﺘﺮﻣﺬﻱ، ﻗﺪﺱ ﺍﻟﻠﻪ ﺭﻭﺣﻪ:
قال الشيخ رضي الله عنه : (ﻭﺫﻟﻚ  ﺃﻥ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻟﻬﺎ ﺑﺪﺀ ﻭﻧﻬﺎﻳﺔ ﻭﻫﻮ ﺧﺘﻤﻬﺎ، ﻗﻀﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺤﺴﺐ ﻧﻌﺘﻬﺎ ﻟﻬﺎ ﺑﺪﺀ ﻭﺧﺘﺎﻡ. ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺟﻤﻠﺔ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﺗﻨﺰﻳﻞ ﺍﻟﺸﺮﺍﺋﻊ، ﻓﺨﺘﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻨﺰﻳﻞ ﺑﺸﺮﻉ ﻣﺤﻤﺪ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻓﻜﺎﻥ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﻨﺒﻴﻴﻦ، ﻭﻛﺎﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻜﻞ ﺷﺊ ﻋﻠﻴﻤﺎ. ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺟﻤﻠﺔ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻭﻟﻬﺎ ﺑﺪﺀ ﻣﻦ ﺁﺩﻡ، ﻓﺨﺘﻤﻬﺎ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻌﻴﺴﻰ، ﻓﻜﺎﻥ ﺍﻟﺨﺘﻢ ﻳﻀﺎﻫﻲ ﺍﻟﺒﺪﺀ: "ﺇﻥ ﻣﺜﻞ ﻋﻴﺴﻰ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﻛﻤﺜﻞ ﺁﺩﻡ". ﻓﺨﺘﻢ ﺑﻤﺜﻞ ﻣﺎ ﺑﻪ ﺑﺪﺃ: ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺒﺪﺀ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻷﻣﺮ ﺑﻨﺒﻲ ﻣﻄﻠﻖ، ﻭﺧﺘﻢ ﺑﻪ ﺃﻳﻀﺎ). ﻫﺬﺍ ﻛﻼﻣﻪ.
ﻭﻣﺎ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﻣﻦ ﻛﻼﻣﻪ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳﺤﺼﻰ. ﻭﺑﻌﺾ ﺍﻟﻤﺤﻘﻘﻴﻦ ﺣﻤﻞ ﻗﻮﻟﻪ: (ﻭﻋﻠﻰ ﻗﺪﻡ ﺷﻴﺚ ﻳﻜﻮﻥ ﺁﺧﺮ ﻣﻮﻟﻮﺩ) ﻋﻠﻰ ﺁﺧﺮ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻄﻮﺭ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ.
ﻭﻗﺎﻝ: (ﺑﻌﺪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺇﻻ ﻃﻮﺭ ﺑﺎﻗﻲ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ: ﻓﻴﻜﻮﻧﻮﺍ ﺣﻴﻮﺍﻧﺎ ﻓﻲ ﺻﻮﺭ ﺍﻷﻧﺎﺳﻲ. ﺛﻢ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﺑﺎﺑﺘﺪﺍﺀ ﺍﻟﺪﻭﺭﺓ ﻭﻣﻀﻰ ﺯﻣﺎﻥ ﺍﻟﺨﻔﺎﺀ ﻭﺍﻟﻈﻠﻤﺔ).
ﻭﺻﺮﺡ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻘﺎﺋﻠﻴﻦ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺑﺄﻧﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﻈﻬﻮﺭ ﺁﺩﻡ ﺁﺧﺮ ﻃﻠﻮﻉ ﺍﻟﺼﺒﺢ ﻣﻦ ﺃﻳﺎﻡ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ، ﺛﻢ ﻇﻬﻮﺭ ﻟﻮﺍﻣﻊ ﺍﻷﻧﻮﺍﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ ﻭﺍﺯﺩﻳﺎﺩ ﺍﻟﻨﻮﺭﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﻳﻨﻜﺸﻒ ﻟﻬﻢ ﺍﻟﺤﻖ ﻣﺮﺓ ﺃﺧﺮﻯ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻳﺔ، ﻭﺗﺤﺼﻞ ﺍﻟﻤﺠﺎﺯﺍﺕ ﻓﻲ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ
(ﺇﻥ ﺧﻴﺮﺍ ﻓﺨﻴﺮ ﻭﺇﻥ ﺷﺮﺍ ﻓﺸﺮ). ﺛﻢ ﻳﻨﺘﻬﻰ ﺇﻟﻰ ﻇﻠﻤﺔ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻫﻜﺬﺍ ﺇﻟﻰ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ.
ﻓﻴﻠﺰﻡ ﻣﻨﻪ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺃﻛﻤﻞ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻣﻘﺎﻣﺎ ﻭﺃﺭﻓﻌﻬﻢ ﻛﺸﻔﺎ ﻭﺣﺎﻻ، ﺑﻞ ﻭﺍﻟﺪ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺗﻤﺎﻣﺎ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ ﺍﻟﺪﻭﺭ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ، ﻷﻥ ﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﺑﺂﺧﺮ ﻣﻮﻟﻮﺩ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻛﻤﺎ ﻣﺮ.
ﻭﻟﺬﻟﻚ ﻗﺎﻝ: (ﻭﻫﻮ ﺣﺎﻣﻞ ﺃﺳﺮﺍﺭﻩ). ﺛﻢ ﻧﺴﺐ ﺇﻟﻰ ﺷﻴﺚ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﺑﺄﻧﻪ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﻗﺎﻝ ﺑﺎﻟﺘﻨﺎﺳﺦ. ﻭﺳﺒﺐ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻣﺎ ﺭﺃﻯ ﻓﻲ ﺷﺮﺡ ﺍﻹﺷﺮﺍﻕ ﺇﻥ ﺁﻏﺎﺛﺎﺫﻳﻤﻮﻥ ﻫﻮ "ﺷﻴﺚ".
ﻭﺫﻛﺮ ﻫﻨﺎﻙ ﻓﻲ ﺑﻴﺎﻥ ﺍﻟﻤﻌﺎﺩ، ﺃﻥ ﺁﻏﺎﺛﺎﺫﻳﻤﻮﻥ ﻭﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻜﻤﺎﺀ ﺍﻟﻤﺘﻘﺪﻣﻴﻦ ﺫﻫﺒﻮﺍ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻨﺎﺳﺦ. ﻭﻓﻴﻪ ﻧﻈﺮ.
ﻷﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺟﻤﻠﺔ ﺷﻴﻮﺥ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ، ﻭﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺯﻣﺎﻥ ﺇﺳﻜﻨﺪﺭ، ﻭﻛﻤﺎ ﺫﻛﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻮﺍﺭﻳﺦ، ﻭ ﻛﺎﻥ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﺃﺳﺘﺎﺫﺍ ﻟﻪ ﺗﻠﻤﻴﺬﺍ ﻷﻓﻼﻃﻮﻥ.
ﻭﺑﻴﻨﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﺷﻴﺚ عليه السلام ﻗﺮﻳﺐ ﺑﺄﺭﺑﻌﺔ ﺁﻻﻑ ﺳﻨﺔ ﺃﻭ ﺃﻛﺜﺮ، ﺇﺫ ﻛﺎﻥ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻄﻮﻓﺎﻥ ﺑﻤﺪﺓ ﻣﺘﻄﺎﻭﻟﺔ.
ﻭﻳﻠﺰﻡ ﻣﻤﺎ ﻗﻴﻞ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻗﺒﻞ ﻧﻮﺡ عليه السلام ﻷﻧﻪ ﺍﺑﻦ ﻣﻠﻚ ﺑﻦ ﻣﺘﻮﺷﻠﺦ ﺑﻦ ﺃﺧﻨﻮﺥ، ﻭﻫﻮ ﺇﺩﺭﻳﺲ ﺑﻦ ﺷﻴﺚ عليه السلام.
ﻓﻬﻮ ﻇﻦ ﻣﻦ ﺷﺎﺭﺡ ﺍﻹﺷﺮﺍﻕ، ﻛﻤﺎ ﻇﻦ ﺃﻥ ﻫﺮﻣﺲ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﻫﻮ ﺇﺩﺭﻳﺲ ﺍﻟﻤﺴﻤﻰ ﺑﻬﺮﻣﺲ ﺃﻳﻀﺎ، ﻟﻼﺷﺘﺮﺍﻙ ﻓﻲ ﺍﻻﺳﻢ، ﺑﻞ ﻛﺎﻥ ﻣﺴﻤﻰ ﺑﻬﺮﻣﺲ ﺍﻟﻬﺮﺍﻣﺴﺔ، ﺇﺫ ﻛﺎﻥ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻜﻤﺎﺀ ﻣﺴﻤﻰ ﺑﻬﺮﻣﺲ.
ﻭﻣﺎ ﺟﺎﺀ ﻓﻲ ﻛﻼﻡ ﺃﻭﻟﻴﺎﺀ ﻣﻤﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺍﻟﺘﻨﺎﺳﺦ، ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﺤﻜﻢ ﺃﺣﺪﻳﺔ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻭﺳﺮﻳﺎﻧﻬﺎ ﻓﻲ ﺻﻮﺭ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ، ﻛﺴﺮﻳﺎﻥ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﻜﻠﻰ ﻓﻲ ﺻﻮﺭ ﺟﺰﺋﻴﺎﺗﻪ، ﻭﻇﻬﻮﺭ ﻫﻮﻳﺔ ﺍﻟﺤﻖ ﻓﻲ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﻭﺻﻔﺎﺗﻪ، ﻟﺬﻟﻚ ﻧﻔﻮﺍ ﺍﻟﺘﻨﺎﺳﺦ ﺣﻴﻦ ﺻﺪﺭ ﻣﻨﻬﻢ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﻼﻡ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺍﻟﻌﺎﺭﻑ ﺍﻟﻤﺤﻘﻖ، ﺍﺑﻦ ﺍﻟﻔﺎﺭﺽ، ﻗﺪﺱ ﺍﻟﻠﻪ ﺭﻭﺣﻪ:
ﻓﻤﻦ ﻗﺎﺋﻞ ﺑﺎﻟﻨﺴﺦ ﻓﺎﻟﻤﺴﺦ ﻭﺍﻗﻊ    ... ﺑﻪ ﺃﺑﺮﺃ ﻭﻛﻦ ﻋﻤﺎ ﻳﺮﺍﻩ ﺑﻌﺰﻟﺘﻲ
ﻭﻟﻠﺮﻭﺡ ﻣﻦ ﺃﻭﻝ ﺗﻨﺰﻻﺗﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻮﻃﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎﻭﻱ، ﺻﻮﺭ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻦ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻌﺒﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺰﻭﻝ، ﻭﺻﻮﺭ ﺑﺮﺯﺧﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺐ ﻫﻴﺂﺗﻬﺎ ﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺔ، ﻭﺻﻮﺭ ﺟﻨﺎﻧﻴﺔ، ﻭﺻﻮﺭ ﺟﻬﻨﻤﻴﺔ ﺗﻄﻠﺒﻬﺎ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺤﺴﻨﺔ ﻭﺍﻷﻓﻌﺎﻝ ﺍﻟﻘﺒﻴﺤﺔ، ﺗﻈﻬﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﺮﺟﻮﻉ.
ﻭﺇﺷﺎﺭﺍﺗﻬﻢ ﻛﻠﻬﺎ ﺭﺍﺟﻌﺔ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻻ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﺑﺪﺍﻥ ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻳﺔ، ﻟﻌﺪﻡ ﺍﻧﺤﺼﺎﺭ ﺍﻟﻌﻮﺍﻟﻢ. ﻭﻟﻮ ﻻ ﻣﺨﺎﻓﺔ ﺍﻟﺘﻄﻮﻳﻞ، ﻟﺬﻛﺮﺕ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﻣﻔﺼﻠﺔ، ﻟﻜﻦ ﺍﻟﺸﺮﻁ ﺃﻣﻠﻚ.
ﻭﺃﻳﻀﺎ، ﻟﻴﺲ ﻗﻮﺓ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻈﻬﻮﺭ ﺑﻌﺪ ﺍﻻﻧﺘﻘﺎﻝ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻐﻴﺐ ﺇﻻ ﻟﻠﻜﻤﻞ ﺍﻟﻤﺴﺮﺣﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻮﺍﻟﻢ ﻻ ﻟﻠﻤﻘﻴﺪﻳﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺮﺍﺯﺥ ﻭﺍﻟﻤﺤﺠﻮﺑﻴﻦ ﻓﻴﻬﺎ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺣﺎﻛﻴﺎ ﻋﻨﻬﻢ: (ﻭﻟﻮ ﺗﺮﻯ ﺇﺫ ﻭﻗﻔﻮﺍ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺎﺭ ﻓﻘﺎﻟﻮﺍ ﻳﺎ ﻟﻴﺘﻨﺎ ﻧﺮﺩ ﻭﻻ ﻧﻜﺬﺏ ﺑﺂﻳﺎﺕ ﺭﺑﻨﺎ ﻭﻧﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ).
ﻭﻗﺎﻝ: "ﻭﻟﻮ ﺭﺩﻭﺍ ﻟﻌﺎﺩﻭﺍ ﻟﻤﺎ ﻧﻬﻮﺍ ﻋﻨﻪ".
ﻭﻗﺎﻟﻮﺍ: "ﺭﺑﻨﺎ ﺃﺑﺼﺮﻧﺎ ﻭﺳﻤﻌﻨﺎ ﻓﺎﺭﺟﻌﻨﺎ ﻧﻌﻤﻞ ﺻﺎﻟﺤﺎ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﻨﺎ ﻧﻌﻤﻞ ﺇﻧﺎ ﻣﻮﻗﻨﻮﻥ".
ﻭﻗﺎﻝ: "ﺃﻧﻈﺮﻭﻧﺎ ﻧﻘﺘﺒﺲ ﻣﻦ ﻧﻮﺭﻛﻢ، ﻗﻴﻞ ﺃﺭﺟﻌﻮﺍ ﻭﺭﺍﺋﻜﻢ ﻓﺎﻟﺘﻤﺴﻮﺍ ﻧﻮﺭﺍ ﻓﻀﺮﺏ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺑﺴﻮﺭ ﻟﻪ ﺑﺎﺏ".
ﻭﻛﻤﺎ ﺃﻧﻬﻢ ﻋﻨﺪ ﻛﻮﻧﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ ﻻ ﻳﻤﻨﻌﻮﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺧﻮﻝ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻐﻴﺐ، ﻛﺬﻟﻚ ﻋﻨﺪ ﻛﻮﻧﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻴﺐ ﻻ ﻳﻤﻨﻌﻮﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻈﻬﻮﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ، ﺇﺫﺍ ﻃﻠﺒﻮﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻖ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻫﻢ ﺫﻟﻚ ﻟﺘﻜﻤﻴﻞ ﺍﻟﻨﺎﻗﺼﻴﻦ.
ﻭﺑﻘﺪﺭ ﺧﻼﺻﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻘﻴﻴﺪ ﻭﺍﻟﺘﻌﺸﻖ ﺑﺎﻟﺒﺮﺍﺯﺥ ﺍﻟﻈﻠﻤﺎﻧﻴﺔ ﻳﺮﺗﻔﻊ ﺍﻟﺘﻐﺎﻳﺮ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻷﻭﻝ، ﻭﻳﺤﺼﻞ ﻟﻬﻢ ﺍﻟﺴﺮﺍﻳﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻈﺎﻫﺮ.
ﻭﻳﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﺃﺷﺮﻧﺎ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﻳﻌﻠﻢ ﺳﺮ ﺩﺧﻮﻝ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﻓﻲ ﺟﻬﻨﻢ ﻹﺧﺮﺍﺝ ﺃﻣﺘﻪ ﻣﺮﺍﺭﺍ.
ﻭﺩﺧﻮﻝ ﺑﺎﻗﻲ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻛﺬﻟﻚ، ﻛﻤﺎ ﺩﻝ ﻋﻠﻴﻪ ﺣﺪﻳﺚ "ﺍﻟﺸﻔﺎﻋﺔ" ﻭﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﺎﺩﻳﺚ ﺍﻟﺼﺤﻴﺤﺔ.
ﻭﻣﻦ ﺃﻣﻌﻦ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﻗﺮﺭ، ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻪ ﺍﻟﻔﺮﻕ ﺑﻴﻨﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﺘﻨﺎﺳﺦ، ﺇﺫ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻓﻮﺍﺭﻕ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻳﺆﺩﻯ ﺫﻛﺮﻫﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻹﺳﻬﺎﺏ. ﻭﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻬﺎﺩﻱ ﻭﺇﻟﻴﻪ ﺍﻟﻤﺂﺏ.
ﻓﻠﻨﺮﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻘﺼﻮﺩ ﻓﻨﻘﻮﻝ، ﻗﺪ ﺳﺒﻖ ﺃﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺟﺎﻣﻊ ﻟﺠﻤﻴﻊ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ ﻭﺍﻹﻟﻬﻴﺔ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﻧﺴﺨﺔ ﻣﻨﻬﻤﺎ، ﻓﻤﺎ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ ﻻ ﺑﺪ ﻭﺇﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻣﻨﻪ ﺃﻧﻤﻮﺫﺝ. 
ﻭﻗﺪ ﺫﻛﺮ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺍﻟﻤﺴﻤﻰ ﺑﻌﻨﻘﺎﺀ ﺍﻟﻤﻐﺮﺏ: 
قال الشيخ رضي الله عنه : (ﻭﻛﻨﺖ ﻧﻮﻳﺖ ﺃﻥ ﺃﺟﻌﻞ ﻓﻴﻪ ﺃﻋﻨﻲ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺍﻟﻤﺴﻤﻰ ﺑﺎﻟﺘﺪﺑﻴﺮﺍﺕ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻟﻤﺎ ﺳﺒﻖ ﺫﻛﺮﻩ ﻣﺎ ﺃﻭﺿﺤﻪ ﺗﺎﺭﺓ ﻭﺃﺧﻔﻴﻪ، ﺃﻳﻦ ﺗﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﺴﺨﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻨﺸﺄﺓ ﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺔ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻹﻣﺎﻡ ﺍﻟﻤﻬﺪﻯ ﺍﻟﻤﻨﺴﻮﺏ ﺇﻟﻰ ﺑﻴﺖ ﺍﻟﻨﺒﻲ، ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭ ﺳﻠﻢ، ﺍﻟﻤﻘﺎﻣﻲ ﻭﺍﻟﻄﻴﻨﻲ، ﻭﺃﻳﻦ ﻳﻜﻮﻥ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻭﻃﺎﻟﻊ ﺍﻷﺻﻔﻴﺎﺀ، ﺇﺫ ﺍﻟﺤﺎﺟﺔ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻫﺬﻳﻦ ﺍﻟﻤﻘﺎﻣﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺁﻛﺪ ﻣﻦ ﻣﻀﺎﻫﺎﺓ ﺍﻷﻛﻮﺍﻥ ﺍﻟﺤﺪﺛﺎﻥ. ﻓﺠﻌﻠﺖ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻫﺬﻳﻦ ﺍﻟﻤﻘﺎﻣﻴﻦ. ﻭﻣﺘﻰ ﺗﻜﻠﻤﺖ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ، ﻓﺈﻧﻤﺎ ﺃﺫﻛﺮ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ ﻟﻴﺘﺒﻴﻦ ﺍﻷﻣﺮ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﺴﺎﻣﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﺮﻓﻪ ﻭﻳﻌﻘﻠﻪ، ﺛﻢ ﺃﺿﺎﻫﻴﻪ ﺑﺴﺮﻩ ﺍﻟﻤﻮﺩﻉ ﻓﻲ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻳﻨﻜﺮﻩ ﻭﻳﺠﻬﻠﻪ).
ﻫﺬﺍ ﻛﻼﻣﻪ رضى الله عنه. ﻭﺃﻧﺎ ﺃﺫﻛﺮ ﻣﺎ ﻳﺴﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﻟﻲ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الثامن .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:00 am

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية الجزء الثامن .شرح داود القيصرى متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فص حكمة إلهية في كلمة شيثية  الجزء الثامن

ﺃﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ "ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ" ﻓﻘﻮﻟﻪ: (ﻭﻋﻠﻰ ﻗﺪﻡ ﺷﻴﺚ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﻳﻜﻮﻥ ﺁﺧﺮ ﻣﻮﻟﻮﺩ).
ﺃﻱ، ﻣﺎ ﻳﻮﻟﺪ ﺁﺧﺮﺍ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻳﻜﻮﻥ ﻭﻟﻴﺎ ﺣﺎﻣﻼ ﺃﺳﺮﺍﺭﻩ ﻣﺘﺼﻔﺎ ﺑﻌﻠﻮﻣﻪ ﺁﺧﺬﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺷﻴﺚ ﺁﺧﺬﺍ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ، ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻄﺎﻳﺎ ﻭﺍﻟﻤﻮﺍﻫﺐ.
ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ ﻟﻠﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ، ﻭﺟﻤﻴﻊ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺃﻭﻻﺩﻩ.
ﻭﻟﻴﺲ ﺑﻌﺪﻩ ﻭﻟﺪ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ. ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﺩ بـ "ﺍﻟﺼﻴﻦ" ﺍﻟﻌﺠﻢ.
ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻨﻘﺎﺀ ﺍﻟﻤﻐﺮﺏ: (ﻭﻫﻮ ﺃﻱ ﺍﻟﺨﺎﺗﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺠﻢ ﻻ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺮﺏ. ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺗﻮﻟﺪ ﻣﻌﻪ ﺃﺧﺘﻪ ﻟﻴﻜﻮﻥ ﺍﻻﺧﺘﺘﺎﻡ ﻣﺸﺎﺑﻬﺎ ﻟﻼﺑﺘﺪﺍﺀ، ﻓﺈﻥ ﺧﻠﻖ ﺁﺩﻡ ﻛﺎﻥ ﻣﻘﺎﺭﻧﺎ ﺑﺨﻠﻖ ﺣﻮﺍء).
ﻭﺟﻌﻞ ﺍﻟﺸﻴﺦ رضى الله عنه ﺣﻮﺍء ﺃﺧﺘﺎ ﻟﻌﻴﺴﻰ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﻓﻲ ﻛﻮﻥ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎ ﺑﻐﻴﺮ ﺃﺏ.
ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﺍﻟﻌﺎﺷﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺘﻮﺣﺎﺕ: 
(ﻓﺄﻭﺟﺪ ﻋﻴﺴﻰ ﻋﻦ ﻣﺮﻳﻢ ﻓﻨﺰﻟﺖ ﻣﺮﻳﻢ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﺁﺩﻡ، ﻭﻳﻨﺰﻝ ﻋﻴﺴﻰ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﺣﻮﺍ. ﻓﻜﻤﺎ ﻭﺟﺪﺕ ﺃﻧﺜﻰ ﻣﻦ ﺫﻛﺮ، ﻭﺟﺪ ﺫﻛﺮ ﻣﻦ ﺃﻧﺜﻰ، ﻓﺨﺘﻢ ﺑﻤﺜﻞ ﻣﺎ ﺑﺪﺃ ﻓﻲ ﺇﻳﺠﺎﺩ ﺍﺑﻦ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺃﺏ، ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻮﺍ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺃﻡ. ﻭﻛﺎﻥ ﻋﻴﺴﻰ ﻭﺣﻮﺍ ﺃﺧﻮﻳﻦ، ﻭﻛﺎﻥ ﺁﺩﻡ ﻭﻣﺮﻳﻢ ﺃﺑﻮﻳﻦ ﻟﻬﻤﺎ: "ﺇﻥ ﻣﺜﻞ ﻋﻴﺴﻰ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﻛﻤﺜﻞ ﺁﺩﻡ".
ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﺑﺎﻟﺴﺎﻋﺔ، ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ ﺍﻟﺘﻲ ﻋﻨﺪﻫﺎ ﻳﺤﺼﻞ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻖ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﻛﻠﻪ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺃﻓﻌﺎﻟﻬﻢ ﺳﺒﺒﺎ ﻟﻬﻼﻛﻬﻢ ﻭﻓﻨﺎﺋﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻖ، ﻭﻗﺮﺑﻬﻢ ﻣﻨﻪ ﻣﻮﺟﺒﺎ ﻟﻠﻮﺻﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﻜﻤﺎﻝ).
ﻛﻤﺎ ﻳﺪﻝ ﻛﻼﻣﻪ رضى الله عنه ﻓﻲ ﺁﺧﺮ "ﺍﻟﻔﺺ ﺍﻟﻨﻮﺣﻲ" ﻭﻣﻮﺍﺿﻊ ﺁﺧﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ.
ﻭﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﻇﺎﻫﺮ. ﻭﺃﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ، ﻓﺂﺩﻡ ﻫﻮ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻟﻜﻠﻰ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻱ ﺍﻟﺬﻱ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡ، ﺑﺄﺳﺮﻫﺎ، ﺃﻭﻻﺩﻩ، ﻭﺷﻴﺚ ﻫﻮ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻟﺠﺰﺋﻲ ﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﺒﺪﻥ.
ﻭﺍﻟﻤﻮﻟﻮﺩ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻠﺪ ﺑﺎﻟﺼﻴﻦ، ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﺍﻟﻤﺘﻮﻟﺪ ﻓﻲ ﺻﻴﻦ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ، ﺃﻱ، ﻓﻲ ﺃﻗﺼﻰ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻨﺰﻝ ﻭﻫﻮ ﺣﺎﻣﻞ ﺍﻷﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﻤﻮﺩﻋﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻟﻜﻠﻰ ﺃﻭﻻ، ﺛﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻟﺠﺰﺋﻲ ﺛﺎﻧﻴﺎ، ﻭﻫﻤﺎ ﻟﻴﺴﺎ ﺑﻤﺘﻐﺎﺋﺮﻳﻦ ﺇﻻ ﺑﺎﻟﻤﺮﺗﺒﺔ.
ﻭﻛﻮﻧﻪ ﺁﺧﺮ ﻣﻮﻟﻮﺩ، ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻣﻈﻬﺮ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻟﺠﻤﻊ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻴﺲ ﻓﻮﻗﻪ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻛﻤﺎﻟﻴﺔ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺇﻻ ﺁﺧﺮﺍ. ﻭﺃﺧﺘﻪ، ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﻴﺔ ﺍﻟﻤﺘﻮﻟﺪﺓ ﻗﺒﻞ ﺍﻟﻘﻠﺐ.
ﻭﻛﻮﻥ ﺭﺃﺳﻪ ﻋﻨﺪ ﺭﺟﻠﻴﻬﺎ، ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻋﻨﺪ ﺍﺑﺘﺪﺍﺀ ﻇﻬﻮﺭﻩ ﻭﻭﻻﺩﺗﻪ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﻣﻄﻴﻌﺎ ﻣﺬﻋﻨﺎ ﻟﻠﻨﻔﺲ ﺑﺤﺴﺐ ﻗﻮﺗﻴﻬﺎ ﺍﻟﺸﻬﻮﻳﺔ ﻭﺍﻟﻐﻀﺒﻴﺔ ﺍﻟﻠﺘﻴﻦ ﻛﺎﻟﺮﺟﻠﻴﻦ ﻟﻠﻨﻔﺲ، ﺇﺫ ﺑﻬﻤﺎ ﺗﺴﻌﻰ ﻓﻲ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﻟﺬﺍﺗﻬﺎ ﻭﺷﻬﻮﺍﺗﻬﺎ.
ﻓﺈﺫﺍ ﻇﻬﺮﺕ ﻭﺗﻤﺖ ﻭﻻﺩﺗﻪ، ﺭﺑﺎﻩ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻟﻜﻠﻰ ﺑﻠﺒﺎﻥ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻠﺪﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﻌﺎﺭﻑ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﺇﺫﺍ ﺑﻠﻎ ﺃﺷﺪﻩ ﻭﺍﺳﺘﺨﺮﺝ ﻛﻨﺰﻩ ﺻﺎﺭ ﺩﺍﻋﻴﺎ ﻟﻠﻨﻔﺲ ﻭﻗﻮﺍﻫﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺠﻤﻊ ﺍﻹﺣﺎﻃﻲ ﻭﻣﻘﺎﻡ ﺍﻻﺳﻢ ﺍﻹﻟﻬﻲ. ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻠﻨﻔﺲ ﻭﻗﻮﺍﻫﺎ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻟﺘﻘﻴﺪﻫﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﻌﻄﻰ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻫﺎ، ﻓﻼ ﻳﺠﺎﺏ ﻭﻳﺴﺮﻯ ﺍﻟﻌﻘﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺟﺎﻝ ﻭﺍﻟﻨﺴﺎﺀ، ﺃﻱ، ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻮﻯ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﻭﺍﻟﻤﻨﻔﻌﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻠﻨﻔﺲ، ﻓﻼ ﻳﺘﻮﻟﺪ ﻣﻮﻟﻮﺩ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﻛﻤﺎﻟﻪ، ﻓﻬﻮ ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻷﻭﻻﺩ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻟﻬﻢ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺍﻟﻜﻤﺎﻝ ﻭﻗﻮﺓ ﻇﻬﻮﺭ ﺳﺮ ﺃﺑﻴﻬﻢ ﻓﻴﻬﻢ.
ﻓﺈﺫﺍ ﻗﺒﻀﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﺈﻓﻨﺎﺋﻪ ﻓﻴﻪ ﺑﺎﻟﺘﺠﻠﻲ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﻭﺍﻻﻧﺠﺬﺍﺏ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﺸﻬﻮﺩ ﻧﻮﺭ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﻣﻊ ﻋﺪﻡ ﺍﻟﺮﺩ ﺇﻟﻰ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻣﺮﺓ ﺃﺧﺮﻯ، ﻭﻗﺒﺾ ﻣﺆﻣﻨﻲ ﺯﻣﺎﻧﻪ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻘﻮﻯ ﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻘﻠﺒﻴﺔ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻟﺘﺠﻠﻲ، ﺑﻘﻰ ﻣﻦ ﺑﻘﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻭﻗﻮﺍﻫﺎ ﻣﺜﻞ ﺍﻟﺒﻬﺎﺋﻢ ﻭﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ ﺍﻟﻌﺠﻢ ﻟﻌﺪﻡ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ ﺍﻟﺘﺮﻗﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﻘﺎﻡ ﻳﺘﺮﻗﻰ ﺇﻟﻴﻪ ﺍﻟﻘﻠﺐ.
ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮﻥ ﺍﻟﻈﻠﻤﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻭﻻ ﻳﻤﻴﺰﻭﻥ ﺑﻴﻦ ﻣﺎ ﻳﻮﺟﺐ ﺍﻟﺘﺮﺡ ﻭﺍﻟﺴﺮﻭﺭ، ﻓﻴﺸﺘﻐﻠﻮﻥ ﺑﻤﻘﺘﻀﻰ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻫﻢ، ﺧﻴﺮﺍ ﻛﺎﻥ ﺃﻭ ﺷﺮﺍ، ﻭﻳﺘﺼﺮﻓﻮﻥ ﺑﺤﻜﻢ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺎﻟﺸﻬﻮﺓ ﺍﻟﻤﺤﻀﺔ ﻣﺠﺮﺩﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﺸﺮﻉ ﺍﻟﻠﺬﻳﻦ ﻫﻤﺎ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﺍﻹﻟﻬﻲ، ﺇﺫ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻫﻢ ﻻ ﻳﻌﻄﻰ ﺇﻻ ﺫﻟﻚ.
ﻛﻤﺎ ﻳﺸﺎﻫﺪ ﻣﻦ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﻤﺠﺬﻭﺑﻴﻦ ﻣﻦ ﻋﺪﻡ ﺍﻟﺘﻤﻴﺰ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﻭﺍﻟﺴﻜﻨﺎﺕ ﻭﺍﻟﺤﻞ ﻭﺍﻟﺤﺮﻣﺔ ﻭﺍﻟﻌﺮﻯ ﻭﺍﻟﺴﺘﺮ. ﻓﻌﻠﻴﻬﻢ ﻳﻘﻮﻡ ﺍﻟﺴﺎﻋﺔ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﺍﻟﺼﻐﺮﻯ ﻫﺬﺍ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺠﺬﻭﺑﻴﻦ.
ﻭﺃﻣﺎ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺍﻟﺼﺤﻮ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻤﺤﻮ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻤﻞ، ﻓﻼ ﻳﺪﺧﻠﻮﻥ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﻜﻢ، ﻷﻧﻬﻢ ﻣﺴﺘﺜﻨﻮﻥ ﻣﻨﻪ.
ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: "ﻓﺼﻌﻖ ﻣﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﻣﻦ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺷﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ".
ﻷﻥ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻭﺍﻟﺨﺘﻢ. ﻭﻛﺬﺍ ﺍﻟﻤﺤﺠﻮﺑﻮﻥ، ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻣﺎ ﻇﻬﺮ ﻟﻬﻢ ﺍﻟﺨﺘﻢ ﻭﻻ ﺣﺼﻞ ﻟﻬﻢ ﺍﻟﻌﻠﻢ، ﻓﻼ ﻳﺰﺍﻟﻮﻥ ﻓﻲ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺒﻬﺎﺋﻢ ﻭﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ، ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: "ﺃﻭﻟﺌﻚ ﻛﺎﻷﻧﻌﺎﻡ ﺑﻞ ﻫﻢ ﺃﺿﻞ".
ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺑﺴﻄﺖ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﻭﻧﻘﻠﺖ ﺃﻟﻔﺎﻅ ﺍﻟﺸﻴﺦ رضي الله عنه ﺑﻌﻴﻨﻬﺎ ﻛﺜﻴﺮﺍ، ﻟﺌﻼ ﻳﻌﺪﻝ ﺍﻟﻨﺎﻇﺮ ﻓﻴﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺗﺄﻭﻝ ﺑﺤﺴﺐ ﻣﺎ ﻳﺸﺘﻬﻴﻪ ﻭﻳﻘﺘﻀﻴﻪ ﻋﻘﻠﻪ، ﻓﺈﻥ ﺍﻷﻣﺮ ﻓﻮﻕ ﻣﺪﺍﺭﻙ ﺍﻟﻌﻘﻮﻝ.
ﻭﺍﻟﺤﻤﺪ ﻟﻮﻟﻴﻪ.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 03 - ﻓﺺ ﺣﻜﻤﺔ ﺳﺒﻮﺣﻴﺔ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻧﻮﺣﻴﺔ الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:01 am

03 - ﻓﺺ ﺣﻜﻤﺔ ﺳﺒﻮﺣﻴﺔ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻧﻮﺣﻴﺔ الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
03 - ﻓﺺ ﺣﻜﻤﺔ ﺳﺒﻮﺣﻴﺔ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻧﻮﺣﻴﺔ     الجزء الأول
ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺑﻌﺪ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺒﺪﺋﻴﺔ، ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺍﻟﻌﻘﻮﻝ ﺍﻟﻤﺠﺮﺩﺓ ﻭﻟﻬﻢ ﺗﻨﺰﻳﻪ ﺍﻟﺤﻖ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻘﺎﺋﺺ ﺍﻹﻣﻜﺎﻧﻴﺔ - ﻷﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﻛﻤﺎﻻﺗﻬﻢ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻣﻮﺟﻮﺩﺓ ﻭﻧﻘﺎﺋﺼﻬﻢ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﺣﺘﻴﺎﺟﻬﻢ ﻭﺇﻣﻜﺎﻧﻬﻢ ﺑﺤﺴﺐ ﻭﺟﻮﺩﺍﺗﻬﻢ ﺍﻟﻤﺘﻌﻴﻨﺔ ﻭﺫﻭﺍﺗﻬﻢ ﺍﻟﻤﺘﻘﻴﺪﺓ ﻭﻛﻞ ﻣﻨﺰﻩ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻨﺰﻩ ﺍﻟﺤﻖ ﻋﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻘﺺ - ﺃﺭﺩﻑ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ (ﺍﻟﺴﺒﻮﺣﻴﺔ) ﺑﺎﻟﺤﻜﻤﺔ (ﺍﻟﻨﻔﺜﻴﺔ) ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻐﺎﻟﺐ ﻋﻠﻰ ﻧﻮﺡ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﺗﻨﺰﻳﻪ ﺍﻟﺤﻖ ﻟﻜﻮﻧﻪ ﺃﻭﻝ ﺍﻟﻤﺮﺳﻠﻴﻦ - ﻭﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺃﻥ ﻳﺪﻋﻮ ﺃﻣﺘﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻖ ﺍﻟﻮﺍﺟﺐ ﺍﻟﻤﻨﺰﻩ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﻘﺎﺋﺺ ﺍﻹﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﻭﻳﻨﻔﻰ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻋﻦ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻭﻗﻊ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻐﻴﺮﻳﺔ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﻠﻢ ﺃﻧﻪ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﺠﻠﻲ ﺇﻟﻬﻲ ﻭﻛﺎﻥ ﺍﻟﻐﺎﻟﺐ ﻋﻠﻰ ﻗﻮﻣﻪ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺍﻷﺻﻨﺎﻡ ﻭ ﻫﻮ ﻣﻨﺰﻩ ﻋﻨﻬﺎ - ﻗﺎﺭﻥ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﺴﺒﻮﺣﻴﺔ ﺑﺎﻟﻜﻠﻤﺔ (ﺍﻟﻨﻮﺣﻴﺔ) ﻟﻠﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ.
ﻭﻣﻌﻨﻰ (ﺍﻟﺴﺒﻮﺡ) ﺍﻟﻤﺴﺒﺢ ﻭﺍﻟﻤﻨﺰﻩ، ﺍﺳﻢ ﻣﻔﻌﻮﻝ، ﻙ (ﺍﻟﻘﺪﻭﺱ) ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﻤﻘﺪﺱ.
(ﺍﻋﻠﻢ، ﺃﻥ ﺍﻟﺘﻨﺰﻳﻪ ﻋﻨﺪ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻨﺎﺏ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﻭﺍﻟﺘﻘﻴﻴﺪ. ﻭﺍﻟﻤﻨﺰﻩ ﺇﻣﺎ ﺟﺎﻫﻞ ﻭﺇﻣﺎ ﺻﺎﺣﺐ ﺳﻮﺀ ﺃﺩﺏ). ﺍﻋﻠﻢ، ﺃﻥ ﺍﻟﺘﻨﺰﻳﻪ ﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻘﺎﺋﺺ ﺍﻹﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﻓﻘﻂ، ﺃﻭ ﻣﻨﻬﺎ ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻜﻤﺎﻻﺕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺃﻳﻀﺎ.
ﻭﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻋﻨﺪ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻭﺍﻟﺸﻬﻮﺩ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻟﻠﺠﻨﺎﺏ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﻭﺗﻘﻴﻴﺪ ﻟﻪ، ﻷﻧﻪ ﻳﻤﻴﺰ ﺍﻟﺤﻖ ﻋﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻭﻳﺠﻌﻞ ﻇﻬﻮﺭﻩ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﻣﺮﺍﺗﺒﻪ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻘﺘﻀﻰ ﺍﻟﺘﻨﺰﻳﻪ ﺩﻭﻥ ﺍﻟﺒﻌﺾ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻘﺘﻀﻰ ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻪ، ﻛﺎﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﻭﺍﻟﺴﻤﻊ ﻭﺍﻟﺒﺼﺮ ﻭﻏﻴﺮ ﺫﻟﻚ.
ﻭﻟﻴﺲ ﺍﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ.
ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﺑﺬﻭﺍﺗﻬﻢ ﻭﻭﺟﻮﺩﺍﺗﻬﻢ ﻭﻛﻤﺎﻻﺗﻬﻢ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﻟﻠﺤﻖ، ﻭﻫﻮ ﻇﺎﻫﺮ ﻓﻴﻬﻢ ﻭﻣﺘﺠﻞ ﻟﻬﻢ: (ﻭﻫﻮ ﻣﻌﻬﻢ ﺃﻳﻨﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮﺍ).
ﻓﻴﻪ ﺫﻭﺍﺗﻬﻢ ﻭﻭﺟﻮﺩﻫﻢ ﻭﺑﻘﺎﺅﻫﻢ ﻭﺟﻤﻴﻊ ﺻﻔﺎﺗﻬﻢ، ﺑﻞ ﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻇﻬﺮ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﻛﻠﻬﺎ، ﻓﻬﻲ ﻟﻠﺤﻖ ﺑﺎﻷﺻﺎﻟﺔ، ﻭﻟﻠﺨﻠﻖ ﺑﺎﻟﺘﺒﻌﻴﺔ.
ﻓﺎﻟﻤﻨﺰﻩ ﺇﻣﺎ ﺟﺎﻫﻞ ﺑﺎﻷﻣﺮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ، ﺃﻭ ﻋﺎﻟﻢ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﻠﻪ ﻣﻈﻬﺮﻩ. ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻥ ﺟﺎﻫﻼ ﻭﺣﻜﻢ ﺑﺠﻬﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻗﻴﺪﻩ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﻣﺮﺍﺗﺒﻪ، ﻓﻬﻮ ﺟﺎﻫﻞ ﻭﺻﺎﺣﺐ ﺳﻮﺀ ﺃﺩﺏ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻋﺎﻟﻤﺎ ﺑﻪ، ﻓﻘﺪ ﺃﺳﺎﺀ ﺍﻷﺩﺏ ﻣﻊ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻭﺭﺳﻠﻪ ﺑﻨﻔﻴﻪ ﻋﻨﻪ ﻣﺎ ﺃﺛﺒﺘﻪ ﻫﻮ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﻣﻲ ﺟﻤﻌﻪ ﻭﺗﻔﺼﻴﻠﻪ. ﻫﺬﺍ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ.
ﻭﺃﻣﺎ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻷﺣﺪﻳﺔ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ، ﻓﻼ ﺗﺸﺒﻴﻪ ﻭﻻ ﺗﻨﺰﻳﻪ ﺇﺫ ﻻ ﺗﻌﺪﺩ ﻓﻴﻪ ﺑﻮﺟﻪ ﺃﺻﻼ.
ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻓﻲ ﻋﻨﻘﺎﺀ ﺍﻟﻤﻐﺮﺏ ﻣﺨﺎﻃﺒﺎ ﻟﻠﻤﻨﺰﻩ: (ﻭﻏﺎﻳﺔ ﻣﻌﺮﻓﺘﻚ ﺑﻪ ﺃﻥ ﺗﺴﻠﺐ ﻋﻨﻪ ﻧﻘﺎﺋﺺ ﺍﻟﻜﻮﻥ، ﻭﺳﻠﺐ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻋﻦ ﺭﺑﻪ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺠﻮﺯ ﻋﻠﻴﻪ، ﺭﺍﺟﻊ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﻗﺎﻝ ﻣﻦ ﻗﺎﻝ: "ﺳﺒﺤﺎﻧﻲ" ﺩﻭﻥ ﺍﻟﺘﻮﺍﻧﻲ. ﻫﻴﻬﺎﺕ ﻗﺪ ﻭﻫﻞ ﻳﻌﺮﻯ ﻣﻦ ﺷﺊ ﺇﻻ ﻣﻦ ﻟﺒﺴﻪ، ﺃﻭ ﻳﺆﺧﺬ ﺷﺊ ﺇﻻ ﻣﻤﻦ ﺣﺒﺴﻪ؟ ﻭﻣﺘﻰ ﻟﺒﺲ ﺍﻟﺤﻖ ﺻﻔﺎﺕ ﺍﻟﻨﻘﺺ ﺣﺘﻰ ﺗﺴﻠﺒﻬﺎ ﻋﻨﻪ ﺃﻭ ﺗﻌﺮﻳﻪ؟ ﻭﺍﻟﻠﻪ، ﻣﺎ ﻫﺬﻩ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﺘﻨﺰﻳﻪ.
ﻓﺎﻟﺘﻨﺰﻳﻪ ﺭﺍﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺗﻄﻬﻴﺮ ﻣﺤﻠﻚ ﻻ ﺇﻟﻰ ﺫﺍﺗﻪ. ﻭﻫﻮ ﻣﻦ ﺟﻤﻠﺔ ﻣﻨﺤﻪ ﻟﻚ ﻭﻫﺒﺎﺗﻪ).
ﻭﺍﻟﺒﺎﺭﻱ ﻣﻨﺰﻩ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﻨﺰﻳﻪ، ﻓﻜﻴﻒ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻪ
(ولكن إذا أطلقاه وقالا به، فالقائل بالشرائع المؤمن، إذا نزه ووقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك، فقد أساء الأدب وأكذب الحق والرسل، صلوات الله عليهم، وهو لا يشعر ويتخيل أنه في الحاصل وهو في الفائت. وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض). أي، الجاهل وصاحب سوء الأدب إذا أطلقا التنزيه وقالا به،
كل منهما إما أن يكون مؤمنا بالشرائع والكتب الإلهية، أو غير مؤمن بها. فالمؤمن إذا نزه الحق ووقف عنده ولم يشبه في مقام التشبيه ولم يثبت تلك الصفات التي هي كمالات في العالم، فقد أساء الأدب وكذب الرسل والكتب الإلهية فيما أخبر به عن نفسه بأنه (الحي القيوم السميع البصير).
ولا يشعر بهذا التكذيب الصادر منه، ويتخيل أنها له حاصلا من العلوم والمعارف وأنه مؤمن وموحد، وما يعلم أنها فائت منه، وهو كمن آمن ببعض، وهو مقام التنزيه، وكفر ببعض، وهو
مقام التشبيه.
وغير المؤمن، سواء كان قائلا بعقله كالفلاسفة أو لم يكن كمقلديهمالمتفلسفة، فقد ضل وأضل، لأنه ما علم الأمر على ما هو عليه، وما اهتدى بنور الإيمان الرافع للحجب. وإنما ترك هذا القسم لوضوح بطلانه.
(ولا سيما قد علم) على البناء للفاعل أو المفعول. (إن ألسنة الشرائع الإلهية
إذا نطقت في الحق بما نطقت به، إنما جاءت به في العموم) أي، في حق عامة الخلائق. (على المفهوم الأول، وعلى الخصوص) أي، وعلى لسان الخاصة.
قال الشيخ رضي الله عنه : (على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ بأي لسان كان في وضع ذلك اللسان.) أي، وقد علم هذا العالم المنزه أن الكلام الإلهي وإن كان له مفهوم عام يفهمه كلمن يسمعه لسبق الذهن إليه عند سماعه، لكن بالنسبة إلى طائفة معينة، من الموحدين والمحققين وباقي علماء الظاهر، له مفهومات خاصة و وجوه متكثرة ومعاني متعددة، يتجلى الحق لهم فيه، يعلمون ذلك أولا يعلمون. بل بالنسبة إلى كل شخص منهم، كما قال تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها.)
وقال جعفر الصادق، عليه السلام: (إن الله تعالى قد يتجلى لعباده في كلامه
لكنهم لا يعلمون) ولما كان هذا المعنى غير مختص بالقرآن، بل هو من خاصة كلامه تعالى، قال: (بأي لسان كان في وضع ذلك اللسان). وقد نبه النبي، صلىالله عليه وسلم، بقوله: (إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا.)
(فإن للحق في كل خلق ظهورا خاصا) تعليل على أن المراد مفهوم عموم الناس وخصوصهم، سواء كان ذلك الكلام عربيا كالقرآن، أو غير عربي كالتوراة والإنجيل. أي، الحق يتجلى لعباده على ما يعطيه استعداداتهم، فله فيكل خلق ظهور خاص.
(فهو الظاهر في كل مفهوم ، وهو الباطن عن كل فهم) أي، فهو المتجلي فيكل مفهوم ومدرك من حيث كونه مدركا، وهو مختف وباطن عن كل فهم، لعدم إدراك الفهوم جميع تجلياته وظهوراته في مظاهره. (إلا عن فهم من قال: إن العالم صورته ومظهر هويته). أي، هو مختلف عن كل فهم إلا عن فهم من يعرف أن العالم صورته ومظهر هويته، فإنه حينئذ يشاهده في جميع المظاهر، كما قالأبو يزيد، قدس الله سره: (الآن، ثلثين سنة ما أتكلم إلا مع الله، والناس يزعمون أني معهم أتكلم).
واعلم، أن هذا الفهم إنما هو بحسب الظهوروالتجلي لا بحسب الحقيقة، فإن حقيقته وذاته لا يدرك أبدا ولا يمكن الإحاطة عليها سرمدا. ولا بحسب مجموع التفصيل أيضا، فإن مظاهر الحق مفصلا غيرمتناهية وإن كانت بحسب مجموع الأمهات متناهية.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الباطن). أي، العالم، بأسره، عبارة عن اسمه (الظاهر)، كما أن الحق من حيث المعنى والحقيقة روح العالم. وهذا الروح هو عبارة عن اسمه (الباطن.)
واعلم، أن الاسم (الظاهر) اقتضى ظهور العالم، و (الباطن) اقتضى بطون حقائقه. والمقتضى وهو إن كان باعتبار غير المقتضى، لكون الربوبية غير المربوبية، لكنه باعتبار آخر عينه وهو أحدية حقيقة الحقائق، لذلك جعل العالم عين الاسم الظاهر وروحه عين الاسم الباطن.
(فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة). أي، إذا كان العالم صورة الحق وهو روحه، فنسبة الحق إلى كل ما ظهر من صور العالم نسبة الروح الجزئي المدبر للصورة المعينة إليها في كونه مدبرا، كما قال: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض). و (اللام) في (لما ظهر) بمعنى (إلى). وقوله:
(للصورة) متعلق ب (المدبر). وصلة (النسبة) محذوفة، أي إلى الصورة.
(فيؤخذ في حد الإنسان، مثلا، باطنه وظاهره وكذلك كل محدود). (الفاء) للسببية.
ولما كان ظاهر العالم ظاهر الحق وباطنه باطن الحق، والباطن مأخوذ فيتعريف الإنسان وتحديده لأنه معرف بالحيوان الناطق، والناطق باطنه والحيوان ظاهره. أو الهيئة الاجتماعية الحاصلة من الجنس والفصل ظاهره الذي به سر
الأحدية فيه وحقائقهما المشتركة والمميزة باطنه، فالحق مأخوذ في حده وكذلك فيكل محدود، إذ لا بد في كل من المحدودات من أمر عام مشترك وأمر خاص مميز، وكلاهما ينتهيان إلى الحق الذي هو باطن كل شئ.
(فالحق محدود بكل حد) لأن كل ما هو محدود بحد مظهر من مظاهره:
ظاهره من اسمه الظاهر وباطنه من اسمه الباطن، والمظهر عين الظاهر باعتبار الأحذية، فالحق هو المحدود.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وصور العالم لا ينضبط ولا يحاط بها، ولا يعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورة، فلذلك يجهل حد الحق. فإنه لا يعلم حده إلا ويعلم حد كل صورة، وهذا محال حصوله، فحد الحق محال). أي، صور العالم وجزئياته مفصلا غير منضبطة ولا منحصر، والحدود لا تعلم إلا بعد الإحاطة بصور الأشياء وحقائقها، فالعلم بحدودها محال، فحد الحق من حيث مظاهره أيضا محال.
وفي قوله: (إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورة) إشارة إلى أن كلواحد من الموجودات أيضا لا يعلم من حيث حقيقته، لأن حقيقته راجعة إلى عين الحق وحقيقته، وهي غير معلومة للعالم.
قال رضى الله عنه: (ولست أدرك من شئ حقيقته وكيف أدركه وأنتم فيه)
(وكذلك من شبهه وما نزهه فقد قيده وحدده وما عرفه. ومن جمع في معرفته
بين التنزيه والتشبيه ووصفه بالوجهين على الإجمال - لأنه يستحيل ذلك على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور - فقد عرفه مجملا لا على التفصيل، كما عرف نفسه مجملا لا على التفصيل). أي، من شبهه مطلقا وما نزهه في مقام التنزيه،فقد قيده أيضا وحده في تشبيه وما عرفه، كالمجسمة.
ومن جمع في معرفته بين التشبيه والتنزيه ونزل كلا منزلته ومرتبته ووصف الحق بهما على الإجمال - لأنه يستحيل ذلك على التفصيل إذ كل منهما مراتب غير متناهية لا يمكن الإحاطة بها- فقد عرف ربه مجملا، كما عرف نفسه مجملا.
لأن المرتبة الإنسانية محيطة بجميع مراتب العالم، والإنسان لا يقدر أن يعرف تلك المراتب على التفصيل، بل إذا علمأن مرتبته مشتملة بمراتب العالم كلها، علما اجماليا، فهو عارف بنفسه معرفة اجمالية، إلا من له مقام القطبية، فإنه من حيث سريانه في الحقائق بالحق يطلع على المراتب كلها تفصيلا، وإن كان هو أيضا من حيث تعينه وبشريته لا يقدر) عليها دائما.
(ولذلك ربط النبي، صلى الله عليه وسلم، معرفة الحق بمعرفة النفس فقال:
"من عرف نفسه فقد عرف ربه".) أي، ولكون النفس الإنسانية مشتملة على جميع المراتب الكونية والإلهية، والحق أيضا مشتمل عليها بحسب ظهوراته فيها،وما يعرف العارف نفسه غالبا إلا مجملا كما لا يعلم مراتب ربه إلا مجملا، ربط النبي، صلى الله عليه وسلم، معرفة الرب بمعرفة النفس.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وقال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق) وهو ما خرج عنك (وفي أنفسهم) وهو عينك (حتى يتبين لهم) أي،للناظرين لهم (أنه الحق) من حيث إنك صورته، وهو روحك).
استشهاد بالكلام المجيد وتأكيد لهذه الرابطة. فإن إرائة الآيات في الآفاق، أي في الأكوان، ليس إلا ظهور الحق وتجلياته في حقائق الأكوان، وكل منها دال على مرتبة معينة وحقيقة خاصة إلهية، كما أن إرائة الآيات في الأنفس إنما هي ظهوره وتجلياته فيها بحسب مراتبها، والعالم كله مظهر الحق، فالنفس الإنسانية أيضا كذلك، فالعارف لنفسه عارف لربه.
ولما كان ما اشتمل عليه النفس الإنسانية في العالم الكبير موجودا مفصلا يسهل إدراكه، قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق) أولا، ثم أردفه بقوله: (وفي أنفسهم) أي، أعيانهم و ذواتهم (حتى يتبين) للناظرين فيهما
(أنه الحق) الذي ظهر فيها وتجلى لهما رحمة على أعيانهما، فأوجد هما بوجوده وأظهرهما بنوره وأعطاهما آيات دالة على حقيقته ووحدته.
والضمير في قوله: (وهو ما خرج) عائد إلى (الآفاق). ذكره تغليبا للخبر وهو (ما) وضمير (وهو عينك) عائد إلى (أنفسهم). ذكره اعتبارا للمعنى، و إرادة فرد من أفرادها، كأنه قال: وهو أنت. ولما كان نفس الشئ عبارة عن عينه وذاته.
قال الشيخ رضي الله عنه (وهو عينك). والضمير في (أنه الحق) لله. أي، حتى يتبين لهم أن الله هو الحق الثابت في الآفاق وفي الأنفس. لكنه ساق الكلام بحيث يرجع ضمير(إنه) إلى (العين)، أي، حتى يتبين للناظرين أن عينك هو الحق من حيث إنك مظهره وصورته، فالحق روحك من حيث إنه يربك و يدبرك. فذكره أيضا لتغليب الخبر وهو (الحق).
(فأنت له، كالصورة الجسمية لك، وهو لك كالروح المدبر لصورة جسدك).
ولما كان الاسم من وجه غير المسمى، جاء بكاف التشبيه هنا الموجب للمغايرة، ليعطى حق الوجهين: وجه أحدية العين، ووجه المغايرة. وقال:
(فأنت له) أي، نسبة عينك للحق كنسبة جسدك لعينك: فكما أن جسدكصورة عينك، كذلك عينك صورة الحق وهو ظاهر في عينك، كما أن عينك ظاهرة في جسدك. (وهو لك) أي، الحق لعينك كالروح المدبر لصورة
جسدك. وقد مر بيان هذا المعنى في المقدمات من أن الحق يرب الأعيان الثابتة بأسمائه وصفاته، ويرب الأرواح بالأعيان، والأجساد بالأرواح، لتكون ربوبيته في جميع المراتب ظاهرة.
قال الشيخ رضي الله عنه (والحد يشمل الظاهر والباطن منك، فإن الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبر لها، لم يبق إنسانا، ولكن يقال فيها إنها صورة تشبه صورة الإنسان، فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة. ولا ينطلق عليها اسم الإنسان إلا بالمجاز لا بالحقيقة) أي، التعريف الحدي يشمل الظاهر منك وهو بدنك، لأنك معرف بالحيوان الناطق والحيوان ليس إلا بدنك، إذ هو جسم نام حساس متحرك بالإرادة، والباطن أيضا هو روحك ونفسك المعبر عنها بالناطق. ولا يسمى ذلك البدن إنسانا بالحقيقة، إلا عند كونه حي إذا روح ونفس. وأما عند كونه ميتا فلا يسمى إنسانا إلا بالمجاز، باعتبار ما كان، إذ لا يصدق عليه أنه حيوان ناطق.
فلا فرق بين الصورة الإنسانية حينئذ، وبين صورة من خشب في الجمادية.
والغرض، أن الإنسان إنما هو إنسان بالروح، وروحه في الحقيقة هو الحق، لأنه روح الأرواح كلها، فلو نفرض مفارقة الحق منه، لا يبقى الإنسان إنسانا، ولذلك عقبه.
بقوله رضي الله عنه : (وصور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلا) لأنه بلا حق عدم محض، فكيف يمكن لها البقاء مع زوال الحق عنها. ولا ينبغي أن يتوهم منه أنه قائل بقدم الدنيا من أن الحق قديم فتكون صورته قديمة، لأن مراده عدم انفكاك الحق عن صور العالم إذا كانت موجودة. والصورة الدنياوية مبدلة بالصورة الأخروية، وهي الصورة الباقية للعالم أبدا، كما كانت في العلم أزلا.
قال الشيخ رضي الله عنه (فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز، كما هو حد الإنسان إذا كان حيا). وفي بعض النسخ: (فحد الألوهة).
(والألوهة) اسم للمرتبة الإلهية فقط. والألوهية اسم تلك المرتبة مع ملاحظة نسبة الذات إليها، كالعبودة والعبودية.
و (الإلهية) اسم نسبة الذات إليها. وهذه المرتبة لا تزال طالبة للمألوه، وليس ذلك إلا العالم.
ولما ذكر أن صورة العالم لا يمكن زوال الحق عنها لأنه روحها، وذكر أيضاأن العالم صورته واسمه الظاهر ونسبته إلى العالم نسبة الروح المدبر للصورة،أنتج أن حد الألوهية له، أي، للحق بالحقيقة لا بالمجاز، كما أن حد الإنسان، إذا كان حيا، له بالحقيقة. فإن كلا من الصورة والروح المدبر لها، حاصل له دائما.
والضمير في قوله: (كما هو) عائد إلى (الحد) المذكور في قوله: (والحد يشمل الظاهر والباطن) أي، كما أن الحد حد بالحقيقة للإنسان، إذا كان حيا)٩( ولا يتوهم أن هذا الكلام يناقض قوله: (فحد الحق محال).
لأن الحد، هنا،للمرتبة باعتبار الحق والعالم، لا للحق من حيث ذاته
قال الشيخ رضي الله عنه (وكما أن ظاهر صورة الإنسان يثنى بلسانها على روحها ونفسها والمدبر لها،كذلك جعل الله صور العالم تسبح بحمده ولكن لا نفقه تسبيحهم، لأنا لا نحيط بمافي
العالم من الصور). أي، كما أن ظاهر الإنسان يثنى على نفسه وروحه الذي يربه و يدبره بلسان صورته وقواها الجسمانية والروحانية، كذلك ظواهر العالم، من الإنسان والحيوان والنبات والجماد وغيرها، يثنى بألسنتهم وألسنة قواه الروحانية والجسمانية على روحه الحقيقي الذي هو الحق، تسبحه وتنزهه عن النقائص اللازمة لهم اللاحقة بهم.
ولكن لا يفقه ذلك التسبيح والتنزيه  إلا منتنور باطنه بنور الإيمان أولا، ثم الإيقان ثانيا، ثم العيان ثالثا، ثم يوجد أن نفسه وروحه ساريا في عين كل مرتبة وحقيقة كل موجود حالا وعلما، لا علما و شهودا فقط، كسريان الحق فيها، فيدرك تسبيح الموجودات بذلك النور
ويسمعه، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).
وورد: (إن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب ويابس).
وقال أمير المؤمنين، على بن أبي طالب، كرم الله وجهه: (كنت مع رسول الله بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله حجر ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله). وأمثاله كثيرة في الأحاديث الصحيحة.
وقال الشيخ رضي الله عنه : في آخر الباب الثاني عشر من الفتوحات: (فإن المسمى بالجماد والنبات عندنا لهم أرواح بطنت عن إدراك غير أهل الكشف إياها في العادة، فلا يحس بها مثل ما يحسها من الحيوان. فالكل، عند أهل الكشف، حيوان
ناطق بل حي ناطق غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير. ونحن زدنا من الإيمان
بالإخبار الكشف. فقد سمعنا الأحجار تذكر الله، رؤية عين، بلسان نطق تسمعه آذاننا منها، وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله مما ليس يدركه كلإنسان).
وقال في موضع آخر منه: (وليس هذا التسبيح بلسان الحال، كما يقولهأهل النظر ممن لا كشف له. هذا شأن من تحقق بالمراتب الثلاث الأول. وأما صاحب المقام الرابع، فهو مسبح لربه بلسان تلك الحقائق وحامد له في تلك
المراتب، فهو العبد التام لله، يعبده في كل موطن ومقام عبادة جميع العالم، ويحمده حمدهم. ويرى جميع ما يراه بالبصر والبصيرة عند تحققه بمقام الجمادية، ويسمعما كان يسمع، ويعقل ما كان يعقل من غير خلل ونقصان. وفي هذا المقام يطوى الزمان والمكان. ويتصرف في جميع الأكوان تصرف النفوس في الأبدان، ويظهرفي الحالة الواحدة في مراتب الأرواح النورانية والنفوس القدسية الروحانية والأجسام الكثيفة الظلمانية). ولهذه المراتب أسرار آخر غامضة جدا يحرم كشفها.
فقوله: (لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور). تعليل عن لسان المحجوبين والمكاشفين أيضا. لأن المكاشف لا يقدر على كشف تفصيل الوجود بأسرها ولايعرف تسبيح كل منهم على التعيين إلا ما شاء الله،
كما قال الشيخ رضي الله عنه : (ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء). أي، لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور النوعية التي هي الملكوت في الأجسام وهي الناطقة والمسبحة لا غير.
(فالكل ألسنة الحق ناطقة بالثناء على الحق، ولذلك قال: (الحمد لله رب العالمين).
أي، إليه يرجع عواقب الثناء، فهو المثنى والمثنى عليه.
لما أسند الثناء والحمد إلى صور العالم وبين أن الحق روحها وليس المتصرف في الصورة إلاالروح، أنتج منها أن صور الكل ألسنة الحق، إذ باللسان يظهر النطق.
والناطق والحامد هو الحق يثنى ويحمد بنفسه على نفسه في مقام تفصيله، كما حمد وأثنى على نفسه في مقام جمعه بقوله: (الحمد لله رب العالمين) وفيه إشارة إلى أن الحمدفي هذا المقام أيضا إنما هو باعتبار أعيان العالمين، لأن ربوبيته يقتضى المربوبين.
فإليه يرجع عواقب الثناء، أي، إذا حققنا الأمر، وجدنا أن الثناء منته إليه، بمعنىأنه هو الذي يثنى في هذه الألسنة على نفسه وهو المثنى عليه بالحقيقة، فهو المثنى والمثنى عليه، لا غير شعر:
(فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا وإن قلت بالتشبيه كنت محددا) ظاهر مما مر.
(وإن قلت بالأمرين كنت مسددا وكنت إماما في المعارف سيدا )
أي، إذا قلت بالتنزيه والتشبيه في مقاميهما كنت مسددا، أي، جاعلا نفسك على طريق السداد والصلاح. (وكنت إماما في المعارف) أي، في أهل المعارف سيدا باتباعك طريق الرسل، صلوات الله عليهم.
(فمن قال بالإشفاع كان مشركا ومن قال بالأوتار كان موحدا)
من قال بالإشفاع، بصيغة المصدر من (أشفع). أي، صار قائلا بالشفع، كان مشركا، أي، شرك مع الحق غيره بإثباته.
ومن قال بالإفراد، مصدر (أفرد)،كان موحدا، إذ لا يثبت معه غير.
(فإياك والتشبيه إن كنت ثانيا وإياك والتنزيه إن كنت مفردا) مفردا على صيغة اسم الفاعل، أي موحدا. و (ثانيا) اسم فاعل من (الثنى.) أي، وإن كنت تجعل الواحد الحقيقي ثانيا بإثبات غيره معه.
ولما كان القولب الثاني مقصورا على طريقين: أحدهما أن يكونا قديمين، وهو قول المشركين، وثانيهما أن يكون الأول واجبا قديما والثاني فائضا منه محدثا بحيث لا يمكن أن يكون عين الآخر بوجه من الوجوه، وهو قول المؤمنين الظاهرين والحكماء المحجوبين.
وصرح بقوله: (وإياك والتشبيه إن كنت ثانيا). أي، قلت بالثاني بالمعنى الثاني، إذ بالمعنى الأول لا يقول إلا المشركون.
فإياك أن تشبه الغير الحادث الفائض من الحق بالحق في الوجود والصفات اللازمة له، لأن وجوده منه فهو قديم ووجودالغير ليس منه وهو حادث.
وجميع صفات الأول من ذاته، لا احتياج له فيها إلى غيره، بخلاف صفات الثاني.
وما للأول، من الصفات، على وجه الكمال، وما للثاني على سبيل العكس والظلال المستعارة، بل ليس إلا كالسراب يتوهم أنه موجود، وهو في الحقيقة معدوم، فلا تشبيه بينهما.
وإن كنت قائلا بالحقيقة الواحدة التي يظهر في مقام جمعه بالإلهية وفي مقام تفصيله بالمألوهية، فإياك أن تنزه فقط، بل لك أن تنزه في مقام التنزيه، وتشبه في مقام التشبيه.
(فما أنت هو، بل أنت هو وتراه في * عين الأمور مسرحا ومقيدا)
أي، فلست أنت هو، لتقيدك الظاهرة وإمكانك واحتياجك إليه، باعتبار أنك غيره، وأنت هو، لأنك في الحقيقة عينه وهويته الظاهرة بصفة من صفاته في مرتبةمن مراتب وجوده. فترجع ذاتك وصفاتك كلها إليه. قوله: (وتراه في عيون الأمور) أي، وترى الحق في عين الأشياء مسرحا ومقيدا، على اسم المفعول،أي، تراه مطلقا بحسب ذاته، ومقيدا بحسب ظهوره في صفة من صفاته. وعلى اسم الفاعل، أي، تراه مبقيا للوجود على إطلاقه في عين المقيدات ومقيدا له في مراتب ظهوراته. والثاني أنسب لتناسب الأبيات الأول. وعلى التقديرين هما منصوبان على الحال.
قال رضي الله عنه : (قال تعالى: "ليس كمثله شيء" فنزه، "وهو السميع البصير" فشبه.
قال تعالى: "ليس كمثله شيء" فشبه وثنى، "وهو السميع البصير" فنزه وأفرد).
اعلم، أن (الكاف) تارة تؤخذ زائدة، وأخرى غير زائدة. فعلى الأول معناه التنزيه، لأنه نفى أن يماثله شيء بوجه من الوجوه، وقوله: (وهو السميع البصير) تشبيه، لأنهمايطلقان عليه تعالى وعلى غيره من العباد. وعلى الثاني معناه: ليس مثل مثله شيء. فشبه بالمثل في نفى المثل عن المثل، وثنى أيضا بإثبات المثل.
ونزه بقوله: (وهو السميع البصير). فإن السمع والبصر في الحقيقة لله لا لغيره. وفي علم الفصاحة والبلاغة مبين أن الضمير إذا قدم وخبره معرف باللام، يفيد الحصر.
كقولك: فلان هو الرجل. أي، الرجولية منحصرة فيه وليست لغيره. كذلك هاهنا.
أي، هو السميع البصير لا غيره. فيفيد حصرهما فيه، وهو الإفراد والتنزيه عن النقصان، وهو عدم السمع والبصر. وإنما جعل السمع والبصر في الأولتشبيها وفي الثاني تنزيها، ليجمع بين التنزيه والتشبيه، وهو مقام الكمال.
ولما كان السمع والبصر راجعين إلى الحق في مقام الجمع، قال: (وأفرد) ولم يقل: ووحد. تنبيها على أن فردانيته لا يكون إلا في عين الكثرة، لأن الفردية يشتملعليها ضرورة لكونه عددا، والوحدانية تقابلها .
(فلو أن نوحا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه، فدعاهم جهارا، ثم دعاهم إسرارا، ثم قال لهم: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا).
وقال: (دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا). ولما كانت هذه الحكمة في كلمة نوح ومرتبته، قال: إنه، عليه السلام، لو كان يجمع بين الدعوتين، أي لو كان
يجمع في دعوته بين التشبيه والتنزيه كما جمع في القرآن بينهما، لأجابوه، لأنه لو أتى بالتشبيه، لحصلت المناسبة بينه وبينهم من حيث التشبيه، إذ كانوا مثبتين لأصنامهم الصفات الكمالية، لذلك قالوا: (وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى). فجعلوهم من المقربين عند الله والمقربين لغيرهم، وأثبتوا لهم الشفاعة كما قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله).
والتقرب من الله والشفاعة عنده لا يكون إلالمن له الصفات الكمالية. فلو أتى بالتشبيه لصدقوه وقبلوا كلامه أيضا في التنزيه.
ولكن دعاهم جهارا، أي، ظاهرا إلى الظاهر المطلق من حيث صورهم و ظواهرهم ليعبدوا الله بظواهرهم بالعبادات البدنية والإتيان بالأعمال الحسية.
ثم دعاهم إسرارا، أي، باطنا إلى الباطن المطلق من حيث عقولهم وروحانيتها ليعبدوا الباطن المطلق عبادة الملأ الأعلى والملائكة المقربين. فلما لم يقبلوا دعوته،لرسوخ المحبة للمظاهر الجزئية التي هي معبوداتهم في قلوبهم وبواطنهم، قال:
(استغفروا ربكم إنه كان غفارا). أي، اطلبوا منه سر وجوداتكم و ذواتكم وصفاتكم بوجوده وذاته وصفاته. فنفرت بواطنهم منه، لأن الأنفس مجبولة على محبة أعيانها، أو لعدم قدرتهم بأنفسهم على ذلك. فلما رأى النفور عنهم، قال:
(إني دعوت قومي ليلا ونهارا). أي، في العلانية. أو ليلا، في الباطن والغيب بالدعوة الروحانية، ونهارا، أي في الشهادة والظاهر بالدعوة الحاصلة بالقوى الجسمانية.
(فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) من قبول الوحدة وشهود الحق المطلق الظاهر بصور الكثرة.
(وذكر نوح عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابةدعوته) أي، لما علموا أن إجابة دعوته واجبة عليهم، تصامموا وسدوا أسماع قلوبهم بعدم القبول لقوله.
كما قال: و (جعلوا أصابعهم في آذانهم.)
قال الشيخ رضي الله عنه : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح، عليه السلام، في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم).
أي، علم الراسخون في العلم بالله وأسمائه وصفاته الذين هم أصحاب الكشف والشهود، معنى ما أشار إليه نوح، عليه السلام، في حق قومه سرا بلسان الذم من حيث صورة الشريعة، وهو الثناء عليهم في الحقيقة.
وذلك لأنهم قبلوا دعوته بالفعل لا بالقول: فإنه دعاهم إلى الاسم الظاهر، وهو عالم الملك، ثم إلى الاسم الباطن، وهو عالم الملكوت، ثم إلى الفناء في الله، ذاتا ووجودا وصفة وفعلا، كما مر تقريره آنفا، ولم يف استعدادهم بالترقي إلى هذا الكمال، فسدوا آذانهم من إجابة دعوته مكرا منهم وحيلة ليدعو عليهم بظهور الحق بالتجلي الذاتي بصفة القهارية، فيحصل لهم الكمال المدعو إليه بلسان نبيهم بإجابة دعائه.
فدعا عليهم وأوصلهم بكمالهم رحمة منه عليهم في صورة النقمة. كما يشاهد اليوم فيمن ابتلي بامر منهي لا يقدر على استخلاص نفسه من تلك الخصلة الذميمة، ويحصل له الملامة بسببها كل حين، أنه يطلب من الحاكم إفناء نفسه بلسان قاله وحاله ليخلصه منها. وهذا حال العارفين منأمته.
وأما حال المؤمنين المحجوبين منهم والكافرين به فأيضا كذلك، وإن لم يعرفوا ذلك. فإن كل أحد له كمال يليق باستعداده.
والنبي رحمة من الله إلى أمته يوصل كلا منهم إلى كماله، لذلك دعا عليهم جملة.
والشيخ رضي الله عنه  نزل الآيات كلها بما يليق بحال الكمل المهديين منهم، لأنهم هم الأناسي في الحقيقة لا غير.
(وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان.) أي، وعلم نوح، عليه السلام، أنهم إنما لم يجيبوا دعوته بالقول لما فيها من الفرقان، أي بين الحق والخلق الذي هو المظاهر، أو بين التشبيه والتنزيه.
والكمال التام القرآن، أي الجمع بينهما، لأنه مأخوذ من (القرء) وهو الجمع.
وليس ذلك مقامه، وإلا كان الواجب عليه أن يأتي بالقرآن الجامع بين التشبيه والتنزيه ليؤمنوا به وبربه، إذ السعي والاجتهاد على الأنبياء، بكلما يقدرونه ،واجب عليهم.
ويجوز أن يكون (علم) بتشديد اللام، من (التعليم) عطفا على (أشار).
أي، أشار بهذا القول: وعلم العلماء أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لإتيانه بالفرقان.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 03 - ﻓﺺ ﺣﻜﻤﺔ ﺳﺒﻮﺣﻴﺔ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻧﻮﺣﻴﺔ الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:02 am

03 - ﻓﺺ ﺣﻜﻤﺔ ﺳﺒﻮﺣﻴﺔ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻧﻮﺣﻴﺔ الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
03 - ﻓﺺ ﺣﻜﻤﺔ ﺳﺒﻮﺣﻴﺔ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻧﻮﺣﻴﺔ    الجزء الثاني
(ومن أقيم في القرآن لا يصغى إلى الفرقان) أي، ومن أقيم في مقام الجمع بين التشبيه والتنزيه، كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لا يصغى إلى قول من يقول بالفرقان المحض كالمنزه وحده، كنوح عليه السلام، والمشبه وحده ، كقومه.
فمن يكون قائلا بالشق الآخر من الفرقان، وهو التشبيه، فهو بالطريق الأولى أن لا يصغى إلى قول من يقول بالتنزيه المحض فقط.
ومن أقيم في مقام الجمع الذي هو حق بلا خلق، كالمجذوبين والموحدين الصرفة، لا يقدر على إصغاء مرتبة الفرق بين الحق والخلق وبين التنزيه والتشبيه، كما يقدر على إصغائه الكامل، فإنه يرى الخلق في مقامه، والحق في مقامه، ويجمع بينهما في كل من المقامين، كذلك في التشبيه والتنزيه.
(وإن كان فيه، فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن.)
(إن) للمبالغة. أي، وإن كان الفرقان حاصلا في القرآن. فإن القرآن لكونه مقام الجمع يتضمن الفرقان، وهو مقام التفصيل، فيجمع صاحبه بينهما. فما يحكم عليه الفرقان، من التشبيه والتنزيه، أجزاء لمقام القرآن دون العكس.
ويجوز أن يعود ضمير (كان) إلى (من). أي، وإن كان من أقيم في القرآن ومقام الجمع هو في حين الفرقان، لأنه محجوب بالحق عن الخلق، وبالجمع عن الفرق،
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد، صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة التي هي "خير أمة أخرجت للناس".) أي، ولكون المقام القرآني الجمعي بين مقامي التنزيه والتشبيه أكمل من مقام كل منهما، ما اختص به إلا محمد، صلى الله عليه وسلم، لأنه مظهر الاسم الأعظم الجامع للأسماء، فله مقام الجمع وبتبعيته لأمته التي هي خير أمة.
(فليس كمثله، فجمع الأمر في أمر واحد).
(فجمع) يجوز أن يكون مبنيا للمفعول، أي، اختص محمد، صلى الله عليه وسلم، بهذا المقام. فذكر فيما أنزل إليه: (ليس كمثله شئ) فجمع بين مقامي التنزيه والتشبيه في كلام واحد.
ويجوز أن يكون مبنيا للفاعل.
فمعناه: اختص محمد، صلى الله عليه وسلم ،بمقام الجمع، فجاء بقوله تعالى: (ليس كمثله شئ) فجمع بين المقامين.
فمقامه جامع بين الوحدة والكثرة، والجمع والتفصيل، و التنزيه والتشبيه، بل جميع المقامات الأسمائية، لذلك نطق القرآن المجيد بكلها.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فلو أن نوحا، عليه السلام، أتى بمثل هذه الآية لفظا، أجابوه).
أي، بمثل قوله تعالى: (ليس كمثله شئ). (فإنه) أي فإن النبي، صلى الله عليه وسلم.
(شبه ونزه في آية واحدة بل في نصف آية).
الآية هي: (ليس كمثله شئ، وهو السميع البصير).
ونصفها: (ليس كمثله شئ). والنصف الآخر: "و هو السميع البصير".
فإن في كل من النصفين تشبيها وتنزيها، كما مر بيانه.
قال الشيخ رضي الله عنه : (و نوح دعا قومه ليلا من حيث عقولهم و روحانيتهم، فإنها غيب، ونهارا دعاهم أيضا، من حيث صورتهم وحسهم) وفي بعض النسخ: (وجثثهم) جمع(الجثة). أي، أبدانهم.
ومعناه: تارة دعاهم من حيث عقولهم المعطية للتنزيه إلى مقام التنزيه، وأخرى من حيث صورهم الموجبة للتشبيه إلى مقام التشبيه.
(وما جمع في الدعوة بينهما مثل "ليس كمثله" فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان فزادهم فرارا). معناه ظاهر، وقد مر تقريره أيضا.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم قال، عن نفسه إنه دعاهم ليغفر لهم لا ليكشف لهم، وفهموا ذلك منه، صلى الله عليه وسلم، لذلك جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وهذه كلها صورة الستر التي دعاهم إليها، فأجابوا دعوته بالفعل لا بلبيك). أي، أخبر عن نفسه كما قال: (إني دعوتهم لتغفر لهم). فدعاهم ليغفر لهم الحق، وما دعاهم ليكشف لهم حقيقة الأمر، والمغفرة، الستر والإخفاء.
فلما فهموا مقصوده ،أجابوا دعوته بمثل ما دعاهم به من الستر، فجعلوا أصابعهم في آذانهم، أي، ما قبلوا دعوته بالسمع والإطاعة بالقول.
واستغشوا ثيابهم، أي، طلبوا الاستتار بثياب وجوداتهم وحجب إنياتهم واستتار صفاتهم، لتظهر غيرة الحق فتفنيهم عن وجوداتهم ويستر في ذاته لذواتهم، واستتروا بالثياب المعهودة لقصور فهمهم عما أشار إليه نوح، أو الاستهزاء به مع فهمهم المقصود.
(ففي "ليس كمثله شيء" إثبات المثل ونفيه. وبهذا قال عن نفسه، صلى الله عليه وسلم، أنه أوتى جوامع الكلم). (أنه) بفتح الهمزة، إذ قال عن نفسه.
معناه: أخبر عن نفسه.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فما دعا محمد، صلى الله عليه وسلم، قومه ليلا ونهارا، بل دعاهم ليلا في نهار و نهارا في ليل). أي، جمع الله للنبي، صلى الله عليه وسلم، في قوله: (ليس كمثله شئ) بين الإثبات للمثل وبين نفيه في آية واحدة، بل في نصف آية. و(بهذا) أي، بسبب هذا الجمع بين التشبيه والتنزيه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم، أي، جميع الحقائق والمعارف. ولهذا جمع القرآن جميع ما أنزل من المعاني التي في كتب الأنبياء، عليهم السلام.
فدعا، صلى الله عليه وسلم، قومه إلى الظاهر في عين الباطن، وإلى الباطن في عين الظاهر. وهو المراد بقوله: (ليلا في نهار ونهارا في ليل).
 أو إلى الوحدة في عين الكثرة، وإلى الكثرة في عين الوحدة. و (ما دعا ليلا ونهارا) أي، إلى الغيب والوحدة وحده، و إلى الشهادة والكثرة وحدها.
(وقال نوح في حكمته لقومه: "يرسل السماء عليكم مدرارا" وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري و "يمددكم بأموال" أي بما يميل بكم إليه. فإذا مال بكم إليه، رأيتم صورتكم فيه).
اعلم، أن السماء في الحقيقة عالم الأرواح، والأرض عالم الأجسام. ولا يفيض من عالم الأرواح إلا الأنوار الملكوتية والمعارف العقلية الموجبة للكشف واليقين، ليعتبروا بما حصل لهم ما لم يحصل ويؤمنوا بالحق وكمالاته بما أفاض عليهم من آياته.
فلما كان الأمر كذلك، أشار نوح إلى قومه وبين حكمة ما دعاهم إليه بقوله: (يرسل السماء عليكم مدرارا).
أي، يرسل الحق عليكم من السماء المعارف العقلية والعلوم الحقيقية، ويعطيكم النظر الاعتباري في الأشياء، ليستدلوا بوجودكم على وجود الحق، و بوحدتكم على وحدته، و بذواتكم على ذاته، وبما في عالم الشهادة، من الموجودات والكمالات،على ما في الغيب من العقول والنفوس وكمالاتهم. ويمددكم بأموال، أي، بتجليات حبية وجواذب جمالية، ليجذبكم إليه، ويوصلكم إلى مقام الفناء فيه،ويتجلى لكم بالتجلي الذاتي، وعند هذه التجلي تشاهدون أعيانكم في مرآة الحق.
وإنما فسر (الأموال) ب (ما يميل بكم إليه) تنبيها على أن (المال) إنما سمى مالا لميل القلوب إليه.
وضمير (فيه) راجع إلى ما يرجع ضمير (إليه) وهو (الحق.)
(فمن تخيل منكم إنه رآه، فما عرف، ومن عرف منكم إنه رأى نفسه، فهو العارف. فلهذا انقسم الناس إلى عالم وغير عالم).
(الفاء) للتعقيب. أي، بعدأن رأى صورته في الحق من تخيل منكم أنه رأى الحق، فما عرف، لأن ذاته، من حيث هي هي، لا يمكن أن ترى. والرؤية إنما تحصل عند التنزل والتجلي بما يمكنأن يرى، كما قال، صلى الله عليه وسلم: (سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) وشبه برؤية القمر. ومن عرف منكم أنه رأى نفسه وعينه، فهو العارف بالحقيقة.
والآخر ليس بعارف كامل مع أنه من أهل الكشف والشهود، كما مر في (الفص الشيثي.)
(و (ولده) وهو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري، والأمر موقوف علمه على المشاهدة بعيد عن نتائج الأفكار إلا خسارا).
إشارة إلى قوله تعالى: " قال نوح،رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا". أي، إنهم عصوني ولم تقبلوا منى ما يوجب المشاهدة والعيان، واتبعوا عقولهم ونظرهم الفكري الذي (لم يزده ماله) وهو علومهم العقلية، و (ولده) وهو نتائجهم الحاصلة من تركيب قياساتهم العقلية، (إلا خسارا) أي، ضياعا لرأس ما لهم من العمر و
الاستعداد.
وذلك لأن المقام مقام المشاهدة وهو فوق طور العقل، والعقل بفكره ونظره لا يصل إليه. فمن تصرف فيما جاءت الأنبياء به بعقله أو اعتقد أن الحكماء والعقلاء غير محتاجين إليهم، فقد خسر خسرانا مبينا.


وذلك لأن المقام مقام المشاهدة وهو فوق طور العقل، والعقل بفكره ونظره لا يصل إليه. فمن تصرف فيما جاءت الأنبياء به بعقله أو اعتقد أن الحكماء والعقلاء غير محتاجين إليهم، فقد خسر خسرانا مبينا.
("فما ربحت تجارتهم" فزال عنهم ما كان في أيديهم مما كانوا يتخيلون أنه ملكلهم).
أي، ما حصل لهم في هذه التجارة إلا ضياع العمر والاستعداد. فإنهم أفنوا رأس ما لهم فيما لا يمكن حصوله لهم، فزال عنهم ما كان في أيديهم من الاستعداد والآلات التي يمكن بها أن يعبدوا الحق ويتبعوا الأنبياء ليحصل لهم الكشف عن حقيقة الأمر.
وكانوا يتخيلون أن ذلك ملك لهم، وما عرفوا أنه مستعار عندهم وملك للحق وسيرجع إليه. 
وأزال عنهم علم ما كان في نفس الأمر، لأنهم يتخيلون أنهم أدركوا الحقائق على ما هي عليه في نفس الأمر بعقولهم الضعيفة ونظرهم الفكرية، وحسبوا إنهم ملكوها وليس الأمر كذلك، فزال عنهم وفات علم الحقيقة.
(وهو في المحمديين) أي، ما كان في أيديهم من الملك هو ملك الله كما جاءفي حق المحمديين، أو علم الحقيقة وانكشافها على ما هي عليه لله، كما جاء فيحق المحمديين: ("وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه".)
فأثبت الملك لنفسه، وجعل المحمديين خلفاء عليه، وأمر بالإنفاق والتصرف تصرف الخلفاء في ملك المستخلف. (وفي نوح: "ألا تتخذوا من دوني وكيلا". فأثبت الملك لهم والوكالة لله فيه).
أي، وجاء في حق نوح وقومه: (أن لا تتخذوا من دوني وكيلا). فأثبت الملك لقوم نوح على ما زعموا إن ما في أيديهم، من المال والعمر والآلات البدنية والقوى والكمالات، ملك لهم، وطلب منهم أن يتخذوه وكيلا في أمورهم وفي ملكهم.
وإنما قال: (وفي نوح) وإن كانت الآية في بنى إسرائيل، كقوله تعالى:
(وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا.)
لقوله بعدها: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا).
فجعل بنى إسرائيلمن ذرية قوم نوح. (فهم مستخلفون فيهم، فالملك لله). أي، فالمحمديون مستخلفون،بفتح اللام، في أنفسهم وفي كل ما لهم من الكمالات. وإذا كان كذلك، فالملك لله وحده.
(وهو وكيلهم فالملك لهم، وذلك ملك الاستخلاف). أي، الحق وكيل قوم نوح، كما قال فيهم: (أن لا تتخذوا من دوني وكيلا). فالملك لهم. وذلك ملك الاستخلاف والتبعية لا الأصالة، لأن الملك بالأصالة لله وحده.
ولما عرف المحمديون هذا المقام بالكشف والشهود أن لا ذات ولا كمال ولا وجود إلا لله،جاء في حقهم من الله ما طابق كشفهم وفهمهم وما مكر معهم.
وقوم نوح لماتخيلوا أن ما في أيديهم ملكهم ولهم، جاء في حقهم ما صدقهم، مكرا من الله معهم وتجليا منه لهم على حسب اعتقادهم. فإن الحق لا بد أن يتجلى يوم القيامة على حسب اعتقاد المعتقدين، كما قال: (أنا عند ظن عبدي بي.)
(وبهذا كان الحق (ملك الملك) كما قال الترمذي) أي، وبسبب أن الحق أثبت ملك الاستخلاف للعباد الكمل وجعل نفسه وكيلا منهم، وللموكل أن يتصرف في الوكيل بحسب العزل والإثبات كما يتصرف في الملك، صار الحق ملك ملكه.
وذكر الشيخ رضي الله عنه في اصطلاحاته: (مالك الملك هو الحق في حال مجازات العبد على ما كان منه مما أمر به). 
فمعناه: أن الحق جزى عبده على ما عمل مما أمر به.
واعلم، أن جزاء الأعمال الصادرة من العباد إنما هو بحسب نياتهم: فمن كان عمله للجنة يجازيه بها، ومن كان عمله لله نفسه، ولا رغبة في الجنة ولا رهبة من النار، فالحق جزاؤه لا غير، كما جاء في الحديث القدسي: (من أحبني قتلته، ومن قتلته فعلى ديته ومن على ديته، فأنا ديته).
وقال أبو يزيد في مناجاته، عند تجلى الحق له: (ملكي أعظم من ملكك لكونك لي وأنا لك، فأنا ملكك وأنت ملكي، وأنت العظيم الأعظم، وملكي أنت، فأنت أعظم من ملكك وهو أنا.)
وقوله: (كما قال الترمذي) إشارة إلى ما سأل الشيخ الكامل المكمل، محمد بن على الترمذي، قدس الله روحه، أسئلة لا يجيب عنها إلا أكابر الأولياء أوقطب الوقت. ومن جملتها: (ما ملك الملك؟) 
ولما ولد وبلغ الشيخ رضي الله عنه أجاب عنها. وفي كتاب الفتوحات، في المجلد الثاني، مذكورة مع أجوبتها.
(ومكروا مكرا كبارا، لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، لأنه ما عدم من البداية، فيدعى إلى الغاية "ادعوا إلى الله" فهذا عين المكر على بصيرة. فنبه أن الأمر له كله، فأجابوه مكرا كما دعاهم). أي، لما مكر نوح عليه السلام معهم، مكروا مكرا كبارا في جوابه. 
وذلك لأن الدعوة إلى الله مكر من الداعي بالمدعو، لأن المدعو ما عدم الحق من البداية حتى يدعى إليه في الغاية، لأنه مظهر هويته في بعض مراتب وجوده، فالحق معه بل هو عينه.
فالداعي إذا دعى، مظهرا ما يمكر به: فإنه يريد أن الحق ليس معه، وهو غيره، وهو عين المكر. لكن مثل هذا المكر من الأنبياء إنما هو على بصيرة كما قال: (ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني). أي، يعلم النبي إنه مظهر هوية الحق، لكن يدعوه ليخلصه عن القيود وترتفع عنه الحجب الموجبة للضلالة، فيرى ذاته مظهرا للهوية، و يشاهد جميع الموجودات مظاهر الحق، ويعبده بجميع أسمائه وصفاته، كما عبده من حيث اسمه الخاص.
وفاعل (نبه) ضمير يرجع إلى نوح، أو إلى الحق. أي، نبههم على أن الملك كله لله، ليس كما تخيلوا أنه لهم.
(فجاء المحمدي، وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته، وإنما هي من حيث أسمائه، فقال: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا). فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم، فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي (أوجب عليهم أن يكونوا متقين).
فجاء القلب المحمدي، أو الداعي المحمدي، وعلم أن الدعوة إلى الله ليست من حيث هوية الحق، لأنها موجود في كل موجود، وإنما هي من حيث أسمائه، أي، يدعوا الخلق من الأسماء الجزئية التي يعبدونها إلى الاسم الجامع الإلهي وهو (الله) و (الرحمن). 
كما قال تعالى: 
(يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا). أي، نحشر الذين يتقون من الأمور المقيدة الحاجبة لهم عن أنوار الاسم الجامع الموجبة للظلمة والضلالة، إلى الاسم الجامع الرحماني. (فجاء بحرف الغاية) وهو (إلى). و (قرنها بالاسم الرحماني). ليعلم أن العالم من حيث إنه أسماء إلهية، أي مظهر أسماء إلهية جزئية كانت أو كلية، تحت إحاطة اسم إلهي وهو (الله) و (الرحمن) أزلا.
فأوجب ذلك الاسم على أهل العالم أن يكونوا متقين محترمين عن عبادة أسماء الجزئية دائما، ليعبدوا الله بجميع أسمائه، لأن العابد لله عابد لجميع الأسماء لأنها داخلة فيه، وأما عابد (المنعم) مثلا، ليس عابد (المنتقم) فما يعبد الله من حيث جميع أسمائه.
لذلك قال: (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟)
(فقالوا في مكرهم: "لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا". فإنهم إذا تركوهم، جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبود وجها، يعرفه من عرفه ويجهله من جهله). أي، قال قومه في مكرهم معه، ليدعو عليهم: (لا تذرن آلهتكم).
وهي (ود) و (سواع) و (يغوث) و (يعوق) و (نسر). لأن هوية الحق ظاهرة فيهم، كما في غيرهم. فلوتركوهم، جهلوا من مظاهر الحق على قدر ما تركوا، لأن للحق في كل معبود وموجود وجها، إذ الوجه الباقي مع كل شئ يعرفه، أي، يعرف هذا المعنى من عرف الحق ومظاهره، ويجهله من جهل الحق ومظاهره.
(في المحمديين: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه". أي، حكم) وجاء في حق المحمديين: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه). أي، حكم أزلا رب محمد، صلى الله عليه وسلم، وهو الاسم (الله) الجامع، أن لا تعبدوا إلا الله الجامع للأرباب، ولا تعبدوا الأرباب المتفرقة.
(فالعالم يعلم من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية). فالعالم بالله ومظاهره يعلم أن المعبود هو الحق في أي صورة كانت، سواء كانت حسية كالأصنام، أو خيالية كالجن، أو عقلية كالملائكة.
ويعلم أن التفريق والكثرة مظاهر لأسمائه وصفاته، وهي كالأعضاء في الصورة الإنسانية: فإن العين مظهر للإبصار، والأذن للسمع، والأنف للشم، واليد للبطش، وكالقوى الروحانية، كالعقل والوهم والذاكرة والحافظة والمفكرة والمتخيلة، فإنها كلها مظاهر لصفات الروح. (فما عبد غير الله في كل معبود). إذ لا غير في الوجود.
(فالأدنى من تخيل فيه الألوهية) أي، فالأدنى مرتبة من العابدين من تخيل- على البناء للفاعل - في معبوده الألوهية، أي، ما علم يقينا أنه مظهر من مظاهرالحق، بل توهم فيه الألوهية. وأما على البناء للمفعول. 
فمعناه: وأدنى مرتبة في مرتبة من مراتب المعبودين من تخيل فيه أنه إله. والأول أنسب لقوله بعده:
(والأعلى ما تخيل) على النبأ الفاعل. (بل قال: هذا مجلي). (فلو لا هذا التخيل) أي تخيل الألوهية. (ما عبد الحجر ولا غيره) لأنه جماد ظاهر لا حس له ولا حركة، فلو لا أنه تخيل هذا العابد فيه الألوهية، ما عبده أصلا. (ولهذا قال)
أي، الحق لنبيه إلزاما للكفرة وإفحام لهم: ("قل سموهم" فلو سموهم، لسموهم شجرا أو حجرا أو كوكبا. ولو قيل لهم: من عبدتم؟ لقالوا: إلها). أي، ربا من الأرباب المتفرقة، أو إلها من الآلهة المتكثرة.
(ما كانوا يقولون الله ولا الإله). ما كانوا يقولون: نعبد الله الجامع للآلهة والأرباب، ولا نعبد الإله ،أي، المعبود المعين الذي هو معبود الكل.
(والأعلى ما تخيل، بل قال: وهذا مجلي إلهي ينبغي تعظيمه. فلا يقتصر.) أي، الأعلى من العابدين والأعرف منهم لم يتخيل، كما تخيل الجهال العابد ون بالتوهم.
بل يقول: هذا مجلي إلهي ومظهر من مظاهره، يجب تعظيمه لوجوب تعظيم شعائر الله.
فلا يقتصر أن يعظمه بنفسه ويعبده، بل يأمر غيره أيضا بعبادته وتعظيمه.
أو لا يقتصر الحق في معبوده الذي جعله مجلي إلهيا، بل قال:
إنه مجلى من مجاليه ومظهرا من مظاهره، واجب تعظيمه وعزته. فيجعل هوية الحق متجلية في صور الموجودات المتكثرة.
(فالأدنى صاحب التخيل يقول: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" والأعلى العالم يقول: "إنما إلهكم إله واحد فله أسلموا". حيث ظهر).
أي، غير العالم من العابدين يقول: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله). ووسائط، نعبدهم ليقربونا عنده تقريبا تاما. والأعلى العالم يقول: (إنما إلهكم إله واحد). وله أسماء ومظاهر مختلفة، فأسلموا له و انقادوه واعبدوه في جميع مظاهره الروحانية والجسمانية.
كما قال تعالى: (فإلهكم إله واحد فله أسلموا، وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.)
("وبشر المخبتين" الذين خبت نار طبيعتهم فقالوا: إلها، ولم يقولوا: طبيعة).
(خبت) من (الخبو). وخبو النار، خمودها وإطفاؤها.
و (الإخبات)، التواضع وكسر النفس. لما أورد الآية بقوله: (والأعلى العالم يقول: "إنما إلهكم إله واحد".) تممها بقوله : و (بشر المخبتين) وفسر بأنهم هم الذين خبت نار طبيعتهم، أي، بشر الذين أخبتوا أخمدوا نار طبيعتهم بالسلوك والمجاهدة، فإذا خمدت نار طبيعتهم وخبت، تجلت لهم الصفات الإلهية والأنوار الذاتية، فعرفوا الحق وأنواره وآثاره الصادرة من أسمائه وصفاته في العالم بالحق، فقالوا:
إلها. أي، سموه بالاسم الإلهي، وما سموه باسم غيره من الطبيعة، كما يقول المحجوب: إن الطبيعة فعلت كذا وكذا.
والطبيعة وإن كانت مظهرا من المظاهر الكلية، لكنها غير متخلصة عن رق العبودية وسمة الغيرية، فالموحد لا يسند إليها الآثار والأفعال.
("وقد أضلوا كثيرا" أي، حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب.) أي، أضل قومه كثيرا من أهل العالم وحيروهم في تعداد الواحد الحقيقي بحسب الوجوه والنسب التي له. فإنهم اتبعوا عقولهم ودرجات عقولهم متفاوتة، فأدرك كل منهم من تلك الوجوه ما يناسب استعداده، ونفى ما أدركه غيره، فوقعوا في الحيرة والضلالة، كما يشاهد اليوم من أحوال أرباب النظر من تخطئة بعضهم بعضا. وكلهم مصيب من وجه ومخطئ من وجه آخر) .
(ولا تزد الظالمين) لأنفسهم المصطفين الذين أورثوا الكتاب (أخذ) (الظالمين) من قوله: (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا). بمعنى الظالمين في قوله تعالى:
(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات). فاللام للعهد.
ونقل صاحب المعتمد، رحمه الله، عن الترمذي عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه: (إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قرأ: "ثم أورثنا الكتاب..." فقال: (وكلهم بمنزلة واحدة، وكلهم في الجنة).
وذلك لأنهم ظلموا على أنفسهم وبإهلاكها ومنعها عن متابعة هواها الذي هو روحها وحياتها لأنفسهم، ليتحققوا بالأنوار والمعارف الإلهية والمكاشفات الروحية، كما قال عليه السلام: (اتبعوا أبدانكم لراحة أنفسكم.)
لذلك قال: (الذين اصطفينا). وأضاف إلى نفسه بقوله: (من عبادنا) تشريفا له وتعظيما لشأنهم.
(فهم أول الثلاثة، فقدمهم على (المقتصد) و (السابق)).
أي، الظالمين لأنفسهم أول الطوائف الثلاث المذكورين في الآية.
(فقدمه) أي قدم الحق (الظالم لنفسه) على (المقتصد) و (السابق بالخيرات)، لأنه ظلم نفسه لتكميل نفسه بعدم إعطاء حقوقها، فضلا عن حظوظها، حتى أوصلها إلى مقام الفناء في الذات، وجعلها موصوفة بكل الكمالات بخلاف (المقتصد)، فإنه متوسط في السلوك، غير واصل إلى مقام الفناء في الذات بل واقف في الفناء في الصفات، وبخلاف (السابق في الخيرات)، لأنه في مقام الأفعال الخيرية و التحلية بالأعمال الزكية، كالعباد والزهاد والمتقين من الأعمال الموجبة للبعد والطرد.
ولا شك أنهؤلاء الطوائف الثلاث كلهم من أهل الجنة وكلهم من المصطفين الأخيار.
فذكره بالظلم إثبات لمرتبة عظيمة، لا ذم في حقه.
("إلا ضلالا" إلا حيرة). (إلا ضلالا) تتمة لقوله: (ولا تزد الظالمين).
وفسره بالحيرة الحاصلة من العلم لا الجهل. (المحمدي: "زدني فيك تحيرا".) أي، كما قال الناطق المحمدي: (رب زدني فيك تحيرا). أي، ربى زدني فيك علما، فإني كلما أزداد فيك علما، أزداد فيك حيرة من كثرة علمي بالوجوه والنسب التي لذاتك.
وإنما قال: (المحمدي)، بياء النسبة، ليشمل الأولياء التابعين لمحمد، صلى الله عليه وسلم.
وقلبه الناطق بقوله: (رب زدني فيك تحيرا). فإن للوارثين منه مقام الحيرة، لا يزالون يطلبون الزيادة منها، لالتذاذهمبها وبلوازمها وملزوماتها المعطية إياها.
(كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا.) أي، قد جاء في حق 
قوم موسى: (كلما أضاء لهم مشوا فيه). أي، كلما ورد لهم التجلي الإلهي الذي هوسبب إضاءة أرواحهم وقواهم الروحانية، سلكوا في المقامات وعرجوا إلى عالم القدس.
وإذا انقطع عنهم ذلك التجلي النوري وأظلم عليهم، قاموا، أي، وقفوا حيارى لظهور التجلي الظلماني عليهم وهو معد لاستعداداتهم لقبول التجليات النورانية مرة أخرى، بحيث لا يشعر المتجلى فيه به إلا عند زوال ذلك التجلي.
وقد خلق الله الليل والنهار آيتين لهذين النورين، قال الله تعالى: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة). فكان نوح، عليه السلام، أول من طلب هذا المقام لأمته، وحصل هذا المقام بكماله لهذه الأمة.
(فالحائر له الدور والحركة الدورية حول القطب فلا يبرح منه). أي، الحائر يتحرك بالحركة الدورية، لأنه يرى مطلوبه مع كل موجود يوجد في دائرة الوجود بوجه آخر، فيتحرك إليه، والوجود دوري فتقع الحركة دورية. والحركة الدورية لا يكون إلا حول القطب الذي مدار الوجود عليه، فالحائر لا تزال حركته دورية.
ولما يبرح من القطب، أي، لا ينفك منه لاستفاضته منه دائما وتوجهه إليه سرمدا. كالملائكة المهيمة في الجمال المطلق الإلهي.
(وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود، طالب ما هو فيه صاحب خيال إليه) أي، إلى الخيال.
(غايته: فله (من) و (إلى) وما بينهما. وصاحب الحركة الدورية لا بدأ له، أي لا بدأ له في سيره وسلوكه، فيلزمه (من) ولا غاية) لكماله (فيحكم عليه (إلى)). (فيلزمه)، (فيحكم عليه). منصوبان بإضمار (إن) لوقوعهما بعد (الفاء) في جواب النفي. أي، صاحب الحركة المستطيلة خارج عن طريق الحق مائل عن مقصوده، لأنه ما يرى الحق في المظاهر،بل توهم أن مطلوبه خارج عن هذه المظاهر، فيتحرك بالحركة المستطيلة للوصول إليه، ومقصوده معه وهو لا يشعر.
فهذا المتحرك طالب لما هو معه وفي نفسه، وهو يطلب خارجا من الموجودات، فهو صاحب خيال وتوهم، لأن الحق مجردا عن المظاهر لا نسبة بينه وبين العالم، كما قال: (ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار). فلا يمكن إدراكه إلا في المظاهر.
قوله: (إليه غايته). أي، إلى الخيال غايته ومقصوده، فيلزم لصاحب
هذه الحركة (من) و (إلى) وما بينهما، فله بداية ونهاية. ولصاحب الحركة الدورية لا بداية ولا نهاية، لأنه يشاهده في جميع المظاهر الروحانية والجسمانية دنيا وآخرة، ولا نهاية للمظاهر، فلا نهاية لشهوده فيها، فلا يلزمه (من) ولا يحكم عليه (إلى.)
وإنما قال: (صاحب الطريق المستطيل) ولم يقل: المستقيم. لأن الصراط المستقيم يطلق على الطريق المستطيل وعلى غيره، كما يقال: فلان على الطريق المستقيم. إذا كان أقواله وأفعاله على سبيل الصواب وطريق السداد. 
وصاحب الطريق المستقيم، بهذا المعنى، هو الذي يرى الحق في كل شئ ويعظمه تعظيما لائقا بظهور الحق في ذلك الشئ ويعطى حق جهة حقيته وخلقيته، لذلك صارت الاستقامة أصعب الأشياء.
وإليه إشارة النبي، صلى الله عليه وسلم،بقوله: (شيبتني سورة هود). إذ أمر فيها بالاستقامة. قال تعالى: (فاستقم كما أمرت). في السير من الخلق إلى الحق، وإن كان يلزم (من) و (إلى) لكنه غير مذموم، لأن السالك يسلك في الحقيقة من نفسه إلى نفسه وعينه الثابتة التي هي ربه، ليعرفها فيعرف ربها.
فحركته من جهة عبوديته إلى جهة ربوبيته، فليسك المحجوب الطالب لربه خارجا عن نفسه وعن سلسلة الموجودات الممكنة جميعا، كالمتفلسف والمتكلم.
(فله الوجود الأتم وهو الموتى جوامع الكلم والحكم). أي، فلصاحب الحركة الدورية، الإدراك والوجدان التام. ف (الوجود) بمعنى (الوجدان)،كقوله تعالى: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما).
أو فله الوجود المحيط بكل شئ بتمامه، لأنه يشاهد الحقيقة الوجودية في جميع مظاهرها. وهو الذي أوتى جوامع أنوار الكلم الروحانية والحكم الربانية.
("ومما خطيئاتهم" فهي التي خطت بهم، فغرقوا في بحار العلم بالله و هو الحيرة) أي، جاء في حقهم و (مما خطيئاتهم أغرقوا).
(فأدخلوا نارا) (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا). و "الخطيئة"، الذنب.
وفي قوله: (فهي التي خطت بهم) أي، ساقهم وسلك بهم إشارة إلى أنها مأخوذة من (الخطو)، لأنه يخطو ويتعدى أوامر الله، فيقع في الذنب. وواحدة: (خطوة)، وجمعه: (خطوات).
أي، خطواتهم وقطع مقاماتهم بالسلوك هي التي خطت بهم إلى بحار العلم بالله، فغرقوا فيها و حاروا. أو ذنوبهم وخطاياهم هي التي أوجبت عليهم أن يغرقوا. والتأويل الأول لا ينافي ظاهر المفهوم منها، لأنه بالنسبة إلى الكمل من أمته، وما يفهم منه ظاهرا إنما هو بالنسبة إلى الكافرين به و المحجوبين عن دينه.
والضمير في قوله: (وهو الحيرة) راجع إلى (الغرق). أي، ذلك الغرق هو الحيرة. ويجوز أن يرجع إلى (العلم بالله).
وإنما قال كذلك لأنها يلزم العلم بالله كما يلزم العجز. فحملها عليه مجازا، حمل اللازم على الملزوم، كما حملا لإدراك على العجز مجازا في قولهم: (العجز عن درك الإدراك إدراك). حملا لملزوم على اللازم، لأن العجز عن إدراك الحق على ما هو عليه وحقيقته، إنما يلزم من غاية العلم بالله وجهاته المتكثرة المحيرة للناظر فيها.
("فأدخلوا نارا" في عين الماء). أي، فادخلوا في نار المحبة والشوق حال كونهم في عين الماء. أو نارا كائنة في عين الماء، ليفنيهم عن أنفسهم و يبقيهم بالحق.
وإنما قال: (في عين الماء) لأن نار المحبة المفنية لهم بأنوار سبحات وجه الحق، حصلت لهم واستولت عليهم في عين العلم بالله. و (الماء) صورة العلم.
(في المحمديين: (وإذا البحار سجرت) من سجرت التنور إذا أو قدته.) أي، جاء في حق المحمديين: (وإذا البحار سجرت) أي أوقدت.
تقول: سجرت التنور إذا أو قدته. والغرض، أن بحار الرحمة الذاتية التي هي خاصة بالكاملين يظهر بصورة النار، وهي نار القهارية التي بها يقهر الحق الأغيار و يفنيهم ليبقيهم بذاته، كما جاء: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات). فظاهر الشهوات ماء وباطنه نار، وظاهر الجنة نار وباطنه ماء.
لذلك قال بعض العارفين من الصحابة - حين قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (أنا القاسم بين الجنة والنار)(يا قاسم الجنة والنار، إجعلني من أهل النار.)
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (تريد أن تكون من أصحاب القيامة الكبرى.)
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 03 - ﻓﺺ ﺣﻜﻤﺔ ﺳﺒﻮﺣﻴﺔ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻧﻮﺣﻴﺔ الجزء الثالث .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:03 am

03 - ﻓﺺ ﺣﻜﻤﺔ ﺳﺒﻮﺣﻴﺔ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻧﻮﺣﻴﺔ الجزء الثالث .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

03 - ﻓﺺ ﺣﻜﻤﺔ ﺳﺒﻮﺣﻴﺔ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻧﻮﺣﻴﺔ    الجزء الثالث

("فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا"، فكان الله عين أنصارهم، فهلكوا فيه إلى الأبد.) أي، حين ادخلوا في نار القهر والإفناء بتجلي القهار لهم، لم يجدوا لهم ناصرا ينصرهم غير الله. وفي هذا المعنى الجمعي شاهدوا أن أنصارهم في جميع المقامات، الذين نصروهم في سلوكهم من المكملين وأخرجوهم من المضائق، وكانوا مظاهر الله، فكان الله عين أنصارهم دنيا وآخرة، فهلكوا في الحق وفنوا في ذاته أبدا وحيوا بحياته سرمدا، وتبدلت بشريتهم بالحقيقة، كما قال: (كنت سمعه وبصره). فينادون بلسان حالهم:
تسترت عن دهري بظل جناحه  ..... فعيني دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمى ما درت    ...... وأين مكاني، ما درين مكاني
(فلو أخرجهم إلى السيف، سيف الطبيعة، لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة) أي، لو أخرجهم الحق من الجناب الإلهي والحضرة القدسية إلى عالم بشريتهم، مرة أخرى، لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة إلى ساحل بحر الطبيعة.
إذ (السيف)، بكسر السين وسكون الياء، هو الساحل. وهذا حال المهيمين في جمال الله، ليس لهم الرجوع إلى الخلق ثانيا، كما لغيرهم منالكمل المكملين. وإنما قال: (إلى السيف، سيف الطبيعة). ولم يقل: إلى الطبيعة. لأن الكمل الراجعين من الحق إلى الخلق وإن نزلوا إلى الطبيعة ثانيا، لكنهم لهم يظهروا بها وبآثارها كظهورهم قبل سلوكهم، بل يظهرون بالحقفيها، فكأنهم بقوا بمعزل عن الطبيعة وأفعالها، بل واقفين في ساحلها بأمر ربها.
(وإن كان الكل لله وبالله بل هو الله). أي، وإن كان الكل عبدا لله وقائم الله، سواء كان طبيعة أو أهلها. بل الكل، من حيث هو كل، مظهر للإسم الجامع الذي هو الله، لكن تتفاوت درجات المقامات ومراتب أهلها كما تتفاوت درجات الأسماء الإلهية في الحيطة وغيرها. 
وإنما قلت: من حيث هو كل. لأن الذات مع جميع الصفات إنما تظهر في الكل، لا في كل واحد، وإن كانت الذات مع كل واحد من المظاهر. والقطب الحقيقي لكونه مظهرا للإسم الأعظم الإلهي، مظهر للذات مع جميع الصفات، وغيره ليس كذلك.

واعلم، أن الكمل بعد وصولهم إلى الحق بفناء ذواتهم، يبقون ببقاء الحق و يحصل لهم الوجود الحقاني، ثم في رجوعهم من الله إلى الخلق يشاهدون الحق فيكل مرتبة بالحق، لا بأنفسهم، إلى أن يكمل سيرهم في أمهات المظاهر الإلهية ويعلمون أسرار الوجود في كل مرتبة من مراتب عالم الغيب والشهادة بأسرها، فينزل الحق كلا منهم في مرتبة من مراتب الكمل: فمنهم من يجعله غوثا وقطبا، ومنهم من يتحقق بمقام الإمامين الذين هما في يمين القطب ويساره كالوزيرين للسلطان، ومنهم من يبقى من الأبدال السبعة وهم الأقطاب المدبرون للأقاليم السبعة، وغير ذلك من مراتب الأولياء. ومن لم يرجع من تلك الحضرة الرفيعة، يلحق بالملائكة المهيمة.
(قال نوح: رب. ما قال: إلهي. فإن الرب له الثبوت، والإله يتنوع بالأسماء فهو كل يوم في شأن. فأراد بالرب ثبوت التلوين إذ لا يصح إلا هو). أي، خص اسم (الرب) في دعائه مضافا إلى نفسه، لأن الرب، في أي اسم كان وصفة، لا يقتضى إلا المربوب، فهو ثابت في ربوبيته للعباد، ليقضي حوائجهم ويكفي مهماتهم.
وأما (الإله) فغير مقيد بصفة معينة واسم مخصوص، لأنه مشتمل على جميع الصفات والأسماء، فإذا دعاه الداعي بقوله: يا إله، أو: يا الله، لم يدعه إلامن حيث اسم مخصوص مناسب لما يدعو. فإن المريض، مثلا، إذا التجى إلى هذا الاسم، فإنما يلتجي إليه من كونه شافيا و واهبا للعافية. والغريق إذا قال: يا الله، فإنما يلتجي إلى هذا الاسم من كونه مغيثا و منقذا، ونحو ذلك.
فيتنوع في الأسماء بحسب ظهوراته بالإحياء والإماتة والإيجاد والإعدام، إذ (كل يوم هو في شأن). وإضافة الإله إلى نفسه لا يخرجه عن مقام إطلاقه، إذ هو إله الكل بخلاف الرب، فإن رب موجود معين، ليس ربا لغيره، وإن كان الرب المطلق رب الكل.
فالرب يتقيد بالإضافة والإله لا يتقيد. فأراد نوح، عليه السلام، في دعائه بالاسم (الرب)، ما هو ثابت في ربوبيته كاف لمهماته قاض لمراداته في عين التلوين، أي، في عين تلوينات نوح، عليه السلام، في مراتبه الروحانية والقلبية.
(إذ لا يصح إلا هو) أي، إذ لا يصح في الترقي في الدرجات إلا ثبوت مقامالتلوين، فإنه بالتلوين يترقى من مقام إلى مقام.
قال الشيخ رضي الله عنه في اصطلاحاته: (إن مقام التلوين أعلى من مقام التمكين). ويريد به التلوين في الأسماء بعد الوصول، أو التلوين في مقامات القلب والروح لا النفس فإنه مذموم لظهوره في مقام القلب تارة ومقام النفس أخرى، بل التمكين أيضا قبلالوصول بمعنى الوقوف في بعض المقامات مذموم، لأنه لا يترقى إلى مقام الفناء.

("لا تذر على الأرض" يدعوا عليهم أن يصيروا في بطنها). المراد ب (الأرض) عالم الأجسام كلها.
أي، دعا عليهم أن يدخلهم الحق في باطن عالم الملك الذي هو أرض بالنسبة إلى عالم الملكوت الذي هو السماء، ولا يذرهم على وجه الأرض ليتخلصوا من العوالم الظلمانية الحاجبة للأنوار القدسية والوحدة الحقيقية، أو الأرض المعهودة، فإنها أيضا حضرة من أمهات الحضرات.
أي، لا تذرهم على وجه الأرض، بل أدخلهم في باطنها ليتضح عليهم ملكوت ما يخرج منها، فإن السالك إذا دخل في حضرة من الحضرات الإلهية، يكشف له ما في تلك الحضرة من الأعيان والحقائق وأسرارها.
(المحمدي: "لو دليتم بحبل لهبط على الله". "له ما في السماوات وما في الأرض".) أي، وجاء القلب المحمدي بقوله: (لو دليتم بحبل لهبط على الله.) فأخبر أن الله في باطن الأرض، كما أنه في باطن السماء وقال: (له ما في السماوات) أي عالم الأرواح، (وما في الأرض) أي، عالم الأجسام. وهو نور السماوات والأرض، فلا يخلوا السماوات والأرض منه.
(فإذا دفنت فيها فأنت فيها وهي ظرفك). أي، فإذا دفنت في الأرض بالموت الإرادي، فأنت في الأرض مع الحضرة الإلهية. كما قال، صلى الله عليه وسلم: (موتوا قبل أن تموتوا).
وبالموت الطبيعي أيضا، إذا كنت ممن عرف المقامات وظهورات هوية الحق. كما قال: (الموت تحفة المؤمن). وتلك الأرض ظرفك و ساترك عن عيون أهل العالم. (وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى).
إشارة إلى قوله تعالى(منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى).
أي، كما أخرجناكم من عالم الملكوت إلى عالم الملك، كذلك نعيدكم إليه ونخرجكم تارة أخرى ليوم القيامة وابتداء الدورة الأخروية من البقاء بعد الفناء فيه بالوجود الحقاني السرمدي. هذا على الأول من معنيي (الأرض).
وعلى الثاني، أي نعيدكم إلى ملكوت الأرض بالموت الإرادي أو الطبيعي، ومنها نخرجكم تارة أخرى مكتسيا خلع الأعمال الحسنة و ملتبسا بهيئات العلوم الحقيقية التي صارت ملكة في نفوسكم، وذلك (ليقضى الله أمرا كان مفعولا). فيستقر كل من السعداء والأشقياء مكانه.
(لاختلاف الوجوه) أي، يخرج كل واحد منكم من الأرض، تارة أخرى، على صورة تقتضيها هيئاته الغالبة على نفسه حال انتقاله إلى باطن الأرض، لاختلاف الوجوه والهيئات التي بها تستحق النفس صورة من واهب الصور وتستعد لها. ولاختلاف وجوه الحق وأسمائه المقتضية للإحياء والإماتة والإعادة في النشأة الأخروية. ويجوز أن يكون تعليلا لقوله: (يدعو عليهم أن يصيروا في باطنها) .
أي، دعا على أممه كلهم، العامة منهم والخاصة، بدعاء واحد يشملهم ليعطى الحق كلا منهم حقه، لأن الكافرين منهم من عرف الله وستره، ومنهم من أنكره وجحد، فاختلف وجوههم.
ولما كان الأمر كذلك، دعا عليهم بدعاء واحد يستر الخواص منهم، كما ستروا الحق عن أعين الأغيار، جزاء لهم، ويستر العوام المنكرين بالإفناء في وجوده وصفاته، ليتيقنوا الإلهية ويقروا بوحدانيته.
("من الكافرين" الذين "استغشوا ثيابهم".) أي، لا تذر على الأرض من الكافرين الذين ستروا بوجوداتهم وجود الحق و بصفاتهم صفاته وبافعالهم أفعاله. (وجعلوا أصابعهم في آذانهم) وما قبلوا كلام الأنبياء ودعوتهم.
(طلبا للستر) أي، لأجل طلبهم منه ستر وجوداتهم وإفناء ذواتهم في وجوده وذاته، لتبقوا بالبقاء الأبدي. (لأنه "دعاهم ليغفر لهم" والغفر، الستر). تعليل لقوله: (طلبا للستر.)
(ديارا) أحدا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة). تتمة من الآية. أي،
لا تذر أحدا في دياره، ودياره أنانيته ووجوده وما يصير به هو هو، حتى تعم المنفعة على أنواع الكافرين والساترين وجه الحق ووجوده بوجوههم، ووجودهم ليكون لكل منهم نصيب، ولا يحرم أحد منها، كما عمت الدعوة عليهم.
("إنك" إن"تذرهم" أي، تدعهم وتتركهم "يضلوا عبادك" أي، يحيروهم فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية).
أي، إن تذرهم على حالهم يضلوا عبادك ويحيروهم فيك وفي ظهوراتك، فيخرجهم من مقام عبوديتهم بإظهار أسرار الربوبية لهم، كما ظهر لنفوسهم، فيظهرون بالأنانية و يتفرعنوا بظهورهم بأنفسهم.
(فينظرون أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عند نفوسهم عبيدا) فيدعون الألوهية، ويظهرون بالربوبية لغلبة مقام الوحدة عليهم وهم عبيد بالنسبة إلى تعيناتهم. ولا يجوز للعبد دعوى الربوبية مطلقا، لذلك يظهر شرف نبينا، صلى الله عليه وسلم.
بقوله: (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله). وقال عيسى: (إني عبد الله آتاني الكتاب والحكم والنبوة).
قال الشيخ رضي الله عنه : (ألا تدعني إلا بـ " يا عبدها "، فأنه أشرف أسمائي).
(فهم العبيد الأرباب) أي، فهم حينئذ عبيد من حيث تعينهم وتقيدهم للحق المطلق، وأرباب لما تحت حيطتهم وأحكامهم، فهم العبيد والأرباب بالاعتبارين.
("ولا يلدوا" أي، وما ينتجون ولا يظهرون "إلا فاجرا" أي، مظهرا ما ستر).
(مظهر) اسم فاعل من (الإظهار). (ستر) على البناء للمفعول. أي، مظهرا ما ستره الحق من أسرار ربوبيته في مظاهره.
("كفارا" أي، ساترا ما ظهر بعد ظهوره) كما يعلمون اليوم في قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن).
فإنه صريح في أن ما في الوجود غيره، و يأولونه على مبلغهم من العلم بحسب عقولهم، كتأويلهم قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم). وأمثال ذلك.
(فيظهرون ما ستر) من الأسرار الإلهية. (ثم يسترونه بعد ظهوره). مرة أخرى. إما خوفا من الجهلاء، أو غيرة على الله.
(فيظهرون ما ستر) من الأسرار الإلهية. (ثم يسترونه بعد ظهوره). مرة أخرى. إما خوفا من الجهلاء، أو غيرة على الله.
(فيحار الناظر ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره ولا الكافر في كفره). أي، يحار الناظر في كلامهم، ولا يعرف مقصود المظهرين في إظهارهم ولا مطلوب الساترين في سترهم، كما يصدر اليوم من العرفاء.
وذلك الإظهار إنما يحصل من غلبة الوحدة عليهم، والستر لا يكون إلا عند رجوعهم إلى أنفسهم وغلبة الكثرة عليهم. ولا بد أن يكون الأمر كذلك إلى أن يظهر خاتم الأولياء وينكشف الأمر على الكل.
(والشخص واحد) أي، والحال أن الفاجر المظهر هو الذي يستر ما أظهره ويكفر نفسه في زمان آخر. كما هو مشهور عن أبى يزيد في قوله: "لا إله إلا أنا"، و"سبحاني ما أعظم شأني " فكيف إذا كان المظهر غيره قد كما أفتى الجنيد بقتل الحلاج، رضى الله عنهما. ويحار الناظر، إذ لو كان المظهر غير الساتر، ربما كان لم يقع الناظر في الحيرة.
("رب اغفر لي" أي، استرني) أي، أستر ذاتي. (واستر من أجلى). أي، أستر صفاتي وكمالاتي من أجلى ليكون ذخيرة للآخرة.
(فيجهل مقامي و قدري) على البناء للمفعول. أي، أستر كمالاتي لئلا يطلع الخلق على مقامي و قدري عندك فيحسدونني ويهلكوني كما (جهل قدرك في قولك :و"ما قدروا الله حق قدره".) ولما كان هذا أيضا مقاما من المقامات الإلهية، طلب الاتصاف به أيضا للمضاهات بينه وبين الحق.
("ولوالدي" من كنت نتيجة عنهما، وهما العقل والطبيعة). وإنما فسر الوالدين بالعقل والطبيعة، لأنهما مظهرا حقيقة آدم وحواء في العالم الروحاني. ولكون العقل فعالا والطبيعة منفعلة، خص العقل بالأبوةوالطبيعة بالأمومة.
والمراد بالعقل ها هنا، هو الروح، كما هو اصطلاح أهل التصوف، لا القوة النظرية والمفكرة، وبالطبيعة، النفس المنطبعة، ونتيجتها القلب.
("ولمن دخل بيتي" أي قلبي). حين فنى عن نفسه وهواه. وجعل (القلب) مستقر الحق ومأواه. ("مؤمنا" أي، مصدقا بما يكون فيه) أي، بما يحصل في القلب.
(من الإخبارات الإلهية) إنما جعل الواردات القلبية والإلهامات الروحية (إخبارات إلهية)، لأن القلب والروح مطهر عن الأجارس البدنية ومقدس من الكدورات الجسمانية، وكلما يرد عليهما مطابق لما هو الأمر عليه في نفسه، فهو رباني.
لذلك قيل: إن الخواطر الأول كلها ربانية حقية، وإنما يتطرق إليها منتعملات النفس وتصرفاتها أمور تخرجها عن الصواب، فتصير أحاديث نفسانية ووساوس شيطانية.
(وهو) أي، ما يكون وما يحصل فيه من الإخبارات الإلهية. (ما حدثت به أنفسها.)
(أنفسها) فاعل (حدثت). وفي بعض النسخ: (أنفسهم.)
والضمير للمذكرين في الآية أنثه باعتبار (النفوس). فهو تعريف ما للخبر الإلهي الذي لا يكون بواسطة الملك.
ولا ينبغي أن يتوهم أن كل ما يحصل في النفوس هوكذلك، بل هذا المقام لمن تطهر من الأدناس نفسه، وأجاد وأسلم شيطانه وانقاد، ولا يوسوس الخناس في صدره وعرف جميع مكائد نفسه، فإذا خطر في قلبه خاطر أولا، يكون ذلك حديثا ربانيا، والحق ناطقا بلسانه، كما نطق بلسان غيره.
("وللمؤمنين" من العقول "والمؤمنات" من النفوس).
وإنما فسر (المؤمنين) بالعقول، أي المجردات، لأن نفوسهم فعالة في نفوس غيرهم مؤثرة بالهمة فيها،بل في العالم على قدر قربهم ونصيبهم من الاسم (القادر) وكمالهم من الله،
كالعقول.
و (المؤمنات) بالنفوس، أي المنطبعة المطمئنة، إذا (النفس) في اصطلاح هذه الطائفة لا يطلق إلا بها، لا بالناطقة المجردة، كاصطلاح الحكماء، لأنها هي المنفعلة عن الروح أولا، ثم بواسطتها ينفعل الطبيعة الجسمية والبدن.
("ولا تزد الظالمين") أي، المستترين بالغواشي التي توجب الظلمات، لذلك قال: (من الظلمات) أي، مأخوذة من الظلمات.
كما قال عليه السلام: (الظلم ظلمات يوم القيامة). (أهل الغيب المكتنفين خلف الحجب الظلمانية) منصوب على أنه عطف بيان (الظالمين). والمراد منه العارفون بالغيب وإن كانوا ظاهرين بالحجب الظلمانية التي يسترهم كالملامية. وهؤلاء هم الذين جاء في حقهم: (أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري) ("إلا تبارا" أي، هلاكا) أي، هلاكا فيك.
(فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحق دونهم). أي، إذا هلكوا فيك، فلا يعرفون نفوسهم ولا يشعرون بذواتهم ولا يظهرون بإنياتهم، لشهودهم وجه الحق الباقي أبدا دون أنفسهم، لئلا يحتجبوا بها عن الحق.
(في المحمديين:"كل شئ هالك إلا وجهه" وذاته. و "التبار" الهلاك.)
أي، كما جاء في حق المحمديين وفي كتابهم: (كل شئ هالك إلا وجهه). و ذاته، و التبار الهلاك، فطلب نوح، عليه السلام، الهلاك فيه بقوله: (ولا تزد الظالمين إلا تبارا.)
(ومن أراد أن يقف على أسرار نوح، فعليه بالترقي في فلك يوح). (يوح)، بالياء والواو الساكنة والحاء، هي (الشمس).
وإنما أحال الطالب السالك بالترقي إلى فلك الشمس. لأن الغالب على أملاك فلكها التنزيه. و روحانية فلك الشمس قلب عالم الأرواح المنزهة، فحصلت المناسبة بينهما.
(وهو في التنزلات الموصلية لنا، والسلام).
أي، الوقوف عليها وبيانها مذكور في كتاب التنزلات الموصلية. فإنه بين هناك وجه المناسبة بينهما، وكشف بعض أسراره الذي لم يذكره هاهنا. والله أعلم بالصواب.ٍ
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:04 am

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية  الجزء الأول
(القدوس) معناه المقدس. وهو مشتق من (التقديس). كـ (السبوح) من (التسبيح).
وهو (التطهير) لغة. واصطلاحا تقديس الحق عن كل مالا يليق بجنابه، من الإمكان والاحتياج والنقائص الكونية مطلقا، وعن جميع ما يعد
كمالا بالنسبة إلى غيره من الموجودات، مجردة كانت أو غير مجردة.
لأنه تعالى وكمالاته الذاتية أعلى من كل كمال وأجل من أن يدركه عقل أوفهم أو خيال، إذ الكمالات المنسوبة إلى غيره متنزلة عن مقامها الأصلي، مقيدة خارجة عنالإطلاق الحقيقي، متفرعة عنه.
وهو من الأسماء الحسنى، وأخص من (السبوح) كيفية وكمية، أي، أشدتنزيها منه وأكثر، لذلك يؤخر عنه في قولهم: (سبوح قدوس) وذلك لتنزهه منحيث ذاته من التنزيه والتشبيه.
كقول القائل: جل الحق أن ينزه أو يشبه.
فهو باعتبار نوع من التنزيه غير داخل في القسم الأول، وباعتبار آخر أشد منه كالفناء والفناء من الفناء.
ويمكن أن يقال، (التسبيح) تنزيه بحسب مقام الجمع فقط،
و (التقديس) بحسب مقام الجمع والتفصيل ليكون أكثر كمية، ولهذا قيل: إن تنزيه نوح، عليه السلام، تنزيه عقلي وتنزيه إدريس، عليه السلام، تنزيه عقلي ونفسي.
ولما كانت هذه الحكمة مناسبة للحكمة المتقدمة معنى ومرتبة، جعلها يليها وخصصها بإدريس، عليه السلام، لأجل تطهير نفسه، عليه السلام، بالرياضة الشاقة وتقديسه عن الصفات الحيوانية، حتى غلبت روحانيته على حيوانيته، فصار كثير الانسلاخ عن البدن، وصاحب المعراج، وخالط الأرواح والملائكة المجردة. 
وقيل: لم ينم ستة عشر عاما ولم يأكل حتى بقى عقلا مجردا.
قال رضي الله عنه : (العلو نسبتان: علو مكان وعلو مكانة. فعلو المكان: (ورفعناه مكانا عليا)).
لما جاء في بيان مرتبته: (ورفعناه مكانا عليا) وكان نتيجة التقديس العلوعن كل شئ وبه يتميز عن التسبيح، خص رضي الله عنه الفص بتحقيقه وشرع في بيان العلو، وقسمه بعلو المكان وعلو المكانة، أي، المرتبة. وبإزائه يكون السفل منقسما بالسفل المكاني كالمركز، والمكانة كمرتبة المشركين الذين هم أسفل السافلين.
ولما كان العلو نسبة من النسب ومنقسما بقسمين، قال: (العلو نسبتان). كأنه قال: العلو علوان. أو يكون تقديره العلو له نسبتان: علو مكان وعلو مكانة.
قال رضي الله عنه : (وأعلى الأمكنة المكان الذي يدور عليه رحى عالم الأفلاك وهو فلك الشمس، وفيه مقام روحانية إدريس، عليه السلام).
واعلم، أن أعلى الأمكنة جهة هو العرش المحدد للجهات.
وإنما جعل فلك الشمس أعلى الأمكنة باعتبار أنه قلب الأفلاك ووسطه وعليه مدار عالم الأفلاك، لا بمعنى أنه مركز عليه دوران الأفلاك، بل كما يقال على القلب مدار البدن، أي، منه يصل الفيض إلى جميع البدن. أي، فمن روحانيته يصل الفيض إلى الأفلاك جميعا، كما أن من كوكبه تتنور الأفلاك جميعا.
وبه يرتبط الكواكب ارتباط الولاة بالسلطان. 
وإن كان لكل منها روحانية خاصة، يستفيض من الجناب الإلهي الفيض الخاص به، كماأن لكل نفس من النفوس فيضا خاصا من جهة عينه التي لا واسطة بينها وبينالحق، وفيضا عاما بواسطة العقل الأول والنفس الكلية وباقي روحانيات الأفلاك السبعة من المدبرات.
فأثبت في عين العلو المكاني علو المكانة، فكأنه قال: وأعلى الأمكنة بعلو المكانة المكان الذي يدور عليه رحى عالم الأفلاك.
لذلك أثبت العلو المكاني للعرش بقوله: (فعلو المكان) كـ (الرحمن على العرش استوى). وهو أعلى الأماكن. وروحانية إدريس في فلك الشمس.
كما أشار إليه قوله: (ورفعناه مكانا عليا)، وحديث المعراج عينه.
(وتحته سبعة أفلاك وفوقه سبعة أفلاك وهو) أي، فلك الشمس.
(الخامس عشر. فالذي فوقه فلك الأحمر) أي، المريخ. (وفلك المشترى، وفلك الكيوان) أي، زحل.
(وفلك المنازل) أي، فلك الثوابت.
(والفلك الأطلس) صاحب الحركة اليومية. وفي بعض النسخ: (والفلك الأطلس فلك البروج).
فهو عطف بيان للفلك الأطلس.
وإنما سماه (فلك البروج)، لأن البروج يتقدر فيه بالكواكب الثابتة في فلك المنازل المسمى عند أصحاب الهيئة بفلك البروج .
قال رضي الله عنه : (وفلك الكرسي وفلك العرش). وجعل هذين الفلكين أيضا، في فتوحاته، في الباب الخامس والسبعين ومائتان، فوق الأطلس وذكر فيه: (إن الأطلس وهو عرش التكوين، أي، عنه ظهر الكون والفساد بواسطة الطبائع الأربعة.
ومستوى الرحمن هو العرش الذي ما فوقه جسم، ومستوى الرحيم هو الكرسي الكريم.
والحكماء أيضا ما جزموا أن فوق التسعة ليس فلك آخر، بل جزموا على أنه لا يمكن أن يكون أقل منه) (والذي دونه فلك الزهرة وفلك الكاتب) أي، عطارد.
(وفلك القمر وكرة الأثير وكرة الهواء وكرة الماء وكرة التراب) وإنما سمى العناصر أكرا، وإن كان سماها أفلاكا من قبل، بناء على المصطلح المشهور.
قال رضي الله عنه : (فمن حيث هو قطب الأفلاك هو رفيع المكان) أي فمن حيث إن فلك الشمس في وسط الأفلاك هو رفيع المكان بالنسبة إلى ما تحته، ورفيع المكانة من حيث قطبيته وكونه وسطا عليه مدار الأفلاك، كما أن مدار العالم على وجود الإنسان الكامل.
ولا يريد به القطب الاصطلاحي لأهل الهيئة، وهو النقطة التي في كل من طرفي المحور.
ويجوز أن يكون الضمير في قوله: (هو رفيع المكان) عائدا إلى  (إدريس)، عليه السلام، والضمير الأول (الفلك).
أي، فمن حيث إن فلك الشمس هو قطب الأفلاك، فإدريس رفيع المكان.
لذلك قال: (وأما علو المكانة فهو لنا) أي، له المكان العلى بالنص الإلهي.
والرفعة والمكانة لنا، لأنه ما وصل إلى الفناء في الحق والبقاء به، بل ارتاض حتى تبدلت هيئات بشريته وأوصاف إنسانيته بالصفات الإلهية والهيئات الروحانية.
وما حصل له الفناء في الذات الموجب للاتصاف بالعلو الذاتي والمكانة المطلقة، لذلك صار مقام روحانية فلك الشمس.
وذلك المقام لنا قال رضي الله عنه : (أعني، المحمديين. قال تعالى: (وأنتم الأعلون)) مخاطبا لهذه الأمة.
كما قال: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس.)
((والله معكم) في هذا العلو، وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة). أي،الحق من حيث إطلاقه، وإن كان له العلو الذاتي الذي هو أصل أنواع العلو،مشارك معنى في العلو المرتبي أو يحكم أنه معنى يكون له العلو أيضا، لكنه يتعالىعن العلو المكاني، فإنه من خواص الأجسام. فعلوه علو المكانة.
قال رضي الله عنه : (ولما خافت نفوس العمال منا، أتبع المعية بقوله: (ولن يتركم أعمالكم.)
فالعمل يطلب المكان، والعلم يطلب المكانة، فجمع لنا بين الرفعتين: علو المكان بالعمل، وعلو المكانة بالعلم).
أي، لما علم الزهاد والعباد الذين لا علم لهم بالحقائق ولا معرفة أن علو المكانة إنما هو بحسب العلم والكشف الحقيقي وخافت نفوسهم وحسبوا أن لا نصيب لهم من العلو، ذكر الحق في كلامه بعد .
قال رضي الله عنه : (والله معكم ولن يتركم). أي، لا ينقصكم الحق أعمالكم، فيكون لكم علو المكان بحسب أعمالكم. وإنما كان علو المكانة للعلم وعلو المكان للعمل، لأن المكانة للروح، كما أن المكان للجسم، والعلم روح العمل والعمل جسده.
فاقتضى كل منهما بحسب المناسبة ما يشبهه ويماثله: فعلو المكانة للعالم، وعلو المكان للعامل، ومن جمع بينهما فله العلوان.
قال رضي الله عنه : (ثم قال تنزيها للاشتراك بالمعية: (سبح اسم ربك الأعلى). عن هذا الاشتراك المعنوي).
ولما قال: (والله معكم). وأثبت له العلو أيضا، كما أثبتهلنا، وهو له لذاته ولنا بالتبعية، فنزه عن هذا الاشتراك المعنوي بقوله: (سبح اسم ربك الأعلى) الذي له العلو الذاتي، وليس ذلك لأحد غيره.
(ومن أعجب الأمور) كون الإنسان أعلى الموجودات، أعني الإنسان الكامل،
وما نسب إليه العلو إلا بالتبعية، إما إلى المكان وإما إلى المكانة، وهي المنزلة) كون الإنسان أعلى الموجودات، إنما هو باعتبار مرتبته الجامعة للمراتب كلها. أي، ومن أعجب الأمور أنه أعلى مرتبة من جميع الموجودات، وليس له العلو بذاته، بلباعتبار المكان الذي هو دونه، أو باعتبار المكانة وهي المرتبة.
قال رضي الله عنه : (فما كان علوه لذاته، فهو العلى بعلو المكان والمكانة، فالعلو لهما). أي،فليس علو الإنسان الكامل من كونه أعلى الموجودات علوا ذاتيا، فهو على بعلوالمكان والمكانة لا لذاته، فالعلو للمكان والمكانة لا له. وعلو هما أيضا إنما هو منتجليه لهما باسمه (العلى). فالعلو الذاتي لا يكون إلا لله.
ويجوز أن يكون (ما) بمعنى الذي، ويكون المراد تشبيه الحق بما نزهه عنه،وهو كونه عليا بعلو المكان والمكانة.
ويعضده قوله: (فعلو المكان كـ (الرحمن على العرش استوى)) إلى آخره.
ومعناه: فالذي كان عليا لذاته في مرتبة أحديته ومقام ألوهيته، هو أيضا على بعلو المكان والمكانة في مرتبة أخرى، كغيره مما ليس له العلو الذاتي.
وهذا من جملة ظهور الحق بالصفات الكونية.
كقوله: (مرضت فلم تعدني).، (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا). فالعلو للمكان والمكانة وللحق بتبعيتهما، كما جعل نفسه وكيلا للعباد بقوله: (ألا تتخذوا من دوني وكيلا). وقوله: (رب المشرق والمغرب، لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا).
مع أنه مالك الملك كله. وذلك لأنه تجلى لهما باسمه (العلى)، فجعل لهما العلو، ثم جعل لنفسه العلو بتبعيتهما في بعض مراتب التنزلات.
ومن علم أن ليس في الوجود إلا هو، علم أن العلى بالذات وبالتبعية أيضا لا يكون إلا هو، وعلم أن كل ما هوعلى بالتبعية، هو أيضا على بالعلو الذاتي، كما يقرره بقوله: (فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو.)
(فعلو المكان كـ (الرحمن على العرش استوى). وهو أعلى الأماكن. وعلو المكانة: (كل شئ هالك إلا وجهه)
و (إليه يرجع الأمر كله).، (أإله مع الله.)
أي، فما يقتضى نسبة العلو المكاني إليه، هو قوله: (الرحمن على العرش استوى.) فإن العرش أعلى الأماكن، وهو مستو عليه بحسب ظهوره فيه، فله العلو المكاني.
ولا تناقض بين قوله: (وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة) وبين إثباته له. فإن ذلك التعالي بحسب الذات، لا بحسب المظاهر والأسماء، والإثبات بحسبهما.
وكذا ما يقتضى نسبة علو المكانة إليه هو: (كل شئ هالك...). إذ البقاء مع هلاك الأشياء. وكونه مرجع الأمور والانفراد بالإلهية منزلة عظيمة ومكانة رفيعة لا يمكن أن يكون فوقها مرتبة.
(ولما قال تعالى: (ورفعناه مكانا عليا) فجعل (عليا) نعتا للمكان). جواب (لما) محذوف اكتفاء بجواب (لما) الثاني.
أي، لما قال كذا، علمنا أن علو المكان ليس لكونه مكانا، إذ لو كان كذلك لكان لكل مكان، بل اختصاص من الله لذلك المكان، وذلك الاختصاص هو المكانة.
وقال أيضا: ((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). فهذا علو المكانة.
وقال في الملائكة: (أستكبرت أم كنت من العالمين). فجعل العلو للملائكة. فلو كان لكونهم ملائكة، لدخل الملائكة كلهم في هذا العلو، فلما لم يعم مع اشتراكهم في حد الملائكة، عرفنا أن هذا علو المكانة عند الله، وكذلك الخلفاء من الناس لو كان علو هم بالخلافة). أي، لو كان العلو الحاصل لهم بالخلافة. (علوا ذاتيا) أي، للطبيعة الإنسانية.
قال رضي الله عنه : (لكان لكل إنسان. فلما لم يعم، عرفنا أن ذلك العلو للمكانة) أي، أثبت علو المكانة للإنسان الكامل، الذي هو الخليفة الحقيقية للحق، وللخلفاء الذين يخلقونه في كل زمان إلى يوم القيامة، وأثبته للملائكة.
فلو كان لكونهم إنسانا، لكان ذلك لكل إنسان، ولو كان لكونهم ملائكة، لكان ذلك العلو لكل ملك، وليس كذلك، لخروج إبليس منها مع كونه ملكا بجعل الجنة من الملائكة في قوله: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا). بعد قوله:
(فاستفتهم، ألربك البنات ولهم البنون؟ أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون؟)
ولا شك أن إبليس من الجنة. فلما لم يكن كذلك، علمنا أنه اختصاص من عند الله .
كما قال: (يختص برحمته من يشاء).
والأملاك العالون الملائكة التي وقعت في الصف الأول من الوجود. ومنهم المهيمة الذين لا شعور لهم بأن آدم وجد أو لم يوجد، إذ لا شعور لهم بذواتهم فضلا عن غيرهم.
والعقل الأول والنفس الكلية منهم، إلا أن الله تعالى لم يجعلهما مهيمين، لتدوين الوجود بهما  كما نبه الشيخ رضي الله عنه في فتوحاته.
فمعنى الآية: أستكبرت أم صرت من العالين، المهيمين الذين لا يسجدون لغير الله ولا يشعرون إلا بجمال الله.
وهذا لا يناقض قوله: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين).
لأن الأمرإنما يتعلق بالعقلاء العالمين، فدخل في الأمر العقل الأول ومن دونه، في الإخبار منهم.
وأيضا إذا سجد فرد واحد من حقيقة كلية، فقد حصل السجود من تلك الحقيقة أيضا، فكأن جميع أفرادها سجدوا
قال رضي الله عنه : (ومن أسمائه الحسنى، (العلى)).
واعلم، أنه اسم من أسماء الذات، وهو بهذا الاعتبار لا يستدعى من يكون عليا عليه، وأما باعتبار أن العلو نسبةإضافية يستدعى السفل، فليستدعي ذلك.
لذلك قال: (على من وما ثم إلاهو) أي، علوه على من، وما ثم في الوجود شئ غيره. (فهو العلي لذاته) أي،فهو العلي لذاته لا بالنسبة إلى غيره، فلا يستدعي أن يكون عليا عليه كما مر.
قال رضي الله عنه : (وعن ماذا؟ وما هو إلا هو فعلوه لنفسه).
أي، عمن استفاد العلو حتى لا يكون له لذاته، والحال أن ما هو. أي، ليس ذلك الشئ أيضا إلا هو، فليس شئ آخر غيره استفاده منه العلو، فعلوه لذاته.
أو يكون (العلى) متضمنا لمعنى الارتفاع. يقال: علا عليه. أي، غلب عليه. و: علا عنه. أي، ارتفع عنه.
معناه: أن المرتفع عماذا، أو عمن؟ وليس في الوجود غيره.
قال رضي الله عنه : (وهو من حيث الوجود عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها،وليست إلا هو، فهو العلى لا علو إضافة، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ماشمت رائحة من الوجود، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات).
أي،الحق من حيث الوجود المضاف إلى الموجودات هو عين الموجودات الخارجية.
وذلك لأن الأعيان مرايا لوجود الحق، وما يظهر في المرأة إلا عين الرائي وصورته،فالموجودات المسمى بالمحدثات صور تفاصيل الحق. فهي العلية لذاتها، لأن
الحق على لذاته لا بالإضافة، فالموجودات أيضا كذلك، لأنها ليست إلا اثر من الحق.
وإنما قال: (لأن الأعيان... ما شمت رائحة الوجود).
لأن الأعيان صور علمية موجودة في العلم معدومة في العين. ولها اعتباران: اعتبار أنها مرايا لوجود الحق وأسمائه وصفاته، واعتبار أن وجود الحق يصير مرآة لها.
فالاعتبار الأول، لا يظهر في الخارج إلا الوجود المتعين بحسب تلك المرايا المتعددة بتعددها، كما إذا قابلت وجهك بشئ فيه مرايا متعددة، تظهر صورتك في كل منها فتعددت.
فعلى الأول، ليس شئ في الخارج إلا الوجود، والأعيان على حالها في العلم معدومة في العين، ما شمت رائحة الوجود الخارجي. هذا لسان حال الموحد الذي غلبه الحق.
وبالاعتبار الثاني، ليس في الوجود إلا الأعيان ووجود الحق الذي هو مرآة لها في الغيب، ما يتجلى إلا من وراء تتق العزة وسرادقات الجمال والجلال.
وهذا لسان من غلبه الخلق. وأما المحقق فلا يزال يشاهد المرآتين: 
مرآة الأعيان، ومرآة الحق
 والصور التي فيهما معا من غير انفكاك وامتياز.
والشيخ رضي الله عنه لكونه بحرا مواجا، يخرج درر الحقائق ولآلئ المعاني على لسان كل طائفة من الطوائف الثلاث في كل حين ويعطى حقها.
وقوله: (مع تعداد الصور) متعلق بـ (ما شمت) أي، الأعيان ما شمت رائحة من الوجود، مع أن آثارها، وهي صورها المتكثرة الجاعلة للوجود الواحد، موجودات متعددة بحسب انعكاس صورها في مرآة الوجود، وقبول (النفس الرحماني) إياها حاصلة في الموجودات العينية.
(والعين واحدة من المجموع في المجموع) أي، والحال أن الحقيقة التي تتبدل هذه الصور عليها، واحدة ممتازة من جميع الموجودات بحسب ذاتها من حيث إطلاقها وتقييد غيرها، وظاهرة بذاتها في صور جميع الموجودات من حيث أسمائها وصفاتها.
أو، والحال أن العين القابلة للصور المتعددة واحدة ثابتة في صورة كل واحد من المجموع.
و (من) للبيان، وعلى الأول للتعدية.
(فوجود الكثرة في الأسماء هي النسب، وهي أمور عدمية).
أي، إذا كانت الذات واحدة، فالكثرة في أسمائها وصفاتها. وتلك الأسماء ذات مع كل واحدة من الصفات. 
فالكثرة في الصفات والصفات نسب معقولة ليست أمورا عينية، فهي أمور عدمية بالنسبة إلى الخارج، إذ لا أعيان لها فيه مجردة عن المظاهر، وإن كانت وجودية في العقل وفي المظاهر ضمنا. أو نقول، إن الأسماء لكونها ليستحقائق موجودة متميزة بوجودها عن وجود الحق، بل وجودها عين وجود الحق، كانت نسبا واقعة على الوجود الحق المطلق، حاصلة بينه وبين الأكوان التي هي الموجودات المقيدة.
أما كون أسماء الأفعال نسبا، فظاهر، لأن (الباري) و (الخالق) و (المبدع) و (الرزاق) وأمثالها بالنسبة إلى المخلوق والمبدع والمرزوق.
وأما أسماء الصفات، ف (العليم) و (الرحيم) و (السميع) و (البصير)، فإنها أيضا بالنسبة إلى المعلوم والمرحوم والمسموع والمبصر.
وأما أسماء الذات، كالاسم (الله) و (الرب) و (القيوم)، فإنها أيضا من وجه
نسب وإن كانت من وجه آخر غيرها فإنها يقتضى المألوه والمربوب وما يقوم به من الموجودات المقيدة، إذ معنى (القيوم) القائم بنفسه المقوم لغيره.
و (الحق) أيضا اسم فاعل في صيغة المصدر كالعدل. ومعناه: الثابت بنفسه والمثبت لغيره.
(وليس إلا العين الذي هو الذات). أي، وليس وجود الكثرة الأسمائية
إلا عين الذات الإلهية الظاهرة بحسب شؤونها المختلفة بصور الأعيان الثابتة، وهي على حالها في العدم.
وفي بعض النسخ: (وليست) أي (وليست الأسماء إلا عين العين الذي هو الذات الإلهية لكون الاسم عين المسمى.
(فهو العلى بنفسه لا بالإضافة فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة).
أي، فوجود الكثرة أيضا هو العلى لذاته، لأنه ليس غير وجود الحق سبحانه من حيثالحقيقة. ويجوز أن يعود إلى الحق.
 أي، فالحق هو العلى لذاته، إذ ليس في الوجودغيره ليتعالى عليه وعنه.
 فليس في العالم من هذه الحيثية، أي من حيث الوحدة، علو إضافة بل علوه لذاته، لأن ظاهره ظاهر الحق وباطنه باطن الحق، والمجموعراجع إلى العين الواحدة التي هي عين الحق، وإن كان باعتبار آخر، هو جهة الغيرية واعتبار الكثرة للعالم، علو إضافة.
وإليه أشار بقوله: (لكن الوجوه الوجودية متفاضلة، فعلو الإضافة موجودة في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة).
أي، وإن كان للعالم كله علو بالذات من حيث الأحدية، لكن يقع التفاضل في الوجوه الوجودية التي هي المظاهر، بالعلم بالله وعدمه، والأعمال الحسنة وعدمها، والاتصاف بالأحوال وعدمه. ولكل أيضا درجات، كما قال:
(والذين أوتوا العلم درجات). ولأصحاب الأعمال والأحوال أيضا كذلك مقامات ودرجات، كما لمقابليهم من الجهال وأصحاب الشرك والضلالدركات. فحصل العلو الإضافي بين الموجودات بحسبها في العين الواحدة التيهي عين الذات من الوجوه الكثيرة.
(لذلك نقول فيه: هو لا هو، أنت لا أنت) أي، لأجل ذلك الأمر الواحد
الظاهر بمظاهر مختلفة، نقول في كل مظهر: إنه هو عين الحق. فنحمله عليه حمل المواطاة بهو هو، وتسلبه عنه بقولنا: (لا هو) لتقيده وإطلاق الحق.
قال رضي الله عنه : (قال الخراز، رحمه الله، وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته، ينطقعن نفسه بـ (أن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها: وهو الأول والآخر والظاهر والباطن. فهو عين ما ظهر في حال بطونه، وهو عين ما بطن في حال ظهوره  وما ثم من يراه غيره، وما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه. وهو المسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات).
أي، قال أبو سعيد الخراز، قدس الله روحه، وهو من أكابر الأولياء لذلك قال: (وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته).
أي، والحال أنه مظهر من مظاهره الكلية ولسان من ألسنة الحق. (ينطق عن نفسه) أي، يخبر عن نفسه المتصفة بالصفات الإلهية من حيث جامعيتها للأمور المتضادة، بأن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الضدين والنقيضين من وجه واحد، كما صرح به في الفتوحات.
فإنه (الأول) من حيث إنه (الآخر) وبالعكس، و (الظاهر) من حيث إنه (الباطن) وبالعكس، فاختص الجمع بينهما من وجه واحد بالحق، وغيره وإن كان يجمع بينهما، لكن من وجهينمختلفين. والعقل لا يثبت الأمور المختلفة لشئ واحد إلا من جهات مختلفة، فالجمع بينهما من جهة واحدة خارج عن طور العقل)
وقوله: (فهو عين ما ظهر... الخ) يحتمل أن يكون من تتمة القول، ويحتمل أن يكون أيضا كلامه وهو الأظهر. أي، فالحق عين ما ظهر في حال بطونه، وعين ما بطن في حال ظهوره، وظهوره عين بطونه وبطونه عين ظهوره.
وما في الوجود غيره ليراه ويكون ظاهرا بالنسبة إليه، بل الرائي أيضا عينه، وما ثم من يبطن عنه ليكون باطنا.
فهو ظاهر لنفسه بنفسه، كظهوره للعارفين، وباطن عن نفسه بنفسه، كبطونه واختفائه عن المحجوبين. وليس العارف
والمحجوب إلا مظهرين من مظاهره، فالحق هو المسمى باسم المحدثات أبى سعيد وغيره من الأسماء بحسب تنزلاته في منازل الأكوان.
قال رضي الله عنه : (فيقول: الباطن، لا إذاقال: الظاهر أنا، ويقول: الظاهر لا، إذا قال: الباطن أنا. وهذا في كل ضد.)
أي، إذا قال الاسم الظاهر: أنا مظهرا إنيته ومريدا لتحققه، ينفيه الاسمالباطن، فان الضد ينفى الضد. فإذا قال الباطن: أنا ظاهرا لحقيقته ومثبتا
لحقيته، ينفيه الظاهر. وهكذا الأمر في كل من الضدين، فإنه يثبت مقتضى ذاته وينفى مقتضى ما يقابله. فإذا كان الحق ظاهرا من حيث إنه باطن، وباطنا منحيث إنه ظاهر، فقد جمع بينهما من وجه واحد.
قال رضي الله عنه : (والمتكلم واحد وهو عين السامع) أي، والحال أن المتكلم في هذين الإسمين واحد بحكم أحدية العين، وهو الحق، والسامع أيضا عينه لا غيره، كما(يقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (وما حدثت به أنفسها).) بضم السين على أنه فاعل (حدثت). وهو إشارة إلى ما ثبت في الصحيح أن رسول الله، صلى اللهعليه وسلم، قال: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أوتعمل.)
قال رضي الله عنه : (فهي المحدثة السامعة حديثها العالمة بما حدثت به نفسها، والعين واحدة وإناختلفت الأحكام. ولا سبيل إلى جهل مثل هذا، فإنه يعلمه كل إنسان من نفسه.)
أي، فالأنفس هي المحدثة وهي السامعة لحديثها وهي العالمة بما حدثت به،لا غيرها، فالعين واحدة وإن اختلفت الأحكام الصادرة منها بحسب قواها منالنطق والسمع والعلم. فكذلك المتكلم بلسان الباطن والظاهر وكل من الأسماءالمتقابلة واحد. يعلم ذلك ذوقا كل إنسان من نفسه.
قال رضي الله عنه : (وهو صورة الحق). أي، والإنسان الذي يعلم هذا من نفسه هو صورة الحق.
وهو السامع والمتكلم حديث نفسه، فيلزم أن يكون الحق الذي هوعلى صورته .
كذلك، كما قال، عليه السلام: (إن الله خلق آدم على صورته)
قال رضي الله عنه : (فاختلطت الأمور وظهرت الأعداد بالواحد في المراتب المعلومة كلها)  
أي، فاختلطت الأمور، واشتبهت بالتكثر الواقع فيها على المحجوب الغير المنفتح عين بصيرته، وإن كانت ظاهرة راجعة إلى الواحد الحقيقي عند من رفعت الأستار عن عينه وانكشف الحق إليه بعينه.
والاختلاط بالتجليات المختلفة صار سببا لوجود الكثرة، كما ظهرت الأعداد بظهور الواحد في المراتب المعلومة.
ولما كان ظهور الواحد في المراتب المتعددة مثالا تاما لظهور الحق في مظاهره، جعل هذا الكلام توطئة، وشرع في تقرير العدد وظهور الواحد فيه، ليستدل المحجوب به على الكثرة الواقعة في الوجود المطلق مع عدم خروجه عن كونه واحدا حقيقا.
قال رضي الله عنه : (فأوجد الواحد العدد وفصل العدد الواحد).
أي، أوجد الواحد بتكراره العدد، إذ لو لم يتكرر الواحد، لم يكن حصول العدد. وفصل العدد مراتب الواحد، مثل الاثنين والثلاثة والأربعة وغير ذلك إلى ما لا يتناهى، لأن كل مرتبة من مراتب الآحاد والعشرات والمئات والألوف ليس غير الواحد المتجلى بها، لأن الاثنين، مثلا، ليس إلا واحدا وواحدا اجتمعا بالهيئة الوحدانية، فحصل منها الاثنان، فمادته هو الواحد المتكرر وصورته أيضا واحدة، فليس فيه شئ سوى الواحد المتكرر، فهو مرتبة من مراتبه وكذلك البواقي.
فإيجاد الواحد بتكراره العدد، مثال لإيجاد الحق الخلق بظهوره في الصور الكونية. 
وتفصيل العدد مراتب الواحد، مثال لإظهار الأعيان أحكام الأسماء الإلهية والصفات الربانية، والارتباط بين الواحد والعدد، مثال للارتباط بين الحق والخلق، وكون الواحد نصف الاثنين وثلث الثلاثة وربع الأربعة وغير ذلك، مثال للنسب اللازمة التي هي الصفات للحق.
قال رضي الله عنه : (وما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود. فالمعدود منه عدم ومنه وجود: فقد يعدم الشئ من حيث الحس وهو موجود من حيث العقل).
أي، العدد لكونه كما منفصلا وعرضا غير قائم بنفسه لا بد أن يقع في معدود ما، سواء كان ذلك المعدوم موجودا في الحس، أو معدوما فيه موجودا في العقل.
وظهور العدد بالمعدود مثال لظهور الأعيان الثابتة في العلم بالموجودات، وهي بعضها حسية وبعضها غيبية، كما أن بعض المعدود في الحس وبعضه في العقل.

قال رضي الله عنه : (فلا بد من عدد ومعدود، ولابد من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه).
.
يتبع الجزء الثاني
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:05 am

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية  الجزء الثاني
أي، إذا كان لا يظهر حكم العدد إلا بالمعدود، ولا يتبين مراتب الواحد إلا بالعدد، فلا بد من عدد ومعدود، ولما كان العدد ينشأ بتكرار الواحد، فلا بد من واحد ينشئ ذلك العدد.
فينشأ أي،يظهر الواحد في مراتبه ومقاماته المختلفة بسبب ظهور العدد، فالسبب هنا السبب القابلي. أو لا بد من واحد ينشئ العدد، فينشأ العدد بسبب ذلك الواحد،فالسبب السبب الفاعلي. والأول أنسب.
قال رضي الله عنه : (فإن كان كل مرتبة من العدد حقيقة واحدة كالتسعة، مثلا، والعشرة إلى أدنى وإلى أكثر إلى غير نهاية ما هي مجموع ولا ينفك عنها اسم جمع الآحاد، فإن الاثنين حقيقة واحدة والثلاثة حقيقة واحدة بالغا ما بلغت هذه المراتب).
وفي بعض النسخ: (فإن لكل مرتبة من العدد حقيقة).
والظاهر أنه تصرف ممن لا يعرف معناه ومقصوده، رضى الله عنه.
قال رضي الله عنه : (إن كل مرتبة حقيقة واحدة) أي، إن اعتبرنا في كل مرتبة ما به يمتاز العدد المعين فيها من غيرها، وهو ما به الاثنان اثنان والثلاثة ثلاثة مثلا، فما هي مجموع الآحاد فقط، بل ينضم إليها أمر آخر يميزها عن غيرها، ولا ينفك عنها اسم (جمع الآحاد)، لأنه كالجنس لها فلا بد منها. فإن الاثنين حقيقة واحدة ممتازة من الثلاثة، وهي أيضا كذلك حقيقة واحدة متميزة عن الأخرى،إلى ما لا نهاية له.
فقوله: (ما هي مجموع) جواب الشرط. والجملة الاسمية إذا وقعت جواب الشرط، يجوز حذف الفاء منه، عند الكوفيين، كقول الشاعر: (من يفعل الحسنات، الله يجزيها).
وإن لم نعتبر الأمور المتميزة بعضها عنبعض، نأخذ القدر المشترك بين الكل الذي هو جمع الآحاد، ونعتبره لا يبقى الامتياز بين كل منها، كما نعتبر الجنس الذي بين النوعين، كالإنسان والفرس، فنحكم عليهما بأنهما حيوان، فكذلك نحكم في الاثنين والثلاثة والأربعة بأنها مجموع من الآحاد، مع قطع النظر عما به يمتاز بعضه عن البعض الآخر.
وهو المراد بقوله: (وإن كانت واحدة، فما عين واحدة منهن عين ما بقى).
وهذا الشق يدل على ما ذهبنا إليه من أن الأصح. فإن كان كل مرتبة من العدد حقيقة.
أي، وإن كانت المراتب كلها واحدة في كونها جمع الآحاد أو مجموعها، فليس عين مرتبة واحدة من تلك المراتب عين ما بقى منها، لأن كل مرتبة منها حقيقة برأسها موصوفة بخواص لا توجد في غيرها. ويجوز أن يكون (ما) بمعنى (الذي).
أي، وإن كانت المراتب كلها واحدة بحسب رجوعها إلى حقيقة واحدة هي جمع الآحاد. فالذي عين واحدة، من مراتب الاثنين والثلاثة وغير ذلك، عين ما بقىفي كونه عبارة عن جمع الآحاد.
وهي أنسب بقوله: (فالجمع يأخذها فيقول بها منها ويحكم بها عليها).
أي، إذا كان لا ينفك عنها اسم جمع الآحاد، فجمع الآحاد الذي هو كالجنس لتلك المراتب يأخذها ويجمعها ويتناولها ويصدق عليها صدق الجنس على أنواعه، فيقول بتلك المراتب من تلك الحقيقة الجامعة إياها ويحكم بها عليها، أي، الجامع بين المراتب يحكم عليها بما يعطيه من الأحكام، كما يحكم الحق على الأعيان بما يعطيه من الأحوال.
قال رضي الله عنه : (وقد ظهر في هذا القول عشرون مرتبة، فقد دخلها التركيب).
أي، حصل في هذا القول، وهو إن كان كل مرتبة حقيقة، عشرون مرتبة: أولها،مرتبة الواحد المنشئ للعدد، ثم مرتبة الاثنين إلى التسعة فصار تسعة، ثم مرتبة العشرة والعشرون إلى تسعين وهي تسعة أخرى فصار ثمانية عشر، ثم مرتبة المائة والألف، وعلى الباقي يدخل التركيب. وضمير (دخلها) يرجع إلى المراتب العشرين.
قال رضي الله عنه : (فما تنفك تثبت عين ما هو منفى عندك لذاته).
أي، لا يزال تثبت في كل مرتبة من المراتب عين ما تنفيه في مرتبة أخرى، كما ذكر من أن الواحد ليس من العدد، باتفاق جمهور أهل الحساب، مع أنه عين العدد، إذ هو الذي بتكرره توجد الأعداد.
فيلزمه في كل مرتبة من مراتب العدد لوازم خصوصيات متعددة، وكذلك نقول لكل مرتبة إنها جمع الآحاد وتثبت أنها ليست غير مجموع الآحاد، مع أنه منفى عندك بأنها ليست مجموع الآحاد فقط.
قال رضي الله عنه : (ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين ثبتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وإن كان قد تميز الخلق من الخالق. فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق).
أي، ومن عرف أن العدد هو عبارة عن ظهور الواحد في مراتب متعددة، وليس من العدد بل هو مقومه ومظهره، والعدد أيضا في الحقيقة ليس غيره، وأن نفى العددية من الواحد عين إثباتها له لأن الأعداد ليست إلامجموع الآحاد مادة وصورة، علم أن الحق المنزه عن نقائص الإمكان، بل عن كمالات الأكوان، هو بعينه الخلق المشبه وإن كان قد تميز الخلق بإمكانه عن الخالق.
(فالأمر الخالق) أي، الشئ الذي هو الخالق هو المخلوق بعينه، لكن في مرتبة أخرى غير
المرتبة الخالقية. والأمر المخلوق وهو الخالق بعينه، لكن باعتبار ظهور الحق فيه.
واعلم، أن الاثنين، مثلا، ليس عبارة إلا عن ظهور الواحد مرتين مع الجمع بينهما، والظاهر، فرادى ومجموعا فيه، ليس إلا الواحد، فما به الاثنان اثنان ويغاير الواحد بذلك ليس إلا أمر متوهم لا حقيقة له، كذلك شأن الحق مع الخلق، فإنه هو الذي يظهر بصور البسائط، ثم بصور المركبات، فيظن المحجوب أنها مغائرة لحقائقها، وما يعلم أنها أمور متوهمة، ولا موجودة إلا هو.
قال رضي الله عنه : (كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحد، وهو العيون الكثيرة.)
أي، كل ذلك الوجود الخلقي صادر من الذات الواحدة الإلهية، ثم أضرب عنه، لأنه مشعر بالمغايرة.
فقال: بل ذلك الموجود الخلقي هو عين تلك العين الواحدة الظاهرة في مراتب متعددة.
وذلك العين الواحدة التي هي الوجود المطلق، وهو العيون الكثيرة باعتبار المظاهر المتكثرة، كما قال:
سبحان من أظهر ناسوته    ....... سر سنا لاهوته  الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا      ....... في صورة الآكل والشارب
(فانظر ما ذا ترى) أي، أنظر أيها السالك طريق الحق ما ذا ترى من
الوحدة والكثرة جمعا وفرادى، فإن كنت ترى الوحدة فقط، فأنت مع الحق وحده لارتفاع الإثنينية، وإن كنت ترى الكثرة فقط، فأنت مع الخلق وحده، وإن كنت ترى الوحدة في الكثرة محتجبة والكثرة في الوحدة مستهلكة، فقد جمعت بين الكمالين وفزت بمقام الحسنيين.
(قال يا أبت افعل ما تؤمر) ولما كانت نسبة السالك إلى الشيخ المكمل نسبة الولد إلى والده، نقل الكلام إلى حكاية إبراهيم، عليه السلام، مع ولده. وقول المريد للشيخ: (إفعل ما تؤمر) عبارة عن تسليمه بين يديه، وإشارة إلى أن فعله ليس من نفسه، بل من ربه، فإنه واسطة بين السالك وربه. (والولد عين أبيه)
بحكم اتحاد الحقيقة وفيضانه من جميع أجزاء وجوده وكونه بعضه، وإن كان غيره من حيث تعينه وتشخصه  (فما رأى يذبح سوى نفسه) وذبحه صورة إفنائه من إنانيته  (و (فداه بذبح عظيم)) (الذبح)، بكسر الذال، ما يذبح. وإنما وصفه بـ (عظيم) لأن الظاهر بتلك الصورة هو الذي له العظمة التامة.
ثم قال إظهارا لهذا السر: (فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة الإنسان).
أي، الظاهر بهذه الصورة الكبشية هو الذي ظهر بجميع الصور الإنسانية وغيرها، لأن الحقيقة الكلية إذا تعينت بتعين كلي، تصير نوعا من الأنواع، وعند تعينها بتعين جزئي، يصير شخصا من الأشخاص.
فالظاهر في تعين شخصي من نوع، هو بعينه ظاهر في نوع آخر وأفراده.
ألا ترى أن الحقيقة الحيوانية كما ظهرت في الصورة الإنسانية، كذلك ظهرت في الصورة الفرسية والغنمية وغيرها. فما فدا من نفسه بما هو أدنى منه، فإن الدنى لا يكون فداء للشريف.
قال رضي الله عنه : (فظهر بصورة ولد، لا بل بحكم ولد من هو عين الوالد).
أي، فظهر بصورة الولد من كان ظاهرا في صورة الوالد، وهو المتجلي الحقيقي في المظاهر كلها.
ثم أضرب إثباتا لحكم الولدية بقوله: (لا، بل ظهر بحكم ولد). أي،بصورة المرتبة الولدية وأحكامها، لأن صورة الولد والوالد بحكم اتحاد الحقيقة النوعية واحدة، والمغايرة في حكم الولدية والوالدية في الصورة الشخصية لا غير.
قال رضي الله عنه : ((وخلق منها زوجها) فما نكح سوى نفسه، فمنه الصاحبة والولد، والأمر واحد في العدد).
لما كان خلق حواء من عين آدم، عليه السلام، موافقا لما هو في تقريره، نقل الكلام إليه استشهادا لما ذكره، فإن آدم وحوا يجمعهما حقيقة واحدة، ويميزهما تعين كل منهما من الآخر. فبالاعتبار الأول، ما ظهر بصورة آدم هو الذي ظهر بصورة حواء، وهو المستشهد لقوله: (ظهر بصورة الولد... من هو عين الوالد).
لأنها أيضا ولد آدم وإن لم يسم بالولد. وقوله: (فما نكح سوى نفسه) استشهاد لقوله: (فما رأى يذبح سوى نفسه. فمنه الصاحبة والولد) بظهور حقيقته في صورتهما، وليس الأمر إلا واحد، كظهور الواحد في العدد.
قال رضي الله عنه : (فمن الطبيعة؟ ومن الظاهر منها؟ وما رأيناها نقصت بما ظهر منها، ولا زادت بعدم ما ظهر).
أي، إذا كان الأمر في نفسه واحدا، فمن الذي يسمى بالطبيعة سوى الوجود الحق؟
ومن الظاهر من الطبيعة سوى أفرادها من أعيان الموجودات؟
ولا ينقص منها شئ بالظهور، ولا يزيد بعدم الظهور كالإنسانية، إذا النقصان والزيادة من خواص الأجسام.
واعلم، أن (الطبيعة) عند أهل الحق يطلق على ملكوت الجسم. وهو القوة السارية في جميع الأجسام، عنصريا كان أو فلكيا بسيطا كان أو مركبا. وهي غير الصور النوعية التي للأجسام، لاشتراكها في الكل واختصاص الصور النوعية.
وهي للنفس الكلية كالآلة في إظهار الجسم وتدبيره، وفي الحيوان بمنزلة الروح الحيواني، إذ بها يتم الفعل والانفعال، فأفرادها كالآلات للنفوس المجردة الجزئية، كما أن كليها آلة لكليها.
فهي مظهر الاسم (الموجد) الذي هو من سدنة (الرب.)
قال رضي الله عنه : (وما الذي ظهر غيرها؟ وما هي عين ما ظهر لاختلاف الصور بالحكم عليها، فهذا بارد يابس وهذا حار يابس. فجمع باليبس، وأبان بغير ذلك).
(ما) في (ما الذي) للاستفهام.
والثاني بمعنى (ليس).
والثالث بمعنى (الذي). أي، ما الذي ظهر من الطبيعة غير الطبيعة؟
أي، هي التي ظهرت في صور مراتبها لا غيرها. وليست الطبيعة غير الذي ظهر، لأنها واحدة في الحكم والحقيقة، وماظهر منها مختلف بالصورة والحكم، فهذا بارد يابس وهذا حار يابس. فجمع الحق بينهما باليبس، تنبيها على الأصل الجامع، وأبان بالحرارة والبرودة، تنبيها على فرعيته.
قال رضي الله عنه : (والجامع الطبيعة، لا، بل العين الطبيعة.)
أي، والحال أن الجامع بينها، أي بين الصور، الطبيعة، لا بل العين الواحدة المعهودة، وهي التي ظهرت بصور هذه الموجودات كلها، هي عين الطبيعة.
قال رضي الله عنه : (فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة، لا بل صورة واحدة في مرآيا مختلفة.)
أي، عالم الطبيعة صور مختلفة حاصلة في مرأة الذات الإلهية من غير حصول التعدد والتكثر فيها.
ثم أضرب بقوله: (لا، بل صورة واحدة) وهي الذات الإلهية في مرايا مختلفة، وهي الأعيان
قال رضي الله عنه : (فما الوجه الا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعددا)
تنبيها بحكم المقامين: مقام الموحد، ومقام المحقق. وقد مر تحقيق المرآتين مرارا.
قال رضي الله عنه : (فما ثمة إلا حيرة لتفرق النظر)
أي، نظر العقل في الوجوه المتعددة المتضادة والمتناقضة وغيرها، فإنه لا يعرف أنه حقيقة واحدة ظهرت في صور مختلفة أو حقائق كثيرة.
قال رضي الله عنه : (ومن عرف ما قلناه، لم يحر). بفتح الحاء.
أي ومن عرف ما قررناه، من أن الحقيقة الواحدة هي الظاهرة في صور المراتب المتكثرة والمظاهر المختلفة، لم يقعفي الحيرة.
قال رضي الله عنه : (وإن كان في مزيد علم، فليس إلا من حكم المحل، والمحل هو عين العين الثابتة).
(إن) هاهنا يجوز أن يكون للمبالغة فلا يقتضى الجواب، ويجوز أن يكون شرطية.
وعلى الأول معناه: ومن عرف ما قلنا لم يحر، إن كان هذا العارف في مزيد العلم بالوجوه الإلهية، كما قال، صلى الله عليه وسلم: "رب زدني علما".
فليس عدم الحيرة هنا إلا من حكم المحل، وهو العين الثابتة التي لهذا العارف، كما أن الحيرة مقتضى عين الحائر.
وعلى الثاني فمعناه: وإن كان التحير حاصلا في مزيد علم، فليس ذلك التحير إلا من حكم المحل وهو عين الحائر.
قال رضي الله عنه : (فبها يتنوع الحق في المجلى فتتنوع الأحكام عليه، فتقبل كل حكم ولا يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه، وما ثمة إلا هذا).
أي، فبسبب الأعيان الثابتة التي للموجودات، أو فيها، يتنوع الحق في مجاليه وظهوراته، كما يتنوع ظهورات الوجه في المرايا المتعددة، فيتنوع أحكام العين الثابتة على الحق بحسب ما يطلب استعداداتها منه، فيقبل الحق كل حكم يعطيه العين الثابتة التي تجلى الحق فيها، كظهور الوجه في المرآة المستديرة مستديرا وفي المستطيلة مستطيلا.
وما في نفس الأمر إلا ما أشرت إليه لا غير.
شعر:
(فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا  ..... وليس خلقا بذاك الوجه فاذكروا)
أي، إذا كان الحق يتنوع في مجاليه ويقبل كل ما يحكم عليه الأعيان من الأحكام الكونية، فالحق خلق من حيث إنه ظهر في المظاهر الخلقية واختفى فيها،
فالمشهود، غيبا وشهادة، حق صرف لا غير معه.
قال رضي الله عنه : (فالحق المنزه هو الخلق المشبه.)
فقوله: (بهذا الوجه) إشارة إلى ما مر، من أن الحق هو الظاهر في مرايا الأعيان.
وقوله: (وليس خلقا بذاك الوجه فاذكروا) إشارة إلى أن الظاهر في مرآةالحق هي الأعيان الخلقية، فالحق ليس خلقا حينئذ، بل منزه من الصفات الخلقية ومختف بحجاب عزته، باق في غيبيته لا يشهد ولا يرى، وكل ما يشهد ويرى فهو خلق.
(من يدر ما قلت لم تخدل بصيرته   ..... وليس يدر به إلا من له البصر)
أي، من عرف ما أشرت إليه من الوجهين، لم يخذل بصيرته. على البناء للفاعل أو المفعول. وليس يدريه إلا من له البصر الحاد الذي لا يعجز عن
مشاهدة الحق في عالم الغيب والشهادة، كما قال تعالى في حق نبيه، صلى الله عليه وسلم: (فبصرك اليوم حديد).
و (البصيرة) عبارة عن عيني القلب اللتين يشهد بهما المشاهد الغيبية، شهودا معنويا أو مثاليا. قال، صلى الله عليه وسلم: "ما منعبد إلا ولقلبه عينان، هما غيب ينظر بهما الغيوب. فإذا أراد الله بعبد خيرا، فتحعيني قلبه ليرى بهما ما خفى عن بصره".
وقال: "تنام عيني ولا ينام قلبي."
(جمع وفرق فإن العين واحدة   ..... وهي الكثير لا تبقى ولا تذر)
أي، جمع بين الخلق والحق في مرتبة المعية، كما جمع الحق بقوله: (وهو معكم أينما كنتم).
بين هويته وعين العبد، وفي قوله: "كنت سمعه وبصره". - إذ الضمير راجع إلى العبد - وفرق بينهما بمشاهدة الحق وحده عند غلبة الوحدة عليك.
كما فرق بقوله: (قل الله ثم ذرهم). وبشهود الخلق وحده عن غلبة الكثرة عليك، كقوله تعالى: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة".
إذ العين في الحقيقة واحدة وهي الذات الإلهية، وهي الكثيرة أيضا بحسب مظاهرها وأسمائها وصفاتها.
وفاعل قوله: (لا تبقى ولا تذر) هو العين الواحدة.
أي، إذا تجلت هذه العين الواحدة، لا تبقى ولا تذر من الكثرة شيئا، بل تفنيها وتجعلها هباء منثورا.
قال رضي الله عنه : (فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به).
أي، يستغرق صاحبه بذلك الكمال. (جميع الأمور الوجودية). أي، الموجودات العينية.
(والنسب العدمية) أي، التي لا أعيان لها في الخارج.
قال رضي الله عنه : (بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا، أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا).
أي، العلى المطلق الذي علوه لذاته، هو الذي يكون كماله مستغرق الجميع الكمالات الوجودية والصفات الحقيقية والنسب الإضافية والسلبية، بحيث لا يمكن أن يفوته نعت من النعوت، سواء كانت تلك النعوت محمودة، بحسب العرف أو العقل أو الشرع، أو مذمومة فيها، لأن من فاته منها شيء لا يكون له العلو بحسب ذلك الفائت، وذلك المقدار من العلو يكون لمن هو متحقق به، فالعلي المطلق لا يكون عليا مطلقا.
و (الفوت) يعدى بـ (من) وبنفسه، كما يقال: فات منه الحزم وفاته الحزم.
وإنما عمم بقوله: (محمودة... أو مذمومة) لأن الوجود خير محض، والعدم شر محض. فكل أمر وجودي من حيث وجوده خير، ومن حيث العدمية التي تلحقه شر، فيصير مذموما كالزناء، مثلا، فإنه من حيث إنه كمال للقوة الشهوية خير، ومن حيث تأديه إلى انقطاع النسل ووقوع الفتن الموجب لعدم النظام الأصلح، شر.
فالخير للموجود ذاتي، والشر عارضي نسبيفكل مذموم، عقلا أو عرفا أوشرعا، محمود من جهة أخرى، ومن هذه الحيثية ملحق بالحق، لازم للوجود المطلق، فلا ينبغي أن يفوته شئ منها.
(وليس ذلك) أي، الكمال المستغرق لجميع الكمالات.
(إلا لمسمى الله خاصة). أي، للذات الأحدية الجامعة لجميع الأسماء والصفات.
(وأما غير مسمى الله خاصة مما هو مجلي له، أو صورة فيه، فإن كان مجلي له فيقع التفاضل  - لا بد من ذلك - بين مجلي ومجلى، وإن كان صورة فيه، فتلك الصورة عين الكمال الذاتي، لأنها عين ما ظهرت فيه). الشرطية خبر المبتدأ الذي دخل عليه (أما).
و (الفاء) الذي دخل عليها، جواب (أما). أي، وغير الذات الأحدية فما هو مجلي،
أي مظهرا لها من جملة المظاهر، فليس له ذلك الكمال المستوعب، بل له نصيب منه.
وبحسبه يقع التفاضل بين المجلى والمجلى، على قدر الحيطة وعدم الحيطة، فنصيبه من العلو لا يكون إلا كذلك.
وقوله: (أو صورة فيه) أي، اسم إلهي أو صفة ذاتية حاصلة في الذات الأحدية التي هي مسمى (الله). وإنما أطلق عليه (الصورة)، لأن الذات مختفية فيه اختفاء المعنى في الصورة، لذلك تعد الأسماء من جملة حجب الذات.
أو لكون الذات مع صفة من الصفات تظهر بالصورة الاسمية المسماة بـ (المهية) "الماهية"، وهي التي تظهر في المظاهر الشخصية.
وقوله من بعد: (ولا يقال هي هو، ولا هي غيره).
وما نقل عن (أبى القاسم) يدل على أن المراد بالصورة، هنا (الاسم). أو نقول، المراد بالمجلى هو الاسم، وبالصورة الصفة. لكن الأول أنسب.
والحاصل، أن غير مسمى الله إما مجالي ومظاهر، أو أسماء. فإن كان من
المجالي، فلا بد أن يقع بينهما التفاضل في مراتب العلو، وإن كان من الأسماء، فله ذلك الكمال الذاتي لاشتماله على الذات، أو لكون الاسم عين المسمى.
وإليه الإشارة بقوله: (لأنها عين ما ظهرت فيه).  أي، لأن تلك الصورة عين تلك الذات التي ظهرت فيها.
واعلم، أن هذا الكلام إنما هو باعتبار أن الاسم عين المسمى.
وأما باعتبار أنه غيره، فليس له ذلك الكمال المستوعب، بل نصيب منه، فيقع التفاضل في الأسماء كما يقع في المظاهر.
قال رضي الله عنه : (فالذي لمسمى الله هو الذي لتلك الصورة. ولا يقال، هي هو، ولا هي غيره).
أي، فالعلو الذي لمسمى الله هو العلو الذي لتلك الصورة، أي الاسم، وإن كان لا يقال، إن تلك الصورة هي مسمى الله، ولا يقال أيضا إنها غيره.
فكل من الأسماء الإلهية عليه لذاته.
قال رضي الله عنه :  (وقد أشار أبو القاسم بن قسى في خلعه) أي، في كتابه المسمى بـ (خلع النعلين).
وذكر في فتوحاته أنه فتح له على يدي خليل من أهل (أبله) وهو من كبار القوم.
"قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات المكية الجزء الرابع الباب اربعمائة وأربعة ما نصه : وعليك بالعدل في الحكم وأطفئ النار إذا فرغت من حاجتك إليها وعليك باستعمال الحبة السوداء وهو الشونيز فإنها شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت ولقد ابتلي عندنا رجل من أعيان الناس بالجذام وقال الأطباء بأجمعهم لما أبصروه وقد تمكنت العلة منه ما لهذا المرض دواء فرآه رجل من أهل الحديث من بنى عفير "من أهل أبلة" يقال له سعد السعود وكان عنده إيمان بالحديث عظيم يقطع به .
فقال له يا هذا لم لا تطب نفسك فقال له الرجل إن الأطباء قالوا ليس لهذه العلة دواء فقال كذبت الأطباء والنبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أصدق منهم وقد قال في الحبة السوداء إنها شفاء من كل داء
وهذا الداء الذي نزل بك من جملة ذلك ثم قال علي بالحبة السوداء والعسل فخلط هذا بهذا وطلي بهما بدنه كله ورأسه ووجهه إلى رجليه وألعقه من ذلك وتركه ساعة ثم إنه غسل ذلك عنه فانسلخ من جلده ونبت له جلد آخر ونبت ما كان قد سقط من شعره وبري ء وعاد إلى ما كان عليه في حال عافيته فتعجب الأطباء والناس من قوة إيمانه بحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وكان رحمه الله يستعمل الحبة السوداء في كل داء يصيبه حتى في الرمد إذا رمد عينه اكتحل بها فيبرأ من ساعته"أهـ.
(إلى هذا بقوله: إن كل اسم إلهي يتسمى بجميع الأسماء الإلهية وينعت بها . وذلك هناك أن كل اسم يدل على الذات وعلى المعنى الذي سيق له.) أي، وضع له الاسم.
(ويطلبه) أي، ذلك الاسم.
قال رضي الله عنه :  (فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء، ومن حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به، يتميز عن غيره، كالرب والخالق والمصور إلى غير ذلك).
قال رضي الله عنه :  (فالإسم عين المسمى من حيث الذات، والاسم غير المسمى من حيث مما يختص به من المعنى الذي سيق له) . ظاهر مما مر مرارا.
قال رضي الله عنه :  (فإذا علمت أن العلى ما ذكرناه) أي، الذي له العلو بذاته هو الذي لا يكون علوه بحسب المكان ولا بحسب المكانة بل بذاته. (علمت أنه) أي، أن علوه.
قال رضي الله عنه :  (ليس علو المكان ولا علو المكانة، فإن علو المكانة يختص بولاة الأمر، كالسلطان والحكام والوزراء والقضاء وكل ذي منصب عال، سواء كانت فيه أهلية ذلك المنصب) كالسلطان العادل والوزير العاقل والقاضي الغير الجاهل.
(أو لم تكن). كعكس ما ذكرناه. (والعلو بالصفات ليس كذلك) لأن العلى بعلو المكانة لا يبقى عليا عند زوالها عن ساعة، كانعزال السلطان والوزير والحاكم والقاضي عن مناصبهم.
لأن العلو في الحقيقة للمرتبة لا لهم. والعلي بالصفات الإلهية لا يزول ذلك العلو عنه، فما بالك بالعلو الذاتي الذي هو أعلى مرتبة من الكل.

وهذا تنبيه على أن العلو أربعة اقسام:
1 - أعلاها العلو الذاتي.
2 - ثم الصفات،
3 - ثم المرتبي. "المراتب"
4 - ثم المكاني.
والحق (على) بجميع الأقسام، جمعا وتفصيلا، وللإنسان نصيب منها.
ولما كان العلى بالعلو الصفاتي في بعض الصور تحت سلطنة من له العلو بالمنصب، كتحكم السلطان الجاهل والوزير الغير العاقل على من هو أعلم الناس وأعقلهم.
قال رضي الله عنه معللا: (فإنه قد يكون أعلم الناس يتحكم فيه من له منصب التحكم، وإن كان أجهل الناس.)
قال رضي الله عنه : (فهذا على بالمكانة، بحكم التبع، ما هو على في نفسه، فإذا عزل زالت رفعته، والعالم ليس كذلك).
أي، فهذا الجاهل على بعلو المكانة، بحكم التبعية، وليس عليا في نفسه وذاته، فإذا نزل ونزع منه ثياب المنصب، تزولرفعته، وتظهر فضيحته، والعالم ليس كذلك.
فإن العلم مما يبقى أبد الآبدين، ولا يزال صاحبه من العالمين. والحمد لله رب العالمين.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:06 am

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإبراهيمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية    الجزء ألأول

معنى يهيم : صاحبه مهيما. ومعنى الأول: فص معنى جعل صاحبه مهيما.
و الهيمان إنما يحصل من إفراط العشق، وهو من إفراط المحبة، وهي أصل الإيجاد وسببه، كما قال تعالى: "كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف" .
والهيمان - الدهشة المفرطة من شهود جلال الجمال والحيرة فيه، كما يحصل عند ورود المعشوق بغتة، أو من تجلى الأسماء الجلالية القهرية.
ونتيجته اندكاك جبل إنية السالك وقهر المجذوب صعقا. فبعض السالكين لفرط دهشتهم ومحبتهم، أو ضعفهم لعدم كمال استعدادهم، أو نقصان مزاجهم، لا يمكنهم الرجوع إلى مملكتهم، فيبقون مجذوبين مهيمين، لا يعرفون غير الله ولا يعرفهم غير الله لصدور البهلولية عنهم في بعض الأحيان.
قال تعالى: "أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري". يشمل بعضهم العناية الإلهية بإعطاء الاستعداد بالفيض الأقدس ويرجعهم إلى مملكتهم محفوظا عليهم ظواهرهم كالجبال وهم يمرون مر السحاب.
ولايحصل ذلك إلا بحب الفرائض، وعشق النوافل و التخلق بأخلاق الله والفناء الصفاتي، كما أشار إليه بقوله: "كنت سمعه وبصره" , فيصير العبد لله أذن الله الواعية وعين الله الناظرة، فالله تعالى ينظر به ويسمع به ويبطش به..
وإنما تحصل المحبة من التجليات الواردة من حضرة الجمال المطلق، والهيمان من جلالها على الملائكة المهيمة والمجذوبين من الأناسي، ولكل من الكمل المحبوبين أيضا نصيب منه، إما في بداية أمورهم كالجذبة قبل السلوك، أو عند انتهائها كالجذبة بعده، فتلحقون بها إلى المقصد الأسنى ويدخلون في حكم المهيمين.
ولما كان إبراهيم، صلوات الله وسلامه عليه، أول من تجلى له الحق
بهويته الذاتية السارية في المظاهر الكونية كلها، وأول من خلع الله عليه صفاته الثبوتية الحقيقية من أولاد آدم، عليه السلام، بعد الفناء فيه والبقاء به - كما وردفي الخبر الصحيح"أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم".
ليكون الآخر مطابق اللأول، ويحصل المجازاة له يوم الجزاء - وكان بعد مرتبة التنزيه والتقديس مرتبة التشبيه، وتجلى الذات الإلهية له في صور المظاهر موجبا للتشبيه، أورد هذه الحكمة عقبيهما، وقرن بينهما وبين كلمته، عليه السلام، لكونه مظهرا للعشق والخلة.
ومن شدة المحبة جعل يطلب في مظاهر الكواكب لظهور النورية فيها، ومن غلبة المحبة والهيمان قال: "لئن لم يهدني ربى لأكونن من الظالمين." أي، الحائرين في جمال الحق.
وعند كمال الهيمان فنى عن نفسه، وتجلى له الحق، فبقى بالحق في مقام الجمع والفرق، وأدركه في مظاهر سماوات الأرواح وأرض الأجسام والأشباح.
فقال: "إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض"
بتجليه الوجودي عليها وسريان ذاته فيها - (حنيفا مسلما) – فانيا عن الأفعال والصفات والذات في أفعاله وصفاته وذاته - (وما أنا من المشركين.) المثبتين للغير، لوجداني الذات الإلهية في صور جميع الأعيان بالكشف والعيان.
(إنما سمى الخليل خليلا، لتخلله وحصره جميع ما اتصفت به الذات الإلهية.
قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح منى  ..... وبه سمى الخليل خليلا 
أي، سمى الخليل خليلا لتخلله القلب والروح ، كما يسمى الخمر خمرا لتخميره العقل.
و (العقل) عقلا لتقييده وضبطه الأشياء.
وتخلله عبارة من سريانه في المظاهر الإلهية
والصفات الربوبية، كسريان هوية الحق فيها من حيث اسمه (اللطيف).
ولكون استعمال التخلل هنا مجازا، عطف على قوله: (وحصره جميع ما اتصفت به الذات الإلهية).
وهو الصفات الثبوتية الحقيقية الموجبة للتشبيه من الاسم (الظاهر) و(الباطن)، ليكون مثبتا للمراد.
والفرق بين خلته وخلة نبينا، صلوات عليهما- التي أثبتها لنفسه في آخر خطبة خطبها قبل وفاته بخمسة أيام وقال، بعد حمد الله والثناء عليه: "إنه قد كان لي فيكم إخوة وأصدقاء، وإني أبرء إلى الله أن اتخذ أحدا منكم خليلا . ولو كنت متخذا خليلا، لا تخذت أبا بكر خليلا. إن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا. أوتيت البارحة مفاتيح خزائن الأرض والسماء" .
وكان ذلك تعريفا منه بأكمل أحواله ومقاماته - أن خلة إبراهيم، عليه السلام، كانت مستفادة من حيث الباطن من الخلة المحمدية الثابتة لحقيقته أولا وآخرا، كنبوته، بل نبوة جميع الأنبياء وكمالاتهم أيضا كذلك.
ومن تحقق أن روحه، عليه السلام، أبو الأرواح جميعا، لا يستغرب أن يكون كماله أصل جميع الكمالات.  فخلته ذاتية كنبوته، وخلة غيره عرضية كنبوته.
كما مر من أنغيره لا يكون نبيا إلا عند الاتصاف بالوجود الشهادي، وهو نبي حال كونه في الغيب، لأن غيره ما دام في الغيب، محكوم بحكمه.
لذلك كان جميعهم تحتلوائه يوم القيامة، فإن الآخر مطابق للأول.
ولذلك قال حين التجاء الناس إليه وقالوا: اشفع لنا، فإنك خليل الله: (إنما كنت خليلا من وراء وراء). هذا من حيث المغايرة بينهما.
وأما من حيث أحدية عينهما وكون إبراهيم مظهرا منمظاهره الكلية، فالفرق بحسب المرتبة الكمالية الختمية، إذ كمال الخاتم للمقامأعلى وأرفع من كمال الغير الخاتم. والمراد ب (الروح) في البيت المستشهد، الروح الحيواني الساري في جميع أجزاء البدن، أي: سريت في ذاتي وقلبي.
كسريان الروح الحيواني في مسالكه.
فأورد رضى الله عنه  مثالين: أحدهما عقلي، كقول الشاعر، لأن التخلل
عشق المحبوب مسالك الروح من المحب العاشق، وسريانه في جوهر ذاته أمر عقلي.
والآخر حسي، كقوله(كما يتخلل اللون المتلون، فيكون العرض بحيث جوهره ما هو كالمكان والمتمكن).
أي، تخلل الخليل، عليه السلام، الذات الإلهية بالاختفاء فيها والاتصاف بصفاتها، كما يتخلل اللون المتلون بسريانه في جميع أجزاء المتلون بحيث يكون هو هو في الحس.
ولا يفرق بينهما بالإشارة الحسية، فيكون مكانه عين مكان المتلون، ولا يكون بينهما امتياز في الحس، كالمكان والمتمكن.
و (الباء) في قوله: (بحيث) بمعنى (في). أي، يكون العرض في مكان جوهره لسريانه في جميع أجزاء الجوهر الذي هو المعروض.
و (ما) بمعنى (ليس.)والضمير الذي بعده عائد إلى (التخلل).
أي، ليس ذلك التخلل كتخلل جسم في جسم، ليكون أحدهما مكان الآخر، فيكون نسبة المتخلل إلى ما وقع فيه التخلل كنسبة المكان والمتمكن، فيلزم كون الحق ظرفا للتخليل، وفي عكسه حلول الحق فيه. وكلاهما باطلان.
بل كتخلل اللون المتلون. وشبه المعقول بالمحسوس تفهيما للطالبين، إذ كل ما وقع في الشهادة دليل على ما هو واقع في الغيب.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولتخلل الحق وجود صورة إبراهيم، عليه السلام. وكل حكم يصح من ذلك).
عطف على قوله: (لتخلله وحصره). أي، سمى الخليل خليلا لتخلله، ولتخلل الحق بظهور الهوية وسريانها في وجود إبراهيم في الخارج وعينه في العلم. وفي كل حكم يصح من ذلك الوجود من الصفات والكمالات اللازمة لتعينه.
والمراد بـ (الصورة) عينه الخارجي. وإنما تعرض تخلل الحق في علة التسمية، لأن تخلله، عليه السلام، اثر تخلله تعالى شأنه، إذ كل ما يظهر للعبد من الأحوال والكمالات إنما هو من تجليه باسمه (الأول) و (الباطن) وإيجاده في القلوب.
فيكون التخلل من هذا الطرف في مقابلة التخلل من ذلك الطرف  ولكون علة التسمية ظاهرا تخلله، عليه السلام، قدمه في الذكر، ثم نبه بمبدأه.
والتخلل من إبراهيم، عليه السلام، نتيجة قرب النوافل، ومن الحق نتيجة قرب الفرائض.
وفي بعض النسخ: (أو لتخلل الحق). أي، سمى الخليل خليلا لتخلله وجود الحق. أو لتخلل الحق وجوده.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن لكل حكم موطنا يظهر به لا يتعداه) تعليل لظهور الحق في أحكام يتبع وجود إبراهيم من صفاته وأفعاله.
أي، الحق يتخلل وجود إبراهيم ويظهر فيه بالصفات الكونية، كالاستهزاء، والمكر، والتأذي، والسخرية، والضحك، وغير ذلك مما أخبر عن نفسه في قوله: "الله يستهزئ بهم" . "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين".، "إن الذين يؤذون الله ورسوله سخر الله منهم". 
وفي الحديث: (ضحك الله مما فعلتما البارحة). فإن لكل حكم وصفة مقاما وموطنا دنيا وآخرة، في المراتب الإلهية يظهر ذلك الحكم به، أي بسبب ذلك الموطن وقابليته للظهور فيه، ولا يتعدى ذلك الموطن. أو يظهر الحق بذلك الحكم في ذلك الموطن،ولا يتعدى عنه في ذلك الموطن. ويؤيد الثاني ما بعده، وإن كان الأول أسبق إلى الذهن.
ويجوز أن يكون (الباء) بمعنى (في). أي، يظهر ذلك الحكم والحق فيه،ولا يتعداه.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذم؟) استشهاد لتخلل الحق وجود العبد واتصافه بصفات الكون.
وذلك كقوله: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا"،.
"ولنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه".، "ومرضت فلم تعدني"وأمثال ذلك مما مر.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها؟) استشهاد لتخلل العبد وجود الحق واتصافه بصفاته.
(وكلها حق له). أي، و كالصفات الحق حق ثابت للمخلوق الذي هو الكامل بحكم "ولقد كرمنا بنى آدم".، "وإن الله خلق آدم على صورته".، "وعلم آدم الأسماء كلها".
أي، أعطاه الأسماء والصفات الإلهية، لأن حقيقته عبارة عن ظهور هوية الحق في صورة عينة الثابتة، فهي حق ثابت للمخلوق.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (كما هي صفات المحدثات حق للحق). أي، الصفات الإلهية كلها حق للعبد، كما أنصفات المحدثات حق للحق كلها حق للعبد، كما أنصفات المحدثات حق ثابت للحق تعالى، لأنها شؤونه المنبه عليها بقوله: "كل يوم في شأن."
وقوله: (هي) للقصة والشأن. أي القصة أن صفات المحدثات حق
للحق، كقوله: "قل هو الله أحد" أو يكون عائدا إلى (صفات المحدثات)المذكورة في قوله: (ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات؟)
وقوله: (صفات المحدثات) بيان وتفسير لما سبق، أي (كما هي) أعني (صفات المحدثات)، أو الصفات بدل الكل من الضمير.
(الحمد لله) فرجعت إليه عواقب الثناء من كل حامد ومحمود. وإليه يرجع الأمر كله).
فعم ما ذم وحمد، وما ثمة إلا محمود أو مذموم.
أي، قال تعالى(الحمد لله رب العالمين). وخص ماهية الحمد لله. ولا شك أن الخلق يحمد أيضا ويثنى بلسان الحق، كما يثنى على الأنبياء والمؤمنين، وبلسان بعضهم بعضا.
والحمد إنما يكون على صفات الكمال، وهي كلها لله في الحقيقة، فرجعت عواقب الصفات الكمالية الموجبة للثناء إلى الحق تعالى بعد إضافتها إلى الخلق واتصافهم بها.
سواء كان الحامد حقا أو خلقا، والمحمود حقا وخلقا، إذ هو الذي حمد نفسه تارة في مقامه الجمعي، وأخرى في مقامه التفصيلي.
ولما كان في الحقيقة يسمى خلقا عدما، لا وجود له، والموجود هو الحق لا غيره، عمم الحكم وأكد بـ (الكل)، وقال: (وإليه يرجع الأمر كله).، أي، سواء كان محمودا أو مذموما.
والسر فيه أن ما في الوجود خير كله، وكونه مذموما ليس إلا بالنسبة إلى بعض الأشياء. ألا ترى أن الشهوة من حيث إنها
ظل المحبة الذاتية السارية في الوجود محمودة، وعدمها، وهو العنة، مذمومة، ومن حيث إنها سبب بناء النوع وموجبة للذة التي هي نوع من التجليات الجمالية أيضا محمودة، وعند وقوعها على غير موجب الشرع مذمومة، لكونها سببا لانقطاع النسل وموجبا للفتن العائدة إلى العدم؟ وهكذا جميع صور المذام.
فالكل منه وإليه من حيث الكمال. والاستدلال بالآيات وأمثالها أنما هو تأنيس للمحجوبين وعقولهم الضعيفة، وإلا أهل الكشف يشاهدون الأمر في نفسه كذلك.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم، أنه ما تخلل شئ شيئا إلا كان محمولا فيه). لأن المتخلل هو الذي ينفذ في الشئ ويدخل في جوهره، فالداخل محمول ومستور فيه، والمدخول فيه حامل له وظاهره.
فالمتخلل - اسم فاعل - محجوب بالمتخلل - اسم مفعول. فاسم المفعول هو الظاهر.
واسم الفاعل هو الباطن المستور. وهو غذاء له، كالماء يتخلل الصوفة، فتربو به وتتسع.
فإن كان الحق هو الظاهر، فالخلق مستور فيه، فيكون الخلق جميع أسماء الحق سمعه وبصره، وجميع نسبه وإدراكاته. وإن كان الخلق هو الظاهر، فالحق مستور باطن فيه،
فالحق سمع الخلق وبصره ويده ورجله وجميع قواه كما ورد في الخبر الصحيح.
لما بنى تقريره على التخلل، رجع أيضا إليه فقال: (ما تخلل شئ شيئا) أي، ما دخل شئ في شئ إلا كان الداخل مستورا في المدخول فيه.
فالمتخلل الذي هو اسم الفاعل، أي الداخل، محجوب مستور في المتخلل الذي هو اسم المفعول، أي المدخول فيه، في المدخول فيه هو الظاهر، والداخل هو الباطن، والظاهر إنما يغتذي بالباطن، لأن الفيض لا يحصل إلا منه، فالباطن غذاء الظاهر، إذ به قوامه ووجوده.
وأورد الشيخ رضي الله عنه  المثال المحسوس لزيادة الإيضاح. وإذا كان الأمر هكذا، ولا يخلو إما أن يكون الحق ظاهرا والخلق باطنا، أو بالعكس.
فإن كان الحق ظاهرا، أي، محسوسا بتجليه في مرتبة من مراتب الاسم (الظاهر)،فالخلق مستور فيه وباطنه، فيكون الخلق جميع أسماء الحق وصفاته من السمع والبصر والإرادة وغيرها، وجميع النسب التي هي ملحقة بالحق شرعا. كما مر منأن الحق إذا كان متجليا في مرايا الأعيان، لا يكون الظاهر إلا هو، والأعيان باقية في الغيب على حالها.
وإن كان الخلق هو الظاهر في مرآة الحق، فالحق مستور فيه وباطنه، فالحق سمع الخلق وبصره وجميع قواه الباطنة.
وهذا نتيجة قرب النوافل، والأول نتيجة قرب الفرائض. وإنما جاء بـ (اليد) و (الرجل)الذين هما من الظاهر مع أن كلامه في الباطن، لورود الخبر الصحيح كذلك. وفي الحديث تنبيه على أن الحق عين باطن العبد وعين ظاهره، لما جاء بالسمع والبصر، وهما أسماء القوى، وباليد والرجل، وهما أسماء الجوارح، فالحق عين قوى العبد وجوارحه.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثم، إن الذات لو تعرت عن هذه النسب لم تكن إلها) واعلم، أن (الإله) اسم الذات من حيث هي هي. مع قطع النظر عن الأسماء والصفات باعتبار،واسم الذات مع جميع الأسماء والصفات باعتبار آخر. والمراد هنا الاعتبار الثاني.
و(الإلهية) اسم مرتبة حضرة الأسماء والصفات التي هي النسب المتكثرة باعتبارات ووجوه تحصل للذات بالنظر إلى الأعيان الثابتة المتكثرة الثابتة في أنفسها واستعداداتها، لأن المرتبة كما يستدعى من يقوم به. كذلك يستدعى من يجرى عليه أحكامها، كالسلطنة والقضاء.
فلو لم تعتبر هذه النسب، لم يبق إلا الذات الإلهية التي لا يشار إليها بوجه من الوجوه، ولا يوصف بنعت من النعوت، وهو مقام الهوية الأحدية التي تستهلك النسب كلها فيه.
فيكون الحق تعالى إلها، أي في مرتبة حضرة الأسماء والنسب الإلهية باعتبار أعياننا، كما أن السلطان سلطان بالنسبة إلى الرعية، والقاضي قاض بالنظر إلى أهل المدينة.
فتلحق هذه النسب إليه تعالى بناء، كما تلحق النسب للواحد بالنظر إلى الأعداد: وهي كونه نصف الاثنين وثلث الثلاثة وربع الأربعة، وكالخواص الحاصلة للواحد بواسطة لزومها المراتب العددية.
ولو قطعنا النظر عن هذه المراتب، لم يلحق للواحد تلك النسب، ولم يحصل له تلك الخواص.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهذه النسب أحدثتها أعياننا). أي، هذه الصفات إنما ظهرت بأعياننا،إذ لو لم تكن، لما كان يظهر (الخالق) و (الرازق) و (القادر)، ولا (السميع) و (البصير)، وغير ذلك من الأسماء والصفات الإضافية.
وليس المراد بـ (الإحداث) الجعل والإيجاد، لأنا مجعولون وموجودون بها فبجعل الحق وإيجاده إيانا تظهر تلك الصفات.
(فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها). المراد بـ (المألوهية) عند هذه الطائفة، مرتبة العبودية، وبـ (المألوه) العبد، لا المعبود، لا كما يقول المفسرون من أن (الإله) بمعنى (المألوه)، وهو المعبود، كالكتاب بمعنى المكتوب.
ومعناه: نحن أظهرنا بعبوديتنا معبوديته، وبأعياننا إلهيته، إذ لو لم يوجد موجود قط، ما كان يظهر أنه تعالى (إله).
بل العلة الغائية من إيجادنا ظهور إلهيته، كما نطق به: (كنت كنزا مخفيا...).
فـ (الجعل) ليس على معناه الحقيقي، بل على معناه المجازى. وهذا ليس بلسان أهل الصحو. وفيه نوع من الشطح لما فيه من الرعونة الغير اللائقة للمتأدبين بين يدي الرحمن.
ونظيره كما يقول لسان الرعية والمريد والتلميذ: إن السلطان بوجودي صار سلطانا، وبإرادتي وقرائتي عليه صار الشيخ شيخا والأستاذ أستاذا.
وفيه أقول:
ألا جابري رفقا علي فإنني   ..... أكاشف عما فيكم من سرائري
فيظهر بالقلب المعنى جمالكم    .... كما ظهرت ليلى بقيس بن عامري
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلا يعرف حتى نعرف. قال، عليه السلام: (من عرف نفسه، فقد عرف ربه.) وهو أعلم الخلق بالله).
أي فلا يعرف الحق من حيث إنه (إله) حتى نعرف، لتوقف تعقل هذه الحيثية التي هي النسبة إلى تعقل المنتسبين، كما قال،عليه السلام صلى الله عليه وسلم : "من عرف نفسه، فقد عرف ربه". أي، أوقف معرفة الرب على معرفة النفس التي هي المربوب.
فإن الرب، من حيث هو رب، يقتضى المربوب، وهو، أي النبي، صلى الله عليه وسلم، أعرف الخلق بالله.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن بعض الحكماء وأبا حامد ادعوا أنه يعرف الله من غير نظر في العالم وهذا غلط.)
الضمير في (أنه) للشأن. و (يعرف) على البناء للمفعول. والمراد بـ (بعض الحكماء) أبو على وأتباعه. "" مراده من بعض الحكماء هو الشيوخ الفلاسفة، كالرئيس، ابن سينا. والشيخ أثبت الحق ببرهان سماه برهان الصديقين وأن ذكر هذا البرهان في الإشارات لإثبات الواجب. وأخذ منه أبو حامد الغزالي ، كما أخذ جميع عقائده في الكلام عن الحكماء، وفهم أن عقائد الحكماء ومطالبهم في المبدأ والمعاد أتم من آراء أرباب الكلام.""
أي الإمام الغزالي وأبوعلى ومن تابعهما ادعوا أن الله يعرف من غير نظر إلى العالم.
وأنهم يستدلون بالمؤثر على الأثر، وهو أعلى مرتبة من الاستدلال بالأثر على المؤثر.
وحاصل استدلالاتهم ترجع بأن الوجود الممكن لإمكانه يحتاج إلى علة موجودة غير ممكنة، وهو الحق الواجب وجوده لذاته.
وهذا أيضا استدلال من الأثرإلى المؤثر، فلا يتم دعواهم. فلذلك نسبهم إلى الغلط، أو لعدم إمكان تعقل النسبة بدون المنتسبين
قال الشيخ رضي الله عنه :  (نعم، تعرف ذات قديمة أزلية لا تعرف أنها إله حتى يعرف المألوه، فهو الدليل عليه).
أي، إذا أمعن النظر صاحب الفطانة والذهن المستقيم في نفس الوجود،يمكن أن يعرف أن ذاته قديمة أزلية واجبة، هي لها بذاتها لا بحسب الاستدلال،بل بوجدان الأمر على ما هو عليه على سبيل الذوق. ثم يتمكن من التنبيه لغيره أيضا، ليجد هو أيضا كذلك.
كما بينا في فصل الوجود في أول الكتاب.
أما المعرفة بأنها إله صاحب أسماء وصفات، فلا يمكن حتى ينظر إلى العالم، فيستدل
بالعبودية على المعبودية، وبالمربوبية على الربوبية. فـ (العالم) هو الدليل على الإله من حيث إنه إله، لذلك قيل إنه مأخوذ من (العلامة) وهي الدليل.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثم، بعد هذا في ثاني الحال، يعطيك الكشف أن الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيته) هذا كشف مقام الجمع.
أي، بعد معرفة الإله بالمألوه، ومعرفة الذات القديمة الأزلية صاحب المرتبة الإلهية والتوجه إليه توجها تاما، تنفتح عين بصيرتك.
فيكشف لك أن الحق هو الدليل على نفسه بتجليه الذاتي الإفاضة أعيننا بالفيض الأقدس. وهو الدليل على ألوهيته بالتجلي الأسمائي والصفاتي لحقائقنا، لا غيره المسمى بـ (العالم).
وبهذا المعنى قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين سئل: (بم عرفت الله تعالى؟)
قال: (بالله عرفت الأشياء.)
فإن السؤال كان عن الذات الإلهية، أي بم عرفت ذات الحق.
فأجاب: بالحق عرفت الأشياء، وبنوره، لا عن المرتبة، فإن العلم بالمرتبة الإلهية لا يكون إلابعد العلم والمعرفة بالذات، وأين المحجوب من هذه المعرفة؟
"" يقول الإمام علي بن أبي طالب : " إذا تم العقل نقص الكلام ".
ويقول : " كل عقل لم يحط بالدين فليس بعقل ، وكل دين لم يحط بالعقل فليس بدين " .
" قيل للنوري : بما عرفت الله ؟
فقال بالله .
فقيل فما بال العقل ؟
قال : العقل عاجز لا يدل إلا على عاجز مثله.
يقول الشيخ إبن مرزوق : " قال بعضهم : سألت ألف شيخ عن أربع مسائل فلم أر منهم شفاء لمرادي ، فرأيت النبي في المنام ، فقلت : يا رسول الله … ما العقل ؟
فقال : أدناه ترك الدنيا وأعلاه ترك التفكر في ذات الله. ""
ومن لسان هذين المعنيين قيل:
فلولاكم ما عرفنا الهوى     ..... ولو لا الهوى ما عرفناكم
وسر أن الشيخ أورد هذه المباحث في هذا الفص، كون إبراهيم، صلوات الله عليه، طالبا للحق، مستدلا عليه بالمظاهر الكوكبية، فإنه، عليه السلام، عرف أولا أن له ربا خلقه، ثم غلب عليه العشق، فطلبه إلى أنهداه الله وتجلى له.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأن العالم ليس إلا تجليه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه).
أي، يعطيك الكشف أيضا أن وجود العالم ليس إلا التجلي الوجودي الحقاني الظاهر في مرايا صور الأعيان الثابتة التي يستحيل وجود تلك الأعيان في الخارج بدون ذلك التجلي الوجودي، فالعالم من حيث الوجود عين الحق الظاهر في مرايا الأعيان لا غيره.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأنه يتنوع ويتصور) - بفتح الياء، على البناء للفاعل - (بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها).
أي، يعطيك الكشف أن الحق هو الذي ظهر في صور العالم وتنوع بحسب أنواع الأعيان وتصور بصور هذه الحقائق وأحوالها. فالأعيان باقية على عدمها، والمشهود هو الوجود الحق لا غير.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهذا بعد العلم به منا أنه إله لنا). أي، وهذا الكشف والشهود بعد العلم بالحق وذاته بأنه إله لنا بحسب أسمائه وصفاته، إذ لو لم نعلم أن لنا إلها وله تعالى أسماء وصفات يقتضى أعيانا ثابتة يكون محل سلطانها ومجلى ظهوراتها، ما كنا نعلم أن المتجلي في مرايا هذه الصور هو الحق، ولا يحصل لنا الكشف، ولا للمرتبة الإلهية الظهور أصلا.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم، يأتي الكشف الآخر، فيظهر لك صورنا فيه) أي في الحق. (فيظهر بعضنا لبعض في الحق، فتعرف بعضنا بعضا، ويتميز بعضنا عن بعض.)هذا الكشف هو كشف مقام الفرق بعد الجمع، ويسمى جمع الجمع باعتبار أنه يجمع الجمع مع الفرق، وهو ظهور صور الأعيان في مرآة الحق  وبهذا الاعتبار يكون المشهود هو الخلق والحق في عزه الأحمى وغيبه الذي كنى عنه نبينا، صلى الله عليه وسلم، بـ (العماء)
وإن كان وجوده مرآة يظهر فيها العالم، وعند هذا الظهور يظهر بعضنا لبعض في حضرة علم الحق، فيقع التعارف
بين الأعيان في هذه الحضرة بحكم المناسبة، ويظهر التناكر بحسب عدم المناسبة.
وما وقع من التناكر والتعارف في عالم الأرواح - كما نبه عليه، صلى الله عليه وسلم، بقوله: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"- مظهر ونتيجة لذلك التعارف والتناكر الواقعين في الحضرة العلمية.
وإنما قال(فيظهر بعضنا لبعض في الحق فنعرف بعضنا بعضا.)
لأن الأعيان حال ثبوتها في غيب الحق، دون وجودها العلمي والعيني، غير متميزة بعضها عن بعض، مستهلك كلها تحت قهر الأحدية الذاتية، كالأسماء
والصفات، إذ لا وجود لشئ فيها أصلا، سواء كان اسما أو صفة أو عينا ثابتة أو غير ذلك، كما قالصلى الله عليه وسلم عليه السلام: (كان الله ولا شئ معه). منبها عن هذه المرتبة.
واعتبر في مقام روحك حال حقائقك وعلومك الكلية، هل تجد ممتازا بعضها عن بعض؟
أو عن عين روحك إلى أن تنزل إلى مقام قلبك، فيتميز كل كلي عن غيره، ثم يتفصل كل منها إلى جزئياته فيه، ثم يظهر في مقام الخيال مصورا كالمحسوس، ثم يظهر في الحس.
فإن وجدت في نفسك ما نبهت عليه، هديت وعلمت الأمر
فيمن أنت خلقت على صورته. وإن لم تجد ما في نفسك على ما هي عليه، لايمكنك الاطلاع على الحقائق الإلهية وأحوالها. و (كل ميسر لما خلق له.) والامتياز العلمي أيضا إنما هو في المقام القلبي لا الروحي.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فمنا من يعرف أن في الحق وقعت هذه المعرفة لنا بنا، ومنا من يجهل الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة بنا – "أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين".)
أي، فمنا من يعرف أن في مرآة ذات الحق وحضرة علمه وقعت هذه المعرفة لنا، أي معرفة بعضنا بعضا بنا، أي بإعطاء أعياننا ذلك العرفان بحكم المناسبة الواقعة بينها. ومنا من يجهل تلك الحضرة والتعارف الواقع بين الأعيان، بسبب الغواشي الناتجة من النشأة العنصرية والأطوار التي يظهر فيها العين الإنسانية إلى حين وصولها إلىهذه الصورة الألفية،
كما قال:
(وأظنها نسيت عهودا بالحمى  .... ومنازلا بفراقها لم يقنع)
ولما كان الأول حال أهل الكمال المحبوبين المعنى بهم الذين لا يحجبهم جلال الحق عن جماله، كالمحجوبين بالخلق عن الحق، ولا جماله عن جلاله،
كالمحجوبين بالحق عن الخلق، وهم المهيمون الباقون في الجمع المطلق، والثاني حال المحجوبين المطرودين الذين لا يبالي بهم.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ("أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين".) (وبالكشفين معا ما يحكم علينا إلا بنا).
أي الكشف الأول يعطى أن الموجود هو الحق لا غير، وهو الظاهر في مرايا الأعيان والخلق في العدم،والكشف الثاني يعطى أن الموجود هو الخلق الظاهر في مرآة وجود الحق والحق في غيبه. والكشف الجامع بينهما معا - وهو مقام الكمال المحمدي، صلى الله عليه وسلم، شهود الحق في عين الخلق والخلق في عين الحق جمعا من غير احتجاب بأحدهما عن الآخر - يعطى أن ما يحكم الحق علينا بحكم من الأحكام إلا بسبب اقتضاء أعيننا ذلك الحكم.
(لا، بل نحن نحكم علينا بنا ولكن فيه). أضرب عن قوله: (ما يحكم علينا الحق إلا بنا) تأكيدا لما ذكره، فقال: لا، بل أعياننا يحكم علينا باستعداداتنا.
فإن كل عين من الأعيان يطلب من الحق بلسان استعدادها أن يوجدها ويحكم عليها بحسب قابليتها، فهي الحاكمة على الحق أن يحكم عليها بمقتضاها.
(ولكن فيه). أي، في علم الحق. (ولذلك قال تعالى: "فلله الحجة البالغة" يعنى على المحجوبين) الذين لم يكشف لهم حقيقة الأمر على ما هو عليه.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (إذ قالوا للحق: لم فعلت بنا كذا وكذا؟ مما لا يوافق أغراضهم. فيكشف).
أي الحق (لهم عن ساق). أي، من شدة الأمر يوم القيامة، أو عن أصل الأمر وحقيقته، إذ(ساق) الشئ ما يقوم به الشئ، وهو أصله المقوم إياه.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهو الأمر الذي كشفه العارفون هنا). أي، في الدنيا. (فيرون أن الحق ما فعل بهم ما ادعوه) أي حال الحجاب.
(أنه فعله، وأن ذلك منهم، فإنه ما علمهم إلا على ما هم عليه).
أي، من أعيانهم لا غير، فما فعل بهم ما فعل إلا أنفسهم، كما قال تعالى: "وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون".
ولهذا السر قال إبراهيم، صلوات الله عليه: "بل فعله كبيرهم".
حين قالوا له: "ءأنت فعلت هذه بآلهتنا يا إبراهيم".
فقوله عليه السلام، حق في نفس الأمر، لأن الأصنام بلسان حالهم استدعوا من باطنه، عليه السلام، إهلاكهم، لعلمهم بمقام عبوديتهم وضلال عابديهم.
وإنما نسب إلى نفسه الكذب - كما جاء في الحديث- لأن الفعل ما صدر من ذلك الصنم ظاهرا، بل ظهر من نفسه، والأنبياء مأمورون بالظواهر، كما قال، عليه السلام: (نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر.)(فتدحض حجتهم).
أي، تبطل حجة المحجوبين. (وتبقى الحجة لله تعالى البالغة). أي، تبقى الحجة البالغة لله تعالى عليهم.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن قلت: فما فائدة قوله: "فلو شاء لهديكم أجمعين").
قلنا: (لو) حرف امتناع لامتناع، فما شاء إلا ما هو الأمر عليه، ولكن عين الممكن قابل للشئ ونقيضه في حكم دليل العقل، وأي الحكمين المعقولين وقع، فذلك هو الذي عليه الممكن في
حال ثبوته , إنما أورد السؤال للتنبيه على سر القدر في الجواب.
والسؤال أنه: لما كان الحاكم علينا أعياننا، وليس للحق إلا إفاضة الوجود على حسب مقتضى الأعيان، فما فائدة قوله: (فلو شاء لهديكم أجمعين).
وجوابه: أن (لو) حرف لامتناع الشئ لامتناع غيره.
ولما كانت الأعيان متفاوتة الاستعداد: بعضها قابلة للهداية وبعضها غير قابلة لها، امتنع حصول الهداية للجميع.
فمعنى قوله تعالى: "فلو شاء لهديكم أجمعين".

أنه لم يشأ، لعلمه بامتناع حصول الهداية للجميع. فما تعلقت المشيئة إلا بما هو الأمر عليه، فعدم المشيئة معلل بعدم إعطاء أعيانهم هداية الجميع.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:07 am

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإبراهيمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية    الجزء ألثاني

 وذلك لأن المشيئة والإرادة نسبتان تابعتان للعلم، إذ المشيئة تطلب المشاء، والإرادة المراد، وهمالا بد وأن يكونا معلومتين.
والعلم في حضرة الأسماء والصفات من وجه تابع للمعلوم، من حيث كونه نسبة طالبة للمنتسبين، كما مر تحقيقه في المقدمات.
وما يوجد الحق إلا بحسب استعداد القوابل لا غير. فلا يقع في الوجود إلا ما أعطته الأعيان، والعين ما تعطى إلا بمقتضى ذاتها، ولا يقتضى الذات شيئا ونقيضه، وإن كان العقل يحكم على أن الممكن قابل للشئ ونقيضه لاتصافه بالإمكان المقتضى لتساوي الطرفين: طرفي الوجود والعدم.
لكن الواقف على سر القدر يعلم أن الواقع هو الذي يقتضيه ذات الشئ فقط.
والأعيان ليست مجعولة بجعل جاعل، ليتوجه الإيراد بأن يقال: لم جعل عين المهتدى مقتضية للاهتداء وعين الضال مقتضية للضلالة؟
كمالا يتوجه أن يقال: لم جعل عين الكلب نجس العين وعين الإنسان إنسانا طاهرا؟
بل الأعيان صور الأسماء الإلهية ومظاهرها في العلم، بل عين الأسماء والصفات القائمة بالذات القديمة. بل هي عين الذات من حيث الحقيقة.
فهي باقية أزلا وأبدا، ولا يتعلق الجعل والإيجاد عليها، كما لا يتطرق الفناء والعدم إليها.
وهذا غاية المخلص من هذه المضائق. والله أعلم بالأسرار والحقائق.
وفي قوله: (ولكن عين الممكن)... إشارة إلى كون العقل محجوبا عاجزا عن إدراك حقيقة الشئ على ما هو عليه في نفسه.
وليس حكمه بكون الممكن قابلا للشئ ونقيضه إلا كحكم الأعمى على من حضر عنده.
وهو ساكت – هذا إما زيد أو ليس بزيد. فإنه وإن كان بحسب الإمكان صحيحا، لكنه في نفس الأمر أحدهما حق وصاحب الشهود يعلم ما هو الحق.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومعنى (لهداكم) لبين لكم. وما كل ممكن من العالم فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو عليه، فمنهم العالم والجاهل).
هذا كجواب آخر للسؤال. وتقريرة: ليس المراد من الهداية هنا الإيمان بالرسل، كما سبق على الذهن، ليرد السؤال.
بل معناه: لو شاء، لبين لكم حقيقة الأمر بالكشف ورفع الحجاب عن عيون قلوبكم، لتذكروا الأمر على ما هو عليه، فتعلموا أن أعيان بعضكم اقتضت الإيمان، وأعيان بعض الآخر اقتضت الكفر، فتكون الحجة لله عليكم.
ولكن ليس كل واحد من أهل العالم بحيث يمكن أن ينفتح عين قلبه ليدرك الأمر في نفسه، لأن منهم عالم ومنهم جاهل بحكم اقتضاء الأعيان ذلك.
وإنما قال: (فتح الله عين بصيرته) وأسند (الفتح) إلى (الله) لأنه تعالى يفتح عين بصيرة شخص باقتضاء عين ذلك الشخص الفتح، كما يغطى على الآخر باقتضاء عينه الغطاء.
وفي تفسير قوله: (لهداكم) بقوله: (لبين لكم) تنبيه على أن الهداية الحقيقية هو حصول العلم اليقيني بما هو الأمر عليه في ذاته
(فما شاء، فما هداهم أجمعين، ولا يشاء) أي، فما شاء هداية الكل لعدم إعطاء بعض الأعيان الهداية، فما هداهم. ولا يشاء هداية الجميع أبدا.
فإن شؤون الحق كما تقتضي الهداية، كذلك تقتضي الضلالة، بل نصف شؤونه يترتب على الضلالة، كما يترتب النصف الآخر على الهداية ولذلك قسم الدار
الآخرة بالجنة والنار،  وخلق آدم بيديه: وهما الصفات الجمالية التي مظاهرها في الآخرة هي الجنة، والجلالية التي مظهرها فيها النار. فطابق الآخر الأول.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وكذلك إن يشأ، فهل يشاء؟ فهذا ما لا يكون)). أي، كما قلنا في (لو شاء) كذلك، نقول في (إن يشأ) الذي يتعلق بزمان الاستقبال.
وقوله: (فهل يشاء؟)استفهام. كأن السائل يسأل بأن الحق يمكن أن يشاء هداية الجميع. فأجاب عنه بأن هذا لا يمكن أن يكون. فإن العليم الحكيم الذي يفعل كل شئ يستحيل أن يشاء وقوع ما لم يمكن وقوعه.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فمشيئته أحدية التعلق. وهي نسبة تابعة للعلم، والعلم نسبة تابعة للمعلوم، والمعلوم أنت وأحوالك، فليس للعلم أثر في المعلوم، بل للمعلوم أثر في العالم،فيعطيه من نفسه ما هو عليه في عينه).
أي، للحق مشيئة واحدة عامة يتجلى بها،فيأخذ كل عين نصيبها منها بحسبها، فيظهر بمقتضاها، هداية كان أو ضلالة.
كما قال: "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر"وإذا كان الواقع في الوجود أحد النقيضين باقتضاء العين ذلك، فمشيئته أيضا أحدية التعلق، لأنها نسبة تابعة للعلم.
إذ ما لا يعلم بوجه من الوجوه، لا يمكن تعلق الإرادة والمشيئة به.
والعلم نسبة للمعلوم من حيث تغايرهما وامتياز كل منهما عن غيره، والمعلوم الأعيان الثابتة وأحوالها، وهي لا يقتضى إلا وجود أحد الطرفين من النقيضين، فالمشيئة أيضا لا يتعلق إلا به.
قوله: (فليس للعلم أثر) نتيجة لقوله: (والعلم نسبة تابعة للمعلوم).
و أثر المعلوم في العالم اقتضاؤه وطلبه من (العالم القادر) على إيجاده : إيجاده على ما هو عليه. 
وقد مر، في المقدمات، من أن العلم من أي جهة تابعة، ومن أيها متبوعة مؤثرة في إفاضة الأعيان.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإنما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون وما أعطاه النظر العقلي ما ورد الخطاب على ما يعطيه الكشف. ولذلك كثر المؤمنون وقل العارفون وأصحاب الكشوف).
أي لما كان أكثر الأشخاص الإنسانية عقلاء وأصحاب النظر الفكري، ما ورد الخطاب الإلهي إلا بحسب ما تواطأوا، أي توافقوا عليه،وهو العقل ومقتضاه.
ولم يرد على ما يعطيه الكشف، لعدم وفاء الاستعدادات بذلك ولقلة العارفين أصحاب الكشوف الواقفين على سر القدر.
ولو ورد الخطاب الإلهي بحسب إدراك المخاطبين وعقولهم، كثر المؤمنون وقل العارفون، لأنطور المعرفة فوق طور الإدراك العقلي، وهو الكشف عن حقائق الأمور على ماهي عليه.
"وما منا إلا له مقام معلوم" أي مرتبة معلومة معينة في علم الله، لا يتعداها ولا يتجاوز عنها  فمن كان مقامه في العلم ومقتضى عينه أن يكون وافقا على مقتضى عقله أو وهمه، لا يزال يكون تحت حكم التدبير.
ومن كان مقامه أن يكون مطلعا على أحوال الوجود واقفا على سر القدر مكاشفا له، يكون منقاد الحكم التقدير، فلا يعترض بالباطن على أحد من خلق الله، وإن كان يأمر وينهى في الظاهر.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهو ما كنت به في ثبوتك، ظهرت به في وجودك).
(وهو) أي ذلك المقام هو ماكنت في عينك ملتبسة متصفة به في حال ثبوتك في الحضرة العلمية، و
ظهرت في الوجود الخارجي أيضا على حسبها. فهذا الحكم عام لجميع الأعيان،لا الملائكة فقط، كما أخبروا عن أنفسهم. فالضمير مبتدأ، خبره مجموع ما بعده من الجملتين، أي (مقامك) هذا المعنى.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (هذا إن ثبت أن لك وجودا) أي الأمر هذا إن كان الوجود الخارجي للأعيان بحكم ظهورها في مرآة الحق.
وليس المراد بقوله: (إن ثبت أن لك وجودا) أن لك وجودا حقيقيا مغايرا للوجود المطلق الحقاني، فيتعدد الوجود بحسب مهيته. فإن الوجود حقيقة واحدة، ليس فيها تعدد أصلا. كما مر في صدر الكتاب.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن ثبت أن الوجود للحق، لا لك) أي وإن كان هذا الوجود الخارجي للحق بحكم ظهوره في مرايا الأعيان.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالحكم لك بلا شك في وجود الحق). وذلك لأن وجود الحق من حيث هو هو واحد لا تعدد فيه، فالتعدد والتنوع والاختلاف من أحكام مرايا الأعيان في الوجود الحقاني.
وقوله: (إن ثبت) في الموضعين، ليس لكونه شاكا في كيفية الأمر، بل تنبيها على ظهور مراتب الوجود، كما مر مرارا.
(وإن ثبت أنك الموجود). أي، بالوجود الفائض عليك من الحق تعالى.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالحكم لك بلا شك). في ذلك الوجود بحسب عينك. ولا ينبغي يتوهم أنغير الحق حاكم عليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل الحق يحكم على وجوده في مرتبة من مراتبه التفصيلية، فلا شئ غيره في الوجود.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإن كان الحاكم الحق، فليس له إلا إفاضة الوجود عليك والحكم لك عليك).
أي وإن قلنا إن الحق هو الحاكم بحسب مقامه الجمعي على مقاماته التفصيلية المنعوتة بالعبودية، فليس للحق بحسب مقامه الجمعي إلا إفاضة الوجود على مظاهره العلمية المسماة بـ (الأعيان) لتوجد في الخارج.
وتلك الإفاضة أيضا تطلب الأعيان واستعداداتها، فالحكم في الحقيقة منك وعليك.
ويجوز أن يكون قوله: (وإن كان الحاكم الحق) للمبالغة.
وقوله: (فليس له إلا إفاضة الوجود عليك) نتيجة لقوله: (وإن ثبت أنك الموجود، فالحكم لك بلاشك). أي فالحكم لك بلا شك على تقدير أنك الموجود بالوجود الفائض عليك، وإن كان الحاكم في الحقيقة هو الحق.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلا تحمد إلا نفسك ولا تذم إلا نفسك). فإن خيرك وشرك منك وعليك، بحسب اقتضاء عينك.
ولذلك يترتب الثواب والعقاب على أفعالك. وهذا في مقابلة ما يثبته الموحد بغلبة الوحدة عليه من أن الحمد والذم والخير والشر منه، ولاوجود لغيره ولا فعل ولا صفة.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وما يبقى للحق إلا حمد إفاضة الوجود، لأن ذلك له لا لك). فإن فيضان الوجود أزلا وأبدا لا يمكن إلا من مقام الجمع.
ولا يناقض ماذكر من أن الحمد كله لله في أول الفص: فإن ذلك من مقام الوحدة، وهذا من مقام الكثرة.
وفي هذا المقام يتعين للحق حمد إضافة الوجود، وحمد الكمالات والحسنات ترجع إلى الأعيان. وإذا علمت أنها أيضا مقاماته التفصيلية وليست غير الحق بالحقيقة، علمت أن الحمد كله لله جمعا وتفصيلا.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فأنت غذاؤه بالأحكام وهو غذاؤك بالوجود)
أي إذا كان الحكم لك في الوجود، فأنت غذاء الحق، لظهور الأحكام الوجودية اللازمة لمرتبتك فيك، والحق غذائك بإفاضة الوجود عليك واختفائه فيك اختفاء الغذاء في المغتذى , واطلاق (الغذاء) هنا على سبيل المجاز.
فإن الأعيان سبب ظهورات الأحكام الوجودية وبقائها، والحق سبب بقاء وجود الأعيان، كما أن الغذاء سبب بقاء المغتذى وقوامه وظهور كمالاته.
ولكون الغذاء يختفي في المغتذى، جعل الحق غذاء الأعيان، فإنه اختفى فيها وأظهرها.
وجعل الأعيان غذاء الحق لظهور الحق عند اختفاء الأعيان وفنائها فيه.
"" كاختفاء النقطة بالحروف، إذ لا يرى في الظاهر غير تعينات الحرفية وأعيانها، واختفاء الحروف في النقطة، إذا الظهور والوجود كلها للنقطة وتعينات الحرفية اعتبارات.""
قال الشيخ رضي الله عنه : (فتعين عليه ما تعين عليك). أي تعين الحكم منك على الحق، كما تعين عليك ذلك الحكم منه.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فالأمر منه إليك ومنك إليه). أي فالأمر والحكم من الحق إليك، وهو فيضان الوجود عليك، ومنك إليه بإعطاء عينك أن يوجدك على ما أنت عليه في الأزل.
قال الشيخ رضي الله عنه : (غير أنك تسمى مكلفا وما كلفك إلا بما قلت له: كلفني - بحالك وبما أنتعليه. ولا يسمى مكلفا، اسم مفعول).
أي، الفرق بين الحق والعبد في هذا المقامأن العبد يسمى مكلفا والحق لا يسمى مكلفا.
وفي الحقيقة ما كلف العبد إلاعينه، فإنه بلسان استعداده يقول للحق: كلفني بأحوالي وبما أنا عليه، ليظهر مافي استعدادي وذاتي.
وقوله: (بحالك) متعلق بقوله: (وما كلفك). تقدير الكلام: وماكلفك بحالك إلا قولك له : كلفني بما أنا عليه في عيني.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فيحمدني وأحمده ويعبدني فأعبده). أي، يحمدني بإيجادي على صورته وتكميل نفسي وتجليه لقلبي وتخليصي من سجن الطبيعة وقيد الهوى. وأحمده بلسان الحال بإظهار كمالاته وأحكام صفاته في مرآة عيني، وبحسن القبول لتجلياته، وبلسان القال بتسبيحه وتحميده والثناء عليه.
(ويعبدني) بخلقي وإيجادي وإظهاري في مراتب الوجود الروحانية والجسمانية العلوية والسفلية، لأن الإيجاد والإظهار للشئ، من الغيب إلى الشهادة، نوع من الخدمة والعبادة. ""عبد الشيء اعده وهيأه لوظيفة ما . من عبد الطريق "".
(فأعبده) (الفاء) للنتيجة. أي، تترتب عبادتي لي على عبادته لي بالإيجاد والإظهار.
وعبادتي له في الظاهر هي إقامة حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه، وفي الباطن قبول تجلياته الذاتية والأسمائية وإظهار أحكامها.
وإطلاق (العبادة)على الحق وإن كان شنيعا ونوعا من سوء الأدب في الظاهر، لكن أحكام التجليات الإلهية إذا غلب على القلب بحيث يخرجه عن دائرة التكليف وطور العقل، لا يقدر القلب على مراعاة الأدب أصلا، وترك الأدب حينئذ أدب
كما قيل، شعر:
سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا  .... جبال حنين ما سقوني لغنت
وأقول، شعر:
وآداب أرباب العقول لدى الهوى  .... كآداب أهل السكر عند أولى العقل
فلا تعدلن إن قال صب متيم  .... من الوجد شيئا لا يليق بذى الفضل
وفي السكر ما يجرى على ألسن الفتى  .... يضاف إلى الراح المزيلة للعقل
(ففي حال أقر به  ... وفي الأعيان أجحده) أي حال غلبة مقام الجمع والوحدة وتجلياته على أقر بوجوده تعالى في مقامه الجمعي، وبرؤيتي جميع الأكوان مستهلكة فانية فيه.
وإذا نظرت في الأعيان والأكوان واختفاء الحق فيها لإظهارها، أجحده لغلبة الكثرة ورؤية الخلق.
إذلا يمكن تعيين موجود من الموجودات في الخارج ممتازا خارجا عنها، حتى يكون ربا معبودا للكل، كما هو شأن المحجوبين من أهل النظر وغيرهم، لأن كل ما هو موجود معين في الخارج، مقيد مشخص، وكل ما هو كذلك، فهو عبد، لأنه محتاج إلى مطلق وما يعينه، والرب هو المطلق الذي لا يتقيد بالإطلاق والتقييد، ويظهر في كل من المراتب الوجودية ويقومها بقيوميته.
وهذا الجحد والإقرار بعينه.
كما قال الشاعر السهروردي القتيل :
رق الزجاج ورقت الخمر  ..... فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح  .... وكأنما قدح ولا خمر
أو أقر به في صور العارفين المكاشفين، وأجحده في صور المطرودين المحجوبين عند تجليه في الأعيان الوجودية، لا المثالية والأخراوية.
(فيعرفني وأنكره  ... وأعرفه فأشهده)
أي الحق يعرفني في جميع المواطن والمقامات، وأنا أعرفه في بعض المواطن وأشهده، وفي بعض المواطن لا أعرفه وأنكره، لأن الحق في مقام هويته و أحديته لا يطلع عليه ولا يعرف حقيقته، ولا يمكن أن يعرف.
وفي مقام واحديته يعرف بالصفات والأسماء.
وإذا تجلى بصفة (المنعم) يرغب فيه، وفي صفة (المنتقم) يهرب منه.
وإذا تجلى بصورة لا توجب التعظيم، ينكر، كما جاء في حديث (التحول) أو يكون قوله: (فيعرفني وأنكره) عن لسان المحجوب.
(وأعرفه فأشهده) عن لسان العارف صاحب الشهود.
(فأنى بالغنى وأنا  ... أساعده وأسعده؟)
أي، من أين يكون له الغنى عنا مطلقا، ونحن نساعده في ظهور أسمائه وتجلياته وجميع كمالاته فينا؟ لأن القابل مساعد للفاعل في فعله بقبوله ذلك الفعل، كما قال: (إن تنصروا الله ينصركم). و (النصرة) هي المساعدة. ولتسعده بظهور جماله وجلاله في مرائي ذواتنا ومظاهر أعياننا.
ولما كان الإسعاد عند الحقيقة عبارة عن إخراج الكمالات التي في الباطن إلى الظاهر وإظهارها، وكمالات الأسماء وظهوراتها كانت بأعياننا - كما جاء في الصحيح أنه، صلى الله عليه وسلم، قال: "والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا،لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم".
نسب الشيخ رضى الله عنه الإسعاد بنا، وهو إسعاده لنفسه بنفسه من غير اعتبار تعدد وتكثر في الحقيقة.
(لذاك الحق أوجدني  ... فأعلمه وأوجده) و (لذاك) بـ (اللام)، وفي بعض النسخ بـ (الكاف). ومعناه: كما أساعده وأسعده، كذاك الحق يوجدني ويسعدني.
ومعنى الأول: أوجدني الحق لأعرف وإلهيته وربوبيته، كما جاء في الحديث: "كنت كنزا مخفيا...". وقال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". أي، ليعرفون. فذاك إشارة إلى قوله: "وأعرفه فأشهده."
وقوله: (فأعلمه و أوجده) أي، أعلمه في جميع المظاهر، وأظهره فيها
للمحجوبين، لأنه اختفى فيها بإظهار الخلق. فإذا علمته أنه هو الظاهر في كلمن الموجودات وأظهرت هذا السر للمحجوبين وعرفتهم، تبقى ظاهرا عندهم أيضا. وهذا الإظهار مجازاة منا لإظهاره لنا من خفاء الغيب إلى ظهور الشهادة.
ويجوز أن يكون (أوجدني) مطاوعا من (الوجد). أي، جعلني واجدا له ومدركا إياه. فحينئذ يكون معنى : فأوجده فأدركه.
(بذا جاء الحديث لنا  ... وحقق في مقصده)
أي، بهذا المعنى جاء الحديث المذكور، وهو (كنت كنزا مخفيا...).
وقيل معناه: جاء الحديث لنا فيما قلت، فأعلمه فأوجده. وهو ما نقله رسول الله،
صلى الله عليه وسلم، عن الله: (قد مثلوني بين أعينهم). أي، أوجدوا لي مثالا رأى أعينهم. 
وهذا كما قال: (أن تعبد الله كأنك تراه...). والأول أنسب للمقام.
(وحقق في مقصده) أي، يحقق في مقصوده ومطلوبه، وهو العبادة والمعرفة، كما قال: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون."
فيجوز أن يكون الكلام من لسان الكمل، إذ بهم تظهر الصفات كلها. و
يجوز أن يكون المراد نفسه، لأنه كشف عن أسراره كشفا ما أتى أحد من الأولياء بمثله. وفيه إيماء حينئذ إلى مقام ختميته للولاية المحمدية. وبعد هذا الكشف الكلى لم يبق إلا كشف خاتم الولاية المطلقة، إذ به تتم الدائرة، فتقوم بعده القيامة.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولما كان للخليل، عليه السلام، هذه المرتبة التي بها سمى خليلا، لذلك سن القرى وجعله ابن مسرة الجبلي مع ميكائيل للأرزاق، وبالأرزاق يكون تغذى المرزوقين. فإذا تخلل الرزق ذات المرزوقين، بحيث لا يبقى فيه شئ إلا تخلله، فإن الغذاء يسرى في جميع أجزاء المغتذى كلها، وما هناك أجزاء. فلا بد أن يتخلل جميع المقامات الإلهية المعبر عنها كلها بالأسماء، فتظهر بها ذاته، جل وعلا.)
جواب (لما) قوله: (سن القرى). وقوله: (لذلك) متعلق بـ (سن.)
أي، لما كان للخليل، عليه السلام، مرتبة العرفان وشهود الخلق في الأعيان والتخلل بنور ربه في أسمائه ومظاهره التي هي الأكوان، سن القرى لذلك، وهو إعطاء الرزق للمرزوقين.
ولذلك جعله الشيخ المحقق، ابن مسرة الجبلي، رضى الله عنه، مع ميكائيل، عليه السلام، في إيصال الأرزاق.
قال الشيخ الأكبر في فتوحاته، في الباب الثالث عشر: (روينا عن عون ابن مسرة الجبلي، من أكبر أهل الطريق علما وحالا وكشفا: العرش المحمول هو الملك، وهو محصور في جسم وروح وغذاء ومرتبة...) فآدم وإسرافيل للصور، وجبرئيل ومحمد للأرواح، و
ميكائيل وإبراهيم للأرزاق، ومالك ورضوان للوعد والوعيد. وليس في الملك إلا ما ذكر)...
"" اعلم أيد الله الولي الحميم أن العرش في لسان العرب يطلق ويراد به الملك يقال ثل عرش الملك إذا دخل في ملكه خلل ويطلق .
ويراد به السرير فإذا كان العرش عبارة عن الملك فتكون حملته هم القائمون به .
وإذا كان العرش السرير فتكون حملته ما يقوم عليه من القوائم أو من يحمله على كواهلهم .
والعدد يدخل في حملة العرش وقد جعل الرسول حكمهم في الدنيا أربعة وفي القيامة ثمانية
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ". ثم قال وهم اليوم أربعة يعني في يوم الدنيا وقوله يومئذ ثمانية يعني يوم الآخرة
العرش محصور في جسم وروح وغذاء ومرتبة 
روينا عن ابن مسرة الجبلي من أكبر أهل الطريق علما وحالا وكشفا العرش المحمول هو الملك وهو محصور في جسم وروح وغذاء ومرتبة .
فآدم وإسرافيل للصور
وجبريل ومحمد للأرواح
وميكائيل وإبراهيم للأرزاق
ومالك ورضوان للوعد والوعيد
وليس في الملك إلا ما ذكر .
والأغذية التي هي الأرزاق حسية ومعنوية فالذي نذكر في هذا الباب الطريقة الواحدة التي هي بمعنى الملك لما يتعلق به من الفائدة في الطريق وتكون حملته عبارة عن القائمين بتدبيره .
فتدبر صورة عنصرية أو صورة نورية .
وروحا مدبر الصورة عنصرية .
وروحا مدبرا مسخرا الصورة نورية .
وغذاء لصورة عنصرية .
وغذاء علوم ومعارف لأرواح .
ومرتبة حسية من سعادة بدخول الجنة .
ومرتبة حسية من شقاوة بدخول جهنم .
ومرتبة روحية علمية .
فمبنى هذا الباب على أربع مسائل :
المسألة الأولى الصورة
والمسألة الثانية الروح
والمسألة الثالثة الغذاء
والمسألة الرابعة المرتبة وهي الغاية .
وكل مسألة منها تنقسم قسمين فتكون ثمانية وهم حملة عرش الملك
أي إذا ظهرت الثمانية قام الملك وظهر واستوى عليه مليكه.


الأجسام النورية والملائكة المهيمون والملائكة الكروبيون 
المسألة الأولى الصورة وهي تنقسم قسمين :
صورة جسمية عنصرية تتضمن صورة جسدية خيالية
والقسم الآخر صورة جسمية نورية
فلنبتدئ بالجسم النوري :
فنقول إن أول جسم خلقه الله أجسام الأرواح الملكية المهيمة في جلال الله ومنهم العقل الأول والنفس الكل وإليها انتهت الأجسام النورية المخلوقة من نور الجلال .
وما ثم ملك من هؤلاء الملائكة من وجد بواسطة غيره إلا النفس التي دون العقل وكل ملك خلق بعد هؤلاء فداخلون تحت حكم الطبيعة فهم من جنس أفلاكها التي خلقوا منها وهم عمارها . وكذلك ملائكة العناصر .
وآخر صنف من الأملاك الملائكة المخلوقون من أعمال العباد وأنفاسهم .
فلنذكر ذلك صنفا صنفا في هذا الباب إن شاء الله تعالى .
اعلم أن الله تعالى كان قبل إن يخلق الخلق ولا قبلية زمان وإنما ذلك عبارة للتوصيل تدل على نسبة يحصل بها المقصود في نفس السامع كان جل وتعالى في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء .
وهو أول مظهر إلهي ظهر فيه سرى فيه النور الذاتي كما ظهر في قوله "الله نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ" فلما انصبغ ذلك العماء بالنور فتح فيه صور الملائكة المهيمين الذين هم فوق عالم الأجسام الطبيعية ولا عرش ولا مخلوق تقدمهم .
فلما أوجدهم تجلى لهم فصار لهم من ذلك التجلي غيبا كان ذلك الغيب روحا لهم أي لتلك الصور وتجلى لهم في اسمه الجميل فهاموا في جلال جماله فهم لا يفيقون""
فكما يتخلل الرزق ذات المرزوق بحيث لا يبقى شئ فيه إلا تخلله، كذلك لا بد أن يتخلل إبراهيم، عليه السلام، جميع المقامات الإلهية، المعبر عنها ب (الأسماء)، عند كونه غذاء الحق بظهور الأحكام فيه. فإن الغذاء يسرى في جميع أجزاء أعضاء المغتذى. وما هنالك أجزاء، بل أسماء إلهية وصفات ربانية. فالتخلل إنما يقع فيها.
فقوله: (فإن الغذاء)... تعليل. وقوله: (بحيث لا يبقى فيه شئ إلا تخلله) .
وقوله: (فتظهر بها ذاته، جل وعلا) عطف على قوله: (أن يتخلل) وفاعله (ذاته).
أي، لا بد أن يتخلل إبراهيم جميع الأسماء، فتظهر ذات الحق فيها وفي مظاهرها، إذ ظهورها إنما هو بالمظاهر وهي الأعيان.
وجواب (إذا) قوله: (فلا بد أن يتخلل.)
(فنحن له كما ثبتت  ... أدلتنا ونحن لنا)
أي، فنحن له غذاء، كما نحن له مرآيا، إذ بنا قوام ظهور كمالاته وصفاته. وهومختف فينا، كما مر من أن الغذاء ما به قوام الشئ.
(كما ثبتت أدلتنا) على صيغة الماضي. أي، كما تقررت الأدلة الكشفيةمن الذوق والوجدان وشهود الأمر على ما هو عليه.
لذلك قال: (أدلتنا) بالإضافة إلى أنفسهم. ويجوز أن يكون مضارعا من (الإثبات). حذف تحركة التاء للشعر.
(ونحن لنا). أي، غذاء لنا، باعتبار اختفاء أعياننا الثابتة وطبائعنا الكلية في صورنا الخارجية، وباعتبار قوامنا بها، لأنها حقائقنا.
أو نحن ملكه وهو ربنا ومالكنا، كما تقررت الأدلة العقلية والكشفية. ونحن ملك لنا، إذ أعياننا حاكمة علينا، كما مر. وكلاهما صحيح.
(وليس له سوى كوني * فنحن له كنحن بنا)
أي، وليس للحق سوى كوني، أي، إعطاء وجودي. فحذف المضاف، أو(الكون) بمعنى (التكوين).
أي، سوى إيجادي في الخارج، كما مر تقريره في الحمد من إنا نحمده بإعطاء الوجود وإفاضة كمالاته علينا.
وهذا الكلام إنما هو باعتبار الفيض المقدس الذي به كمال الاسم (الظاهر)، لا باعتبار الفيض الأقدس،لأنه من ذلك الوجه الأعيان أيضا منه، وإليه يرجع الأمر كله. فنحن له ملك وهو حاكم علينا بالوجود.
(كنحن لنا)، أي، كما نحن ملك لنا باعتبار أعياننا الحاكمة علينا.
أو: وليس له غذاء سوى وجودي، لاختفائه في وجودنا بظهور هويته في هويتنا، فنحن له غذاء كما نحن لنا غذاء.
وفي بعض النسخ: (كنحن بنا). أي، مغتذ بأعياننا.
(فلي وجهان هو وأنا  .... وليس له أنا بأنا)
أي، إذا كان وجودي عين الوجود المطلق وقد تميز بانضمامه إلى عيني، فلي وجهان:
وجه الهوية، ووجه الأنانية.
ومن الوجه الأول، ليس بيننا امتياز ولا بين، فلا ربوبية ولا عبودية.
ومن الثاني، يكون التميز، وتظهر العبودية والربوبية.
(وليس له أنا بأنا) أي، وليس للحق أنانية بسبب أنانيتي، بل أنانيته بذاته، وهي غنية عما سواها، وأنا نيتي مفتقرة إليها معلولة لها، وإذا ظهرت أنانيته تفنى الأشياء وتعدم الأغيار.
أو: وليس له أنانية تعينه، وتجعله في الخارج ممتازا عنا مفارقا منا، كما توهم أهل العقل، وذلك بسبب اختفائه في أنانيتنا.
لذلك قال:
(ولكن في مظهره    ..... فنحن له كمثل إنا)
(مظهره) مصدر ميمي. أي، لكن في ظهوره. ويجوز أن يكون اسم المكان، وحينئذ يكون (في) تجريديا.
أي، لكن نحن مظهره، وكان فينا شئ منتزع منا هو مظهره، كما قال الله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة".
(ولكن) استدراك من قوله: (وليس له أنا بأنا) أي، ليس أنانية ممتازة عنا، بل هو ظاهر فينا ونحن مظهره، فباعتبار الظاهرية والمظهرية يحصل التعدد والامتياز.
وإذا كنا مظاهره (فنحن له كمثل إنا) بكسر الهمزة. أي، مثل الظرف وهو مثل المظروف.
وجميع هذه المعاني من مقام الكثرة التفصيلية الراجعة في الحقيقة إلى العين الواحدة، وأما في الوحدة فلا ظاهر ولا مظهر، ولا ظرف ولا مظروف، بل كلها شئ واحد لا تعدد فيه أصلا، فلا ينبغي أن يتوهم أنه قائل بالحلول.
لما كان جميع الأسماء مستهلكة تحت الاسم الإلهي ومجتمعة فيه ومنقهرة كثرتها تحت وحدته وهو المتكلم بلسانه وهو الهادي والدليل إلى الوحدة الحقيقية التي مرتبة الأحدية المطلقة.
قال: "والله يقول الحق وهو يهدى السبيل."
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:08 am

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإسحاقي على منتدي إتقوا الله ويعلمكم الله

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية   الجزء الأول

لما كان بعد مرتبة عالم الأرواح المجردة مرتبة عالم المثال المسمى بـ (الخيال) وهو ينقسم إلى المطلق والمقيد - كما مر بيانه في المقدمات - وكان أول من خلع عليه الصفات الثبوتية التي هي روح العالم المثالي (إبراهيم).
ذكر الشيخ رضى الله عنه حكمة عالم المثال المقيد في الكلمة (الإسحاقية) مراعاة للترتيب في بيان المراتب، مع أنه لم يلتزم إلا التنبيه على المناسبة بين الحكمة وبين النبي الذي نسب الحكمة إلى كلمته، ولم يلتزم مراعاة الترتيب الوجودي بين الأنبياء، عليهم السلام، ولابين المراتب أيضا.
وإنما ذكر المقيد هنا دون المطلق، لأنه مثال وأنموذج من العالم المثالي المطلق.
وهو مع كل واحد، ليطلع منه عليه ويصل به إليه. فالكلام فيه كالكلام في أصله.
ونسب حكمته بالحقية لجعل إسحاق عليه السلام  ما رأى أبوه في المنام حقا بأن قال: (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين).
أي اجعل ما رأيته في رؤياك محققا في الحس، ستجدني إن شاء الله صابرا على ذلك كما قال يوسف،عليه السلام: (هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا.)
(فداء نبي ذبح ذبح لقربان   ..... وأين ثواج الكبش من نوس إنسان)
اعلم، أن بين الفداء والمفدى عنه لا بد من مناسبة ومقاربة في الفداء، كما جاء في صورة القصاص، لذلك لا تقتل المسلم بالذمي والحر بالعبد. فقوله:
(فداء نبي) استفهام على سبيل التعجب. تقديره: أفداء نبي ذبح ذبح لقربان؟فحذفت الهمزة، كما تقول: هذا قدري عندك. أي، أهذا قدري؟
و (ذبح) بفتح الذال، مصدر، وبكسرها اسم لما يذبح للقربان.
و (الثواج) صوت الغنم. و(النواس) التذبذب والصوت عند سوق الإبل. يقال ناس: إبله. أي، ساقها.
وناس الشئ وإناسه، أي، ذبذبه وحركة، والمراد صوت الإنسان وحركته.
أي، كيف يقوم صوت الكبش وحركته عند الذبح مقام صوت الإنسان وحركته.
واعلم، أن ظاهر القرآن يدل على أن الفداء عن إسماعيل، وهو الذي رآهإبراهيم أنه يذبحه. وإليه ذهب أكثر المفسرين وذهب بعضهم إلى أنه إسحاق.
والشيخ رضي الله عنه معذور فيما ذهب إليه، لأنه به مأمور كما قال في أول الكتاب.
(وعظمه الله العظيم عناية به أو بنا، لم أدر من أي ميزان)
(الواو) للحال. أي، والحال أن الله وصفه بـ (العظيم) بقوله: (وفديناه بذبح عظيم).
عناية بالذبح وتعظيما لشأنه حيث جعله فداء عن نبي معظم عند الله. أو عناية بالنبي وتعظيما لقدره حيث جعل الذبح فداء عنه.
(لم أدر من أي ميزان) تعجب من أي الذبح صار فداء لنبي كريم، ووصفه الحق بذبح عظيم، أي، لم أدر من أي قسم من القسمين، وما سبب تعظيمه.
(ولا شك أن البدن أعظم قيمة  ...... وقد نزلت عن ذبح كبش لقربان)
أي، ولا شك أن البدن أعظم قيمة وأكثر هيبة من الكبش، لذلك صارت بدنةعوضا عن سبعة من الضحايا، وقد انحطت عن درجة الكبش في التقرب إلى الحق هنا. و (البدن) ، بضم الباء وسكون الدال، جمع (بدنة.)
(فياليت شعري كيف ناب بذاته    ...... شخيص كبيش عن خليفة رحمان)
ومعناه ظاهر. واعلم، أن غرض الشيخ رضي الله عنه في هذه الأبيات بيان سر التوحيد الظاهر في كل من الصور الوجودية، في صورة التعجب نفيا لزعم المحجوبين وإثباتا لقول الموحدين المحققين.
وذلك أن الوجود هو الظاهر في صورة الكبش، كما أنه هو الظاهر في صورة إسحاق، فما ناب إلا عن نفسه، وما فدى منها إلابنفسه الظاهرة في الصورة الكبشية، فحصلت المساواة في المفاداة.
(ألم تدر أن الأمر فيه مرتب   ..... وفاء لإرباح ونقص لخسران؟)
ضمير (فيه) عائد إلى (الفداء). وقوله: (وفاء ونقص) كل منهما خبر مبتدأ محذوف.
أي، أ لم تعلم أن الأمر، أو الشأن الإلهي، في الفداء مرتب، ليكون بين المفدى والمفدى عليه مناسبة في الشرف والخسة وباقي الصفات، فلا يفدى من الشريف بالخسيس، ولا بالعكس.
والإتيان بالفداء الذي هو صورة فداء النفس وفاء بالعهد الأزلي السابق "في عالم الذر"
(لإرباح)، بكسر الهمزة على صيغة المصدر. أي، لإكمال المستعد نفسه وغيره من المستعدين. يقال: هذه تجارة مربحة. أي، كاسبة للربح.
أو بفتح الهمزة، على صيغة الجمع. أي، للكمالات التي تحصل لمن يأتي بالفداء.
والأول أنسب لما بعده. وعدم الإتيان به نقص لخسران.
فإن من لم يف بالعهد السابق الأزلي لاحتجابه بالغواشي الظلمانية، إنما هو لنقص استعداده وخسران رأس ماله الذي هو العمر والاستعداد، لتضييع هما فيما هو فان.
وسر هذا المعنى وتحقيقه أن تعلم أن الوصول إلى الحق، سبحانه، للعبد لا يمكن مع بقاء أنانيته، لأنها توجب الإثنينية.
فلا بد من إفنائها. والإقرار الأزلي بربوبيته تعالى إنما يتم بعدم الإشراك، ذاتا ووجودا وصفة وفعلا.
فالسالك ما دام أنه لا يفنى ذاته وجميع ما يترتب عليها، لا يكون موفيا بعهده السابق.
فالحق، سبحانه،أرى إبراهيم ما أراه تكميلا له ولإبنه، إبتلاء لهما.
فإن ذبح ابنه الذي هو نفسه في الحقيقة إفناء لهما، فلما قصد بذبح ابنه واستسلم ابنه نفسه وانقاد، حصل الفناء المطلوب والوفاء بالعهد الأول منهما.
وفدى الحق، سبحانه،عنهما الذبح العظيم، لكونه في غاية الانقياد والاستسلام، دون غيره من الحيوانات.
ويجوز أن يعود ضمير (فيه) إلى (الحق) الذي هو الوجود.
أي، أ لم تعلم أن الأمر الإلهي في الوجود وتنزله وظهوره في المراتب كلها (مرتبا).
كما قال: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير).
وأن الله قد أحاط بكل شئ علما.
أو: والأمر في وجوده ونفسهمرتب مرعى التناسب: لا يفدى عن شريف بخسيس، ولا عن حقير بعظيم، فلا بد من التناسب بين الكبش وبين هذا النبي الكريم ذاتا وصفة.
فقوله: (ألم تدر) تنبيه للطالب على أن ينظر بنظر الحق، ويعلم أن المناسبة
الذاتية بينهما هي أن كلا منهما مظهر للذات الإلهية، والمناسبة الصفاتية تسليم كل منهما لما حكم الله عليهما، وانقيادهما لذلك طوعا.
فيتعين أن الظاهر في الصورة الكبشية هو الذي ظهر في الصورة الإسحاقية.
وتخصيص ظهوره بها في الفداء للمناسبة بينهما في الانقياد والتسليم.
(فلا خلق أعلى من جماد وبعده  ..... نبات على قدر يكون وأوزان)
ولما كان السر الوجودي ظاهرا في الكل والتفاوت والتفاضل إنما يقع في المراتب بين أن الأقرب إلى الحق أفضل من غيره، لقلة الوسائط بينه وبين المقام الجمعي الإلهي، ولعدم تضاعف الوجوه الإمكانية، لأن كل ما يتركب من أمور ممكنة، يتصف بإمكان الهيئة الاجتماعية الحاصلة له، وإمكانات أجزائه، فيتضاعف الإمكان.
وكل ما كثرة وجوه إمكاناته، يزداد بعدا من الواجب لذاته.
لذلك قال تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين".
فكما أنه بحسب التجرد عن خواص الممكنات و أداء الأمانات المأخوذة منها عند نزوله من كل مقام ومرتبة من عالم الغيب إلى عالم الشهادة بترك التعشق إليها والإعراض عنها، يتنزه عن وجوه الإمكانات ونقائصها، فيظهر له الوجوب الذاتي الذي كان له بحسب الذات الإلهية وكمالاته الذاتية فيكون في أعلا عليين مرتبة.
كذلك الواقف في مقامه السفلى البشرى متعشقا إلى كل ما حصل له عند النزول يكون في (أسفل سافلين).
ولا شك أن البسائط أقرب من المركبات إلى الحق، ثم المعادن، وهو المراد بالجماد، ثم النبات، ثم الحيوان.
ولما كان كل منها مظهرا للذات التي هي منبع جميع الكمالات، كان الكل موصوفا بالعلم بربه كاشفا لما يتعلق بمراتبهم بأرواحهم في الباطن وإن لم يظهر ذلك منهم، لعدم الاعتدال الموجب لظهور ذلك، كما يظهر من الإنسان.
وقوله: (على قدر يكون وأوزان) أي، على منزلة ومرتبة يكون للنبات عند الله.
و (الوزن) هو القدر والمرتبة. يقال: فلان لا وزن له عند الملك.
أي،لا قدر له ولا قيمة عنده
(وذو الحس بعد النبت فالكل عارف ...... بخلاقه كشفا وإيضاح برهان)
أي، الأقرب من الله بعد البسائط والمعادن والنبات، الحيوان، لذلك أعطى الله له
جميع ما يحتاج إليه، كما قال تعالى: (أعطى كل شئ خلقه ثم هدى).
ولا ترقى له إلى غير ما تعين له من الكمال. ولما كان جميع الموجودات حيا عالما بربه عند أهل الكشف والشهود.
قال: (فالكل عارف بخلاقه).
وقوله: (كشفا) أي، الكل يعرفون ربهم بالكشف الصحيح الحاصل لروحانيتهم عند الفطرة الأولى. أو:
نحن علمناه كشفا، ولما كان الكشف حجة لصاحبه دون غيره، قال: (وإيضاح برهان).
أي، علمناه برهانا صريحا أيضا.
والمراد بـ (البرهان) ما يعطيه العقل المنور والشرع المطهر من الأدلة:
منها قوله: (سبح لله ما في السماوات ومافي الأرض).
وقوله: (وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
و (التسبيح) لا يكون إلا بعد المعرفة بأن له ربا يربه صاحب كمالات منزها عن النقائص الكونية. فنبه بعرفانهم وبعدم عرفان الثقلين، لأن الخطاب للأمة وهو، صلى الله عليه وسلم، مبعوث إليهما، فالجن أيضا داخل في قوله:
(ولكن لا تفقهون تسبيحهم). وأيضا الجن لا مدخل لهم في غيوب الموجودات احتجابها عن الحقائق، كما قال: (فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين). ومنها ما رواه البخاري عن أبى سعيد الخدري، قال:
(كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: إذا وضعت الجنازة، فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة، قالت: قدموني، قدموني.
وإن كانتغير صالحة، قالت لأهلها: يا ويلها، إلى أين تذهبون بها.
يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق).
وروى الترمذي عن أبى أمامة: (أن رسول الله قال: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم).
ثم، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض،حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في الماء، ليصلون على معلم الناس).
وروى أبو داود والترمذي في باب فضيلة العلم عن أبى الدرداء في حديث طويل: (وأن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء).
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه  قال: (قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يلبى إلا لبى من عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى ينقطع الأرض من هاهنا وهاهنا). 
لذلك كانت البدن التي جعلها النبي، عليه السلام، قربانا يزدلف كل منها إليه، صلى الله عليه وسلم، ليكون أول ما يتقرب به بين يديه. والعقل وإن كان محجوبا عن هذا الطور، لكنه إذا تنور بالنور الإلهي وعرف سريان وجوده في جميع الموجودات، يعلم أن لكل منها نفسا ناطقة عالمة سامعة، هي نصيبه من العالم الملكوتي، كما قال تعالى: (بيده ملكوت كل شئ).
وبحسب كثرة وجوده الإمكانات تبعد عن الحق وتغفل عن عالمه النوري، فتحجب ويحصل لها الرين. وبحسب قلتها تقرب منه ويستفيض منه الكمالات وتتنور بأنواره.
ولا شك أن البسائط أقرب إليه من المركبات، ثم المعادن،ثم النبات، ثم الحيوان.
فيصح عنده أيضا أن الكل عارف بالله منقاد لديه مطلع لما يفيض عليه وتمر منه على ما دونه.
(فأما المسمى آدما فمقيد   ..... بعقل وفكر أو قلادة إيمان)
أي، والحال أن المسمى بالإنسان مقيد ومحجوب بعقله الجزئي المشوب بالوهم، وبقوته الفكرية التي لا ترفع رأسا إلى العالم العلوي الغيبي - إن كان من أهل النظر- فإن كان مقلدا فمقيد بالتقليد الإيماني القابل للتغيير والزوال سريعا، وكل منهما لا يطلع لربه إطلاع العارف المشاهد للحق ومراتبه التي هي روحانية الجماد والنبات والحيوان من الكمل والأفراد من الإنسان.
(بذا قال سهل والمحقق مثلنا   ..... لأنا وإياهم بمنزل إحسان)
أي، قال سهل التستري بهذا القول من أن البسائط أقرب إلى الحق، كما مر. وهكذا يقول كل محقق عارف بالله.
و (المنزل الإحساني) هو مقام المشاهدة   وإنما
قال: (مثلنا) لأن العارف المطلع على مقامه هو على بينة من ربه، يخبر عن الأمر كما هو عليه، كإخبار الرسل عن كونهم رسلا وأنبياء، لا أنهم ظاهرون بأنفسهم مفتخرون بما يخبرون عنه:
(فمن شهد الأمر الذي قد شهدته  .... يقول بقولي في خفاء وإعلان):
أي، من شهد الحقائق في الغيب الإلهي كما شهدت ويجد الأمر كما وجدت، لا يبالي أن يقول بمثل هذا القول في السر والعلانية:
(ولا تلتفت قولا يخالف قولنا   ...... ولا تبذر السمراء في أرض عميان)
أي، لا يلتفت إلى قول المحجوبين من أهل النظر وغيرهم من المقلدين لهم وأصحاب الظاهر الذين لا علم لهم بحقائق الأمور، إذا كان قولهم مخالفا لقولنا.
ولا تبذر الحنطة السمراء. أي، القول الحق الذي يغذي الباطن والروح، في أرض استعداد العميان الذين لا يبصرون الحق في الأشياء ولا يشاهدونه في المظاهر:
(هم الصم والبكم الذين أتى بهم  ..... لأسماعنا المعصوم في نص قرآن)
لأنهم الصم عن سماع الحق، والبكم عن القول به، والعمى عن شهوده، إذ طبع الله على قلوبهم بعدم إعطاء استعداد المشاهدة وإدراك الحق. كما أتى المعصوم، أي نبينا عليه السلام، في القرآن في حقهم: (صم بكم عمى فهم لا يعقلون.)
و (الباء) في (بهم) للتعدية. أي، أتى بهذا القول في حقهم.
(اعلم، أيدنا الله وإياك، أن إبراهيم الخليل، عليه السلام، قال لابنه: "إني أرى في المنام أنى أذبحك" والمنام حضرة الخيال فلم يعبرها) أي، المنام حضرة المثال المقيد المسمى بالخيال.
فالمرئي فيها قد يكون مطابقا لما يقع في الظاهر، وقد لا يكون كذلك، بل يدرك النفس معنى من المعاني الغيبية من الطريق الذي لا واسطة بينها وبين الحق، أو من المعاني المنتقشة في الأرواح العالية، فتلبس له صورة مثالية مناسبة مما في حضرة خياله من الصور.
فينبغي أن يعبر، ليعلم المراد من الصور المرئية. وإبراهيم، عليه السلام، لم يعبرها، لأن الأنبياء والكمل أكثر ما يشاهدون الأمور في العالم المثالي المطلق.
وكل ما يرى فيه لا بد أن يكون حقا مطابقا للواقع، فظن أنه، عليه السلام، شاهد فيه، فلم يعبرها، أو ظن أن الحقأمره بذلك، إذ كثير من الأنبياء يوحون في مناماتهم. فصدق منامه.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام، فصدق إبراهيم الرؤيا.)
أي، الكبش المفدى به، هو الذي كان مراد الله في نفس الأمر، فظهر في صورة إسحاق، لمناسبة واقعة بينهما. وهي إسلامه لوجه الله وانقياده لأحكامه.
فصدق إبراهيم الرؤيا بأن قصد ذبح ابنه. (ففداه ربه من وهم إبراهيم). أي، من جهة وهمه (بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله، وهو لا يشعر).
أي أظهر ربهما كان المراد عنده، وهو الذبح العظيم الذي صوره خياله بمشاركة الوهم بصورة إسحاق، وإبراهيم لا يشعر أن المراد ما هو، لسبق ذهنه إلى ما اعتاده من الرؤية في العالم المثالي.
ولما كان للوهم مدخل عظيم في كل ما يرى في المنام – إذ هو السلطان في إدراك المعاني الجزئية.
قال: (من وهم إبراهيم) عليه السلام.
"" أضاف الجامع : قد يكون مراد المصنف من قوله: (من وهم إبراهيم) أن إطلاق الفداء على الكبش كان بحسب وهم إبراهيم، عليه السلام، فإنه توهم أنه مأمور بذبح ابنه مع أنه كان مأمورا بذبح الكبش، فذبح الكبش لم يكن فداء .وامر الظاهر شريعة يقتضى ذبح الكبش، ولكن شدة محبة إبراهيم وعشقه وهم عن الجمع بالظاهر شريعة والباطن حقيقة، فأراد ذبح الابن.""
ولأنه توهم أن المرئي "الحقيقة" لا ينبغي أن يعبر، فقصد ذبح ابنه.
(فالتجلي الصوري في حضرة الخيال يحتاج إلى علم آخر، يدرك به ما أراد الله بتلك الصورة). ولا يحصل علمه إلا بانكشاف رقائق الأسماء الإلهية والمناسبات التي بين الأسماء المتعلقة بالباطن، وبين الأسماء التي تحت حيطة الظاهر.
لأن الحق إنما يهب المعاني صورا بحكم المناسبة الواقعة بينهما - لا جزافا كما يظن المحجوبون أن الخيال يخلق تلك الصور جزافا - فلا يعبرون ويسمونها (أضغاث أحلام).
بل المصور هو الحق من وراء حجابية الخيال. ولا يصدر منه ما يخالف الحكمة.
فمن عرف المناسبات التي بين الصور ومعانيها وعرف مراتب النفوس التي تظهر الصور في حضرة خيالاتهم بحسبها، يعلم علم التعبير كما ينبغي، ولذلك تختلف أحكام الصورة الواحدة بالنسبة إلى أشخاص مختلفة المراتب.
وهذا الانكشاف لا يحصل إلا بالتجلي الإلهي من حضرة الاسم الجامع بين الظاهر والباطن.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ألا ترى كيف قال رسول الله، عليه السلام، لأبي بكر في تعبيره الرؤيا:
(أصبت بعضا وأخطأت بعضا). فسأله أبو بكر أن يعرفه ما أصاب فيه وما أخطأ. فلم يفعل، صلى الله عليه وسلم).
إستشهاد ودليل على أن التجلي الصوري الخيالي يحتاج إلى علم يدرك به المراد من تلك الصورة المرئية.
نقل صاحب شرح السنة، أنار الله مضجعه، عن ابن عباس قال: (كان أبو هريرة يحدث أن رجلا أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت ظلة، تنطف منها السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون  في أيديهم في المستكثر والمستقل.
وأرى سببا وأصلا من السماء إلى الأرض، فأراك يارسول الله أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا، ثم أخذ به رجل اخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل له فعلا. فقال أبو بكر: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، لتدعني فلأعبرها.
فقال: عبرها.
فقال: أما الظلة، فظلة الإسلام. وأما ما ينطف من السمن والعسل، فهو القرآن - لينة وحلاوة. وأما المستكثر والمستقل، فهو المستكثر من القرآن والمستقل منه.
وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض، فهو الحق الذي أنت عليه تأخذ به، فيعليك الله، ثم يأخذ به بعدك رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر بعده فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر بعده فينقطع به، ثم يوصل له، فيعلو. أيرسول الله لتحدثني، أصبت أم أخطأت؟
فقال النبي، عليه السلام: أصبت بعضا، وأخطأت بعضا.
قال: أقسمت بأبي أنت وأمي، يا رسول الله، لتحدثني ما الذي أخطأت؟
فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: لا تقسم). هذا حديث متفق على صحته.
(وقال الله تعالى لإبراهيم، عليه السلام، حين ناداه: (أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا).)
أي، جعلت ما رأيت في منامك صادقا. (وما قال له: صدقت في الرؤيا أنه ابنك). صدقت بالتخفيف.
أي، ما جعل الله مصدقا في رؤياه أن المرئي ابنه (لأنه ما عبرها، بل أخذ بظاهر ما رأى، والرؤيا تطلب التعبير.)
لأن المعاني تظهر في الصور الحسية متنزلة على المرتبة الخيالية.
(ولذلك قال العزيز: (إن كنتم للرؤيا تعبرون). ومعنى (التعبير) الجواز منصورة ما رآه إلى أمر آخر) وهو المعنى والمراد بها.
(وكانت البقر سنين في المحل والخصب).
أي، المراد من صورة البقر العجاف، كان سنين في القحط والغلا، ومن صورة البقر السمان، سنين في الخصب والسعة.
(فلو صدق في الرؤيا، لذبح ابنه) لأنه رأى أنه كان يذبحه.
(وإنما صدق الرؤيا في أن ذلك عين ولده) بأن قصد ذبحه.
(وما كان عند الله إلا الذبح العظيم في صورة ولده) أي، وما كان مراد الله إلا الذبح العظيم الذي جعله الله فداء.
(ففداه) أي، الحق الذبح. (لما وقع في ذهن إبراهيم، عليه السلام) تعليل للفداء.
(ما هو فداء في نفس الأمر عند الله).
(ما) للنفي. أي، ليس ذلك الكبش فداء عنه في نفس الأمر، لأن الحق ما كان أمره بذبح ولده، ثم فداء عنه بالذبح، بل لأجل ما وقع في ذهن إبراهيم صورة ابنه، جعله الحق فداء في الظاهر. وقوله: (عند الله) عطف بيان (نفس الأمر.)
(فصور الحس الذبح) لأنه مراد الله منها. (وصور الخيال ابن إبراهيم، عليه السلام).
لأن المراد في الصور الخيالية ما يظهر بها من المعاني، لا نفس تلك الصور.
لذلك قال: (فلو رأى الكبش في الخيال، لعبره بابنه أو بأمر آخر.) يكون مطلوبا من تلك الصورة.
(ثم قال) أي إبراهيم، عليه السلام: (إن هذا لهو البلاء المبين). أي، الاختبار المبين. أي، الظاهر).
يقال: بلوته. أي، اختبرته. (يعنى الاختبار في العلم). أي، اختبر الحق إبراهيم في العلم ليعلم أنه (هل يعلم) أي إبراهيم.
(ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا. لأنه)  أي، لأن الحق.
(يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير. فغفل) أي إبراهيم. (فما وفي الموطن حقه. وصدق الرؤيا لهذا السبب.)
وإنما اختبره، ليكمله ويطلعه على أن المعاني تظهر بالصور الحسية والمثالية دائما، فلا ينبغي أن تجمد على ظواهرها فقط، بل يجب أن يطلب ما هو المقصود منها، لئلا يكون محجوبا بظواهر الأشياء عن بواطنها، فيفوته علم الباطن والحقيقة، خصوصا علم التعبير الذي به ينتفع السالكون في سلوكهم. وجميع الابتلاءات كذلك، للتكميل ورفع الدرجات.
(كما فصل تقى بن مخلد، الإمام صاحب المسند) وهو كتاب في الحديث.
(سمع في الخبر الذي صح عنده أنه، عليه السلام، قال: (من رآني في المنام، فقد رآني في اليقظة،  فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي).
فرآه تقى بن مخلد : أي، رأى تقى بن مخلد النبي، صلى الله عليه وسلم. (وسقاه النبي، صلى الله عليه وسلم، في هذه الرؤيا لبنا. فصدق تقى بن مخلد رؤياه). أي صدق ما رآه في نومه عند اليقظة.
(واستقاء فقاء لبنا. ولو عبر رؤياه لكان ذلك اللبن علما، فحرمه الله علما كثيرا على قدر ما شرب. ألا ترى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أتى في المنام بقدح لبن،
قال: (فشربته حتى خرج الري من أظافيري، ثم أعطيت فضلي عمر قيل ما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم)وما تركه لبنا على صورة ما رآه، لعلمه بمواطن الرؤيا (وما يقتضى من التعبير).
وإنما أول اللبن بالعلم، لأنه غذاء الأرواح، كما أن اللبن غذاء الأجسام.
ولما ذكر قوله، عليه السلام: (من رآني في النوم، فقد رآني في اليقظة). أراد أن يحقق أن المرئي ما هو؟ وفي أي عالم هو؟
فقال: (وقد علم أن صورة النبي، صلى الله عليه وسلم، التي شاهدها الحس، إنها) بكسر الهمزة. 
(في المدينة مدفونة، وعلم أن) بفتح الهمزة.
(صورة روحه ولطيفته، ما شاهدها أحد من أحد ولا من نفسه). أي، ما شاهد الصورة الروحانية، من حيث تجردها، أحد من بنى آدم في أحد غيره، ولا في نفسه.
فيكون (من) مستعملا في مقام (في). وفي هذا السياق لطيفة. وهي أن روحه، عليه السلام، أبو الأرواح كلها، و (الولد سر أبيه)،. فلطيفته وحقيقته سارية في جميع الأرواح.
فكما لا يقدر على شهود صورة روحه عليه السلام، أحد، كذلك لا يقدر على شهود تلك الصورة الروحانية في نفسه وفي غيره أحد. لذلك قال: (كل روح بهذه المثابة.)
ثم، بين أن المرئي هو الصورة الجسدانية، فقال: (فيتجسد له) أي،للرائي.
(روح النبي، عليه السلام، في المنام بصورة جسده كما مات عليه).
أي، تظهر له روح النبي بصورة جسده الذي هي كالجسم الذي مات عليه. (لا يخرم المتجسد). أي، لا يقطع ولا يغير منه شيئا. 
(فهو محمد، صلى الله عليه وسلم، المرئي من حيث روحه في صورة جسدية تشبه المدفونة). أي، الصورة المدفونة.
والجسد في اصطلاح الطائفة مخصوص بالصورة المثالية. (لا يمكن للشيطان أن يتصور بصورة جسده، صلى الله عليه وسلم، عصمة من الله في حق الرائي.)
أي، تعظيما لشأن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعصمة من الله في حق الرائي أيضا.
(ولهذا من يراه بهذه الصورة، يأخذ منه جميع ما يأمره به أو ينهاه عنه أو يخبره، كما كان يأخذ عنه، صلى الله عليه وسلم، في الحياة الدنيا) بلا تعبير وتغيير.
(من الأحكام على حسب ما يكون منه) أي، يصدر منه.
(اللفظ الدال عليه، من نص أو ظاهر أو مجمل أو ما كان). أي، ولكون المرئي عين محمد، صلوات الله عليه، في الحقيقة، يأخذ الرائي ما يحكم به من الأمر والنهى، أو يخبر عنه من الأخبار، كما كان يأخذ منه في الحياة الدنيا بلا تعبير ولا تغيير في معاني تلك الألفاظ الواقعة منه.
(فإن أعطاه) أي، أعطى النبي، عليه السلام، له. (شيئا، فإن ذلك الشئ هو الذي يدخله التعبير، فإن خرج) أي، ذلك الشيء.
(في الحس، كما كان في الخيال، فتلك الرؤيا لا تعبير لها. وبهذا القدر وعليه اعتمد) أي، اعتمد بهذا القدر وعليه (إبراهيم الخليل وتقى بن مخلد).
أي، ما عبر كل منهما ما أراه الحق في رؤياه.
(ولما كان للرؤيا هذان الوجهان) التعبير وعدمه.
(وعلمنا الله فيما فعل بإبراهيم) من الابتلاء والفداء.
(وما قال له) من قوله: (أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا).
أي، صدقت ما رأيت وما عبرت إلى ما نحن أردناه منها.
(الأدب لما يعطيه مقام النبوة) أي، علمنا الله الأدب فيما فعل بإبراهيم لما يقتضيه مقام النبوة من التأدب بين يدي الله تعالى.
قوله: (علمنا في رؤيتنا الحق تعالى في صورة يردها الدليل العقلي أن نعبر تلك الصورة بالحق المشروع، إما في حق حال الرائي، أو المكان الذي رآه فيه، أوهما معا).
جواب (لما). وقوله: (أو هما معا).
أي، نعبرها بالحق المشروع في حق الرائي والمكان الذي رآه فيه معا.
ومعناه: أن الحق إذا تجلى لنا في صورة مثالية أو حسية، يردها الدليل العقلي - أي العقل المعتبر شرعا، لا العقل الفلسفي المشوب بالوهم - وإلا كان الواجب رد كل ما جاء به الشرع مما يوجب التشبيه،سواء كان ذلك كمالا أو نقصا، إلى ما يقتضيه العقل النظري. وليس كذلك.
وجب أن نعبر ونرد تلك الصورة التي يوجب النقصان إلى الصورة الكمالية التي جاء بها الشرع.
وهو المراد بـ (الحق المشروع). أي، الثابت في الشرع.
كما جاء في الحديث: (أن الحق يتجلى يوم القيامة بصورة النقصان، فينكرونه، ثم يتحول  و يتجلى بصورة الكمال والعظمة، فيقبلونه فيسجدونه).
وذلك التعبير والتنزيل إما أن يكون في حق حال الرائي، أي مرتبته ومقامه، أو في حق حال المرئي ورتبته، أو في حقهما معا باعتبار مراعاة مرتبتهما ومقاميهما، أو في حق حال الزمان والمكان الذي رأى الرائي الحق فيه، لأن بعض الأزمنة أفضل من غيره،
كيوم الجمعة وليلة القدر، وكذلك بعض الأمكنة أشرف من البعض، كالأماكن المتبركة والأراضي المقدسة، أو في حق الجميع، كتعبير رؤيا رأيت فيحق شخص.
فالرائي إذا كان سالكا، ينزلها تارة على مقامه ويعبرها بحسب أحواله، وأخرى ينزلها في حق المرئي وأحواله، وقد يجمع بين ما يتعلق بنفسه ونفس المرئي.
(فإن لم يردها الدليل العقلي) بأن كان التجلي في الصورة النورية كصورة الشمس، أو غيرها من صور الأنوار كالنور الأبيض والأخضر وغير ذلك.
(أبقيناها على ما رأيناها، كما نرى الحق الآخرة سواء). أي، كما يتجلى الحق لنا في الآخرة. فإن ذلك التجلي أيضا يكون على صور استعدادات المتجلى له، غير ذلك لا يكون. واعلم، أن الرد والإنكار إنما يقع في التجليات الإلهية.
لأن الحق تارة يتجلى بالصفات السلبية، فتقبله العقول، لأنها منزهة مسبحة للحق عما فيه شائبة التشبيه والنقصان، وينكره كل من هو غير مجرد، كالوهم والنفس المنطبعة وقواها، لأن من شأنهم إدراك الحق في مقام التشبيه والصور الحسية.
وتارة يتجلى بالصفات الثبوتية، فتقبله القلوب والنفوس المجردة، لأنها مشبهة من حيث تعلقها بالأجسام ومنزهة باعتبار تجردها، وتنكره العقول المجردة لعدم إعطاءشأنها إياها، بل ينكر تلك الصفات أيضا بالأصالة.
وفي هذا التجلي قد يتجلى بصور كمالية، كالسمع والبصر والإدراك وغيرها، وقد يتجلى بصور ناقصة منصور الأكوان، كالمرض والاحتياج والفقر، كما أخبر الحق عن نفسه بقوله:
(مرضت، فلم تعدني، واستطعمت، فلم تطعمني).
وقوله: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه). وأمثال ذلك.
فيقبله العارفون مظاهر الحق، وينكره المؤمنون المحجوبون لاعتقادهم بأن الحق ما يتنزل عن مقامه الكمالي.
فقبل كل منهم ما يليق بحاله ويناسبه من التجليات الإلهية، وأنكره ما لم يكن تعطيه شأنه. والإنسان الكامل هو الذي يقبل الحق في جميع تجلياته ويعبده فيها.
ولما كانت العقول الضعيفة عاجزة من إدراك التجليات الإلهية في كل موطن ومقام والنفوس الأبية طاغية غير معظمة لشعائر الله، أوجب إسناد الصور الكمالية إليه، ورد ما يوجب النقصان عنه، مع أنه هو المتجلي في كل شيء والمتخلي عن كل شيء.
(فللواحد الرحمن في كل موطن من الصور ما يخفى وما هو ظاهر)
لما ذكر أن الحق متجل بصور مقبولة شرعا وعقلا وبصور غير مقبولة فيهما أو فيأحدهما، عقبه بـ (الفاء) التعقيبية، وذكر أن للرحمن صورا بحسب مراتبه ومقاماته، ولها بحسب الظهور والخفاء مراتب: 
منها ما هو ظاهر في الحسن، ومنها ما هو غير ظاهر فيه، ولكن ظاهر في العالم المثالي بالنسبة إلى من كشفت الأغطية من عينه، ومنها ما هو غير ظاهر فيهما وظاهر عند العقل، كالعلوم والمعارف الإلهية التي يدرك اللبيب الفطن إياها من وراء الستر، لأن لها أيضا صورا عقلية، ومنهاما هو خفى عن العقل وظاهر عند القلب لوجدانه إياه من غير صورة مثالية مطابقة للصور الخارجية، بل بصورة نورية.
(فإن قلت هذا الحق قد تك صادقا  ..... وإن قلت أمرا آخر أنت عابر)
أي، إن اعتبرت وحدة الظاهر والمظهر، أو الظاهر فقط، وحكمت بأنه الحق، تكون صادقا، لأنه هو الذي ظهر بذلك المظهر.
وإن لم تعتبر وحدة الظاهر مع المظهر، بل تعتبر الامتياز بينهما وحكمت بأن المرئي غير الحق، تكون أيضا صادقا.
وتكون (عابرا) أي، مجاوزا عن الصورة المرئية إلى المعنى الظاهر فيها.
(وما حكمه في موطن دون موطن   ..... ولكنه بالحق للحق سافر)
أي، ليس حكم الحق منحصرا في موطن ومقام لئلا يكون في موطن آخر، بل
حكمه سار في جميع المواطن بحسب سريان ذاته فيها.
غاية ما في الباب أن أحكامه يختلف باختلاف المواطن.
وضمير (لكنه) يرجع إلى (الحكم). أي، لكن حكمه بسبب ظهور الحق في الخلق.
(سافر) أي، ظاهر فيه.
يقال: سفرت المرأة وجهها. إذا كشفت وجهها. فتكون (اللام) بمعنى (في). وإلا تكون للتعدية. تقديره: لكن حكمه بحسب تجلى الحق ظاهر للخلق
(إذا ما تجلى للعيون ترده  ..... عقول ببرهان عليه تثابر)
أي، إذا تجلى الحق في صورة مثالية أو حسية، ترده العقول المحجوبة، بواسطة أنهادائما منزهة للحق ببراهين عقلية تواظب عليها، إذا (المثابرة) المدارسة والمواظبة على الشئ. والعقل، وإن كان ينزه الحق عن التشبيه، يشبه في عين التنزيه بالمجردات وهو لا يشعر.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:10 am

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإسحاقي على منتدي إتقوا الله ويعلمكم الله

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية   الجزء الثاني

والحق تعالى منزه عن التشبيه والتنزيه بحسب ذاته، وموصوف بهما في مراتب أسمائه وصفاته:
(وتقبل في مجلي العقول وفي الذي  .....    يسمى خيالا والصحيح النواظر )
أي، يقبل الحق عند أهل الكشف والشهود في مجلي العقول، أي في مقام التنزيه، وفي المجلى المثالي الذي يسمى خيالا، والحسي أيضا، لجمعهم بين مقامي التنزيه والتشبيه.
(والصحيح النواظر) أي، النواظر الصحيحة تشاهد تلك المجالي كلها.
فحذف الخبر لقرينة (النواظر).
أو: والصحيح ما يشاهده النواظر في مجالي الحق، كما قال تعالى في أهل الآخرة: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة). لأن عين اليقين أعلى مرتبة من علم اليقين.
وقوله: (يقبل) مبنى للمفعول لا للفاعل، لأن العقول ما تقبل المجالي الخيالية بالآلهية.
(يقول أبو يزيد في هذا المقام) أي، في هذا المقام القلبي.
لأن كلامه رضي الله عنه كان في عالم المثال.
وهذا العالم لا يدرك إلا بالقلب  وقواه، والخيال محل ظهوره لا أنه يدركه، إذ لو كان مدركا له، لكان يدركه كل واحد لظهور الخيال في كلواحد، بخلاف القلب، فإنه خفى لا يظهر إلا لمن كحلت بصيرته بنور الهداية.
وما يجده كل واحد في خياله من المنامات الصادقة، إنما هو بمقدار صفاء قلبه وظهوره، لا بحسب خياله.
(لو أن العرش وما حواه مأة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف، ماأحس به).
وإنما قيد بـ (قلب العارف) لأن قلب غيره، من أصحاب الأخلاق الحميدة والنفوس المطمئنة، ما يشاهد إلا شيئا قليلا، ولا يكاشف إلا نذرا يسيرا.
وقلب صاحب النفس الأمارة واللوامة أضيق شئ في الوجود، بل لا قلبله حينئذ لاختفائه، وظهور النفس بصفاتها.
(وهذا وسع أبى يزيد في عالم الأجسام) أي، وسع قلبه، لأنه ما يخبر إلا عمايجده في قلبه، لا وسع مرتبة القلب إذا كان في غاية كماله.
لذلك قال: (بلأقول: لو أن ما لا يتناهى وجوده) أي، من عوالم الأرواح والأجسام.
(يقدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له) وهو الحق المخلوق به السماوات والأرض، أي، الجوهر الأول الذي به وجدت السماوات والأرض.
(في زاوية من زوايا قلب العارف، ما أحس بذلك في علمه).
وذلك لأن الحق تجلى له باسمه (الواسع) و (العليم المحيط بكل شئ)، فيسع الممكن اتكلها. وأما كونه لا يحس بها، فذلك لاشتغال القلب عنها بمبدعها وخالقها، بل لفنائها في الحق وتلاشيها في الوجود المطلق عند نظر قلب هذا العارف.
ولا يتوهم أن عدم الإحساس إنما هو لفناء القلب، فإن التجلي بالوحدة والقهر يوجب ذلك، لا بالواسع العليم.
وأيضا هذه السعة إنما تحصل للقلب بعد أن فني في الحق وبقى به مرة أخرى، فلا يطرأ عليه الفناء حينئذ.
وأيضا هذه السعة إنما تحصل للقلب بعد أن فني في الحق وبقى به مرة أخرى، فلا يطرأ عليه الفناء حينئذ.
قوله: (فإنه قد ثبت أن القلب وسع الحق، ومع ذلك ما اتصف بالري، فلو امتلأ ارتوى) دليل على ما قال: (وإنما لا يرتوي). لأن الحق لا يتجلى دفعةبجميع أسمائه وصفاته للقلب الكامل، بل يتجلى له في كل آن باسم من الأسماء وصفة من الصفات، وكل من ذلك يعد القلب إلى تجل آخر، فيطلبه القلب باستعداده. وذلك من الحق فلا يرتوي أبدا.
وقوله: (وقد قال ذلك أبو يزيد) إشارة إلى ما كتب يحيى بن معاذ الرازي إلىأبى يزيد: (إني سكرت من كثرة ما شربت من محبته).
فأجاب أبو يزيد:
عجبت لمن يقول ذكرت ربى وهل أنسى، فاذكر ما نسيت شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشراب وما رويت
أو إشارة إلى ما مر من قوله(لو أن العرش وما حواه)... فإنه أيضا يتضمن عدم الارتواء.
(ولقد نبهنا على هذا المقام بقولنا: يا خالق الأشياء في نفسه)
أي، في علمه الذي هو عين ذاته في مقام أحديته، ثم في ظاهرية وجوده المسماة بالوجود العيني.
(أنت لما تخلقه جامع)
لأن كله في علمك وفي عينك كالأمواج على البحر الزخار.
(تخلق مالا ينتهى كونه) أي، وجوده. (فيك) أي، في علمك وعينك.
(فأنت الضيق) لأنه لا يبقى لأحد وجود عند ظهور وجودك. فـ (الضيق)
بمعنى الضائق. أو (الضيق) باعتبار ظهورك في الموجودات المقيدة. (الواسع) الذي يسع الموجودات كلها بالعلم والذات المحيطة للكل.
أو (الواسع) بظهوره في المظهر القلبي الذي يسع كل شئ لما تجلى له الحق باسمه (الواسع.) ،(لو أن ما قد خلق الله) جميعا في قلبي (ما لاح بقلبي فجره الساطع) أي، نوره المرتفع.
ومعناه: لو أن ما خلق الله جميعا في قلبي، (ما لاح فجره الساطع.) أي، ما ظهر نوره عند نور قلبي وصفاء باطني.
فـ (ما) في قوله: (ما لاح) للنفي. والأول بمعنى الذي.
و (الباء) في: (بقلبي) بمعنى (في). وضمير(فجره) عائد إلى (ما خلق الله.)
(من وسع الحق فما ضاق عن خل فكيف الأمر يا سامع؟  )
أي، من وسع الحق مع أسمائه وكمالاته، فما يضيق عن الخلق، لأن الحق
هو الذي يتعين ويظهر في المظاهر الخلقية بحسب تجليات أسمائه وصفاته، فالخلق عين الحق، فمن وسعه وسع الخلق كله.
(بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها. وهذا هو الأمر
العام لكل إنسان. والعارف يخلق بهمته ما يكون له وجود من خارج محل الهمة).
لما كان كلامه رضي الله عنه  في العالم المثالي وهو، كما مر في المقدمات، ينقسم إلى مطلق و مقيد.
والمقيد هو الخيال الإنساني. وهو قد يتأثر من العقول السماوية والنفوس الناطقة المدركة للمعاني الكلية والجزئية، فتظهر فيه صورة مناسبة لتلك المعاني، وقد يتأثر من القوى الوهمية المدركة الجزئية فقط، فتظهر فيه صورة تناسبها.
والثاني، قد يكون بسبب سوء مزاج الدماغ، وقد يكون بحسب توجه النفس بالقوة الوهمية إلى إيجاد صورة من الصور، كمن يتخيل صورة محبوبه الغائب عنه، تخيلا قويا، فيظهر صورته في خياله، فيشاهده.
وهذا أمر عام يقدر على ذلك العارف بالحقائق وغيره من العوام.
ذكر الشيخ رضي الله عنه : هنا هذا المعنى، ونبه أن العارف يخلق بهمته، أي بتوجهه وقصده بقوته الروحانية، صورا خارجةعن الخيال موجودة في الأعيان الخارجية، كما هو مشهور من البدلاء بأنهم يحضرون به في آن واحد أماكن مختلفة، ويقضون حوائج عباد الله.
فالمراد بـ (العارف) هنا، الكامل المتصرف في الوجود، لا الذي يعرف الحقائق وصورها ولا تصرف له.
وإنما قال: (ما يكون له وجود من خارج محل الهمة) أي، خارج الخيال الذي لنفسه، احترازا عن أصحاب السيمياء والشعبذة، فإنهم يظهرون صورا خارجة من خيالاتهم، لكن ليست خارجة من مقام الخيال، لظهورها في خيالات الحاضرين بتصرفهم فيها.
والعارف المتمكن في التصرف بهمته يخلق ما يخلق في عالم الشهادة قائما بنفسه كباقي الموجودات العينية.
والغيب أيضا كالصور الروحانية التي يخلقها، فيدخل بها في عالم الأرواح.
ولا ينبغي أن تتأبى وتشمأز نفسك من إسناده الخلق إلى المخلوق، فإن الحق سبحانه هو الذي يخلقها فيذلك المظهر لا غيره، إلا أن الخلق يظهر حينئذ من مقامه التفصيلي كما يظهر من مقامه الجمعي.
ومن هنا يعلم سر قوله: (فتبارك الله أحسن الخالقين.) ، (ولكن لا تزال الهمة تحفظه) أي ذلك المخلوق. (ولا يؤدها) أي، لا يغفل الهمة حفظه. أي حفظ ما خلقته.
(فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق). لانعدام المعلول بانعدام علته.
(إلا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات، وهو لايغفل مطلقا، بل لا بد له من حضرة يشهدها. فإذا خلق العارف بهمته ما خلق، ولهبه الإحاطة، ظهر ذلك الخلق بصورته) أي، ظهر ذلك المخلوق على صورته (في كل حضرة، وصارت الصور تحفظ بعضها بعضا. فإذا غفل العارف عن حضرة ما، أو عن حضرات - وهو شاهد حضرة ما، من الحضرات حافظ لما فيها من صورة خلقه انحفظت جميع الصور بحفظه تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل عنها.)
المراد بالحضرات إما الحضرات الخمس الكلية، وهي عالم المعاني والأعيان الثابتة، وعالم الأرواح، وعالم المثال، وعالم الشهادة، وعالم الإنسان الكامل الجامع بين العوالم.
وإما الحضرات العلوية السماوية والسفلية الأرضية وغيرها من العناصر.
وإنما يتحفظ (تلك الصورة)، إذا لم يكن العارف المتحقق بجميع المقامات والمتصف بكل الأسماء والحضرات غافلا عن تلك الصورة في حضرة مامنها، لأن ما يحصل في الوجود الخارجي لا بد وأن تكون له صورة أولا في الحضرة العلمية، ثم العقلية القلمية، ثم اللوحية، ثم السماوية والعنصرية وما يتركب منها.
فإذا كانت همته حافظة لتلك الصورة في حضرة من تلك الحضرات العلوية، تنحفظ تلك الصورة في الحضرات السفلية، لأنها روح الصور السفلية.
وإذا كانت حافظة إياها في الحضرات السفلية، ينحفظ في غيرها أيضا، لكون وجود المعلول مستلزما لوجود علته ووجود الصورة دليلا لوجود المعنى، وإن كانتهمته غافلة عنها، للزوم تطابق الصور بين الحضرات الإلهية.
ويؤيد ذلك أحوال أصحاب الكرامات إذا أخبروا عن حدوث أمر ما، أو زواله.
فإنهم يشاهدون ذلك أولا في الحضرات السماوية، ثم يوجد ما يشاهدون في الحضرات السفلية.
نعم، لو يغفل الكامل عن تلك الصورة في جميع الحضرات باشتغاله إلى غيرها، ينعدم حينئذ، وأما الغفلة عن جميع الحضرات فلا يمكن لأحد، سواء كان كاملا أو غير كامل.
(لأن الغفلة ما تعم قط، لا في العموم ولا في الخصوص).
أي، لا في عموم الخلائق ولا في خصوصهم، لأنهم لا بد أن يكونوا مشتغلين بأمر من الأمور التي هي مظاهر الأسماء الإلهية.
غايته أن العارف يعرف أن الأمور كلها مجالي ومظاهر للحق، وغيره لا يعرف ذلك.
فلا يمكن أن تعم الغفلة بحيث لا يكون الإنسان مشتغلا بحضرة من حضرات الحق، لا في عموم الحضرات، يعنى في جميعها، ولا في خصوصها، أي في حضرة خاصة. فهذا بالنسبة إلى الكامل.
وإما غيره، فقد يغفل عن حضرة خاصة وإن كان لا يغفل عن جميعها.
(وقد أوضحت هنا سرا لم يزل أهل الله يغارون على مثل هذا أن يظهر) وهو إيجاد العبد بهمته أمرا ما، وحفظه إياه عند عدم الغفلة عنه. وإنما يغارون عليهمن أن يظهر.
(لما فيه) أي، في ذلك السر من رد دعواهم أنهم الحق.
(من دعواهم أنهم الحق) أي، دعواهم أنهم متحققون بالحق، فانون فيه بفناء جهة عبوديتهم في الجهة الربوبية.
(فإن الحق لا يغفل، والعبد لا بد له أن يغفل عن شئ دون شئ، فمن حيث الحفظ لما خلق)
أي، فمن حيث إيجاده وحفظه لما أوجده. (له أن يقول: أنا الحق). إذا الخالق والحافظ هو الحق. ولما كان العبد لا يزال متميزا من الرب، بين الفرق بقوله: (ولكن ما حفظه لها حفظ الحق المبين). أي، ليس حفظ العبد لتلك الصورة كحفظ الحق لها.
(وقد بينا الفرق) أي، بين حفظ الحق وحفظ العبد. وهو أن العبد لا بد له من الغفلة عن بعض الحضرات، وحفظه لتلك الصورة فيها بالتضمن والتبعية. بخلاف الحق، فإن له الحضور دائما مع جميع الحضرات، إذ (لا يشغله شأن عن شأن.)
(ومن حيث ما غفل عن صورة ما) (ما) مصدرية.
أي، ومن حيث غفلته (عن صورة ما. وحضرتها).
أي، عن تلك الصورة الثابتة في حضرة من الحضرات وحضرتها.
(فقد تميز العبد من الحق، ولا بد أن يتميز مع بقاء الحفظ لجميع الصور لحفظه صورة واحدة منها في الحضرة التي ما غفل عنها. فهذا حفظ بالتضمن).
إذ حفظه لها حينئذ إنما هو بسبب حفظه صورة واحدة من تلك الصور التي في الحضرات وفي ضمن حفظها.
(وحفظ الحق ما خلق) أي، الذي خلق. (ليس كذلك، بل حفظه لكل صورة على التعيين). إذ لا يغفل عن شئ من الأشياء أصلا.
(فهذه مسألة أخبرت) أي، أخبروني في الكشف. (أنه ما سطرها أحد في
كتاب، لا أنا ولا غيري، إلا في هذا الكتاب، فهي يتيمة الوقت و فريدته. فإياك أن تغفل عنها).
أي، عن هذه المسألة وحقيقتها.
قوله: (فإن تلك الحضرة التي تبقى لك الحضور فيها مع الصورة مثلها) أي، مثل تلك الحضرة.
(مثل الكتاب الذي قال الله تعالى فيه: (ما فرطنا في الكتاب منشئ).) .
تعليل الوصية، وتشبيه تلك الحضرة بالكتاب الجامع الإلهي الذي قالتعالى فيه: (لا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).
وهو اللوح المحفوظ. فإن العارف إذا أعطى حق حضرة من الحضرات وتوجه بسره إلى معرفة أسرارها،يلوح منهما أسرار باقي الحضرات، فيكون تلك الحضرة بالنسبة إليه كالكتاب الجامع لكل شئ.
(فهو الجامع للواقع وغير الواقع).  وذلك الكتاب هو الجامع لكل ما وقع ويقع إلى الأبد.
(ولا يعرف ما قلناه إلا من كان قرآنا في نفسه). أي، كتابا جامعا للحقائق كلها في نفسه.
فإنه إذا عرف جمعيته وقرأ من كتاب حقيقته التي هي نسخة العالم الكبير جميع كلمات الله التي هي حقائق العالم مفصلا، عرف جمعية كل من الحضرات، وما أشرنا إليه من أن تلك الحضرة كالكتاب المبين بالنسبة إليه.
(فإن المتقى الله يجعل له فرقانا). أي، فإن الذي يتقى الله، يجعل الله له فرقانا.
وهذا تعليل مشتمل على التعليم. وهو أن من يتق الله ولم يثبت غيرا و لميشرك في ذاته وصفاته وأفعاله، يجعل الله له فرقانا، أي، نورا في باطنه فارقا بين الحق والباطل، ويعلم الحق ومراتبه وأحكامه في مواطنه ومقاماته.
وهو إشارة إلى قوله تعالى: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم ذنوبكم). وقوله: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب.)
وللتقوى مراتب : فإن تقوى العوام، الإتقاء عن النواهي. وتقوى الخواص، الإتقاء عن إسناد الكمالات إلى أنفسهم والأفعال والصفات إليها.
وتقوى الأخص من الكمل، الإتقاء عن إثبات وجود الغير مع الحق فعلا وصفة وذاتا.
وهذه مراتب التقوى لله. وهو قبل الوصول إلى مقام الجمع.
وأما مراتب التقوى بالله وفي الله، فهو إنما يكون عند البقاء بعد الفناء.
ولكل مرتبة من مراتب التقوى فرقان يلزمها. فأعظم الفرقانات ما يكون في مقام الفرق بعد الجمع.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهو مثل ما ذكرنا في هذه المسألة فيما يتميز به العبد من الرب. وهذا الفرقان أرفع فرقان). أي، ذلك الفرقان الحاصل من التقوى بالله وفي الله، هو مثل الفرقان الذي ذكرناه في هذه المسألة من تميز العبد من الرب.
وهذا الفرقان أرفع فرقان، لأن الحق هو الذي ظهر بصورة العبد، وأظهر فيه صفة الخالقية، فاشتبه على الخلق بأنه عبد أو حق. شعر
قال الشيخ رضي الله عنه : (فوقتا يكون العبد ربا بلا شك لأنه يظهر بالصفات الإلهية والربوبية، وإن كانت عرضية بالنسبة إليه. ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك) لأنه يظهر بصفة العجز والقصور.
والعبودية ذاتية للعبد بخلاف الربوبية، فإنها عرضية له.
وإنما قال: (ووقتا)لأنه كل ساعة في شأن: تارة في شؤون الكون، وتارة في شؤون الحق.
واعلم، أن لكل إنسان نصيبا من الربوبية.
وأما الربوبية التامة هيللإنسان الكامل، لأنه الخليفة، وكذلك له العبودية التامة. فلو تحمل هذه الأبيات على الكامل تكون صحيحا، وعلى غيره أيضا كذلك. فافهم.
(فإن كان عبدا، كان بالحق واسعا)
أي، فان ظهر العبد بصفة العبودية، كان واسعا بالحق قادرا على الأشياء بحوله و قوته، ولا يطالبه أحد بالصفات الكمالية التي للحق.
(وإن كان ربا كان في عيشة ضنك)
أي، في تعب وضيق، لأنه يطالب بالأشياء حينئذ فيعجز عن الإتيان بها
(فمن كونه عبدا يرى عين نفسه  ..... وتتسع الآمال منه بلا شك)
أي، يرى عين نفسه العاجزة وتتسع آماله إلى موجده.
(ومن كونه ربا يرى الخلق كله   ..... يطالبه من حضرة الملك والملك)
أي، من حضرة عالم الملك، بضم الميم، والملك، بفتح الميم وسكون اللام، وهو عالم الملكوت.
وإنما يطالبه أهل الملك والملكوت، لأنه خليفة عليهم، يجب عليه إيصال حقوق رعاياه وإعطاء ما يطلبون منه بحسب استعداداتهم.
(ويعجز عما طالبوه بذاته    ...... لذا ترى بعض العارفين به يبكى)
حذفت (التاء) للشعر، أو للتخفيف.
وفي بعض النسخ: (لذا كان بعض العارفين به يبكى.)
(فكن عبد رب لا تكن رب عبده فتذهب بالتعليق في النار والسبك)
أي، لا تظهر إلا بمقام العبودية، فإنه أشرف المقامات وأسلمها من الآفات.
قال رضي الله عنه : (لا تدعني إلا بيا عبدها. فإنه أشرف أسمائي).
ولا تظهر بمقام الربوبية، فإن الرب غيور، فيجعلك من أهل الويل والثبور، كما قال:
(العظمة إزاري والكبرياء ردائي. فمن نازعني فيهما، أدخلته النار.)
قوله: (فيذهب بالتعليق) أي، ملتبسا بالتعليق في النار. فـ (الباء) باء الملابسة، أو باء السببية.
أي، فتذهب بسبب تعلقك بالربوبية في النار، وتسبك فيها .

والله أعلم.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:11 am

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإسماعيلي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية    الجزء الأول

وإنما أسند الحكمة (العلية) إلى كلمة (إسماعيلية)، لأن الحق تعالى جعله مظهر الاسم (العلى). لذلك كانت همته عالية، وكان صادق الوعد بالوفاء
مع الحق في العهود السابقة والعقود اللاحقة. ولكونه عليا بالمرتبة، (كان عند ربهم رضيا).
أو لكونه، عليه السلام، وعاء لروحانية نبينا، صلى الله عليه وسلم، الذي هو مظهر الذات الجامعة ولها العلو الذاتي، قارن بين الحكمة العلية وبين كلمته.
ولما كان (العلى) اسما من أسماء الذات، شرع رضي الله عنه في بيان مرتبتها ، وهي أحديتها بحسب الذات، وكليتها بحسب الأسماء والصفات - في حكمته.
و أيضا وصفه الحق بكونه (عند ربه مرضيا) وليس إلا الاسم الذي يربه، فشرع في تقرير أحدية الذات وكثرة الأسماء والصفات التي هي الأرباب، ليكون كلمن الموجودات عند ربه مرضيا. فقال:
(اعلم، أن مسمى الله أحدي بالذات، كل بالأسماء). أي، لا كثرة في ذاته تعالى بوجه من الوجوه، بل هي أحدية الذات.
ولهذه الذات وجوه غير متناهية يجمعها الألوهية المقتضية للأسماء والصفات.
وهي المراد بقوله: (كل بالأسماء) أي، كل مجموعي بالنظر إلى الأسماء والصفات، فإن الحضرة الإلهية هي الذات مع جميع الصفات والأسماء.
(وكل موجود فماله من الله إلا ربه خاصة، يستحيل أن يكون له الكل. ولكل شخص اسم هو ربه. وذلك الشخص جسم، وهو قلبه).
أي، كل واحد من الموجودات العينية، غير الحقيقة الإنسانية، ليس له من مسمى الله باعتبار كونه كلا مجموعيا، إلا الاسم الذي يربه خاصة، وهو الوجه الخاص من الوجوه الإلهية. ويستحيل أن يكون له كل الأسماء والوجوه. وذلك لأن كل موجود مظهر لاسم معين، كليا كان أو جزئيا.
وذلك الاسم هو الذات مع صفة من صفاتها، لابحسب كل الصفات، فيكون ربه اسما خاصا، وإن كان الله باعتبار أحدية ذاته رب هذه الأرباب.
(وأما الأحدية الإلهية فما لأحد فيها قدم، لأنه لا يقال لواحد منها شئ والآخر منها شيء، لأنها لا تقبل التبعيض).
ليس المراد بـ (الأحدية الإلهية) مقامجمع الوجود المعبر عنه بقوله: (كل بالأسماء)، وإلا يلزم بطلان قوله: (وكل موجود، فماله من الله إلا ربه خاصه). بل المراد (الأحدية الذاتية).
ومعناه: لوكان في الأحدية الذاتية لواحد قدم، لزالت الأحدية، لأنها إنما تكون باستهلاك جميع الأشياء فيها، فلا يجوز أن يكون لواحد منها شئ ولآخر منها شئ لاستهلاك جميع الأسماء والصفات ومظاهرها فيها.
والهوية الإلهية، من حيث هي هي، أيضا في كل واحد من الموجودات، فلا يصدق عليها أيضا أنه لواحد منها شيء ولآخر منها شئ، وإلا يلزم أن يتبعض ويتجزى  (فأحديته مجموع كله بالقوة) بإضافة المجموع إلى (الكل).
أي فأحدية مسمى الله عبارة عن كون مجموع كل الأسماء التي هي الأرباب المتعينة بالقوة في الذات الإلهية.
وتذكير ضمير (كله) باعتبار المسمى، إذ الأسماء عين المسمى باعتبار.
ويمكن أن يقال: (فأحديته مجموع) جملة، على أن المجموع مرفوع غيرمضاف، و (كله بالقوة) جملة أخرى، والضمير عائد إلى (المجموع).
ومعناه: فأحدية مسمى الله من حيث الأسماء والصفات عبارة عن مجموع الأرباب المتعينة، وكل ذلك المجموع بالقوة في أحدية الذات الأحدية، فالأحدية هنا مغائر لأحدية الذات، لأنها حينئذ أحدية الجمع المسماه بـ (الواحدية) وأحدية الذات أحدية جمع الجمع. والأول أنسب.
(والسعيد من كان عند ربه مرضيا. وما ثم إلا من هو مرضى عند ربه، لأنه الذي تبقى عليه ربوبيته، فهو عنده مرضى، فهو سعيد .
لما بين أن لكل واحد من الموجودات ربا خاصا يربه يخصه، وهو نصيبه على حسب قابليته من رب الأرباب، شرع في بيان أن الكل سعيد عند ربه.
لأن السعيد إنما يطلق على من كان عند ربه مرضيا، وكل من الموجودات مرضى عند ربه، لأن كل ما يتصفبه ذلك الموجود من الأخلاق والأفعال فهو من الرب المتصرف فيه بالحقيقة، وهو راض عن فعله ومقتضاه، إذ لو لم يرض، لما صدر منه ذلك، لأنه غير مجبور فيه.
وإنما أظهر العبد بقابليته كمالاته وأفعاله، فيكون مرضيا عنده وسعيدا.
وإنما يتميز السعيد من الشقي، لأنه يعرف أن الأمر كذلك، فسعادته بعلمه ومعرفته.
ومن لم يعرف ذلك، وأضاف الأفعال إلى القوابل، بعد عن الراحة العظمى المثوبة الحسنى، فشقي، فشقاوته بجهله وعدم عرفانه.
وضمير (لأنه) يجوز أن يعود إلى (الرب). أي، لأن الرب هو الذي يبقى على مربوبه ربوبيته بإفاضتها عليه دائما. ويجوز أن يعود إلى (المربوب).
أي،لأن المربوب هو الذي يبقى على نفسه الربوبية بالقبول والاستفاضة من حضرة ربه. والأول أولى.
وما ذكره هو الشكل الأول من أشكال المنطق.
كما نقول: كل من الموجودات مرضى عند ربه، وكل من يكون مرضيا عند ربه، فهو سعيد، تنتج: أن كل واحد من الموجودات فهو سعيد.
(ولهذا قال سهل رضي الله عنه : إن للربوبية سرا - وهو (أنت) يخاطب كل عين.
أي، بقوله: (أنت). (لو ظهر) أي، لو زال.
قال صاحب الصحاح: يقال: هذا أمر ظاهر عنك عاره. أي زائل.
قال الشاعر:
وعيرها الواشون إني أحبها  .... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
قال رضي الله عنه : في المسائل المذكورة في الجلد الثاني من فتوحاته: و (ظهر) هنا بمعنى (زال). كما يقال: ظهروا عن البلد. أي ارتفعوا عنه).
وهو قول الإمام: للألوهية سر، لو ظهر، (لبطلت الربوبية ).
فأدخل عليه (لو) وهو حرف امتناع لامتناع). أي، ولأجل أن كلا عند ربه مرضى، قال سهل هذا القول.
لأن الأعيان الثابتة أسرار الربوبية، وسر الشئ مطلوب بالنسبة إليه، فهي مرضية عند أربابها.
واعلم، أن سر الشئ لطيفته وحقيقته المخفية. والربوبية نسبة تقتضي الرب والمربوب. و (الرب) اسم من الأسماء، وهو في الغيب مخفي أبدا.
والمربوب أيضا كذلك، وإن كانت صورته ظاهرة، لأن المربوب في الحقيقة هو العين الثابتة، وهي مخفية أبدا لا تظهر في الوجود. لذلك قال رضي الله عنه في موضع آخر: (بأنها ما شمت رايحة الوجود بعد).
وإليه الإشارة بقوله: (وهو أنت) أي، ذلك السر عينك الثابتة، فهما سران للربوبية.
وإنما اكتفى بقوله: (أنت) عن الرب، لأن المربوب الذي هو العين صورة ربه، فهو هو في الحقيقة لا غيره، وبالاعتبار يقع التغاير. ولو ظهر، أي لوزال السر الذي عينك، لبطلت الربوبية، لأن الربوبية لا تظهر إلا بالمربوب،فزواله موجب لزوالها.
فلا ينبغي أن يحمل (الظهور) هنا على معناه المشهور، وإلا يلزم بطلان قوله: (لو ظهر، لبطلت الربوبية.)إذ بظهوره تظهر ربوبية ربه.
كما قال الشيخ الأجل:
فلولاه ولو لأنا لما كان الذي كانا (وهو لا يظهر، فلا تبطل الربوبية، لأنه لا وجود لعين إلا بربه، والعين موجودة دائما، فالربوبية لا تبطل دائما).
أي، ذلك السر، الذي هو عينك لا يزول أبدا، فلا تزول الربوبية أبدا، إذ لا وجود للعين الموجودة في الخارج إلا بربها، والعين الموجودة دائمة في الخارج بحسب نشأتها الدنياوية والبرزخية والأخراوية، فالربوبية أيضا دائمة.
وضمير (بربه) عائد إلى (وجود العين) أو إلى (العين)، وتذكيره باعتبار أنه شئ.
(وكل مرضى محبوب) أي، بالنسبة إلى من يرضاه، لتعلق الإرادة والرضا
به. أو محبوب بالنسبة إلينا. ولما كانت الأفعال كلها من حضرة الأسماء، وهي محبوبات الذات ومطلوباتها لأنها كمالاتها، قال: (وكل ما يفعل المحبوب محبوب). أي، محبوب الذات الأحدية ومطلوبها. أو محبوب عبادة المحبين.
(فكله مرضى) أي، كل ما يفعل ويجرى في الوجود، فهو مرضى. (لأنه لا فعل للعين، بل الفعل لربها فيها). أي، ظاهر فيها. (فاطمأنت العين) أي،الموجودة. (أن يضاف إليها فعل، فكانت) أي العين. (راضية بما يظهر فيها وعنها من أفعال ربها). ويظهر ذلك الرضا بحسن التأني والقبول لظهور تلك الأفعال فيها، وتمكين ربها من إظهار كمالاته ومراداته فيها.
(مرضية تلك الأفعال، لأن كل فاعل وصانع راض عن فعله وصنعته، فإنه
وفى فعله وصنعته حق ما هي عليه). أي، وفي حق الصنعة التي هي عليها وأتقنها، كما اقتضت حكمته إياها. وذكر ضمير (عليه) باعتبار لفظة (ما).
لذلك قال تعالى: ("أعطى كل شئ خلقه ثم هدى". أي، بين أنه أعطى كل شئ خلقه، فلا يقبل) أي ذلك الشئ (النقص) عما هو عليه. (ولا الزيادة) على ما هو عليه.
لأنه تعالى خلقه باعتبار قبوله واستعداده الذي له في الأزل من غير زيادة ولانقصان. والمشية الإلهية اقتضت كذلك.
(فكان إسماعيل بعثوره، على ما ذكرناه، عند ربه مرضيا). أي، لما اطلع إسماعيل، عليه السلام، على أن كل ما يصدر من الأعيان الموجودة مرضى عند أربابها، وصفه الحق بقوله: (وكان عند ربه مرضيا).
وهذا تصريح على ما قلناه من أن السعادة إنما هي بسبب الاطلاع، والشقاوة بعدمه.
(وكذا كل موجود عند ربه مرضى). أي، سواء كان سعيدا أو شقيا.
(ولا يلزم إذا كان كل موجود عند ربه مرضيا على ما بيناه أن يكون مرضيا عند رب عبد آخر). ليكون عبد (المضل) مرضيا عند عبد (الهادي) أو بالعكس.
وهذا جواب سؤال مقدر. وهو أنه إذا كان كل موجود عند ربه مرضيا، فلم يحكم صاحب الشريعة بالسعادة والشقاوة. وهو ظاهر.
(لأنه ما أخذ الربوبية إلا من كل، لا من واحد) أي، لأن إسماعيل ما أخذ الربوبية إلا من كل مجموعي، وهو رب الأرباب، لا من واحد من تلك الأرباب. (فما تعين له)، أي لإسماعيل.
(من الكل إلا ما يناسبه) وما يناسب استعداده. (فهو) أي، ذلك المتعين من حضرة الأسماء. (ربه خاصة.) ويجوز أن يرجع ضمير (لأنه) إلى (كل موجود). أي، لأن كل موجود مايأخذ الربوبية إلا من حضرة الكل، حسبما يتعين له من حضرته مما يناسب استعداده وقابليته، ولا يأخذ جميع أنواع الربوبية من واحد حقيقي الذي هو رب الأرباب، ليلزم إنه إذا رضى من رب، ينبغي أن يرضى منه رب آخر. ف
(الواحد) هنا بمعنى (الأحد) كما قال: (مسمى الله، أحدي الذات كل بالأسماء.) ويؤيد هذا المعنى قوله: (ولا يأخذه أحد من حيث أحديته). أي، لا يقبل أحد ربامن حيث أحدية الحق، بل من حيث إلهيته. (ولهذا) أي، ولأن كل واحد من الموجودات ما يأخذ من الرب المطلق إلا ما يناسبه ويقبله، ولا يأخذ من جميعأنواع الربوبية  (منع أهل الله التجلي في الأحدية). أي، طلب التجلي من مقام الأحدية.
(فإنك أن نظرته به، فهو الناظر نفسه، فما زال ناظرا نفسه بنفسه). أي، لأنك إذا أدركت ذلك التجلي بالحق، فالحق مدرك نفسه لا أنت.
وقد كان مدركا نفسه عالما بها بنفسه أزلا.
(وإن نظرته بك، فزالت الأحدية). لأن الأحدية مع الإثنينية لا يمكن.
(وإن نظرته به وبك، فزالت الأحدية أيضا، لأن ضمير (التاء) في (نظرته) ماهو عين المنظور). أي، ليس عينه، بل هو عينك، فحصلت الإثنينية.
(فلا بد من وجود نسبة ما اقتضت أمرين: ناظرا، ومنظورا، فزالت الأحدية) لوجود الثنوية.
(وإن كان لم ير إلا نفسه بنفسه، ومعلوم أنه في هذا الوصف) أي الأحدية (ناظر منظور).
(إن) للمبالغة. أي، وإن كان لم يدرك نفسه ولم يشهد إياها إلابنفسه، فهو الناظر والمنظور، ولكن لا يخلو من النسب والاعتبارات في التجلي، وهو وجود المتجلي والمتجلى له.
(فالمرضي لا يصح أن يكون مرضيا مطلقا) ليس جواب الشرط، بل نتيجة قوله: (فما تعين له من الكل إلا ما يناسبه، فهو ربه). أي، إذا كان الفعل المرضى صادرا من رب معين، يكون مرضيا بالنسبة إليه، لأنه فعله، ولا يكون مرضيا مطلقا.
(إلا إذا كان جميع ما يظهر به من فعل الراضي فيه). أي، إلا إذا كان في المربوب الذي يظهر به الفعل المرضى استعداد فعل كل راض، ليظهر فيه ربهأ فعال الكل، فيكون الفعل حينئذ مرضيا مطلقا، لصدوره من مقام الجمع ومظهر الكمال المطلق.
كعين الإنسان الكامل القائل: (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ربنا رب السماوات والأرض).
وليس ذلك إلا رب الأرباب. ألاترى أن المؤمنين والكافرين كلهم كانوا راضين بأحكام النبي، صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وإن كان الكافر ينازع في نبوته.

(ففضل إسماعيل، عليه السلام، غيره من الأعيان بما نعته الحق به من كونه عند ربه مرضيا) ظاهر. 
وكذلك كل نفس مطمئنة قبل لها: (إرجعي إلى ربك).
فما أمرها أن ترجع إلا إلى ربها الذي دعاها فعرفته من الكل (راضية مرضية).
أي، وكذلك كل نفس اطمأنت وتركت الهوى واللذة الفانية، فهي راضية من ربها مرضية عنده.
كما قال تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية).
فأمرها أن ترجع إلى ربها الذي دعاها، أي، طلبها من الحضرة الإلهية الجامعة أن يكون مظهرا لكماله ومجلى لأنواره ومحلا لظهور سلطنته وأفعاله.
فعرفت تلك النفس المطمئنة ربها من بين الأرباب، فصارت راضية منه ومن أفعاله مرضية عنده.
(فادخلي في عبادي) من حيث ما لهم هذا المقام. فالعباد المذكورون هنا، كلعبد عرف ربه تعالى واقتصر عليه ولم ينظر إلى رب غيره مع أحدية العين لا بد منذلك).
(ما) في قوله: (من حيث ما لهم) زائدة. أي، فادخلي في زمرة عبادي الذين يعرفون أربابهم، وصاروا راضين مرضيين بهم وأفعالهم، واقتصروا على أربابهم، ولم ينظروا إلى غير أربابهم ولم يطلبوا إلا ما يفيض عليهم منهم مع أحدية الذات الإلهية الذي هو رب الأرباب كلها.
("وادخلي جنتي" التي هي ستري). بكسر السين.
أي، حجابي. وفي بعض النسخ: (بها سترى). بفتح السين.
واعلم، أن (الجنة) في اللغة عبارة عن أرض فيها أشجار كثيرة بحيث
يستر الأرض بظلها. مأخوذ من (الجن) وهو الستر. فالجنة مرة من (الجن) الذيهو (الستر).
وفي اصطلاح علماء الظاهر عبارة عن مقامات نزهة ومواطن محبوبة من الدار الآخرة، وهي جنة الأعمال والأفعال. وللعارفين جنات أخر غيرها.
وهي جنات الصفات، أعني، الاتصاف بصفات أرباب الكمال والتخلق بأخلاق ذي الجلال. وهي على مراتب، كما أن الأول على مراتب. ولهم جنات الذات.
وهي ظهور رب كل منهم عليهم واستتارهم عنده في أربابهم. هذه الجنات الثلاث للعبد.
وللحق أيضا جنات ثلاث، تقابلها، لذلك قال تعالى: (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي). فأضاف إلى نفسه.
فأول جناته، الأعيان الثابتة، لأنه بها يستر، فيشاهد ذاته بذاته من وراء أستار الأعيان الثابتة.
والثانية، استتاره في الأرواح بحيث لا يطلع عليه ملك مقرب ولا غيره.
والثالثة، استتاره في عالم الشهادة بالأكوان، ليشاهد عوالمه من وراء الاستتار بحيث لا يشعر عليه الأغيار.
وهذا بحسب استتار ذاته في الذوات في عوالمها، وكذلك استتاره بحسب الصفات والأفعال في صفاتها وأفعالها.
فالعارف إذا قيل له: (أدخل جنتي) لم يفهم منه إلا: أدخل ذاتك وعينك وحقيقتك، لتجدني فيها ويشاهدني بها. لأن مطلوبه الحق فقط. بخلاف غير العارف، فإن جنته ما فيه حظوظ نفسه
من المشارب والمآكل والمناكح وما يتعلق بها.
لذلك قال رضي الله عنه مترجما عن الحق:
(وليست جنتي سواك، فأنت تسترني بذاتك). وتكون وقايتي في ذاتي وصفاتي وأفعالي بذاتك وصفاتك وأفعالك.
(فلا أعرف إلا بك، كما أنك لا تكون إلا بي.) أي، لا أظهر في الأكوان إلا بك.
فإنك مرآة ذاتي ومجلي صفاتي ومحل تصرفي وولايتي، كما أنك لا توجد إلا بي، لأنك من حيث أنت عدم محض. (فمن عرفك عرفني). أي، من عرفك حق معرفتك، عرفني، فإن حقيقتك أنا. (وأنا لا أعرف، فأنت لا تعرف). أي، لا يمكن لأحد أن يعرف حقيقتي وكنه ذاتي، فأنت لا تعرف في الحقيقة.
قال الشيخ رضي الله عنه  في قصيدة له:
(ولست أدرك من شئ حقيقته ....    وكيف أدركه وأنتم فيه)
(فإذا أدخلت نفسك) وفي بعض النسخ: (فإذا دخلت) (جنته، دخلت نفسك، فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها.
فتكون صاحب معرفتين: معرفة به من حيث أنت، ومعرفة به بكمن حيث هو، لا من حيث أنت). أي، إذا دخلت جنته، دخلت نفسك وذاتك وشاهدت أسرارها وما فيها من أنوار الحق وذاته، فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها. أي، أن العبد إذا عرف نفسه ثم عرف بمعرفته إياها ربه، يكون صاحب معرفة واحدة.
وهي عرفان كأنك عاجز فقير منبع للنقائص والشرور، وأن ربك قادر غنى معدن الكمالات والخيرات.
أو عرفت أنك موصوف بالكمالات المعارة عليك عمن هي لله بالأصالة، فعرفت أن ربك صاحب الكمالات الذاتية.
أما إذا عرف ربه وعرف ظهوراته في المظاهر ثم رجع وتوجه إلى معرفة نفسه بربه، يعرفها معرفة أخرى أتموأكمل من الأولى، لأنه عرفها أنها مظهر من مظاهر ربها.
كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين سئل: بم عرفت ربك: (عرفت الأشياء بالله.)
فيكون صاحب معرفتين:
إحديهما، معرفة بالرب والنفس من حيث نفسك، وثانيهما، معرفة بالرب والنفس من حيث ربك لا من حيث نفسك.
والثانية هي الأتم من الأولى.
فضمير (به) في الموضعين يعود إلى (الرب).
وكان الأنسب أن يقول:
معرفة به وبك من حيث أنت - أي بالرب والنفس كما قال في الثانية - ومعرفة به وبك من حيث هو. والظاهر أنه حذفه اعتمادا لفهم السامع من قوله: (فإذا دخلت نفسك، فتعرف نفسك معرفة أخرى).
و (الباء) في (به) في الموضعين للصلة،وفي (بك) للسببية. أي، عرفته لسبب مظهريتك، لا من حيث إنك مغائره، بل من حيث إنك هو. أو تكون في(بك) للصلة، وفي (به) للسببية. أي، عرفت نفسك من حيث هو بسببه.
(فأنت عبد وأنت رب لمن له فيه أنك عبد)
أي، فأنت عبد للإسم الحاكم عليك والظاهر فيك الذي يربك من باطنك. وأنت رب لذلك الاسم الذي بعينه أنت عبد له وفي حكمه، تربه لقبول أحكامه وإظهار كمالاته فيك.
وذلك لأن لله تعالى ظاهرا وباطنا، والربوبية لهما ثابتة. فكما أن الباطن يرب الظاهر بإفاضة أنوار الغيب وإظهار أحكام الأسماء الإلهية الغيبية عليه.
كذلك الظاهر يرب الباطن باستفاضة تلك الأنوار وقبولها وإظهار تلك الأحكام في الأسماء الداخلة تحتها، وهي الموجودات العينية. فلكل من هذين الاسمين الجامعين ربوبية وعبودية، وكذلك للأسماء التي تحتهما ربوبية وعبودية. وما ثمة من يكون ربا على الإطلاق إلا الحضرة الإلهية من حيث وجوبها وغناها عن العالمين.
(وأنت رب وأنت عبد أي، أنت باعتبار الهوية الظاهرة فيك. وأنت عبد باعتبار تعينك وتقيدك.
لمن له في الخطاب عهد) أي، لرب له عهد في الخطاب.
وهو قوله تعالى: (ألست بربكم؟ قالوا بلى.).
ولا بد أن تعلم أن العهد السابق بين العبد والرب كلي وجزئي. فالكلي هو العهد الذي بين الاسم الجامع الإلهي، وبين العباد بأنهم يعبدونه بالأمر التكليفي والأمر الإرادي بحسب كل اسم حاكم عليهم. والجزئي هو العهد الذي بين كل واحد من الأسماء، وبين كل من عبيدها.
وهذه العهود الجزئية لايمكن نقضها في الوجود، ولا الكلى الإرادي، وإن كان ينقض العهد الكلى التكليفي بالاحتجاب عن الفطرة الأصلية بالغواشي الطبيعية الموجبة للكفر والعصيان، وإن كان العبد فيه أيضا عابدا للإسم (المضل). كما قال تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه".
فالكل عباد الله ويعبدونه من حيث الأسماء الحاكمة عليهم.
(فكل عقد عليه شخص يحله من سواء عقد)
(العقد) هنا بمعنى (العهد). كقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود." أي، بالعهود السابقة. أي، لكل عقد عليه شخص من الأشخاص، وهو (العهد) الذي بينه وبين ربه الخاص به.
يحل ذلك العهد والعقد من له عهد معربه الخاص به، يخالف حكمه حكم ذلك الرب، كعبد (الرحيم) مثلا، فإنه يخالف عبد (القهار) و (المنتقم)، ويحل عقده.
فجاء بلفظ (الحل) مناسبةللعقد. أو بمعنى العقيدة. أي، كل شخص على عقيدة يخالفه من له عقيدة غيرها.
وفاعل (يحله) (من). أي، يحله من له عقيدة سواه. ويجوز أن يكون (عقد) فاعلا. أي، يحله عقد حاصل له من سواه. ف (من) مكسورة الميم حينئذ.
(فرضي الله عن عبيده، فهم مرضيون). لأنهم أظهروا مقتضيات أسمائه وأحكامها، فصاروا مرضيين عنده.
(ورضوا عنه، فهو مرضى). أي، رضوا عن الله لإعطائه ما طلبوا منه من الإيجاد في العين وإظهار كمالاتهم التي كانت في كتم العدم مخفية عن أيدي الأسماء. فالحق مرضى منهم.
وقوله تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر). وعدم رضا الحق ونهيه من المعاصي إنما هو من حيث الأمر التكليفي: فإنه تعالى كلف عباده بالإيمان والطاعة، فلا يرضى الكفر والمعصية. وأما منحيث الإرادة، فالرضا حاصل، لأنهم أتوا بما أراد الله منهم.
(فتقابلت الحضرتان، تقابل الأمثال، والأمثال أضداد، لأن المثلين حقيقة لايجتمعان، إذ لا يتميزان).
الحضرتان، هما حضرة الربوبية، وحضرة العبودية.
وإنما تقابلتا تقابل الأمثال، لأنهما يتشاركان في الوجود الإلهي، وفي الربوبية والعبودية، كما مر آنفا، ويختلفان في التعين والاعتبار.
وأيضا كل من الحضرتين في كونهما راضية مرضية مماثل للأخر، في تقابلهما تقابل الأمثال، وتقابل الأمثال عبارة عن تباينها وتمايزها مع اتحادها وتشاركها في حقيقة واحدة.
وإنما جعل الأمثال أضدادا، لأنها لا يجتمع كالأضداد، لأن المثلين من حيث تباينهما مع اشتراكهما في حقيقة جامعة لهما يصيران مثلين، فلا يجتمعان، إذلو اجتمعا، لكانا غير متميزين، لكن كل ما في الوجود من الأغيار متميزة عن غيره.
وإليه أشار بقوله: (وما ثمة إلا متميز.)
ولما أثبت أولا وجود الأمثال والأضداد باعتبار الكثرة، أراد أن ينفيها باعتبار الوحدة الذاتية والوحدة العرضية،
فقال: (فما ثم مثل، فما في الوجود ضد، فإن الوجود حقيقة واحدة، والشئ لا يضاد نفسه). أي، إذا كان ما في الوجود متميزا عن غيره بما هو هو، فليس في الخارج لشئ مثل من كل الوجوه وإذا لم يكنفي الخارج لشئ مثل، لا يكون في مطلق الوجود أيضا مثل، لأن ما في العقل أيضا ممتاز بتعينه المعنوي عن غيره.
وإذا لم يكن في العقل ولا في الخارج مثل، لا يكون فيهما أيضا ضد، إذ بتحققه يتحقق المثل، فإن كلا من الضدين مماثل للآخر في الضدية.
وأيضا، كل من الضدين بحسب الحقيقة يرجع إلى الوجود المطلق، وهو حقيقة واحدة، والضدان عبارة عن حقيقتين مختلفتين متساويتين في القوة والضعف، والحقيقة الواحدة لا يمكن أن يضاد لنفسه.
وتلخيصه أن الحضرتين المتقابلتين لهما اعتباران:
إعتبار الحقيقة الجامعة بينهما، واعتبار التغاير. فباعتبار وحدة حقيقتهما، لا تماثل بينهما ولا تضاد، فلا ربوبية ولا عبودية بينهما.
وباعتبار التغاير، بينهما تماثل وتضاد، فالربوبية والعبودية حاصلة، فالحكم بوجودهما باعتبار الكثرة صحيح، وبعد مهما باعتبار الوحدة صحيح.
والأول يناسب العالم،
والثاني يناسب الوجود الحق.
(فلم يبق إلا الحق لم يبق كائن فما ثم موصول ولا ثم بائن)
(بذا جاء برهان العيان فلا أرى بعيني إلا عينه إذ أعاين)
أي، إذا ارتفع الأمثال والأضداد وظهرت وحدة الوجود، فلم يبق إلا الحق، وفنى العالم فيه لاقتضائه الكثرة. فما ثم واصل ولا موصول ولا بائن، أي مفارق، لاستهلاك الكل في عين الوحدة الحقيقية.
قوله: (بذا جاء) أي، بما ذكر يشهد برهان العيان والكشف. (فما أرى بعيني) أي، بعين البصر والبصيرة، أو بعيني البصر، إلا عين الحق وذاته حينأ عاين وأشاهد الموجودات في العقل وفي الخارج.
قوله: ("ذلك لمن خشى ربه". أن يكون هو لعلمه بالتميز). تتميم الآية.
ولما تكلم (رض) في مقام الجمع، شرع يتكلم في مقام الفرق بعد الجمع، لأن المحقق هو الذي يعطى حق المقامات كلها، لتكون عقيدته هيولى الاعتقادات، ولا يقف في شئ منها وإلا يكون مقيدا.
فقوله: (ذلك) إشارة إلى قوله تعالى: "رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه".
أي، ذلك المقام، الذي هو مقام الرضا عنهم، لا يحصل إلا لمن خشي ربه وانقاد حكمه بقيامه في مقام عبوديته، لعلمه بتميز مقامه عن مقام ربه.
فإن (الخشية) هي التواضع والتذلل لعظمة الرب. ولا يظهر بمقام الربوبية، ليكون عين ربه، فيدعى أنه هو. كما ظهر به أرباب الشطح.
قال تعالى معاتبا للمسيح وتنبيها للعباد: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟) والفرق بين المحقق وبين أهل الشطح: إذا ظهر كل منهما مقام الربوبية، إن المحقق لا يظهر به إلا وقتا دون وقت، إعطاء لحق المقام لا عنغلبة حكم الوحدة عليه.
ولو قيل له عند ظهوره به: إنك عبد. يقربه ويرجع إليه عن مقام الربوبية. وأهل الشطح لكونهم مغلوبين بحكم المقام، لا يقدرونعلى الرجوع، فتأخذهم الغيرة بالقهر .
(دلنا على ذلك، جهل أعيان في الوجود بما أتى به عالم) أي، دلنا على ذلك العلم بالتميز بين المقامين، جهل بعض أعيان الموجودات بما أتى به عين العلم بالله من التميز بين مقام الربوبية والعبودية تارة، والظهور بالربوبية أخرى، مع مراعاة الأدب.
وهذا كما يقال: (تعلمت الأدب ممن لا أدب له.) وفي بعض النسخ: (لما دلنا).
وجوابه: (فقد وقع التميز بين العبيد، فقد وقع التميز بين الأرباب).
فإن التميز بين العبيد معلول للتمييز بين الأرباب، و وجود المعلول يدل على وجود علته، فوقع التميز بين الأرباب وبين عبيدها أيضا،لأن العلل مغائرة لمعلولاتها.
(ولو لم يقع التميز، لفسر الاسم الواحد الإلهي من جميع وجوهه بما يفسربه الآخر. و (المعز) لا يفسر بتفسير (المذل)، إلى مثل ذلك). معناه ظاهر.
(لكنه هو من وجه الأحدية، كما تقول في كل اسم إنه دليل على الذات وعلى حقيقته من حيث هو، فالمسمى واحد: فالمعز هو المذل من حيث المسمى، والمعزليس المذل من حيث نفسه وحقيقته، فإن المفهوم يختلف في الفهم في كل واحد منهما.) 
أي، لكن (المعز) هو (المذل) من وجه أحدية ذات الحق، لأن كل اسم دال على الذات الأحدية، إذ الاسم عبارة عن ذات مع صفة خاصة.
فالمسمى، الذي هو الذات، واحد في الكل، والصفات مختلفة، ومفهوم كل واحد من (المعز) و
(المذل) مختلف. لأنه إن اعتبر مجموع الذات والصفة في مفهوم كل من الأسماء،فقد وقع الاختلاف، وإن اعتبر الجزء الذي به يقع التميز، فقد وقع الاختلاف أيضا، وإن اعتبر الذات فقط، فمسمى الكل منهما عين مسمى الآخر.
(فلا تنظر إلى الحق  .... فتعريه عن الخلق)
هذا تفريع على قوله:  (لكنه هو من وجه الأحدية). أي، لا تنظر إلى الحق بأن تجعله موجودا خارجيا مجردا عن الأكوان منزها عن المظاهر الخلقية عاريا عنها وعن صفاتها.
(ولا تنظر إلى الخلق  .... وتكسوه سوى الحق)
بأن تجعل الخلق مجردا عن الحق مغائرا له من كل الوجوه، وتكسوه لباس الغيرية.
وقد قال تعالى: (وهو معكم أينما كنتم). بل أنظر إلى الحق في الخلق،
لترى الوحدة الذاتية في الكثرة الخلقية، وترى الكثرة الخلقية في الوحدة الذاتية.
(ونزهه وشبهه   ..... وقم في مقعد الصدق)
أي، نزه الحق الذي في الخلق بحسب مقام أحديته عن كل ما فيه شائبة الكثرة الإمكانية والنقصان. وشبهه أيضا بكل صفات كمالية، كالسمع والبصر والإرادة والقدرة.
فإنك إذا جمعت بين التنزيه والتشبيه، كما هو عادة الكاملين، فقد قمت مقام الصدق، وهو مقام الجمع بين الكمالين.
(وكن في الجمع إن شئت ......  وإن شئت ففي الفرق)
أي، إذا علمت وحدة الحقيقة الوجودية، وأن الخلق حق من وجه وأن الحق خلق من وجه بحكم مقام المعية، وأن الخلق خلق وأن الحق حق في مقام الفرق، وأن الكل حق بلا خلق في مقام الجمع المطلق، وأن الكل خلق بلا حق في مقام الفرق المطلق، وتحققت بهذه المقامات، فكن إن شئت في مقامات الجمع، وإن شئت في مقامات الفرق. فإنه لا يضرك حينئذ، وأنت مخلص موحد.
(تحز بالكل، إن كل  ..... تبدى قصب السبق)
أي، إذا كنت على ما وصفته لك، فحينئذ إن تبدى كل من العبيد وقصد قصب السبق، تحز كل كمالاتهم، فإنك مع كل من سبق حينئذ، ومع كل منلحق أيضا، لأنك قائل بكل المراتب عابد لله فيها جميعا.
فقوله: (تحز) جواب الشرط، وهو قوله: (إن كل تبدى). لذلك حذف (الواو).
فإنه من (حاز، يحوز) إذا جمع. ويجوز أن يكون تخرجوا بالأمر. أي،نزهه وشبهه، وقم في مقام الجمع الذي هو المقعد الصدق، وكن في مقام الجمع والفرق، فحز في كل الكمالات.
فجواب: (إن كل تبدى) محذوف. تقديره: إن كل تبدى قصب السبق، كن حائزا إياه.
(فلا تفنى ولا تبقى  ….. ولا تفنى ولا تبقى)
أي، إذا علمت أن الخلق حق في الحقية والحق لا يفنى أبدا، علمت أنك من جهة الحقية لا تفنى. وإذ علمت أن الحق له ظهورات في مراتبه المختلفة بحسب تنزلاته ومعارجه وبتلك الظهورات تحصل المظاهر الخلقية، وليس كل منها دائما، علمت أنك لا تبقى من حيث الخلقية، بل تتبدل إنياتك في كل آن بحسب المواطن التي تنزل إلى النشأة الدنياوية، وفيها وفي مواطن الآخرة أيضا، كما قال تعالى: "بل هم في لبس من خلق جديد". 
وإذا علمت أن الحق أزلا وأبداظاهر في كل المراتب لا تفنى الأعيان الوجودية مطلقا لأنها مظاهره فيها، ولا تبقيها أيضا مطلقا لفنائها واستهلاكها دائما في عين الوجود الحق عند تجلى الواحد القهار يوم القيامة، كما قال تعالى: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار".
ولا تفنيها من حيث تعيناتها، فإنها فانية في الأزل ولا تفنيها من حيث حقيقتها، فإن الحق باق لميزل، لذلك قيل:
الفاني فان لم يزل  ….. والباقي باق في الأزل
(ولا يلقى عليك الوحي  ….. من غير ولا تلقى)
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي    شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:12 am

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإسماعيلي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية   الجزء الثاني
أي، إذا لم يكن في الوجود غير الله في الحقيقة، فالوحي الذي يلقى إليك من جهة عبوديتك لا يكون ملقى في حق الغير، بل يكون ملقى على نفسه من مقام جمعه على مقام تفصيله.
ولا تلقى أنت أيضا ذلك الوحي بربوبيتك، إلا في حق نفسك، فإن العباد كلها مظاهر حقيقتك، وأنت مقام جمعهم وهم تفاصيلك.
(الثناء بصدق الوعد، لا بصدق الوعيد. والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات، فيثنى عليها بصدق الوعد، لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز).
لما أثنى الحق على إسماعيل، عليه السلام، بصدق الوعد، شرع يبين في حكمه وأسراره، كما بين أسرار (الرضا).
والثناء عقلا وعادة لا يكون إلا في مقابلة خيرات المثنى عليه، لا في مقابلة الشرور، إذ لا يثنى على من يحصل منه الضرر النقم، بل على من يحصل منه النفع والنعم.
فمن وعد بالخير وأنجز وعده، يثنى عليه بذلك. ومن أوعد، فلا يثنى عليه بذلك الإيعاد، إلا إذا عفا وتجاوز عن إيعاده. والذات الإلهية لكونها منبع الخيرات ومعدن المسرات، تطلب بالذات الثناء من العبيد، حيث أخرجهم من العدم إلى الوجود، وكساهم بحلل الكمالات، وجعلهم مظاهر الأسماء والصفات. والشرور أمور إضافية لكونها عبارة عن عدم ملائمتها للطبائع.
فكون الشر شرا ليس بالنسبة إلى الذات، كما نبه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في دعائه: (والخير كله إليك، والشر ليس إليك).
قال الله تعالى: "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك". بل بالنسبة إلى ذاته تعالى كلها خير، لأنها وجودات خاصة، ظهرت فيهذه المظاهر.
لذلك أردفه بقوله تعالى: "قل كل من عند الله".
أي، الحسنات المنسوبة إلى الله والسيئات المضافة إلى نفسك، كلها صادرة من عند الله.
فهي خيرات في أنفسها، لذلك صارت مقتضى أسماء الله، وإن كان بعضها شرورا بالنسبة إليك.
(فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله). ولم يقل: ووعيده.
بل قال: (ويتجاوز عن سيئاتهم). مع أنه توعد على ذلك).
وهذا (التجاوز) عام بالنسبة إلى أهل الجنة والنار. أما بالنسبة إلى أهل الجنة، فظاهر: حيث تجاوز عن ذنوب وجوداتهم وصفاتهم وأفعالهم.
كما قال: (فقلت: وما أذنبت؟ قالت مجيبة: وجودك ذنب لايقاس به ذنب). وأما بالنسبة إلى أهل النار من المؤمنين، فـ بالإخراج بشفاعة الشافعين.
وبالنسبة إلى الكافرين يجعل العذاب لهم عذبا: أو برفعه مطلقا، كماجاء في الحديث: (ينبت في قعر جهنم الجرجير).
وإن كانوا خالدين فيها. أو بإعطائهم صبرا على ما هم عليه من البلايا والمحن، في تألفوا به، فلا يتألمون منهبعد ذلك - على ما سيأتي آنفا إنشاء الله تعالى.
(فأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد). وذلك لوفائه على العهود السابقة بإبراز الكمالات المودعة فيه وبعبادة ربه بحيث صار مرضيا عنده.
(وقد زال الإمكان في حق الحق لما فيه من طلب المرجح). أي، وقد زال فيحق الحق إمكان وقوع الوعيد، إذ لا شك أن الحق تعالى وعد بالتجاوز فقال: (ويتجاوز عن سيئاتهم).
وقال: "إن الله يغفر الذنوب جميعا".، "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء".
(ويعفوا عن كثير) من السيئات. وأمثال ذلك. ووقوع وعده واجب، وهو التجاوز والعفو والغفران. فزال إمكان وقوع الوعيد، لأن وقوع أحد طرفي الممكن لا يمكن إلا بمرجح، وما ثم ما يطلب الوعيد إلا الذنب، وهو يرتفع بالتجاوز، فزال سبب وقوع الوعيد، وعدم العلة موجب لعدم المعلول. والوعيد إنما كان للتخويف والاتقاء ولإيصال كل منهم إلى كما لهم، لذلك قال تعالى: "وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ولعلهم يتقون".
وقال بعض أهل الكمال:
وإني إذا أوعدته أو وعدته .... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
إذ لا يثنى بالوفاء بالإيعاد، بل بالتجاوز عنه، ويثني بالوفاء بالوعد. وحضره الحق تعالى طالب الثناء، فوجب إتيانه بما وعده من العفو والمغفرة والتجاوز، وانتفى إمكان وقوع ما أوعد به. وفيه أقول:
يا من بلطف جماله خلق الورى  ....  حاشاك أن ترضى بنار تحرق
أنت الرحيم بكل من أوجدته  .....  ولأجل رحمتك العميمة تخلق
إن كنت منتقما فأنت مؤدب .....  ومعذبا إن كنت أنت المشفق
فاجعل عذابك للعباد عذوبة  ..... وارحم برحمتك التي قد تسبق

وإنما قال(في حق الحق) ولم يقل: في حق الخلق، لأن زوال الإمكان إنما هو بسبب التجاوز والعفو، وهو من طرف الحق لا الخلق.
فإن اختلج في قلبك أن الشرك لا يغفر، فيجب وقوع ما أوعده، فضلا عن إمكانه، فسيأتي بما يتبين عندك الحق بعد شرح الأبيات.
(فلم يبق إلا صادق الوعد وحده  .....  وما لوعيد الحق عين تعاين)
أي، إذا زال سبب الوعيد، فلم يبق إلا تحقق الوعد وحده، لأنه صادق في وعده.
وما بقى لوعيد الحق (عين تعاين) على البناء للمفعول لزوالها بالمغفرة والعفو فيحق العاصين. وأما في حق الكافرين والمنافقين، لانقلاب عذابهم بنعيم يناسبهم.
كما قال : (وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها) أي في تلك الدار (نعيم مبائن) أي، لنعيم الجنان.
فإن نعيم النفوس الطيبة لا يكون إلا بالطيبات، ونعيم النفوس الخبيثة لا يكون إلا بالخبيثات. كالتذاذ الجعل بالقاذورات وتألمه بالطيبات.
قال تعالى: "الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات والخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات."
(نعيم جنان الخلد فالأمر واحد  ..... وبينهما عند التجلي تباين)

فإن نعيم النفوس الطيبة لا يكون إلا بالطيبات، ونعيم النفوس الخبيثة لا يكون إلا بالخبيثات. كالتذاذ الجعل بالقاذورات وتألمه بالطيبات.
قال تعالى: "الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات والخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات."
(نعيم جنان الخلد فالأمر واحد  ..... وبينهما عند التجلي تباين)
(نعيم) منصوب على أنه مفعول (المبائن). أي، مبائن لنعيم جنات الخلد.
قوله: (فالأمر واحد) - إلخ إشارة إلى أن التجلي الإلهي على السعداء والأشقياءفي الأصل ليس إلا واحد، كقوله: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر).
والتعدد والتباين إنما يقع بحسب القوابل، وكل منها يأخذ بحسب استعداده وقابليته، كماء واحد نزل من السماء فصار في موضع سكرا وفي موضع حنظلا.
(يسمى عذابا من عذوبة طعمه  .... وذلك له كالقشر والقشر صائن)
أي، يسمى ذلك النعيم الذي لأهل الشقاء عذابا، لعذوبة طعمه بالنسبة إليهم.
فإن (العذاب) مأخوذ من (العذب) في الأصل، وذاك، أي لفظ العذاب، له،أي للعذب، كالقشر، والقشر صائن للبه من الآفات.
فلفظ (العذاب) يصون معناه عن إدراك المحجوبين الغافلين عن حقائق الأشياء.
أو يكون (ذاك) إشارةإلى نعيم أهل النار، أي، ذلك النعيم كالقشر لنعيم أهل الجنة، إذ (الجنة حفت بالمكاره).
ألا ترى أن التبن نعيم الحيوان والبر المحفوظ به نعيم الإنسان.
وبعد أن فرعنا من حل تركيبه وبيان معناه، فلنشرع في تحقيقه ومبناه، لأنهمن أهم المهمات، وقليل من يعرف أصول هذه المقامات. 
فنقول: اعلم، أن المقامات الكلية الجامعة لجميع العباد في الآخرة ثلاث - وإن كان كل منها مشتملا على مراتب كثيرة لا تحصى : وهي الجنة، والنار، والأعراف الذي بينهما. على ما نطق به الكلام الإلهي. 
ولكل منها اسم حاكم عليه، يطلب بذاته أهل ذلك المقام، لأنهم رعاياه وعمارة ذلك الملك بهم. و (الوعد) شامل للكل، إذ وعده في الحقيقة عبارة عن إيصال كل واحد منا إلى كماله المعين له أزلا.
فكما أن الجنة موعود بها، كذلك النار والأعراف موعودان بهما. والإيعاد أيضا شامل للكل، فإن أهل الجنة يدخلون الجنة بالجاذب والسائق.
قال تعالى: "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد". والجاذب المناسبة الجامعة بينهما بواسطة الأنبياء والأولياء.
والسائق الرحمن بالإيعاد والابتلاء بأنواع المصائب والمحن والبلاء. كما أن الجاذب إلى النار المناسبة الجامعة بينهما وبين أهلها، والسائق الشيطان، فعين الجحيم (موعود) لهم، لا (متوعد) بها. 
و (الوعيد) هو العذاب الذي يتعلق بالاسم (المنتقم). وتظهر أحكامه في خمس طوائف لا غير، لأنأهل النار إما مشرك، أو كافر، أو منافق، أو عاص من المؤمنين - وهو ينقسم بالموحد العارف الغير العامل والمحجوب.
وعند تسلط سلطان المنتقم عليهم، يتعذبون بنيران الجحيم، كما قال تعالى: "أحاط بهم سرادقها ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ولا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون".
وقال: (إنكم ماكثون اخسئوا فيها ولا تكلمون).
فلما مر عليهم السنون والأحقاب واعتادوا بالنيران ونسوا نعيم الرضوان، قالوا: "سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص".
فعند ذلك تعلقت الرحمة بهم ورفع عنهم العذاب، مع أن العذاب بالنسبة إلى العارف الذي دخل فيها، بسبب الأعمال التي تناسبها، عذب منوجه، وإن كان عذابا من وجه آخر.
كما قيل: وتعذيبكم عذب وسخطكم رضى وقطعكم وصل وجوركم عدل لأنه يشاهد المعذب في تعذيبه، فيصير التعذيب سببا لشهود الحق، وهو أعلى ما يمكن من النعيم حينئذ في حقه.
وبالنسبة إلى المحجوبين الغافلين عن اللذات الحقيقية أيضا عذب من وجه.
كما جاء في الحديث: (إن بعض أهل النار يتلاعبون فيها بالنار).
والملاعبة لا ينفك عن التلذذ وإن كان معذبا، لعدم وجدانه أنه ما أمن به من جنة الأعمال التي هي الحور والقصور.
وبالنسبة إلى قوم يطلب استعدادهم البعد من الحق والقرب من النار، وهذا المعنى بجهنم أيضا عذب، وإن كان في نفس الأمر عذابا. 
كما يشاهد هنا ممن يقطع سواعدهم ويرمى أنفسهم من القلاع، مثل بعض الملاحدة.
ولقد شاهدت رجلا سمر في أصول أصابع إحدى يديه خمسة مسامير غلظ، كل مسمار مثل غلظ القلم، واجتهد المسمر ليخرجه من يده، فما رضى بذلك وكان يفتخر به، وبقى على حاله إلى أن أدركه الأجل.
وبالنسبة إلى المنافقين الذين لهم استعداد الكمال واستعداد النقص، وإن كان أليما لإدراكهم الكمال أو عدم إمكان وصولهم إليه، لكن لما كان استعداد نقصهم أغلب، رضوا بنقصانهم، وزال عنهم تألمهم بعد انتقام المنتقم منهم بتعذيبهم، وانقلب العذاب عذابا.
كما نشاهد ممن لا يرضى بأمر خسيس أولا،ثم إذا وقع فيه وابتلى به وتكرر صدوره منه، تألف به واعتاد، فصار يفتخر به بعدأن كان يستقبحه.
وبالنسبة إلى المشركين الذين يعبدون غير الله من الموجودات، فينتقم منهم المنتقم، لكونهم حصروا الحق فيما عبدوه وجعلوا الإله المطلق مقيدا.
وأما من حيث إن معبودهم عين الوجود الحق الظاهر في تلك الصورة، فما يعبدون إلا الله، فرضي الله عنهم من هذا الوجه، فينقلب عذابهم عذابا في حقهم.
وبالنسبة إلى الكافرين أيضا وإن كان العذاب عظيما، لكنهم لم يتعذبوا به، لرضاهم بما هم فيه، فإن استعدادهم يطلب ذلك، كآلأتوني الذي يفتخر بما هوفيه. وعظم عذابه بالنسبة إلى من يعرف أن وراء مرتبتهم مرتبة، وأن ما هم فيه عذاب بالنسبة إليها.
وأنواع العذاب غير مخلد على أهله من حيث إنه عذاب، لانقطاعه بشفاعة الشافعين. وآخر من يشفع وهو أرحم الراحمين.
كما جاء في الحديث الصحيح: (لذلك ينبت الجرجير في قعر جهنم).
لانقطاع النار وارتفاع العذاب، وبمقتضى (سبقت رحمتي غضبي). فظاهر الآيات التي جاء في حقهم التعذيب كلها حق.
وكلام الشيخ رضي الله عنه: لا ينافي ذلك، لأن كون الشئ من وجه عذابا لا ينافي كونه من وجه آخر عذبا.
وإنما بسطت الكلام هنا، لئلا ينكر على هذا الخاتم المحمدي، صلى الله عليه وسلم، فيما أخبر.
فإن الأولياء، رضوان الله عليهم، ما يخبرون إلا عما يشاهدون يقينا من أحوال الاستعدادات في الحضرة العلمية وعوالم الأرواح والأجساد، لعلمهم بالحقائق وصورها في كل عالم.
والله علم بالحقائق.
تم الفص الإسماعيلي
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:13 am

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليعقوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية   الجزء الأول

الظاهر أن ( الروح ) - مفتوح الراء الذي هو الراحة - أورده ملاحظا لقوله
تعالى من لسان يعقوب عليه السلام : "يا بنى إذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه  ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون".
كما ذكر في حكمة كل نبي ما جاء في حقه في التنزيل . لأنه يبين في هذه الحكمة أحوال ( الدين ) من الانقياد والجزاء والعادة ، وبكل منها تحصل الراحة الحقيقية ويترتب عليه الروح الدائم السرمدي .
إما بالانقياد ، فظاهر ، لأن من أنقاد لأوامر الحق وانتهى عن نواهيه واستسلم وجهه إلى الله تعالى ، نال الراحة العليا ووجد الراحة القصوى .
وإما بالجزاء ، فلأنه إذا عرف الإنسان أن الجزاء يترتب على أعماله وهي من مقتضيات ذاته واستعداداته - وإن كان وجودها من الله وخلقها - تحصل له الراحة العظيمة أيضا ، لأنه يعلم أن ما أعطاه الله تعالى مما له وعليه من نفسه وذاته ، فلا يحمد إلا نفسه ، ولا يؤاخذ إلا نفسه - كما قال في هذا الفص - بل هو  منعم ذاته ومعذبها ، فلا يذمن إلا نفسه ولا يحمدن إلا نفسه .
وأما العادة ، أيضا فظاهر ، لأن الإنسان إذا اعتاد بشئ ، يستلذ منه ويجد الراحة .
ويمكن أن يكون ( الروح ) مضموم الراء . لأن المعاني الثلاث التي هي  مفهومات ( الدين ) كلها من شان الروح المدبر للبدن ، فحصل التناسب بينهما وإليه مال شيخنا المحقق ( رض ) في فكوكه .
وتخصيصها ب‍ ( الكلمة اليعقوبية ) بأنه ، عليه السلام ، كان يعلم علم الأنفاس والأرواح ، وكان كشفه روحانيا ، لذلك قال : " لا تيأسوا من روح الله " . فإنه كان يجد في مقام روحه بقاء يوسف وأخيه وجدانا إجماليا ، كما قال : " إني لأجد ريح يوسف " .
ولا يجده عيانا تفصيليا ، لذلك : " ابيضت عيناه من الحزن " والله أعلم .
قال رضي الله عنه : ( الدين دينان : دين عند الله وعند من عرفه الحق تعالى ومن عرفه من عرفه الحق ، ودين عند الخلق ، وقد اعتبره الله . فالدين الذي عند الله هو الذي اصطفاه الله وأعطاه الرتبة العلية على دين الخلق . 
فقال تعالى : ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) . أي ، منقادون إليه ) .
اعلم ، أن ( للدين ) لغة مفهومات يطلق عليها بالاشتراك . وقد اعتبر في نقله إلى الشرع هذه المفهومات الثلاث كلها . لأن الانسان ما لم ينقد لأحكام الله ظاهرا وباطنا ولم يعتد بالإتيان بالأوامر والانتهاء عن النواهي ولم يعتقد جزاء الأعمال ولم يصدق يومه وكون الحق مثيبا للمحسنين ومعاقبا للكافرين والعاصين ، لم يكن مؤمنا بالحق ونبيه ، ف‍ ( الدين ) شرعا جامع للمعاني الثلاث .
وهو لا يخلو إما أن يصدر من حضرة الجمع الإلهي بإرسال الأنبياء ، عليهم السلام ، وإما من حضرة التفصيل .
والأول هو الذي اصطفاه الله تعالى ، وأعطاه للأنبياء وعرفهم إياه ، وعرف باقي المؤمنين بواسطتهم ، وبهذا التعريف وتبليغ الرسالة وتبيين الدين صاروا حجة الله على الخلق .
والثاني ، هو الذي كلف المهتدون بنور الحق والمتفكرون في عالم الأمر والخلق نفوسهم بتكاليف من عندهم .
وذلك ، لما عرفوا مقام عبوديتهم ومقام ربوبية الحق إياهم بأنوار لمعت من بواطنهم النقية ولاحت من أسرارهم الزكية ، كلفوا نفوسهم بالعبودية شكرا لنعم الرب الذي خلقهم وهداهم .
كما قال : ( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) .
أي ، ما فرضنا تلك العبادة عليهم . ( إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها ) أي ، الذين كلفوا نفوسهم بها . ( حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا ) بها ، أي بتلك العبودية .
( أجرهم ) من الأنوار القدسية والكمالات النفسية التي هي الأخلاق الشريفة والملكات الفاضلة . وهذا هو المراد بقوله : ( وقد اعتبره الله ) . ( وكثير منهم ) أي ، من الناس الذين لم يعملوا بها ولا بما شرعه الله في  حقهم بلسان الأنبياء ( فاسقون ) . أي ، خارجون من الإتيان بمقتضاها والانقياد بأحكامها .
وإلى هذين القسمين أشار بقوله : ( الدين دينان : دين عند الله ، ودين عند الخلق) .
قال رضي الله عنه : ( وجاء الدين بالألف واللام للتعريف والعهد ، فهو دين معلوم معروف) .
 لأن المعهود لا بد أن يكون معلوما عند المخاطب . ( وهو قوله تعالى ) أي ، ذلك ( الدين ) المعلوم هو المراد من قوله تعالى : ( " إن الدين عند الله الإسلام " . وهو )  أي ، الإسلام . ) الانقياد . ف‍ ( الدين ) عبارة عن انقيادك .
والذي من عند الله هو ( الشرع ) الذي انقدت أنت إليه ) . أي ، إذا كان ( الدين ) عبارة عن الإسلام  و ( الإسلام ) هو الانقياد ، فالدين عبارة عن الانقياد . ولا شك أن الانقياد من العبد ، فالدين من العبد . ( والذي من عند الله هو الشرع ) .
أي ، الحكم الإلهي الذي ينقاد العبد إليه . ففرق بين " الدين" و " الشرع " بجعل الدين من العبد ، والشرع من الحق .
(فالدين) الانقياد . و ( الناموس ) هو الشرع الذي شرعه الله  فمن اتصف بالانقياد ولما شرعه الله له ، فذلك الذي قام بالدين وأقامه ، أي ، أنشأه ، كما يقيم الصلاة . فالعبد هو المنشئ للدين ، والحق هو الواضع للأحكام . (فالانقياد عين فعلك ، فالدين من فعلك ) . ظاهر .
قال رضي الله عنه : ( فما سعدت إلا بما كان منك ) . أي ، ما سعدت إلا بما حصل منك ، وهو الانقياد للشرع .
( فكما أثبت السعادة لك ما كان فعلك ، كذلك ما أثبت ) أي ما أظهر .
قال رضي الله عنه : ( الأسماء الإلهية إلا أفعاله ) . أي ، كما أثبت سعادتك فعلك وهو الانقياد للشرع ، كذلك ما أثبت أي ما أظهر الأسماء الإلهية التي هي كمالات الذات ، إلا أفعاله .
ولا ينبغي أن يتوهم أن الأفعال سبب الأسماء لأن الأسماء علل للأفعال ومباديها ، لكن لما كانت الأسماء حقائق إلهية مخفية عن العالمين، فظهورها لا يحصل إلا بالآثار والأفعال .
كما لم تظهر سعادة العبد وشقاوته إلا بأفعاله لأنها معرفات لها - أسند رضي الله عنه  الإثبات بالأفعال ، إذ لو لم يظهر من الحق تعالى لطف ما ، ورحمة ، ما كان يظهر لنا أنه لطيف رحيم ، ولا كان يوصف بهما .
قال رضي الله عنه : ( وهي أنت وهي المحدثات ) . الضمير الأولى عائد إلى ( الأسماء ) ، والثاني إلى ( الأفعال ) . أي ، تلك الأسماء الإلهية عبارة عن الأعيان الثابتة .
فقوله : ( أنت ) خطاب لعين كل واحد من الموجودات ، كما مر في قول سهل رضي الله عنه : أن للربوبية سرا وهو (أنت).
يخاطب كل عين ، أو خطاب للحقيقة الجامعة الإنسانية لإحاطتها جميع الأسماء وحقائق العالم . أي ، وتلك الأسماء باعتبار الكل المجموعي عينك ، والأفعال الصادرة عنها هي الحوادث .
واعلم ، أنا بينا في فصل الأعيان أن الأسماء لها صور علمية .
وتلك الصور هي الحقائق والأعيان الثابتة ، وهي تارة عين الأسماء بحكم اتحاد الظاهر والمظهر ، وتارة غيرها ، لذلك قال : ( وهي أنت ) . أي ، تلك الأسماء عينك وحقيقتك باعتبار الأول .
قال رضي الله عنه : ( فبآثاره يسمى إلها وبآثارك سميت سعيدا ) . أي ، الحق بآثاره ، وهي المألوه ، يسمى إلها ، كما أن الرب بالمربوب سمى ربا ، والإنسان بالآثار المرضية يسمى سعيدا ، وغير المرضية يسمى شقيا .
قال رضي الله عنه : ( فأنزلك الله تعالى منزلته إذا أقمت الدين وانقدت إلى ما شرعه لك ) . أي ، جعلك في تحقق كمالك بأفعالك نازلا منزلة منزلة نفسه ، لأن كماله بإلهيته ، وهي إنما يتحقق ويظهر بالآثار والأفعال ، وهي العالم ومقتضياته . فإذا أقمت الدين بانقيادك لأوامره وأحكامه التي شرعها لك ، حصل كمالك وصرت من السعداء . وأنزلك الله منزلته حيث أضاف الدين الذي هو فعلك إلى نفسه .
كما قال : ( إن الدين عند الله الإسلام ) . أي ، الدين المعتبر عند الله هو ( الإسلام ) ، فهو دين الله . وقال : ( ألا لله الدين الخالص ) .
قال رضي الله عنه : (وسأبسط في ذلك إن شاء الله ما يقع به الفائدة بعد أن نبين الدين الذي عند الخلق الذي اعتبره الله ) . ذلك إشارة إلى ما مر من معنى ( الدين ) وسيقرره مع  باقي مفهوماته .
قال رضي الله عنه : ( فالدين كله لله ، وكله منك لا منه إلا بحكم الأصالة ) . لما كان ( الدين ) عبارة عن الانقياد ، وهو لله وأوامره وأحكامه ، فالدين لله . قال تعالى : ( ألا لله الدين الخالص ) . ( وكله ) أي ، وكل الدين منك ، لأن الانقياد فعل صادر منك لا من الله ، إلا بحكم الأصالة ، لأنه هو الموفق لك بذلك الانقياد بإعطاء القدرة والاستعداد والإيجاد فيك .
( قال تعالى : ( ورهبانية ابتدعوها ) . ( استشهاد للدين الذي عند الخلق . و ( رهبانية ) أي ، ما يفعله الراهب وهو العالم في الدين المسيحي من الرياضة والانقطاع من الخلق والتوجه إلى الحق . ( ابتدعوها ) أي ، اخترعوها لأنفسهم .
( وهي النواميس الحكمية ) أي الشرائع التي اقتضتها الحكمة والمعرفة .
قال رضي الله عنه : (التي لم يجئ الرسول المعلوم بها في العامة من عند الله بالطريقة الخاصة المعلومة في العرف ) . من ظهور النبي وادعائه النبوة وإظهار المعجزة .
وقوله رضي الله عنه : ( بالطريقة الخاصة ) متعلق بقوله : ( ابتدعوها ) . أي ، اخترعوها بوضع تلك الطريقة الخاصة .
قال رضي الله عنه: ( فلما وافقت الحكمة والمصلحة الظاهرة فيها ) أي ، في تلك النواميس .
وقوله رضي الله عنه : ( الحكم الإلهي في المقصود بالوضع الشرعي الإلهي ، ) وهو تكميل النفوس علما وعملا .
قال رضي الله عنه: ( إعتبرها الله ، اعتبار ما شرعه من عنده تعالى ، وما كتبها الله عليهم ) . أي ، وما فرضها عليهم ، أي ، على كل الناس . لأن ذلك طريق الخواص لا العوام ، إذ  لا يقدر كل أحد على تحمل مشاق الرياضة والسلوك بالطريقة الخاصة .
وقوله رضي الله عنه : (ولما فتح الله بينه وبين قلوبهم باب العناية والرحمة من حيث لا يشعرون ، )
أي ، من الوجه الخاص الذي لهم إلى الله ولا يشعرون بذلك الوجه والفتح .
قال رضي الله عنه: ( جعل في قلوبهم تعظيم ما شرعوه ، يطلبون بذلك رضوان الله على غير الطريقة النبوة المعروف بالتعريف الإلهي ) . بإظهار المعجزات على أيديهم .
والمراد بقوله : ( على غير الطريقة النبوة ) أنهم أتوا بأمور زائدة على الطريقة النبوية ما فرض الله عليهم ذلك ، كتقليل الطعام ، والمنع من الزيادة في الكلام ، والخلطة بالناس ، والخلوة والعزلة عنهم ، وكثرة الصيام ، وقلة المنام ، والذكر على الدوام ، لا الإتيان بما ينافيها كشرب الحرام وعبادة الأصنام .
وفي بعض النسخ : ( على الطريقة النبوية ) . وهو يؤيد ما ذكرناه .
ولما فسر قوله : ( ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ) .
بأن معناه ما كتبناها وأوجبناها عليهم ، ولم يفعلوا بها إلا ابتغاء رضوان الله - ليكون مفعولا له من ( لم يفعلوا ) لا من ( ما كتبناها ) - جعل رضي الله عنه ( إلا ابتغاء رضوان الله ) استثناء من قوله : ( فما رعوها ) للمناسبة من حيث المعنى .
قال رضي الله عنه : ( فما رعوها هؤلاء الذين شرعوها وشرعت لهم ) أي ، لعوامهم ومقلديهم . ( حق رعايتها، إلا ابتغاء رضوان الله).
وإن كان الزجاج جعل ( الابتغاء ) بدلا من ( الهاء ) التي في ( كتبناها ) ليكون مفعولا به .
فعلى الأول ، لا يكون العمل بها واجبا ، لكن من يعمل بها وأوجبها على نفسه ،يصل إليه أجرها كما قال : ( فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ).
وعلى الثاني ، يكون واجبا .
لذلك قال الحسن : ( تطوعوا ابتداعها ، ثم كتب بعد ذلك عليهم ) . وقيل : ذلك كالتطوع ، من التزمه ، لزمه ، كالنذر .
قال رضي الله عنه : ( وكذلك اعتقدوا ) أي ، العاملون بها اعتقدوا أن من يعمل بها ، يحصل له رضوان الله وثواب الدار الآخرة .
( "فآتينا الذين آمنوا " بها " منهم أجرهم وكثير منهم " أي ، من هؤلاء الذين شرع فيهم ، ) أي ، في حقهم ، وهم المقلدون . ( هذه العبادة ( فاسقون ) أي ، خارجون عن الانقياد إليها والقيام بحقها . ومن لم ينقد إليها ، لم ينقد إليه مشرعة بما يرضيه ) . أي ، ومن لم ينقد إلى تلك الشريعة الموضوعة لأنفسهم ، لم ينقد إليه مشرع ذلك الشرع بالأصالة ، وهو الحق بما يرضيه من إعطاء الجنة والخير والثواب .
وذكر ضمير ( مشرعه ) باعتبار الدين : وفي بعض النسخ : ( ومن لم ينقد إلى
مشرعه ) . فضمير ( بما يرضيه ) عائد إلى ( المشرع ) حينئذ . ( لكن الأمر يقتضى الانقياد ) . أي ، لكن الأمر والشأن الإلهي يقتضى وقوع الانقياد على أي وجه كان . فليس المراد بالأمر الأمر التكليفي .
قال رضي الله عنه : ( وبيانه : أن المكلف إما منقاد بالموافقة ، وإما مخالف . فالموافق المطيع لا كلام فيه لبيانه ) . أي ، لوضوحه .
قال رضي الله عنه : ( وأما المخالف ، فإنه يطلب بخلافه الحاكم عليه من الله أحد الأمرين : إما التجاوز والعفو ) قوله : ( الحاكم ) يجوز أن يكون مجرورا صفة ( للخلاف ) ، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول . أي لمخالفته الحاكم ،
أي ، يطلب بمخالفته من يحكم عليه أحد الأمرين : إما التجاوز والعفو.
قال رضي الله عنه :  (وإما الأخذ على ذلك . ولا بد من أحدهما ، لأن الأمر حق في نفسه . فعلى كل حال ، قد صح انقياد الحق إلى عبده لأفعاله وما هو عليه من الحال ) أي ، لكن الأمر في نفسه  يقتضى الانقياد .
وبيانه : أن المكلف إما منقاد للحق بالموافقة والطاعة ، أو مخالف  له .
فالموافق المطيع لا كلام فيه لوضوحه . وأما المخالف ، فإنه يطلب بذلك الخلاف الحاكم عليه في ذلك الوقت باقتضاء عينه ذلك الخلاف أحد الأمرين من الله : وهو إما العفو والمغفرة ، لتظهر كمال الاسم ( العفو ) و ( الغفور ) و حكمهما .
وإما المؤاخذة بذلك الخلاف ، ليظهر حكم الاسم " المنتقم " و" القهار " وكمالهما .
وعلى التقديرين ، يكون المخالف منقادا لربه الحاكم عليه من العفو والغفور والمنتقم والقهار من حيث الباطن ، وإن كان مخالفا لحكم مقام الجمع  الإلهي حين خالف دين الله ، أو لحكم ذلك المشرع من حيث الظاهر .
فصح انقياد الحق إلى عبده لأفعاله وما يقتضيه حاله بإعطاء ما يطلب منه بحسب عينه الثابتة .
قال رضي الله عنه : ( فالحال هو المؤثر ) . أي ، إذا كان الحق منقادا للعبد بحسب اقتضاء حاله ذلك والانقياد لا يكون إلا بالتأثر ،فالحال هو المؤثر.
( فمن هنا كان " الدين " جزءا ، أي ، معاوضة بما يسر أو بما لا يسر ) . أي ، لما كان العبد منقادا للحق والحق منقادا للعبد ، كان لكل منهما فعل يقابل  فعل الآخر ، وهو الجزاء الواجب من الطرفين ، فحصل في الدين الذي هو الانقياد عين المجازاة ، فكان الدين جزاء .
أي ، معاوضة بما يسر العبد عند الموافقة ظاهرا  وباطنا ، وهو إعطاء الجنة والثواب والعفو والتجاوز عن ذنوبهم عند المخالفة ، وبما لا يسر العبد عند المؤاخذة بالمخالفة الظاهرة من العبد 
(فبما يسر : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) . هذا جزاء بما يسر . ( ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا ) . أليما . هذا جزاء بما لا يسر .
قال رضي الله عنه : ( ونتجاوز عن سيئاتهم ) . هذا (جزاء ) أي ، إذا جازى الحق عبيده بما يسره العبيد ، فرضي الله عنهم ورضوا عنه ، أي ، العبيد عنه ، حيث جازاهم بما يلائم طبائعهم . وإذا جازاهم بما لا يسر هم بالمخالفة .
كقوله تعالى : " ومن يظلم منكم نذقه عذابا أليما " . فقد جازاهم بما اقتضى حالهم ، وإن لم يلائم طباعهم . وإذا جازاهم بالتجاوز ، فقد جازاهم أيضا بما رضوا عنه .
( فصح أن الدين هو الجزاء ) . أي ، فثبت أن " الجزاء " مفهوم " الدين " .
قال رضي الله عنه : (وكما أن الدين هو الإسلام والإسلام هو عين الانقياد ، فقد انقاد إلى ما يسر ، وإلى ما لا يسر ، وهو الجزاء ) ارتباط بين المفهومين " الانقياد " و " الجزاء " .
( هذا لسان الظاهر في هذا الباب ) . أي ، لسان تحقيق الظاهر في هذا الباب .
( وأما سره وباطنه ) أي ، سر هذا اللسان وباطنه . ( فإنه ) أي ، فإن ( الجزاء ) .
قال رضي الله عنه : ( تجل في مرآة وجود الحق ، فلا يعود على الممكنات من الحق إلا ما تعطيه  ذواتهم في أحوالها ، فإن لهم في كل حال صورة ، فيختلف صورهم لاختلاف أحوالهم ، فيختلف التجلي لاختلاف الحال ، فيقع الأثر في العبد بحسب ما يكون ، فما  أعطاه الخير سواه ، ولا أعطاه ضد الخير غيره ، بل هو منعم ذاته ومعذبها ، فلا يحمدن إلا نفسه ، ولا يذمن إلا نفسه ، فلله الحجة البالغة في علمه بهم إذ العلم يتبع المعلوم ) .
وهذا بيان لسر ( القدر ) . وفيه توطئة لبيان المفهوم الثالث ، وهو ( العادة ) .
وقد مر مرارا أن الحق وأسماءه يظهر في مرايا الأعيان الثابتة ، وقد تظهر الأعيان في مرآة وجود الحق ، وقد يكون كل منهما
مرآة للآخر دفعة . وهذا القول إشارة إلى الثاني . وتقريره : أن ( الجزاء ) هو عبارة عن تجلى الحق في مرآة وجوده بحسب الأعيان الممكنة من اسمه ( الديان ) ، فالتكليف بالانقياد والجزاء إنما هو باقتضاء الأعيان له ، فهم المكلفون للحق ، على أن الحق يكلفهم بما هم عليه من الأحوال ويجازيهم بها .
فلا يعود على الممكنات من الحق حال الجزاء إلا ما اقتضت ذواتهم في أحوالها ، فمنها ما لها وعليها لا من غيرها ، ومن الحق التجلي وإعطاء الوجود لصور تلك الأحوال الذاتية التي لها ، فإن لها في كل حال صورة  خاصة يقتضيها تلك الأحوال ، والأحوال مختلفة ، فاختلفت صورها أيضا ، فاختلفت التجليات الإلهية باختلاف الاستعدادات المتجلى لها وأحوالها ، فالأعيان معذبة لذواتها ومنعمة لأنفسها لا غيرها . فلله الحجة البالغة عليها ، لأنه يعلمها على ما هي عليها ويتجلى عليها بحسبها ، فعلمه تابع لها .
قال رضي الله عنه : (ثم السر الذي فوق هذا في مثل هذه المسألة أن الممكنات على أصلها من العدم ، وليس وجود إلا وجود الحق بصور أحوال ما هي عليه الممكنات في أنفسها وأعينها .
فقد علمت من يلتذ ومن يتألم ) . أي ، الأعيان الممكنة باقية على أصلها من العدم غير خارجة من الحضرة العلمية ، كما قال فيما تقدم : والأعيان ما شمت رايحة الوجود بعد . وليس وجود في الخارج إلا وجود الحق متلبسا بصور أحوال الممكنات ، فلا يلتذ بتجلياته إلا الحق ، ولا يتألم منها سواه .
ف‍ ( من ) في قوله : ( من العدم ) للبيان ، والمبين : ( على أصلها ) .
واعلم ، أن الالتذاذ والتألم من صفات الكون . فإسناد هما إلى الحق لأحد الطريقين : أحدهما ، اتصافه بصفات الكون في مقام التنزل . وثانيهما ، رجوع الكون وصفاته إليه . وأما باعتبار الأحدية ، فالكل مستهلك فيها ، فلا التذاذ ولا تألم .
وإنما جعل هذا السر فوق سر ( القدر ) ، لأنه من لسان الأحدية المستعلية على الكثرة وألسنتها.
( وما يعقب كل حال من الأحوال ) عطف على ( من ) . أي ، فقد علمت من الملتذ ومن المتألم وما الذي يعقب كل حال من الأحوال . أي ، كما أن الحق هو الملتذ من التجليات وهو المتألم بها ، فالأحوال التي يعقب حالا بعد حال هي أيضا تجلياته لا غيره .
و ( كل ) منصوب على أنه مفعول ، وفاعله ضمير يرجع إلى ( ما ) .
( وبه يسمى عقوبة وعقابا ) . أي ، وبكونه يعقب حالا بعد حال سمى الجزاء عقوبة وعقابا . فالعقوبة مأخوذة من (العقب).
(وهو سائغ في الخير والشر ، غير أن العرف سماه في الخير ثوابا وفي الشر عقابا ) . أي ، العقاب جائز أن يستعمل في الخير والشر بحسب أصل اللغة ، إلا أن العرف الشرعي خصص الخير بالثواب والشر بالعقاب .
(ولهذا سمى أو شرح الدين ب‍ ( العادة ) لأنه عاد عليه ما يقتضيه ويطلبه حاله .
فالدين ( العادة ) وقال الشاعر : كدينك من أم الحويرث قبلها . أي ، عادتك  .
)أي ، ولأجل أن كل حال يعقبه حال آخر ، هو جزاء ، سمى الدين الذي هو الجزاء بالعادة ، أو فسر بها . ( لأنه ) الضمير للشأن . أي ، لأن الشأن عاد إليه ما يقتضيه ويطلبه حاله من الجزاء . ثم استشهد بقول الشاعر في استعمال ( الدين ) وإرادة  (العادة ) .
(ومعقول العادة أن يعود الأمر بعينه إلى حاله . وهذا ليس ثمة ، فإن العادة تكرار).
أي ، المفهوم من ( العادة ) عقلا أن يعود الأمر إلى حاله كما كان .
وهذا المعنى ليس موجودا في الجزاء . فإن العادة تقتضي التكرار ، ولا تكرار في الوجود .
وكيف في الجزاء ؟
بل حال يعقب الحال الأولى بحسب ما يقتضيه الأول .
قال رضي الله عنه : (لكن العادة حقيقة واحدة معقولة ، والتشابه في الصور موجود . فنحن نعلم أن زيدا عين عمرو في الإنسانية ، وما عادت الإنسانية ، إذ لو عادت ، لتكثرت ، وهي حقيقة واحدة ، والواحد لا يتكثر في نفسه . ونعلم أن زيدا ليس عين عمرو في الشخصية ، فشخص زيد ليس شخص عمرو ، ومع تحقق وجود الشخصية بما هي شخصية في الاثنين ، فنقول في الحس عادت لهذا الشبه ، ونقول في الحكم الصحيح لم تعد ) .
استدراك من قوله : ( وهذا ليس ثمة ) . والغرض بيان أن العود من أي وجه يتحقق ، من أي
وجه لا يتحقق . وذلك لأن العادة حقيقة معقولة ، وهي عود الشئ إلى ما كان عليه أولا . والحقيقة لا يتكثر في نفسها ، كما أن الإنسانية لا يتكثر بتكثر أشخاصها ، بل المتكثر صور تلك الحقيقة ، وصور الأشخاص أمثال ، فالمثلية متحققة بين الأشخاص.
فالحقيقة المعقولة من العادة أيضا لها أفراد متكثرة ، وهي تكرر الأحوال ، فمن حيث إن هذا الحال الثاني مثل الحال الأول في الحس ، يطلق عليه العادة .
ومن حيث إن تلك الحال ليس عين الأول بل مغائر له ، لا تطلق العادة عليه .
قال رضي الله عنه : (فما ثمة عبادة بوجه ، وثمة عادة بوجه ، كما أن ثمة جزاء بوجه ، وما ثمة جزاء بوجه ، فإن الجزاء أيضا حال في الممكن من أحوال الممكن .
وهذه مسألة أغفلها علماء هذا الشأن ، أي ، أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي ، لا أنهم جهلوها . فإنها من سر القدر المتحكم في الخلائق ) .
لما كان العود مرتبا على الجزاء ، أراد أن يؤكد ما ذكر من تحقق العود وعدم تحققه بتشبيهه بإثبات الجزاء وعدم إثبات الجزاء . وأما كون الجزاء ثابتا في نفس الأمر من حيث استلزام الحال الأول للثاني ، فلا شك فيه .
وأما كونه حالة أخرى برأسها لعين الممكن متعينة بتجلي آخر ، فلا شك أيضا فيه . فما ثمة جزاء وثمة جزاء ، وما ثمة عادة وثمة عادة . والباقي ظاهر .
قال رضي الله عنه : (واعلم ، أنه كما يقال في الطبيب إنه خادم الطبيعة ، كذلك يقال في الرسل والورثة إنهم خادموا الأمر الإلهي في العموم ، وهم في نفس الأمر خادموا أحوال الممكنات . وخدمتهم من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم)  .
لما كان الكلام في بيان أحوال أعيان الممكنات التي هي من أسرار القدر وكان من جملتها أعيان الرسل والورثة ، شرع في بعض أحوال أعيانهم .
وهو كونهم أطباء للأمم ، لأنهم يخلصون الأرواح من الأمراض الروحانية ، كما يخلص الطبيب الأجسام من الأمراض الجسمانية .
فقال رضي الله عنه  : كما أن الطبيب خادم للطبيعة من حيث إنه يساعدها على رفع المرض ، كذلك الرسل وورثتهم من الكمل خادمون للأمر الإلهي في العموم ، أي مطلقا ، سواء كان الأمر موافقا للإرادة أو مخالفا لها .
فإنهم مبلغون للأمر ، بل هم في نفس الأمر خادمون لأحوال الممكنات حيث يرشدونهم ويهدونهم ويمنعونهم مما لا ينبغي أن يكونوا عليه من الشرك والكفر والعصيان .
وهذا الإرشاد والخدمة من الأنبياء والورثة مما يقتضى أعيانهم ومن جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوتهم في الحضرة العلمية دون وجودهم الخارجي .
قال رضي الله عنه : ( فانظر ما أعجب هذا قد ) أي ، فانظر ما أعجب أن الأشرف تكون خادما للأخس - وهو الممكنات . أو ما أعجب أن الخادم للأمر الإلهي يكون خادما للممكنات ، مع عظم قدره وجلالة قربه عند الله .
قال رضي الله عنه : (إلا أن الخادم المطلوب هنا إنما هو واقف عند مرسوم مخدومه ، إما بالحال أو بالقول .
فإن الطبيب إنما يصح أن يقال فيه خادم الطبيعة ، لو مشى بحكم المساعدة لها .
فإن الطبيعة قد أعطت في جسم المريض مزاجا خاصا به سمى مريضا ، فلو ساعدها الطبيب خدمة ، لزاد في كمية المرض بها أيضا . وإنما يردعها طلبا للصحة ، والصحة من الطبيعة أيضا بإنشاء مزاج آخر يخالف هذا المزاج ، فإذن ليس الطبيب بخادم للطبيعة ) .
أي ، الطبيب خادم الطبيعة ، والأنبياء والرسل وورثتهم خادموا الأمر الإلهي ، إلا أن الطبيب ليس بخادم للطبيعة مطلقا ، ولا الرسل خدمة للأمر الإلهي مطلقا . فان الخادم مطلقا إنما هو واقف عند مرسوم مخدومه ، أي ، واقف عند أمر مخدومه .
يقال : رسم الأمير بكذا . إذا أمره . والطبيب ليس واقفا عند مرسوم الطبيعة مطلقا ، فإنه لو كان كذلك ، لساعد الطبيعة في كل حال من أحوالها ومن جملة أحوالها المرض ، لأنه سوء مزاج خاص أحدثته الطبيعة .
فلو كان مساعدا لها ، لزاد في كمية المرض ، لكنه يسعى في زواله وتبديله بالصحة .
( ويردعها ) ، أي ، يمنعها عن المرض . وهذا المطلوب أيضا يحصل بمزاج آخر من الطبيعة ملائم لمطلوب الطبيب . فالطبيب خادم للطبيعة من حيث المزاج الملائم للشخص ، وليس خادما على الإطلاق . 
فهو خادم لها من وجه ، غير خادم لها من وجه آخر . وكذلك الأنبياء والرسل وورثتهم ليسوا خادمين للأمر الإلهي مطلقا . فإن الأمر الإلهي قسمان :
قسم يتعلق بأمور يقتضيها عين المأمور ، وهو الأمر الإرادي .
وقسم يتعلق بأمور يقتضى بعضها عين المأمور ولا يقتضى البعض الآخر ، بل نقيضه ، وهو الأمر التكليفي .
والأنبياء والرسل خادموا الأمر التكليفي  بالحال والقول : قوله : ( ما بالحال أو بالقول ) متعلق بقوله : ( واقف ) .
ووقوفه بالحال ، كالإتيان بالعبادات والأفعال المبينة لقرب الحق ليقتدى الأمة بهم فيها ، فتسعد .
كما قال : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) . ويأتي العاصي بضدها ،فيشقى . 
كقوله تعالى : ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) . وقوله : ( وما اختلفوا إلا من بعد ما جائهم العلم ) .
ووقوفه بالقول ، كأمره بالإيمان ونهيه عن الكفر والطغيان ، وبيان ما يثاب به ويعاقب عليه . 
كما قال : ( بلغ ما أنزل إليك ) . ليصل به المطيع إلى كماله ،والعاصي إلى وبال أعماله . لا خادموا الإرادة ،  إذ لو كانوا كذلك ، لما منعوا أحدا عما يفعل ، لتعلق الإرادة به ، بل كانوا يساعدونه فيه .
وقوله : ( إما بالحال أو بالقول ) متعلق ب‍ ( واقف ) .
ويجوز أن يكون متعلقا ب‍ ( المرسوم ) . أي ، الخادم واقف عند مرسوم مخدومه . وذلك إما أن يكون بالحال أو بالقال . (وإنما هو خادم لها من حيث إنه لا يصلح جسم المريض ، ولا يغير ذلك المزاج إلا بالطبيعة أيضا ، ففي حقها يسعى من وجه خاص غير عام ، لأن العموم لا يصح في هذه المسألة .
فالطبيب خادم الأخادم ، أعني الطبيعة ) . ظاهر مما مر .
( كذلك الرسل والورثة في خدمة الحق وأمر الحق على وجهين في الحكم في أحوال المكلفين ، فيجرى الأمر من العبد بحسب ما يقتضيه إرادة الحق ، ويتعلق إرادة الحق به بحسب ما يقتضى به علم الحق ، ويتعلق علم الحق به على حسب ما أعطاه المعلوم من ذاته ) .
أي ، وكذلك الرسل وورثتهم ليسوا في خدمة إرادة الحق مطلقا ، لأن حكم الحق في أفعال المكلفين على وجهين :
أحدهما الأمر مع إرادة وقوع المأمور به . 
الآخر الأمر مع عدم إرادة وقوع المأمور به .
وما بالإرادة ، هو بحسب علم الحق ، فإن الشئ ما لم يعلم ، لم يرد .
فالإرادة يتعلق بالمراد بواسطة العلم ، والعلم تابع للمعلوم ، فالأمر مع الإرادة وافق ما عليه أعيان المكلفين حال ثبوتهم في العلم ، فقبلوا الأمر وأطاعوه .
وهو المراد بقوله : ( فيجرى الأمر من العبد ) أي ، صدر المأمور به من العبد . يقال : جرى منك كذا . أي ، صدر .
والأمر مع عدم إرادة وقوع المأمور به لا يمكن أن يقبله ، لأنه ما يكون إلا ما تعلقت الإرادة بوجوده . فيقع العصيان . ( فما ظهر إلا بصورته ) .
يعنى بصورة العبد في عينه الثابت . أي ، فما ظهر المعلوم إلا على صورته التي هو عليها في العلم .
( فالرسول والوارث خادم الأمر الإلهي بالإرادة ، لا خادم الإرادة ) . أي ،فالرسول والوارث خادم الأمر الإلهي إذا كانت الإرادة متعلقة بوقوع المأمور به ، لا خادم الإرادة مطلقا ، لأن الإرادة تتبع المعلوم ، كما مر ، والمعلوم يقتضى أمورا تناسبه مما ينفعه ويضره ، والرسول ليس مساعدا له فيما يضره .
وأيضا ، كل ما يقع من الخير والشر إنما هو بالإرادة ، فلو كان خادما للإرادة مطلقا ، لما رد على أحد في فعله القبيح .
( فهو يرد عليه به طلبا لسعادة المكلف ) . أي ، الرسول يرد على كل المكلف ويدفع عنه بالأمر الإلهي ما يضره طلبا لسعادته وإظهارا لكماله .
( فلو خدم الإرادة ما نصح ) أي ، ما نصح الخلق . بل كان يتركهم على ما
هم عليه ، لأنه المراد .
(وما نصح إلا بها ، أعني بالإرادة) .
قال رضي الله عنه : ( فالرسول والوارث طبيب أخروي للنفوس ، منقاد لأمر الله حين أمره ، فينظر في أمره تعالى وينظر في إرادته ، فيراه ) أي ، يرى الحق . ( قد أمره ) . أي أمر المكلف . ( بما يخالف إرادته ، ولا يكون إلا ما يريد . ولهذا كان الأمر ) .
أي ، ولأجل أنه لا يكون إلا ما يريد ، حصل الأمر من الرسول أو من الله ، فإنه المراد .
( فأراد الأمر ، ) أي ، فأراد وقوع الأمر .
قال رضي الله عنه : ( فوقع بواسطة العبد المأمور . وما أراد وقوع ما أراد به بالمأمور ) . بواسطة المأمور . ( فلم يقع ) المأمور به .
قال رضي الله عنه : ( من المأمور ) . وهو العبد . ( فيسمى مخالفة ومعصية ) .
فإن قلت : كيف يأمر الحق بمالا يريد وقوعه ، وما فائدته ؟
قلت : التكليف حال من أحوال عين العبد ، وله استعدادات لتلك الحالة مغائر لاستعداد ما كلفه الحق به ، فعين العبد تطلب بالاستعداد الخاص من الحق أن يكلفه بما ليس في استعداده قبوله ، فيأمر الحق بذلك ولا يريد وقوع المأمور به ، لعلمه بعدم استعداده للقبول ، بل يريد وقوع ضد المأمور به ، لاقتضاء استعداده ذلك .
وفائدته ، تمييز من له استعداد القبول ممن ليس له ذلك .
(فالرسول مبلغ ) . أي ، فالرسول مبلغ للأمر الإلهي ، خادم له مطلقا ، سواء كانت معه الإرادة أو لم تكن .
قال رضي الله عنه : ( ولهذا قال الرسول : شيبتني هود وأخواتها لما تحوي عليه ) . أي ، لما يشتمل سورته عليه .
قال رضي الله عنه : ( من قوله : " فاستقم كما أمرت " . فشيبه قوله تعالى : ( كما أمرت ) فإنه لا يدرى هل أمر بما يوافق الإرادة فيقع المأمور به ، أو بما يخالف الإرادة فلا يقع )
المأمور به ، لأنه ، عليه السلام ، من حيث نشأته العنصرية الحاجبة عن الاطلاع على الحقائق دائما ، لا يدرى هل أمر بما يوافق الإرادة ، فيقع المأمور به منه ويكون منقادا للأمر الإلهي ، أو بما يخالف الإرادة ، فلا يقع ، فيكون خارجا عن أمره تعالى .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:14 am

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليعقوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية    الجزء الثاني

قال رضي الله عنه : ( ولا يعرف أحد حكم الإرادة إلا بعد وقوع المراد ، إلا من كشف الله عن بصيرته ، فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها على ما هي عليه ، فيحكم عند ذلك بما يراه . وهذا قد يكون لآحاد الناس ) . وهم الكمل من الأنبياء والأولياء .
قال رضي الله عنه : ( في أوقات لا يكون مستصحبا ) . أي ، لا يكون هذا الكشف دائما ، بل وقتا دون وقت ، كما قال لنبيه : ( قل ما أدرى ما يفعل بي ولا بكمفصرح بالحجاب ) .
قوله  رضي الله عنه : ( صرح ) على صيغة الأمر . أي وقل : وصرح بالحجاب .
ليتنبه به العارفون إلى هذا المقام الذي ليس فوقه مقام آخر ، لا يرتفع الحجاب مطلقا بحيث لا يبقى بين علم الحق وعلمه فرق.
قال رضي الله عنه : ( وليس المقصود إلا أن يطلع في أمر خاص ، لا غير ) . أي ، وليس المقصد من هذا الكشف الذي أطلعه الله عليه ، إلا أن يطلع العبد على بعض الأمور ، ، لا على كل ما يعلمه الله .
كما قال : “ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء “ .
والله أعلم .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:15 am

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليوسفي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية   الجزء الأول

لما كان عالم الأرواح المسمى ب‍ ( العالم المثالي ) عالما نورانيا وكان كشف يوسف (عليه السلام) مثاليا وكان على الوجه الأتم والأكمل .
أضاف الحكمة النورية الكاشفة عن الحقائق إلى كلمته ، لذلك كان عالما بعلم التعبير ومراد الله
من الصورة المرتبة المثالية . وكل من يعلم بعده ذلك العلم ، فمن مرتبته يأخذ و من روحانيته يستفيد . ولقوة نورية روحه ، عليه السلام ، كانت صورته أيضا كاملة في الحسن والبهجة .
واعلم ، أن النور الحقيقي هو الذات الإلهية لا غير ، إذ هو اسم من أسماء الذات .
وكل ما يطلق عليه اسم الغيرية والسوى ، ظل من ظلالها ، والأرواح وعالمها من ظلالها . وكونه نورانيا بالإضافة إلى عالم الأجسام .

ولما كان دخول الروح في عالمه الأصلي بواسطة العبور على الحضرة الخيالية التي هو ( المثال المقيد ) وبإشراق نور الروح عليها تظهر الصور المثالية ، وجب انبساط النور على هذه الحضرة أولا ، ليشاهد الروح ما يتجسد من المعاني الفائضة عليه فيها شهودا عيانيا ، فيتمرن وينتقل منها إلى عالم ( المثال المطلق ) .
فقوله : ( هذه الحكمة النورية انبساط نورها على حضرة الخيال ) .
معناه : هذه الحكمة النورية عبارة عن انبساط نور الكلمة اليوسفية ، وهي روحانية يوسف ، عليه السلام ، على حضرة خيالها ، لتتنور ، فيشاهد فيها المعاني المتجسدة .
فضمير ( نورها ) عائد إلى ( الكلمة ) . ويجوز أن يرجع إلى ( الحكمة ) .
ومعناه : هذه الحكمة النورية عبارة عن انبساط نور العلوم المنتقشة في الكلمة اليوسفية على حضرة الخيال ، لأن الحكمة هي العالم بالحقائق على ما هي عليه ، والعلم نور في نفسه منور لغيره .

إلا أن الأول أولى . وفي بعض النسخ : ( إنبساطها ) . والمعنى واحد .
( وهو أول مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية ) . أي ، هذا الانبساط هو أول ظهور مبادئ الوحي في أهل العناية . وهم الأنبياء ، عليهم السلام .
وإنما كان أولا ، لأن الوحي لا يكون إلا بنزول الملك ، وأول نزوله في الحضرة الخيالية ،
ثم الحسية ، فالمشاهد له لا بد أن يكون خياله متنورا ، ليقدر على مشاهدته فيه ، ثم في المثال المطلق ، لأنه واسطة بين العالم الحسى والمثالي المطلق ، فالنازل لا بد له من العبور عليه ، والصاعد أيضا كذلك .
(تقول عائشة : أول ما بدء به رسول الله ،صلى الله عليه وسلم من الوحي ،الرؤيا الصادقة ) .
أي ، أول ما حصل لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، من آثار الوحي ومباديه ،الرؤيا الصادقة.

لذلك قال ، عليه وعلى آله السلام : ( الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة . وهي نصيب للمؤمنين منها . ( فكان لا يرى رؤيا إلا خرجت معاينة مثل فلق الصبح ) . أي ، ظهرت
في الحس كما رأى مثل فلق الصبح . ( تقول لا خفاء بها ) . تفسير لقولها - أي عائشة : ( مثل فلق الصبح ) . وليس من تتمة قولها .
(وإلى هنا بلغ علمها لا غير . وكانت المدة له في ذلك ستة أشهر ، ثم جاءه الملك . وما علمت أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قد قال : " إن الناس نيام ، فإذا ماتوا ، انتبهوا" ) .
أي ، ما علمت أن كل ما يظهر في الحس هو مثل ما يظهر في النوم . والناس غافلون عن إدراك حقائقها ومعانيها التي يشتمل تلك الصور الظاهرة عليها .
فكما يعرف العارف بالتعبير المراد من الصور المرئية في المنام ، كذلك يعرف العارف بالحقائق المراد من الصور الظاهرة في الحس ، فيعبر منها إلى ما هو المقصود منها ، لأن ما يظهر في الحس صورة ما يظهر في العالم المثالي .

وهو صورة المعاني الفائضة على الأرواح المجردة من الحضرة الإلهية ، وهي من مقتضيات الأسماء . فالعارف بالحقائق إذا شاهد صورة في الحس ، أو سمع كلاما ، أو وقع في قلبه معنى من المعاني ، يستدل منها على مبادئها ، ويعلم مراد الله من ذلك .
ومن هذا المقام يقال : إن كل ما يحدث في العالم ، كله رسل من الحق تعالى إلى العبد ، يبلغون رسالات ربهم . يعرفها من عرفها ، ويعرض عن المقصود منها من يجهلها .
كما قال تعالى : " وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ".
لعدم انتبائهم ، ودوامهم في نوم الغفلة . ولا يعرف هذا المقام إلا من يكاشف جميع المقامات العلوية والسفلية ، فيرى الأمور النازلة من الحضرة الإلهية إلى العرش والكرسي والسماوات والأرض ، ويشاهد في كل مقام صورته .
(وكل ما يرى في حال النوم فهو من ذلك القبيل ، وإن اختلفت الأحوال ) .
وفي بعض النسخ : ( وكل ما يرى في حال اليقظة فهو من ذلك القبيل ) .
الألف واللام في ( النوم ) للعهد . والمعهود النوم الذي في قوله ، صلى الله عليه وسلم :"الناس نيام ، إذا ماتوا إنتبهوا. . " أي ، كل ما يرى في اليقظة التي هي في الحقيقة نوم .
فهو من قبيل ما رآه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في مدة ستة أشهر ، عند كل عالم بالحقائق .


فإنهم يعلمون ما أراد الله منه ويعملون بمقتضاه ، وإن اختلفت أحوال الصور المرئية ومعانيها  أو وإن اختلفت أحوالهما بحسب اختلاف عوالمهما ، فكما يجب العبور عن الصور المرئية في النوم إلى المراد منها ، كذلك يجب العبور عن الصور المرئية في اليقظة إلى المراد منها .
( فمضى قولها ستة أشهر ) . أي ، مدة ستة أشهر ، كما قالت . فالمراد من ( القول ) المقول .
يدل على ذلك قوله : ( بل عمره كله في الدنيا بتلك المثابة إنما هو منام في منام ) . أي ، مضى عمره كله بمثابة الأشهر المذكورة ، فعمره إنما هو منام في منام . لأن الأحوال المتعاقبة مقامات متعاقبة .
فقوله : ( إنما هو منام في منام ) خبر مبتداء محذوف . ويجوز أن يكون عطف بيان لقوله : ( بتلك المثابة ) . يعنى كان مناما في منامه .
قال رضي الله عنه : ( وكل ما ورد من هذا القبيل ) أي ، من قبيل ما يعبر . ( فهو المسمى عالم الخيال ) . فالكون كله خيال .

كما قال : إنما الكون خيال ، وهو حق في الحقيقة كل من يفهم هذا حاز أسرار الطريقة
( ولهذا يعبر ) على البناء للمفعول .
( أي ، الأمر الذي هو في نفسه على صورة كذا ، ظهر في صورة غيرها ، فيجوز العابر ) أي ، يعبر العابر . ( من هذه الصورة التي أبصرها النائم ، إلى صورة ما هو الأمر عليه ) .
أي ، في نفسه ( إن أصاب ) أي ، العابر . ( كظهور العلم في صورة اللبن ، فعبر ) بالتخفيف .

أي ، عبر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، حين ما رأى في منامه أنه يشرب اللبن إلى
أن خرج من أظافيره . ( في التأويل من صورة اللبن إلى صورة العلم ، فتأول ) رسول الله .
قال رضي الله عنه : ( أي قال : مآل هذه الصورة اللبنية إلى صورة العلم ) . التي هي في نفس الأمر .
(ثم إنه ، صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أوحى إليه ، أخذ عن المحسوسات المعتادة ، فسجى ) على البناء للمفعول . أي ، ألبس ثوبا مثاليا .

يقال : سجيته . أي ، ألبسته الثوب . أو ستر عنه المحسوس بدخوله في الغيب .
قال رضي الله عنه : ( وغاب عن الحاضرين عنده ، فإذا سرى عنه رد ) أي ، إذا كشف عنه ورفع ما به كان غائبا عن الحس ، رد إلى حضرة الشهادة .
قال رضي الله عنه : ( فما أدركه إلا في حضرة الخيال ، إلا أنه لا يسمى نائما ) . وذلك لأن النوم ما يكون سببه أمرا مزاجيا يعرض للدفاع .
وسبب هذا أمر روحاني ، يفيض على القلب فيأخذه عن الشهادة . فلا يسمى باسمه . وهذا المعنى قد يكون بلا غيبة عن الحس بالكلية . كما كان حال النبي ، صلوات الله عليه ، في نهاية أمره ، بخلاف النوم . وهذه الحالة شبيه بالسنة . (
قال رضي الله عنه : (وكذلك إذا تمثل له الملك رجلا ، فذلك ) أي التمثل . ( من حضرة الخيال ، فإنه ليس برجل ) . أي ، موجود في الحس كما هو العادة .

( وإنما هو ملك ، فدخل في صورة إنسان . فعبره الناظر العارف حتى وصل إلى صورته الحقيقية ، فقال : هذا جبرئيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم .
وقد قال لهم : ردوا على الرجل . فسماه ب‍ ( الرجل ) من أجل الصورة التي ظهر لهم ) أي ، ظهر جبرئيل ، عليه السلام ، للناظرين .
قال رضي الله عنه : ( فيها . ثم قال : هذا جبرئيل . فاعتبر الصورة التي مآل هذا الرجل المتخيل إليها ) . وهي الصورة الملكية .
( فهو صادق في المقالتين : صدق للعين في العين الحسية ) .
أي ، للعين التي هي من الحواس الظاهرة في رؤيته العين ، أي الذات المحسوسة . أو صدق للعين ، أي الذات الجبرئيلية في العين الحسية ، وهي البصر .
قال رضي الله عنه : (وصدق في أن هذا جبرئيل . فإنه جبرئيل بلا شك . وقال يوسف ، عليه السلام : " رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ") .


فرأى إخوته في صورة الكواكب ، ورأى أباه وخالته في صورة الشمس والقمر . هذا من
جهة يوسف . ولو كان من جهة المرئي ، لكان ظهور إخوته في صورة الكواكب وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم . فلما لم يكن لهم علم بما رآه يوسف ، كان الإدراك من يوسف في خزانة خياله ، وعلم ذلك يعقوب حين قصها عليه .
فقال رضي الله عنه : ( يا بنى لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ) .

واعلم ، أن المرئي في صورة غير صورته الأصلية أو على صورته ، قد يكون بإرادة المرئي ، وقد يكون بإرادة الرائي ، وقد يكون بإرادتهما معا ، وقد يكون بغير إرادتهما .
أما الأول ، فكظهور الملك على نبي من الأنبياء في صورة من الصور ، وظهور الكمل من الأناسي على بعض الصالحين في صورة غير صورته .
وأما الثاني ، فكظهور روح من الأرواح الملكية أو الإنسانية باستنزال الكامل المتصرف إياه إلى
عالمه ، ليكشف معنى ما ، مختصا علمه به .
وأما الثالث ، فكظهور جبرئيل ، عليه السلام ، للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، باستنزاله إياه ، وبعث الحق إياه إلى النبي ، عليه السلام .
وأما الرابع ، فكرؤية زيد ، مثلا ، صورة عمرو في النوم من غير قصد وإرادة منهما .
ولما كان ظهور إخوة يوسف بصور الكواكب وظهور أبيه وخالته بصورة الشمس والقمر من غير علم منهم وإرادة ، قال : ( ولو كان من جهة المرئي ) أي ، هذا الظهور لو كان من جهتهم ، لعلموا ذلك .


فلما لم يكن لهم علم بما رآه يوسف في نومه ، علم أنه لم يكن من جهتهم ، ولا من جهة يوسف بحسب القصد والإرادة ، بل كان الإدراك منه بحسب إعطاء استعداده ذلك في خزانة الخيال .
ولم يكن له علم بما رآه ، إلا بعد أن وقع ، لذلك قال : " قد جعلها ربى حقا " .
وعلم ذلك يعقوب ، عليه السلام ، أولا حين قصها يوسف ، عليه السلام .
فقال : ( يا بنى لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ) .

( ثم برأ أبناءه عن ذلك الكيد وألحقه بالشيطان ) . أي ، ألحق الكيد بالشيطان وبرأ أبناءه من ذلك الفعل ، لعلمه أن الأفعال كلها من الله .
ولما كان الشيطان مظهرا للإسم ( المضل ) ، أضاف الفعل السئ إليه . وهذه الإضافة أيضا كيد ومكر : فإن الله هو الفاعل في الحقيقة ، لا المظهر الشيطاني .
وهو المراد بقوله : ( وليس إلا عين الكيد ) . أي ، ليس إسناد الكيد إلى الشيطان أيضا إلا عين الكيد مع يوسف ، عليه السلام . وذلك ليتأدب ويتقى بإسناد المذام إلى ما هو مظهره ، وهو الشيطان .
(فقال : " إن الشيطان للإنسان عدو مبين " . أي ، ظاهر العداوة .
ثم ، قال يوسف بعد ذلك في آخر الأمر : " هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا "
أي ، أظهرها في الحس بعد ما كانت في صورة الخيال ).
(فقال له النبي ، صلى الله عليه وسلم : "الناس نيام " . ) أي ، جعل النبي ، صلى الله عليه وسلم ، اليقظة أيضا نوعا من أنواع النوم ، لغفلة الناس فيه عن المعاني الغيبية والحقائق الإلهية ، كما يغفل النائم عنها .

قال رضي الله عنه : (فكان قول يوسف ، عليه السلام : " قد جعلها ربى حقا " . بمنزله من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤياه رآها ، ثم عبرها ، ولم يعلم أنه في النوم عينه ) (عينه ) بالجر ، تأكيد ( للنوم ) . أو منصوب على أنه تأكيد لضمير ( أنه ) . أي لم يعلم أنه بعينه في النوم . ويجوز أن يكون مرفوعا على أنه مبتداء ، والظرف خبره مقدم عليه ، وضمير ( أنه ) للشأن .
( ما برح ، فإذا استيقظ ، يقول : رأيت كذا ، ورأيت كأني استيقظت . وأولتها بكذا ، هذا مثل ذلك ) .

( فانظر كم بين إدراك محمد وبين إدراك يوسف ، عليهما السلام ، في آخر أمره حين قال : " هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا" ) . معناه حسا أي ، محسوسا ) أي ، ثابتا .
لذلك قال : ( ( أي محسوسا ) . وما كان إلا محسوسا . فإن الخيال أبدا لا يعطى إلا المحسوسات ، غير ذلك ليس له ) . أي ، فانظر كم بينهما في الإدراك : فإن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، جعل الصور الحسية أيضا كالصور الخيالية التي يتجلى الحق والمعاني الغيبية والحقائق العينية فيها ، وجعل يوسف ، عليه السلام ، الصور الحسية حقا ثابتا والصور الخيالية غير ذلك.
فصار الحس عنده مجالي للحق والمعاني الغيبية دون الخيال ( فانظر ما أشرف علم ورثة
سيد الأنبياء والرسل ، محمد ، صلى الله عليه وسلم ) . أي ، علم الأولياء الكاملين المطلعين على هذه الأسرار .

( وسأبسط القول ) ( اللام ) للعهد ، والمعهود قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : ( الناس نيام ) . أي ، سأبسط هذا القول وأبين أن العالم كله خيال ، والناس كلهم نيام ، والصور المرئية كلها صور خيالية .
كما قال في موضع آخر : إنما الكون خيال وهو حق في الحقيقة كل من يفهم هذا حاز أسرار الطريقة ( في هذه الحضرة ) أي ، الحضرة الخيالية .
( بلسان يوسف المحمدي ، ما تقف عليه ) أي ، سأبسط القول بسطا تطلع عليه . ( إنشاء الله تعالى ) . أو يكون ( ما تقف عليه ) بدلا من ( القول ) .

قد مر أن المرتبة المحمدية محيط بجميع مراتب الأنبياء نبوة وولاية ، إذ منها يتفرع المراتب ، كما تتفرع من روحه الكلى الأرواح .
وكل من ورثته ، قائم على ولاية نبي منهم ، لذلك كان بعضهم على قلب إبراهيم ، وبعضهم على قلب يوسف ، وبعضهم على قلب موسى ، صلوات الله عليهم أجمعين .
والقائم بالولاية الخاصة المحمدية جامع لمراتب ولايات كلهم .
فقوله ( بلسان يوسف المحمدي ) أي ، بلسان القائم على ولاية يوسف الذي هو محمدي  ولما كان القائم على ولاية يوسف مظهرا لسره ، سماه باسمه .
وفيه سر آخر لا يطلع عليه إلا من اطلع على ظهورات الكمل في العوالم .



إن بحثت عنه ، وصلت إليه  فيقول رضي الله عنه : ( اعلم ، أن المقول عليه سوى الحق أو مسمى ( العالم ) هو بالنسبة إلى الحق كالظل للشخص ) أي ، كل ما يطلق عليه اسم الغيرية ، أو يقال عليه أنه
مسمى ( العالم ) ، فهو بالنسبة إلى الحق تعالى كالظل للشخص .
وذلك لأن الظل لا وجود له إلا بالشخص ، كذلك العالم لا وجود له إلا بالحق وكما أنه تابع له ، كذلك مسمى ( العالم ) تابع للحق لازم له ، لأنه صور أسمائه ومظهر صفاته اللازمة له .
وإنما قال بلفظ التشبيه ، لأنه من وجه عين الحق ، وإن كان من وجه آخر غيره .
والظل لا يمكن أن يكون عين الشخص ، والمقصود إثبات أن العالم كله خيال .
وكما قال : ( سأبسط القول في هذه الحضرة ) .
يقول رضي الله عنه: ( فهو ظل الله ) . وإنما جاء بهذا الاسم الجامع دون غيره من الأسماء ، لأن كل واحد من الموجودات مظهر اسم من الأسماء الداخلة فيه وظل له ، فمجموع العالم ظل للإسم الجامع للأسماء .

يقول رضي الله عنه : ( فهو عين نسبة الوجود إلى العالم ) . أي ، ظل الله هو عين نسبة الوجود الإضافي إلى العالم . وذلك لأن الظل يحتاج إلى محل يقوم به ، وشخص مرتفع يتحقق به ، ونور يظهره .
كذلك هذا الظل الوجودي يحتاج إلى أعيان الممكنات التي امتد عليها ، وإلى الحق ليتحقق به ، وإلى نوره ليظهر به .
ونسبة الوجود الكوني إلى العالم نسبه الظل إلى ما يقوم به ، ونسبته إلى الحق نسبة الظل إلى من
يتحقق به ، وهو الشخص ، وإليه أشار بقوله : ( لأن الظل موجود بلا شك في الحس ، ولكن إذا كان ثمة من يظهر فيه ذلك الظل حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل ، لكان الظل معقولا غير موجود في الحس ، بل يكون بالقوة في ذات الشخص المنسوب إليه الظل ) . كالشجرة في النواة .


قال رضي الله عنه : ( فمحل ظهور هذا الظل الإلهي المسمى ب‍ ( العالم ) إنما هو أعيان الممكنات ، عليها امتد هذا الظل . فتدرك من هذا الظل بحسب ما امتد عليه من وجود هذه الذات ) . ( من ) بيان ( ما امتد ) .

والمراد ب‍ ( وجود هذه الذات ) التجلي الوجودي الفائض منها ( ولكن باسمه النور وقع الإدراك ) . أي ، النور اسم من أسماء الذات الإلهية ، ويطلق على الوجود الإضافي والعلم والضياء ، إذ كل منها مظهر للأشياء : أما الوجود ، فظاهر ، لأنه لولاه ، لبقى أعيان العالم في كتم العدم .
وأما العلم ، فلأنه لولاه ، لم يدرك شئ ، بل لا يوجد ، فضلا عن كونه مدركا .
وأما الضياء ، فلأنه لولاه ، لبقيت الأعيان الوجودية في الظلمة الساترة لها . فبالضياء يقع الإدراك في الحس ، وبالعلم يقع الإدراك في عالم المعاني ، وبالوجود الحقاني الموجب للشهود يقع الإدراك في عالم الأعيان والأرواح المجردة .
قال رضي الله عنه : ( وامتد هذا الظل على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول ) . أي ، وباسمه ( النور ) امتد الظل الوجودي على الأعيان .


كما قال تعالى : ( الله نور السماوات والأرض ) . وأول ما يمتد عليها في العلم ، ثم في العين . والأول هو الغيب المجهول لغير الله ، إلا لمن اطلعه الله على من يشاء منه .
وإنما كان مجهولا ، لظلمة عدميته بالنسبة إلى الخارج . ومن شأن الظلمة اختفاء الشئ في
نفسه وإخفاء غيره أيضا ، كما أن من شأن النور الظهور لنفسه والإظهار لغيره.
قال رضي الله عنه : ( ألا ترى أن الظلال تضرب إلى السواد وتشير إلى ما فيها من الخفاء ، لبعد المناسبة بينهما وبين أشخاص من هي ظل له) .
لما كان كل ما في الخارج دليلا وعلامة لما في الغيب ، استدل بضرب الظلال إلى السواد على الخفاء الذي في الأعيان الغيبية ، إذ السواد صورة الظلمة ، كما أن البياض صورة النور . فضمير ( فيها ) و ( بينها ) يجوز أن يكون عائدا إلى ( الظلال ) وهو ظاهر . ويجوز أن
يكون عائدا إلى ( الأعيان ) ، لأنها المستشهد عليها .

وتقديره : ألا ترى الظلال تشير بضربها إلى السواد إلى ما في الأعيان من الخفاء ، لبعد المناسبة بين الأعيان وبين أشخاص من هي ظلال له ، وهي الأسماء الإلهية .
فإن كل عين ظل لاسم من الأسماء - ولا شك - لبعد المناسبة بينها وبين الأسماء ، فإنها أرباب ، وهي عبيدها .
قال رضي الله عنه : (وإن كان الشخص أبيض ، فظله بهذه المثابة ) . ( إن ) للمبالغة .
( ألا ترى أن الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر ، تظهر سوداء . وقد يكون في أعيانها على غير ما يدركه الحس من اللونية . وليس ثمة علة إلا البعد ، وكزرقة السماء . فهذا ما أنتجه البعد في الحس في الأجسام الغير النيرة ) ظاهر

قال رضي الله عنه : ( وكذلك أعيان الممكنات ليست نيرة ، لأنها معدومة ، وإن اتصفت بالثبوت ، لكن لم تتصف بالوجود ، إذ الوجود نور ) .

لما قال لبعد المناسبة بينها وبين اشخاص من هي ظل له ، شرع في آثار البعد ولوازمه . وأراد ب‍ ( الوجود ) هنا الوجود الخارجي . وإنما كان الوجود الخارجي نورا ، لأنه يظهر الأعيان في الخارج ، فتطلع حينئذ على أنفسها وعلى مبدعها ، وتعرف بعضها بعضا وتشاهده ، بخلاف الثبوت فإنها حال كونها ثابتة في الغيب العلمي ، لم يكن لها ذلك ، للقرب المفرط .
والثبوت العلمي ، وإن كان نوعا من الوجود ، لكن ليس له الظهور التام كما للوجود العيني . واعتبر من نفسك :فإن المعاني التي هي حاصلة في روحك المجردة ، ثابتة فيها ولا يشعر بها مفصلة ولا يتميز بعضها عن بعض ، حتى تحصل في القلب ، فيتفصل ويكتسي كل منها صورة قريبة من الصور الخيالية ، فتشعر بها حينئذ ، ويتميز بعضها عن بعض .
فإذا حصلت في الخيال واكتست الصور الخيالية ، صارت مشاهدة ، كما نشاهد المحسوس . ثم ، إذا أخرجتها في الخارج ، حصل له الظهور التام ، فأدركها غيرك وشاهدها . فللأعيان مراتب في الغيب العلمي ، كما لها مراتب في الخارج .


فإذا علمت ما أشير إليه ، علمت الفرق بين الثبوت العلمي والوجود الخارجي .
(غير أن الأجسام النيرة يعطى فيها البعد للحس صغرا . فهذا تأثير آخر للبعد . فلا يدركها الحس إلا صغيرة الحجم ، وهي في أعيانها كبيرة عن ذلك القدر وأكثر كميات . كما علم بالدليل أن الشمس مثل الأرض في الجرم مائة وستين وربعا وثمن مرة ، وهي في الحس على قدر جرم الترس ، مثلا ، فهذا أثر البعد أيضا ) .
أي ، للبعد تأثيرات في رؤية الأجسام النيرة التي هي الكواكب يعطى البعد صغرا ، وفي
غير النيرة يعطى سوادا وزرقة . والباقي ظاهر .
قال رضي الله عنه : (فما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال ، ويجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي عنه كان ذلك الظل ) .
قد مر في المقدمات أن الأعيان هي الذات الإلهية المتعينة بتعينات متكثرة ، فهي من حيث الذات عين الحق ، ومن حيث التعيينات هي الظلال .

فقوله : ( فما يعلم ) . . . معناه : فما يعلم من أعيان العالم التي هي ظلال أسماء الحق وصورها - ومن هذه الموجودات الخارجية مع آثارها وهيآتها اللازمة لها التي ظلال تلك الظلال - إلا مقدار ما يعلم من ذلك الظلال من الآثار والأحوال والصور والأشكال والخصوصيات الظاهرة
منها ، ويجعل من الحق على قدر ما يجهل من ذوات الأعيان وحقائقها التي هي عين الحق .
ولما كان الظل الحسى دليلا وعلامة للظل المعنوي ، قال : ( على قدر ما يجهل من الشخص الذي عنه كان ذلك الظل ) .
أي ، حصل ، لأن الناظر يستدل من الظل على صاحب الظل ، فيعلم أن ثمة شخص ، هذا ظله ، ولا يعلم كيفيته ولا مهيته .
فإذا لم يكن الظل دليلا لمعرفة نفسه وسببا للعلم بحقيقته ، لا يمكن أن يكون دليلا لمعرفة ذات الحق وحقيقته .
(فمن حيث هو ظل له ، يعلم ، ومن حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظل من
صورة شخص من امتد عنه ، يجهل من الحق . فلذلك نقول : إن الحق معلوم لنا من وجه ، ومجهول لنا من وجه ) .
أي ، من حيث أن العالم ظل للحق ، يعلم العالم ، فيعلم من الحق ذلك المقدار .
ومن حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظل من الذات الإلهية ، يجهل من الحق . وهو المراد بقوله : ( من صورة شخص من امتد عنه ) .

و ( ما ) في قوله : ( من حيث ما ) زائدة . إذ معناه : ومن حيث يجهل ما في ذات ذلك الظل ، يجهل الحق . أو مصدرية . أي ، من حيث جهلنا لما في ذات ذلك الظل ، فالحق معلوم لنا من حيث ظلاله ، ومجهول لنا من حيث ذاته وحقيقته .
( "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل " . ) استشهاد بأن الوجود الخارجي الإضافي ظل إلهي ، مستفاد من تجلى الاسم ( الرب ) على يدي ( المبدئ ) و ( القادر ) لإظهار المربوب .
( " ولو شاء لجعله ساكنا " . أي ، يكون فيه بالقوة ) . أي ، ولو شاء لجعل ذلك الظل مكتوما في ظلمة العدم وغيبه المطلق ، فيكون العالم في وجود الحق بالقوة ، ما ظهر شئ منه بالفعل ، لكنه لم يشأ ذلك الظهور الحكم الإلهية في مده وبسطه على الأعيان .
وإنما عبر عن البقاء بالقوة ب‍ ( الساكن ) ، لأن الظهور من القوة إلى الفعل نوع من أنواع الحركة المعنوية .

(يقول ما كان الحق ليتجلى للممكنات حتى يظهر الظل ، فيكون كما بقي من الممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود ) .
أي ، يقول الحق بقوله : ( ألم تر إلى ربك كيف ) الآية ما كان الحق بحيث إن يتجلى لأجل إظهار الممكنات التي هي ظلاله ، فيكون ذلك الظل باقيا في كتم العدم ، كما بقي بعض الممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود الخارجي في كتم عدمه ، بل حين ما يتجلى لها ، ظهرت .
كما قال : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) .
و ( اللام ) في ( ليتجلى ) لام الجحود ، وهو لتأكيد النفي . كقوله تعالى :"وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " . وقوله : ( حتى ) بمعنى ( كي ) . وهو للتعليل ، لا بمعنى ( إلى ) .
فإن قلت : تقرر عند أهل الحق أن الممكنات الطالبة للوجود العيني ، كلها ظاهرة فيه ، فكيف قال : ( كما بقي في الممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود ) . ؟
قلت : ذلك بحسب الكليات لا جزئياتها ، وهو المراد هنا .

( " ثم جعلنا الشمس " ) أي ، الوجود الخارجي الذي هو النور الإلهي ، سماه شمسا باعتبار النور الذي مظهره الشمس .
( "عليه " ) أي ، على الظل الذي هو أعيان الممكنات . ( " دليلا " ) يدل عليه ويظهره .
( وهو اسمه " النور " الذي قلناه ) أي ، ( الشمس ) هو الاسم النور الذي قلناه ، وهو إشارة إلى قوله : ( باسمه النور ، وقع الإدراك ) .
أو مظهر الاسم النور . وكلاهما حق . وذكر الضمير باعتبار الخبر . ( ويشهد له الحس ، فإن الظلال لا يكون لها عين بعد عدم النور ) . ظاهر .

( " ثم قبضناه " ) أي ، الظل الذي هو وجود الأكوان . ( " إلينا قبضا يسيرا "  ) . قبضا سهلا هينا . ( وإنما قبضه إليه ، لأنه ظله ، فمنه ظهر وإليه يرجع ، وإليه يرجع الأمر كله ) . ظاهر . ( فهو هو لا غيره . فوجود الأكوان عين هوية الحق لا غيرها . فكل ما ندركه ، فهو وجود الحق في أعيان الممكنات ) .
أي ، كل ما ندركه بالمدركات العقلية والقوى الحسية ، فهو عين وجود الحق الظاهر في مرآيا أعيان الممكنات .
وقد علمت أن الأعيان مرآيا للحق وأسمائه ، كما أن وجود الحق مرآة للأعيان .
فبالاعتبار الأول ، جميع الموجودات عين ذات الحق ، والأعيان على حالها في العدم ، لأن حامل صور الأعيان هو ( النفس الرحماني ) ، وهو عين وجود الحق ، والوجود الإضافي الفائض عليها ، أيضا عين الحق ، فليس المدرك والموجود إلا عين الحق ، والأعيان على حالها في العلم . وهذا مشرب الموحد .
وبالاعتبار الثاني ، الأعيان هي الظاهرة الموجودة في مرآة الوجود ، والوجود معقول محض .
وهذا مشرب المحجوبين عن الحق ومشرب المحقق الجامع بين المراتب العالم بها في هذا المقام ، الجمع بين الحق والخلق بحيث شهود أحدهما لا تحجبه عن شهود الآخر .
وذلك لجمعه بين المرآتين ، لأن المرايا إذا تقابلت ، تظهر منها عكس جامع لما فيها ، فيتحد ما في المرايا المتعددة بحكم اتحاد انعكاس أشعتها .

وإلى هذا الاعتبار أشار بقوله : ( فمن حيث هوية الحق هو وجوده ) . أي ، فكل ما ندركه من حيث هوية الحق الظاهرة فيه ، هو وجود الحق .
( ومن حيث اختلاف الصور فيه ) أي ، في كل ما ندركه . ( هو أعيان الممكنات . فكما لا يزول عنه ) . أي ، عن الوجود المنسوب إلى العالم .
( باختلاف الصور اسم الظل ) أي ، كونه ظلا للحق وأسمائه .
( كذلك لا يزول عنه باختلاف الصور اسم العالم ، أو اسم سوى الحق ، فمن حيث أحدية كونه ظلا هو الحق ، لأنه الواحد الأحد ، ومن حيث كثرة الصور ، هو العالم ) .

أي ، فمن حيث أحدية الوجود الإضافي وأحدية كونه ظلا ظاهرا منه ، هو الحق لا غيره ، لأن الحق هو الموصوف بالواحد الأحد لا غيره .
وظل الشئ أيضا باعتبار عينه ، وإن كان باعتبار آخر غيره . ومن حيث إنه حامل للصور المتكثرة والحق لا تكثر فيه ، فهو العالم .
(فتفطن وتحقق ما أوضحته لك . وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك ، فالعالم متوهم ، ماله وجود حقيقي ) . لأن الوجود الحقيقي هو الحق ، والإضافي عائد إليه . فليس للعالم وجود مغائر بالحقيقة لوجود الحق ، فهو أمر متوهم وجوده .

(وهذا معنى ( الخيال ) ، أي ، خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق . وليس كذلك في نفس الأمر ) . صرح مقصوده من بيان كون العالم ظلا معناه ظاهر .
( ألا تراه ) أي ، ألا ترى الظل . ( في الحس ) حال كونه ( متصلا بالشخص الذي امتد عنه ، يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال ، لأنه يستحيل على الشئ الانفكاك عن ذاته ) .
إستدل بعدم انفكاك الظل عن الشخص على أنه عين ذلك الشخص ، فهما في الحقيقة واحد . وما أو هم المغايرة إلا ظهور الشئ الواحد بصورتين : إحديهما ، الصورة الظلية ، والأخرى ، الصورة الشخصية .

( فاعرف عينك ، ومن أنت ، وما هويتك ) . أي ، إذا عرفت أن العالم متوهم والمدرك المشهود هو الحق لا غير ، فاعرف ذاتك ، ومن أنت عينه أو غيره ، وما هويتك وحقيقتك ، أحق هي أم غيره ؟
(وما نسبتك إلى الحق ، وبما أنت حق ، وبما أنت عالم وسوى وغير ، وما شاكل هذه الألفاظ ) . أي ، وعلى تقدير إنك غيره ، ما النسبة بينك وبينه ؟
وبأي وجه أنت حق وبأي وجه عالم ؟
قال رضي الله عنه : ( وفي هذا ) أي ، في هذا العلم . ( تتفاضل العلماء : فعالم ) بالله ، (وأعلم .)
(فالحق بالنسبة إلى ظل خاص ، صغير وكبير ، وصاف وأصفى ) أي ، الحق بالنسبة إلى كل واحد من الأعيان التي هي الظلال ، يظهر صغيرا ، وكبيرا ، وكثيفا ، ولطيفا ، وصافيا ، وأصفى .
وذلك لأن المرآة لها أحكام في ظهور المرئي - كما مر من أن الصورة تظهر في المرآة الصغيرة صغيرة ، والكبيرة كبيرة - وإذا كانت قريبة من البساطة ، يظهر الحق فيها على غاية الصفاء واللطافة ، كأعيان المجردات .
وإذا كانت بالعكس تظهر في غاية الكثافة كأعيان من يوصف بأسفل السافلين .
وهو في نفس الأمر منزه عن اللطافة والكثافة والصغر والكبر .
فقوله رضي الله عنه : ( صغير وكبير ) يجوز أن يكون مرفوعا على أنه خبر المبتدأ . ويجوز أن يكون مجرورا صفة ( لظل خاص ) .

وخبر المبتدأ قوله : ( كالنور بالنسبة إلى حجابه عن الناظر في الزجاج : يتلون بلونه ، وفي نفس الأمر لا لون له ) . وعلى الأول ، قوله : ( كالنور ) خبر مبتدأ محذوف .
تقديره : فهو ( كالنور بالنسبة إلى حجابه عن الناظر في الزجاج ) . أي ، بالنسبة إلى ما يحجبه عن الناظر في الزجاج . وفي بعض النسخ : ( بالزجاج ) . وهو متعلق بحجابه .
قال رضي الله عنه : (يتلون بلونه ، وفي نفس الأمر لا لون له . ولكن هكذا تراه ضرب مثال لحقيقتك بربك ) . ( تراه ) مبنى للمفعول ، من ( أرى ، يرى ) بضم الفاء وكسر العين .
أي ، أرانا الحق حال النور وظهوره ملونا بألوان مختلفة وغير ملون في الزجاج المتلون وغير المتلون وهو في نفس الأمر لا لون له ، نوع مثال لحقيقتنا مع ربنا ، لنعلم أنه الواحد الحقيقي الذي لا صورة له في نفسه تحصره ، وهو الذي يظهر في صور الكثرات التي هي مظاهر الأسماء والصفات .

وشبه الحق ب‍ ( النور ) ، والحقائق ب‍ ( الزجاجات المتنوعة ) ، وظهورات الحق في العالم ب‍ ( الألوان المختلفة ) . و ( الضرب ) هنا بمعنى النوع ، أي ، نوع ( مثال ) . و ( الباء ) في ( بربك ) بمعنى ( مع ) .


قال رضي الله عنه : (فإن قلت : إن النور أخضر بخضرة الزجاج ، صدقت ، وشاهدك الحس . وإن قلت : ليس بأخضر ولا ذي لون لما أعطاه لك الدليل ، صدقت ، وشاهدك النظر العقلي الصحيح ) .
وإنما جعل النظر العقلي شاهدا على ما حكم به الدليل ولم يجعله عينه ، لأنه نتيجة النظر العقلي ، فليس عينه .
قال رضي الله عنه : ( فهذا نور ممتد عن ظل هو عين الزجاج ، فهو ظل نوري لصفائه ، ) أي ، هذا النور الملون بالزجاج ممتد عنه ، فهو ظل نوري لصفائه . والغرض منه ، استدلال بما في الخارج على ما في الغيب .
( فهذا نور ) إشارة إلى الوجود الخارجي ، أي ، هذا النور الوجودي ممتد في الخارج بحسب
استعدادات الأعيان وقابلياتها . وتلك الأعيان هي عين الزجاج الذي قبل النور ، وجعله منصبغا بصبغة الذي يقتضيه استعداده . فالوجود الكوني ظل نوري لصفائه وانصباغه بأصباغ الأعيان .

قال رضي الله عنه : (كذلك المتحقق منا بالحق ، تظهر لصفائه صورة الحق فيه أكثر مما يظهر في غيره ) . أي ، كما أن الزجاج لأجل صفائه يمتد عنه ظل نوري منور لما في البيت ،
كذلك ( المتحقق ) بالحق ، أي بالوجود الحقاني وكمالاته والمتخلق بالأخلاق الإلهية ، ( منا ) ، أي من أهل العالم كله أو من الأفراد الإنسانية ، تظهر صورة الحق ، وهي الكمالات الإلهية والصفات الربانية .
فيه أكثر مما تظهر في غيره الذي لم يتخلق بها ولم يتحقق بالحق ، فينور غيره ويظهر ما فيه من الكمالات . وذلك التحقق بحسب صفاء استعداده وقابلية عينه لا غير .
قال رضي الله عنه : ( فمنا من يكون الحق سمعه وبصره وجميع قواه وجوارحه بعلامات ) أي ، بدلائل .
( قد أعطاها الشرع الذي يخبر عن الحق ) . إشارة إلى الحديث القدسي : " لا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه . فإذا أحببته ، كنت سمعه وبصره "إلى آخره .

قال رضي الله عنه : ( ومع هذا عين الظل موجود ، فإن الضمير ) . أي ، ضمير ( سمعه ) و ( بصره ) .
( يعود عليه ) . أي ، على العبد . ( وغيره من العبيد ليس كذلك . فنسبة هذا العبد أقرب إلى وجود الحق من نسبة غيره من العبيد ) .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:16 am

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

 شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص اليوسفي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية   الجزء الثاني

قد مر أن للوجود بالنسبة إلى الأعيان اعتبارات ثلاث :
الأول ، أن الموجود الخارجي وجود متشكل بأشكال الحقائق الغيبية بحكم ظهوره في مرآيا الأعيان وهي ( ما شمت رايحة الوجود ) بعد .
فالحق بهذا الاعتبار عين سمع كل واحد وعين قواه وجوارحه . ولا يختص هذا المعنى بالكمل .
والامتياز بينهم وبين غيرهم من العوام ، في ذلك ، يكون بالعلم والقدرة ، وظهور أنوار تلك القوى فيهم أكثر من غيرهم ، فيكونوا أقرب إلى مقام الجمع الإلهي من غيرهم .
والثاني ، أن الأعيان هي الموجودة في الخارج بحكم ظهورها في مرآة الوجود ،فالموجود خلق.
وحينئذ كل من يترقى عن مرتبة الخلقية بفناء صفاته في صفات الحق وتتبدل بشريته بالحقية ، يبقى الحق عوضا عما فنى منه ، فيكون سمعه وبصره وجوارحه ، وعين العبد باقية . فيختص هذا المعنى بهؤلاء الكمل .
والاعتبار الثالث ، وهو ظهور كل منهما في مرآة الآخر . ويجمع هذا الاعتبار أحكام الاعتبارين المذكورين .
وكلام الشيخ رضي الله عنه  هنا جامع الاعتبارات الثلاث ، يظهر بأدنى تأمل.

قال رضي الله عنه : ( وإذا كان الأمر على ما قررناه ، فاعلم أنك خيال ، وجميع ما تدركه مما تقول فيه سوى ، ) وفي بعض النسخ : ( ليس أنا ) . بفتح الهمزة . أي ، مما تجعله غيرك وتقول فيه : ليس أنا .
( خيال ، فالوجود ) أي ، الوجود الكوني . ( كله خيال في خيال ) لأن الوجود الإضافي والأعيان كلها ظلال للوجود الإلهي .
 
قال رضي الله عنه : ( والوجود الحق ) أي ، الوجود المتحقق الثابت في ذاته . ( إنما هو الله خاصة من حيث ذاته وعينه ، لا من حيث أسمائه ) . كما مر بيانه في المقدمات من أن الوجود من حيث هو هو ، هو الله ، والوجود الذهني والخارجي والأسمائي ،الذي هو وجود الأعيان الثابتة ،ظلاله .
قال رضي الله عنه : ( لأن الأسماء لها مدلولان : ) أي ، بحسب الأجزاء ، إذ مدلول ( الاسم ) هو الذات مع صفة من الصفات . ( المدلول الواحد هو عينه ، وهو ) أي ، هذا المدلول هو ( عين المسمى ،والمدلول الآخر ما يدل عليه مما ينفصل الاسم به من هذا الاسم الآخر ،ويتميز.
فأين ( الغفور ) من ( الظاهر ) و ( الباطن ) ، وأين ( الأول ) من ( الآخر ) . فقد بان لك ما هو كل اسم عين الاسم الآخر ، وبما هو غير الاسم الآخر ) . والغرض ، أن الأسماء متحدة بحسب الذات الظاهرة فيها ، متكثرة ومتميزة بالصفات .
 
قال رضي الله عنه : ( فبما هو عينه ) أي ، عين الحق . ( هو الحق ، وبما هو غيره ) من الصفات ( هو الحق المتخيل الذي كنا بصدده ) . يريد به الأسماء والأعيان ومظاهرها الموجودة في الخارج ، لأنها كلها ظلال الذات الإلهية ، والظل خيال .
فهي من حيث إنها عين الوجود الحق ، حق ظاهر في الصور المتخيلة - سواء كانت الصور علمية غيبية أو روحانية أو مثالية أو حسية ، فإنها كلها خيالات .
قال رضي الله عنه : ( فسبحان من لم يكن عليه دليل إلا نفسه ) . لأن الوجود الخارجي والأعيان الدالة عليه ، كلها بحسب الحقيقة عينه ، فهو الدليل على نفسه .
( ولا يثبت كونه ) أي ، وجوده . ( إلا بعينه ) . وذاته .  
قال رضي الله عنه : ( فما في الكون إلا ما دلت عليه الأحدية ، وما في الخيال إلا ما دلت عليه الكثرة ) . أي ، فليس في الوجود إلا ما تدل عليه الأحدية . ودلالته عليه إظهاره إياه ، كما أن الدليل يظهر المدلول .
وليس في الخيال إلا ما دلت عليه الكثرة . وهي الكثرة الأسمائية التي تظهر الصور الخيالية التي للأكوان بها . فهي دليل على ما في الخيال الذي هو الوجود الإضافي من الصور المتكثرة ، كما أن أحدية الذات دليل على أحدية ذوات ما في الكون .
 
قال رضي الله عنه : ( فمن وقف مع الكثرة ، كان مع العالم ومع الأسماء الإلهية وأسماء العالم).
لأن العالم والأسماء الإلهية هي التي لها التكثر . والمراد ب‍ ( أسماء العالم ) الأسماء التي
يلحقه بالصفات الكونية ، كالحادث والممكن وغيرهما ، كما أن المراد ب‍ ( الأسماء
الإلهية ) الأسماء التي تسمى الحق بها بالصفات الكمالية . ك‍ ( العليم ) و ( القادر ) .
قال رضي الله عنه : ( ومن وقف مع الأحدية ) أي ، الأحدية الذاتية . ( كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمين ) . لا من حيث صورته أي ، صفاته ، فإنها متكثرة .
والوقوف مع الأحدية من شأن الموحدين المحجوبين عن الخلق ، وكونهم مظاهر الحق لاستهلاكهم فيه ، كما أن الوقوف مع العالم من شأن المحجوبين عن الحق ، لكونهم لا يشاهدون إلا الخلق .

والأعلى من هذين المقامين مقام الكمل المشاهدين للحق في كل من المظاهر ، ولو كان أحقر الأشياء . فيرون الحق مع الخلق والوحدة مع الكثرة ، وبالعكس .
قال رضي الله عنه : (وإذا كانت غنية عن العالمين ، فهو عين غناها عن نسبة الأسماء إليها ، لأن الأسماء لها كما تدل عليها تدل على مسمياة آخر تحقق ذلك أثرها ) أي ، وإذا كانت غنية عن العالمين.
فذلك الغنى عين غناها عن الأسماء أيضا ، لأن الأسماء من وجه غيرها ، وإن كان من وجه عينها ، لأنها كما تدل على الذات ، كذلك تدل على مفهومات يمتاز بعضها عن البعض بها . وتحقق ذلك المفهوم أثر تلك الأسماء ، وهو الأفعال الصادرة من مظاهرها .
فإن ( اللطيف ) بالعباد ليس ك‍ ( المنتقم القهار ) .
(" قل هو الله أحد ") من حيث عينه . ( الله الصمد ) من حيث استنادنا إليه)  في وجودنا وجميع صفاتها . ("لم يلد " من هويته ونحن)  قوله : ( ونحن ) يجوز أن يكون معناه : ونحن نلد .
و ( الواو ) للحال . ويجوز أن يكون للعطف .
 
ومعناه : لم يلد من حيث هويته وهوية عيننا . فإن الأعيان من حيث الهوية والذات عين هويته وذاته ، وإن كانت من حيث التعين غيرها . وأيضا الولد في الحقيقة مثل الوالد ، ولا مثل للحق ، إذ كل ما هو موجود ، متحقق به صادر منه ، معدوم عند قطع النظر عن الوجود الحق .
قال رضي الله عنه : ( " ولم يولد " . كذلك . " ولم يكن له كفوا أحد " . كذلك ) . أي ، ولم يولد من حيث هويته ، ولم يكن له كفوا أحد من حيث هويته . لأن ما سواه صادر منه ممكن لذاته ، وهو واجب بذاته فقط ، وأنى الكفاءة بين الممكن والواجب ؟
قال رضي الله عنه : (فهذا نعته . فأفرد ذاته بقوله : " قل هو الله أحد " ). وظهرت الكثرة بنعوته المعلومة عندنا : فنحن نلد ونولد ، ونحن نستند إليه ، ونحن أكفاء بعضنا ببعض . وهذا الواحد منزه عن هذه النعوت ، فهو غنى عنا ) . ظاهر .
قال رضي الله عنه : (وما للحق نسب إلا هذه السورة ، سورة "الإخلاص " ، وفي ذلك نزلت النسب ) . بفتح النون والسين ، مصدر ، كالنسبة . وجمعه : أنساب . والمراد به الوصف . ولا يتوهم أنه بكسر النون وفتح السين ، جمع ( نسبة ) .
 
إذ ( النسب ) الإلهية لا ينحصر فيما ذكر في هذه السورة . أي ، ليس للحق وصف جامع لبيان الأحدية والصفات الثبوتية والإضافية والسلبية في شئ من القرآن ، إلا هذه السورة .
لذلك تسمى سورة ( الإخلاص ) . لكونها خالصة لله .
قوله رضي الله عنه : ( وفي ذلك نزلت ) إشارة إلى أن الكفار قالوا للنبي ، صلى الله عليه وسلم : أنسب لنا ربك أي ، صف لنا أنه جوهر أو عرض ؟ يلد أو لم يلد ؟
وهل يشبهنا أو هل يشبهه شئ ؟  فنزلت . وسبب النزول والإشارة بذلك يؤيد أنه ( نسب ) بفتح النون لا بكسرها . والله أعلم .
 
قال رضي الله عنه : (فأحدية الله من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا ، أحدية الكثرة ، وأحدية الله من حيث الغنى عنا وعن الأسماء أحدية العين . وكلاهما يطلق عليه اسم "الأحد " . فاعلم ذلك ) .
والأول يسمى ب‍ ( مقام الجمع ) و ( أحدية الجمع ) و ( الواحدية ) أيضا .
والثاني يسمى ( جمع الجمع ) . وأكثر ما يستعمل ( الأحدية ) في أحدية العين .
 
قال رضي الله عنه : (فما أوجد الحق الظلال وجعلها ساجدة متفيئة عن الشمال واليمين إلا دلائل لك عليك وعليه ، لتعرف من أنت وما نسبتك إليه وما نسبته إليك ، حتى تعلم من أين ومن أي حقيقة اتصف ما سوى الله بالفقر الكلى إلى الله ، وبالفقر النسبي بافتقار بعضه إلى بعض ) .
 أي ، ما أوجد الحق الظلال المحسوسة ساجدة على الأرض متفيئة ، أي راجعة عن الشمال واليمين إلا دلائل لك ، لتستدل بها على حقيقتك وعينك الثابتة ، لأن عينك الخارجية ظل لها ، وحقيقتك ظل الله ، فيستدل بها عليه ، فتعرف إنك ظل الظل الحق .
ويتيقن أن نسبتك إليه بالظلية ، والظل مفتقر إلى شخصه ، فتعلم منه افتقارك إلى الله .
ونسبته إليك نسبة الشخص إلى الظل ، والشخص مستغن عن ظله ، فتعلم منه غناه الذاتي .
فإذا علمت هذا ، علمت أن العالم من أي جهة اتصف بالافتقار إلى الحق ، ومن أي جهة هو عين الحق .

ولما كان العالم مفتقرا إلى الله في وجوده وذاته وكمالاته مطلقا - وصفه بالفقر الكلى والافتقار بعض العالم إلى البعض كافتقار المسببات إلى الوسائط والأسباب وافتقار الكل إلى الأجزاء افتقار المفتقر إليه من وجه إلى المفتقر
قال رضي الله عنه : ( وبالفقر النسبي بافتقار بعضه إلى بعض ) .
( حتى تعلم من أين ومن أي حقيقة اتصف الحق بالغنى عن الناس والغنى عن العالمين ) . الحقيقة التي اتصف منها الحق بالغنى عن الناس ، ليست غير ذاته تعالى ، فهو غنى بذاته عن العالمين .
والحقيقة التي اتصف منها العالم يغنى بعضه عن بعض ، هو كون كل من أهل العالم عبدا لله محتاجا إليه في ذاته وكمالاته ، والعبد لا يملك شيئا ، فلا يحتاج إلى غيره ، بل كلهم يحتاجون إلى الحق . 
فاستغنى بعضهم عن بعض من هذه الحيثية ، مع أن كلا منهم مفتقر إلى الآخر . فإن العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شك افتقارا ذاتيا ، وإليه أشار بقوله :
( واتصف العالم بالغنى ، أي ، بغنى بعضه عن بعض من وجه ما هو عين ما افتقر إلى بعضه به) .(ما) في الموضعين بمعنى (الذي) .
و ( به ) عائد إلى ( الوجه ) . أي ، اتصف بعض العالم بالغنى عن بعضه من الوجه الذي افتقر ذلك البعض إلى بعض آخر بسبب ذلك الوجه . والمقصود أن وجه الغنى هو بعينه وجه الافتقار.
وذلك لأن الوجه الذي افتقر به بعض العالم إلى بعض ، هو وجه عبودية ذلك البعض المفتقر إلى ربوبية الآخر .

والوجه الذي غناه به عن بعض آخر ، هو أيضا عبودية ، لأن وجه العبودية ظل ، والظل لا يحتاج إلى الظل . غاية ما في الباب ، أن متعلق الغنى هو عبودية من هو مستغن عنه وظليته ، ومتعلق الافتقار ربوبيته . فاتحاد جهتي الغنى والافتقار من طرف الغنى والمفتقر ، لا من طرف الآخر .
ويجوز أن يكون : ( من وجه ما ) بتنوين التنكير . أي ، من وجه من الوجوه ، وذلك الوجه بعينه وجه الافتقار ، والمعنى على حاله .
ويجوز أن يكون ( ما ) في ( ما هو ) بمعنى ( ليس ) . أي ، ليس وجه الغنى عين الوجه الذي به يحصل الافتقار . والأظهر أن المراد هو الأول ، لأن تغاير الجهتين أمر بين لا يحتاج إلى الذكر .
وقد مر مثله ، في الفص الثاني ، من قوله : ( وهو عالم من حيث ما هو جاهل ) .
( فإن العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شك افتقارا ذاتيا ، وأعظم الأسباب له سببية الحق ) . لأن ما سواه ممكن مفتقر إليه ، وهو واجب بذاته . ( ولا سببية للحق يفتقر العالم إليها سوى الأسماء الإلهية ) .
أي ، لا سببية فيفتقر العالم إليها للحق سوى الأسماء الإلهية ، لأنه تعالى بذاته غنى عن العالمين ، ولا يطلب العالم إلا الأسماء ، فلها السببية .

(والأسماء الإلهية ، كل اسم يفتقر العالم إليه من عالم ، مثله أو عين الحق ) .
أي ، الأسماء عبارة عن كل ما يفتقر العالم إليه في وجوده وكمالاته وذاته ، سواء كان ذلك الاسم المفتقر إليه من جنس عالم مثله ، كالوالد بالنسبة إلى الولد ، فإنه سبب وجوده وتحققه في الخارج - مع أنه من العالم . أو لا يكون من جنس العالم ، بل ناش من عين الحق وتجل من تجلياته ، كالأرباب للأعيان .
ويجوز أن يكون ( من عالم ) بيان قوله : ( كل اسم ) . أي ، الاسم الإلهي .
كل عين يفتقر العالم إليها ، سواء كانت عينا من الأعيان الموجودة أو الثابتة العلمية ، أو عين الحق ، كافتقار الولد إلى عين الأبوين في كونهما سببا لوجوده .
وكافتقارنا في وجودنا إلى أعياننا العلمية ، لأنه ما لم يوجد في العلم ، لم يوجد في العين .
وكافتقارنا إلى الأسماء التي الأعيان الثابتة مظاهرها ،وهي الذات الإلهية باعتبار كل من الصفات .
فالاسم يطلق على الأعيان الموجودة والأعيان الثابتة التي هي مسمى العالم ، لكن من وجوه ربوبيتها ، لا من وجوه عبوديتها ، كما يطلق على أربابها ، وهي الذات مع كل واحد من صفاتها .

( فهو "الله" لا غيره . ولذلك قال : " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد ") .
أي ، فالاسم المحتاج إليه ، هو عين الله لا غيره ، سواء كان  من جنس العالم ، أو لم يكن ، لأنه إنما صار مفتقرا إليه باعتبار ربوبيته ، وهي لله تعالى لا لغيره .
وأيضا الوجود هو الله ، والكمالات اللازمة له من الرزق والحفظ والربوبية كلها لله ، فليس للعين من حيث إنه عالم إلا العجز والنقص وأمثالهما ، كلها راجعة إلى العدم ، فالعين من حيث إنها مغائرة للحق ، ليست إلا العدم .
ولكون الفقر لازما لعين العالم ، قال تعالى : " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد" .

(ومعلوم أن لنا افتقارا من بعضنا لبعضنا . فأسماؤنا ) أي ، أسماؤنا الكونية ، هي ( أسماء الله ) . باعتبار التنزل والاتصاف بصفات الكون .
أو ذواتنا أسماء الله تعالى ، من حيث الربوبية والصفات الكمالية . وأسماؤنا الملفوظة أسماء تلك الأسماء ( إذ إليه ) أي ، إلى الله . ( الافتقار بلا شك ) . لا إلى غيره .
وإنما قال : ( أسماؤنا أسماء الله ) . 

ولم يقل : ذواتنا ، ليشمل أسماء الأسماء ، لأنها أيضا أسماؤه تعالى ، إذ هو الذي يتنزل بحسب المراتب ، فيتصف بصفات الأكوان ، ويتسم بأسماء الأعيان ، كما قال رضي الله عنه  : وهو المسمى بأبي سعيد الخراز وغيره .

"" أضاف الجامع : قال الشيخ رضي الله عنه فى الفص الرابع فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية : "قال الخراز رحمه الله تعالى، وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن الله تعالى لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها. 
فهو الأول والآخر والظاهر والباطن. فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره. وما ثم من يراه غيره، وما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه. 
وهو المسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات".أهـ""

( وأعياننا في نفس الأمر ظله لا غيره ، فهو هويتنا لا هويتنا ) . أي ، أعياننا الثابتة والموجودة كلها ظله ، وظل الشئ عينه باعتبار ، فالحق هويتنا من هذا الوجه ، لا هويتنا من حيث امتياز الظل عن المظل .
ولما كان هذا التحقيق إيضاحا للحق وطريقه ، قال : ( وقد مهدنا لك السبيل ، فانظر ) أي ، عينا لك طريق الحق ، فانظر فيه تجده .
والله أعلم بالصواب .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:17 am

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الأول .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية  الجزء الأول
لما تقدم الكلام على الأحدية الذاتية والأحدية الإلهية التي هي من حيث الأسماء في آخر الفص المتقدم ، شرع في بيانها من  حيث الربوبية وأحدية طرقها مع بيان ما يتبعها من المعاني اللازمة لها .
إذ للأحدية مراتب :
أولها ، أحدية الذات . 
وثانيها ، أحدية الأسماء والصفات . 
وثالثها ، أحدية الأفعال الناتجة من الربوبية .
وأسندها إلى كلمة ( هودية ) قد لأنه ، عليه السلام ، كان مظهرا للتوحيد الذاتي والأسمائي وربوبيتها داعيا قومه إلى مقام التحقيق بقوله : "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم "
قال الشيخ رضي الله عنه : (إن لله الصراط المستقيم .... ظاهر غير خفى من عموم)
واعلم ، أن الاسم الإلهي كما هو جامع لجميع الأسماء وهي تتحد بأحديته ، كذلك طريقه جامع لطرق تلك الأسماء كلها ، وإن كان كل واحد من تلك الطرق  مختصا باسم يرب مظهره ويعبده المظهر من ذلك الوجه ، ويسلك سبيله المستقيم الخاص بذلك الاسم . وليس الجامع لها إلا ما سلك عليه المظهر المحمدي ، وهو  طريق التوحيد الذي عليه جميع الأنبياء والأولياء ، ومنه يتفرع الطرق وتتشعب .
ألا ترى أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، لما أراد أن يبين ذلك للناس ، خط خطا مستقيما ، ثم خط من جانبه خطوطا خارجة من ذلك الخط ، وجعل الأصل الصراط المستقيم الجامع ، والخطوط الخارجة منها جعل سبل الشيطان كما قال : "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله".
وذلك الصراط المستقيم الجامع ظاهر غير خفى من عموم الأسماء الإلهية ، أو من عموم الخلائق كلها .
قال الشيخ رضي الله عنه : (في كبير وصغير عينه  ..... وجهول بأمور وعليم )
ضمير ( عينه ) عائد إلى ( الله ) . ولما ذكر أن لله الصراط المستقيم وذاته وهويته مع كل موجود ، قال : إن عينه في كل كبير وصغير وعليم وجهول ، لا ذرة في الوجود إلا وهي بذاته موجودة . وله الصراط المستقيم ، فكل موجود على الصراط المستقيم .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولهذا وسعت رحمته ....   كل شئ من حقير وعظيم )
أي ، لأجل أن عين الله وذاته في كل كبير وصغير ، وسعت رحمته كل شئ ، حقيرا كان في القدر أو عظيما ، لأنه رحمان على الكل ، كما أنه إله الكل ، فيوجد الكل ويرحمهم بإيصال كل منهم إلى كماله .
والغضب والانتقام أيضا من عين رحمته ، فإن أكثر أهل العالم بهما يصل إلى الكمال المقدر لهم ، وإن كان غير ملائم لطباعهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم " . ) 
أي ، ما من شئ موجود إلا آخذ بناصيته . وإنما جعله دابة ، لأن الكل ، عند صاحب الشهود
وأهل الوجود ، حي ، فمعناه : ما من حي إلا والحق آخذ بناصيته ومتصرف فيه بحسب أسمائه ، يسلك به أي طريق شاء من طرقه ، وهو على صراط مستقيم .
وأشار بقوله : ( هو آخذ ) إلى هوية الحق الذي مع كل من الأسماء ومظاهرها .
وإنما قال : ( ان ربى على صراط مستقيم ) بإضافة الاسم ( الرب ) إلى نفسه ، وتنكير ( الصراط ) ، تنبيها على أن كل رب فإنه على صراطه المستقيم الذي عين له من الحضرة الإلهية.
والصراط المستقيم الجامع للطرق هو المخصوص بالاسم الإلهي ومظهره .
لذلك قال في الفاتحة المختصة بنبينا صلى الله عليه وآله : ( إهدنا الصراط المستقيم ) بلام العهد ، أو المهيته التي منها يتفرع جزئياتها .
فلا يقال : إذا كان كل أحد على الصراط المستقيم ، فما فائدة الدعوة ؟
لأنا نقول : الدعوة من الهادي إلى المضل ، وإلى العدل من الجائر ، كما قال تعالى "يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا"
قال الشيخ رضي الله عنه : (فكل ماش فعلى صراط الرب المستقيم ، فهو "غير مغضوب عليهم " من هذا الوجه - ولا " ضالين " ) .
لأنه مظهر لاسم يربه في ذلك الطريق ، فهو مقتضاه ، والشئ لا يغضب على من يعمل بمقتضى طبيعة ذلك الشئ ، فهو غير داخل في حكم ( المغضوب عليهم ) ولا في ( الضالين ) . وإن كان بالنسبة إلى رب يخالفه في الحكم ، داخلا في حكمهم ، كعبيد ( المضل ) بالنسبة إلى عبيد ( الهادي ) .
فلما كان الضلال إنما يتحقق بالنظر إلى رب آخر لا بذاته ،
قال الشيخ رضي الله عنه :  : ( فكما كان الضلال عارضا ، كذلك الغضب الإلهي عارض ، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شئ ، وهي السابقة ) .
وأيضا الأرواح كلها بحسب الفطرة الأصلية قابلة بالتوحيد الأصلي طالبة للهدى .
كما قال تعالى : " ألست بربكم قالوا بلى " . وليس هذا القول مختصا بالبعض دون البعض بدليل " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه " .
فما عرض الضلال عليها إلا بالاستعداد التعيني العلمي المختفي بنور الاستعداد الذاتي الحقاني الظاهر في عالم الأنوار لقوة نوريته .
فلما غشيته الغواشي الطبيعية وحجبته الحجب الظلمانية المناسبة للاستعداد الناتجة من التعين ، عرض عليها الضلال ، فطلب عروض الغضب فالغضب المرتب  عليه عارض ، والرضا والرحمة ذاتية ، لأنهما من حيث كونهم على الصراط المستقيم ، فالمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شئ ، وهي السابقة على الغضب بحكم : " سبقت رحمتي على غضبي " .
( وكل ما سوى الحق فهو دابة ، لأنه ذو روح ) . سواء كان جمادا أو نباتا .
( وما ثمة ) أي ، في العالم . ( من يدب بنفسه ، وإنما يدب بغيره ، فهو يدب بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم ) .
أي ، لا يتحرك كل من الموجودات العينية إلا بحركة الأعيان العلمية ، وهي بالأسماء التي هي
على الصراط المستقيم .
فإن الرب إنما يتجلى في حضرة غيبه بتجلي خاص من حضرة خاصة ، فيظهر أثر ذلك التجلي في صورة ذلك الاسم التي هي العين الثابتة ، ثم في صورتها الروحية ، ثم في صورتها النفسية ، ثم الحسية . فاستناد تلك الحركة ، وإن كان إلى تلك الصورة ظاهرا ، لكنه ينتهى إلى الحق باطنا ، فهو المبدأ لها ، والصورة تابعة في الحركة له .
( فإنه لا يكون صراطا إلا بالمشي عليه ) . تعليل ما أسند إلى الرب من الحركة بقوله : ( فهو يدب بحكم التبعية الذي هو على الصراط المستقيم ) . أي ، إنما يكون الرب على صراط مستقيم ، إذا كان ماشيا عليه ، فإن الصراط لا يكون صراطا إلا بالمشي عليه .
شعر :
قال الشيخ رضي الله عنه :  (إذا دان لك الخلق  ..... فقد دان لك الحق )
لما ذكر أن كل ذي روح إنما يتحرك بالتبعية لحركة الرب الحاكم عليه ، أردفه بعكسه ، وهو تبعية الحق للخلق .
فقوله : ( إذا دان لك ) من ( الدين ) ، وهو الانقياد والإطاعة ،
كما مر أن معناه : إذا أطاع لك الخلق وانقاد ، فقد أطاع لك الحق ، لأن طاعتهم ظل طاعته ، وطاعة الحق سابقة على طاعتهم .
وسبب هذه الطاعة طاعة عينك للحق بالقبول للتجلي الوجودي وحسن تأتيها لأحكام أسمائه .
فإنه مطيع من أطاعه ، كما قال : "أجيب دعوة الداع إذا دعان " . إذ هو الانقياد والطاعة لقوله : " أدعوني أستجب لكم " .
وفي الحديث القدسي : ( من أطاعني ، فقد أطعته ، ومن عصاني ، فقد عصيته ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وإن دان لك الحق  ...... فقد لا يتبع الخلق )
أي ، إذا تجلى لك الحق وأطاعك وكشف أسراره عليك ، فقد يتبع الخلق بقبول ذلك الأسرار وأحكام ذلك التجلي ، كالمريدين والمؤمنين من الأنبياء والأولياء ، وقد لا يتبع الخلق بامتناعهم من قبولها وإنكارهم لها ، كالمنكرين والكافرين لأهل الله المطرودين من باب الله .
وسبب ذلك الامتناع ، امتناع أعيانهم في الغيب عن نور الحق وإبائهم عن قبوله ، إذ ما يظهر عليهم إلا ما كان مكنونا فيهم .
أو ( وإن دان لك الحق ) الظاهر في صورتك ، فقد يتبع الخلق بحكم المناسبة التي بينك وبينهم في الأرواح والأسماء التي يربها ، وقد لا يتبع الخلق الحكم ،بحكم المباينة الواقعة بين ربك وأربابهم ، والتنافر الحاصل بين روحك وأرواحهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فحقق قولنا فيه  ...... فقولي كله حق)
أي ، واجعل قولنا حقا وصدق كل ما أقوله في الحق وأنواره ، والخلق وأسراره .
" فقولي كله الحق " . والصدق ، لأنه يفيض على من الله العليم بالتجلي العلمي .
كما قال : " فإنه من مقام التقديس المنزه عن الأغراض والتلبيس " .
وقال في فتوحاته : " إن الله تجلى لي مرارا ، وقال إنصح عبادي " . فهو مأمور بإظهار هذه الأسرار . 
قال الشيخ رضي الله عنه : (فما في الكون موجود  ...... تراه ماله نطق )
أي ، ليس في الوجود موجود تراه وتشاهده إلا وله روح مجرد ناطق بلسان يليق به . وقال تعالى : "وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " .
وهذا اللسان ليس لسان الحال كما يزعم المحجوبون .
قال الشيخ رضي الله عنه في آخر الباب الثاني عشر من الفتوحات :
وقد ورد أن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب ويابس ) . والشرائع والنبوات من هذا القبيل مشحونة . ونحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف ، فقد سمعنا الأحجار تذكر الله رؤية عين بلسان نطق تسمعه آذاننا منها ، وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله مما ليس يدركه كل إنسان وإنما اختفى نطق بعض الموجودات لعدم الاعتدال الموجب لظهور ذلك بالفعل ، فلا يسمعه كل أحد ، فبقى نطقه باطنا ، والمحجوب يزعم أنه لا نطق له .
والكامل لكونه مرفوع الحجاب يشاهد روحانية كل شئ ، ويدركه نطق كل حي باطنا وظاهرا . والحمد لله أولا وآخرا .

قال الشيخ رضي الله عنه : (وما خلق تراه العين  ...... إلا عينه حق )
أي ، ليس كل خلق في الوجود تشاهده العين ، إلا عينه وذاته عين الحق الظاهر في تلك الصورة ، فالحق هو المشهود والخلق موهوم . لذلك يسمى به : فإن ( الخلق )  في اللغة الإفك والتقدير . وقال تعالى : ( إن هذا إلا اختلاق ) . أي ، إفك ، وتقدير من عندكم ، ( ما أنزل الله بها من سلطان ) .

قال الشيخ رضي الله عنه : (ولكن مودع فيه   ...... لهذا صوره حق )
أي ، صور الخلق ( حق ) له ، بضم ( الحاء ) وهو جمع ( الحقاق ) . شبه صور الخلائق بالحقاق ، والحق بما فيها .
ف‍ 
( الصور ) جمع ( الصورة ) . سكن ( الواو ) لضرورة الشعر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (واعلم ، أن العلوم الإلهية الذوقية  الحاصلة لأهل الله ، مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها ، مع كونها ترجع إلى عين واحدة ) .
( منها ) عائد إلى ( القوى ) . وتقديره : باختلاف القوى الحاصلة منها العلوم .
ولا يجوز أن تعود إلى ( العلوم ) لأن القوى لا يحصل منها . وضمير ( كونها ) أيضا عائد إليها .
ويجوز أن يعود إلى ( العلوم ) . و ( العلوم الإلهية ) ما تكون موضوعه الحق وصفاته ،
كعلم بالأسماء والصفات وعلم أحكامها ولوازمها ، وكيفية ظهوراتها في مظاهرها ، وعلم الأعيان الثابتة ، والأعيان الخارجية من حيث إنها مظاهر الحق  .
والمراد ب‍ ( الذوق ) ما تجده العالم على سبيل الوجدان والكشف ، لا البرهان والكسب ، ولا على طريق الأخذ بالإيمان والتقليد . فإن كلا منها ، وإن كان معتبرا بحسب مرتبته ، لكنه لا يلحق بمرتبة العلوم الكشفية ، إذ ليس الخبر كالعيان .
وإنما كانت مختلفة باختلاف القوى ، لأن كلا منها مظهر اسم خاص . وله علم يخصه ، سواء كانت روحانية أو نفسانية أو جسمانية . ألا ترى أن ما يحصل بالبصر ، لا يحصل بالسمع وبالعكس ؟ وما يحصل بالقوى الروحانية ، لا يحصل بالقوى الجسمانية وبالعكس ؟
وإن كانت تلك القوى راجعة إلى ذات واحدة ، وهي الذات الأحدية . أو مع كون تلك العلوم راجعة إلى الذات الواحدة الإلهية ، إذ كل ما للأسماء ومظاهرها مستفاد منها ، واختلافها باختلاف القوابل ، إذ العلم حقيقة واحدة ، صارت باختلاف المحال علوما مختلفة .

قال رضي الله عنه : (فإن الله تعالى يقول : كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يسعى بها  .
فذكر أن هويته هي عين الجوارح التي هي عين العبد ، فالهوية واحدة ، والجوارح مختلفة ) . 
تعليل قوله : ( مع كونها ترجع إلى عين واحدة ) . وهذا نتيجة قرب النوافل .
( ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها ) أي ، يخص ذلك العلم
تلك الجارحة ، كإدراك البصر للمبصر ، والسمع للمسموعات .
ولذلك قال عليه السلام : ( من فقد حسا ، فقد علما ) .
وذلك لأن كل عضو مظهر لقوة روحانية هي مظهر لاسم إلهي ، وله علم يخصه ويفيض منه على مظهره .
قال رضي الله عنه : ( من عين واحدة يختلف باختلاف الجوارح ) أي ، تلك العلوم حاصلة من عين واحدة إلهية ، وفي ظهورها بمظاهر مختلفة يختلف .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كالماء ، حقيقة واحدة يختلف في الطعم باختلاف البقاع ، فمنه عذب فرات ، ومنه ملح أجاج ، وهو ماء في جميع الأحوال ، لا يتغير عن حقيقته وإن اختلفت طعومه ) . ظاهر .
وفيه تشبيه ( العلم الكشفي ) بالعذب الفرات ، فإنه يروى شاربه ويزيل العطش ، كما أن الكشف يعطى السكينة لصاحبه ويريحه .
و ( العلم العقلي ) بالملح الأجاج ، لأنه لا يزيل العطش ، بل يزداد العطش لشاربه . وكذلك العلم
العقلي لا يزيل الشبهة ، بل كلما أمعن النظر ، يزداد شبهته ويقوى حيرته . وأصل الكل واحد ، كما أن الماء واحد بالحقيقة .
قال تعالى : " يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل" .
وإنما شبه العلم بالماء ، لكونه سبب حياة الأرواح ، كما أن الماء سبب حياة الأشباح . ولذلك يعبر الماء ب‍ ( العلم ) .
وفسر ابن عباس ، رضي الله عنه : ( وأنزلنا من السماء ماء ) . بالعلم .

قال الشيخ رضي الله عنه:  (وهذه الحكمة من علم الأرجل ، وهو قوله تعالى في الأكل لمن أقام كتبه ومن تحت أرجلهم ).
 أي ، هذا لحكمة الأحدية هي من العلوم التي تحصل بالسلوك . ولما كان السلوك الظاهري بالأرجل ، قال : ( من علم الأرجل ) .
ملاحظا قوله تعالى : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " .
أي ، ولو أنهم أقاموا أحكامهما وعملوا بهما وتدبروا معانيهما وكشفوا حقائقهما ، لتغذوا بالعلوم الإلهية الفائضة على أرواحهم ، وعرفوا مطلعاتها من غير كسب وتعمل وهو الأكل من فوقهم -
بالعلوم الحاصلة لهم بحسب سلوكهم في طريق الحق وتصفية بواطنهم من الكدورات البشرية ، كعلوم الأحوال والمقامات الحاصلة للسالكين في أثناء سلوكهم - وهو الأكل من تحت أرجلهم.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فان الطريق ،الذي هو الصراط ،هو للسلوك عليه ،والمشي فيه والسعي لا يكون إلا بالأرجل) تعليل قوله : ( وهذه الحكمة من علم الأرجل ) 
ومعناه : أن الطريق إنما هو لأجل السلوك عليه ، والمشي والسلوك لا يحصل إلا بالأرجل .
شبه السلوك المعنوي بالسلوك الصوري الحسى .
ولما كان السلوك يعطى السالك الفناء في الله والبقاء به ، فتحصل الأحدية الذاتية بالأول والأسمائية بالثاني ، فيرب هذا السالك في رجوعه إلى الخلق مظاهر الحق ويوصلهم إليه لا غير  قال رضي الله عنه : ( فلا ينتج هذا الشهود في أخذ النواصي بيد من هو على صراط مستقيم ، إلا هذا الفن الخاص من علوم الأذواق ) . أي ، لا يحصل شهود أخذ النواصي بأيدي من هو على صراط مستقيم ، إلا بهذا النوع من العلوم .
فقوله : ( في أخذ النواصي ) . متعلق ب‍ ( الشهود ) . وقوله : ( بيد من ) متعلق ب‍ ( الأخذ ) .
قال رضي الله عنه : (ونسوق المجرمين . وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه بريح " الدبور " التي أهلكهم عن نفوسهم بها ) لما كان الحق آخذا بنواصي كل ذي روح  ونفس - وكان هو السائق أيضا بظهوره في مظهر الهوى الذي به يدخل في حكم المضل - شرع في بيانه على سبيل الإيماء ، وجاء بقوله تعالى : ( ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ) . استشهادا على أنه هو السائق ، كما أنه هو القائد .
فيسوق المجرمين الكاسبين للهيئات والصفات التي بها دخلوا جهنم . واستحقوه بصور الأهواء الناشئة من نفوسهم في الظاهر ، وهي ريح ( الدبور ) ، لأنها حاصلة من الجهة الخلقية والعالم الهيولاني المظلمة إلى عين جهنم البعد المتوهم . ف‍ ( أهلكهم عن نفوسهم بها ) .
أي ، أفناهم عنها بتلك الريح ، وأوصلهم إلى ذاته . أو ، أراد ب‍ ( المجرمين ) . الكاسبين لخيرات ، السالكين طريق النجاة ،
المرتاضين بالأعمال الشاقة ، المشتاقين لظهور حكم ( الحاقة ) ، فإنهم يكسبون بها التجليات المفنية لذواتهم .
فإنه ذكر في الفتوحات عند ذكر الأولياء : ( إنه من الأولياء المشركون ومنهم المراؤون ومنهم الكافرون ) . وأمثال ذلك . إلا أن الكلام الآتي يؤيد الأول .
قال رضي الله عنه : (فهو يأخذ بنواصيهم ، والريح تسوقهم . وهي عين الأهواء التي كانوا عليها إلى جهنم ، وهي البعد الذي كانوا يتوهمونه . فلما ساقهم إلى ذلك الموطن ، حصلوا في عين القرب ، فزال البعد ، فزال مسمى جهنم في حقهم ، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق ، لأنهم مجرمون ) .
أي ، الحق يأخذ بنواصي المجرمين ويسوقهم بريح الأهواء إلى جهنم . ثم ، فسر جهنم ب‍ ( البعد ) إيماء بأن كل من بعد من الحق بالاشتغال بالأمور الطبيعية والنفسانية ، فهو من حيث ذلك في جهنم .
ولما كان في نفس الأمر لا بعد لأحد من الله - إذ المواطن والمقامات كلها صور مراتب الحق -
وصف ( البعد ) بأنه أمر متوهم ، ينشأ من توهمهم أن في الوجود سوى وغيرا .
فلما ساقهم الحق إلى ذلك الموطن ، أي إلى دار جهنم وأهلكهم وخلصهم عن نفوسهم بالفناء فيه ، حصل لهم عين القرب ، وانكشف لهم أن البعد من الله ما كان إلا توهما محضا ، فانقلب جهنم في حقهم بالنعيم ، لأنهم كسبوا باستعدادهم ذلك ، فصاروا عارفين بالله ومراتبه . ولكن بعد أخذ ( المنتقم ) منهم حقه .
وتحقيق هذا المعنى أن ( جهنم ) مظهر كلي من المظاهر الإلهية ، يحتوي على مراتب جميع الأشقياء ، كما أن ( الجنة ) مظهر كلي ، يحتوي على جميع مراتب السعداء . فأعيان الأشقياء إنما يحصل كما لهم بالدخول فيها ، كما أن أعيان السعداء يحصل كمالهم بدخول الجنة . وإليه أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : " إن العبد لا يزال يعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبرا ، فيعمل عمل أهل النار فيدخل فيها . ولا يزال العبد يعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقى بينه وبين النار إلا شبرا ، فيعمل عمل أهل الجنة فيدخل فيها " .
 فكل من الأشقياء إذا دخل جهنم ، وصل إلى كماله الذي يقتضيه عينه . وذلك الكمال عين القرب من ربه ، كما أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها ، وصلوا إلى كمالهم ومستقرهم ، وقربوا من ربهم .
هذا إذا كان المراد ب‍ ( المجرمين ) أهل النار .
وأما إذا كان المراد بهم السالكين ، فالمراد بجهنم دار الدنيا ، ولا إشكال حينئذ .
قال رضي الله عنه : (فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة . وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها ) .
أي ، فما أعطاهم الحق هذا المقام ، أي مقام الفناء ، على سبيل الفضل والمنة ، كما لأهل الجنة ، بل إنما أخذوه بما أعطتهم أعيانهم من الأعمال التي كانوا عليها .
قال رضي الله عنه :  (فكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم ،لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة) .
أي ، وكانوا في سعيهم في أعمالهم التي عملوها بحسب متابعة الهوى والنفس ، على الصراط المستقيم الذي لربهم الحاكم عليهم بالربوبية . هذا على الأول .
وعلى الثاني ، و كانوا في سعيهم في الرياضات والمجاهدات مع النفس وتحمل المشاق والأعمال الشرعية ، على الصراط المستقيم ، لأن نواصيهم بيد الحق .
كما قال ، صلى الله عليه وسلم : " قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلبها كيف يشاء " .
قال رضي الله عنه : (فما مشوا بنفوسهم ، وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب ).
أي ، فما مشوا الهالكين بنفوسهم إلى جهنم ، وإنما مشوا بحكم الجبر من القائد
والسائق اللذين حكما على نفوسهم بحسب طلب أعيانهم منهما ذلك . فالجبر
في الحقيقة عائد إلى الأعيان واستعداداتها ، لأن الحق إنما يتجلى عليها بحسب
استعداداتها . ولهذا السر ما أسند الجبر إلى الرب ، بل إليهم .
 ( " ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ". ) استشهاد على القرب .
قال رضي الله عنه : ( وإنما هو يبصر ، فإنه مكشوف الغطاء " فبصره حديد " ) ( هو ) عائد إلى من حصل له القرب . أي ، وإنما صاحب هذا القرب يبصر قرب الحق منه ، لأنه انكشف عنه الغطاء ، فصار بصره حديدا .
كما قال في حق نبينا ، صلى الله عليه وسلم : " فكشفنا عنك غطائك ، فبصرك اليوم حديد " .
وما قاله رضي الله عنه لا ينافي قوله تعالى : " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " . 
لأن العمى إنما هو بالنسبة إلى الله المطلق ، رب الإنسان الكامل ، وكشف الغطاء كونهم حديد البصر حينئذ بالنسبة إلى أربابهم الخاصة التي تربهم فيها . 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما خص ميتا من ميت ، أي ، ما خص سعيدا في القرب من شقي ) .
أي ، ما خص قوله تعالى : ( ونحن أقرب إليه منكم ) ميتا من ميت ، بل شمل الكل .
وإنما قال : ( ميتا من ميت ) لأن ضمير إليه عائد إلى ( الميت ) ، فما خص السعداء بالقرب ، كما قال في موضع آخر :
( " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " . وما خص إنسانا من إنسان ) . هذا يدل بأن المراد ب‍ ( المجرمين ) أيضا ليس قوما مخصوصا من السالكين أو أهل جهنم ، بل يشملهما .
قال رضي الله عنه : (فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الإخبار الإلهي . فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عين أعضاء العبد وقواه ،وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى. فهو) أي ، العبد .
قال رضي الله عنه : ( حق مشهود في خلق متوهم ) . أي ، ظاهرة في صورة خلق متوهم ، وهي الصورة الظلية .
وقد مر غير مرة أن كل ما يدرك ويشهد ، فهو حق والخلق متوهم ، لأن الحق هو الذي تجلى في مرآيا الأعيان ، فظهر بحسبها في هذه الصورة ، فالظاهر هو الحق لا غير .
قال رضي الله عنه : (فالخلق معقول ، والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود . وما عدا هذين الصنفين ، فالحق عندهم معقول والخلق مشهود ) .
وهم المحجوبون ، كالحكماء والمتكلمين والفقهاء وعامة الخلائق ، سوى المؤمنين بالأولياء وأهل الكشف ، لأنهم أيضا يجدون في بواطنهم حقيقة ما ذهب إليه الأولياء . فإن المؤمن يقوم له نصيب منهم ، وإلا ما آمن بهم .
قال رضي الله عنه : (فهم بمنزلة الماء الملح الأجاج ، والطائفة الأولى بمنزلة العذب الفرات السائغ لشاربه ) . 
أي ، فعلمهم بمنزلة الملح الأجاج لا يروى لشاربه ولا يسكن عطش 
صاحبه . 
وعلم الطائفة الأولى ، وهم أهل الكشف والوجود ، بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه النافع لصاحبه . 
قال رضي الله عنه : (فالناس على قسمين : فمن الناس من يمشى على طريق يعرفها ويعرف غايتها ، فهو في حقه صراط مستقيم . ومن الناس من يمشى على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها ، وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر ) .
أي ، إذا كان الناس منهم أهل الكشف ومنهم أهل الحجاب ، فالناس على قسمين في سلوكهم على الطريق المستقيم : منهم من يمشى على طريق يعرفها ، أي ، يعرف أنها حق ، والطارق والمطروق إليه حق ، كما قيل :
لقد كنت دهرا قبل أن تكشف الغطاء ......   أخالك إني ذاكر لك شاكر
فلما أضاء الليل أصبحت شاهدا ....... بأنك مذكور وذكر وذاكر
ويعرف غايتها من حيث إنها تنتهي إلى الحق ، فهو في حقه طريق مستقيم .
وهم العارفون الموحدون . ومنهم من يمشى على طريق يجهلها ، أي ، يجهل حقيقتها
ولا يعرف غايتها ، أي أنها ينتهى إلى الحق ، فهي في حقه ليس صراطا مستقيما ،
وإن كان عند العارفين هي بعينها صراطا مستقيما .
قال رضي الله عنه : ( فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة ) لأنه يعلم إلى من يدعو الخلق ومن الداعي ومن المدعو ، ومن حكم أي اسم من الأسماء يأخذه ويخلصه ، وفي حكم أي اسم يدخله ويريحه .
قال رضي الله عنه : ( وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة ) .
قال تعالى عن لسان نبيه ، صلى الله عليه وسلم : " قل هذه سبيلي . أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن تبعني " .
وهم الأولياء الوارثون لدعوة الأنبياء ، لا المقلدون من أرباب الجهالة .
قال رضي الله عنه : (فهذا علم خاص يأتي من أسفل سافلين ، لأن ( الأرجل ) هي السفل من الشخص ، وأسفل منها ما تحتها ، وليس إلا الطريق ) .
أي ، علم الكشف يحصل للسالك من أسفل السافلين ، لأن ( الرجل ) أسفل أعضاء الإنسان ، وأسفل منها هي الطريق التي تمشى الرجل عليها .
فالمجرمون الذين كسبوا ما هو سبب إفنائهم وهلاكهم ، ففنوا في الحق وبقوا به ، وانكشف عنهم الغطاء ، وارتفع عنهم الحجاب ، فعلموا حقيقة الطريق والطارق والمطروق إليه .
ما حصل لهم ذلك إلا من أسفل سافلين . ولهذا رد الإنسان إلى " أسفل سافلين " .
فإن تحصيل الكمالات متوقف على المرور بجميع المراتب والمقامات ، كما قال تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين " .
قال رضي الله عنه : (فمن عرف الحق عين الطريق ، عرف الأمر على ما هو عليه ، فإن فيه جل وعلا يسلك ويسافر ، إذ لا معلوم إلا هو ، وهو عين السالك والمسافر ، فلا عالم إلا هو ) .
أي ، فمن عرف أن الطريق الذي يسلك عليه وهو عين الحق لأن السلوك من الآثار إلى الأفعال ، ومنها إلى الأسماء والصفات ، ومنها إلى الذات ، وجميعها مراتب الحق .
والحق هو الظاهر فيها ، ولا موجود ولا معلوم إلا هو - فقد عرف الأمر على ما هو عليه ، وعرف أن سلوكه وسفره وقع في الحق ، وعرف أن الحق هو الذي يسلك ويسافر في مراتب وجوده لا غير . فالعالم والمعلوم هو لا غيره .
قال رضي الله عنه : ( فمن أنت ؟ ) أي ، إذا علمت أن الحق هو عين السالك وعين الطريق الذي يسلك السالك فيه ، فقد علمت من أنت ، حق أو خلق .
ثم حرص السالك ليعلم أن حقيقته حق ، وطريقته حق ، ولا يشاهد غيره في الوجود ، فيلحق بأرباب الكشف والشهود بقوله : ( فاعرف حقيقتك وطريقتك . فقد بان لك الأمر على لسان الترجمان إن فهمت ) . أي ، ما ذكرته لك .
وجواب الشرط متقدم ، وهو قوله : ( فقد بان لك الأمر ) .
والمراد ب‍ ( الترجمان ) نفسه . لأنه يترجم عما أراه الله من حقيقة الأمر .
أو هود ، عليه السلام ، حيث قال : ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) .
أو نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال عن الله : ( كنت سمعه وبصره . . . ) مع أن جميع الأنبياء والأولياء ترجمان الحق .
قال رضي الله عنه : ( فهو لسان حق ) . أي ، لسان الترجمان لسان الحق . ( فلا يفهمه إلا من فهمه حق ) .
بتشديد ( الهاء ) ، من ( التفهيم ) . أي ، لا يفهم الأمر على ما هو عليه ولا يطاع على المراد إلا من فهمه بإلقاء نوره على قلبه .
ويجوز أن يكون ( الهاء ) ساكنة . أي ، لا يفهم معنى لسان الترجمان الإلهي إلا من فهمه حق . أي ، صار الحق عين فهمه . كما يصير عين سمعه وبصره وقواه وجوارحه ، فيفهم بالحق كلام الحق .
( فإن للحق نسبا كثيرة ووجوها مختلفة ) . يتجلى بها على أعيان الموجودات بحسب استعداداتها .
قال رضي الله عنه : ( ألا ترى عادا ، قوم هود ، كيف " قالوا ، هذا عارض ممطرنا " . فظنوا خيرا بالله ) .
أي ، ألا ترى أن قوم هود كيف قالوا لما تجلى عليهم الحق في صورة السحاب ، إن هذا عارض . أي ، سحاب ممطرنا وينفعنا .
فظنوا أن الحق تجلى لهم بصورة اللطف والرحمة .
قال رضي الله عنه : ( وهو عند ظن عبده به .فأضرب لهم الحق عن هذا القول ، فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب) .
أي ، أضرب بقوله : " بل هو ما استعجلتم به " . أي ، هو مطلوبكم الذي يوصلكم إلى كمالكم
ويعطيكم الخلاص من أنانيتكم ، ويخرجكم من عالم التضاد والظلمة إلى عالم الوفاق والرحمة . وإنما كان هذا المعنى أتم وأعلى .
قال رضي الله عنه : ( فإنه إذا أمطرهم ، فذلك حظ الأرض وسقى الحبة ) . المزروعة فيها . ( فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر ) .
وفي بعض النسخ : ( ذلك الظن ) - ( إلا عن بعد ) .
لأن المطر إذا سقى الحبة المزروعة ، لا بد أن يمضى عليها زمان طويل ومدة كثيرة حتى تحصل نتيجته ويحصل منها الغذاء الجسماني ، وهو من حظوظ أنفسهم المبعدة لهم من الحق .
وهذا الإهلاك يوصلهم في الحال إلى ربهم ويقربهم منه .
( فقال لهم : " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم " . ) وإنما كان استعجالهم في وصولهم إلى كمالهم وقربهم من غاية مرتبتهم .
ولما كان هذا المطلوب لا يمكن حصوله إلا بفنائهم في الحق ، أهلكهم الله عن أنفسهم وأفناهم عن هياكلهم ، وهي أبدانهم الجسمانية الحاجبة عن إدراك الحقائق .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:18 am

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية  الجزء الثاني
قال رضي الله عنه : ( ألا ترى عادا ، قوم هود ، كيف " قالوا ، هذا عارض ممطرنا " . فظنوا خيرا بالله ) .
أي ، ألا ترى أن قوم هود كيف قالوا لما تجلى عليهم الحق في صورة السحاب ، إن هذا عارض . أي ، سحاب ممطرنا وينفعنا .
فظنوا أن الحق تجلى لهم بصورة اللطف والرحمة .
قال رضي الله عنه : ( وهو عند ظن عبده به .فأضرب لهم الحق عن هذا القول ، فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب) .
أي ، أضرب بقوله : " بل هو ما استعجلتم به " . أي ، هو مطلوبكم الذي يوصلكم إلى كمالكم
ويعطيكم الخلاص من أنانيتكم ، ويخرجكم من عالم التضاد والظلمة إلى عالم الوفاق والرحمة . وإنما كان هذا المعنى أتم وأعلى .
قال رضي الله عنه : ( فإنه إذا أمطرهم ، فذلك حظ الأرض وسقى الحبة ) . المزروعة فيها . ( فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر ) .
وفي بعض النسخ : ( ذلك الظن ) - ( إلا عن بعد ) .
لأن المطر إذا سقى الحبة المزروعة ، لا بد أن يمضى عليها زمان طويل ومدة كثيرة حتى تحصل نتيجته ويحصل منها الغذاء الجسماني ، وهو من حظوظ أنفسهم المبعدة لهم من الحق .
وهذا الإهلاك يوصلهم في الحال إلى ربهم ويقربهم منه .
( فقال لهم : " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم " . ) وإنما كان استعجالهم في وصولهم إلى كمالهم وقربهم من غاية مرتبتهم .
ولما كان هذا المطلوب لا يمكن حصوله إلا بفنائهم في الحق ، أهلكهم الله عن أنفسهم وأفناهم عن هياكلهم ، وهي أبدانهم الجسمانية الحاجبة عن إدراك الحقائق .
قال رضي الله عنه : (فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة فإن بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدف المدلهمة،)
( فجعل ) أي ، الحق . ( " الريح " إشارة إلى ما فيها من " الراحة " لهم ، فإن بهذه ( الريح ) أراحهم من هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة ) أي ، الطرق الصعبة المهلكة . ( والسدف المدلهمة ) .( السدف ) جمع ( سدفة ) وهي الحجاب .و( المدلهمة ) الليلة المظلمة.

قال رضي الله عنه : (وفي هذه الريح عذاب ، أي ، أمر يستعذبونه إذا ذاقوه ، إلا أنه يرجعهم لفرقة المألوفات ).
أي ، الريح المهلكة وإن كانت في الظاهر مؤلمة موجعة لهم لإخراجهم عن العالم الجسماني المتألفة قلوبهم به ، لكن فيها لطف مستور ، لأن تحت كل قهر لله تعالى ألطافا مكنونة يستعذبونه إذا وصلوا إليه عقيب الوجع . 
( فباشرهم العذاب ، ) أي ، أهلكهم . ( فكان الأمر إليهم أقرب مما تخيلوه ) .
أي ، الأمر الذي كان مطلوبهم بالحقيقة ، كان أقرب إليهم من المطلوب المتخيل
لهم ، وهو ما يحصل من المزروعات . 
قال رضي الله عنه : (قد مرت كل شئ بأمر ربها ، فأصبحوا ، لا يرى إلا مساكنهم ، أي ، جثتهم التي عمرتها أرواحهم الحقية ) .
فأهلكت الريح كل شئ يتعلق بظاهرهم ، بأمر ربها ، وهو الواحد القهار . فبقيت أبدانهم خالية عن الأرواح المتصرفة فيها وعن قواها في قوله : ( عمرتها أرواحهم الحقية ) إشارة إلى أن الأرواح هي التي تعمر الأبدان ، وتكونها أولا في رحم الأم ، ثم تدبرها في الخارج ، فهي موجودة قبل وجود الأبدان .
ولما كانت الروح سدنة من سدنات الرب المطلق واسما من أسماء الحق تعالى ، قال : ( الحقية ) . فإنه بها يرب الحق الأبدان .
واعلم ، أن كل من اكتحلت عينه بنور الحق ، يعلم أن العالم بأسره عباد الله ، وليس لهم وجود وصفة وفعل إلا بالله وحوله وقوته ، وكلهم محتاجون إلى رحمته ، وهو الرحمن الرحيم . ومن شأن من هو موصوف بهذه الصفات ألا يعذب أحدا عذابا أبدا .
وليس ذلك المقدار من العذاب أيضا إلا لأجل إيصالهم إلى كمالاتهم المقدرة لهم ، كما يذاب الذهب والفضة بالنار لأجل الخلاص مما يكدره وينقص عياره ، فهو متضمن لعين اللطف والرحمة .
كما قيل :
وتعذيبكم عذب وسخطكم رضى ...... وقطعكم وصل وجوركم عدل
والشيخ رضي الله عنه إنما يشير في أمثال هذه المواضع إلى ما فيها من الرحمة الحقانية . وهي من المطلعات المدركة بالكشف ، لا أنه ينكر وجود العذاب وما جاء به الرسل من أحوال جهنم . فإن من يبصر بعينه أنواع التعذيب في النشأة الدنياوية لسبب الأعمال القبيحة ، كيف ينكره في النشأة الأخراوية .
وهو من أكبر ورثة الرسل ، صلوات الله عليهم أجمعين . فلا ينبغي أن يسئ أحد ظنه في الأولياء الكاشفين لأسرار الحق بأمره .
قال رضي الله عنه : (فزالت حقيقة هذه النسب الخاصة ، وبقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق ) .
أي ، فزالت الأرواح المجردة التي هي من مدبرات الأبدان والحياة الفائضة عليها منها ، وبقيت الحياة التي للأبدان بحسب روحانية كل من العناصر الأربعة .
وهذا إشارة إلى أن لكل شئ ، جمادا كان أو حيوانا ، حياة وعلما ونطقا وإرادة ، وغيرها مما يلزم الذات الإلهية ، لأنها هي الظاهرة بصور الجماد والحيوان .
لكن لما كان ظهورها في الحس مشروطا بوجود مزاج معتدل إنساني ، ظهر فيه ولم يظهر في غيره ، ومن عدم ظهور الشئ في الشئ ، لا يلزم أن لا يكون ذلك الشئ فيه هذا بالنسبة إلى أهل عالم الملك .
أما بالنسبة إلى أهل الملكوت ومن يدخل فيها من الكمل ، فليس مشروطا بذلك وإنما جعل الهياكل نسبا خاصة ، لأن العالم من حيث إنه عالم ليست إلا عين النسب ، فإن كلا من أهله ذات مع نسبة معينة : والذات من حيث هي هي عين الحق ، والنسب عين العالم . 
أو المراد ب‍ ( النسب ) هاهنا ، الحياة والعلم والإرادة والقدرة ، لأنها تزول مع زوال الروح المجردة منها . وهذا هو الأظهر . وإن كان الأول إلى التحقيق أقرب .
ومعناه : أي ، زالت هذه النسب الحقانية ، أي الروحانية ، وبقيت النسب الجسمانية .
( التي ينطق بها الجلود والأيدي والأرجل ) كما نطق به القرآن المجيد .
( وعذبات الأسواط والأفخاذ) كما جاء في الحديث النبوي .( وقد ورد النص الإلهي بهذا كله) 
وإنما يتمسك بما ورد ، تأنيسا للمحجوبين من المؤمنين ، لأنهم يسارعون في القبول إذا وجد شئ منها في القرآن والحديث ، لا أنه مستند حكمه . فإنه يكاشف هذه المعاني ويجدها كما هي .
قال رضي الله عنه : ( إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة . ومن غيرته " حرم الفواحش " ) ( إلا ) بمعنى ( غير ) . أي ، للأيدي والأرجل والجلود ، حياة ونطق غير أن الحق غيور ولا يريد أن يطلع المحجوبين على أسراره ، فلذلك ستر حياتهم ونطقهم من غير أهل الله ، وكشف على من جعله من لمحبوبين من الأنبياء والأولياء والصالحين اعتناء لحالهم .
وإخبارهم عنها بأمر الحق ، ليميز المطيع المؤمن من المنكر الكافر .
ولما وصف الحق بالغيرة جاء بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ومن غيرته حرم الفواحش " . كما جاء : " ألا ، وأن لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه " .
ولما كان ( الفحش ) عبارة عن ( الظهور ) لغة قال : ( وليس الفحش إلا ما ظهر ،وأما فحش ما بطن ،فهو لمن ظهر له ).
أي ، ليس الفاحش إلا ما ظهر في العين الحسى وما بطن فهو بالنسبة إلى من ظهر عنده فاحش.
فاستعمل ( الفحش ) وأراد ( الفاحش ) كما يقال : رجل ( عدل ) . أي ، عادل .
قال رضي الله عنه : (فلما حرم الفواحش أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه وهي أنه عين الأشياء ، فسترها بالغيرة) . 
أي ، لما حرم الله الفواحش كما قال تعالى : " قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن " . 
تسترها بالغيرة . أي ، ستر تلك الحقيقة الإلهية التي ظهورها فحش .
( فسترها ) جواب ( لما ) . و ( الفاء ) زائدة . والضمير عائد إلى ( الحقيقة ) .
وفسر قوله تعالى بأنه منع أن يعرف كل أحد حقيقة ما ذكرناه ، من أن هلاكهم يوجب قربهم من ربهم لفنائهم فيه ، وأن الحق هو عين السالك وعين الطريق وعين غايتها ، إذ هو عين الأشياء كلها . وقوله ( هي ) راجع إلى ( الحقيقة ) ، والمراد بها الحق . أطلقها عليه لأنه حقيقة الحقائق كلها ( وهو أنت من الغير ) .
أي ، تلك الغيرة الساترة للحقيقة الإلهية ، هو أنت ، لأن ( الغيرة ) مأخوذة من ( الغير ) والغير
أنت من حيث تعينك . وإنما جاء بلفظ ضمير المذكر ، تغليبا للخبر .
 ( وهو أنت ) . وإنما لاحظ في الغيرة ( الغير ) ،
لأنها يستلزمه لفظا ومعنى : أما لفظا ، فظاهر . وأما معنى ، فلأنه لا يغار أحد على شئ إلا من الغير ، لا من نفسه .
ويمكن أن يكون ( أنت ) خطابا لكل جاهل بالحق ومظاهره .

لذلك قال رضي الله عنه :  ( فالغير يقول : السمع سمع زيد ، والعارف يقول : السمع عين الحق . وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء . فما كل أحد عرف الحق ، فتفاضل الناس وتميزت المراتب ) .

أي ، تفاضل الناس في العلم بالحق وتميزت مراتبهم . ( فبان الفاضل والمفضول ) . في الخلائق .
( واعلم ، أنه لما أطلعني الحق وأشهدني أعيان رسله  عليهم السلام) أي ، أرواح رسله في عالم المثال المطلق .
( وأنبيائه كلهم البشريين من آدم إلى محمد ، صلوات الله عليهم أجمعين ) .
قال رضي الله عنه : إنما قيد ب‍ ( البشريين ) ليخرج أنبياء أنواع آخر من الموجودات . فإن لكل نوع من الأنواع عندهم نبيا هو واسطة بينهم وبين الحق .
كما نبه عليه سبحانه بقوله : " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم " ( في مشهد ) ، أي ، في مقام ومرتبة حصل هذا الشهود فيه .
( أقمت فيه بقرطبة ) ، ( أقمت ) على البناء للمفعول . ( قرطبة ) ، مدينة من بلاد المغرب .

قال رضي الله عنه : ( سنة ست وثمانين وخمسمائة . ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلا هود ، عليه السلام . فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم ) .
قيل : كان سبب جمعيتهم إنزاله مقام القطبية ، ليكون قطب الأقطاب في زمانه .
وكلام هود ، عليه السلام ، بشارته أنه خاتم الولاية المحمدية ، ووارث الأنبياء والمرسلين ، كما ذكره من نفسه في موضع من فتوحاته تصريحا وتعريضا  

قال رضي الله عنه : (ورأيته رجلا ضخما في الرجال : حسن الصورة ، لطيف المحاورة ، عارفا بالأمور ، كاشفا لها . ودليل على كشفه لها ) أي ، ودليلي من قوله تعالى على ذلك .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (" ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم " . 
وأي بشارة للخلق أعظم من هذه ؟ ثم ، من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه  في القرآن .

ثم ، تممها الجامع للكل محمد صلى الله عليه وسلم ، بما أخبر به عن الحق
بأنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان ، أي ، هو عين الحواس ، والقوى
الروحانية أقرب من الحواس . فاكتفى بذكر الأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحد )
أي ، حده . وإنما كان القوى الروحانية أقرب إلى الله تعالى ، لأنها واسطة بين الحق والقوى الجسمانية ، والواسطة يكون أقرب ممن يتوسط له .
ولقربها من الحق ، كانت مجردة من الماديات الظلمانية ، ومنورة بأنوار عالم القدس ، مطهرة عن كدورات عالم الرجس . فإذا كان الحق عين الأبعد ، يكون عين الأقرب على الطريق الأولى .

قال رضي الله عنه : (فترجم الحق لنا عن نبيه ، هود ، مقالته لقومه ، بشرى لنا . وترجم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عن الله مقالته بشرى ، فكمل العلم في صدور الذين أوتوا العلم "وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون " . )
أي ، الساترون للحق بإنكارهم عدم قبولهم ما جاءت به الشرائع من عند الله .

قال رضي الله عنه : ( فإنهم يسترونها وإن عرفوها حسدا منهم ونفاسة وظلما ) .
( النفاسة ) الضنة . و ( النفيس ) هو ما يضن به . أي ، لأجل الحسد والضنة والظلم الواقع في نفوسهم ، حيث أرادوا ظهور أنفسهم وإخفاء حقية الرسول والآيات المنزلة من الله ، مع أنهم عرفوا ذلك ، كعبد الله بن سلام وأضرابه من أهل الكتاب .

قال رضي الله عنه : (وما رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أوصله إلينا فيما  يرجع إليه إلا بالتحديد ، تنزيها كان أو غير تنزيه ) .
( في آية ) ، متعلق ب‍ " ما رأينا " و ( من عند الله في حقه ) بقوله : ( أنزلها ) .
فتقدير الكلام : ما رأينا في آية نازلة من عند الله في حقه ، أو خبر ، أوصله إلينا نبينا إلا وهو متلبس بالتحديد ، تنزيها كان ذلك المنزل أو تشبيها .

وهذا الكلام كأنه جواب سؤال مقدر ، كأن القائل يقول : كيف يكون الحق عين هذه الأشياء ، وهي محدودة والحق منزه عن التحديد ؟
فنقول : الآيات والأخبار التي جاءت في حق الله تعالى كلها متلبسة بالتحديد .

قال رضي الله عنه : (أوله " العماء " الذي ما فوقه هواء ولا تحته هواء . وكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق ) . 
أي ، أول ذلك التحديد هو المرتبة ( العمائية ) التي أشار إليها النبي ، صلى الله عليه وسلم ، عند سؤال الأعرابي : ( أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق ؟ )
قال ، صلى الله عليه وسلم : " كان في عماء ما فوقه هواء ولا تحته هواء "
وإنما كان ( العماء ) أول التحديدات ، لأنه لغة عبارة عن ( الضباب ) .
وفي اصطلاح أهل الله عبارة عن أول تعين ظهر الحق بحسب اسمه الجامع الإلهي .

وكلاهما محدودان . وهذه المرتبة هي مرتبة الإنسان الكامل ، فإنه أول ما تعين .
وظهر بالصورة المحمدية ، ثم فصلها ، فخلق منها أعيان العالم علما وخارجا . وقد مر بيانه في المقدمات .

قال رضي الله عنه : ( ثم ، ذكر أنه استوى على العرش . فهذا تحديد أيضا ) . لأن ( الاستواء عليه ) ظهور الاسم الرحماني في صورة العرشية ، وهو أيضا تحديد ، لأنه يتعين فيظهر فيها .
( ثم ، ذكر أنه ينزل إلى السماء الدنيا . فهذا تحديد ) . أي ، ذكر الحق بلسان نبيه : ( إن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ، فيقول : هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ ) والنزول إلى المقام المعين ، تحديد .
قال رضي الله عنه : ( ثم ، ذكر أنه في السماء وأنه في الأرض . كما قال : ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) . وكونه في السماء وفي الأرض ، تحديد .
( وأنه معنا أينما كنا ) . أي ، وذكر أنه معنا ، كما قال : " وهو معكم أينما كنتم " .
( إلى أن أخبرنا أنه عيننا ) . أي ، حدد نفسه إلى أن جعلها عيننا ، كما قال : ( كنت سمعه وبصره . . . ) .
( ونحن محدودون ، فما وصف نفسه إلا بالحد .)

قال رضي الله عنه : (وقوله : ( ليس كمثله شئ ) . حد أيضا - إن أخذنا " الكاف " زائدة لغير الصفة ) .
أي ، لا تكون للتشبيه ليفيد : ليس مثل مثله شئ .

قال رضي الله عنه : ( ومن تميز عن المحدود ، فهو محدود بكونه ، ليس عين هذا المحدود . فالإطلاق من التقييد تقييد ، والمطلق مقيد بالإطلاق لمن فهم . وإن جعلنا ( الكاف ) للصفة ، فقد حددناه ) 
أي ، على التقديرين يلزم التحديد :
أما على الأول ، فلأن الممتاز عن المحدود لا يكون إلا محدودا بكونه ممتازا عنه ، كما أن الإطلاق المقابل للتقييد أيضا تقييد بعدم التقييد ، والمطلق مقيد بالإطلاق .
وأما على الثاني ، فلأن نفى مثل المثل إثبات للمثل ، وهو محدود ، فما يماثله أيضا محدود .


 قال رضي الله عنه : (وإن أخذنا " ليس كمثله شئ " على نفى المثل ، تحققنا بالمفهوم ، وبالأخبار الصحيح أنه عين الأشياء ، والأشياء محدودة ، وإن اختلفت حدودها ) .
أي ، وإن حملنا على نفى المثلية مطلقا ، سواء كان زائدا أو غير زائد مع عدم القصد بوجود المثل - بل المقصود المبالغة في التنزيه .
كما يقال : مثلك لا يغضب . أي ، من يكون متصفا بالحكم ، كما أنت متصف به ، لا يغضب . 
والغرض نفى الغضب منه - يلزم التحديد أيضا ، لأن ما يمتاز عن الشئ ، محدود بامتيازه عنه ، فسلب المثلية عنه تحدده .

وهو المراد بقوله : ( تحققنا بالمفهوم ) أي ، علمنا حقيقة بالمفهوم من الآية أنه محدود .

وكذلك علمنا تحديده بالخبر الصحيح وهو : ( كنت سمعه وبصره . . . ) . لأنه صار عين الأشياء ، والأشياء محدودة بحدود مختلفة .
و ( إن ) في قوله : ( وإن اختلفت حدودها ) . للمبالغة .

قال رضي الله عنه : ( فهو محدود بحد كل محدود ، فما يحد شئ إلا وهو حد للحق ) .
لما كان ( الحد ) عبارة عن التعيين ، والحد الاصطلاحي إنما يسمى بالحد لأنه أيضا تعين الشئ وتميزه عن غيره ، نقل الكلام إلى الحد الاصطلاحي الموجب لتعين الأشياء في العقل . 
وإنما جعله 
( محدودا بحد كل محدود ) ، لأنه عين لكل محدود ، فحده حد الحق .
وقوله : ( وهو ) عائد إلى ( الحد ) الذي يدل عليه قوله : ( فما يحد ) .

قال رضي الله عنه : ( فهو الساري في مسمات المخلوقات والمبدعات ) .
أي ، فالحق هو الساري في الحقائق المسبوقة بالزمان ، وهي المخلوقات ، وغير المسبوقات به ،
وهي المبدعات  ( ولو لم يكن الأمر كذلك ، ما صح الوجود ) .
أي ، ولو لم يكن سريان الحق في الموجودات ، ما صح وجود موجود أبدا ، لأنه بالحق موجود لا بنفسه ، بل هو الحق الظاهر بتلك الصورة .
( فهو عين الوجود ) . أي ، فالحق عين الوجود المحض لا غيره .

قال رضي الله عنه : ( فهو على كل شئ حفيظ بذاته ، ولا يؤده حفظ شئ ) 
أي ، إذا كان الحق عين الوجود ، والوجود محيط بالأشياء بذاته عليم بها حافظ من انعدامها ، فالحق على كل شئ حفيظ بمعنى أنه عليم بها ومحيط بحقائقها ، وبمعنى أنه يحفظها من الانعدام أيضا ، فلا يثقله حفظ شئ ولا يتعبه ، لأن عين الشئ لا يثقل نفسه .
( فحفظه تعالى للأشياء كلها ، حفظه لصورته )
لما كانت الصور الوجودية صور الحق بحسب أسمائه ، كان حفظ الحق لها عين حفظه لصورة نفسه .
قال رضي الله عنه : ( أن يكون الشيء على غير صورته ) . أي ، ويحفظ أن يوجد شئ على غير صورة الحق ،
ولما كان هذا الأمر محالا .

قال رضي الله عنه :  : ( ولا يصح إلا هذا ، فهو الشاهد من الشاهد ، والمشهود من المشهود ) .
أي ، فالحق هو الشاهد الحقيقي من كل الشاهد ، وهو المشهود الحقيقي من كل المشهود ، إذ لا غير في الوجود .
قال رضي الله عنه : ( فالعالم صورته ، وهو روح العالم المدبر له ، فهو الإنسان الكبير ) .
فالعالم ، من حيث إنه عالم ، صورة الحق ، والحق روحه المدبر له ، فالعالم هو الإنسان الكبير ، والحق روحه .

(فهو الكون كله  ...... وهو الواحد الذي

قام كوني بكونه  ...... ولذا قلت يغتذي )
وفي بعض النسخ : ( وإذا قلت يغتذي ) .
فجزاؤه قوله :
(فوجودي غذاؤه  ....... وبه نحن نحتذي )
أي ، الحق هو الوجود كله ، وهو الواحد بحسب الذات والحقيقة ، والقيوم الذي قام وجودي ووجود العالم كله بوجوده وذاته .
وقوله : ( ولذا ) إشارة إلى قوله : ( قام كوني بكونه ) أي ، ولأجل أن وجودي قائم بوجوده ووجوده ظاهر بوجودي ، نسبت الغذاء إليه ، فغذاؤه وجود العالم ، وغذاء العالم وجوده وأسماؤه ، لأن الغذاء عبارة عما به بقاء المغتذى في الخارج .
وذلك باختفائه وظهوره على صورة من يغتذى به .
ولا شك أن وجودنا يحصل باختفاء هويته فينا ، وظهوره بصورنا ، وبقاؤنا أيضا يحصل بإيصال الفيض الدائم إلينا .
كذلك أعيان العالم يختفي في ذاته ويظهر وجوده وأسماؤه وأحكامها في الخارج ، إذ لولا وجود العالم ، ما كان يعلم وجود الحق وأسماؤه .
كما قال : " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق . . . " .

فالحق يغتذي بالأعيان من حيث ظهوره بها ، والأعيان يغتذي بالحق من حيث بقائها ووجودها به . وإليه الإشارة بقوله : ( وبه نحن نحتذي ) .
أي ، وبالحق نحتذي في الغذاء ، أي ، نقتدي به . يقال : احتذى حذوه . أي ، اقتدى به .
ولما كان هذا الكلام من مقام التفصيل ، رجع وقال :
(فبه منه إن نظرت ........ بوجه تعوذي )
أي ، فبالحق أتعوذ من الحق إن نظرت بوجه الجمع والوحدة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وأعوذ بك منك ).
( ولهذا الكرب تنفس ، فنسب النفس إلى الرحمان )
أي ، لكون الحق وذاته مشتملا على حقائق العالم وصورها وطلب تلك الحقائق ظهورها ، حصل الكرب في الباطن ، ولهذا الكرب تنفس الحق ، أي ، تجلى لإظهار ما في الباطن من أعيان العالم في الخارج .
قوله : ( فنسب ) أي ، الحق . ( النفس إلى الرحمان ) . أي ، إلى الاسم ( الرحماني ) بلسان نبيه ، صلى الله عليه وسلم في قوله : ( إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن ) .
و ( النفس ) عبارة عن الوجود العالم المنبسط على الأعيان عينا ، وعن الهيولى الحاملة لصور الموجودات . والأول مرتب على الثاني.

قال رضي الله عنه : (لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صور العالم التي قلنا هي ظاهر الحق ) .
 أي ، ( نسب النفس إلى الرحمان ) . لأن الحق بالاسم الرحماني رحم الأعيان ، فأعطى ما طلبته النسب الإلهية ، التي هي الأسماء والصفات ، من وجود صور العالم التي هي ظاهر الحق .
قال رضي الله عنه : ( إذ هو الظاهر ، وهو باطنها ، إذ هو الباطن ) لأن الحق هو الظاهر ، وظاهريته بصور العالم ، والحق باطنها ، لأنه هو الباطن ، كما أنه هو الظاهر .
( وهو الأول ، إذ كان ولا هي ) . أي ، الحق هو الأول ، لأنه كان وليس صور العالم موجودة ، كما قال عليه السلام : ( كان الله ولا شئ معه ) .
( وهو الآخر ، إذ كان عينها عند ظهورها ) . أي هو الآخر ، لأنه عين أعيان العالم وصورها عند ظهورها في الخارج .
( فالآخر عين الظاهر ، والباطن عين الأول ) ( الآخر ) يطلق على معنيين :
أحدهما ، ما ذكره هنا ، وهو كون الحق عين الأعيان الخارجية الموجودة في الخارج ، لأنه آخر المراتب .
وثانيها ، كون الأعيان مستهلكة في الحق بالفناء فيه .
فعلى الأول ، ( الآخر ) عين الظاهر ، والباطن عين الأول ، لكون الحق باطنا وأولا ولا ظهور للأشياء .
( "وهو بكل شئ عليم " . لأنه بنفسه عليم ) . أي ، لأنه يعلم ذاته وصفاته ، وليس العالم إلا عين صفاته ، فهو بكل شئ عليم بعين علمه بنفسه .

قال رضي الله عنه : (فلما أوجد الصور في النفس وظهر سلطان النسب المعبر عنها ب‍ " الأسماء " ، صح النسب الإلهي للعالم ) .
( النفس الرحماني ) عبارة عن هيولى العالم كله : الروحاني والجسماني . وسمى ( نفسا ) لنسبته إلى النفس الإنساني : فإنه هواء يخرج من الباطن إلى الظاهر ، ثم باصطكاك عضلات الحلق يظهر فيه الصوت ، ثم بحسب تقاطعه في مراتب الحلق والأسنان والشفتين تظهر الحروف ، ثم من تراكيبها تحصل الكلمات .
كذلك ( النفس الرحماني ) إذا وجد في الخارج وحصل له التعين ، يسمى ب‍ ( الجوهر ) ثم بحسب مراتبه ومقاماته الظاهر هو فيها ، تحصل التعينات والحروف والكلمات الإلهية .
فصور أعيان العالم كلها ظاهرة في ( النفس الرحماني ) . فهو لها كالمادة للصور الجسمية .
فلما أوجد الحق صور العالم في هذا النفس الرحماني وظهر سلطنة الأسماء الإلهية على مظاهرها ، صح النسب الإلهي - بفتح النون هنا وبكسرها في الأول - صح للعالم أن ينتسب إلى الله بأنه مألوه ومربوب ، والحق إله ورب .

( فانتسبوا إليه تعالى ) . أي ، فانتسب أهل العالم إليه تعالى .
( فقال ) أي ، رسول الله ، صلى الله عليه ، حكاية عن ربه أنه قال : ( " اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي " . أي ، آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم وأردكم إلى انتسابكم إلى ) .
أي ، اليوم آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم وذواتكم واجعل انتسابكم إلى ، لتكون ذواتكم ذات الله وصفاتكم صفات الله وأفعالكم أفعال الله ، فتفنوا فيه وتبقوا به .
ف‍ ( اليوم ) عبارة عن حال الفناء في الحق ، وهو يوم القيامة الكبرى ، كما قال تعالى : " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسائلون " .

قال رضي الله عنه : (أين المتقون الذين اتخذوا الله وقاية ، فكان الحق ظاهرهم ، أي ، عين صورهم الظاهرة ) 
لما جعل انتساب العالم إليه في ذاته وصفاته وأفعاله ومنها ما هو محمود ومنها ما هو مذموم .
قال : أين المتقون الذين جعلوا الحق وقاية لأنفسهم في ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم ، ليستروا ذواتهم في ذاته وصفاتهم وأفعالهم في صفاته وأفعاله . وهم الذين قيل عنهم شعرا :
تسترت عن دهري بظل جناحه  ...... فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمى ما درت .....  وأين مكاني ، ما درين مكاني  
فيكون الحق عين صورهم الظاهرة - كما قال : كنت سمعه وبصره . . . ) في نتيجة قرب النوافل .

قال رضي الله عنه : ( وهو أعظم الناس وأحقه وأقواه عند الجميع ) . أي ، هذا المتقى هو أعظم الناس منزلة عند الله ، وأحقه بالمغفرة ممن يتق الله بنسبة المذام إلى نفسه ، لأنه في عين المغفرة الكبرى والسترة العظمى .
وأقوى الناس عند جميع أهل الله ، لظهوره بالقدرة من خرق العادة وإظهار الكرامة . لأن يده يد الحق ، وسمعه وبصره سمع الحق وبصره .
ولما كان من المتقين من يجعل نفسه وقاية للحق - في المذام بنسبتها إلى نفسه لا إلى ربه - ويجعل الحق وقاية لنفسه في الكمالات - كما مر في الفص الآدمي .

قال رضي الله عنه : ( وقد يكون المتقى من يجعل نفسه وقاية للحق بصورته ، إذ هوية الحق قوى العبد ، فجعل مسمى العبد وقاية لمسمى الحق )
فحينئذ يصير العبد ظاهر الحق وهو باطنه ، لأن هوية الحق عين قوى العبد ، كما قال : " كنت سمعه وبصره " .
فسمى العبد حينئذ وقاية لمسمى الحق ، وهو الهوية المندرجة في الصورة العبدية

(على الشهود حتى يتميز العالم من غير العالم . "قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟ " )
أي ، هذا الاتحاد والجعل إنما ينبغي أن يكون بناء على شهود الحق في كلتا الحضرتين - حضرة المحامد وحضرة المذام - حتى يتميز العالم العارف من الجاهل بالأمر على ما هو عليه .
فإنه إذا لم يكن عن شهود الحق ، يكون محجوبا بنفسه من ربه لرؤيته الأفعال من نفسه - حسنها وقبيحها - فيلحق بالمشركين .
ولما كان العلم الصحيح هو الذي يكون مركوزا في الباطن والعالم يتذكره بحسب التوجه إليه ، أردفه بقوله : ( " إنما يتذكر أولوا الألباب" وهم الناظرون في لب الشئ الذي هو المطلوب من الشئ ) .
لأن علومهم وجدانيات - يظهر عليهم عند صفاء قلوبهم ، فتحصل لهم التذكرة بما هو مركوز فيهم فائض عليهم من مقام التقديس لا تعملي كسبي بالعقل المشوب بالوهم والفكر المخيل بالفهم.

قال رضي الله عنه : ( فما سبق مقصر مجدا ) . أي ، فما رأينا سبق من أهل التقصير والنقصان ، من اجتهد في تحصيل الكمال وعمل بما يرضى به الرحمان . قال تعالى : "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".
وفرق بين أهل الاجتهاد أيضا بقوله : ( كذلك لا يماثل أجير عبدا ) .
فإن الأجير لا يزال نظره إلى الأجرة ، والعبد لا يعمل للأجرة ، بل للعبودية .
والأجير ينصرف عند وصول أجرته من باب المستأجر ، والعبد ملازم لباب سيده .
فالعالم بمقام عبوديته العامل بمقتضى أوامر سيده ، ليس كالعامل الجاهل ، فإنه يعمل للخلاص من النار وحصول الجنة .

قال رضي الله عنه : ( وإذا كان الحق وقاية للعبد بوجه ) وهو كون الحق ظاهر العبد .
( والعبد وقاية للحق بوجه ) . وهو كون العبد ظاهر الحق .
قال رضي الله عنه : ( فقل في الكون ما شئت . إن شئت قلت هو الخلق ) . كما يقول المحجوبون ، باعتبار صفات النقص .
( وإن شئت قلت هو الحق ) . كما يقول الموحدون ، باعتبار صفات الكمال .
( وإن شئت قلت هو الحق والخلق ) . ، باعتبار الجمع بين الكمال والنقصان .
( وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ، ولا خلق من كل وجه ) . كما يقول المحققون الجامعون بين المراتب الإلهية والعبودية .
( وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك ) . كما قيل : ( العجز عن درك الإدراك إدراك ) .

قال رضي الله عنه : (فقد بانت المطالب بتعينك المراتب . ولولا التحديد ، ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور ، ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه ) .
لما كان كون الحق عين الأشياء يوجب التحديد ، قال : ( ولولا التحديد ) أي ، واقعا في نفس الأمر ، ما أخبرت الرسل بأن الحق يتحول في الصور .
كما جاء في الحديث الصحيح :
"أن الحق يتجلى يوم القيامة للخلق في صورة منكرة ، فيقول : أنا ربكم الأعلى  .
فيقولون : نعوذ بالله منك . فيتجلى في صورة عقائدهم ، فيسجدون له "
والصور كلها محدودة . فإذا كان الحق يظهر بالصور المحدودة - ونطق الكتاب بأنه
"هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم " حصل العلم للعارف
أن الظاهر بهذه الصور أيضا ليس إلا هو .

(فلا تنظر العين إلا إليه .....  ولا يقع الحكم إلا عليه )
إذ لا موجود سواه ليكون مشاهدا إياه ، بل هو الشاهد والمشهود ، وهو الحاكم والمحكوم عليه .

( فنحن له وبه في يديه )
أي ، نحن له عبيد وهو مالكنا ، كما قال تعالى : "ولله ما في السماوات والأرض " .
وقيامنا ووجودنا به ، وأزمة أمورنا وقلوبنا في يديه يتصرف فينا كيف يشاء .
(وفي كل حال ، فإنا لديه )
أي ، على كل حال من الأحوال ، حسنة كانت أو سيئة ، فإنا حاضرون لديه ،
لا ينفك عنا ولا ننفك عنه ، كما قال تعالى : " وهو معكم أينما كنتم ".
( ولهذا ينكر ويعرف وينزه ويوصف ) . أي ، ولهذا الظهور في الصور المحدودة المختلفة ينكره المنكر الجاهل حين لا يراه بصورة عقيدته ، ويعرفه إذا ظهر بصورة ما يعتقده . وينزهه المنزه ، لأن من هو " كل يوم في شأن " وصورة ، لا يكون له صورة معينة .
هذا حال المنزه العارف . أو لاعتقاده أنه منزه عن الظهور بالصورة كما يقول : ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ، وأمثال ذلك .
وهذا حال المنزه الجاهل . ويصفه المشبه بالصفات الكمالية المشتركة بينه وبين خلقه .

قال رضي الله عنه : ( فمن رأى الحق منه فيه بعينه ، فذلك العارف ) . أي ، فمن رأى الحق الظاهر على صورته من الحق المطلق في عين الحق بعين الحق ، فهو العارف .
أو فمن رأى الحق من نفسه في نفسه بعين الحق ، فهو العارف .
فالضمائر في الأول عائدة إلى ( الحق ) . وفي الثاني ضمير ( منه ) و ( فيه ) عائد إلى ( من ) . وضمير ( بعينه ) عائد إلى ( الحق ) .

إذ لا يرى الحق بعين غيره ، كما قال : " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " .
قال رضي الله عنه : ( ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه ، فذلك غير العارف ) . أي ، ومن رأى الحق من نفسه بنفسه بعين نفسه ، فذلك غير العارف ، مع أنه صاحب الشهود ، لعدم اطلاعه على أنه لا يمكن إدراك الحق بعين غيره .
.
يتبع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثالث .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 10:19 am

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثالث .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية  الجزء الثالث
قال رضي الله عنه : (ومن لم ير الحق منه ولا فيه ، وانتظر أن يراه بعين نفسه ، فذلك الجاهل ) .
أي ، ومن لم ير الحق من نفسه ولا في نفسه ، وانتظر أن يراه في الآخرة بعين نفسه ، فهو الجاهل ، لأنه " من كان في هذه أعمى ، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " أما من انتظر أن يراه في الآخرة بعين ربه ، فهو ليس من الجهال .

قال رضي الله عنه : ( وبالجملة ، فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه يرجع ) ذلك الشخص ، ( بها إليه ) .
أي ، مع تلك العقيدة أو بسببها إلى ربه . ( ويطلبه ) أي ، يطلب ربه ( فيها ) أي ، في صورة تلك العقيدة .
( فإذا تجلى ) يوم القيامة ( له الحق فيها ) . أي ، في صورة عقيدته .
( عرفه وأقر به ، وإن تجلى له في غيرها ) أي ، في غير صورة عقيدته . 

قال رضي الله عنه : ( أنكره وتعوذ منه ، وأساء الأدب عليه في نفس الأمر ، وهو عند نفسه أنه قد تأدب معه ، فلا يعتقد معتقدا لها إلا بما جعل في نفسه . فالإله في الاعتقادات بالجعل ، فما رأوا إلا نفوسهم ، وما جعلوا فيها ) .

أي ، فلا يعتقد معتقد من المحجوبين الذين جعلوا الإله في صور معتقدهم فقط ، إلا بما جعل في نفسه ، وتصوره بوهمه .
فإن الإله من حيث ذاته منزه من التعيين والتقييد ، وبحسب أسمائه وصفاته وتجلياته ، له ظهورات في صور مختلفة .
فمن جعل غير المحصور محصورا ونفى غيره واتخذ ما جعله في نفسه إلها ، فإلهه مجعول نفسه ، فما رأى المحجوبون المقيدون إلهتهم في الحقيقة إلا نفوسهم ، وما جعلوا فيها من صور إلهتهم . والإله المجعول بالاعتقادات هو الذي يتخذه المحجوب بالتعمل والتصور إلها .
ولا فرق بين الأصنام التي اتخذت إلها ، وبينه .
وأما إذا تجلى الحق لأصحاب الاعتقادات في الدنيا والآخرة بحسب عقائدهم ، فهو الحق ، والمشاهد لتلك الصورة مشاهد للحق فيها .
فإن الحق ، من حيث هو هو ، لا نسبة بينه وبين أحد من العالمين ، فلا يمكن رؤيته لأحد من
هذه الجهة . ومن حيث أسمائه يتجلى لكل واحد من حيث الاسم الذي هو ربه .
فلا يتجلى الحق لأصحاب الاعتقادات المقيدة ، إلا بحسب الأسماء الحاكمة عليهم ، واستعدادات أعيانهم .
فشهودهم لصور اعتقاداتهم عند التجلي عين شهودهم لربهم . لا يمكن أن يحصل لهم غير ذلك ، كما لا يمكن أن يشاهد العارفون أيضا حال التجلي الذاتي ، إلا أعيانهم - كما مر في الفص الشيثي - وفي التجلي الأسمائي ، إلا ما يعطيهم أعيانهم من العلم بصور التجليات والمعرفة بها ، لا غير .
فشهود أرباب الاعتقادات الجزئية لا يكون مثل شهود من لا يتقيد باعتقاد خاص ويعتقد حقية الاعتقادات كلها ، لكن يحصل لهم الشهود .

كما قال عليه السلام : " سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ".
وفي قوله : ( ربكم ) وفي التشبيه ب‍ ( القمر ليلة البدر ) إيماء بما ذكرنا ، إذ لم يقل : إنكم ترون الرب المطلق أو رب غيركم .
قال رضي الله عنه :  (فانظر مراتب الناس في العلم بالله : هو عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة )

وذلك لأن الرؤية إنما هي بحسب التجلي ، والتجلي بحسب العلم بالله وتجلياته ، فمراتب الناس في العلم بالله هو عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة .
والعلم بالله لا يكون إلا بحسب الاستعدادات ، والاستعدادات متفاوتة بحيث لا نهاية لها ، فالرؤية أيضا يتفاوت بحسها يوم القيامة .

( وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك ) . أي ، لتجلى الحق يوم القيامة على صورة الاعتقادات . قال رضي الله عنه : ( فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه ) . بنفيك إياه . ( فيفوتك خير كثير ) وهو ما يعطيه رب العقد المنفى .
( بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه ) . لأن الأمر في نفسه غير منحصر ، وأنت جعلته محصورا فيما تعتقده .
(فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها . فإن الله ، تبارك وتعالى ، أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد ، فإنه يقول : " فأينما تولوا فثم وجه الله " . وما ذكر أينا من أين ) . أي ، ما عين أينا وجهة من غير أين آخر ، بل قد أطلق .
فكن جامعا للعقائد كلها ، مصححا لها بشهود وجوده متجلية لأصحابها ، إذ كل منهم عبد لرب يعطيه ما يعتقده ، لتكون مشاهدا للحق من جميع وجوهه ، مقرا بألوهيته معترفا بوحدانيته ، فتسلم عن الحجاب ، ويتجلى لك رب الأرباب.

قال رضي الله عنه : (وذكر أن ثم وجه الله ، ووجه الشئ حقيقته . فنبه بهذا قلوب العارفين لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا ) .
أي ، نبه لهذا القول قلوب العارفين لئلا يغفلوا عن الحق ووجوهه حال اشتغالهم بعوارض
الحياة الدنيا ، بل يشاهدوا فيها أيضا ذات الحق ووجوه أسمائه وصفاته ، فيكونوا معه على جميع الأحوال .

قال رضي الله عنه : (فإنه لا يدرى العبد في أي نفس تقبض ، وقد تقبض في وقت غفلة ، فلا يستوى مع من يقبض على حضور ) .
لأن المقبوض على الحضور ، يحشر متوجها إلى الله ، والمقبوض على الغفلة ، يحشر وجهه إلى الغير ، فيستحق البعد والطرد . نعوذ بالله منه . 

قال رضي الله عنه : ( ثم ، إن العبد الكامل مع علمه بهذا ، يلزم في الصورة الظاهرة والحالة المقيدة ) وهي حال الصلاة .
قال رضي الله عنه : (التوجه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ، ويعتقد أن الله في قبلته حال صلاته ،وهي بعض مراتب وجه الحق في " أينما تولوا فثم وجه الله " فشطر المسجد الحرام منها ، ففيه وجه الله).
أي ، الكامل أيضا مع علمه بوجوه الحق ومراتبه - وأن الحق متجلي في جميع الجهات - ينبغي أن يلازم شطر المسجد الحرام ، ويتقيد بما يقتضيه حال الصلاة انقيادا لأمر الحق واتباعا لنبيه ، وطوعا لشريعته الذي هو المقتدى للكل من حيث إنه مظهر الاسم الظاهر وتجلياته ، ويعتقد
بحسب الباطن أن هوية الحق في قبلته ، لأنها بعض وجوه الحق لكن لا يحصرها فيها .

قال رضي الله عنه : (ولكن لا تقل هو هيهنا فقط ، بل قف عندما أدركت والزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام ، والزم الأدب في عدم حصر الوجه في تلك الأبنية الخاصة ، بل هي من جملة أينيات ما تولى متول إليها ) . ( ما ) بمعنى الذي .
( فقد بان لكن عن الله أنه في أينية كل وجهة ) . ولما كانت الأينيات عبارة عن الجهات - وكان بعضها حسية وبعضها عقلية وهي جهات الاعتقادات -
قال : ( وما ثم إلا الاعتقادات . فالكل مصيب ) . لأن كلا منهم يعتقد وجها خاصا من وجوه الحق .

قال رضي الله عنه : (وكل مصيب مأجور ، وكل مأجور سعيد ،وكل سعيد مرضى عند ربه ،وإن شقي زمانا في الدار الآخرة فقد مرض وتألم أهل العناية مع علمنا بأنهم سعداء أهل الحق في الحياة الدنيا) .
تقديره : فقد مرض وتألم أهل العناية في الحياة الدنيا مع علمنا بأنهم سعداء أهل حق .

قال رضي الله عنه : (فمن عباد الله من يدركهم الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى "جهنم " ، ومع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاص بهم ، إما بفقد ألم كانوا يجدونه ، فارتفع عنهم ، فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم ، أو يكون نعيم مستقل زائد ، كنعيم أهل الجنان في الجنان . والله أعلم ) .
كل هذه الأقسام لمن هو خالد في النار ، إذا العاصون من المؤمنين خارجون منها . ونعيم أهل النار لا يكون إلا بحسب استعدادات نفوسهم ، فيتفاوتون .

وإنما قال : ( نعيم مستقل زائد ) لأنه لا يشبه لنعيم أهل النعيم ، بل يكون مشابها للجحيم ومناسبا لأهله . 

والله أعلم .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Empty
مُساهمةموضوع: 11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر Emptyالإثنين أغسطس 19, 2019 5:48 pm

11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الصالحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية 
لما كان ( الفتوح ) عبارة عن حصول شئ عما لم يتوقع ذلك منه ، نسب
حكمته إلى صالح ، عليه السلام ، لخروج الناقة التي هي معجزته من الجبل ،
وهو مما لم يتوقع خروجها منه .
وأيضا لما كان ( الفتوح ) مأخوذا من ( الفتح ) - إذ هو جمعه كالعقول للعقل والقلوب للقلب - وصالح مظهر اسم ( الفتاح ) ، لذلك انفتح له الجبل فخرج منه الناقة ، وهو من جملة مفاتيح الغيب ، قرن ( الحكمة الفتوحية ) إلى كلمته ، وبين فيها الإيجاد ، وكونه مبنيا على الفردية . وفي بعض النسخ : ( حكمة فاتحية ) . وهي يؤيد ما ذكرناه .
(من الآيات آيات الركائب ) أي ، من جملة الآيات والمعجزات ، آيات الركائب ، كالناقة لصالح و ( البراق ) لنبينا ، صلى الله عليه وسلم وأضاف ( الآيات ) إلى ( الركائب ) ، وإن كانت هنا نفس ( الآيات ) ، باعتبار المغايرة التي بينهما : فإن ( الآيات ) ليست منحصرة في ( الركائب ) ، ولا كل ( الركائب ) من ( الآيات).
وهذه ( الركائب ) في الحقيقة صورة النفوس الحيوانية ، وهي مراكب النفوس الناطقة ، كما أن الأبدان مراكب النفوس الحيوانية ، لأنها جمع ( ركيبة ) - كقبائل جمع قبيلة . وهي ما يركب عليه للوصول إلى المقصود ، وما تحصل مقاصد النفوس الناطقة ولا تكمل إلا بها ، فهي مراكبها .
(وذلك لاختلاف في المذاهب ) .
أي ، وكون ( الركائب ) من ( الآيات ) الدالة على صدق الأنبياء ، إنما هو لاختلاف
في المذاهب ، أي ، في السلوك والسير إلى الله ، إذ ( المذهب ) هو الطريق ، كما يقال :
مذهب الشافعي كذا . أي ، طريقه الذي ذهب إليه كذا .
وذلك الاختلاف مستند إلى اختلاف الاستعدادات ، فإن بعض النفوسيسير عليها سيرا لا تزيغ أبصارهم إلى غير المطلوب ، كما قال تعالى في نبيه ،
صلوات الله عليه : "ما زاع البصر وما طغى ". فيصل إليه . وبعضهم لا يسيرون عليها نحو المطلوب ، فيتيهون في السباسب ويبقون في ظلمات الغياهب ، كما قال :
(فمنهم قائمون بها بحق .... ومنهم قاطعون بها السباسب )
أي ، فمن أصحاب تلك المذاهب ، طائفة قائمة بتلك الركائب ، أي ، أقاموها في
طاعة الحق والسير إليه باستعمالها فيه بالحق ، لا بأنفسهم .
ف‍ ( الباء ) الأولى للتعدية ، والثانية للاستعانة .
( ومنهم قاطعون بها ) أي ، بتلك الركائب ( السباسب ) . وهو جمع ( سبسب ) . وهو البيداء والصحراء . أي ، يقطعون بها البراوي والصحاري التي تاهوا فيها ولم يخرجوا عنها .
وهي براري عالم الظلمات والأجسام .
فالطائفة الأولى هم الذين علموا الأمر على ما هو عليه ، وسعدوا .
والثانية هم الذين بقوا في ظلمات الجهل ، وبعدوا .
وإليه أشار بقوله : (فأما القائمون فأهل عين ) أي ، أهل الشهود والعيان .
(وأما القاطعون هم الجنائب) أي ، هم المحجوبون البعداء عن الحضرة ومعرفة حقائق الأشياء ، وإن قطعوا
براري عالم الملك بالاستدلال من الأثر إلى المؤثر بعقولهم المشوبة بالوهم المحجوبة
عن حقيقة العلم . إذ هي جمع ( جنيبة ) . وهي فعيلة من ( الجنوب ) ، وهي البعد ،
كما قال :
(هواي مع الركب اليمانين مصعد .... جنيب وجثماني بمكة موثق)
وكان الحق أن يقول : فهم الجنائب . ب‍ ( الفاء ) ، جوابا ( أما ) ، لكنه حذف للضرورة .
ولو قال : فهم جنائب ، لكان أنسب .
(وكل منهم يأتيه منه ..... فتوح غيوبه من كل جانب )
أي ، كل واحد من القائمين ، يأتيه من عند الله فتوح الأسماء الإلهية والتجليات الذاتية من جوانب الحضرات الروحانية والجسمانية . فضمير ( منه ) و ( غيوبه ) عائد إلى ( الحق ) .
و ( الفتوح ) يجوز أن يكون مفردا بالمعنى المشهود المذكور . ويجوز أن يكون جمعا للفتح ، كالقلوب للقلب .
ويجوز أن يحمل ( وكل منهم ) على ( القائمين ) و ( القاطعين ) .
لأن المحجوبين أيضا لهم فتوح غيوب الحق من حضرات الأسماء التي تربهم وتختص بهم .
( اعلم ، وفقك الله ، أن الأمر مبنى في نفسه على الفردية ) . لما كانت ( الحكمة الفتوحية ) حاصلة من مفاتيح الغيب التي هي سبب الإيجاد ، قال : ( إن الأمر ) أي ، أمر الإيجاد .
( مبنى في نفسه على الفردية ) أو الشأن الإلهي وظهوره في نفسه بصورة خلقه مبنى عليها . أو أمره بقوله : ( كن ) مبنى عليها .
والمراد ب‍ ( الفرد ) هنا ما يقابل الزوج ، لا ( الفرد ) الذي هو اسم من أسماء الذات بمعنى ( الواحد ) .
( ولها التثليث ، فهي من الثلاثة فصاعدا ؟ فالثلاثة أول الأفراد . وعن هذه الحضرة الإلهية وجد العالم ) . أي ، وعن الحضرة الفردية وجد العالم .
وهي باعتبار العالم الذي هو الحق ، والمعلوم الذي هو العين ، والعلم الذي هو الرابطة بينهما ، إذ لو نقص شئ منها ، لما أمكن وجود العالم .
ولما كان باعتبار آخر يستدعى وجود العالم الفردية من كل من الطرفين ، طرف الفاعل والقابل ، أثبت من طرف الفاعل الفردية ، وكذلك من طرف القابل ، ليقابل كل منهما الآخر .

( فقال تعالى : " إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" ) . فهذه ذات ، ذات إرادة وقول . فلولا هذه الذات وإرادتها ، وهي نسبة التوجه بالتخصيص لتكوين أمر ما ، ثم لولا قوله عند هذا التوجه ( كن ) لذلك الشئ ، ما كان ذلك الشئ ) . أي ، لولا هذه الأشياء الثلاثة ، التي هي ( الذات ) و ( الإرادة ) و ( القول ) ب‍ ( كن ) ، ما حصل ذلك الشئ .
( ثم ، ظهرت الفردية الثلاثة أيضا في ذلك الشئ ) . أي ، الشئ الكائن .
( وبها ) أي ، وبتلك ( الفردية ) الحاصلة . ( من جهته ) أي ، من جهة الشئ . ( صح تكوينه ) . التكوين ، جعل الشئ مكونا . فمعناه : أن الحق إذا أمر بالشئ بقوله : ( كن ) ، يجعل ذلك الشئ نفسه موجودا .
ويجوز أن يكون بمعنى ( التكون ) ، أي ، بها صح تكونه . والمعنى واحد في الحقيقة .
(واتصافه بالوجود ، وهو شيئيته وسماعه وامتثاله أمر مكونه بالإيجاد ، فقابل ثلاثة بثلاثة ، فإنه الثابتة في حال عدمها في موازنة ) أي ، في مقابلة .
( ذات موجدها ، وسماعه في موازنة إرادة موجده وقبوله بالامتثال لما أمره به من التكوين في مقابلة قوله : " كن " ، فكان هو ) . أي ، فحصل ذلك الشئ بامتثال أمر موجده .  ( فنسب ( التكوين ) إليه ) .
فلولا ( أنه في قوته التكوين من نفسه عند هذا القول ، ما تكون ) . أي ، الحق نسب
( التكوين ) إلى الشئ الذي يوجد في قوله : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) . أي ، فيكون هو بنفسه .
فلولا أنه مستعد للتكوين وله قابلية لذلك من نفسه ، ما تكون عند سماع هذا القول . وذلك الاستعداد والقابلية مركوز كامن فيه حاصل له ب‍ ( الفيض الأقدس ) .
وإليه أشار قوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) . فإن الحق أمرهما بالإتيان إلى الوجود العيني ،والإتيان صدر منهما.
(فما أوجد هذا الشئ بعد أن لم يكن عند الأمر بالتكوين إلا نفسه ، فأثبت الحق تعالى أن التكوين للشئ نفسه ) ( نفسه ) ، بالجر ، تأكيد ( للشئ ) .
( لا للحق . والذي للحق فيه أمره خاصة .
وكذا أخبر عن نفسه في قوله : ( إنما أمرنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون . فنسب ( التكوين ) لنفس الشئ ) . أي ، إلى نفس الشئ .
ف‍ ( اللام ) بمعنى ( إلى ) . ( عن أمر الله وهو الصادق في قوله . وهذا هو المعقول في نفس الأمر . كما يقول الآمر ، الذي يخاف فلا يعصى ) على البناء للمفعول .
( لعبده : قم .فيقوم العبد امتثالا لأمر سيده . فليس للسيد في قيام هذا العبد سوى أمره له بالقيام . والقيام من فعل العبد ،لا من فعل السيد ). معناه ظاهر .
فإن قلت : الأشياء قبل وجودها معدومة ، فكيف تتصف بالامتثال والقبول للأمر والانقياد ؟
وهذه المعاني إنما تحصل مما له الوجود ، وكيف يمكن أن يتكون الشئ الذي وجوده مستفاد من غيره بنفسه ؟
وكيف يقاس ما ليس بموجود إلى ما هو موجود ، كمثال العبد والسيد ؟
قلت : إنها موجودة بالوجود العلمي الإلهي أزلا وأبدا ، وإن كانت معدومة بالنسبة إلى الوجود الخارجي .
وهذه الصفات التي للأشياء ليست من لوازم الوجود الخارجي فقط ، بل من لوازم الوجود العلمي ، فهي متصفة بها أيضا حال كونها متصفة بالوجود العلمي .
غاية ما في الباب ، أن هذه الصفات يتفاوت ظهورها بحسب عوالمها التي هي فيها ، كما يتفاوت الأعيان باللطافة والكثافة في عالم الأرواح والأجسام .
وسر نسبة ( التكوين ) إلى الأعيان وتحقيقها ، أن تلك الأعيان لكونها عين الحق من حيث الحقيقة لها الظهور والإظهار لنفسه في جميع مراتب الوجود ، لاتصافها بالصفات الإلهية حينئذ . ومن حيث إنها متعينة بتعينات خاصة مستمدة ممن لا تعين له ، محتاجة إليه ، لها العجز والضعف والنقص وغيرها من الصفات الكونية .

فنسبة ( التكوين ) و ( الإيجاد ) إليها ، بالاعتبار الأول ، والعجز والفقر والمسكنة ، بالاعتبار الثاني . فلا تضيق صدرك بما سمعت ، واحمد ربك على ما فهمت .
( فقام أصل التكوين ) أي ، الأعيان التي تتكون . ( على التثليث ، أي ، من الثلاثة من الجانبين : من جانب الحق ، ومن جانب الخلق . ثم ، سرى ذلك ) أي ، حكم ذات التثليث .
( في إيجاد المعاني بالأدلة ، فلا بد من الدليل أن يكون مركبا من ثلاثة ) وهو موضوع النتيجة ، ومحمولها ، والحد الأوسط .
( على نظام مخصوص ) وهو نظم الشكل الأول وما يرجع إليه عند الرد ، كالأشكال الثلاثة الأخر .
(وشرط مخصوص ) وهو أن تكون الصغرى موجبة ، كلية كانت أو جزئية ، والكبرى كلية ، سواء كانت موجبة أو سالبة . هذا في الشكل الأول .
وأما في الأشكال الباقية ، فالشرط أن يكون الكبرى والصغرى بحيث إذا ردتا إلى الأول بطريق مثبتة في علم المنطق ، يحصل شرط الشكل الأول .
( وحينئذ ينتج من ذلك . وهو ) أي ، النظام المخصوص .
( أن يركب الناظر دليله من مقدمتين : كل مقدمة تحوي على مفردين ، فتكون أربعة . واحد من هذه الأربعة يتكرر في المقدمتين ، ليربط أحديهما بالأخرى كالنكاح ) .
شبه اجتماع المعاني الثلاث بحصول النتيجة ، بالنكاح الصوري ، على أن هذا الاجتماع العيني صورة ذلك الاجتماع الغيبي والثلاثة التي في النكاح وهي أركانه:
الزوج ، والزوجة ، والولي العاقد . والباقي شروط الصحة .
( فيكون ثلاثة ) أي ، فتحصل ثلاثة . ( لا غير لتكرار الواحد فيهما ، فيكون المطلوب ) أي ، فيحصل المطلوب .
( إذا وقع هذا الترتيب على هذا الوجه المخصوص ، وهو ربط إحدى المقدمتين بالأخرى بتكرار ذلك الواحد المفرد ) على صيغة اسم الفاعل من ( الإفراد ) . أي ، الواحد الذي يجعل موضوع النتيجة ومحمولها بتكراره فردا .
وفي بعض النسخ : ( الوجه المفرد ) . ويؤيد هذه النتيجة قوله آخرا :
(فالوجه الخاص . وهو تكرار " الحادث " ) .
(الذي صح به التثليث . والشرط المخصوص أن يكون الحكم أعم من العلة ،أو مساويا لها ، وحينئذ يصدق . وإن لم يكن كذلك ، فإنه ينتج نتيجة غير صادقة) .
المراد هنا ب‍ ( الحكم ) المحكوم به في النتيجة . ومثال الأعم ، قولنا : الإنسان حيوان ، وكل حيوان جسم ، فالإنسان جسم . فالجسم هو ( الحكم ) ، وهو أعم من الحيوان .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» كتاب شرح كلمات فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربى الطائي الحاتمي أ.محمود محمود الغراب
» شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
» شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: