منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 8:54 am

مقدمة الشارح الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

مقدمة صائن الدين على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
خطبة الشارح الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله مفصّل الآيات في صحائف قوالب قلوب كمّل الكلم بكامل كلامه ، ومبيّن الغايات على تخالف الطريق والطرق في أقوم الأمم بعلائم أعلامه ، وصلَّى الله على مفيض النيّات محمّد  الذي عرج الورى في معارج منعرج دار السلام بسلاليم إسلامه .
أمّا بعد :
فإنّ أجلّ ما تنعطف إليه أعنّة البصائر النقّادة ، وأحقّ ما تمدّ نحوه أعناق الخواطر الوقّادة ، هو الحكمة الحقّة التي لا يخالط خلَّص عيون يقينها آنك الشكوك ولا شبه الشبه ، ولا يشوب صفاء مناهل حقائقها قذر النقوض ولا قتر الردود  ممّا يورث السفه والعمة ، لا سيّما في زماننا هذا إذ سطع تباشير صبح ظهور الحقّ عن أفق إخفائه ، وتبلَّج أنوار أسرار الحقيقة في غياهب دياجير ظلمائه ، ولأمر ما ترى كواكب انتظام ظواهر العلوم وشواكل الرسوم قد انتثرت عن سمائها ، وانحطَّ مراتب أقدارها عن معارج علوّها وسنائها ، بما طلعت شمس إظهار المراد عن مغرب الغيابة والأفول ، وظهرت أسرارها عن مكامن الإنزال والنزول .
بدى لك سرّ طال عنك اكتتامه  ..... ولاح صباح كنت أنت ظلامه
وجاء حديث لا يملّ سماعه      ..... شهيّ إلينا نثره ونظامه

ومن آياته تداول كتاب فصوص الحكم ، المنسوب إلى الإمام الأقدم ، الحبر الأعظم ، والبحر الخضمّ ، محيي الحقيقة والدين : ابن العربي الطائي الأندلسي قدّس الله روحه ، وأفاض علينا برّه وفتوحه الذي هو العلق النفيس ، وعين التحقيق الخالص عن شوائب التلبيس والتدليس.
فإنّه قد انتظم في عقده جواهر خصائص مكاشفات الأنبياء ، وطرائف لطائف أذواق خلَّص الأولياء .
ثمّ لمّا وفّقني الله تعالى للتطلَّع والاستكشاف ممّا فيه من كوامن الكنوز وخزائن الرموز صادفته على ما علَّق عليه من الشروح والحواشي انفا لم ترتع وبكرا لم تفترع فحرّضني قهرمان الزمان وما عليه في هذه الأوان أن أكشف القناع عن مخدّرات إشاراته ، وابيّن حقائق ذوقياته ، ودقائق مكاشفاته بما سمح الوقت بإملائه.
وأخذ الزمان في منحه وإعطائه من القواعد العدديّة والحكم الحرفيّة ، التي هي عند أهلها وأرباب عقدها وحلَّها كالحجج القاطعة لإدراك تلك الذوقيات وإثباتها ، والبراهين الساطعة لتيقّنها واستنباطها ، مترشّحا من ذوارف عوارف الختمي الأكملي السيّدي ، ومقتبسا من مشكاة نوره الأتمّ ، سلام الله على آبائه الكرام ، وعليه وعلى أصحابه أجمعين .
فلا بد إذن من تصدير مقدّمة كاشفة عن امّهات مقاصد القوم مبيّنة لتأسيس تلك الأصول ، وتنسيق ذلك النظم وهي منطوية على عدّة توشيحات وعقود :
في معنى الوجود
اعلم أنّ أظهر المفهومات نسبة وأبينها لزوما للإطلاق الحقيقي والوحدة الذاتيّة التي هي أقرب المدارج للعقول عند العروج في مسالكها الخاصّة بها ، وأعلاها لدى التطلَّع بقواها إلى حقيقة الحقائق هو الوجود فحريّ بنا أن نصدّر الكلام بالفحص عن معناه وعمّا يلحقه لذاته ، وبحسب المدارك من الأحكام واللوازم ، تقريبا لأذهان المسترشدين وتنزّلا إلى مدارك أفهامهم وذلك لأنّه أبين المعاني تصوّرا ، وأشملها وأعمّها تحقّقا .
أمّا الأوّل فلأنّ ظهور المفهومات وبداهتها لدى الإمعان ليس إلَّا قرب النسبة بينها وبين أحد أنواع الوجود في لحوقه إيّاها وعدم تخلَّل الواسطة بينهما ، فلذلك كلَّما كانت الوسائط أقلّ ترى المفهوم أظهر ، وكلَّما كانت أكثر تراه أخفى وأبطن .
وأمّا الثاني فلأنّ العموم إنّما يرجع معناه عند التأمّل إلى أنّ ملحوقيّة العامّ لأحد نوعي الوجود أكثر وأشمل بالنسبة إلى ما هو خاصّ له ، كما أنّ ملحوقيّة الخاصّ أقلّ وأنزر بالنسبة إليه ، فالعموم والشمول أيضا منوط بالقرب من الوجود والبعد عنه ، ولا يخفى أنّ ما يفيد نسبة القرب منه أمرا يتفاوت بحسب زيادة تلك النسبة ونقصها ، لا بدّ وأن يكون ذلك الأمر فيه أتمّ وأكمل .
ثمّ إنّ معناه بمحوضة إطلاقه ، ما لم تنضمّ إليه نسبة أو تلحقه إضافة لا يمكن وصول العقل إليه بإدراك مشاعره الجزئيّة ، المحاطة لأحكام مرتبته ، ولذلك ترى المتأخّرين من الحكماء والمتكلَّمين يفسّرونه بـ : « الكون في الأعيان » ويلزمه حينئذ كثير من الأحكام ، ممّا لا دخل له في حقيقته :
منها : مقابلة العدم له ، ضرورة أنّ الوجود في الدار مثلا يقابله العدم فيها .
ومنها : أنّه يلزم أن يكون مفهومه راجعا إلى مجرّد النسبة ومحض الإضافة ولذلك يصحّ أن يستجمع مع مقابله في ذات ، إذا اختلف المنتسب إليه ، كما يقال للموجود في الذهن : " إنّه معدوم في الخارج " .
لا يقال : كيف يتصوّر ذلك ، والإضافة من الأعراض التي لا بدّ وأن يكون لها محالّ موجودة قبلها ؟
إذ ما يوجد به الأشياء إنّما هو الوجود الحقيقيّ على ما سيجيء تحقيقه وهو الموجود بنفسه ، الموجد لغيره لا العرضيّ الذي لا وجود له في الخارج .
ومنها : أنّه لا عين له في الخارج ولا تحقّق له هناك أصلا ضرورة أنّ النسب أنفسها إنّما توجد في العقل ، ولذلك تراهم ذهبوا إلى أنّه من الأمور الواقعة في الدرجة الثانية من التعقّل .
ومنها : أنّه من الأمور الزائدة على الماهيّات الحقيقيّة ، اللاحقة إيّاها في الذهن ضرورة أنّ النسب والاعتبارات لا يمكن أن يكون لها دخل في الحقائق الخارجيّة ، ولذلك جعلوه مقولا بالتشكيك على أفراد بها توجد الماهيّات ، لئلَّا يمتنع تقوّم بعضها بها على ما ذهبوا إليه في الواجب .
هذا إذا أضيف إلى حقيقة الوجود ضرب من النسبة والإضافة ، ولم نبقها على إطلاقها بما هي عليه ، فإنّ تلك الحقيقة في نفسها معرّاة عن النسب كلَّها لا يمكن أن يدلّ عليها بدلالة ، ولا أن يشار إليها بنوع من الإشارة .
ومن ثمة قيل : إنّه غيب الغيب الذي فيه العنصر الأعظم ، وذلك لأنّ أوّل ما يلزمها من المعاني الكاشفة عنها هو الوحدة الحقيقيّة التي لا يعتبر فيها شيء من لوازم التغاير والتقابل أصلا ، ممّا يشوب به صرافة إطلاقها ومحوضة إحاطتها ، فلو دلّ عليها بشيء من الإشارات أو العبارات لما بقيت على ما عليه من الإطلاق والوحدة .
ثمّ إنّها حينئذ تستدعي أحكاما تلزمها لنفس حقيقتها .
منها : أنّه لا يمكن أن يكون لها مقابل أصلا فإنّ الواحد هذا لا يشذّ منه شيء هو ثاني له يقابله. فإن قلت : الذي يقابلها لا شيء صرف ، وهو خارج عن ذلك الواحد ؟
قلت :  كلّ ما يشعر بالثنويّة والتغاير ولو بمجرّد الفرض والاعتبار ينافي حقيقة تلك الوحدة  على ما حقّق أمره وبسط الكلام فيه في كتاب التمهيد والتعبير عن ذلك بـ «الشيء» وما يجري مجراه لضيق مجال الألفاظ وحصر الأوضاع .
ومنها : استجماعها للأضداد والنقائض وسائر الأطراف ، بحيث يكون هو الكلّ بعينها ، وإلَّا يلزم أن يكون للثنويّة والتغاير فيها حكم ، وهي المسمّاة بالهويّة المطلقة ، على ما صرح به العبارة الختميّة القرآنيّة المرسل بها بقوله تعالى : " هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ ".
ومنها  : أنّ طريان وجوه التقيّدات لا ينافي ظهور أحكامها الإطلاقيّة ، بل إنّما يتمّ سلطانها عند تضاعف تلك الوجوه ، والإحاطة بصنوف أطوارها جملة ، وهذا سبيلها في سائر المتقابلات ، فإنّ أشعّة أضواء ظهورها إنّما تتشعشع في غياهب دياجير البطون ، كما أنّ ظلمات غواسق البطون إنّما ادلهمّت في انتشار أنوار الظهور ، كما أشار إليه الشيخ المؤلف  :
باطن لا يكاد يخفى    ..... وظاهر لا يكاد يبدو
ولكن المسترشد الفطن ربّما يحتاج في تحقيق هذا المعنى إلى تخليص لذائقة فطانته عن مألوفات العوائد التقليديّة ، ومحصولات الدلائل النظريّة .
عقد منه :
اعلم أنّ المانع من الشركة إنّما هو تمام معنى الجمعيّة الوجوديّة ، وكمال كلَّيّته الإحاطيّة التي ليس في الخارج عنها ما يشاركها أصلا ، وذلك إنّما يتصوّر في الواحد الحقيقي على ما عرفت ولذلك ترى مراتب تنزّلات الأنواع بالغا ما بلغ لا تنتهي بتراكم القيود إلى الشخص ما لم تظهر في أضواء ظلاله ، ولم تتبيّن منه آثار وحدته وسطوة سلطان جلاله .
توشيح تفصيليّ على عرف الصوفيّة
"تعريف بعض الاصطلاحات " :
ثمّ إنّ لتلك الوحدة لوازم مترتّبة متنزّلة ، متصاعدة تسمّى في عرفهم بالتجلَّيات والتعيّنات والعوالم والكائنات .
أولها : معنى الإطلاق وهو عدم لحوظ ما يخرج الشيء عن صرافة وحدته ويكثّره بوجوه القسمة والنسبة ، وذلك إنّما يكون عند انتفاء سائر النسب والإضافات ، وهو المسمّى : ب « الحضرة الأحديّة » و « حضرة الجمع والوجود » و « التعيّن الأوّل » ، وتجلَّيه ، و « الحقيقة المحمّديّة » و « مقام " أَوْ أَدْنى " » على اختلاف العبارات بحسب الاعتبارات  .
وثانيها : ما يلزم ذلك المعنى وهو شمول تلك الوحدة للكلّ واندراج الكلّ تحتها وهاهنا تتميّز الوحدة عن الكثرة ، ويتحقّق التغاير والتقابل ، وهو المسمّى ب "الحضرة الواحديّة" و «النفس الرحماني» و « التعيّن الثاني » وتجلَّيه ، و "البرزخ الجامع " و " الحقيقة الآدميّة " و " مقام قاب قوسين " و « حضرة الأسماء » و « منشأ السوي » و « منزل التدلَّي » و « موطن التداني » و " مستند المعرفة " بحسب ظهور معنى التطوّرات في مدارج التنزّلات .
ثمّ إنّه قد استتبع حكم معنى الشمول والكليّة ، هاهنا ظهور سلطان النسبة ، وقهرمان أمر الأسماء ، وبيّن أنّ النسبة الواقعة بين الواحد الكلّ وما يشمله من الكثرة والتعدّدات ، لها وجوه من الاعتبارات :
منها ما الغالب عليه حكم الوحدة ، ومنها ما الظاهر فيه  حكم الكثرة فإن اعتبر المنتسبان قيل : «حقّ وخلق » ، وإن اعتبر الوجه الأول من النسبة قيل :
"أوصاف الحقّ وأسماؤه" ، وإن اعتبر الوجه الثاني منها قيل : «الكون» و «حقيقة العالم» ، وعينه الثابتة .
فأوّل ما يظهر في هذه الحضرة أمر الأسماء ، كما أنّ أوّل ما يظهر أحكامه منها العلم المثبت للمعلومات ، المستلزم للااستحقاقيّة الوجود لها لذاتها يعني الإمكان فهو أوّل ما يلزم العلم ، كما أنّ الوجوب وهو استحقاقيّة الوجود لذاته أوّل ما يلزم الوجود ، وهو المراد بما قيل : "إن الوجوب والإمكان ظاهرا الوجود والعلم".
ويلزم الإمكان وجوه من التقسيم : ككونه جوهرا ، أو عرضا ، وحالَّا أو محلَّا ، ومجرّدا أو ذا مادّة على ما بيّن في صناعة الحكمة .
تلويح لوحي :
الذي ينبّهك على هذه الأصول من شواكل الرقوم أن الألف في الجلالة قبل ظهوره بتمام الدائرة الإحاطيّة العينيّة وهاء الهويّة التعيّنيّة  ، له تنزّلان في لامي الجمعيّة العلمية ، مختفيا في الأوّل منهما ، مندمجا فيه ، وظاهرا في الثاني منبسطا ممتدا إلى الهاء ، امتداد النفس الرحماني والمدد الوجودي على التعيّنات .
عقد نظم فيه :
إذ قد بان لك ما تفرّق به بين الذات وشئونها وأحكامها المسمّاة بالإمكان ، فاعلم أنّ توجه الذات على جميع الممكنات أنفسها يسمّى «الوهيّة» كما أنّ تعلَّقها بنفسها وبجميع الحقائق على ما هي عليه يسمّى ب "العلم" .
ثمّ ذلك التعلَّق إن اعتبر على الممكنات خاصّة بما هي عليه في نفسها يسمّى بـ  "الاختيار" وإن اعتبر ذلك بما هي عليه في الحضرة العلميّة من سبق تخصيصها بأحد الجائزين يسمّى بـ «المشيّة» ، كما أنّ تعلَّقها بنفس ذلك التخصيص يسمّى " إرادة " كما أفصح عن  ذلك لفظ «الشيء» و «المراد» عند اللبيب ، فإنّ الشيء هو ذات الممكن ، كما أنّ المراد إنّما هو وجوده ، فالمشيّة لها تقدّم اعتباري وتعلَّقها بإيجاد الكون يسمّى "قدرة" ، وتعلَّقها بإسماع المكوّن لكونه يسمّى "أمرا".
ثمّ إنّ ذلك إن توجّه إلى تحصيل أعيان الأكوان يسمّى بـ «الخلق» ، وإن توجّه إلى تحصيل أحكامها بما يفيد ما عليه أمر الوجود يسمّى بـ "الكلام" .
والأوّل ينتهي إلى أعراض وكيفيّات تحملها الأضواء . والثاني أيضا إلى أعراض كذلك يحملها الهواء.
فتعلَّقها بالأوّل يسمّى بـ «البصر» ، كما أنّ تعلَّقها بالثاني يسمّى بـ "السمع" .
ثمّ إنّ تعلَّقها بإدراك كلّ مدرك الذي لا يصحّ تعلَّق من هذه التعلَّقات كلَّها الَّا به يسمّى «حياة» ، والعين في ذلك كلَّه واحدة ، وتعدّد التعلَّقات إنّما هي لتمايز المتعلَّقات ، فلا تغفل عن هذا النظم وترتيبه .
توشيح ونظم على نسو الشيخ المؤلف :
مراتب الوجود في قوسي النزول والرجوع  ثمّ إنّ العلم مع باقي أئمّة الأسماء وسدنتها لما توجّهوا إلى إيجاد عالم التدوين والتسطير ، وإبراز المعلوم في ملابس التشكيل والتصوير إذ الأسماء ما دام في الموطن الجلائي والتعيّن الإطلاقي لا تتمكَّن من إنفاذ أحكامها كان أوّل ما ظهر من ذلك جوهرا بسيطا من غير مادّة ولا مدّة ، يسمّى ب «العقل الأوّل» من حيث أنّه الخازن الحفيظ الأمين على اللطائف الإنسانيّة التي هي الغاية للحركة الإيجاديّة .
و «القلم الأعلى» من حيث التدوين والتسطير ، و «الروح» من حيث التصرّف ، و «العرش المجيد» من حيث الاستواء ومن ذهب إلى أنّه هو التعيّن العلمي بعينه ، فكأنّه لم يفرّق بين التعيّن الاستجلائي الَّذي فتح فيه أبواب لام التفصيل ، المعبّر عنه ب « العالم » وبين التعيّن الجلائي الذي انخفض فيه ذلك الباب المسمى بـ «العالم» أو لم يظهر له بحسب القوانين الحكميّة أن كلّ ما انختم به خزائن الكمال من الحقيقة الإحاطيّة الجامعة بين ما يختصّ به العقل من القدسيّات وما يقابله من الهيولانيّات.
 بل أجمع وأكثر إحاطة من ذلك لا بدّ وأن يكون بحسب حقيقته هو الفاتح لأقفال الظهور ، وبيده مقاليد تلك الأبواب ، كما صرّح به معلَّم المشّاءين في صدر كتابه المسمى بـ « أثولوجيا »  :" إنّ أوّل البغية آخر الدرك ، وآخر الدرك أوّل البغية " .
وأمّا ما وقع في كلام الشيخ ممّا يمكن أن يفهم منه الدخيل ذلك ، كما في قوله
في رسالة المسائل : « فأوّل موجود ظهر فقير مقيّد موجود يسمّى العقل ، ويسمّى الحق المخلوق به ، ويسمّى الحقيقة المحمّدية ، ويسمّى روح الأرواح ويسمى الإمام المبين . . . " .
فهو عين ما ذكرناه من أنّه أوّل سلسلة العوالم ، فإنّ العالم هو الذي له الفقر والقيد والظهور ، دون الحضرات الجلائيّة .
وكذلك حكم سائر الأوائل الواقعة في جميع المراتب ، فإنّها مظهر التعيّن الأوّل في تلك المرتبة ، فيصدق عليه أحكامه وأسماؤه ولكن مقيّدا وباعتبار .
ثمّ إنّه لغلبة حكم الإجمال والإطلاق الذي هو مقتضى التعيّن الأوّل في هذا الجوهر ما كان له أن يثبت فيه ذلك التصوير إلَّا بضرب من الإجمال فظهر جوهر آخر قابل لتسطير القلم به تفصيل ذلك التصوير كما هو مقتضى التعيّن الثاني ولذلك يسمّى بـ « اللوح المحفوظ » و «النفس الكلَّيّة» باعتبار ظهور حكم النفس الرحماني فيها و «العرش الكريم» للاستواء عليه .
ثمّ إنّ هذه المرتبة لتروّحها ما كانت قابلة لظهور تلك التفاصيل بأعيانها وبروز هيئاتها بأكوانها وألوانها ، إذ ليس للتفصيل في هذه النشأة حكم إلَّا بنوع من الانطباع ، فاقتضى الأمر التنزّل نحو مادّة قابلة لبروز تلك التفاصيل فيها بأعينها وذواتها ، وهو " الهباء " ، المسمّى في عرف المشّاءين بـ "الهيولى" .
وهي لذاتها وبما جبّلت عليه من القبول تصوّر فيها من العقل بعد هو الطول ، ومن النفس آخر هو العرض ، ومن المركز الذي هو متوجّه هذه الحركة الظهوريّة الإيجاديّة آخر هو العمق فحصل الجسم الكلّ وتشكَّل بما هو مقتضى الحقائق أولا.
يعني الكرويّة فكان الفلك المسمّى بـ «عرش الرحمن» لاستوائه سبحانه عليه به ، من حيث أنّ الوجود تمّ ظهوره به ، وبلغ كماله فيه ، واستقرّ سلطانه وجلاله عليه .
ثمّ أنّه قد غلب فيه حكم الإجمال بناء على ما تقرّر من سريان حكم التعيّن الأوّل على كل ما تعيّن أولا في أيّ مرتبة كانت ،على ما نبّهت عليه في مرتبة الأمر فظهر فلك آخر يسمّى بـ "الكرسي" ، وفيه تفصيل  كما في سائر الثواني من المراتب ، وهو أنّ الكلمة فيه انقسمت إلى الأمر والنهي .
ولذلك يقال له : « موضع القدمين » ، لأنّ الكلمة آخر المراتب والتنزّلات على ما ستقف عليه إن شاء الله .
ثمّ ظهر فلك آخر فيه تفصيل البروج الاثني عشر وتقسيمها الفرضي ، وهو المسمى بـ " فلك البروج " و « الفلك الأطلس » ، إذ لا كوكب فيه ، ثمّ " فلك الكواكب الثابتة " الذي ظهر فيه التفصيل بكماله وبرز الكثرة بصورها المحسوسة في العالم على صحائف العيان وهذه الأربع هي الأفلاك الثابتات وبرابعها بلغ أمر الكثرة منتهاها .
وبذلك استعدّ لظهور الوحدة التي هي مقتضاها ، ولذلك انصرف التوجّه الإيجادي والحركة الحبيّة من حيث النفس منحدرا بالتدبير في عمق الجسم إلى أقصاه ، وذلك نقطة المركز الذي هو محل نظر العنصر الأعظم  ، الذي خلق العقل من التفاتته ، وحصل من تلك الحركة مرتقية الأركان والسماوات على الترتيب من المركز إلى المحيط .
وممّا يدلّ على أنّ الأمر كلَّه دوريّ : هو أنّ أوّل الأركان يعني الأرض وآخر السماوات يعني السماء السابعة على طبيعة واحدة وهي البرودة واليبوسة فبينهما اتّصال من ذلك البعد .
ثمّ لمّا كملت الأركان والأفلاك على ما ذكر ودارت الأفلاك كلَّها وهي :
الآباء العلويات وتحرّكت الأركان بتحريكها وهي القوابل والحوامل امّهاتنا السفليّات
فأوّل ركن قبل الأثر : ركن النار وهو الأثير فظهرت الكواكب ذوات الأذناب ، وأنشأ في هذا الركن عالم الجانّ ، فإنّ مادّة أجسادهم هي الطبائع الدخانيّة القابلة للاشتعال والتنوّر .
فمنهم من غلب على نشأته بساطة الناريّة ولطافة خفّتها وعلوّها وهي الأبالسة والشياطين  ومنهم من غلب عليها أمر تركَّبها النوريّة وهم المؤمنون منهم ولغلبة الخفيفين على نشأتهم هذه جعل بأيديهم عالم الخيال ، وما عليه أمره من التصوّر بالأشكال والأمثال من كلّ شيء في العالم الحقيقي .
وما زال التكوين ينزل إلى أن نزل إلى الأرض كرة تعانق الأضداد وموطن الاعتدال والانحراف ، والكون والفساد فأوّل ما يكوّن فيها :
المعادن ، ثمّ النبات ، ثمّ الحيوان .
وجعل آخر كلّ صنف من أجناس هذه المواليد أولا للذي يليه :
فجعل آخر المعادن
وأوّل النبات الكمأة. وآخر النبات
وأوّل الحيوان النخلة ، وآخر الحيوان وأوّل الإنسان القرد .

ليكون الوحدة الاتّصاليّة محفوظة عن التخلَّل والانخرام ، والهيئة الجمعيّة التي بين تلك الأنواع سالمة عن عروض الانقطاع وطروّ الانصرام .
عقد متمّم سر السير من الوحدة إلى الكثرة ، ثم من الكثرة إلى الوحدة
كما أنّ الحروف ورقومها إنّما تتفارق أصنافها المتماثلة ، وتتباين أشخاصها المتشاكلة بالنقط التي هي مبدأ الخط ، الذي هو هيولى الحروف ومادّة النطق كذلك الأعيان والحقائق إنّما تتميّز بالوحدة التي هي العنصر الأوّل للكلّ .
فكما أنّ النقطة هي المبدء لما يقبل التنوّع والتشخّص أوّلا ، وهي المنوّع المشخّص آخرا كذلك الوحدة بعينها هي أصل الاستعداد وامّ القابليّات والمواد .
ومن ثمّة إذا تمّ سير الظهور وبلغ إلى منتهى كماله المحسوس تراه راجعا من محيط الكثرة الكونيّة إلى مركز الوحدة الوجوديّة التي هي أسطقس الاستعدادات يستمدّ منها ما به يتمكَّن أن يتجلَّى ذلك السرّ السائر على مجالي الإظهار ، ويجلو عرائس كماله على منصّات الشعور والإشعار .
وذلك لأنّ السير الأوّل لبساطة حكم الوحدة فيه ومحوضة تأثيرها في القوابل إنّما حصل منه اللطائف النورانيّة ، فما أمكن أن يتحصّل منه ما به يتكثّف القوابل من الأجرام المدلهمّة المظلمة ، بحيث لا تنفذ فيها أشعّة الظهور حتّى يتعاكس من سطوح تلك القوابل والمرايا أضواؤها المظهرة .
وذلك لأنّ كلّ جمعيّة ما لم ينقهر حكم الوحدة الوجوديّة فيها تحت أحكام كثرتها الكونيّة ، لم ينحرف عن شارع الاعتدال الَّذي هو مورد اللطف والنور ، وما لم ينحرف عنه ولم يمل عن جادّته المستقيمة لم تتراكم فيها الأحكام ولم تتكاثف  سطوحها لتتعاكس أشعّة الظهور فيها وتتشعشع أضواؤها النيّرة ، ويتمّ فيها أمر الإظهار وسيجئ لهذا البحث مزيد بسط إن شاء الله تعالى .
توشيح في تحقيق النشأة الإنسانية :
أليس قد لاح ممّا نظم لك آنفا أنّ العالم قد اشتمل بجملته وكلَّيته على مفردات الأعيان ، وحقائق متفرقة عينيّة وهو من هذا الوجه كثرة كونيّة ، ليس إلَّا وعلى النسبة الامتزاجيّة بينها والرقائق الارتباطيّة التي يتّحد بها الكلّ وحدة وجوديّة .
فكما أنّ للجزء الأوّل منه مادّة يظهر فيها ذلك إلى أن يتمّ أمر الظهور ، ويستوي على عرشه ، وهي غاية الحركة الأولى كما مرّ كذلك لا بدّ له في إتمام تلك البنية ، ممّا يصلح لأن يكون مادّة للجزء الآخر منه ، وهي النشأة العنصريّة الإنسانيّة ، التي هي غاية الحركة الثانية ، وهي غاية الغايات ، ومنتهى سائر الحركات .
ثمّ إنّ تلك الرقيقة الاتحاديّة والرابطة الإحاطيّة إنّما يمكن ظهورها فيما يستوعب سائر المراتب ويستجمع جملة الحضرات والعوالم ، فهو الأنزل من الكلّ رتبة ومكانا ، والآخر ظهورا وتكوّنا ، فإنّ الممتزج من أضداد الطبايع المتخالفة وأطراف الصور المتنوّعة المتمانعة ، لا يزال يتدرّج مائلا من مكامن مطامير تلك الكثرة الكونيّة إلى مجالي ظهور الوحدة الوجوديّة ، حتّى تتحصّل منه جمعيّة جنسيّة اعتداليّة وحدانيّة الحكم ، بها يصلح لأن تظهر فيها تلك الوحدة بصفاتها الحقيقيّة ولوازمها الوجوديّة ، كالحياة ، والإرادة ، والقدرة ، والسمع ، والبصر .
ثمّ إنّه وإن انتهى السير في هذه الحقيقة منتهى ظهوره ، واستوى على عرش شعوره ، لكن ما لم يبلغ في ذلك المسلك إلى حدّ يتمكَّن به من توليد المثل ويمكن أن يظهر فيه الكلام ، وتتنزّل به الوحدة في صورة كليّتها ، وتتكسّى بملابس جملها وتفاصيلها ، لم يتمّ لها الكمال.
فإنّه في هذه المرتبة ظهر ملاك سلطان الإظهار ، وبها نفّذت أحكام قهرمان الصورة المظهرة لطائف المعاني ودقائق الأسرار ، فلها في هذه الجمعيّة الاعتداليّة سيران نحو أواسط كمالها وحاقّ ما أمكن فيها من الوحدة والاعتدال ، حتّى يبلغ ذلك الحد الذي هو مصدر الكلام ، وينتهي به السير المذكور غاية الكمال .
ثمّ لها في هذه الوحدة النوعيّة الكماليّة سيران آخر ان على عرض أرضها المزاجيّة ، نحو ما يصدر منه ذلك الكلام بكماله ، ويتمّ به أمر الإظهار يعني وضع الصور الدالة على المعاني والشعائر المشعرة بالحقائق بأفعاله وأقواله وهو الشخص المسمّى بخاتم النبوّة عليه من الصلوات أفضلها ومن التحيّات أتمّها وأكملها.
وموضوع ما في هذا الكتاب من العلوم والأبحاث هو ما في هذين السيرتان من صنوف تنوّعاته الكماليّة ، وبيان ما يختصّ بكليّات تطوراته من العلوم والمعارف كما ستطلع على تفاصيله عند الكلام على ترتيب الكتاب وفهرست فصوصه وأبوابه .
عقد وتميمة  :
لا يخفى على المتفطَّن اللبيب أنّ ارتباط أمر الكمال بالكلام واستتباع أحكام تمام الإظهار لبلوغه إلى نقطة التمام ، ليس إلَّا باحتوائه على الحقائق كلَّها واختزانه للطائف العلوم والمعارف على ما عليه الأمر في نفسه ، فإنّ الحرف صورة العلم ، ومظهر بسطه وكشفه على ما لا يخفى عند أهله .
ثمّ إنّ استنباط العلم من صور الحروف ، واستنتاج دقائقه الباطنة من بيّنات أشكالها الظاهرة إنّما يمكن من المشعرين الشاعرين :
أعني السمع والبصر ، إذ بهما يرتبط قوس الظهور من الدائرة الكماليّة الوجوديّة بقوس البطون منها ، وبذلك الارتباط حصلت الرقيقة الاتحاديّة التي تستبع العلم والشعور .
وممّا يؤيّد هذا الكلام ما ورد في التنزيل : "وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ"
فإنّ من تدبّر في نظمه بعض التدبّر ظهر له الحقّ من أفق إشراقه .
قوسا النزول والعروج في العالم الإنسانية وتطور الحروف والكلام
وتمام تلخيص ذلك الكلام أنّك قد عرفت آنفا أنّ السير الوجودي لم يزل متدرّجا في كثائف الكثرة الكونيّة ، إلى أن يبلغ منتهى ثخائن الأجرام ثمّ إذ قد تمّ هذه الحركة بحصول ما هو الغاية لها ، عاد يتلطَّف مصوّرا بأعراضها القائمة بها من الألوان والأوضاع ، والأبعاد والأعداد إلى ما يخفّ عن تلك الكثافة الجرميّة وغلظها الأرضيّة خفّة ما .
حتّى يمكن أن يحملها الهواء والضياء ويبلغها إلى مبادي تينك القوّتين ، ثمّ يخلع ما عليها من آثار صورتها النوعيّة الخارجيّة .
ويتدرج في التبطَّن إلى الحسّ المشترك ، ثمّ إلى الخيال ، ثمّ يضع جملة ما عليه من آثار الصور ويدركه الوهم ، ثمّ الذكر ، ثمّ ينفضّ بقايا ما عليه من اللواحق الخارجيّة المشخّصة والعوارض المعيّنة ، ويتعقّله الفكر منزّها عن المواد المشخّصة والعوارض المخصّصة إيّاه .
ثمّ يصل إلى القلب ويعلمه مقدّسا عمّا يشوب به الإطلاق جملة ، وبه يتمّ الدائرة بكمالها ، وينطبق قوس الإظهار على قوس الظهور منها ، ولذلك يقال لمرتبته هذه : "مقام قاب قوسين" .
فعلم بذلك إنّ في الإنسان من تلك الدائرة الكماليّة قوسا ينطبق بأحد طرفيه على أوّل مراتب الظهور ، ومبدأ فتح أبوابه وهو القلب وبالآخر على آخرها  ومنتهاها وهي مشاعره الحسّية الظاهر أمر تمامها في السمع والبصر ولما كان البصر أقوى حكما في موطن الظهور ، ونفوذ أمره أعني الصورة ، ولذلك تراه قد انسحب حكمه على مدركات السمع ، يعني الكلام في صورته الرقميّة جعله غاية للمشيّة بصريح عبارته في صدر الكتاب كما ستطَّلع عليه إن شاء الله تعالى .
توشيح من شواكل الرقوم وقواعد العقود خصائص حرف السين  :
كما أنّ الإنسان بين الأكوان له فضائل يفتخر بها عليها ومزايا تفوق بها على الكلّ منها أنّ خصوصيّته الفارقة التي بها يمتاز عن المسمّى ومنها يتحقّق اسميّته ، إنّما هي أحديّة الجمعيّة الإحاطيّة التي بها يماثله وبدون الإجمال والتفصيل لا يباينه ولا يفارقه .
ومنها أنّ صورته الظاهرة وبنيته البيّنة المحسوسة نسخة جامعة للكلّ بأشكاله ودلائله.
ومنها أنّ حقيقته جامعة بين العوالم الكيانيّة التي هي مواطن كمال التفصيل ، والحضرات الإلهيّة التي هي مجالي جمال الإجمال كذلك للسين بين الحروف وجوه من الخصائص الكماليّة :
منها أنّ اسمه عين المسمّى إذا اعتبر ذلك مستقلا بنفسه لا تزيد عليه ولا تنقص منه فبينهما المطابقة التامّة والمثليّة الكاملة .
ومنها أنّ كل حرف من حروف أسمائه له فيه رقم بإزائه .
ومنها أنّ عدده التامّ الجامع وعقده الفاتح لأقفال حقيقته لا يزيد على اسمه إلَّا بتاء التفصيل والتبيين ، إذ هو معنى شمس الإظهار التي يخرج بأشعّة أضوائها خبايا مكامن الإمكان على أعلام العيان ، وأيضا صورته هي الأربعة المعربة عن الكلّ إجمالا  ، كما أنّ باقي حروفه معرب عنه تفصيلا ، فهو الجامع بين الإجمال والتفصيل ، فإذا فحّصت عمّا يدلّ على الإنسان بين بسائط الحروف ومفرداتها بالمطابقة الحقيقيّة الطبيعيّة دون الجعليّة الوضعيّة هو هذا الحرف .
ولذلك تجد قلبه هو الاسم الدالّ عليه وضعا مع زيادة معنى الجمعيّة ، كما ورد في الأثر الختمي " لكلّ شيء قلب ، وقلب القرآن يس " .
فلئن قيل : إنّه مركَّب من « الياء » و « السين » فلا اختصاص له به .
قلنا : إنّ « يا » صورة كمال « السين » وقلبه ، ولذلك ذهب صاحب المحبوب إلى أنّه إشارة إلى الختمين .
وكذلك في كلام السيّد سلام الله على آبائه الكرام وعليه ما يشير إلى هذا ، حيث نصّ في تحقيق اسم « عيسى » : أنّ " ي " صورته ، و "س "  مادّته ، والبيّنات تبيانه ، و « ع » زمانه يس سى إلى هنا نصّه الشريف .
وكذلك إن تأمّلت في « موسى » و آياته ، ويونس وبطن « ن » وجدت الكلّ متطابقا .
وأيضا فإنّه السبب الواصل والواسطة الرابطة بين القوسين يعني الإنّيات الإلهيّة والإنيّات الكيانيّة بسني حسّه على ما نبّهت على تفاصيله بأنّ التفرقة التي في القوسين وإنيّاتهما إنّما تنتظم في سلك الجمعيّة بالناس كما لا يخفى .
وإن تأمّلت في لفظ « الإنسان » واقفا على عبارات أهل الإشارات ، وجدت ما يشير إلى أنّ « السين » هو المتكلَّم الواحد .
كما أنّه إن أمعنت فيما نودي به موسى 
"من شاطِئِ الْوادِ الأَيْمَنِ في الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ من الشَّجَرَةِ " [ 28 / 30 ] رأيته بموادّ أشكالها وجواهر أرقامها هو ذلك الاسم بعينه ، وهذا الكلام إنّما يفهمه أهل الحقائق الَّذين يستنبطون المعاني من الصور المنزلة بدون توسّط وضع جعلي ولا تخصيص خارجي .
ثمّ اعلم أنّ الإنيّة والأنانيّة بين الأسماء لهما العلوّ الذاتيّ المقدّس عن مقابلة نسبة السفل والتحت ، ولذلك سمّاها صاحب المحبوب سلام الله عليه أرض الأسماء التي ينزل منها الحق إلى سماء أسمائه ، وهي الأسماء الإلهيّة والأسماء الربوبيّة على ما هو الظاهر من مطاوي قوله تعالى : "إِنِّي أَنَا الله رَبُّ الْعالَمِينَ"[28/30]
ولهذا تقدّم الأرض على السماء في قوله: "ما وسعني أرضي ولا سمائي" .
ثمّ ليعلم أنّ العقد التامّ من العدد قد تثلَّث في هذا الاسم ( 51 60 51 ) تثلَّث الكامل المتسع منه في تمام الصورة الكلاميّة المنزلة على الحضرة الختميّة صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله صورة ومعنى ، وأنّ التفرقة التي في ضلعيه وطرفيه قد انتظم في حاقّ وسط أرض عرضه المزاجي ، وسرّة بطحاء اعتداله النوعي ، وهو شخص الخاتم كما وقفت عليه في صورته الرقمية آنفا .
عقد منتظم من نفائس هذه الجواهر كيفيّة دلالة الحروف على المعاني :
وإذ قد لوّح في طيّ هذه التعليقات على ما يستدلّ به على الدقائق الذوقيّة واللطائف من نفائس ما انطوى عليه كنوز الحروف برموز رقومها وأشكالها ، وجلائل ما احتوى عليه ذلك بنسب معانيها وعقود أعدادها المشتمل عليها تلك الحروف بأساميها ومسمّياتها تلميظا  للطالبين ذوي التيقّظ والتفطَّن ، من يوانع ما أثمرت شجرة الزمان على أفنان مواقيت وقته ، وأغصان مواعيد سعة ساعته ، لا بدّ من الإشارة إلى أصول هادية إلى واضح طريقها ، فاتحة لأقفال إدراكها وختوم تحقيقها :
اعلم أنّ الحروف وهي على ما نبّهت عليه صور اجتلاء الحقائق العليّة والعلوم الإليّة على منصّات العيان وملابس بروز الأسرار الغيبيّة من زوايا غيابة جبّ الكمون على شواهق أعلام الإعلان .
وإن كان لها في تأدية تلك المعاني وإبانة أسرارها ممّا سوى الأوضاع الجعليّة المبنيّة على التخصيصات العهديّة المتخالفة بحسب لغات الأقاليم ومعهودات أرباب الصنائع والشرائع طرق شتّى وأنحاء كثيرة لا يعدّ شعبها ولا يحصى ، ولكن مرجع الكلّ فيما يعتد به ويعوّل عليه منها إلى أصول ثلاثة :
أحدها : الأصوات النطقيّة المتمايزة بحسب اعتمادها على المخارج اللفظيّة والمقاطع السمعيّة ، وصاحب الصورة الكماليّة ودائرتها التماميّة فيه هو " الواو " .
وثانيها : الأشكال الرقميّة المتخالفة بحسب الخطوط والنقط وتباين دوائرها وقسيّها ذوات الزوايا منها والأضلاع وصاحب الصورة التماميّة فيه « الهاء » فهو الجامع بين التامّين هذا ما لها بحسب الصورة المحسوسة الظاهرة منها على السمع والبصر .
وثالثها : المراتب العدديّة ، المنطوي عليها في صورتيها النطقيّة السمعيّة والرقميّة البصريّة ، فله رتبة الإحاطة القلبيّة ، وتحته من العلوم العليّة واللطائف الجليّة ما لا يخفى .
وذلك لأنّ الأعراض الكونيّة والأحكام الجسمانيّة التي هي غاية الحركة الوجوديّة ومنتهى سيرها الكمالي لانغمارها في الغواشي المظلمة الهيولانيّة والحجب الكثيفة الماديّة ، لا يصلح شيء منها لاستنتاج الحقائق العلميّة واقتناص اللطائف النوريّة المقدّسة صلوح الكمّ .
فإنّ الكيفيّات الانفعاليّة والانفعالات والملكات والقوة واللاقوّة من المقولات التسع إنّما تكون لذوات الانفعالات من الماديات  وأمّا الإضافة :
فما يتعلَّق بأمثالها إنّما يعقل بها ، فهي من المادّيات  وأمّا الانفعال والفعل :
فمادّي أيضا فيبقى الأين والوضع والمتى ، وهي كلَّها كمّيات .
هذا لمن سلمت ذائقة فطانته الأصليّة عن رسوم المصطلحات التقليديّة .
فعلم أنّ سائر ما ليس بكمّ هي ماديّات منغمسة فيها ، لا يناسب المعاني المجرّدة ولا يطابق أحكامها ، فلا يصلح لاستعلام تلك المعاني المجرّدة منها صلوح الكمّ ، فإنّه لجامعيّته بين التجرّد والتعلَّق وعدم تقيّده بشيء منهما وإحاطته وعلوّه على الكل يصلح لذلك سيّما الأعداد منه .
وهذا ما ذهب إليه الصدر الأوّل من الحكماء ، كالفيثاغوريين وأرباب التعاليم والمثل .
فإنّهم ذهبوا إلى أنّ جميع ما ليس بكمّيّ فهو متعلَّق بالمادّة ، ويكون مبدؤه التعليميات التي ليست بمتعلَّقة بالمادّة ، ويكون هي المعقولات بالحقيقة .
وأمّا غير ذلك فليس من المعقولات في شيء ، ولذلك لا يمكن أن يحدّ اللون والطعم حدّا يعبأ به ، بل إنّما هو نسبة إلى قوّة يدركها ، ولا يعقلها العقل ، بل يتخيّلها الخيال تبعا للحسّ .
وأمّا الأعداد والمقادير وأحوالها فهي معقولة لذواتها .
هذا حكاية مذهبهم فمنهم من ذهب إلى تجرّدها ، ومنهم من ذهب إلى غير ذلك كالفيثاغوريين.
وأيضا قد تبيّن لك فيما سلف من القواعد أنّ الكثرة هي ظاهر العلم وبيّنات لوازمه ، فالمراتب العدديّة التي هي صور تفاصيل الكثرة هي الصالحة لأن تكشف عن الحقائق كلَّها بحسب إحاطة الحروف بها واختصاص كلّ حقيقة منها بطائفة من الحروف ، يعبّر عنها بها .
وقد احتاج استقصاء الكلام في هذا المرام والفحص عن تفاصيل طرقه ، إلى علوم متطاولة الأذيال ، وقواعد متباعدة الجيوب والأردان ، قد ألَّف ربائب الأئمة وأهل البيت فيها الكتب ، وصنّفوا لترتيبها الزبر ، ولكن لعزّة شأنها وعلوّ مسالكها قصرت أفهام عامّة العلماء عن إدراكها فإنّها من خصائص خلَّص الخواصّ الختميّة .
فاقتصرنا في هذا الكتاب على تلويحات منها ظاهرة ، وتلميحات غير خفيّة عن أنظار المتفطَّنين باهرة تقريبا لأذهانهم ، وتحريصا لهم على التوجّه نحو ذلك المسلك القويم ، والتعرّض بجوامع القوى والمشاعر لاستنشاق نفحات ذلك النوع من التعليم والتفهيم مما سمح الزمان بإفاضته ولاح على صفحات الدهر آيات ظهوره وإشاعته .
ولعمري انّ الباعث الأوّل لتحرير هذا الكتاب في صورة الشرح وتعليقه على هذا المتن ، إنّما هو هذا إذ رأيت أعنّة نيّات أرباب التفطَّن من الطلبة منعطفة عليه ، متشوّقين نحو استكشاف حقائقه ، معرّجين عليها ، علما منهم أنّها غاية المرام ، وأنّها القدح المعلى من أقاديح هذه السهام ذاهلا عمّا أثمرت رياض أطوار أدوار الزمان وجنانها من طرائف بدائع الأزهار ، ولطائف يوانع الأثمار .
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا .....   ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
أصول العدد تسعة ومناسبة آدم معها
فنقول : إنّ أصول مراتب العدد على كثرتها وعدم تناهيها قد انحصرت في تسع من الصور هي موادّ الكلّ ، فإنّ سائر مراتبه الباقية إنّما يستحصل منها بضرب من الامتزاج والتركيب ، ونوع من النسب العارضة لها على ما لا يخفى ، ولذلك ترى الأرقام الهندسيّة ما جاوزت التسعة ، وهي صورة السعة الإحاطيّة التي تشمل الكل من تلك المراتب أصولها وفروعها اشتمال آدم على سائر المراتب الوجوديّة والكيانيّة .
فلذلك ترى عدد تلك المرتبة بما انطوت عليه هو عدد آدم يعني 45 وذلك أيضا إذا جرّدته عمّا طرأ عليه بحسب المراتب من النسب وجدته ذلك العدد بعينه ، فلذلك صار معنى « آدم » على عرف أهل الشرح الحرفي .
ومن ثمّة ترى عدد « حوّا » 15 ، وهي ثلثه اليسير الذي في مقابلة ثلثيه الكثير ، فهو المستخرج من جنبه الأيسر .
ومن أراد زيادة بيان لهذا الاصطلاح وتحقيق أحكام له فعليه بتصفّح كتاب « المفاحص .
وينبغي أن تعلم أنّ لآدم وزوجه بحسب كلّ عرف معنى يناسبه وأحكام يخصّ به ، فلا تغفل عن الدقائق .
طرق استخراج المعاني من الحروف
ثمّ إنّ استخراج الحقائق من الحروف وأعدادها له طرق عدّة :
منها الردّ والتحليل على ما نبّهت عليه والذي يدلّ على صحّة هذا الطريق وإيصاله إلى المطلوب ، أنّ قوله تعالى " ألم ذلِكَ الْكِتابُ "  إذا حوسب تلك الحروف بأساميها ذلك الحساب يستحصل منه معنى .
ومنها طريق البسط والتركيب ، بأن يفصّل فضل أسامي الحروف وأعداده ، وأسامي حروفها مجملا ومفصّلا ، بطنا بعد بطن إلى سبعة أبطن ويفتّش في ذلك البسط عمّا هو المعنى ، ويستنبط منه المغزى ، وهو البيّنات على ما أشير إليه . وممّا يدلّ على أنّه من الخصائص الختميّة ما ورد في الحديث: " أنا أوّل من تكلَّم بالضاد  " .
وقد ورد أيضا  : " أوّل من تكلَّم بالعربيّة إسماعيل " .
وذلك كما يفصّل مثلا من « بسم » ( ااا ) : ( اين يم ) ، ويستعلم سبب اختفاء الألف فيه  ، أو يستخرج من بائه عدد تمام الأسماء .
ومنها أن يستخرج المعنى من فضل حروف العدد ، كما لو تأمّلت في قوله تعالى: " وَلِلَّه ِ الأَسْماءُ الْحُسْنى " استنبطت بهذا الطريق من : " وَلِلَّه " عدد الأسماء : ( 71 ) « 5 » : ( لف ين ) : ( ا م ا ا ون ) 99  .
وتعلم منه أيضا تحقيق إثبات معنى « الحمد لله » ( 83 ) : ا م ا م ا  .
ومن أراد زيادة تحقيق لهذه الطرق ، فعليه بتحصيل كتاب : الخصائص الختميّة وفقنا الله لإتمامه بالخير .
وإذ كان الغرض من ايراد هذا الكلام والخوض في تيّار بحره الخضم إنّما رشّ رشحة منه على الطلَّاب ، ووميض قبس من مشكاة الكمال الختميّ يهديهم إلى سواء الصواب فلنكتف منه بهذا القدر ، ونشرع في حلّ الكتاب حامدا لله  ومستعينا منه ، ومصلَّيا على محمّد وآله خير آل .

.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 3:46 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح خطبة الكتاب للشارح الشيخ صائن الدين التركة لكتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 9:09 am

شرح خطبة الكتاب للشارح الشيخ صائن الدين التركة لكتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح خطبة الشيخ على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
شرح خطبة الكتاب للشارح الشيخ صائن الدين التركة
(الحمد لله منزل الحكم ) الحمد عند التحقيق عبارة عن تعريف حدود المراد , والإبانة عن غاية كمال المحمود ومنتهى مقامه في آيات ذوات أفراد وأعداد ثمّ إنّ لتلك الآيات والأفراد - من حيث التفرقة الكونيّة العالميّة وظهور سلطان التعيّن فيها - وجهين من الدلالة والإشعار :
أحدهما نحو الإظهار : وهو الذي يلي الإطلاق الذاتي الوجودي فيه لسان الحمد .
والآخر نحو الإخفاء : وهو الذي يلي التقيّد العدمي الكوني فيه لسان التسبيح .
والأوّل لظهوره يفهمه كل أحد - دون الثاني - كما ورد في التنزيل : " وَإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه ِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ." 
وبيّن أن تلك الأشياء متخالفة بحسب ظهورها بالوجهين وغلبة أحكام الإطلاق والتقيّد : فمنها ما ظهر بوجه يتكلَّم بلسان التسبيح فقط ومنها ما ظهر بوجه يتكلَّم بلسان الحمد فقط ومنها ما ظهر بوجه يتكلَّم بهما .
وإذ قد تقرّر أنّ التسبيح حقّه هو الَّذي يؤدّى بالحمد ، وذلك هو اللائق بجنابه الأقدس ، فإنّ تنزيهه تعالى ليس ممّا يقابل التشبيه - كما ستطلع عليه في طيّ الكتاب - وقد عرفت ممّا سلف لك من البيان أن قلب الكمّل هو المختصّ بذلك - أتى بالكلام المعرب الجامع بين الكثرة الكونيّة المسبّحة والوحدة الوجوديّة الحامدة - وهو المعبّر عنه بالحكم - حمد الله على إنزاله إيّاها .
وكأنّك قد نبّهت على أنّ موضوع ما في هذا الكتاب من الأبحاث إنّما هو ذلك بحسب تدرّجه في مراقي الكمال وتطوّراته ، إلى أن بلغ الرتبة الختميّة فلذلك قال : ( على قلوب الكلم ) إشارة إلى ما هو بصدد تحقيقه إجمالا ، على ما هو دأب أئمّة التأليف وأدبهم . والمراد من « الكلم » هو الكمّل من الأنبياء - كما لا يخفى على الواقف بمصطلحاتهم .
ثمّ ها هنا تلويح :
وهو أنّ لل « حكم » إلى « القلب » مناسبة بيّنة يتبيّن لأهله بأدنى تأمل :
( ا ا ف يم ) ، وكذلك لل « منزل » و « الكلم »  ، ولكن أبعد ، وفق ما لهما من 132 النسبة إليه : ( يم ون ا ا م ) ، ( ا ف يم ا ) ، ( ا ف ا م يم ) ، ( ا ف يم ا ).
ثمّ إنّ القلب بحسب ظهور الرابطة الجمعيّة المذكورة فيه ، والرقيقة الاتحاديّة التي فيها - على ما نبّهت إليها في المقدمة - قد انفرد بقرب من الطريق لا يتطرق لفنائه طوارق النسب والأبعاد ، به يعبد وقرب من المكانة ينطوي عنده بساط أعداد الوسائط والمناسبات  ، به يحمد . وأشار إلى طريقه المعبّد ومقامه المحمود ، منبّها إلى تحقيق طريق الإنزال ، وتبيين مبدئه ، ثمّ إلى منتهاه وغايته قوله :
(بأحديّة الطريق الأمم من المقام الأقدم ) ف « من » ابتدائيّة ، أي أنزل من حيث أقدم وأعلى من أن ينسب إليه القدم - المقابل للحدوث - بطريق هو أقرب وأدنى من أن يشار إليه بالقرب - المقابل للبعد - فالباء فيه معنى الظرفيّة ، متعلَّق بـ " المنزل " ، كقولهم : « حججت بطريق الكوفة » . 
وقد جاء الإنزال بمعنى الإظهار كقولهم :
 " أنزل ببني فلان سور " .
واستعماله ب « على » قرينة له .
ثمّ إنّ الاختلاف الَّذي هو دليل غلبة أحكام التعيّن الموجب للقصور عن أداء التسبيح والتحميد حقّهما ، موجود في قلوب الكمّل ، التي هي أصول أغصان الظهور والإظهار وبحور جداول الشعور والإشعار ، بحسب تباين استعدادات ما يتفرّع عنها من الأمم ، وتقابل مقتضيات مشاربهم ومقترحات نيّاتهم ومقاصدهم.
فقوله : ( وإن اختلفت الملل والنحل لاختلاف الأمم ) إشارة إلى ذلك وتنبيه على أنّ الأحديّة هذه ليست مما تنافيه وجوه التكثّر أو تقابله - بل تجمعها وتتحقّق بها - ف « إن » هاهنا للتوكيد .
وقوله : « لاختلاف الأمم » علَّة للاختلاف الأوّل وبيان أنّ ذلك الاختلاف مما لا بدّ منه بأصوله وتفاريعه وشعبه وشوارعه ، ضرورة تكثّر الوجوه بها ، وتنوّع ألسنة التسبيح والتحميد منها  .
فلولاه ولو لأنا ....      لما كان الَّذي كانا
وفيه إشارة إلى غاية الإنزال ونهايته ، يعني : اختلاف الأمم المتفرّع عن اختلاف الملل المتأصّل له ضرورة أنّه سببه .
وحيث أنّ مبدأ طريق الإنزال ومنتهاه الأمم ، فيه تلويح بشيء من معاني « ا ل م » - فلا تغفل .
تلويح :
حاء حقيقة الحقّ إذا اكتسى بصورة الدال الدالَّة على دولة الظهور ودوران أحكامه ، فالمركَّب إنّما يدلّ على الغاية من أطرافها ونهايتها - وهو " الحد " - فإذا ظهر عليه واو الهويّة وهاؤها هو « الوحدة » الكاشفة عن غاية رتبة الوصول إلى الوجود ، وكنه طرف البطون منه ، كما أنّه إذا امتزج بـ « ميم » الجمعيّة العلميّة والكمال هو « الحمد » الدالّ على تمام مرتبة الإظهار .
وممّا يؤيّد هذا تأييدا بيّنا أنّ ما بطن في « لله » من بيّنات أصله هو الظاهر في الحمد بعينه  كما لوّح إليه .
على أنّ الحاء والميم - اللتين هما تمام الأسماء الإحصاء - والألف واللام والميم ، التي هي تمام مرتبة الإظهار - كما اومي إليه - قد انطوت في " الحمد " مع الدال ، على الصورة الجمعيّة لها.
ثمّ إنّ الحاء والميم كما أنّهما إذا ظهرتا بالدال هو « الحمد » - كما بيّن - كذلك إن أحاطتا بكاف كنه الكلّ هو " الحكم " .
ثمّ اعلم أنّ للألف تنزّلا من سماء قدس تجرّده الذاتي وعلوّ تنزّهه الحقيقي إلى أرض عرضه المزاجي ، وهي باء بسطها وبيانها ، وصورة ذلك هو « ل » وهو لام « الكلام » الذي إذا اختفى الألف في صورة جمعيّته وبسطه هو « الكلم » ومن ثمّة ترى عدده ( 30 ) باعتبار اختفاء نقطة الباء فيها ، وهو معنى الإنزال ، وحيث وصف طريقه بما هو بيّنات اللام إشارة خفيّة إلى هذا التلويح ، وبيّن أنّ وقوع أمثال ذلك في مطلع الكتاب من آيات تحقيق رؤياه وتصديق كشفه عند أهله .
ثمّ إنّ الحمد - حسبما عرفت معناه ولخّصت مغزاه - لا يخفى عليك أنّه ما تنفّس عن مطلع الظهور صبح كماله إلَّا بميامن أنفاس الخاتم وأفعاله وأقواله ، وما سطع أشعّة تمام إظهاره من أعلام الإعلان إلَّا بتبيين ورثته من آله ، فلذلك اشتقّ من « التحميد » بمعنى المبالغة في الحمد صيغة معربة عن أنّه المحمود - لا غير - وله الفضل فيه ، ليكون اسما له .
فإنّه ما لم يعرب عن هذا الوجه يكون قاصرا عن أداء تمام الحمد ، ولا يكون الاسم مطابقا لمسمّاه - كما بيّن تحقيقه في « الرسالة المحمدية » - ومن ثمّة ترى أئمّة التأليف يستردفون الحمد بالصلاة عليه وعلى آله ، تقرّبا إلى المنتسبين إلى حضرته المنيفة وتطفّلا إليهم بما يورث الوصول إلى مدارج أقدامهم الشريفة ، وتنبيها على أنّهم هم السابقون والمصلون في مضمار أداء الحمد ، والفاتحون لأبواب كماله ، الخاتمون عليها بخاتم التمام ، فهي إذن من الحمد ، كما أنّ تسميته بما ينبئ أنّه المحمود منه أيضا .
فلذلك اختتمه بقوله: ( وصلَّى الله على ممدّ الهمم من خزائن الجود والكرم بالقيل الأقوم ، محمّد ، وعلى آله وسلَّم ) كما أنّ لكلّ أحد بحسب صورته الخارجيّة هويّة عينيّة يتميّز بها عند الحسّ ، ويتحقّق تشخّصه بين بني نوعه بانفراده بها ، كذلك بحسب حقيقته الجمعيّة له هويّة معنويّة يتميّز بها في نفسه وعند الكمّل من المتطلَّعين عليها ، وهو قصده ونيّته لاستخراج ما استجنّ فيه من الكمالات الواقعة تحت رؤيته ، منتهى مدى بصيرته المقصورة على اعتقاده حسب استعداده ، وهو  الهمّة ، وهذا هو المبدء والروح لسائر ما يتحقّق به الهويّة العينيّة ، من الأعمال والأحوال والعوارض الخارجيّة - كما أشار إليه صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله :
" إنّما الأعمال بالنيّات"   .
ثمّ إنّه صلَّى الله عليه وسلَّم لما اختصّ بين الكمّل من الأنبياء بإتيان القرآن العربي ، المعرب عمّا عليه الوجود إجمالا وتفصيلا - بما فيه من الميزان القويم الذي له نهاية الاستقامة وتمام العدل والصدق ، إفرادا وتركيبا .
مقطعا وموصلا كان صلَّى الله عليه وسلَّم ممدّا لسائر الهمم من قولهم : « أمدّ الجيش بالعدد والعدد » أي زاد في موادّه  فإنّه صلَّى الله عليه وسلَّم يمدّ الكل في مواد مراقي كمالهم ومعدّات معارج علمهم واستيهالهم ، بما يربي على مقترحات ألسنة استعدادهم ، ويفضل على مقتضى أسئلة قابليّاتهم . ضرورة أنّه صلَّى الله عليه وسلَّم هو المادّة الأولى ، الفاتحة للرحمة العامّة للعالمين ، والصورة الآخرة الخاتمة للرحمة الخاصّة بالكمّل منهم بما لا مزيد عليه في الإمكان ، فيكون ذلك الإمداد من خزائن الجود والكرم ، لا من ديوان مجازاة العدل والحكم .
درجات العلماء من ورثة الأنبياء 
ثمّ إنّه مما يستوجبون اشتمال فواتح التآليف عليه ، التنبيه على جلالة شأن ما تضمّنته من المطالب ، تحريضا للطالبين ، وتنبيها للمبطلين من الذاهلين والمنكرين ، ولا يستراب أنّ الاطلاع على محتد أذواق الكمّل من الأنبياء في العلم باللَّه ، والوقوف على مبلغ مكاشفات الكلّ فيه - كما تكفّل ببيانه هذا الكتاب - ممّا اختصّ بنيله الحضرة الختميّة ، ضرورة أنّ هويّتها هي أحديّة جمع الكلّ علما وشهودا - على ما عرفت .
ثمّ إنّ الوارثين لعلومها تتفاوت مبالغ سهامهم منها حسب تفاوتهم في درجات القرابة إليها ، واختلافهم في استجماع وجوه الانتساب بها ، فمن كانت رقائق النسب والقرابة منه إليها مقصورة على الروابط المعنويّة منها فله من تلك السهام حقائق المعارف ببساطتها.
ولطائف العلوم بصرافة كلَّيتها بدون أن يكون لها من تلك الحضرة صورة كاشفة ولا وضع نبوي مبين .
كما للحكماء من أهل النظر ومن كان مستجمعا معها للوجوه الصوريّة والتزام الهيئات النبويّة والشعائر الشرعيّة مستنبطا من الصور السماويّة المنزلة إليها لطائف تلك الحقائق ، فله من قداح تلك السهام ما تلبّس بالصورة المنبئة ، وارتدى بالشعائر الشرعيّة المشعرة للمشاعر .
وهم متفاوتون في ذلك ، متخالفون في حيازة درجات كماله ، فمنهم من استحصل منها قدرا يستأهل به أن يستفيض من تلك الحضرة في سجال إفضالها شيئا من الحقائق حينا ومنهم من بذل الجهد فيه إلى أن وصل إلى ما يستأهل به أن يستمطر من هطل سحائب كمالها ديم العوارف من خصائص المعارف دائما .
وقد ينتهى أمر تلك المقاربة إلى أن يستفيد من صورتها المشخّصة - بجميع ما  يشخّصها من اللواحق كالزمان والمكان والوضع مشافها لها ومكافحا إيّاها ، جملة جامعة وكتابا كاملا يحتوي على ما تضمّنته الحقيقة الختميّة من الحكمة الشاملة والعلم المحيط بسائر الأذواق والمشارب ، على ما اقتضى ذلك الوقت إظهارها وإشاعتها ، واستدعى ألسنة استعداد أبنائه الاغتذاء بها وإفاضتها .
وهذا هو الغاية في القرابة وما يستتبعها من الوراثة ، فهو الخاتم لتلك الوراثة خاصّة ، وهو الشيخ المؤلَّف كما علم من تصفّح كلامه في كتبه وإلى ذلك كلَّه أشار بقوله :
رؤيا ابن عربي وأخذه الكتاب
(أمّا بعد فإنّي رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مبشّرة - أريتها في العشر الأخير من المحرّم ، سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق - وبيده صلَّى الله عليه وسلَّم كتاب ) .
المبشّرة - لغة - : الريح التي تبشّر بالغيث ، وفي عرفهم يطلق على ما يرى السالك من الصور المثاليّة المبشّرة له بجلائل الفتوحات .
ثمّ إنّ الفيض الواصل إلى العبد له مدرجتان : إحداهما من الرحمة الوجوبيّة التي يسلك إليها العبد بمساعي قدمي جدّه واجتهاده ، وعلمه وأعماله ، والثانية من الرحمة الامتنانيّة التي إنما تنساق إلى العبد بدون توسّل عمل منه ولا توسّط سعي واجتهاد وفي عبارتي « رأيت » و « أريتها » ما يدلّ على أنّ  الفيض المذكور - لجلالة قدره - جامع بين نوعيهما ، حائز لكماليهما .
وفي لفظ « الكتاب » إشارة إلى أنّ ما انطوى عليه من الحقائق هو الذي يتعلَّق بطرف الولاية خاصّة ، فإنّ للكتاب اختصاصا به ، كما أنّ للكلام اختصاصا بما يتعلَّق بطرف النبوّة منها ، ويؤيّد ذلك ما في اللغة من أنّ الأوّل فيه معنى الجمعيّة ، كما أنّ في الثاني ما يستتبع التفرقة ، وسيجئ ما يلوّح إلى زيادة تحقيق لهذا البحث .
وقوله : « وبيده » فيه إشعار بأنّ ما تضمّنه الكتاب من الخصائص الختميّة المكنونة التي هي في قبضته إلى الآن ، فإنّه كما أنّ الفم مصدر فتح أبواب انبساط الكتاب وما انطوى عليه على صحائف العيان ، فإنّ اليد مورد طيّه وقبضه ، ومحلّ ختمه وكتمه .
وممّا يلوّح عليه أنّ « اليد » هو « الختم » على طريقة التحليل ( 14 ) .
وأيضا : فإنّ الزمان والمكان المذكورين يلوحان على أنّ ما تولد منهما من الحقائق على مجالي المشاهد والمدارك من الفضائل الختميّة الزائدة على مشهودات الكمّل وخصائصها المحرّمة عليهم ، تلويحا ظاهرا ولذلك ما كاد يبرز من تلك الحقائق شيء ما لم يصدر من ذلك المصدر مرسوم بإبرازه وإظهاره ، على ما أشار إليه بقوله :
(فقال لي : هذا كتاب فصوص الحكم ، خذه وأخرج به إلى الناس ينتفعون به ) .
وفي تسميته صلَّى الله عليه وسلَّم بـ « فصوص الحكم » إشعار بأنّ ما انطوت عليه من نقوش الحقائق إنّما هو من الخصائص الختميّة على ما لا يخفى على الفطن .
ثمّ إنّ ما يؤخذ به الكتب - أخذا يعتدّ به ويعوّل عليه - من الآلات والجوارح هو السمع الذي فيه صور المعلومات ، كما أنّ ما يخرج به هو باقي الجوارح والأعضاء.
وأيضا : فإنّ المذكور هو قول الخاتم وأمره ، وفي مقابلة القول : السمع ، وفي مقابلة الأمر : الطاعة .
فقال : ( فقلت : السمع والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر منّا كما أمرنا ) إشارة إليه .
ولا يخفى أنّ هذا الأمر وإن كان ظاهرا من خاتم النبوّة - صورته المثاليّة - ولكنّه تحقيقا منه ومن الله ومن صاحب الزمان ، وهو يحتمل أن يكون الشيخ نفسه على ما يؤمي إليه « منّا » .
( فحقّقت الامنيّة ) أي جعلت امنيّة إظهار هذا الكتاب منه أو من الخاتم حقّا ، بجعل الواقع مطابقا لها . ولمّا كان إصدار الجزئيّات وتسطير النقوش الدالَّة على ما في الكتاب وإبرازها من مكامن القوّة والإمكان إلى مجالي الفعل والعيان إنّما يتمّ بأمور ثلاثة - :
الأوّل تعقّلها ، وهو الهمّة ،
والثاني تخيّلها وهو القصد
والثالث انعقاد جمعيّة الجوارح وتوجّهها جملة نحو تحصيل المتخيّل وتصويره، وهو النيّة.
إلى ذلك أشار بقوله : ( وأخلصت النيّة وجرّدت القصد والهمّة إلى إبراز هذا الكتاب كما حدّه لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، من غير زيادة ولا نقصان ) .
ولا يخفى أنّ تحقيق تلك الامنيّة وإبراز ذلك الكتاب من المكامن المعنويّة وسواد بطونه إلى المظاهر الصوريّة الحرفيّة ، وبياض زبره وتسطيره - معصوما عن التغيير والتبديل والزيادة والتقصير في طريق إبرازه ومكامن إخراجه من المدارك المعنويّة الفكريّة والمشاعر الخياليّة المثاليّة ، والمخارج اللفظيّة الكلاميّة ، والصحائف الرقميّة الكتابيّة .
ممّا لا يفي به قوّة البشر ، ولا يتيسّر ذلك لأحد من الكمّل فإنّها مثار السهو والتحريف ، ومواقع الغلط والتصحيف على ما ورد في التنزيل " وَما أَرْسَلْنا من قَبْلِكَ من رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِه ِ "
اللهم إلَّا أن يكون خاتما قد أسلم شيطانه على يده  .
ثمّ لمّا استشعر أن يقال ذلك ، ويتوهّم إنّ إخراج الكتاب على ذلك الحدّ ممّا لا يمكن أن يتيقّن به ، دفع ذلك على طريقة الأدب في صيغة الدعاء والطلب قائلا أوّلا على سبيل الإجمال وعموم الأحوال : (وسألت الله أن يجعلني في جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان).
وثانيا على سبيل التفصيل وخصوص ما هو بصدده من التحقيق : - ( وأن يخصّني في جميع ما يرقمه بناني ، وينطق به لساني ، وينطوي عليه جناني ، بالإلقاء السبّوحي ، والنفث الروحي ، في الروع النفسي ، بالتأييد الاعتصامي ) .
فإنّ مداخل الشيطان ومواقع تشويشاته الانحرافيّة في ذلك الطريق ثلاثة مواطن : أوّلها الجنان الذي يجد المعاني الذوقيّة والحقائق الكشفيّة عيانا ، ثمّ يلبسها بالصور المثاليّة المتخيّلة ، وبها ينطوي عليها وثانيها اللسان الذي يكسوها لباس الألفاظ والحروف وينطق بها وثالثها البنان الذي ينزلها في بنيان سواد المداد ، ويرقم لها .
فلذلك سأل الله أن يخصّ :
الأوّل بالإلقاء السبّوحي ،
والثاني والثالث بالنفث الروحي في الروع النفسي.
على طريقة اللف والنشر إذ الروع - الذي هو القلب  له طرفان :
أحدهما ما يلي الروح ،
والثاني ما يلي القوى النفسانيّة والجوارح الجسدانيّة .
التي بها يتمثّل الحروف الكلاميّه والرقوم الكتابيّة ، وفيها يتلبّس بصورها ، والروع النفسي إشارة إليه .
فقوله : « بالتأييد الاعتصامي » إمّا متعلَّق ب « يخصّني » - على معنى الاستعانة - أو حال ، أي متلبّسا به  .
ثمّ إذا اعتصم في المواقع الثلاثة صحّ له رتبة الترجمان سالما عن مداخل الشيطان .
فقوله : ( حتّى أكون مترجما ، لا متحكَّما ) متعلَّق بـ " سألت " .
فلئن قيل : المترجم إنّما يقال على من يأخذ المعاني ؟ ؟ ؟
من لغة غريبة ويؤدّيها بلغته لأهله ، وهو خلاف ما علم من كلامه أنّ الكتاب بجملته إنّما أعطاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ؟
قلنا : إنّ الرؤيا موطن التعبير ، فإنّ الأشياء إنّما يرى فيها بأمثلتها وأشباهها ، لا بصورها أنفسها ، فالكتاب في مبشّرته إنّما هو مثال جمعيّة علوم الأنبياء ومعارفهم ، وصورة لباب أذواق الكمّل ومكاشفاتهم ، فأخذها من المعدن بصورتها التي فيه ، وعبّر عنها بلسان أمم زمانه ، منزّها عن تدليسات الأغراض النفسيّة وتلبيسات القوى الطبيعيّة .
رمز من ألواح الحروف وتلويحها  
اعلم أنّ للحروف صورتين في تأدية المعاني :
إحداهما الكيفيّات الموجيّة اللاحقة للهواء بحسب تقطيعها في المخارج ، ويسمّى ذلك كلاما . والأخرى الهيئات الرقميّة المتشخّصة بالأضواء بحسب تصويرها على الصحائف بالأشكال اللائحة ، ويسمّى ذلك كتابا .
والأولى منهما من حيث برزخيّتها بين الثانية والمعاني وجامعيّتها ، تناسب طور النبوّة وجامعيّتها للولاية كما أنّ الثانية لخفائها تناسب الولاية البحت .
فلذلك ما كان لخاتم النبوّة نحوها التفات أصلا، وعلم منه سرّ أخذ الكتاب منه صلَّى الله عليه وسلَّم .
والذي يلوّح عليه تلويحا رقميّا أنّ الكاف صورة يا [ء] ي «يا عبادي» رقما
وعددا ( ك 20 ) والأوّل ياء النداء الدال على العبد ، والثاني على الحقّ ، فهو الجامع بينهما ، وهو الكلّ .
ثمّ إنّ للمقطعات الكلاميّة - التي هي أصول الكلام ومادّته ترتيبا - : وهو «ا ل م» وله صورة جمعيّة وحدانيّة ، وهو « ل » ، وهو صورة التنزيل على ما سبق ، فإذا ظهرت الكاف بها صار « كلاما » . وللمقطعات الكتابيّة أيضا ترتيب ، وهو : «ا ب ت» ، وهو الصورة الأولى التي لها قبل التنزيل كما لوّح إليه ، فإنّه الترتيب المجرّد عن النسب العدديّة والامتزاجات التركيبيّة ، فإذا ظهرت الكاف بها صار «كتابا» ، وليس لها صورة وحدانيّة جمعيّة وراء ما لها من التفرقة التي فيها تمام الجمعيّة .
تأمّل فيه فإنّه يعلم منه سرّ الوراثة أيضا  .
ثمّ إنّ سؤاله الإلقاء السبّوحي بالتأييد الاعتصامي ليكون مترجما ، لا متحكَّما ( ليتحقّق من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب ) ممن كان له قلب يتقلَّب مع تنوّعات تقلَّبات الحقّ في تطوّرات أدواره .
واحترز بذلك عن أصحاب العقول ذوي العقود الاعتقاديّة التي لا تتحوّل تحوّل الانشراح العلمي في مراقي كماله .
(إنّه من مقام التقديس المنزّه عن الأغراض النفسيّة التي يدخلها التلبيس ) وهي الأغراض الدنيويّة التي لكلّ طائفة من الأمم ، قد لبّسوها بالصور المقبولة الموهمة أنّها لوجه الله ، على ما هي مادّة محاسن التآليف ولطائف التصانيف ، فإنّها مملوّة بالأغراض النفسيّة ، مشحونة بالتمويهات العكسيّة ، كتقشّفات المتسلسين وتشنيعاتهم  ، وتعصّبات المتكلمين وتزويقاتهم ، وتصلَّفات المتفلسفة وتشكيكاتهم ، وطامات المتصوّفة وشطحياتهم وإن أمكن أن يتوهّم بعض من لا وقوف له من أرباب الأنظار السخيفة هاهنا أنّ هذه الكلمات كلَّها من هذا القبيل ، لكن الكلام مع الكمّل ، فإنّهم مرامي سهام لطائف الإشارات والتحقيقات ، وحيث بيّن الواقفين بقوله « من أهل الله » نبّه على هذا الاستشعار .
ثمّ إنّه لمّا كان ممن اتحدت ألسنة مقاله وحاله بلسان استعداده الذي لم يتخلَّف الاستجابة عن دعوته قطَّ ، نبّه على ذلك متأدّبا بقوله : ( وأرجو أن يكون الحقّ لما سمع دعائي قد أجاب ندائي ، فما القي إلَّا ما يلقى إليّ ، ولا انزل في هذا المسطور إلَّا ما ينزل به عليّ ) .
وإذ قد يوهم ما أشار إليه من أمر الإنزال عليه وإخراجه للناس بخصائص زمانه من العلوم والحقائق : أنّه نبيّ امر بإخراج كتابه وإظهاره لدعوة الأمم في الدنيا ، قال : ( ولست بنبيّ ولا رسول ، ولكنّي وارث ، ولآخرتي حارث ) دفعا لذلك الوهم .
وإذ قد فرغ من حكاية حاله بما يناسب الخطب من المقبولات المشوّقة للمسترشدين ، والإقناعيّات المحرّضة للطالبين ، أراد أن ينبّه على ما لا بدّ لسالكي طريقه منه إجمالا ، وهي أمور أربعة :
الأوّل إلقاء السمع للتوحيد الذاتي إجمالا .
والثاني الرجوع إلى الله بأقدام التوجّه والقصد والتبتّل إليه جملة .
والثالث تفصيل ذلك المجمل وشهود جمعه في المفصّل كشفا .
والرابع إرشاد الطالبين إليه امتنانا ، فإنّه من نفائس الكمالات التي في الخزانة الختميّة مما لا يمكن أن يكون عند طلَّابها من نقود استعدادهم ما يوازيه ، فيكون من محض الامتنان .
أخذ يخاطب الطلَّاب على ذلك بما يوافق عرفهم المألوف ووضعهم المطبوع من القرائن الشعريّة والفقرات المنظومة ، امتثالا لما أمر به من إخراجه للناس بما ينتفعون به ، فإنّ للنظم من المناسبة للحقائق الجمعيّة والدلالة عليها ما ليس للنثر .
قائلا : إذا كان جميع ما سطر هاهنا من المقولات منزّلا من عند الله :
فمن الله فاسمعوا   .... وإلى الله فارجعوا
) في متفرقات الصور الكونيّة الخلقيّة ، رجوع جمعيّة واطمئنان
(، وإذا ما سمعتم  ما أتيت به )
من حديث الجمعيّة - ( فعوا ) أي احفظوه في وعاء جامعيّة القلب مصونا عن أن يتطرّق إليه شيء من شوائب الثنويّة والتفرقة .
ثمّ إنّ العقل بأفعاله الخاصّة به - من الفكر والفهم والنظر - وإن كان غير متمكَّن من الوصول إلى تلك الجمعيّة ولا محتاجة إليه عند انتهاج الطالب ذلك المسلك ، لكن بعد الوصول إليها عند تكميل إجمالها بالتفصيل الحكمي وجمعه معها ، على ما هو مقتضى تمام التوحيد الختمي - كما حقّق أمره في غير هذا المجال - يحتاج إلى أفعاله المميّزة وقواه المفصّلة والمخصّصة ، فقوله :
(ثمّ بالفهم فصّلوا   .... مجمل القول واجمعوا )
إشارة إليه . ثمّ إنّ سريان حكم الأصل يقتضي - حسبما حكم قهرمان الوقت - أن يظهر هذه الحقائق على مشاعر العيان ومشاهد الإعلان ، حسب الاقتدار والإمكان ، لذلك ختم وصاياه للمخفين تلك الحقائق جريا على مقتضى الأزمنة السالفة بقوله :
(لا تضنّوا به على ....    طالبيه فتمنعوا )
لعدم فهمهم لسان الوقت الدال على قصور استعدادهم عنه وفي بعض النسخ:
ثم منوا به على   .... طالبيه لا تمنعوا
على صيغة المعروف و فيه التحريض على الإظهار أكثر كما في الأول المنع عن الإخفاء أكيد.
(هذه) الحقائق و الحكم هي . ( الرحمة التي   .... وسعنكنم فوسعوا )
أي : وسعوها قلوب القوابل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الراحمون يرحمهم الرحمن , أرحموا من في الأرض" .
أي من دونكم في الرتبة "يرحمكم من في السماء". أي من هو فوفكم فيها.
وذلك لأن الرحمة التي هي الوجود في عرفهم لها مرتبتان :
إحداما في الخارج , والثانية في الدهن وهو لم يبلغ مرتبة اليقين المسماه بالذوق و الشهود .
لا يكون من الوجود في شيء , بل من الصور الكونية وظلاله المنسوبة إليه كما أومانا إليه , وتوسعها عبارة عن الإمداد الطالبين بما يعدهم له.
و إذ قد تقرر من أصولهم أن تصدى لأمر الإرشاد و النهوض بلوازمه من أمر السالكين بما يعدّهم في الطريق ، ونهيهم عمّا يعوقهم فيه - على ما علم في طيّ نظمه - إنّما يتيسّر لمن استجمع له شرائط ذلك ظاهرا وباطنا .
فإنّه يتوقّف على تأييد باطنه أولا بوساطة شيخ مؤيّد من عند الله ، كذلك إلى أن ينتهي إلى الخاتم وقبوله ذلك وصلاحيّته للوساطة ، وعلى تقييد ظاهره ثانيا بالشرع المطهّر المحمّدي وتقيّده به وصلاحيّته لتقييد غيره من المنتسبين إليه ، فقوله : ( ومن الله أرجو أن أكون ممّن ايّد فتأيّد وأيّد ، وقيّد بالشرع المطهّر المحمّدي فتقيّد وقيّد ، وأن يحشرنا في زمرته ، كما جعلنا من امّته ) .
إشارة إلى استجماع تلك الشرائط فيه بلسان أدب الطريق، كما هو دأبه .
وإذ سيعلم أنّ ما انطوى عليه الفصّ الآدمي من الحكم إنّما هو أمر تمام دائرته الكونيّة الوجوديّة ، وجامعيّة صورته العنصريّة الأصليّة وكمال سعته الإحاطيّة التي تسع الكلّ - سعة التسعة في مرتبة الآحاد من الأعداد وكمال جامعيّتها وتمام إحاطتها وأصالتها .
كما أنّ المشتمل عليه غيره إنّما هو بيان مدارج جزئيّاته المتولَّدة منه ومن زوجه - تولَّد باقي المراتب من الصور التسع وصفرها - وإبانة مراتب أذواقهم وبيّنات أوضاعهم الكاشفة عن مواطن شهودهم ومبالغ  عرفانهم وعلومهم ، من مبتدأ أمر الإظهار إلى منتهى تمام المراد وختمه ، كما ستطلع على تحقيقه - صدّره على الكلّ مشتملا على الفهرست
وقال : ( فأوّل ما ألقاه المالك على العبد من ذلك ).
 تبيينا لما مهّده آنفا من عدم تعمّله وتحكَّمه في إظهار هذا الكتاب، وأنّه مأمور مجبور في ذلك ، جبر العبيد بين يدي الملاك ، وتحت أمرهم .
على أنّ « المالك » من الأسماء له مزيد اختصاص ب « الكلام » - الذي هو الملقى إليه - من حيث التوافق في العدد والمواد والهيئة الصوريّة الداخلة فيها سوى الوضع الخارجي منه فقط .
أيضا الدال في « العبد » لبروزه في عينه يستأهل أن يفيض عليه من مالكه الكامل كلّ المراتب بكمالها ، وجوديّة كانت أو شهوديّة ، فيكون المراد بالعبد مطلق العبد الكامل ، أعني الخاتم وورثته .
وأيضا فإنّ أوّل ما القي « ألم » التي هي مالك أزمة الفرقان والقرآن على ما لوّح عليه من (ذلِكَ الْكِتابُ ) ، هو هذا ، لكن إنّما يجد هذا المعنى من له ذوق استشعار الحقائق العليّة من الألواح الحرفيّة ، مقدسا عن التعمّلات الجعليّة الوضعيّة . وملخّص هذا الكلام بما يقرب الأفهام : أنّ أوّل ما يظهر على الدال الباين العين من الكلام الكامل :
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فصّ حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 9:15 am

01 -  فصّ حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة 

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
01 - فصّ حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة    الجزء الأول
فصّ حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة  
معنى الفصّ ووجه تسمية أبواب الكتاب به
اعلم أنّ الحقائق الكشفيّة والمعارف الحقيقيّة - التي هي مدلولات الألفاظ بالذات - إذا أريد دلالتها عليها بحسب مفهوماتها الوضعيّة ومعانيها اللغويّة والعرفيّة تنزّلا إلى مدارك الأفهام ، لا يتصوّر ذلك إلَّا بضرب من التمثيل ونوع توسّل إلى وجوه المناسبات بين المعاني المتداولة العاميّة وبين تلك الحقائق ، ضرورة سعة دائرة المعاني وضيق مجال تلك المدلولات الجعليّة .
ثمّ إنّ « الفصّ » له وجوه من الخصوصيّات والنسب التمثيليّة بها يستكشف ما قصد منه من المعارف ، ومنها يستنبط ما أراد به من دقائق الحقائق :
منها أنّه قد انطوى على قوسي الخاتم ، واشتمل على أحديّة جمع دائرته .
ومنها أنّه الخاتم بما انطبع فيه من الصور المعرب عن كليّتها .
ومنها أنّه تابع لقالبه من الخاتم في المربعيّه والمثلثيّة والمدوّريّة وغيرها ، ومستتبع لما يرد عليه ويحويه .
ولمّا كان قلب الإنسان الكامل له الانطواء على قوسي الوجوب والإمكان وله الانطباق على أحديّة جمع خاتم الكمال بضلعي الوجود والشهود ، كما أنّ له أن يعرب عمّا فيه من صور الحقائق ، وينبئ عن أحديّة جمعيّتها ، وكذلك له صورة تابعة لمزاج الشخص ، كما أنّ له أن يستتبع تجلَّي الحقّ ويصوّره بصورته .
على ما نصّ عليه الشيخ في الفصّ الشعيبي : « إنّ القلب من العارف والإنسان الكامل بمنزلة محلّ الخاتم » في تصوير التجلَّي بصورته - وسّم الفصل المعرب عمّا اختصّ به كلّ من الكمّل وتحقّق به قلبه من صورة تجلَّى الحقّ فيه ب « الفصّ » تنبيها على ذلك كلَّه .
و «الحكمة» عبارة عن حقائق كلّ ما تضمّنه التجلَّي المذكور ، من الحيثيّة الكماليّة الظاهرة بحسب الاسم المناسب للمتجلَّى له ، المعبّر عنه بـ «الكلمة» ، وفصّها هو أحديّة جمع تلك الحقائق ، وفوقيّة صورتها التماميّة الختميّة .
التي بها يتشخّص ويصير واحدا ، فهو عين الكلمة ووجهها الوجودي الظاهر هي به إلى الأبد ، فإنّ لها الوجه الكوني المعدوم به من الأزل ، فالظرف مستقرّ على أنّه حال أو صفة .
وبيان المناسبة بين الاسم والكلمة هو أنّ مبدأ هذا الاسم وخصوصيّته إنّما هو أحديّة جمع خصوصيّات الأسماء ، كما أنّ تعيّن الكلمة هو أحديّة جمع تعيّنات الأعيان ، ومن ثمّة ترى صاحب المحبوب قد لوّح عليه بأنّ الكلمة هذه إنّما ركَّبت من ألف الابتداء وميم المنتهى ودال الامتداد بين الابتداء ومنتهاه .
عقد من العقود :
مناسبة اسم الفصّ وكلمته مع التسعة اعلم أنّ التسعة المشتركة بين الاسم والكلمة  لها الإحاطة الإطلاقيّة بما فيها من السعة التي تسع كلّ المراتب ، ولا تسعها مرتبة ، إلَّا أنّ الاسم لما له من المبدئيّة والبطون قد تقوّم فيه التسعة بالإفراد من الخمسة وما انطوت عليه منها ، تلويحا إلى أنّه صورة بسط الخمسة إفرادا ، وفي امّ الكتاب ما يطلعك عليه إن طالعته بإمعان .
والكلمة بما فيها من الجامعيّة مع توغَّلها في ظرف الظهور تقوم فيها التسعة بالزوجين وفرد واحد ، إذ الفرد له طرف البطون ، كما أنّ الزوج له الظهور ،لقوله تعالى : "خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً".
وأيضا الكلمة قد ظهرت بما غلب فيه حكم المرتبة الكونية ، بخلاف الاسم ، فإن ما غلب عليه ذلك الحكم قد تبطَّن فيه .
وممّا يؤيّد هذا أنّ الكلمة زاد على الاسم عند التفصيل بهذا العدد ( 45 9 36 ) فهي الظاهرة عليه به .
هذا إذا حوسبا كتابا ، فأمّا إذا حوسبا كلاما ، فالمشترك فيه حينئذ هو العشرة الكاملة ، التي هي الواحد الجامع الظاهر بصورة وحدته الزوجيّة ، وهاهنا سرّ يطلع منه على أصول من الحكم  فليتدبّر .
تلويح من ألواح الرقوم :
الألف في اسم الفص وكلمته إنّ الألف قد تنزّل في الاسم والكلمة من صرافة إطلاقه واستقامة خطيّته ، تدرجا في اعوجاجه وتقوّسه إلى أن يتمّ الدائرة بكمالها ، ولكن ذلك في الكلمة أتمّ وأظهر على ما لا يخفى .
والذي يدلّ على أوّليّة هذا الفصّ وتقدّمه بالطبع من الحقائق الحكميّة ما سبق تحقيقه آنفا من أنّ غير هذا الفصّ إنّما هو بيان مدارج بني آدم ، أعني بعض جزئيّات ما عقد الفصّ هذا على كشفه ، ممّا يتوقّف عليه .
وأمّا من الدقائق التلويحيّة فهو أنّ «الإله» في الكلام هو الأول عددا كما أنّ «الألف» الذي هو الأول في الكتاب رقما إنّما ظهرت صورته وفصّلت آياته الفرقانيّة والقرآنيّة في «آدم» عندما لوحظ بيّناته الكاشفة ، كما يلوح لك في هذه الأرقام ، مع دقائق جليلة لو تدبّرت فيها بعض التدبّر - 191 ل ف ا ل ي م
ثمّ ليعلم أنّ الأمر الإلهي له مدرجتان في التنزّل :
أحدهما ذاتي بلا واسطة يتوجّه إلى تحقّق الأعيان أنفسها .
والآخر بالواسطة إنّما يتوجّه إلى أحكام أفعال الأعيان ولوازمها .
والحاصل من الأوّل هو الشيء ، فهو المشيّة , ومن الثاني الشرع ، فهو التشريع .
والأوّل لعظم شأنه وقوّة سلطانه كما صرح به الشيخ حاكيا عن أبي طالب : «أنّه جعلها عرش الذات» لا يخالف بخلاف الثاني .
فلذلك نسبها إلى الحقّ قائلا : ( لما شاء الحقّ ) ضرورة أنّ المتوجّه لتحقّق الأشياء ليس إلَّا الذات باعتباره ثمّ إنّ حضرة الأسماء لما كانت موطن النسب المستتبعة لكمالها المسمّى بـ «الحسن» الذي هو من الصفات اللازمة لها.
قال : ( من حيث أسمائه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء ) فإنّها من حيث كلَّيات مراتبها وأجناسها القابلة للإحصاء لا يمكن أن يتوجّه نحو الغاية المطلوبة ها هنا .
فإنّها إنّما تتحقّق بعد تنزّلها في المواد الهيولانيّة وتشخّصها بالصور والأعراض الكائنة الجسمانيّة التي لا نهاية لكلّ منها فالأسماء إذن من هذه الحيثيّة لا بدّ وأن تكون غير قابلة للإحصاء عدّا ، كما أنّ الذات في كنه بطونها غير قابلة له حدّا ، فهي صورة مثليّتها في مرآة التقابل .
وإظهار الأوّل يناسب منصب النبوّة ويفصح عنه كلامها ، كما أنّ الثاني يوافق طور الولاية  ويؤدّيه كتابها .
تلويح من العقود :
الحاء والقاف في لفظ الحق «الحقّ» حرفان : أحدهما  له الوحدة الجمعيّة بها يناسب الذات ويدلّ عليها ، والآخر له الكثرة الكماليّة والسعة الأسمائيّة ولذلك ترى الحضرة الختميّة اختار ذلك العقد عند التعبير عن إحصاء الأسماء في المرتبتين الأوليين مشيرا إلى المرتبة الثالثة بما ينبئ عن الجهة الاتحاديّة العينيّة التي للأسماء في هذه المرتبة ، على ما هو مدلول الحرف الآخر باعتبار مسمّاه  .
وأمّا باقي اسمه فهو صورة دور التسعة وهيئة جمعيّتها الوحدانيّة ، وهي مؤدى الحرف الأوّل اسما.
وأمّا مؤداه مسمّى فهو أنهى مراتب الزوج الذي هو طرف الظهور، الذي هو مقتضى الأسماء، وإنّما أشير إلى هذه المراتب لأنّ الأسماء منها ما هو في:
المرتبة الأولى الذاتيّة ومنها ما هو في
المرتبة الثانية الصفاتيّة ومنها ما هو في
المرتبة الثالثة الفعليّة .
وهذه هي التي لها الجهة الاتحاديّة وعدم الإحصاء، وهي مؤدى الحرف الدالّ على الذات منهما، فلا تغفل عن دقائق الإشارات والتلويحات.
ثمّ إنّ غاية هذه المشيّة ومنتهى إرادة الحقّ فيها من حيث تلك الأسماء ( أن يرى أعيانها وإن شئت قلت : أن يرى عينه )
فلئن قيل : « متعلَّق المشيّة على ما سبق من البيان إنّما هو التحقّق نفسه ، لا الرؤية » ؟
قلنا : إنّ رؤية العين في الكون إنّما هي في أنهى مراتب التحقّق وأقاصى دركاته الكونيّة ، فلا تتحقّق إلَّا بالمشيّة ، على أنّ الرؤية نفسها من المتحقّقات أيضا ، وإن كانت تابعة لمتحقّق آخر فيه .
ثمّ إنّ في تنويع العبارة هاهنا وتسوية أدائهما للمقصود بيانا لما يتبادر إلى الأفهام من لزوم التغاير والتقابل بين الرائي والمرئي ، أنّه بمجرّد الاعتبار فقط ، ولا تغاير بالذات ها هنا. وإشارة إلى الجهة الاتحاديّة المنبّه عليها في أسماء الإحصاء من الكلام النبوي ، بقوله: « تسعة وتسعين اسما ، مائة إلَّا واحدة » .
إذ بها ينوط اسميّة الاسم ، وتنبيها إلى صافيّ منحل الحيّ الختميّ وخالص توحيدهم ، حيث أنّ محوضة الوحدة الإطلاقيّة لديهم ليس ليست مما يشوب به شيء من ضروب الإضافات وصنوف التقابلات ، حتّى تقابلة الكثرة وتعاندها .
وهاهنا لطيفة قد احتوى عليها بديع مسلكه هذا ، من باب الإشارات الخفيّة العالية عن المدارك المعتورة بين أرباب الرسوم ، وهي أنّ المشيّة التي هي مبدأ أمر الظهور والإظهار بعد رؤية الحقّ من حيث أسمائه الحسنى أعيانها تصلح أن تستند إلى المخاطب ضرورة أنّ الرؤية المذكورة مستتبعة للاتحاد .
ومستلزمة لطيّ بساط التقابل والتكثّر على ما عرفت وحينئذ تصير مصدرا للقول الفصل ، والكلام الكامل ، وبه تتعلَّق الرؤية المذكورة إلى عين الحقّ ، ويرتفع تقابل حكم الرائي والمرئي ، إلَّا اعتبار محضا - على ما ستطلع عليه .
وكثيرا ما يجد الفطن عندما تأنّس فهمه بإدراك الإشارات الخفيّة ، وفتح عليه أبواب اللطائف المرموزة في الكلام المنزل الختمي ، اعتبار هذا المسلك ، كقوله تعالى : " ثُمَّ سَوَّاه ُ وَنَفَخَ فِيه ِ من رُوحِه ِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ ".
شرح بعض الاصطلاحات
واعلم أنّ الحروف العاليات إذا نزلت في سطور مراتب الوجود إلى حيث يتميّز سواد تلك الحروف عن بياضها يسمّى بـ "العين" لاستحصالها بـ "كن" .
هذا إذا اعتبرت خصوصيّة كلّ منها منفردة ، أمّا إذا اعتبرت مجموعة بأحديّة جمعيّتها الكماليّة ، يسمّى ب « العالم » وصورة تماميّته حيث يكون الحرف مستقلا بنفسه في الظهور .
فإنّ المراتب منها ما ليس لتلك الحروف فيها سوى نسب معنويّة كليّة راجعة إلى حقيقة واحدة ، تسمّى بذلك الاعتبار «اسما» كما أنّه يسمّى ب «الحضرة الواحديّة» ، ومنها ما انفصلت عنه واستقلَّت بالاعتبار وإن تبعته بالوجود ، ويسمّى بـ «الأعيان الثابتة» ، كما أنّه يسمّى بـ «الحضرة العلميّة» ، ومنها ما استقلت تلك الحروف فيه بالوجود مستتبعة إيّاه ، وحينئذ يسمّى بـ « العين » مطلقا ، كما أنّه يسمّى بـ "العالم" .
وفيه تلويح يكشف عن مراتب العوالم بترتيبه ، والكون الجامع لها بعينه ، وغير ذلك  .
ثمّ إنّ العين تتدرج في ذلك الاستقلال بحسب تلك المراتب إلى أن تنتهي إلى كثائف وضعيّة هيولانيّة ، يمكن أن تتعاكس أشعّة شمس الحقيقة من تلك الكثائف المسمّاة بـ « الكون » إلى المشاعر الحسّية المعبّر عن أتمّ أنواعها بـ « الرؤية » مسترجعة في ذلك من الكثائف الحاجبة إلى اللطائف الكاشفة ، متدرّجة إلى أن تنتهي إلى الحقيقة القلبيّة ، التي تسع الوحدة الحقيقيّة بإطلاقها ، وتتمّ على عرش شعورها الدائرة بقوسيها .
ولذلك جعل الرؤية غاية للمشيّة ، إذ بها يعرج السافر السائر نحو المقصد الأقصى من غور دركات الحجب الغيريّة ، إلى نجد درجات الحقائق الوجوديّة الاتحاديّة .
وبنقطة النطق ينطبق قوس البطون على الظهور ، وبها يصير دائرة كاملة ، على ما حقّق أمره في المقدّمة .
رؤية الحقّ نفسه في كون جامع
فتلك الرؤية إنّما تتصوّر ( في كون جامع يحصر الأمر) وذلك لأنّ الكون إذا اتّصف بالوجود وظهر به ، تحصّل منه هويّة جامعة بين الأوّل والآخر والظاهر والباطن كما لا يخفى وهو على ما نبّهت عليه في المقدّمة عند الفحص عن مبدأ منع الشركة يقتضي حصر الأمر .
وذلك لأنّ الأمر لغة يطلق على ما يعمّ الأفعال والأقوال.
وتحقيقا على أوّل ممتد إلى الآخر مرتبط به ، وهو إنّما يصدق على كل ظاهر منبئ عن الباطن كالأفعال الإدراكيّة التي للقوى من الإشارات الخفيّة والكلمات الجليّة .
ويلوّح على ذلك ظهور راء « الصورة » فيه ببيّنات لام « الكلام » الكاشفة عن كنه المرام .
ومن ثمّة ترى الهويّة المذكورة قد استتبعت العلم بكلّ شيء ، على ما هو مؤدّى الآية الكريمة ، وبيّن أنّ ظهور ذلك الأمر إنّما يتصوّر من الصورة الاعتداليّة القلبيّة ، التي لا يماثلها شيء.
فإنّك قد عرفت فيما سلف لك أنّ الأكوان على اختلاف أنواعها وتكثّر شجونها إنّما تصلح لأن تكون مصدرا للتعاكس المذكور ، ومظهرا لعرش الشعور ، ما استحصل منها صورة اتحاديّة ومزاج اعتداليّ يمكن أن تتكوّن فيه الحقيقة القلبيّة ، التي بها أصبح مجمع بحري الإلهي والكياني حاصرا لتنوّعات تموّجاتها  بأنواعها وأشخاصها ، لكون الكون المذكور بانطوائه على تلك الحقيقة متّصفا بالوجود الواحد الحقيقي ، ظاهرا به ومظهرا هو إيّاه بتفاصيل تنوّعاته كلَّها بكمالها ، منصبغة بسرّه الخاصّ به .
فعلى هذا قوله : ( لكونه متّصفا بالوجود ) علَّة للحصر ، ويمكن أن يجعل علة لرؤية الحقّ عينه في الكون المذكور ، فإنّ ذلك لا يتصوّر إلَّا فيما يتّصف بالوجود ويستقل به ، ضرورة أنّ العين لا يدرك ولا يرى إلَّا بالعين .
وكذلك قوله : ( ويظهر به سرّه إليه ) يمكن أن يجعل عطفا على « يحصر » وعلى « يرى » والثاني منهما يناسب ثاني التقديرين ، ويؤيّده نسخة « الوجوه » ، والأوّل أوّلهما ، أي يظهر بالكون الجامع سرّ الحقّ له وهو سرّ الكون وخصوصيّته فهو صفته الكاشفة له عن صورته ، كما أنّ الأولى كاشفة عن مادّته .
هذا على أوّل الاحتمالين ، وأمّا على الثاني ، فالوجه فيه أن يحمل ما يظهر بالكون على الكلام الكامل الذي يكشف عن سرّه وكنه ما هو عليه ، جمعا بين المشعرين الشريفين في الغاية المذكورة ، وفق ما أفصح عنه التنزيل القرآني الختمي " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ". " أَبْصِرْ به وَأَسْمِعْ ".
سرّ الإعطاء بصورة الكتاب
ثمّ إنّك قد عرفت أنّ للكتاب المبصر اختصاصا بطرف الولاية ، كما أنّ للكلام المسموع بطرف النبوّة ، فلذلك عند الإفصاح بغاية المشيّة صرح بالأوّل وأبهم في الثاني وفاء بما هو مقتضى منصبه ، ومن هاهنا تراه قد ظهر له هذا الفيض المذكور من الخاتم في مبشّرته مرئيّا بصورة الكتاب في يده ، وما ظهر مسموعا بصورة الكلام في فمه .
الوحدة والكثرة  
وها هنا تلويح لا بدّ من التنبيه عليه : وذلك أنّه كأنّك قد نبّهت أنّ الوحدة الحقيقيّة من حيث هي هي إنّما تظهر في الكثرة بحسب غلبة أحكامها ، وبيّن أنّ نهاية أمر الكثرة وغاية سلطان التفرقة في الاثنين ما لم يحصل لهما ثالث يجمعهما بالنسبة الامتزاجيّة التي بينهما ، وما سوى الاثنتين من المراتب لا يخلو عن تلك النسبة أصلا   .
ثمّ إنّه من تفطَّن لهذا الأصل لا يخفى عليه وجه اشتمال عباراته هاهنا على الوجهين المتقابلين ، وكذلك انطواء الآية الكريمة المفصحة عن التوحيد حقّه على المتقابلين مرّة بعد أخرى .
وما من آية دالة ولا كلمة كاشفة عن التوحيد إلَّا وفيها وجه من وجوه الكثرة ، وكلَّما كان ذلك الوجه فيها أكمل وأتمّ ، كان دلالتها عليه أظهر ، فلا تغفل عن وجه ما نحن فيه من احتمال كلامه للوجهين.     
ثمّ أنّ ظهور السرّ وإن كان بالأخرة للحقّ ، لكن أوّل ما يظهر إنّما هو للعبد الكائن بحسب تقرّبه إليه بقرب النوافل والفرائض ، ولا يبعد أن يكون استعمال الظهور هاهنا ب « إلى » إيماء إليه .
نكتة حكميّة : الكون الجامع حاصر للأمر إذ قد تبيّن أنّ من الخواصّ اللازمة البيّنة للهويّة المطلقة جمعيّة الأضداد .
وتعانق الأطراف حسبما عرفت فالذي يصلح لأن يظهر به عينها لا بدّ وأن يكون له صورة من تلك الجمعيّة، أشار إلى ذلك بأن الكون الجامع حاصر للأمر الذي لا يبلغه الإحصاء، فهو الجامع بين الإحصاء وعدمه، وهذا من صور سرّه الذي يظهر به .
ثمّ إذ قد احتاج أمر ظهور السرّ المذكور بالكون الجامع لما فيه من الإجمال لفظا والخفاء معنى إلى زيادة من البيان والتوضيح، صوّره في صورة التمثيل ببيان يندفع به ما يمكن أن يورد ها هنا  وهو :
«إنّ الحقّ في التجلَّي الأوّل شاهد لعينه وجميع أسمائه ومراتبه بنفسه ، فلا يحتاج في رؤيته ذلك إلى الغير ، وبعد تسليم ذلك ، فإنّ في القلم الأعلى والعقل الأوّل من الجمعيّة والإظهار ما يغنيه عن الكون الجامع» ؟
رؤية الشيء نفسه ليس مثل رؤيته في المرآة
بقوله : (فإنّ رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة) وتلخيص ذلك أنّ الرؤية التي هي غاية المشيّة والأمر الإيجادي إنّما هي الرؤية الخاصّة التي عند تعاكس صورة الرائي من القابل المقابل النازل منزلة المرآة له (فإنّه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه ،مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل ، ولا تجلية له) ، وذلك أنّ للمرآة خصوصيّات زائدة على صورة الرائي من حيث هي هي ، مختفية عنه بدونها ، فهي سرّه الذي يظهر بها ، وذلك مما لم يمكن أن يظهر له بدون وجود محلّ هو بمنزلة المادّة لهذا الأمر ،وتجلَّيه له هو بمنزلة الصورة.
فالأوّل هو العالم كلَّه ، والثاني هو آدم نفسه ، فاندفع حينئذ ما ذكر .
أمّا الأوّل فظاهر ، لعدم المغايرة هناك .
وأمّا الثاني فلأنّ القلم لكونه صورة العلم الإجمالي - المكنى عنه بـ «نون» يجب مطابقته للعلم التابع للمعلوم ، فالصورة التي فيه ليست ممّا لم يكن بدونه يعطيها ، فإنّ سلطنة الإعطاء مختصّة بأصل القابل وصميم هيولاه ، فلا يكون له منزلة المرآة ذات الخصوصيّات والأسرار - على ما ستطَّلع عليها .
وهاهنا تلويح حكميّ وآخر رقميّ
أمّا الأوّل : فهو أنّ الوحدة الحقيقيّة على ما عرفت غير مرّة آبية عن ثنويّة التقابل ، فكلَّما كانت جهات الكثرة في مظهرها أشمل ، كان ظهورها فيه أتمّ ، ووجهها فيه أجمع .
وأمّا الثاني فهو أنّ صورة الجمع بين طرفي الإجمال من النون وتفصيله ، هي النقطة ، كما أنّ القلم هو الألف ، وهذا يناسب ثاني الاحتمالين .
فقوله : « ولا تجلية له » تفعلة على هذا التقدير ، ويمكن أن يقرء : « تجليه » بالإضافة إلى فاعله ، والأول أوفق لسياق الكلام على ما لا يخفى .
بدء إيجاد العالم
وقوله ( وقد كان الحقّ أوجد العالم كلَّه ) جملة حاليّة ، لا اعتراضيّة فإنها مبيّنة لأمر الكون المذكور بأنّه موجود بمادّته ، فلا بدّ مما يجعله بالفعل ، وهي الصورة ، وهو أوّل الأمرين الموقوف عليهما ظهور السرّ .
والتعبير عنه بالماضي إشارة إلى ما للمادّة من التقدّم الذاتي ، وأنّ الفاعل عند تحصيل هذه الغاية الكماليّة وإظهارها مشغول عن جعل المادّة وإيجادها إلى تصويرها بالفعل ، فلذلك ما نسب الإيجاد بإطلاقه إلى العالم بل خصّصه و من ها هنا اختصّ مباشرة اليد بآدم في قوله : "خمّرت طينة آدم بيدي" .
ثمّ إنّه كما أنّ لآدم كمالا بحسب الإظهار وله منزلة التجلية للمرآة ، له الكمال بحسب الظهور أيضا ، وله منزلة الروح في الشبح .
فقوله : ( وجود شبح مسوّى لا روح فيه ) إشارة إلى الثاني "آدم".
وقوله : ( فكان كمرآة غير مجلوّة ) إلى الأوّل "العالم كله" تطبيقا لصورة مسألته بالمثال مادّة وصورة .
ثمّ لمّا بيّن وجود المادّة وتقدّمها الذاتي موميا إلى أنّها من حيث هو قابل فارغ عنه الفاعل ، غير محتاج هو إليه كما ستطلع على تحقيقه أشار إلى بيان نسبة الإيجاد من الفاعل ، والقبول من القابل بحيث ينطبق على ما ذهب إليه من التوحيد الذاتي ، ويوافق ما أشار إليه في صدر الفصّ من تسوية العبارتين في مادة الشبح المسوّى ، الغالب عليها قهرمان الكثرة .
وهو أنّ من مقتضى الأمر الإيجادي (ومن شأن الحكم الإلهي أنّه ما سوّى) (محلَّا) أي ما عدّل مزاجا (إلَّا ولا بدّ أن يقبل روحا إلهيّا ، عبّر عنه) في العبارة النبويّة المرسل بها ( بالنفخ فيه ) أي خروج نوعيّته الكماليّة من القوّة إلى الفعل .
وهو المعبّر عنه في لسان البرهان العقلي بالاستعداد المستجمع لتمام شرائط الخروج المذكور ، فهو آخر مراتب القابليّة وأنهى درجات القوّة ، المتّصلة بالفعل اتّصالا اتحاديّا لا مجال للتغاير والتفرقة فيه أصلا على ما ستطلع على بيانه  .
والحاصل أنّ الإيجاد من الفاعل هو الذي عبّر عنه لسان السنّة بالنفخ منه في القابل ( وما هو إلَّا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسوّاة لقبول الفيض ) قبولا لا ينفكّ عن التسوية ، ويلزمها لزومه للفيض الذي هو عبارة عن ( التجلي الدائم الذي لم يزل ) فيضان الرحمة والجود منه في أوّل الأزل من الآزال ، ( ولا يزال ) كذلك إلى آخر الأبد من الآباد ، فإنّ الزمان بمعزل عن ترتّب الفيض على القبول ، كما هو المتبادر لأوهام العامّة .
وبيان الفيض بالتجلَّى إشارة إلى الكمالين على طبق ما في المثال المذكور، وكذلك قوله: « لم يزل ولا يزال » فإنّ الأزل صورة مبدئية الكمال الظهوري من الزمان ، كما أنّ الأبد صورة معادية الكمال الإظهاري منه .
وبيان هذه القضيّة وتحقيق هويّتها التي يتوقّف فيها أكثر الأفهام أنّ النفخ في الظاهر عبارة عن إخراج الهواء البخاريّ من الباطن على كيفيّة معيّنة وصورة مخصوصة مستحصلة من القوى الفاعلة والهيئات المنفعلة .
وبيّن أنّه إذا سئل عن الحد الجامع بين تلك الأجزاء التي من شتات المقولات ب «ما هو» لا يصلح للجواب إلَّا حصول الاستعداد من الصورة المسوّاة لقبول الفيض .
الذي هو خروج الوحدة الوجوديّة من الباطن ، فإنّه لا جامع أتمّ من ذلك ، وهو الدالّ على مبادي كلّ ماله دخل في تلك الهويّة الجمعيّة ، فإنّ الصورة المسوّاة قد جمعت من صنوف الكثرة السينيّة ما تمّ به النسبة الكماليّة الوجهيّة غير عائزة إلى الخارج عنه .
وتحقيق هذا الأصل : أنّ تسوية المحلّ وتعديل المزاج عبارة عن تصحيح أمر النسبة الكماليّة والهيئة الاعتداليّة في الكثير الذي هو المحل بحيث يترتّب عليه الخصائص الفاضلة والأوصاف الوجوديّة .
وذلك هو الوحدة الجمعيّة التي هي مبدأ الآثار الوجوديّة ومصدر الشعور والإشعار ، وهي المعبّر عنها بالروح الإلهي ، وبيّن أنّ تصحيح أمر النسبة في الكثير من حيث هو كثير  إنّما يتوقّف على إبانة تمام النسبة الاعتداليّة الأصليّة .
وتعيين موضوعات كلّ منها بما يليق به ويستحقّه من الكميّات المقداريّة والكيفيّات الامتزاجيّة ، فإذا عدّلت الموضوعات بكمّياتها وظهرت الكيفيّات الامتزاجيّة بكمالها فقد قبلت الروح للخروج من الباطن ، وهو المعبّر عنه بالنفخ فيه .
وتمام تحقيق هذا الكلام وبيان لمّيته يحتاج إلى علوم عزيزة ومقدّمات غريبة عن أكثر الطباع والأذهان ، قد بيّن شيء من أصولها في المفاحص فلنكتف منه ها هنا بتلويح .
وهو أنّه وإن كانت الستة هي الفاتحة لأمر تمام النسبة الاعتداليّة الفاضلة ولكن ما لم يظهر في العشرات المشعرة بتفاصيل الأحكام لم يتحقّق الإبانة المذكورة ، ولم يعلم ما لكلّ من موضوعات تلك النسب بخصوصه ، وفي تعبيره عن المراتب الثلاث بما عبّر أعني : سوّى ، ويقبل ، ونفخ ما يطلعك على هذا التلويح.
ثمّ إنّه كما عرفت هذه الدقائق فلا تغفل عن أصل التقريب ومقصوده الأوّل من هذا الكلام وتدبّر في بيانه هذا كيف نظَّم أصول فنون التفرقة أعني الفاعل ، والقابل ، وما بينهما من النسبة والزمان في سلك الجمعيّة والوحدة الذاتيّة التي أشار إليها في مطلع كلامه بتسوية العبارتين .
وذلك لأنّه إذا تقرّر أنّ الإيجاد من الفاعل هو عين تام قابليّة القابل ( فما بقي ) حينئذ في حيّز المغايرة ومطمورة السوي ( إلا قابل ) فقط ، ( والقابل لا يكون ) ولا يحصل على أصولهم المؤسسة ( إلَّا من فيضه الأقدس ) ، أي أقدس عن أن يكون الفيض مغايرا للمفيض ، كما في الفيض المقدّس وما يتنزّل عنه ، وذلك في التعيّن الأوّل على ما اطَّلعت عليه .
لا يقال : إنّما يتصوّر القابل حيث يعتبر الفاعل وفعله ،وهذه الحضرة ليس الفعل منها في شيء؟
لأنّ المراد تحقيق ذات القابل من حيث هي هي ومبدأ ظهورها مطلقا قبل ظهور ثنويّة المتقابلين ، ومن أراد زيادة استبصار وتمام استيضاح لهذا المعنى فعليه بالتدبّر في معاني الإمكان المقول عليها في عرف الميزان .
هو الأول والآخر
(فالأمر كلَّه منه ، ابتداؤه وانتهاؤه ، وإليه يرجع الأمر كلَّه كما ابتدأ منه) هذا القول منه إفصاح بالمقصود الأوّل بما يدلّ على ذلك بتفصيل لطيف ، حيث عبّر عنه بكلّ من الأمرين المشار بهما إلى قوسي النزول والرجوع ، المنبّه فيهما بطرفيهما ، تحقيقا للتوحيد الذاتي ، على ما هو المستفاد من جوامع الكلم الختميّة من الجمع بين الأوّل والآخر ، وإبانة أحدهما في عين الآخر ، كما قد اطَّلعت عليه .
وبيّن أنّ الغالب على قوس النزول منهما هو الإجمال، فإنّ انتظام المراتب فيه إنّما ابتنى على ظهور الوحدة وغلبة سلطانها على الكثير، متدرجا في أطوارها، إلى أن يتمّ أمرها.
كما أن الغالب على قوس الرجوع التفصيل، إذ نظام المراتب فيه إنّما هو على اتّساق ظهور الكثرة وانتزاع وجوهها من الواحد إلى أن يتمّ الوجوه الإظهاريّة بكنهها .
فلذلك أجمل في الأوّل حيث جعل الابتداء والانتهاء متعلَّقهما واحدا ، وأتي بصورة الاسم ذي الثبات والاستقرار دون الثاني ، فإنّه قد فصّل بين المتعلَّقين بـ « من » و « إلى » وبين متعلَّقيهما بما لا تقابل بينهما ظاهرا وهو أيضا ضرب من التفرقة والتفصيل وأتى بالجملة الفعليّة الدالة على التجدد والتدرّج التفصيلي .
تلويح من الرقوم :
تقابل الوجود العلمىّ والعينيّ اعلم أنّ القابل للتعيّنات - من العين الشامل إلى الكون الكامل إذا انضمّ إليه من نقط النطق ما به يخرج من مكامن الثنويّة التقابليّة الإمكانيّة إلى مجالي الاتّحاد الوجودي الوجوبي ، يصير قائلا بتلك الكلمات من الحروف العاليات ، إلى ما اندرج في السطور السافلات ، كما أنّ العالم الجامع لتلك التعيّنات إذا انقلب ما انفتح به أبواب تفاصيلها وتبطن ذلك يصير عالما بتلك المعلومات .
آدم جلاء مرآة العالم
ثمّ إنّ قوله : ( فاقتضى الأمر ) جواب « لمّا » وهو الثاني من الأمرين الموقوف عليهما ظهور السرّ .
أي لما شاء الحقّ الظهور المذكور ، وكان هناك ما يقبل ذلك ، أي ما هو بمنزلة الجرم الصلب والسطح الكثيف للمرآة - وهو العالم - اقتضى الأمر بالمعنى المذكور - وهو الرقيقة الامتداديّة الأوّل إلى الآخر - إتمام ذلك الجرم وجلائه أعني ( جلاء مرآة العالم ) حتّى يتصوّر فيه الظهور ويتمكَّن حينئذ من الإظهار .
يتبع
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فصّ حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 9:18 am

01 -  فصّ حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة 

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
01 - فصّ حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة   الجزء الثاني
وأورد عليه « الفاء » إشعارا بالترتّب الواقع فيها ، كما للصورة بالنسبة إلى المادّة ، وكرر ذلك في قوله : ( فكان آدم ) تنبيها على أنّ آدم نفسه مترتّب على ذلك الاقتضاء ، لا جعله وتكوينه وقوله : (عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة) إشارة إلى ما له من كمالية بحسب الظهور والإظهار على ما نبّه عليه.
واعلم إنّ روح كلّ شيء ما يقوّم به هيئته الوحدانيّة الجمعيّة ، فروح العالم عبارة عمّا تقوّم به الكلّ ، من العين الأوّل إلى الكون الآخر ، ويصير تلك التعيّنات المتنوّعة المتفرقة بذلك شخصا واحدا ، وهو الذي يسمّى بـ « الإنسان الكبير » باعتبار انس بعض الأجزاء منه بالآخر كما في الإنسان الصغير بعينه .
الإنسان روح العالم والملائكة بعض قواه
ثمّ إنّه بعد تبيين معنى آدم إجمالا أخذ في تفصيل جمعيّته الكليّة الكماليّة ظهورا وإظهارا ، وتحقيق إحاطة صورته التامّة بسائر جزئيّات العالم وقهرمان خلافته على الكلّ ، وغلبته شعورا وإشعارا ، وإبانة مراتب كلّ من تلك الجزئيّات عنده ، وتفاوت درجاتهم فيما نسب له ، ووسم به ، من المنصب العالي والمنزلة الرفيعة .
وإذ كان للأوّل من الكمالين تقدّم على الثاني منهما - تقدّم المادّة على الصورة - قدّمه قائلا : ( وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة ، التي هي صورة العالم ، المعبّر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير ) ، وإذ كان الإنسان عبارة عن جمعيّة مشتملة على أعضاء وأجرام هيولانيّة وعوارض جسمانيّة ، ومشاعر حسّية وروحانيّة ، فله جمعيّة كليّة كما للعالم بعينه ، إلَّا أنّ أجزاء الكلّ في الإنسان لها ارتباط إدراكي به ، يأنس بعضها للبعض ، وبذلك الاعتبار يسمّى إنسانا .
ثمّ إنّ العالم أيضا قد حصل له بروحه الذي هو آدم هذا الربط الإنسى، وفي تحقيق اصطلاح القوم هاهنا تنبيه إلى هذه الدقيقة فلا تغفل .
ثمّ إنّ الملائكة منها الجبروتيّة أعني : العقول المجرّدة والأنوار القاهرة  ومنها الملكوتيّة أعني : النفوس المتعلَّقة والبرازخ النورانيّة ( فكانت الملائكة له كالقوى الروحانيّة والحسّية التي هي في النشأة الإنسانيّة ) .
وإذ كان عالم الأمر ومرتبة الأرواح أوّل مراتب التعيّنات الاستجلائيّة ومبادي طلائع غلبات الأحكام الكونيّة والحجب العدميّة الإمكانيّة ، قد قوي سلطانها فيه .
فلذلك ولما في نشأتها النورانيّة من التقدّس والتحقّق بالصفات التنزيهيّة قد انغلب أعيان المرتبة تحت اقتضاء نشأتها وأحكام تعيّناتها وحجبها القدسيّة النوريّة ، وشرفها العلوي البهي ، بحيث أنّ كلّ عين منها في تلك الصورة الكليّة يدّعي استيهال روحيّتها واستحقاق خلافتها .
( وكلّ  قوّة منها محجوبة بنفسها ، لا ترى أفضل من ذاتها ، وأنّ فيها فيما تزعم) أي لا ترى أنّ في تلك الصورة فيما تزعمه كل قوّة منها من الشرف والعلو ( الأهليّة لكلّ منصب عال ) علوّ ظهور وغلبة ( ومنزلة رفيعة ) رفعة معرفة وعلم ، قدسيّا كان ذلك المنصب أو ما يقابله ، أو مقدّسا منهما .
ويمكن أن يجعل هذا جملة حاليّة بكسر إنّ لكن الأول أدقّ ، وعلى التقادير فالضمير في «فيها» عائد إلى « الصورة » ، لا إلى النشأة ، لعروّ الكلام حينئذ عن ملابس الانتظام و «ما» في « فيما تزعم » موصولة لا مصدريّة ، وفاعل « تزعم » ضمير ما يرجع إليه فاعل ترى ، لا ما يرجع إليه « فيها » على ما لا يخفى على الفطن ، إذ أهليّة آدم ليست ادعائيّة وفي زعمه ، كغيره من القوى.
وكان قوله : ( عند الله ) لرفع هذا الوهم .
ثمّ هاهنا دقيقة لا بدّ للمستكشف من تذكَّرها ، وهي أنّه قد ظهر لك ممّا مرّ أنّ الوحدة الحقيقيّة الذاتيّة التي قد أشير إليها  في طيّ تسوية العبارتين إنّما يظهر صور سرّها في المحلّ المنظور فيه ، الذي هو القابل المقابل ، الذي هو قبل كل قبل .
وليس ذلك غير حصول الاستعداد من القابل ، الذي هو عين النفخ من الفاعل ، فتبيّن أنّه قد انخلع في طيّ طوى جلال القابل نعلا ثنويّة التقابليّة .
ثمّ إذا تذكرت هذا فاعلم أنّه ليس بين الصيغ المتداولة عند الناس بدلالاتها الوضعيّة ما يدلّ على ذلك الواحد دلالة المصدر وما يجري مجراه من الأوصاف المنسوبة ، ومن هاهنا ترى أئمّة العربيّة يجعلون دلالته على متقابلي التذكير والتأنيث والواحد والكثير متساوية النسب .
وأيضا فإنّ الأمور الدالَّة على النسبة وجه دلالتها على ذلك الواحد أظهر ، ضرورة انطوائها على الثلاثة مع الجهة الجمعيّة الوحدانيّة ، فهي أتمّ بيان عنه ، ومن ثمّة ترى العبارات المعربة القرآنيّة كثيرا ما تدلّ عندما يفصح عنه على القرب والمعيّة وما يحذو حذوها.
فلا يخفى على من وقف على هذه الدقيقة وجه اختياره لفظ «الأهليّة» دون «الأهل» في قوله : «أنّ فيها فيما تزعم الأهليّة» ولفظ «عندها» دون «فيها» في قوله : "لما عندها" .
الصورة الآدميّة هي النشأة الجامعة
فقوله ( لما عندها من الجمعيّة الإلهيّة ) تعليل لما ادّعاه في تلك الصورة مما لا يراه قواها الجزئية من الأهلية لسائر المناصب العلية والمنازل الرفيعة .
وذلك لما عند تلك الصورة التي روحها آدم من الأحدية الجمعية الإلهية و الإحاطة التامة الإطلاقية التي لايشذ منها شيء .
من عاليات الأعيان إلى سافلات الأكوان مع ما في النشأة الحاملة لمقتضى الطبيعة الكل ، الحاصرة قوابل العالم ، حصر امتزاج واتحاد ، بحيث تتعاكس فيه خصائص الكل ، وتتبين فيه رقائق الارتباط والاتحاد من الكل بالكل .
وتحقيق ذلك أن مراتب الوجود وتعيناتها مترتبة :
منها أوائل غلب عليها أحكام الوجود ، وظهر منها آثار الوجوب ، بها نسبت إلى الجناب الإلهي ، لأن مرجع تلك الأحكام إنما هو إليه ، فلها أهلية التجرد والتنزه وشرف الاستغناء والتفرد .
ومنها أواخر غلب عليها الأحكام العدمية الكونية وظهر منها آثار الإمكان ، بها نسبت إلى جانب حقيقة الحقائق ، ضرورة أن للآخر تقدما ذاتيا في أزل الآزال .
الذي فيه يتحقق الحقائق كما سبق التنبيه عليه فهى المنتسب إلى حقيقة الحقائق ، ولها أهلية التعلق والتشبه ، وختة الاحتياج والتكثر .
ومنها النشأة الجامعة بينهما ، الطبيعة الكل ، الحاصرة للقوابل كلها حصرا جميعا اتحادیا .
فعلم على ذلك أن صورة آدم هي التي عندها هذه الجمعية المستجمعة ( بين ما يرجع من ذلك إلى الجناب الإلهي ، و ) بين ما يرجع منها ( إلى جانب حقيقة الحقائق  وفي النشأة الحاملة لهذه الأوصاف ) أي القابلة لها ، المستعدّة لأن يتولَّد منها ويظهر عنها بالفعل .
وهي أهليّة كلّ المناصب العليّة والمنازل الرفيعة ، وقد نبّهت آنفا على ما يدلّ على اختياره الأوصاف هاهنا .
فظهر أنّ الجمعيّة التي عند الصورة المذكورة ، المسمّاة بالإنسان الكبير ، منطوية على ثلاث جمل : ثنتان منها اللذان بالفعل ، مرجعهما إلى الجناب الإلهي وجانب حقيقة الحقائق .
وثالثها الذي بالقوّة وهو المكمّل  مرجعه ( إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلّ ، التي حصرت قوابل العالم كلَّه ، أعلاه ) أي الأعيان الوجوديّة المسمّاة بالعقول والنفوس.
( وأسفله ) أي الأكوان العدميّة المسماة بالأجسام والأعراض ضرورة أنّ الثالث هذا برزخ بين ما يرجع إلى الجناب والجانب .
فإنّ الشيخ قد صرح في غير موضع من كتبه أنّ الكلّ طبيعيّة على ما عليه مذهب الأقدمين كما سيجيء تحقيقه . وأمّا ما تقتضيه تلك الطبيعة فهو النسب المستحصلة عند تعاكس أعيان العالم في قوابلها.
وظهور خواصّ بعضها للبعض ولأنفسها جمعا وفرادى كما قد اطَّلعت عليه فلا يزال يتربّى أجنّة تلك الأوصاف المشخّصة بآثار خواص النسب المذكورة في بطون طبيعة الكلّ ومشيمة نشآتها الحاصرة .
إلى أن يتولَّد ويظهر شخص كمالها بصورة إحدى الجمعيّتين اللتين بمنزلة الأبوين له ، من أعلى درجات الربوبيّة إلى أقصى دركات العبوديّة.
وإليه أشار الشيخ في نقش الفصوص بقوله : "ولهذا ما ادّعى أحد من العالم الربوبيّة إلا الإنسان لما فيه من القوّة ".
وما أحكم أحد من العالم مقام العبوديّة في نفسها إلَّا الإنسان ، فعبد الحجارة والجمادات التي هي أخزل الموجودات .
فلا أعزّ من الإنسان بربوبيّته ، ولا أذلّ منه بعبوديّته ، فإن فهمت فقد أبنت لك من المقصود بالإنسان .
فانظر إلى عزّته بالأسماء الحسنى وطلبها إيّاه ، فمن طلبها إيّاه تعرف عزّته ، ومن ظهوره بها تعرف ذاته ، فافهم من هاهنا تعلم أنّه نسخة من الصورتين : "الحقّ والعالم " إلى هنا كلامه بعبارته .
فقوله : « وفي النشأة الحاملة لهذه الأوصاف إلى ما تقتضيه الطبيعة » عطف على قوله : «من ذلك إلى  الجناب» ، من قبيل العطف على معمولي عاملين مختلفين ، ولكن بإعادتهما .
ولما كان ما في هذا القسم مستجنّا في بطون قابليّة النشأة ، وهي غير مشتملة عليه بالفعل كما في القسمين الأوّلين أورد « في » هاهنا بإزاء « من » تنبيها إلى ذلك .
وفي بعض النسخ « الطبيعة الكلَّية » ، فالكلَّي فيها ليس الكلَّي المنطقي ، بل المنسوب إلى الكلّ ، فإنّه الحاصر لأجزائه على ما قصد هاهنا .
نكتة حكميّة :
التعبير ب « حواء » عن النشأة الإنسانية : إذ قد ظهر لك أنّ النشأة العنصريّة الإنسانيّة هي امّ الأوصاف المشخّصة والأعراض المحصّلة لأفراد الإنسان وجزئيّاته ، لا يبعد أن يجعل « حوّا » - المستخرجة من الجنب الأيسر لصورة آدم إشارة إلى تلك النشأة الحاملة لها كلّ البعد لأنّ استخراجها من مكامن القوّة إلى الفعل واقع في الطرف الشمالي من الصورة ، مائل إليه ، وإن كان لآدم وحوّا بحسب كلّ طور لهما معنى يناسبه كما نبّهت عليه في المقدّمة من أكمل الأطوار وأشملها .
قصور العقل عن إدراك الحقيقة الإطلاقيّة
وإذ قد عرفت أنّ كلّ قوّة من القوى الجزئيّة التي في هذه الصورة محجوبة بنفسها ، واقفة لديها ، لا يمكن أن يكون لها من تلك الحيثيّة وقوف على الحقيقة الإطلاقيّة ، التي هي أصل صور العالم أعني الطبيعة الحاصرة للقوابل التي هي مورد المتقابلات ومعتنقها ، فالعقل بقوّته النظريّة  لا يتمكَّن من إدراكها أصلا بدون ذوق إليّ وكشف إلهي ، فلذلك ترى أهل النظر من المتكلَّمين والحكماء المشّاءين يحصرون الطبيعة في العنصريّات فقط .
ولذلك قال تعريضا بهم : ( وهذا لا يعرفه عقل بطريق نظر فكريّ ، بل هذا الفنّ من الإدراك لا يكون إلَّا عن كشف إلهيّ ، منه يعرف ما أصل صور العالم القابلة لأرواحه ) فإنّك قد عرفت أنّ القابل وأصله راجع إلى الفيض الأقدس عن ثنويّة القابل والفاعل والكاسب والمكتسب منه ، فهو إذن بمعزل عن أن تقتنص شوارد حقائقه بمخالب قوى العقل وجوارحه .
أو يصل إليه أحد بسلاليم الأقيسة الفكريّة ومدارج مقدّماتها ، ضرورة أنّ الثنويّة التقابليّة غالبة في نشأة العقل وجبلَّته القدسيّة العالميّة على ما يظهر من تلويحه أيضا سيما فيما يدركه باستعانة من قواه وتوسّل إليها .
نعم ، يمكن له الوصول إليه عند انطواء الأسباب والآلات التعمّليّة والاكتسابيّة ، وانطفاء مشاعل مشاعره الجزئيّة ، عند سطوع تباشير إصباح المكاشفات الإلهيّة ، وشروق أنوار شمس الحقيقة من مطلع الوهب والامتنان ، وافق اليقين ، الخالص عن شوائب الحجج والبرهان  .
وجه تسمية آدم إنسانا وخليفة
ثمّ إنّه بعد تحقيق الحقيقة الآدميّة وتفصيل جمعيّتها التامّة شرع في تبيين أساميها ، كشفا عن كنه أحكامها ولوازمها المعربة عن تمام ذلك التفصيل ، وما له من كماليّة في الظهور والإظهار ، فإنّك قد عرفت أنّ حقيقة كلّ شيء بخواصّها ولوازمها إنّما تستعلم من أساميها وألفاظها المختصّة بها ، بقوله : ( فسمّي هذا المذكور « إنسانا » و « خليفة » ) بحسب كمالية الأوّل والآخر (فأمّا إنسانيّته : فلعموم نشأته وحصره الحقائق كلَّها ) حصرا جميعا امتزاجيّا يتعاكس فيه النسب من الكلّ على الكلّ ، ويأنس بها الكلّ إلى  الكل.
( وهو للحقّ بمنزلة إنسان العين من العين ) أي كما أنّ إنسان العين من العين الشخصي فيه مثال الشخص بعينه حاصر الجميع أجزائه بأوضاعها وأشكالها ، كذلك الإنسان مثله من العين الوجودي ، وليس كمثله شيء ، أو كما أن بإنسان العين ينظر على الشيء ، فكذلك بحقيقته الأصليّة السابقة على الكلّ نظر الحقّ إلى العالم بعينه ، حسبما سمعه من ألسنة قابليّاتهم ، فرحمهم بوجوده .
فالإنسان بحقيقته هو (الذي يكون به النظر ، وهو المعبّر عنه بالبصر) في قوله : "وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"  (فلهذا سمّي إنسانا, فإنّه به نظر الحقّ إلى الخلق).
ورآهم بصورهم التي صوّرهم بها ألسنة قابليّاتهم في صيغ صبغ تعيّناتهم ( فرحمهم ) بالوجود التامّ المترتّب على ما حصل من المشعرين من العلم الكامل وكأنّك قد نبّهت على سبب طيّ أحد المشعرين في عبارته .
الصفات المتقابلة في الإنسان الكامل
ثمّ إنّ المثلية والتماميّة في المظهريّة إنّما تستدعي استيعاب الأوصاف المتقابلة والأحكام المتناقضة من أوّل الأزل إلى آخر الأبد ، مع الكليّة الجمعيّة التي هي الفاصلة بين الكلّ في جمعه ، فأشار إلى ذلك قائلا :
( فهو الإنسان الحادث الأزلي ) بحسب أوّليّته بالحقيقة ، وسابقيّته بها ، ومسبوقيّته بالظهور ، وتحقّقه بتمامه ( والنشء الدائم الأبديّ ) بحسب آخريّته في قبول تمام الكمال وانتهائه في أمد الإظهار ، وترتيبه الامتزاجيّ الجمعيّ ، فإنّ « الإنشاء » لغة هو الإيجاد مع الترتيب .
واعلم أنّ الآخريّة ذلك ليست آخريّة انقطاع وانتهاء انصرام ، كما أنّ الأوّليّة المذكورة ليست أوليّة إحداث وإبداء .
( والكلمة الفاصلة ) بين الأوّل والآخر ( الجامعة ) بين الظاهر والباطن بحسب كليّة أمره وأحديّة جمع نشأتيه الفاصلة في عين الجمع ، الجامعة في عين الفصل .
واعلم أنّ هذه ثلاثة أسامي له بحسب ما اشتمل عليه من الأجزاء المذكورة آنفا على الترتيب ، إلَّا أنّ الاسم لكونه كاشفا عن كنه المسمّى قد انطوى كلّ منه على ثلاث مراتب من الأوصاف إعرابا عن السعة التماميّة الإطلاقيّة ، فلذلك حمل الكلّ على "هو".
تلويح من العقود :
وهو أنّ السعة الإطلاقيّة التسعيّة المنطوي عليها آدم ، قد فصّلت في الإنسان بمثليّته المظهرة ثلاث جمل تامّات ،كلّ منها إشارة إلى نشأة من تلك النشآت التي له.
وأنّ البرزخ الواقع بمنزلة كلمته الكاملة ورتبته الجامعة ، تفرقته عين الجمع ، وكثرته عين الوحدة ، حيث أنّ اسمه عين مسمّاه ، فلهذا قد اختصّ بين الحروف بأنّه قلب القرآن  .
تمام العالم بوجود الإنسان
وإذ قد ظهر من احتواء الإنسان للأطراف بحسب أطواره ونشآته ما يتبيّن به.
أنّه الواصل من الجمعيّة إلى أقصى مراتبها - وهو المراد بالتمام - ( فتمّ العالم بوجوده ) .
الإنسان من العالم كفصّ الخاتم من الخاتم
هذا كلَّه بحسب كماله الأوّل ، الذي به يسمّى « إنسانا » وأمّا بحسب كماله الآخر الذي به يسمّى « خليفة » : (فهو) أنّه وقع (من) دائرة ( العالم كفصّ الخاتم من الخاتم) ، حيث أنّه المتمّم لأمره ، المخصّص له بين الدوائر والحلق بالخاتميّة ، وحيث أنّه به يتّصل قوس الظاهر بالباطن ويجمع به الفرق ويتّحد الكلّ ، فأصبح به مراتب تنزّلات الوجود دائرة واحدة كاملة - على ما سبق تحقيقه في المقدّمة .
ثمّ إنّ من أجلّ وجوه المناسبات وأجلاها ، أنّ الفصّ محلّ نقش الملك وعلامته الخاصّة التي بها يختم الخزائن ، ويكتم نفائسها عن نظر العامّة واحتظائهم منها ، فإنّه ممّا يوجب الفساد في الملك والاختلال في نظام أمره .
إذ الحكمة البالغة حاكمة بأنّ الاطلاع على خصائص خزائن الملك وذخائر جواهره العزيزة محرّمة ،الَّا للندر من خلَّص أخصّائه المأذونين في ذلك من المؤتمنين.
وكذلك الإنسان محلّ نقوش الحروف المنزلة والعلامة العلميّة الخاصّة بالحقّ وهي التي بها يحفظ نظام خلقه عن تطرّق الاخترام وطريان الفساد والانصرام .
فإنّ لتلك النقوش ظاهرا وهي المفهومات الوضعيّة والحقائق العرفيّة التي عليها مباني أصول الشرايع وبها تستفاد من تلك النقوش والعلامات الأحكام الظاهرة من العقائد الأصليّة والأحكام الفرعيّة التي بها تنضبط صور العالم وتنحفظ عن تطرّق الاختلال ، فهي الختم على خزانة صورة الدنيا ، التي في صدد الزوال ، وهذا للإنسان بحسب كماله الأوّل .
وباطنا وهي اللطائف الذوقيّة والحقائق الكشفيّة التي تستفاد من تلك النقوش والعلائم بدون توسّط تلك النسب الوضعيّة والامتزاجات التركيبيّة الجعليّة ، وبها تنضبط حقائق المعاني والحكم في سلك التبيان ، وتنطبق أصول الإجمال والجمع منها على فروع التفرقة والتفصيل .
ومنها ينحفظ نظام استقامته عن طروّ الفساد وانحراف الميزان ، وهي الختم على خزانة معاني الآخرة التي لا تقبل الفناء ، وهذا له بحسب كماله الآخر .
فكما أنّ الإنسان جزء من العالم ، وهو محل النقش والعلامة اللتين هما الختمان لملك الملوك على الخزانتين .
كذلك الفصّ جزء من الخاتم ( وهو محلّ النقش والعلامة التي بها يختم الملك على خزانته وسمّاه خليفة من أجل هذا ، لأنّه الحافظ خلقه به ، كما يحفظ الختم الخزائن ، فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها ) أي فتح خزائن تلك الصور الوضعيّة ورفع أقفالها الرسميّة الجعليّة ، والاستكشاف عن وجوه اللطائف الذوقيّة المخزونة تحت أراضي تلك
الصور في خباياها ( إلَّا بإذنه ) المختصّ بخلَّص أخصّائه فعلم أنّ من تلك اللطائف والنفائس ما يمكن أن يحتظي به المأذونون من المؤتمنين والمحارم .
(فاستخلفه في حفظ العالم فلا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل ) بكماليه ، الذي بيديه أمر الختم على الخزانتين .
قال رضي الله عنه : ( ألا تراه إذا زال وفكّ الختم من خزانة الدنيا لم يبق فيها ما اختزنه الحقّ فيها ) من المعاني الوضعيّة والأحكام الشرعيّة الأصليّة منها والفرعيّة ( وخرج ) - أي طلع وظهر - ( ما كان فيها ) مقصودا من اللطائف المكمونة فيها والنفائس المخزونة تحتها ( والتحق بعضه ببعضه) الذي استخرجه المأذونون .
فإنّهم منذ ما وصل أفنان شجرة الوقت إلى بلوغ أوان ثمرتها على طبق ما وعد به العبارات المعربة للخاتم العربي صلَّى الله عليه وسلَّم .
لذلك الوقت قد أخذوا في إظهار شيء من لطائف تلك الخزانة وفتح أقفال مرموزاتها التي على أبواب دلالاتها المغلقة على حصون قلاع العقائد التقليديّة والرسوم العاديّة بحسب احتمال مزاج الزمان وقوّة هضمه لذلك الغذاء القوي ، متدرّجا من الأضعف إلى الأقوى .
والتحق اللاحق منه بالسابق ، إلى أن بلغ ميعاد فتح قسطنطنيّة العظمى ، فإنّه حينئذ ظهر تمام المراد ، وكمل أمر الإظهار وكفي الخلائق عن الموت والفساد والتكرار والترداد .
(وانتقل الأمر إلى الآخرة ، فكان ختما على خزانة الآخرة ختما أبديّا) .
وذلك لما عرفت أنّ من تلك اللطائف والنفائس ما كانت صورته في صدد الزوال والانتقال ، ومنها ما كانت معنويّة غير قابلة له ، والإنسان بطرفيه وما له من الكمالين هو الختم على الخزانتين ، وفيه إشارة إلى الختمين فلا تغفل .
ثمّ إنّه بعد تحقيق معنى آدم واستخراج ما في أساميه من الحقائق والأحكام المتطابقة بين الاسم والمسمّى ، أراد أن ينساق كلامه هذا إلى ما يتبيّن به ما هو بصدد تحقيقه ممّا ادعاه في صدر الكلام ، من « أنّ الملائكة من بعض جزئيّات قوى هذه الصورة الآدميّة ، وأنّها محجوبة بنفسها لا ترى أفضل منها » لئلا تعتري لطائف تحقيقاته عن ملابس الانتظام قائلا : ( فظهر جميع ما في الصورة الإلهيّة من الأسماء ) وهو عطف على قوله :
" فتمّ"  أي إذا تقرّر أنّه بوجوده تمّ دائرة خاتم العالم ، وبنقوش حقيقته انختم خزائن صور المعاني دنيا وآخرة ، يكون جميع الأسماء ظاهرة بالضرورة (في هذه النشأة الإنسانيّة فحازت) الصورة الإلهيّة ( رتبة الإحاطة ) بالحدوث والقدم.
( والجمع ) بين التفرقة والجمع ( بهذا الوجود ) الكوني ( وبه ) أي بهذا الوجود الكوني ، وترتيب مقدّمات نشأته الواقعة على صورة الشكل الأوّل البيّن المنتج لسائر المتقابلات والنقائض.
( قامت الحجة لله تعالى على الملائكة) فيما ادّعوا من استحقاقهم الخلافة وعدم استيهال آدم لها.
ثمّ بعد تحقيقه هذا أخذ في موعظة منه للطالبين من العاكفين على ما أعطاهم أفهامهم وأحوالهم من العلوم والمعارف ، موروثة كانت من أعمالهم أو مكتسبة لأفكارهم وأنظارهم ، تنبيها على أنّه ما من رتبة في العلم باللَّه إلَّا فوقها مراتب ، وتشويقا لهم بأنّه ما من منقبة يتوقّف عندها أهل العلم ويفتخر بها ، مطمئنّا لديها ، إلَّا وفوقها مناقب .
بقوله : ( فتحفّظ ، فقد وعظك الله بغيرك ، وانظر من أين اتي على من اتي ) على صيغة المجهول ، إنما يستعمل في المكاره .
وقوله رضي الله عنه : ( فإنّ الملائكة ) تعليل لقيام الحجّة بالإنسان على الملائكة وبيان لما اتي عليهم ، وأنّه من أين اتي عليهم .
وذلك أنّ الملائكة لمّا لم يكن لها قدم في النشأة الإطلاقيّة الجمعيّة التي إنّما تترتّب عليها الخلافة الإلهيّة ، وإنّما يؤسّس عليها أركان العبادة الذاتيّة ما أمكن لها الوقوف على أحكام تلك الخلافة ، ولا على لوازم تلك العبادة فلذلك (لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذه الخليفة ، ولا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحقّ من العبادة الذاتيّة ) التي لا موقف لأحد فيها غير الإنسان ( فإنّه ما يعرف أحد من الحقّ ) وما يصل بمساعي أقدام العبادة إلى حضرات قربه ( إلَّا ما تعطيه ذاته ) بحسب القابليّة الأولى والفيض الأقدس .
( وليس للملائكة جمعيّة آدم ) بحسب تلك القابليّة على ما بيّن ، ( ولا وقفت مع الأسماء الإلهيّة ، إلَّا التي تخصّها ) من الأوصاف العدميّة والأسماء التنزيهيّة التي عليها مواقف استقرارها ومواطن معرفتها ، ( وسبّحت الحقّ بها وقدّسته ، وما علمت أنّ لله أسماء ما وصل علمها إليها فما سبّحته بها ولا قدّسته) ضرورة أنّ تسبيح العبد للحقّ بحسب معرفته له فأكملهم معرفة أتمّهم تسبيحا وعبادة ، ومن هاهنا ترى العبادة الواردة في التنزيل مفسرة بالعرفان .
وإذ لا يخفى على من تصفّح كلام القوم أنّهم يشيرون إلى منتهى مقام العبد وآخر مراتب عروجه بـ « الموقف » و « الموطن » كما يشيرون ب « القدم » إلى خصوصيّة منهجه ومواطئ طريقه ومسلكه حيث يقولون : « فلان على قدم آدم » ، و « فلان على قدم إبراهيم » لا احتياج في تبيين معنى الوقوف هاهنا إلى تعسّف واضطراب  .
وإذا كان مقتضى جبلَّة الملائكة وما أعطته ذاتها إيّاها إنّما هو الأوصاف العدميّة والأسماء التنزيهيّة ، استولى عليها قهرمان هذا الاقتضاء.
قال رضي الله عنه : ( فغلب عليها ما ذكرناه ) من عدم الجمعيّة التي لآدم .
وعدم وقوفها مع الأسماء كلَّها وعدم العلم بأنّ للحقّ أسماء وراء ما عندها ( وحكم عليها هذا الحال ) ، أي غلبها أحكام هذا السلوب والأوصاف العدميّة ( فقالت من حيث النشأة ) أي نطقت لسان نشأتها هذه بقولها : ( "أَتَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها " ) مستنكرة للحق فيه .
ساعية لآدم بعدّ قبائح أوصافه العدميّة مثنية على أنفسها بعدّ محامد أوصافها السلبيّة كلّ ذلك من مقتضى نشأتها التي على محض التجرّد والتقدّس العدمي .
والدليل على أنّ ذلك القول إنّما صدر منها من حيث نشأتها أنّ ما نسبوه لآدم إنّما هو الفساد (وليس ذلك إلَّا النزاع ، وهو عين ما وقع منهم فما قالوه في حقّ آدم ) من الفساد ( هو عين ما هم فيه مع الحقّ . فلو لا أنّ نشأتهم تعطي ذلك ، ما قالوا في حقّ آدم ما قالوه ، وهم لا يشعرون ) .
أنّ ذلك القول هو عين ما نسبوه إلى آدم ، ضرورة أنّ صدور الآثار إذا كان من المبادي من غير شعور بها ولا رويّة ، دليل على أنّها من محض الجبلَّة ونفس الطبيعة .
( فلو عرفوا نفوسهم ) الجزئيّة بحقائقها وخصوصيّاتها ( لعلموا ) أن ذلك القول عين الإفساد ، وأنّ تجريح آدم به تجريح لأنفسهم ، ( ولو علموا ) ذلك ( لعصموا منه ) .
( ثمّ لم يقفوا بالتجريح) لآدم وعدّ مثالبه ، ( حتّى زادوا في الدعوى بما هم عليه من التقديس والتسبيح - وعند آدم من الأسماء الإلهيّة ما لم تكن الملائكة عليها ) كالأسماء الوجوديّة والأوصاف الثبوتيّة التي هي مقتضى طرف التشبيه ( فما سبّحت ربّها بها ، ولا قدّسته عنها تقديس آدم وتسبيحه ) ضرورة أنّ تقديسه في عين التشبيه ، الذي هو حقيقة التقديس كما أنّ تسبيحه في نفس الحمد ، الذي هو حقيقة التسبيح .
والفرق بين « التقديس » و « التسبيح » أنّ التسبيح تنزيه الحقّ عن طروّ الأوصاف ، والتقديس تطهيره عن شوائب النسب مطلقا ، فالأوّل له طرف الظهور ، كما أنّ للثاني طرف البطون ويؤيّد ذلك قوله تعالى : " إِنَّ لَكَ في النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا " ، وما يقال : «" سبحات الوجه وقدس الذات ".
ويلوّح عليه ظهور سين «السر» في «سبّح» ببيان حاء «الحمد » ، وفي « قدّس » قاف قابليّته دائر منه ظاهر به ، فله الحكم عليه ، ولذلك تراه مستقلَّا متفرّدا فيه وفي عدده ، وأمّا سبح : فله عقد العين الظاهرة  .
ويمكن أن يجعل قوله : «حتّى زادوا في الدعوى» إشارة إلى ما ادّعوا في تسبيحهم أنّه بالحمد ، فإنّه زيادة في الدعوى على ما هم عليه من التسبيح البحت الذي يقابله الحمد .
ثمّ إنّه قد ظهر ممّا بيّن أنّ منشأ مقابلة الملائكة لآدم ومعارضتها له ، إنّما هو نشأتها المجرّدة المقدّسة المائلة إلى طرف الإطلاق العدمي المقابل للتقييد من الجمعيّة الاعتداليّة القابلة لظهور الإطلاق الحقيقي التي لآدم ، فسقط ما قيل هناك : "إنّ الملائكة التي نازعوا آدم هي ملائكة الأرض والجنّ والشياطين لا غير" .
كيف ، وهم مسخّرون تحت قهرمان أمره وضبطه الجامع ، لقوله تعالى :"وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْه".
فلو خصّص نوع منها بتلك المقابلة لكان أهل الجبروت أولى بذلك من غيره على ما لا يخفى .
ثمّ ها هنا نكتة حكميّة تنطوي على أصل : وهي أنّ للعدم نسبة إلى الذات اختصاصيّة ، وللوجود إلى الوجه كذلك كما لا يخفى على الواقفين بالرموز الحرفيّة ألا ترى أنّ الأسماء التنزيهيّة أظهر دلالة على الذات ، كما أنّ الأوصاف الثبوتيّة أبين لزوما للوجه ، وهي مقتضية للخفاء والكمون ، كما أنّه يقتضي الظهور والبروز .
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فصّ حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 9:19 am

01 -  فصّ حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة 

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
01 - فصّ حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة  الجزء الثالث
وهذا الحكم له سريان في جميع المراتب ، ففي مرتبة الأفعال يظهر بصورة الأمر والنهي ، وفي مرتبة صورتها وأحكامها الشرعيّة المشعرة يسمّى بالطاعة والذنب ومما علم من هذه النكتة : سرّ العبادة الذاتيّة ووجه اختصاصها بالإنسان.
الغرض من ذكر القصص في القرآن
ثمّ اعلم أنّ القصص الواردة في التنزيل مؤدّاها ليست مقصورة على حكاية أمم وأشخاص في الأزمنة السالفة قد انقرضت بانقراضها كما هو مبلغ أفهام محابيس مطمورة الزمان من أرباب العقائد التقليديّة والرسوم الراسخة العادية .
حيث يقولون بألسنة اعتقاداتهم : « إنّها أساطير الأوّلين » جلّ عن ذلك بل إنّما هي حكاية أحوال الحقائق على ما هي عليه ، وبيان مراتب كمالها ، على ما نطقت به ألسنة استعداداتها المتشخّصة في الأفراد من الأزل إلى الأبد منطوية على جلائل الحكم ولطائف النكت ، كما يطلعك على شيء منها ما في قصّة مقابلة الملائكة المقدّسة مع الحقيقة الجمعيّة الآدميّة .
فإنّ من أفرادها من اكتنف بالخصائص الروحانيّة ، وتشخّص بالملكات الملكيّة ، حيث اعتزل عن الامتزاج مع بني نوعها والاختلاط بهم ، وترهّب عن تناول المستلذات وقضاء الشهوات فانفتح به عليه أبواب اللطائف القدسيّة ، وانكشف له من الحكم الإلهيّة والمعارف التنزيهيّة .
فهو الذي يقابل المحمّديين أرباب العدالة الحقيقيّة والملكات الإنسانيّة - من الواصلين إلى الأمر الوسط الجامع بين التجرّد والتعلَّق ، الحائز للتنزيه والتشبيه ، الذي عليه حقيقة التوحيد ، على ما هو موطن بلوغ الكمال الإنساني والخلافة الآدميّة .
فالمجرّد المترهّب لم يزل ينازعهم في استيهال تلك الخلافة ، ولذلك ترى ألسنة أحواله يفصح دائما عن مؤدى قوله تعالى : " أَتَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ".
الأدب مع الله تعالى
فأشار إلى ذلك بقوله : ( فوصف الحقّ لنا ما جرى لنقف عنده ) أي عند ادعاء الكمال ( ونتعلَّم الأدب مع الله تعالى ) في مواقف مخاطبته ( فلا ندّعي ما نحن محقّقون به ) بحسب القابليّة الأصليّة ( وحاوون عليه ) بالعلم الشهودي ( بالتقييد ) كما نقول في مشهدهم هذا مثلا : « نحن نسبّحك بتوفيقك ومشيّتك » أو «نسبّحك تسبيح تنزيه» (فكيف أن نطلق في الدعوى).
ونقول : « نحن نسبّحك » مطلقا عن أن نقيّد بالتوفيق من الله ومشيّته أو « نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ » ( فنعمّ بها ) أي بالدعوى ( ما ليس لنا بحال ) من إضافة الفعل مطلقا إلى أنفسنا ، وحالنا - نحن معاشر العبيد - على ما كان في العدم الأصلي ، فمصدريّتنا للأفعال إنّما يكون بتوفيق الله ومشيّته ( ولا نحن منه على علم ) من الجمع بين التسبيح والحمد وأدائه به (فنفتضح) لدى الاختبار .
قال الله رضي الله عنه : (فهذا التعريف الإلهي) لآدم في هذه القصّة (ممّا أدّب الحقّ به عباده الأدباء ، الأمناء ،الخلفاء) حتّى يقفوا عندما قال الله تعالى ولا يجاوزوا عن مقتضاه .
ولا يشيّعوا ما اطَّلعوا عليه من قبائح أعمال العباد وفواحشها.
ولا ينزّهوا أنفسهم عنها كلّ التنزيه ، وإن علوا على البريّة علوّ شرف ورفعة .
على الترتيب المشار إليه يعني الأدب والأمانة والخلافة.
فهذه ثلاث مراتب للعبد هي امّهات مواطن كماله ، قد أفصح التعريف الإلهي هذا عن آدابها كلَّها ، وأنت عرفت ما للثلاثة من النسبة الخصيصة بالكلمة الآدميّة ، فلا نعيد وجه تطبيقه هاهنا فلا تغفل .
ثمّ إنّ بعض المقصّرين من أفراد الإنسان لمّا اعتكفوا عند مرتبة القاصرين من الملائكة في التحقيق أعني الحكماء حيث قصّروا طريق العرفان على محض التنزيه .
وبنوا الأمر في ذلك على مجرّد التجرّد وصرف التقدّس ، أراد أن يكون الكلام في هذه الحكمة منساقا إلى ما ينبّههم على ذلك التقصير ويحرّضهم إلى العروج على مراقي الكمال الإنساني.
متنزّلا في ذلك إلى مسلمات قواعدهم وموضوعات أصولهم ، تأنيسا بهم في ذلك وتسليكا لهم إلى مدارج كمالهم تدريجا ، مؤميا فيها مع ذلك كلَّه إلى ما يتبيّن به حقيقة آدم وماهيّته العقليّة ، بعد تحقيق هويّته الخارجيّة .
فقال : ( ثمّ نرجع ) من بيان القصّة ولطائف إشاراتها ( إلى الحكمة ) الإلهيّة المبحوث عنها هاهنا ، وهي الكاشفة عن بيان ارتباط الأسماء الإلهيّة التي هي محلّ الاختبار والامتحان ، بين المتنازعين في الخلافة بالأعيان الكيانيّة ، وسريان حكم كلّ منهما في الآخر ، بتحقيق رقيقة الجمع بين الباطن والظاهر ، والأوّل والآخر .
قال رضي الله عنه : ( فنقول : اعلم أنّ الأمور الكلَّيّة ) الواقعة من حيث هي كذلك في الدرجة الثانية من التعقّل ، كالأوصاف المجرّدة عن الحقائق مثل الحياة والعلم وما يتبعهما أو المستندة إليها مثل الحيّ والعالم ( وإن لم يكن لها وجود في عينها ) .
فإنّه ليس للأمور الواقعة في تلك الدرجة وجود مستقلّ في عينها ، وهو المسمّى بالوجود الخارجي والعيني ( فهي معقولة معلومة بلا شك في الذهن ) وبيّن أنّ الكليّات لها طرف التنزّه المحض وهو الذي لها لذاتها به تعقل ، وطرف التعلَّق وهو باعتبار مدلوليّتها للفظ به تتخيّل ، وطرف الجامعيّة بينهما به تعلم وهو الواسطة .
فأشار إلى تلك الأطراف بترتيبها ، وحيث أنّ الذهن هو « الفهم » - لغة - يناسب إطلاقه على طرف مدلوليّتها وعلى سائر تقاديرها وأطرافها .
( فهي باطنة لا تزال عن الوجود العيني ) أي الأمور الكليّة التي هي المعقولات الثانية باطنة عن الوجود العيني أبدا لا تزال كذلك ، حيث لا يكون لها محاذى في العين البتة .
ثمّ إنّ هاهنا نسخا كثيرة متخالفة، والظاهر أنّها منتحلة من المستكشفين له، فطوينا الفحص عنها لظهور المقصود بهذه النسخة وتشوّش الأذهان بها .
ثمّ إنّ هاهنا نكتة حكميّة لا بدّ من التنبيه إليها، وهي أنّك عرفت أنّ الأسماء الإلهيّة عند توجهّها إلى كمال الظهور والإظهار لها حركة من فضاء اللطف منبع الإطلاق والعموم إلى مضيق الكثافة معدن القيد والخصوص إلى أن يتمّ الكمال بنوعيها
ومن ذلك ، التنزّل من الجنس العالي يعني الجوهر متدرّجا فيه إلى النوع السافل ، يعني الإنسان الذي بنقطة نطقة تتمّ الدائرة بقوسيها الكماليّين .
ثمّ إذا تذكَّرت هذا فاعلم أنّ كلا من تلك المراتب عالية كانت أو متوسّطة أو سافلة لها أوصاف كلَّية محصّلة بالذات ، هي مبادئ آثارها الخاصّة بها ، الفاصلة لها عمّا سواها ، وهو سبب تحصّل تلك المرتبة في الخارج بالوجود العيني بلحوقه لها ، مقوّمة إيّاها على ما بيّن في صناعة الحكمة ثمّ إذا ظهرت بالوجود العيني ، حصل من تلك المرتبة التي بمنزلة المادّة - حكم فيه ، ومن ذلك الوصف الذي بمنزلة الصورة أثر .
وإليه أشار بقوله : ( ولها الحكم والأثر في كلّ ما له وجود عيني ) .ويمكن أن يحمل « الحكم » على مقتضى الذاتيّات منها و « الأثر » على مقتضى الأعراض ، لكن الأوّل أتقن .
ثمّ إنّ المتبادر إلى الأفهام من هذه العبارة أنّه ليس من تلك الكليّات في الخارج إلَّا آثارها وأحكامها فقط ، فأضرب عن ذلك بقوله : ( بل هو عينها ) أي ما له وجود عيني ، عين تلك الأمور الكلَّية ، فإنّها هي الظاهرة بصورة الأثر حسبما اقتضاه الوجود العيني ( لا غيرها أعني أعيان الموجودات العينيّة ) .
ثمّ إنّ تلك الأمور الكليّة عندما تتحصّل ماهيّتها النوعيّة لها ثلاثة مدارج :
الأول منها تفصيل الأحكام والآثار التي هي بمنزلة المادّة والصورة، وهو حقيقة النوع وحده. 
والثاني الهيئة الجمعيّة بينهما، الرافعة للمغايرة، وهي النوع عينه .
والثالث تفصيل الأشخاص الخارجيّة، فأشار في طيّ عبارته إلى هذه المراتب، مضربا عن الأوّل بالثاني، مفسّرا إيّاه بالثالث.
تنبيها إلى أنّ التفصيل الأوّل اعتباريّ محض لا عبرة به ، وأنّ التفصيل الثاني هو عين الجمع ، وإلى أنّ الموجود العيني له وحدة جمعيّة كذلك ، وإلى غير ذلك من الدقائق فلا تغفل عنها .
فيكون التفسير للضمير المنفصل، لا للمتصل على ما هو الموجب للتوهّمات الباعثة على ارتكاب التمحّلات - كما التزمه البعض وهذا يناسب ما تسمعه من أئمّة النظر.
« إنّ سائر أقسام الكلَّيات موجود بوجود النوع عينه في الخارج كما أنّ النوع مع الشخص كذلك ، وإنّ ذلك التفصيل بين الكليّات وتميّزها إنّما هو في العقل » فهي معقولة (ولم تزل عن كونها معقولة في نفسها ) أي نظرا إلى نفس حقائقها الكليّة ، بدون اعتبار تعيّنها وكونها ذا وجود عينيّ ، فإنّها بذلك الاعتبار عين الموجود العيني .
( فـ ) تلك الكليّات ( هي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات ) وصورها المشخّصة الخارجيّة الكثيرة ، ( كما هي الباطنة من حيث معقوليّتها ) ومعانيها الكلَّية الذهنيّة الواحدة .
الحقائق الكلية معقولة دائما
ثمّ إذ قد تقرّر أنّ التأثير والحكم إنّما هو لما تبطَّن من المعاني ، وأنّ الوجود العيني عبارة عن ظهور تلك الكليّات بصور آثارها ( فاستناد كلّ موجود عيني ) من الأشخاص جسمانيّة كانت أو روحانيّة إنّما هو ( لهذه الأمور الكليّة التي لا يمكن رفعها عن العقل ) رفعا يستقلّ به في الوجود .
وهذا وصف عدميّ لها بنسبتها إلى العقل. وإلى ما لها بالنسبة إلى الخارج أشار بقوله : ( ولا يمكن وجودها في العين وجودا تزول به عن أن تكون معقولة ) .
فإنّه وإن قيل : « إنّ الطبايع الكليّة لها وجود في الخارج » ولكن في ضمن الهويّات الخارجيّة والأشخاص ، فغير زائلة حينئذ عن الكون العقلي ، ضرورة أنّ هذا التفصيل المستتبع لإثبات تلك الطبايع إنّما هو للعقل عند وجودها فيه .
وفي هذه العبارة إشارة إلى أنّ تلك الكليّات وسائر الماهيّات العقليّة إنّما هي أحوال وعوارض لباطن الوجود ، لازمة له ، غير زائلة عنه على عكس ما عليه جمهور أهل النظر وقد حقّق أصل هذه المسئلة إمامي وجدّي خاتم التحقيق في هذا الطور في « الحكمة المتقنة » وغيرها من الكتب ، من أراد ذلك فليطالع ثمة .
نسبة الموجودات العينية إلى الحقائق الكليّة
ثمّ إنّ صورة التثليث الكمالي الظاهر ملاك أمره في الكلمة هذه على ما وقفت عليه مرارا - قد سرت سورة حكمها في الكليّات التي هي باطن تلك الكلمة .
وإذ قد نبّهت منها على مقامين :
الأوّل هو الذي يكشف عن مدارجها الباطنة ،
والثاني عن مجاليها الظاهرة .
أخذ في تكميلها بالثالث ، وهو المبيّن لما يترتّب على تلك المدارج والمجالي ممّا يتّصف به الكلَّي في معقوليّته من الأحكام الإطلاقيّة ولما يتولَّد عند امتزاجهما من النسبة الجمعيّة .
وإذ قد فرغ عن تحقيق الوصفين بما ينبئ عن الجهة الإطلاقيّة التي لها ، حيث عبّر عنهما بالمفهومات العدميّة .
شرع في تبيين النسبة المتولَّدة التي اتّصف بها الكلَّي من حيث الأعيان ، وأشار إلى مبدأ تفصيل تلك الأعيان أوّلا أعني الزمان بقوله : (وسواء كان ذلك الموجود العيني مؤقّتا ، أو غير مؤقّت) أي حادثا زمانيّا أو قديما ( نسبة المؤقّت وغير المؤقّت إلى هذا الأمر الكلَّيّ المعقول نسبة واحدة ) ضرورة أنّ نسبة القدم والحدوث إليه على السويّة ، لإطلاقها عنهما ، وعلوّه عليهما .
قال رضي الله عنه : (غير أنّ هذا الأمر الكلَّي يرجع إليه حكم من الموجودات العينيّة ، بحسب ما يطلبه حقائق تلك الموجودات العينيّة) وذلك لأنّه عين تلك الهويّات العينيّة في الوجود ، فيكون مكتسبا منها سائر أحكامها ونسبها ، ( كنسبة العلم إلى العالم ، والحياة إلى الحيّ ) .
وإنّما اختير من الكليّات هذان المثالان لأنّ من لطائف ما اشتملت عليه هذه الحكمة الإلهيّة ، ما يتعلَّق بحقيقة الإنسان وبيان ماهيّته العقليّة على ما سلف لك في صدر البحث وهما أصل ما اشتملت عليه تلك الحقيقة أعني الحيوان الناطق على أنّهما هما الإمامان المقدّمان في حضرة جمعيّة الأسماء الإلهيّة ، وبهما قد اتّسقت الرقيقة الارتباطيّة بين الواجب والممكن .
(فالحياة حقيقة معقولة، والعلم حقيقة معقولة متميّزة عن الحياة كما أنّ الحياة متميّزة عنه . ثمّ نقول في الحقّ تعالى : « إنّ له علما وحياة » ، فهو الحيّ العالم) .
قال رضي الله عنه : (ونقول في الملك : « إنّ له حياة وعلما » ، فهو الحيّ العالم ونقول في الإنسان : « إنّ له حياة وعلما » فهو الحيّ العالم وحقيقة العلم واحدة ، وحقيقة الحياة واحدة ، ونسبتهما إلى العالم والحيّ نسبة واحدة .
ونقول في علم الحقّ : « إنّه قديم » ) ذاتا وزمانا.
( وفي علم الإنسان : « إنّه محدث » ) ذاتا وزمانا.
وفي علم الملك : " إنّه محدث ذاتا ، قديم زمانا " .
وإنّما طوى هذا المثال هاهنا لما ليس له كثير دخل في المبحث ، إذ الغرض الأوّل من تمهيد هذه المقدّمة أن يبيّن بها الجهة الارتباطيّة بين الممكن والواجب ويقلع بها موادّ عقائد الغالين في التنزيه الرسمي ، من الحكماء القاطعين بانتفاء تلك الجهة ، الحاسبين أنّهم هم الموفون بحقّ التنزيه .
ولذلك قال متمّما لبيانه : ( فانظر ما أحدثته الإضافة من الحكم في هذه الحقيقة المعقولة ، وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات والموجودات العينيّة) .
قال رضي الله عنه : (فكما حكم العلم على من قام به أن يقال فيه : « عالم » ، حكم الموصوف به على العلم بأنّه حادث في حقّ الحادث قديم في حق القديم ) حيث اتّصل من الطرفين .
أعني الباطن والظاهر رقيقة النسبة الحكميّة، نازلة من الأمر الكلَّى إلى الهويّة الموصوفة هي به، راجعة منها إليه، وانتظم بذلك صورة الدائرة المستدعية لسريان الأمر الجمعي، وتعاكس حكم كلّ منهما على الآخر بوجه (فصار كلّ واحد) من الباطن العقلي والظاهر العيني (محكوما به ، محكوما عليه) .
ثمّ إنّه يمكن أن يقال ها هنا : إنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو لم يكن الكلَّي عند اتّصافه بالوجود العيني منقسما مفصلا انقسام الجنس بفصله أو مجزّأ تجزية الأجزاء الخارجيّة وموادها بصورها المشخّصة وأمّا على تقدير ذلك فلا يلزم أن يكون محكوما عليه ، ضرورة أن كلّ قسم وجزء مخالف لآخر بالذات .
وبالجملة، كما أنّ الفصل يقسّم الجنس ويفصّله حقائق مختلفة, فلم لا يكون التعيّن له هذا السبيل بالنسبة إلى النوع ؟ فأشار إلى دفعه بقوله : ( ومعلوم )  ممّا نبّهت عليه من أنّ عين الأشياء الحاصلة من « كن » إنّما يتوقّف وجودها على انضمام كاف « الكلَّي » إلى نون تعيّناتها النوعيّة .
( أنّ هذه الأمور الكلَّية وإن كانت معقولة ) بهذا الاعتبار ( فإنّها معدومة العين ) من حيث هي كذلك ( موجودة الحكم ) فقط كما عرفت من أنّ الأوصاف حاكمة على من قامت به بذلك الوصف .
ولا يخفى على من سلمت ذائقة ذوقه عن شوائب الأخلاط الخارجيّة أنّه يمكن أن يكون الأمور في عدمها مبدأ للحكم ، محكوما بها ( كما هي محكوم عليها ، إذا نسبت إلى الموجود العيني ) وانتظم رقيقة التناسب من الطرفين انتظاما دوريّا ، فإنّه حينئذ يحصل منهما هيأة وحدانيّة تتّحد بها تلك الأمور
قال رضي الله عنه :  ( فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة ) بهذا الارتباط ، أي عند ظهور الكلي بالذات بصورة أثره في الأعيان معرّى عن عروض الكليّة إيّاه .
فعلم أنّ معروض الكلَّي بعينه في الأعيان ، كما علم من أضرابه السابق ، وإلَّا فالمطابق من العبارة أن يقال : « من الأعيان » ، فإيراد « في » ها هنا لهذه الدقيقة .
ثمّ إنّ معروض الكلَّي وإن قبل الحكم في الأعيان على ما مرّ ( و ) لكن ( لا تقبل التفصيل ) عقلا تفصيل الجنس بفصله فيه ( ولا التجزّي ) خارجا .
تجزية المواد الهيولانيّة والأجزاء الوجوديّة بصورها المشخّصة إيّاها فيه.
( فإنّ ذلك محال عليها ) أي على الأمور الكلَّيه ومعروضاتها ( فإنّها بذاتها في كلّ موصوف بها ، كالإنسانيّة في كلّ شخص شخص من هذا النوع الخاصّ ، لم تتفصّل ولم تتعدّد بتعدّد الأشخاص ) ، فلو كانت مفصّلة أو مجزّأة لكان في كلّ شخص منه حصّة جزئيّة منها ، أو جزء ، فلا تكون بذاتها فيه - على ما هو مقتضى الطبيعة النوعيّة المحصّلة بالذات ، وذلك هو الذي يصلح لعروض التشخّص إيّاه .
الحقائق الكلية غير موجودة في العين بصورتها الكليّة  
وتمام تحقيق هذا الكلام أنّ الطبيعة الجنسيّة لتوغَّلها في بطون الإبهام غير قابلة للتحصّل بذاتها ، ما لم ينضمّ إليها الطبيعة الفصليّة المحصّلة بالذات ، المقوّمة إيّاها طبيعة نوعيّة محصّلة ، ثم إذا تحصّلت الطبيعة النوعيّة في الوجود والعقل جميعا .
لا يطلب غير ما يشاربه إليها في الخارج والحسّ من الأعراض المتواردة على تلك الطبيعة ، المتعاقبة عليها على سبيل التبادل ، وهي باقية بعينها ، وتلك الأعراض هي المصنّفة للنوع ، المشخّصة إيّاه ، وبيّن أنّها لا يمكن أن تكون داخلة فيه ولا في جزئيّاته .
هذا على لسان أهل النظر من المشّاءين وأمّا على لسان التحقيق ، فإنّك عرفت أنّ العوارض المشخّصة وما يتبعها ، إنّما هو أفياء أشعّة الوحدة الإطلاقيّة وظلال أضوائها ، وهي ظاهر الوجود ، المسمّى بالنور فتحفّظ فإنّها من الحكم التي قد خلت عنها الكتب والزبر . هذا في الطبيعة النوعيّة ، وكذلك حكم سائر الكليّات الباقية  .
هذا إذا كان التكثّر فيه على سبيل التفصيل ، وأمّا إذا كان على طريقة التجزّي فظاهر البطلان أيضا .
فإنّ التجزي والتعدد إنّما يتصوّر في الموجود العيني ، أو ما له محاذى ومناسب في العين ، والكليّات مما وقع في المرتبة الثانية من التعقّل ، ليس لها ذلك . فقوله : ( ولا برحت معقولة ) عطف على قوله :" لم يتعدد" على سبيل الكشف والبيان  .
وإذ قد عرفت أنّ سوق هذه المقدمات إنّما هو نحو إلزام الجاحدين للجهة الارتباطيّة بين الممكن والواجب من أهل النظر وأرباب العقائد التقليديّة الواقفين عند مواقف الملائكة المقدّسة ، بادعائهم أنّهم هم المنزّهون لله تعالى حقّ التنزيه أفصح عن التقريب الأوّل.
بقوله : ( وإذا كان الارتباط بين من له وجود عيني وبين من ليس له وجود عيني ، قد ثبت - وهي نسب عدميّة - فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل ، لأنّه على كلّ حال بينها جامع - وهو الوجود العيني - وهناك فما ثمّ جامع - وقد وجد الارتباط بعدم الجامع - فبالجامع أقوى وأحقّ ) ، فـ « هي » يحتمل أن يجعلها عائدة إلى « الارتباط » ، وأن يرجع إلى « من ليس » وهذا أنسب بما هو في صدده .
افتقار الممكن إلى الواجب
ثمّ إذ قد بيّن الجهة الارتباطيّة بين الباطن والظاهر وما في العقل لما في الخارج ، يريد أن يبيّن تلك الجهة بين الموجودات العينيّة ، ربطا بين الأوّل والآخر على وجه ينساق إلى إثبات الواجب ، وإلى أن نسبة غيره إليه بالعبوديّة وسبب تسميته عبدا ، وغيره من الأحكام - كل ذلك بلسان أهل النظر .
فأشار إلى تلك الأمور كلَّها بقوله : ( ولا شكّ أنّ المحدث قد ثبت حدوثه وافتقاره إلى محدث أحدثه لإمكانه لنفسه ) وكلّ ما هو ممكن لنفسه مفتقر إلى ما يرجّح أحد طرفيه ، فالحادث مفتقر إلى ما يرجّح وجوده ويوجده ( فوجوده من غيره ، فهو يرتبط به ارتباط افتقار ) .
ولا يخفى أنّ هذا إنّما يكون جهة ارتباطيّة بين الممكن والواجب أن لو كان ذلك المحدث المفتقر إليه هو ، يجب أن يكون واجبا ، وإذ كان ذلك غير منحصر في الواجب عند الذاهبين إلى التنزيه ، أشار إلى إثبات ذلك تتميما لما هو بصدده وإثباتا لحدوث العالم وإبطالا لقاعدة العليّة التي هي معاقد قواعدهم.
بقوله : ( ولا بد أن يكون المسند ) افتقار الحادث ( إليه واجب الوجود لذاته غنيّا في وجوده بنفسه ، غير مفتقر ) وإلَّا يلزم أن يكون الحادث مفتقرا في الوجود إلى مفتقر بالذات مثله ، وذلك بيّن البطلان .
لا يقال : لم لا يجوز أن يكون المفتقر بالذات واسطة بين الحادث وبين الواجب بالاستفاضة ؟
لأن الواسطة لما كانت مفتقرة في وجودها بالذات لا يصلح لأن يكون واسطة في استفاضة الوجود أصلا ، وإن أمكن أن يتوسّط في غيرها من الشرف وعلوّ الرتبة ، فإنّ الذي انتسب إليه افتقار الحادث في الوجود ، لا بد وأن يكون معطيا له بذاته ( و ) الواجب ( هو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث ، فانتسب إليه ) ضرورة .
أحكام الممكن عند أهل التحقيق
ثمّ بعد نفي تلك القواعد يشير إلى امّهات أصول التحقيق مما يتعلَّق بهذه الحكمة :
منها : إنّ الممكن لمّا كان مقتضى ذات الواجب ، لا بدّ وأن يكون واجبا ، ضرورة أنّ مقتضى الذات ضروري ، فيكون مطلق الوجوب أيضا من الجهة الارتباطيّة بينهما ، إلَّا أنّ وجوب الواجب لذاته ووجوب الممكن به .
فأشار إلى هذا بقوله : ( ولما اقتضاه لذاته كان واجبا به ) .
ومنها : إنّ استناد الممكن في الافتقار والاستفاضة لما كان إلى الواجب الظاهر هو عنه لذاته ، اقتضى أن يكون الممكن مثله في جميع ما نسب إليه إلَّا الوجوب الذاتي ، وذلك لأنّ ما ظهر عن المبدء لذاته لا بدّ وأن يظهر المبدء به بذاته ، ويكون مظهرا لها بجميع مقتضياتها ، وإلَّا ما كان ظاهرا عن المبدء لذاته ، بل بواسطة ما ظهر به من المقتضيات .
كما يطلعك على ذلك ظهور الكلام الجامع للكل عن الإنسان من حيث الجمعيّة الكماليّة التي له .
وإلى ذلك أشار بقوله : ( ولمّا كان استناده إلى ما ظهر عنه لذاته اقتضى أن يكون على صورته ، فيما ينسب إليه من كلّ شيء من اسم وصفه ، ما عدا الوجوب الذاتي ، فإنّ ذلك لا يصحّ في الحادث ) للمنافاة الضروريّة بين الضرورة الذاتيّة والإمكان الذاتي ، فالحادث بحسب وجوده الموجود به ( وإن كان واجب الوجود ، ولكن وجوبه بغيره ، لا بنفسه ) .
فلئن قيل : سائر ما في الحادث من الصفات كذلك ليست عين ما في الواجب - كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها - ضرورة أنّ الحادث حاكم عليها بالحدوث كما مرّ ، فما وجه تخصيص الوجوب بذلك ؟
قلنا: هو أنّ الحادث يمكن اتّصافه بسائر تلك الصفات بالذات ، دون الوجوب ، فإنّه لا يتّصف به إلَّا بملاحظة نسبته إلى الواجب ، وذلك لأنّ الوجوب طرف ظاهريّة الوجود ، وليس للممكن منها نصيب كما عرفت .
حد التشبيه
ثمّ لمّا مهّد هذا الأصل ، يشير إلى ما يتفرّع عليه من الأحكام ، مؤيّدا بما في التنزيل من الآيات الدالَّة عليها ، تأسيسا لذلك الأصل وتشييدا لما يبتنى عليه من أمر امّهات الأسماء التي هي بمنزلة المبادئ للمسائل المبحوث عنها في هذه الحكمة على ما عرفت .
أعني الإضافيات الأربع التي لها الإحاطة بجميع الأسماء الإلهيّة منها والكونيّة والدلالة على سائر الطرق التنزيهيّة منها والتشبيهيّة .
فقال رضي الله عنه : ( ثمّ لتعلم أنّه لمّا كان الأمر على ما قلناه من ظهوره بصورته ) أي ظهور الحادث بصورة الواجب ( أحالنا تعالى في العلم به على النظر في الحادث ) نظر تدبّر وتفكَّر ( وذكر أنّه أرانا آياته فيه ) آفاقا وأنفسا ( فاستدللنا بنا عليه ) استدلال شهود وتيقّن ، ( فما وصفناه بوصف إلَّا كنّا نحن ذلك الوصف ) بعينه ، ضرورة أنّ الأوصاف الكليّة موجودة بوجود الحوادث الجزئيّة - كما سبق بيانه (إلَّا الوجوب الخاص الذاتي) لما عرفت أنّه ليس للممكن فيه حظَّ أصلا .
ثمّ هاهنا دقيقة لا بدّ لمستكشفي رموز الكتاب من الوقوف عليها ، وهي أنّ من امّهات الأوصاف المشتركة بين الواجب والحادث - الظاهر بصورته الذي هو مثله السمع والبصر، لقوله تعالى : "لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ".
فلذلك بعد تحقيق معنى المثليّة أشار إلى ذينك الوصفين على طريق الاستدلال كما هو مسلك هذا الفصّ
بقوله رضي الله عنه : ( فلمّا علمناه بنا ) أي بوجودنا وحقائقنا ( ومنّا ) أي من أوصافنا ولواحق حقائقنا ( نسبنا إليه كلّ ما نسبناه إلينا ) ، ضرورة أنّ ذلك لو لم يكن مشتركا ما علم به .
ثمّ إنّ الواقفين في مواقف العقائد التقليديّة ، والعاكفين لدى الرسوم الوضعيّة والأصول الاصطلاحيّة إذ لم يتفطَّنوا لذلك الاستدلال ، قاصرين عن الوصول إلى طريقه الموصل إلى الحقّ ، جاهلين به وبحقيّته ، حائرين في ذلك ، أرشدهم إليه بأنّ هذا الاستدلال ليس ممّا اختلقه أهل الذوق ، إذ به نطق الزبر المنزلة السماويّة على قلوب القوابل لنا .
( وبذلك وردت الإخبارات الإلهيّة على ألسنة التراجم إلينا ) فإنّ تلك الألسنة هي صور وجوه العبيد المحدثين ( فوصف نفسه لنا بنا ) حيث تبيّن أنّا نحن عين أوصافه من العلم والحياة وما يتبعهما .
وقد ظهر من ذلك العين ما ورد في التنزيل : " سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّه ُ الْحَقُّ ". " وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله ". و " من عرف نفسه فقد عرف رب " .
( فإذا شهدناه ) في مواقف قرب النوافل ( شهدنا ) في مشاهد سمعنا وبصرنا بما ورد : « كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به » ( نفوسنا وإذا شهدنا ) في مواقف قرب الفرائض ( شهد نفسه ) في مشهد سمعه ، كما ورد : " سمع الله لمن حمده " .
التنزيه
وإذ قد انساق كلامه في الجهة الارتباطيّة بين الواجب والممكن إلى موطن الاتحاد المفصح عن صرف التشبيه ، لا بدّ أن يستردفه بما ينبئ عن التنزيه ، جمعا بينهما وأداء به عن التوحيد الذاتي حقّه ، على ما جرت عليه الكلمة الكماليّة الختميّة ، كما ستقف عليه.
فإليه أشار بقوله  رضي الله عنه : ( ولا شكّ أنّا ) أي الحوادث الإمكانيّة ( كثيرون بالشخص والنوع ، وأنّا ) أي الأفراد الإنسانيّة منها ( وإن كنّا على حقيقة واحدة تجمعنا ) بوحدتها العينيّة التي لا تقبل التفصيل ولا التكثّر  بالذات كما بيّن ، ( فنعلم قطعا أنّ ثمّ فارقا به تميّزت الأشخاص بعضها عن بعض ، ولولا ذلك ) الفارق ( ما كانت الكثرة في الواحد ) .
( فكذلك أيضا ) فيما نحن فيه ، فإنّه ( وإن وصفناه ) أي الحقّ في الموطنين المذكورين ( بما وصف به نفسه من جميع الوجوه ، فلا بدّ من فارق ) به يتميّز الوصفان ،( وليس ) ذلك الفارق (إلا افتقارنا إليه في الوجود وتوقّف وجودنا عليه لإمكاننا وغناه عن مثل ما افتقرنا إليه) .
أي انحصر الفارق في الافتقار في الوجود ، والغناء عنه .
فإنّ الغناء المطلق لا يصح فيما اعتبر فيه نسبة من النسب أصلا ، فما اختصّ به ذات الممكن هو الافتقار الذي به افترق عن الواجب وتكثّر ، ومنه بعد عنه وسمّي عبدا .
كما أنّ ما اختصّ به الواجب هو الغناء عن مثل ذلك ، وهو الذي به يتقدّم ذاتا ورتبة ، ويتّصف بالوحدة الحقيقية الذاتية ، لا العدديّة الإضافيّة .وفي هذا الكلام تلويح غير خفيّ .
( فبهذا ) الفارق (صحّ له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأوّليّة التي لها افتتاح الوجود عن عدم) على ما يلزم أرباب العقائد التقليديّة فيما اعتقدوه في الواجب من الصورة المحصورة المقيّدة ، والوجه الجزئي الجعلي تعالى عن ذلك علوّا كبيرا وذلك لأنّ الأوّليّة في تلك الصور إنّما يتصوّر إذا كان لها افتتاح الوجود عن عدم .
لا يقال : "الأوّليّة إنّما تقتضي السابقيّة على الكل ، لا المسبوقيّة" .
لأنّ الأوّليّة مفهومها مركب من نسبة وجوديّة هي السابقيّة المذكورة ، ومن أخرى عدميّة ، هي اللامسبوقيّة بآخر ، وبيّن أنّ الأوّل على ما اعتقدوه في تلك الصور إذا لم يكن بحسب الزمان على ما اتّفقوا عليه - لا بدّ وأن يكون بحسب الذات والوجود ، وهو معنى الافتتاح المذكور .
هذا ما يلزم أرباب العقائد العقليّة المحصورة.
بخلاف ما انكشف لأولي الألباب من الانشراح الصدريّ العلميّ ، فإنّه يتصوّر فيه الأوّليّة بالمعنى الذي يستلزمه الغناء والوحدة الذاتيّة ، من استناد افتقار الممكنات في الوجود إليه وتقدّم الواجب في انتساب الوجود له.
فقال رضي الله عنه :  ( فلا ينسب إليه ) الافتتاح المذكور ، ( مع كونه الأوّل ) ضرورة أنّ الغناء المطلق يأبى اعتبار النسبة فيه مطلقا .
( ولهذا قيل فيه : الآخر ) جمع بين المتقابلين بوحدته الإطلاقيّة ( فلو كانت أوّليّته أوّليّة وجود التقييد ) بأن يكون افتتاح سلسلة الأعيان الممكنة في الوجود منه على ما عليه مسلك أرباب العقائد العقليّة مطلقا تقليديّة أو برهانيّة نظريّة .
( لم يصح أن يكون الآخر للمقيّد ، لأنّه لا آخر للممكن ، لأنّ الممكنات غير متناهية فلا آخر لها ) أصلا ، لا دنيا ولا آخرة ، إذ الحوادث اليوميّة غير متناهية اتفاقا ، وظاهر أنّه لا يستلزم ذلك قدم الدنيا - كما توهّمه البعض - فإنّ نسبة الزمان بمعزل عن هذه الأوليّة والآخريّة كما لا يخفى.
( وإنّما كان آخرا لرجوع الأمر كلَّه إليه بعد نسبة ذلك إلينا ) ، كما أنّه إنّما كان أوّلا لبدء ذلك الأمر منه قبل نسبته إلينا ، ( فهو الآخر في عين أوّليّته ، والأوّل في عين آخريّته ) ضرورة أنّ بدء الأمر في الافتقار المذكور منه إنّما هو عين رجوع الأمر كلَّه إليه كما أنّ رجوع أمر الانتساب إليه هو عين البدء منه ، ومن هاهنا تبيّن ظهور الكثرة في الواحد ببدئها منه ورجوعها إليه .
وصورة ذلك هي الدائرة الكاملة ، المبتدأ فيها بالنقطة المنتهية إليها ، ولذلك إذا استقصيت الحروف وجدت ما اشتمل منها على تلك الصورة رقما هو الهاء ، ولفظا هو الواو ، والمركب منهما « هو » المحمول عليه الاسمان تنبّه .
ثمّ إذ قد بيّن من الأسماء الأربعة المذكورة الأولين منها الدالين على التنزيه حان أن يبيّن الآخرين، الدالَّين منها على التشبيه، إتماما لما هو بصدد بيانه .
ولمّا كان مبنى أمر التشبيه على الجهة الارتباطيّة كما عرفت، وهي على ضروب :
منها ما هو بنفسه مشترك اشتراك اتحاد وذلك إنّما يكون في الأسماء الأول الذاتيّة - كما سبق في العلم والحياة وهما اللذان مؤدّاهما في هذا السياق الباطن والظاهر، وذلك إنّما يكون على ما تقرّر بصدقه على أفراده وجزئيّاته العينيّة ب « هو هو » ، كالغيب والشهادة من العالم بالنسبة إلى الباطن والظاهر منه .
ومنها ما هو بآثاره المترتّبة وأحكامه التابعة هي الرابطة ، كالخوف والرجاء من العالم بالنسبة إلى الغضب والرضا منه ، وذلك إنّما يكون في الأوصاف والأسماء الأخيرة .
ومنها ما هو بصورة وأمثلته التي هي أنهى غايات تلك الآثار رابطة ، كالهيبة والانس من العالم بالنسبة إلى الجلال والجمال منه .
وذلك إنّما يكون في الأسماء الجامعة الإلهيّة .
وأشار إلى ذلك بقوله : ( ثمّ ليعلم أنّ الحقّ وصف نفسه بأنّه ظاهر ، باطن ، وأوجد العالم عالم غيب وشهادة ) وإذ قد تقرّر أنّ الجهة الارتباطيّة والرقيقة الجمعيّة الاتحاديّة ما سرت بين أمرين إلَّا وتولَّد منهما نتيجة .
وهو الذي عبّر عنه لسان الاصطلاح بـ « النكاح الساري في جميع الذراري » .
قال : ( لندرك الباطن بغيبنا ، والظاهر بشهادتنا ) إشارة إلى نتيجة سريان هذه الجهة الارتباطيّة ، ولأنّها بنفس طبايعها وجزئيّاتها هي الرابطة ، أنتج الإدراك الذي هو الاتّصال والاتّحاد .
( ووصف نفسه بالرضا والغضب ، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء ، فنخاف غضبه ونرجو رضاه ) هذه الجهة دون الأوّل في الربط ، ولذلك ما أنتج غير النسبة والإضافة .
ووصف نفسه بأنّه جميل وذو جلال ، فأوجدنا على هيبة وانس ) هذا آخر مراتب تنزلات الجهة المتّصل بالأول بحكم الأمر الدوري ، فلذلك ما صرّح بالعالم هاهنا ، بل أدرج النتيجة في أحد المرتبطين .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فصّ حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة الجزء الرابع .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 9:21 am

01 -  فصّ حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة الجزء الرابع .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة 

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
01 - فصّ حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة  الجزء الرابع
أقسام السالكين
واعلم أنّ من لطائف ما يشعر به هذا التفصيل وبدايع دقائقه بيان درجات رتبة المستكملين إجمالا ، والإشارة إلى تفاوت ما يستحصل كلّ منهم بحسب استعداداته وطرق مناسباته :
فإنّ منهم من سلك التروح والتقدّس ، وهو الذي رابطة مناسبته بالمبدأ ووسيلة استفاضته منه محض التجرّد والتبتّل ، ومحافظة غيب روحه عن مخالطة التعلَّق والتكدّر ، وغايته الاتّصال بالملكوت الأعلى  والتحقّق بالحقائق التنزيهيّة .
ومنهم من انغمس منه تلك الجهة في العلائق الهيولانيّة ، واستهلكت لطيفته الروحانيّة تحت الكثائف الجسمانيّة وانحصر رقائق مناسبته في ارتكاب ما يرتجى به رضاء الحقّ من الأوامر ، واجتناب ما يخاف به عن غضبه من المناهي وغايته نيل ما يستعقب الرضاء من دخول الجنّات والاحتظاء بالمستلذّات والسلامة عمّا يستتبع الغضب من ورود الجحيم ومكارهها من العذاب الأليم .
ومنهم من امتزج بين التروح والتعلَّق واعتدل غاية الاعتدال ، وتناسب بتلك الجمعيّة المبدء الحقّ ، فيطوي مسافة الروابط والرقائق بجواذب الجذبات الإلهيّة ، ومطايا الواردات العشقيّة ، وهذا هو الطريق المختصّ بالإنسان ، وفي عبارة الشيخ إشارة إليه فلا تغفل.
تسمي الحق تعالى بالأسماء المتقابلة ومعنى اليد
(وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى) من الأوصاف (ويسمّى به) من الأسماء لا يخلو عمّا يشعر بالتقابل ، وذلك لما في الإطلاق من لزوم الاعتبارين المتضادّين له وفيه كما عرفت في المقدّمة فيلزم أن يكون كلّ صفة للحقّ لها مقابل يتّصف بهما معا .
(فعبّر عن هاتين الصفتين بـ « اليدين » اللتين توجّهتا منه على خلق الإنسان الكامل) لما فيهما من التقابل ، واختصاص كلّ منهما بجهة من المؤثر عند توجّهه نحو التأثير والفعل ، واحاطتهما جملة على كلّ ذلك المتوجّه إليه ، وفي استعمال التوجّه بـ « على » استشعار معنى الإحاطة والعلوّ .
ووجه اختصاص الإنسان الكامل بالتوجّه المذكور ( لكونه الجامع لحقائق العالم ) يعني رقائق نسبه المعنويّة ولطائف روابطه الامتزاجيّة ( ومفرداته ) أي أعيان جزئيّات العالم وذوات أفراده كما سلف لك بيانه .
وهاهنا تلويح يطلعك على استكشاف ما في هذا الموضع من التحقيق :
وهو أنّ الظاهر والباطن الَّذين عليهما ابتنى مباني حقائق التشبيه قد كمل ظهورهما في الإنسان الكامل بما لا مزيد عليه أصلا ، وذلك لأنّ الصورة والمعنى قد انختم أبواب تمامهما فيه بالختمين ، فهما اليدان ، فلا تغفل عن تحليله  .
العالم حجاب على نفسه
ثمّ إذ قد تقرّر أنّ الإنسان الكامل صاحب أحديّة جمع الظاهر والباطن ، وهي لبطونها بمنزلة الروح في خلافة التأثير وإنفاذ الأمر , لما مرّ غير مرّة.
قال رضي الله عنه : ( فالعالم شهادة ) بالنسبة إليه (والخليفة غيب ولهذا يحجب السلطان) ليظهر قهرمان حكمه بنفوذ الأمر .
( ولهذا وصف الحقّ نفسه بالحجب الظلمانيّة ، وهي الأجسام الطبيعيّة والنوريّة ، وهي الأرواح اللطيفة ) .
فيما روي عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم : "إنّ لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" .
( فالعالم بين كثيف ولطيف ) لا يخلو أمره عنهما ( وهو عين الحجاب على نفسه ) ضرورة أنّه هو الحاجب ، ولا محجوب به غيره (فلا يدرك) العالم حينئذ (الحقّ إدراكه نفسه) ضرورة أنّه إنّما يدركه من وراء الحجاب ، وذلك هو الأوصاف المشتركة بين الحقّ والعالم ، التي هي عين العالم كما سبق بيانه .
(فلا يزال في حجاب لا يرفع) لامتناع رفع الشيء عن نفسه، فالعالم أبدا في حجاب نفسه (مع علمه بأنّه متميّز عن موجده بافتقاره) إليه واستغنائه عنه .
وهذا معنى تسبيح الأشياء للحقّ، فهو إنّما يعلم الموجد بصفة الاستغناء من وراء حجاب الكبرياء، فعلمه به من حيث الأوصاف العدميّة، لا غير .
( لكن لا حظَّ له في وجوب الوجود الذاتي الذي ) هو من الأوصاف الثبوتيّة ( لوجود الحقّ ) لما نبّهت عليه أن علمه إنّما يتعلَّق بالأوصاف التنزيهيّة ، ولا دخل له في الأوصاف الثبوتيّة أصلا (فلا يدركه أبدا ) .
(فلا يزال الحقّ من هذه الحقيقة) يعني الوجوب الذاتي وما يستتبعه من الأوصاف الثبوتيّة المختصّة بالحق (غير معلوم) للعالمين ، (علم ذوق وشهود) فإنّه إنّما يعلم إذا علمه علم تقليد واستدلال ، ومن ثمّة يرى العقل من حيث هو هو لا يجاوزهما ، فإنّ العالم من حيث هو عالم لا يمكن له استحصال العلم الذوقي (لأنّه لا قدم للحادث في ذلك) ، فمن علم منهم تلك الحقيقة فإنّما يعلمها بالحق من نوره الفائض من صورته ، لا من صورة العالم .
الإنسان الكامل هو الخليفة
وإذ قد ظهر معنى اليدين وشمولهما لصنوف المتقابلين ( فما جمع الله لآدم بين يديه إلَّا تشريفا ) له بكمال خلقته وترشيحا لشجرة رتبته ببلوغها لاستجماع الثمرة معها ، ( ولهذا قال لإبليس ) توبيخا له وتعريضا بنقصان خلقته منه : ( " ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ " ).
عند ظهور الإباء ، الذي هو مقتضى نشأته الناقصة عن إدراك كمال جمعيّة آدم والانخراط في سلك كليته والانقهار تحت قهرمان سلطانه .
( وما هو إلَّا عين جمعه بين الصورتين : صورة العالم ) المشتمل عليها نشأة تفرقته الظاهرة (وصورة الحق ) المشتمل عليها نشأة جمعيّته الباطنة ( وهما يدا الحق . وإبليس جزء من العالم لم يحصل له هذه الجمعيّة ) يعني جمعيّة اشتمال اليدين ، إذ ليس له نصيب إلَّا من أحد اليدين ، أعني صورة العالم ولهذا غلب عليه الأوصاف العدميّة ، كالإباء والإغواء ، والقسم بالعزّة ، والاستغناء .  وأمّا آدم فهو مشتمل على الصورتين
فقال رضي الله عنه : ( فلهذا كان آدم خليفة ، فإن لم يكن ظاهرا بصورة من استخلفه فيما استخلفه فيه ) .
من وضع الصور وإظهارها ، والكشف عن كنه مراده منها ( فما هو خليفة ) ضرورة أنّ الخليفة هي المنفّذة لأحكام المستخلف إلى أن ينساق إلى غايتها المراد منها .
فلزم من هذه الشرطيّة الأمر الأوّل وهو اشتماله على صورة الحق .
كما لزم الثاني من قوله : (وإن لم يكن فيه جميع ما يطلبه الرعايا التي استخلف عليها ) فما هو خليفة أيضا وحذف التالي اكتفاء بما سبق منه وبيان الشرطيّة واضح ( لأنّ استنادها ) أي الرعايا ( إليه ، فلا بدّ أن يقوم بجميع ما تحتاج إليه ، وإلَّا فليس بخليفة عليهم ) .
( فما صحّت الخلافة إلَّا للإنسان الكامل ) باشتماله الصورتين ، واحتوائه النشأتين ( فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره . وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى ،
ولذلك قال فيه : « كنت سمعه وبصره » . وما قال : « كنت عينه واذنه » ففرّق بين الصورتين ) تمييزا لليدين وتفصيلا لما يتعلَّق بهما من الأحكام المتقابلة والأوصاف المتناقضة . وهذا إنّما هو من سعة قابليّته الذاتيّة .
( وهكذا هو في كل موجود من العالم بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود لكن ليس لأحد مجموع ما للخليفة ، فما فاز إلَّا بالمجموع ) أي الَّذي فاز به الإنسان إنّما هو المجموع - لا غير - فإنّ غير ذلك مشترك بينه وبين العالمين - فالحصر على ظاهره .
عموم سريان الحقّ والحقائق الكلية في العالم
وأمّا بيان عموم سريانه للعالم فهو أنّه موجود ( ولولا سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان للعالم وجود ، كما أنّه لولا تلك الحقائق المعقولة الكلَّية ) كالعلم والحياة ( ما ظهر حكم في الموجودات العينيّة ) منها .
فلا يكون في الأعيان ما له حياة وعلم ، فكما أنّ ظهور أحكام تلك الحقائق من الأعيان يستدعي عموم سريانها فيها فكذلك ظهور حكم الوجود من العالم يقتضي عموم سريانه فيه .
وقوله : « بالصورة » - متعلَّق ب « السريان » - فيه تنبيه على أنّ نسبة السريان المذكور إلى قوسي الإلهي والكياني والصور ، والمعنى متساوية ، لا أنّ ذلك للمعنى أوّلا ، ثمّ للصورة به  على ما هو المتبادر إلى أفهام الأكثرين فالوجود لتلك الحقائق من الجهات الاتحاديّة بين الحقّ والعالم والوجوه الاشتراكيّة بينهما ، إلَّا أنّ الوجود للعالم ليس ذاتيّا له بخلاف الحق .
قال رضي الله عنه : ( ومن هذه الحقيقة كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده ) كما أنّ الافتقار منه إليه في ظهوره ، فالافتقار أيضا من تلك الجهات .
وبيّن أنّ هذا الظهور من الإجمال مما يأباه الأحكام الظاهرة والأوضاع التشريعيّة الفارقة ، كما سيشير إليه في معنى قوله تعالى : " يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ " .
فما ناسب لبيانه إلَّا القرائن الشعريّة والتواليف المنظومة الجامعة كما أومأنا إليه فلذلك غيّر مسلك التعبير.  
إلى قوله : ( فالكلّ مفتقر ما الكلّ مستغن ) اعلم أنّ « الكلّ » في عرفهم إنّما يطلق على الحق باعتبار الأسماء ، كما أن « الأحد » يطلق عليه باعتبار الذات ، ويقال : "أحد بالذات ، كلّ بالأسماء "  فالكل من العالم والحق بهذا الاعتبار له الافتقار .
وليس من شأن الكل الاستغناء ، ضرورة أن الكلية هي النسبة الإضافية المستدعية للافتقار؛ فالح باعتبار كلية أسمائه وتفاصيل كمالاتها ، له الافتقار ضرورة .
( هذا هوالحق قد قلناه ، لا نكني ) عن أمثاله في نظم الإجمال ، كما في نشر التفاصيل ، على ما هو المشار إليه بقوله : «إن العالم مفتقر إلى الحق في وجوده» ؛ فإنه إذا تقرر أن المفتقر إنما يفتقر في الوجود ، يستلزم افتقار الكل فيكون كناية.
وذلك لأن الغناء التام الذي لا يمكن أن يتطرق شوائب الاحتياج والافتقار فناء عزته وسلطانه المتفرد هو الذي في ضمن الافتقار لاغير وقد سلف ما هو أصل لهذا ؛ فقوله :
( فإن ذكرت غنيا لا افتقار به   ..... فقد علمت الذي بقولنا نعني )
إشارة إليه ، ويحتمل أن يجعله إشارة إلى طريق استحصال ذلك العلم ، أعني اشتراك نسبة الافتقار الذي غزل الفكر والنظر عن أن يتوصل به إليه .
هذا حكم الإجمال ؛ وأما لدى التفاصيل فلكل من الأعيان القابلة للعالم ارتباط بأسماء الحق ، كما أن لكل من تلك الأسماء بها ارتباط .
فانتظام أمر العالم واتصاله به مما لايتصور فيه الانقطاع ولا الانفصال أصلا .
(فالكل بالكل مربوط، فليس له عنه انفصال خذوا ما قلته عني)
قال رضي الله عنه : ( وقد علمت ) مما سبق في بيان حقيقة العالم وجهتيه الاشتراكيّة والاختصاصيّة ( حكمة نشأة ) جسد ( آدم أعني صورته الظاهرة ) التي هي من إحدى اليدين.
( وقد علمت ) مما ذكر في الحقّ وأوصافه الاشتراكيّة والاختصاصيّة ( نشأة روح آدم ، أعني صورته الباطنة ) التي هي من اليد الأخرى ( فهو الحق الخلق ) بالنشأتين .
( وقد علمت ) من هذا ( نشأة رتبته ، وهي المجموع الذي به استحقّ الخلافة ) من الظهور بصورة المستخلف والاحتياز لجميع مطالب الرعايا .
( فآدم هو النفس الواحدة) بالوحدة الحقيقيّة الإطلاقيّة الجمعيّة ( التي خلق منها هذا النوع الإنساني ) أعني الشجرة الوجوديّة الكاملة الحائزة لجميع المراتب بأجناسها وأنواعها ولوازمها وأعراضها المثمرة للنوع الحقيقي الإنساني.
القابل عند التأثر أن ينبثّ منهما أشخاص من صنفي الأبوين أعني أهل الصورة وأرباب المعنى.
قال رضي الله عنه : ( و ) ذلك ( هو ) مؤدّى ( قوله : " يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً " ) .
هذا هو المناسب لما مهّد في تحقيق معنى آدم ولا يخفى على من له أدنى وقوف عليه أنّه لا يمكن أن يحمل آدم هاهنا على الروح الكلي والعقل الأوّل ، كيف وقد بيّن إحاطته بسائر المراتب والنشآت ، واشتماله على تمام اليدين و ظهوره بالصورة الجسديّة نعم ، يمكن أن يكون ذلك وجها من وجوه تأويلات الآية.
ولو أفيض فيها أمكن استخراج وجوه أعلى من ذلك :
منها أن يجعل « النفس الواحدة » إشارة إلى الحقيقة المحمّديّة التي هي مبدأ الكلّ ، وزوجها الذي خلق منها خاتم الولاية ، المنبثّ منهما أعيان الصور والمعاني ، وممّا يؤيّد هذا الوجه ذكر خلق الزوج منها بعد خلق الأعيان والأشخاص .
ومنها أن يجعل النفس الواحدة إشارة إلى المبدء الفاعل ، وزوجها هو القابل المنبثّ منهما سائر الحقائق من مواليد العالم .
ومنها أن يجعلها إشارة إلى الطبيعة الكلَّية التي هي هيولى العالم عند المحقّقين والزوج هي الصورة المشخّصة المنبثّ منهما سائر الجواهر والأعراض .
إلى غير ذلك من الوجوه ، كالجنس والفصل بالنسبة إلى الأنواع ، والماهيّة والتشخّص بالقياس إلى الأشخاص ، والجوهر والعرض بالقياس إلى الأعيان .
تلويح عددي
وقد لوّح في المقدّمة على وجوه عالية من التلويحات التي لآدم ، ولهذا الموضع دقيقة منها لا بدّ من التلويح عليه ، وهو أنّ آدم باشتماله على العقد الكامل قد انطوى على المرتبة الجامعة لسائر مراتب الكثرة .
ولذلك ترى النفس والواحد الكاشفين عنه قد ظهر فيها ذلك العقد ولذلك فيما خلق منها يعني النوع الإنساني فإنّه مشتمل على تلك المرتبة بعينها من وجه وعلى ضعفها من حيث الزوجيّة ، فإنّ زوج الشيء صورة ضعفيّته . تأمّل .
تأويل التقوى والأدب مع الله تعالى
ثمّ إذ قد أفاد هذا البيان من الإجمال ما لا يخفى على الفطن ، حان أن يشرع في تفصيله ، فقال مستنبطا من نفس تلك الآية ( فقوله : " اتَّقُوا رَبَّكُمُ " أي اجعلوا ما ظهر منكم ) .
وهو النسب العدميّة الإمكانيّة كالافتقار والاحتياج وأمثاله ( وقاية لربكم ) عن أن يصيبه شيء من تلك النسب والإضافات ( واجعلوا ما بطن منكم وهو ربّكم ) .
يعني الوجود الحقيقي وما يستتبعه من الأوصاف الوجوديّة ( وقاية لكم ) عن أن ينسب إليكم (فإنّ الأمر ذمّ وحمد ) لأنّ ما نسب إلى الشيء فعلا كان أو صفة لا يخلو من أن يكون مبدأ تلك النسبة هو الإمكان أو الوجوب والأوّل يسمّى الذم ، والثاني الحمد .
( فكونوا وقايته في الذم ، واجعلوه وقايتكم في الحمد ، تكونوا أدباء ) في وقايتكم له في الذم ، (عالمين) في وقايته لكم في الحمد .
آدم صاحب القبضتين
ثمّ بعد تبيين ما اشتمل عليه آدم من أجزائه الوجوديّة وتفصيل ما تضمّنته نشأة ظهوره لا بدّ من الإبانة عن مراتبه الشهوديّة وتحقيق مراقي كمالاته الشعوريّة تكميلا لما هو بصدده .
لذلك قال : ( ثمّ إنّه تعالى أطلعه على ما أودع فيه ) من مفردات أجزاء العالم وتراكيب نسبها وجزئيّات أحكامها بأحديّة جمعيّته الإحاطيّة التي بها يدرك الكلّ ( وجعل ذلك ) يعني ما أودع فيه  ( في قبضتيه ) الشاملتين للكل .
( القبضة الواحدة ) منهما المشتملة على أعيان المفردات كلَّها (فيها العالم).
(والقبضة الأخرى) منهما المشتملة على النسب التركيبيّة والأحكام الامتزاجيّة أجمع هي (آدم) الذي هو روح العالم وباطنه .
وإذ قد عرفت أنّ آدم هو النفس الواحدة بالوحدة الحقيقيّة التي لا يتأثر كمال وحدتها عن تكثّر الزوج والأولاد أصلا فلا يبعد أن يكون باعتبار صاحب القبضتين ، وبالآخر في طيّ إحداهما كما أنّ الثمرة باعتبار هو الجامع بين أصل الشجرة وفروعها فهي صاحب القبضتين ، على أنّها في طي قبضة واحدة منهما .
ثمّ إنّك قد عرفت أنّ من أولاد آدم من صحّت نسبته إلى آبائه العلويّات الوجوبيّات الإلهيّات كالأنبياء عليهم السّلام وهم الرجال بنو آدم ومنهم من صحّت نسبته إلى امّهات السفليّات الإمكانيّات الكونيّات ، كالكائنات مطلقا وهم النساء بنات آدم 
والمودع في هذا الكتاب إنّما هو الطائفة الأولى منهم .
بما لهم من مراتبهم المقدّرة لهم ، وحكمهم الكاشفة عنها ، فإنّهم هم الصور الوجوديّة المظهرة للحق دون الثانية .
فإنّهم الصور الكونيّة المخفية إيّاه فهي بمعزل عمّا هو بصدده .
فلذلك قال : ( وبنوه وبيّن مراتبهم فيه ) أي فيما أودع في آدم الحقيقي ضرورة أنّ تعيين مراتب جزئيّات ذلك النوع من أمهات النسب المشتمل هو على كلَّها .
( ولمّا اطلعني الله في سرّي ) حيث لا دخل للواسطة فيه أصلا (على ما أودع في هذا الإمام الوالد الأكبر) يعني آدم الحقيقي ( جعلت في هذا الكتاب منه ما حدّ لي ،لا ما وقفت عليه فإنّ ذلك لا يسعه كتاب ، ولا العالم الموجود الآن ) لأنّ إظهار الحقائق بحسب ما نطق به لسان الوقت لبنيه ، وإشعار المعارف بحسب ما سمح به مشاعر الزمان لذويه .
ولذلك ترى المتأخّرين من الأولياء يفهمون من الكلام الكامل ما عجز عنه المتقدّمون منهم ، واللاحقون يصلون إلى ما لم يصل إليه السابقون .
وفي كلامه هذا ضرب من الاعتذار بين أيدي الورثة الختميّة مما تنزّل في كلامه بالنسبة إلى شاهق علوّهم فلا تغفل .
نظم الكتاب وفهرس فصوصه
( فممّا شهدته - مما نودعه في هذا الكتاب كما حدّه لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم - حكمة إلهيّة في كلمة آدميّة ، وهو هذا الباب ) .
هذا شروع في بيان ترتيب الكتاب على ما ألَّف عليه ونظَّم فصوصه على ما اتّسق له ، بحيث يعلم منه وجه الحصر في أبوابه .
وذلك لأنّ المحدّد له لما كان هو الخاتم الذي أتى بجوامع الكلم المنحصرة مواد مفرداتها وامّهات أصولها في الثمانية والعشرين .
كما ستطلع على سرّه في غير هذا المجال إن شاء الله تعالى لا بدّ وأن يكون عدد أبواب هذا الكتاب على طبقها لكن لمّا كان الواحد منها ما يتعلَّق بخاتم الولاية.
وذلك ممّا لا يحتمل آن التأليف إظهاره ، جعل مطويّا عنه فيه ، وكأنّه أشار إلى ذلك الاعتذار بقوله : " ولا العالم الموجود الآن " .
ويمكن أن يجعل صورة جمعيّة الكتاب بإزاء ذلك الواحد ، لكن الأوّل أوفق ، فإنّ لهذه الصورة أيضا حرفا مركَّبا مستقلا كذلك بإزائها .
وأمّا بيان ترتيب التأليف :
فهو أنّه قد تكفّل لبيان حقيقة آدم بما أودع فيه من مبدأ فتح ظهوره إلى منتهى ختم كماله وقد بيّن أنّ ذلك منحصر في القبضتين :
إحداهما هي الشاملة للعالم بأجزائه المنتهية شجرة مراقي ظهورها إلى الإنسان .
والأخرى هي الشاملة للإنسان بجزئيّاته المنتهية شجرة معارج كمالها إلى الخاتم .
وقد عرفت أنّ الأمر التدريجي الواقع في القوس الأوّل من الدائرة الوجوديّة واقع في القوس الثاني منها بترتيبه ، على ما اقتضاه الأمر الدوريّ والحقيقة التامة الكماليّة .
فأوّل ما يجب أن يبيّن من الحكم هي الباحثة عن حقيقة العالم بجميع أجزائه عينا وعقلا إلى آدم - كما حقّقه هذا الفصّ .
( ثمّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثيّة ) لأنّها كاشفة عن سر انبثاث الفيض الذاتي وانبساط النفس الرحماني على قوالب القوابل بحسبها ، وهو أوّل ما يترتّب على المرتبة الأحديّة الجمعيّة .
( ثمّ حكمة سبّوحيّة في كلمة نوحيّة ) لأنّها كاشفة عن سرّ ما للملإ الأعلى والمبادئ المجرّدة ، من المعاني التنزيهيّة .
( ثمّ حكمة قدّوسيّة في كلمة إدريسيّة ) لأنّها كاشفة عن سرّ ما للأرواح المطهّرة والنفوس المقدّسة من المعاني التقديسيّة .
( ثمّ حكمة مهيّميّة في كلمة إبراهيميّة ) لأنّها كاشفة عن سرّ ما للقلب الكامل من الجمعيّة بين معاني التقديس وصور التحميد .
( ثمّ حكمة حقيّة في كلمة إسحاقيّة ) لأنّها كاشفة عن سرّ ما للخيال من الصور المثاليّة والأجساد الشبحيّة .
( ثمّ حكمة عليّة في كلمة إسماعيليّة ) لأنّها كاشفة عن سرّ ما للحواسّ من الصور الهيولانيّة  والأجرام الجسمانيّة .
( ثمّ حكمة روحيّة في كلمة يعقوبيّة ) لأنّها كاشفة عن سرّ ما للمزاج الجمعيّ من الهيئات التركيبيّة  والنسب الارتباطيّة .
( ثمّ حكمة نوريّة في كلمة يوسفيّة ) لأنّها كاشفة عما للسرّ الوجوديّ من الأنوار الجماليّة الباهرة والأسرار الكماليّة الظاهرة ، وبها تمّ سير الوجود في المظاهر الصوريّة والمجالي الجمعيّة النوريّة ، بحسب بروزه على المشاعر الشاعرة ، وخروج النفس الرحماني منه عن مكامن الباطن إلى مخارج الخارج ، فهذا السير من مبتدأ مفاتيح أبواب الظهور إلى منتهى ما أمكن منه في كمّل النوع الكمالي ، وهو أوّل الامتدادات الوجوديّة وأطولها .
ثمّ له سير آخر في هذا النوع بحسب إبرازه في شعار الشعائر وإخراجه بصور الأوضاع الكاشفة عن الكنه ، والدلائل عليه من الجهتين :
إحداهما في عرض أرضه الظاهر ، أعني الظهور على البلاد والعباد.
والأخرى في عمق بطنه الباطن ، أعني الكشف عن تلك الأوضاع والإبانة عن تمام المراد ، وبه يختم أبواب كماله .
وهاهنا تلويح له كثير دخل في هذا النظم ، وهو أنّ لآدم بما اشتمل عليه من العقد الكتابي التفصيلي على ما سبق تحقيقه ظهورا في السيرات الثلاث المذكورة في كلّ منها بذلك العقد ، لاشتماله على جميع المراتب التفصيليّة واحتوائه على كلَّها .
فلذلك لمّا بلغ منتهى مدارج السير الأوّل شرع في الثاني يعدّ مراقي كماله .
بقوله : ( ثمّ حكمة أحديّة في كلمة هوديّة ) لأنّها كاشفة عن الطريق إلى الله إجمالا ، لأنّ مبنى أمر الإظهار عليه - وضعا كان أو كشف .
( ثمّ حكمة فاتحيّة في كلمة صالحيّة ) لأنّها كاشفة عن طريق الإنتاج وفتح باب التوليد والاكتساب .
( ثمّ حكمة قلبيّة في كلمة شعيبيّة ) لأنّها كاشفة عن الطرق بشعبها وفروعها .
( ثمّ حكمة ملكيّة في كلمة لوطيّة ) لأنّها كاشفة عن الوصول إلى سلطنة الملك من قهر القوم ونفوذ أمر مجازاته فيهم .
( ثمّ حكمة قدريّة في كلمة عزيزيّة ) لأنّها كاشفة عن حفظ الصور الملكيّة عن الانحلال ومبدئه.
( ثمّ حكمة نبويّة في كلمة عيسويّة ) لأنّها كاشفة عن معظم أمر الإظهار من إحياء الموتى وانشاء الطير .
( ثمّ حكمة رحمانيّة في كلمة سليمانيّة ) لأنّها كاشفة عن تمام سلطان الإظهار ونفوذ قهرمان أمره في الثقلين .
( ثمّ حكمة وجوديّة في كلمة داوديّة ) لأنّها كاشفة عن مبدأ تلك السلطنة وأصلها بما اشتملت عليه ، لأنّ الحكمة الداوديّة مشتملة على السليمانيّة منها وزيادة ، حيث أنّ سليمان موهوب له ، على ما ورد في التنزيل :
" وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ " وقوله : " وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا ".
( ثمّ حكمة نفسيّة في كلمة يونسيّة ) لأنّها كاشفة عن جامعيّة أمر الإظهار مع الاختفاء والاستتار ، إذ هو مع أنّه في ظلمات الخفاء مغمور ، له مرتبة إظهار الرسالة الكاملة بما ورد : " وَأَرْسَلْناه ُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ".
وبها تمّ السير الذي في عرض الأرض الاعتدالي الإنساني نحو إظهار كمالاته الصوريّة .
فحان أن يشرع في السير الذي في عمق بطونه نحو كمالاته المعنويّة المنطوية عليها تلك الكمالات الصورية . فمن تمّ به هذا السير الأخير هو الخاتم للكمالات الوجوديّة كلَّها .
ولا شكّ أنّ بروز الكمالات المعنويّة والمعارف الكشفيّة عن مزارع ذلك الأرض مسبوق بتسلَّط قهرمان القهر على تلك المملكة وإفنائه أحكام ما به الامتياز ، فبحسب خفاء الأحكام الامتيازيّة يظهر المعارف والعلوم التي هي من الأحكام الاتّحاديّة .
فقوله : ( ثمّ حكمة غيبيّة في كلمة أيوبيّة ) إشارة إلى أوّل ما يتبيّن به أحكام تلك السلطنة ويكشف عن وجوه أوامره النافذة .
( ثمّ حكمة جلاليّة في كلمة يحياويّة ) لأنّها كاشفة عن أوّل ما يترتّب من الأحكام الوجوديّة والأوصاف الثبوتيّة على الإقهار تحت أحكام السلطنة المذكورة وأوامرها المفنية النافذة ، لما ورد : " لَمْ نَجْعَلْ لَه ُ من قَبْلُ سَمِيًّا " ، فبعد ذلك وقع الاهتداء به فيه .
( ثمّ حكمة مالكيّة في كلمة زكراويّة) لأنّها كاشفة عمّا يترتّب على تمام أمر الانقهار ،ولذلك قد انساق حاله إلى أن نصّف بالمنشار.
( ثمّ حكمة إيناسيّة في كلمة إلياسيّة ) لأنّها كاشفة عمّا يترتّب على ذلك الانقهار مما يبدو من أعلام منازل القرب وعلائم مقامات التداني ، بعد قطع فيافي البعد ومهامه التفرقة والهجر ، من المناجاة والمناداة ، ولذلك أعيدت هذه الكلمة مرّتين - كما ستقف عليه .
( ثمّ حكمة إحسانيّة في كلمة لقمانيّة ) لأنّها كاشفة عمّا يظهر لدى العروج على مراقي الإيقان ومدارج الإحسان والعرفان .
( ثمّ حكمة إماميّة في كلمة هارونيّة ) لأنّها كاشفة عمّا يشترك فيه الواصلون إلى حضرات المكالمة ومواقف المخاطبة من الرحمة الانبساطيّة النوريّة التي هي ظاهر الوجود ، وعليه عاجل أمره ، ولذلك يرى قومه عند خلافته يعبدون العجل .
( ثمّ حكمة علويّة في كلمة موسويّة ) لأنّها كاشفة عن خصائص موطن الكلام الموصل إلى كنه السلام .
( ثمّ حكمة صمديّة في كلمة خالديّة ) لأنّها كاشفة عمّا ينقطع عنده النسب ، ولذلك ما تمّ أمر رسالته وانقطع رابطة بلاغة إلى امّته بعصيانهم له .
( ثمّ حكمة فرديّة في كلمة محمّديّة ) لأنّها كاشفة عمّا يتبيّن به كليّة المراد وأحديّة جمع الحقائق ، من المبدء إلى المعاد .
وهاهنا تلويح وهو أنّ للفرد عقدا يشتمل عليه «طه» وهو عقد الختم ، فلذلك اختصّ به الكلمة المحمّديّة .
وقد علم بذلك خصوصيّات الحكم بكمالاتها ، وبيان الحصر فيها ووجه ترتيبها .
وأمّا فصّ كلّ حكمة ) فهو ( الكلمة التي نسبت إليها ) تلك الحكمة ، فإنّ الهيئة الجمعيّة للحكمة وصورة فوقيّتها إنّما تتحقق عينا وبالذات في كلمتها ، وكتابا وبالتبع في فصول هذا الكتاب .
فيكون الظرف هناك مستقرّا ، على أن يكون صفة للحكمة وأمّا وجه اختصاص كل حكمة بالكلمة المنتسبة هي إليها فسنبيّن في صدر كلّ فصّ إن شاء الله تعالى .
وإذا كان الأمر على ما بيّن (فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب ، على حدّ ما ثبت في امّ الكتاب ) أن يظهر فيه بحسب مراقي أطوار الزمان ومدارج أذواق أهله ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما رأى في المنام ، بناء على ما تقرّر أنّ الفاتحة امّ الكتاب ، وذلك هو الفاتحة لأبواب إظهار مخدّرات أسراره من مكامن الخفاء إلى مجالي البيان ومنصّات العيان .
وقوله : ( فامتثلت ما رسم لي ووقفت عندما حدّ لي ) يؤيّد هذا الوجه .
( ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت ، فإنّ الحضرة تمنع ذلك ) لما سيجيء في الفصّ الشيثي أنّ الحضرات هي الحاكمة في إظهار الحقائق وصور المعارف ، فإنّها بمنزلة المرآة ، لا ترى فيها تلك الصور إلَّا بحسبها ، وإن كان مبدأ تلك الاختلافات راجعة إلى القوابل المستند إلى الفيض الأقدس ، فيكون الكل من الله . 
وقوله : 
( والله الموفق لا ربّ غيره ) إشارة إلى ذلك .
ومن ذلك :
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 9:38 am

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية   الجزء الأول
ووجه اختصاص هذه الحكمة بشيث هو أنها كاشفة عن وجوه امتیاز قوالب القوابل بحسب ما تطلبه ألسنة استعداداتهم من عطايا الحقائق الشهودية وعوارف المعارف الوجودية ، فهو أول ما يتولد من الوالد الأكبر .
وأيضا الشيث : هبة الله - لغة - وهي التي فتح بها أبواب خزائن الكمالات ، شهودية كانت أو وجودية .
وهاهنا تلويح من الرقوم : وهو أن الحرفين (ش ث) الذين قد استكمل فيهما سائر الكمالات الشهودية والثبوتية ، قد اشتمل عليها « شیث »، وهي الكلمة الجامعة لخصوصيات بني آدم ، الفاصلة لأحكامها الامتيازية ، الحاصلة من النفث الوجودي والنفس الرحماني ؛ ولذلك بين في هذا الفص أمر الخاتمين ، وانساق الكلام فيه إلى من انختم به باب هذا النوع من الظهور - ولا تغفل عن العقدين أيضا .
وإذا كان المقصد الأقصى في هذا الفص إنما هو الفحص عن مراقي كمالات بني آدم ، والاستقصاء في مواقف معارفهم ومواطن أذواقهم ومشاربهم من مبادئ أصل شجرة ظهور تلك الكلمة إلى نهاية استواء ثمرتها ، وذلك هو الذي لوح إليه الحرفان الظاهر بهما ياء الجمعية ، أعني شين الشجرة وثاء الثمرة .
على ما أفصح عنه الكلمة الشيثية الكاشفة عن القابل ، الذي جمع في ياء نسبته الأصلية الجمعية خصوصيتي شين الشجرة وثاء الثمرة .
وكأنك وقفت عليه عند الكلام في القبضتين - أشار إلى تقسيم يخرج صنفا صنفا منهم ، و يبين وجوها يتمايز بها بعضهم عن البعض ، تمايزا ذاتيا .
فإن أسئلة السائلين هي الأصل المقوم لخصوصيتها المترتبة عليها ، مبتدءا من الأصل الأنزل ، متدرجا في تلك المواقف ، و مترقيا في مدارج كمالها إلى الحضرة الختمية - بقوله :

أقسام العطايا :
( اعلم ان العطايا والمنح الظاهرة في الكون على أيدي العباد وعلى غير أيديهم ) - أي سواء كان بواسطة أو بغير واسطة - ( على قسمين : منها مایكون عطايا ذاتية وعطايا أسمائية)  فتكون القسمة مربعة.
"وتتميز" الأقسام كلها " عند أهل الأذواق "، ضرورة أن ذوي العقول وأرباب الأنظار الفكرية إنما يستوهبون المطالب من الأسباب المعدة ، و يسلكون مسالك الأقيسة الموصلة إليها ، فهم محجوبون عن العطايا الذاتية والمواهب المقدسة عن التوسل بالوسائط .
وأيضا قولهم بالعلية ينافي ما يكون من أيدي العباد أن يروه من العطايا الذاتية ، وهو أحد الأقسام المذكورة .
قال رضي الله عنه : ( كما أن منها ما يكون عن سؤال في معين ، وعن سؤال غير معين، و منها ما لا يكون عن سؤال ) فهذه ثلاثة أقسام في الأربعة ، يحصل منها اثنا عشر صنفا، وإلى ذلك أشار بقوله (سواء كانت الأعطية ذاتية ، أو أسمائية) .
أقسام السائلين :
" فالمعين" من السائلين "كمن يقول : يا رب أعطني كذا ، فيعين أمرا ما لا يخطر له سواه ".
( وغير المعين ) منهم ( كمن يقول : يارب أعطني ما تعلم فيه مصلحتي من غير تعيين لكل جزء ذاتي) روحانيا كان ذلك الجزء الذاتي من الغذاء المقوم له أو جسمانيا ، ( من لطيف ) العلوم والمعارف ، والأعمال المصفية للقلب ، المنورة للروح ، الهادية إليها.
( وكثيف ) كالمشتهيات و المستلذات ، وسائر الأغذية والأفعال المكدرة للقلب ، المظلمة للروح ، المظلة عن نحوها ؛ فلا يعين شيئا من ذلك في دعائه .
كما قيل :
وكلت إلى المحبوب أمري كله    …. فإن شاء أحياني وان شاء أتلفا
وهذا مقام الواصلين إلى جماء الحب ولواء الولاء ، كما قيل :
ما بين ضال المنحني وظلاله   …. ضل المتيم واهتدى بضلاله
وهذه الأقسام كلها باعتبار المعطى والمسؤول ، وباعتبار السائلين له تقسیم أخر إليه أشار بقوله: (و السائلون ) منهم أيضا (صنفان : صنف بعثه على السؤال الاستعجال الطبيعي، فإن الإنسان ځلق عجولا ) وذلك لأن من شأن الطبيعة وطين قابليتها اللازب أن يلتصق بما يستشعر فيه كماله عاجلا.
المبين ( والصنف الآخر بعثه على السؤال لما علم أن تم أمورا عند الله قد سبق العلم بأنها لا تنال إلا بعد سؤال ) وفي الكلام تقديم وتأخير ، أي " لما علم أن ثم أمورا ، بعثه علمه " .
وهذا الصنف أعلى السائلين المحجوبين مرتبة ، حيث أن الباعث لسؤاله هو العلم ، فلذلك تراه مترقيا من العلم إلى القول.
حيث قال : ( فيقول : « فلعل ما نسأله سبحانه يكون من هذا القبيل » ، فسؤاله احتياط لما هو الأمر عليه من الإمكان ) أي إمكان أن يكون مطلوبه مما علق بالسؤال ، وإن لم يعلم ذلك يقينا ، فإن ذلك موقوف على الاطلاع بما في علم الله .
(وهو لا يعلم ما في علم الله ولا ما يعطيه استعداده في القبول) إذ لو علم ذلك لعلم ما في علم الله أيضا ، لأنه تابع له .
ولا يبعد الاطلاع على خصوصيات كل استعداد بما يناسبه من الأمور إجمالا للمفترسين ، كالوقوف على قابلية واحد للطب ، والآخر للفقه ، والآخر للحساب وغير ذلك من الصنائع والحرف، إنما الكلام في تفاصيل خصوصیات تلك الاستعدادات بحسب الأزمنة والأوقات ، ومايصلح له في كل حين منها
(لأنه من أغمض المعلومات الوقوف في كل زمان فرد على استعداد الشخص في ذلك الزمان ) .
كما للسائل إذا كان من أهل الحضور ، فإنه يعرف مقتضى حاله ( و) أنه ( لولا ما أعطاه الاستعداد السؤال ما سأل ، فغاية أهل الحضور)- يعني القاطعين منازل فيافي العلل وبيداء الأسباب ، القادمين من مسالك أهل البعد وأقاصي المقامات (الذين لا يعلمون مثل هذا) قبل
ورود وقته - فإن من أهل الحضور من يعلم ذلك على غاية موضه - ( أن يعلموه في الزمان الذي يكونون فيه ، فإنهم لحضورهم يعلمون ما أعطاهم الحق في ذلك الزمان وأنهم ما قبلوه الا بالاستعداد ) لأن موطن الاستعداد و موقف القابلية أقدس من أن يكون هناك لحجاب البعد حكم ، أو القهرمان الغيبة نفاذ أمر .
(وهم صنفان ) أي الواقفون من السائلين الحاضرين : ( صنف يعلمون من قبولهم استعدادهم ، و صنف يعلمون من استعدادهم مايقبلونه ) فإن الاستعداد معدن نفائس العلوم والمعارف وسائر ما يستخرج من القوة إلى الفعل .
(هذا أتم ما يكون في معرفة الاستعداد في هذا الصنف ) يعني صنف السائلين الحاضرين ، لأنه قادر على استعلام ما يؤول إليه كل استعداد وما ينتهي إليه مال كماله .


العبد المحض من السائلين:
(ومن هذا الصنف) أي السائلين الحاضرين (من يسأل لا للاستعجال ولا للإمكان ، وإنما يسأل امتثالا لأمر الله في قوله: " أدعوني أستجب لكم" فهو العبد المحض) الذي لايشوب صرافة عبودته بنسبة اختيار ، ولا إرادة مطلوب أو طلب مراد.
كما قيل :
سقط اختياري مذ فني بحبكم    …. عني ، فلا أرجو ولا أتطلب
ليس المحب حقيقة من يشتهي   …. أو يشتكي ، أو يرتجي ، أو يرهب
(وليس لهذا الداعي همة متعلقة فيما سأل فيه - من معين أو غير معين - وإنما همته في امتثال أوامر سیده ، فإذا اقتضى الحال السؤال ، سأل عبودية ، وإذا اقتضى التفويض والسكوت ، سكت) لأن أحوال هذا العبد إنما يجري على   مقتضى إرادة مولاه ، فكل ما يقتضيه حاله فهو مراد مولاه و مأموره.
ولذلك يستلذ به ، وإن كان مما ينافر طبعه ويؤلم نفسه كما قيل :
حسب المحب تلذذا بغرامه   …. من كل ما يهوى وما يتطلب
خمر المحبة لا يشم نسيمها    …. من كان في شيء سواها يرغب
وهذه المرتبة الامتثالية للسائلين تناسب طور النبوة ، فإنها كمال مرتبة العبودية التي هي أصل تلك المرتبة - على ما سيجيء تحقيقه - كما أن المرتبة الإمكانية لهم تناسب طور الولاية ، لأن أصله وباعثه العلم . "" أصله الأعلي النور الأزلي الساري بالحب لله فى الله و الصدق و الإخلاص لوجه لله ""
ولذلك قال: (فقد ابتلي أيوب وغيره ، وما سألوا رفع ما ابتلاهم الله به ، ثم اقتضى لهم الحال في زمان آخر أن يسألوا رفع ذلك ، فرفعه الله عنهم) .
( والتعجيل بالمسؤول فيه و الإبطاء) ليس إلا (للقدر المعين له عند الله ). لادخل لدعاء العبد فيه أصلا  ( فإذا وافق السؤال الوقت أسرع بالإجابة ، وإذا تأخر الوقت - إما في الدنيا وإما إلى الآخرة - تأخرت الإجابة - أي المسؤول فيه ، لا الإجابة التي هي « لبيك » من الله - فافهم هنا).
فإنها لاتتخلف عن السؤال أصلا ، لأنه موعود بقوله :
" أجيب دعوة الداع إذا دعان". وقوله: "ادعوني أستجب لكم ". وقوله: " فاذكروني أذكركم ".
ولا يمكن له أن يخلف الوعد ، فإنه لا يقبل الحلف بالنسبة إليه - بخلاف الوعيد .
وأيضا فإن الوجود الكلامي و الصور الحرفية هي أقرب ما ينسب إليه صدور الآثار المسؤول عنها ، فلذلك ترى الحق إذا أراد الظهور بصورة الأثر قال : «كن» ، وبه ظهر العوالم والآثار ، فهي صاحب الأثر بالذات ، لايمكن أن يتخلف عنها ، وكأن قوله : « فافهم » إشارة إلى هذه الدقيقة .
فعلم أن أصناف السائلين - أقل ما يحصل من هذا التقسيم - خمسة ، وهم في التقسيم الأول الحاصل من قوله : "منها ما يكون عن سؤال " ثمانية أقسام ، فالحاصل من المجموع یكون أربعين صنفا ، لكن الكتل منهم ثلاثة :
السائل بالإمكان .
والعبد الممتثل .
والمطلع على مؤدي الاستعدادات ، العارف من نفس الاستعداد ما يقبله من الكمال .
هذا تمام الكلام في القسم الأول يعني السائلين .
أقسام السؤال :
قال رضي الله عنه : (وأما القسم الثاني - وهو قولنا : « ومنها ما لا يكون عن سؤال » فالذي لا يكون عن سؤال ، فإنما أريد بالسؤال : التلفظ به ؛ فإنه في نفس الأمر لابد من سؤال) ضرورة أن الفيض تابع للعلم ، والعلم تابع لما يستدعي القابل السائل مما يقتضيه ذاته .
وذلك السؤال (إما باللفظ، أو بالحال ، أوبالاستعداد) إلا أن الحال والاستعداد يقيدان السؤال ويسري حكمهما فيه لشدة ارتباطهما بلسانيهما دون اللفظ ، فإنه لا يسرى أحكام تقييد اللافظ منه إليه ، وذلك لاستقلال مرتبة الكلام في مراتب الوجود ، وكمال جمعيته وإحاطته في الظهور ، فيمكن أن يؤدي بإطلاقه .
(كما أنه لايصح حمد مطلق قط إلا في اللفظ ، وأما في المعنى فلابد أن يقيده الحال) ويسري حكمها فيه لصفاء عالمها ( فالذي يبعثك على حمد الله ) من الأحوال التي تمدك وتخليك بالمعدات المقومة لك في مراتب الوجود ، أو تفنيك وتخليك عن الموانع العائقة لك في مراتب الشهود ( هو المقيد لك باسم فعل ) - كالكريم والودود في الأول. ( أو باسم تنزيه ) - كالقدوس والسلام في الثاني .
(والاستعداد من العبد لا يشعر به صاحبه) لأنه من الفيض الأقدس والسر الأخفى الذي لا يطأ وادي طواه إلا من خلع نعلي الاثنينية والمغايرة ؛ فصاحب الاستعداد مادام صاحبا له لا يصل إليه ولا يشعر به (ويشعر بالحال ، لأنه يعلم الباعث - وهو الحال - فالاستعداد أخفي سؤال ) .
(وإنما يمنع هؤلاء من السؤال علمهم بأن الله فيهم سابقة قضاء ، فهم قد هیوا محلهم) بتفريغه عن شواغل الدعاء والسؤال وشوائب أعراض الأغراض ( لقبول ما يرد منه ، وقد غابوا عن نفوسهم وأغراضهم ) لاشتغالهم بما يرد منه واستغراقهم فيه .


الواقفون على سر القدر من السائلين:
قال رضي الله عنه : ( ومن هؤلاء) الساكتين عن السؤال (من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه ، قبل وجودها ، ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العالم به) لما سبق أن العطاء على وفق الإرادة ، والإرادة تابعة للعلم ، والعلم ما أعطاه العين المعلوم مما يقتضيه ذاته ويعبر عنه السا استعداده ( وهو ما كان عليه في حال ثبوته ؛ فيعلم ) هذا العبد ( علم الله به من أين حصل ) و أن الكل من عينه ظهر عليه ، أخذ منه فرد إليه " هذه بضاعتنا ردت إلينا " .
(وما ثم صنف من أهل الله أعلى وأكشف من هذا الصنف فهم الواقفون على سر القدر) المطلعون على مبادئ تفاصيل جزئيات أوضاع العالم ومصادر وقوع أحكامها وأفعالها ، أنه من نفس عينه الثابتة في حال عدمه ، الكاشفة عن كل أحوالها بمقاديرها وأزمانها ، "لا يغادر صغيرة " من تلك الأوضاع "ولا كبيرة إلا أحصاها" إحصاء تفصيل وإيقان، فالعارف بسر الارتباط المذكور هو الواقف على سر القدر.
(وهم على قسمين) - فالساكتون عن السؤال ثلاثة أصناف :
(منهم من يعلم ذلك مجملا ، و منهم من يعلمه مفصلا ، والذي يعلمه مفضلا أعلى وأتم من الذي يعلمه مجملا ، فإنه يعلم ما في علم الله فيه) أي يعلم ما في ذلك العبد العالم من تفاصيل أحواله ، حال كونه في علم الله .
هذا إذا جعل أحد الطرفين حالا ، ويمكن أن يجعل بدلا، ومعناه على ذلك أظهر .
والعالمون بهذا الوجه أيضا صنفان : 
فإن ذلك العلم 
(إما بإعلام الله إياه ، بما أعطاه عينه من العلم به) بدون اطلاعهم على العين نفسه وهو بمنزلة قرب النوافل.
( وإما بأن يكشف له عن عينه الثابتة وانتقالات الأحوال عليها ) فيشاهد العين بأحوالها وما ينطوي تحتها من جزئيات الأعيان المنتسبة إليها بأحكامها و أحوالها (إلى ما لايتناهي) ضرورة أن الفائز بهذه المرتبة العليا والذروة القصوى لا يكون إلا حقيقة كلية ، له نسبة العلو والإحاطة ، كالخاتمين ومن يرثهما من الأقطاب والكتل .
ثم إن هذه الأصناف الثلاثة من الساكتين إذا ضرب في الأربعة منهم المستخرجة من التقسيم الأول ، الذي لنفس الأعطيات ، تصير إثني عشر صنفا ، فيكون مجموع الأصناف المعدودة هاهنا إثنين وخمسين .
لأن هذا العدد على قاعدة العقود راجع إلى السبعة التي عليها مدار دائرة الوجود والشهود ، إلى غير ذلك من الخصوصيات التي لهذا العدد ، كما يتبين في غير هذا المجال إن شاء الله تعالى ، وقد لاحظ في عد هذه الأصناف رابطة الترتيب ، حيث ابتدأ من المحجوبين متدرجا ، مترقيا إلى هذا الصنف ، الذي هو أكمل الأصناف .
( وهو أعلى ) كشفا من الكل ( فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به ، لأن الأخذ من معدن واحد ) وهو العين الثابتة حال ثبوتها ، فيكون هذا المكاشف مثل الحق في ذلك ، لكن لما كان للحق طرف الإحاطة والعلو ، يكون العلمان وإن كانا متساويين ( إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت لها، هي من جملة أحوال عينه ، يعرفها صاحب ذلك الكشف ، إذا أطلعه الله على ذلك ) العين وأحواله (أي على أحوال عينه) ضرورة أن هذه العناية من جملة أحوال العين التي هي سابقة على الكل ولذلك أنتج هذه الخاتمة التي هي محيطة بالكل .
أما بيان أنه لابد للعبد في علمه هذا من سابقة عناية من الله (فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها)  بأن يكشف له عن تلك العين في حال وجودها ، ويعلم منه سائر ما انطوت عليه من الأحكام والأحوال ، بعد أن تقع صورة الوجود الكاشفة السائر الصور عليها أن يطلع في هذه الحال على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها ، لأنها )- أي الأعيان في حال عدم ها - ( يسب ذاتية إلا صورة لها) في نفسها ، فإنه لايخفى على الواقف بأصولهم أن الكثرة حينما كانت وبأي اسم سمیت - فإنها يسب عدمية واعتبارات خالصة عن شائبة الوجود مطلقا، وهذه النسبة الإطلاقية التي للأعيان قال إنها ذاتية ، فالضمير راجع إلى الأعيان - لاغيرا .
وإذا تقرر أن الأعيان لاحظ لها من الوجود، فلا يكون لها حكم ولا حال ولا علم أصلا، بل الكل مستهلك في الذات، استهلاك صورتها فيها، فالحكم حينئذ للذات بإطلاقها، وليس للعبد المحصور تحت أحكام عينه حالة الوجود سعة الإحاطة الذاتية، فلا يمكن له الاطلاع المذكور إلا بسابقة من العناية.
والحاصل أن العبد له طرف ضيق تخلف به عن الحق في ذلك ، وطرف سعة به يماثله ويساويه ، (فهذا القدر) من التخلف والضيق الذي للعبد ( يقول : إن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادة العلم ) .
( ومن هنا ) - أي من تحقق المساواة - ( يقول الله : "حتى نعلم" وهي كلمة محققة المعنى ) أي مطلق على الحقيقة - ( ما هي كما يتوهمه من ليس له هذا المشرب ) من المجازات البعيدة ، على ما ارتكبها الظاهريون من المفسرين، فإن العلمين إذا كانا متساويين في الظهور يكون كل منهما متجددا حسب تجدد الآخر ، فلذلك تجدد " كل يوم هو في شأن"  حسب تجدد الأعيان في الأزمان .
ثم إن المنزهة الرسمية لما لم يكن لهم حظ من هذا الذوق ، اشمأزوا عن سماعه ، حاسبين أنه من التنزيه ، وهو بمرمى بعید منه ، فلذلك نبه إلى مآلهم فيه بقوله : (وغاية المنتزه أن جعل ذلك الحدوث في العلم للتعلق) بالحوادث على ما ذهب إليه المتكلمون من أهل السنة ، من أن الأوصاف والأحكام القديمة إنما يعرض لها لوازم الحدوث من جهة تعلقها بالحوادث (وهو أعلى وجه يكون للمتكلم ، يعقله في هذه المسألة) ، فإنه ليس للعقل بحسب قوته النظرية فيما وراءه مد خل- وفي قوله : «يعقله» إشارة إلى هذه الدقيقة - فهو غير بعيد عن التحقيق ( لولا أنه أثبت العلم زائدا على الذات ، فجعل التعلق له ، لا اللذات ؛ وبهذا انفصل عن المحقق من أهل الله ، صاحب الكشف والوجود ) فإنه يرى العلم عين الذات .
لا يقال : فيلزم انتساب الحوادث إلى الذات بضرب من النسبة تعالى عن ذلك ؟
لأن تنزهها عن القدم المقابل للحدوث كتنزهها عن الحدوث عن سائر المتقابلات - على ما مر غير مرة - فلا تغفل عنه فإنه مفتاح لمقفلات كنوز الرموز الختمية ، فإنه مايعرف ذلك التنزيه غير المتحقق بالتوحيد الذاتي المختص بالوراثة الختمية .
ومما لابد منه هاهنا أن تعلم أن استفاضة الحقائق لها طريقان :
أحدهما نظري عقلي وراء الحجب الكونية والدلائل النظرية ، والحاصل من هذا الطريق إنما هو حصر عقلي على ما لذوي المذاهب الجعلية من الصور الاعتقادية ، وهذا مسلك أهل العقل ، كما يلوح عليه لفظ العقل و العقد .
والثاني كشفي قلبي ، إنما يدل عليه الصور الوجودية الأصلية التي لاجعل فيها أصلا ، والحاصل منه إنما هو انشراح علمي وكشف وجودي ، وهو مسلك أهل الله صاحب الكشف والوجود ؛ تحفظ هذا الاصطلاح فإنه له مواضع نفع في هذا الكتاب .


الرجوع إلى تحقيق الأعطيات :
وإذ قد ابتني هذه التقسيمات كلها على تقسيم الأعطيات أولا ، و انشعب هذه التفاريع من ذلك الأصل ، لابد أن يسترجع إلى تحقيقه حتى يتبين منه جميع الأقسام ، فلذلك قال : (ثم نرجع إلى الأعطيات فنقول : إن الأعطيات إما ذاتية أو أسمائية)
وإذ قد عرفت أن العطايا قد تكون بلا واسطة و قد تكون بواسطة ، و الواسطة إما صفة أو فعل .
فصلها بقوله : ( فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا يكون أبدا إلا عن تجل إلهي).
حتى يمكن أن يظهر الأثر المسمى بالمنح و الهبة والعطاء بصرافة أحدية جمعيته الذاتية .
فإن التجلي في كل اسم إنما يظهر بحسب حكمه الخاص و خصوصيته الامتيازية الفارقة ، بخلاف الاسم « الإله » فإن خصوصيته إنما هو الإطلاق وأحدية الجمع الإحاطي ؛ وعبارة « الألوهي » منها مشعرة بهذا الطرف من الجمعية .


التجلي لا يكون إلا بصورة استعداد المتجلى له :
ثم لما بين حكم التجلي الذاتي وما يقتضيه باعتبار المتجلي ، أراد أن يبين أمره باعتبار المتجلى له بقوله : ( والتجلي من الذات لا يكون أبدا إلا بصورة استعداد المتجلى له ؛ غير ذلك فلا يكون ) ضرورة أنه لو كان له ما يزيد على تلك الصورة لم يكن التجلي بصرافته الذاتية .
( فإذن المتجلى له ما رأي سوى صورته في مرآة الحق ) إذ ما تصور فيها شيء غيره (وما رأى الحق ، ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه) فيلزم أن يكون مرئيا ، ضرورة أن رؤية الصورة تستلزم رؤية ما ترى فيه و هذا من مقتضيات الذات وأحكام هويتها الجامعة للأضداد والأطراف المتعانقة كلها فيها ، أنها يرى ولا يرى ، وعلمت وما علمت ، كما سيشير إليه الشيخ .


مثال المرآة:
وأمر هذا التجلي ورؤية الصورة فيه وخفائه بعينه (كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصور فيها ، لاتراها) أي المرآة ضرورة أنه من شأنها أن يختفي بنفسها في الصورة المرئية .
ثم إنه يمكن أن يقال هاهنا بحسب الأنظار السخيفة وقواعدها : «إن ذلك لعدم إمكان توجه العقل بآلته الواحدة في حالة واحدة نحو أمرين متغائرین ».
فقال : عدم رؤية المرآة (مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلآ فيها) دفعا لذلك الوهم أولا إذ لو كان المانع ذلك لما أمكن له رؤية الصور فيها أصلا۔
وتحقيقا لوجه المماثلة ثانيا ، فإن المرأة بهذا الوجه صارت مماثلة للحق .
( فأبرز الله ذلك مثالا نصبه لتجليه الذاتي ) في عالم المثال ( ليعلم المتجلى له ما رآه ؛ وما ثم مثال أقرب ) نسبة ( ولا أشبه ) حكما ( بالرؤية والتجلي من هذا ) ؛ فإنها أظهرت صورة الرائي كما هي له مختفيا فيها ، بحيث لايرى منها صورة أصلا ، مع علمه أنه لا يرى الصورة إلآ فيها .
وهكذا سبيل الحقائق بالنسبة إلى الوجود عند أرباب النظر ، فإن بديهة العقول شاهدة بأن سائر الماهيات بديهية كانت أو مكتسبة إنما يتحقق ويعلم في الوجود مع عجزهم عن إدراك الوجود ، حتى ذهب بعضهم إلى أنه من الاعتبارات العقلية التي لا وجود لها في الخارج .
(واجهد نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة ، لا تراه أبدا ألبتة ) إلا عند إعراضك وصرف النظر عن الصورة الظاهرة والتفاتك نحوها وتحديق النظر فيها .
فعلم من هذا أن الظاهر لدى الحش هاهنا هي الصورة، والجرم مختف فيها فهو كالباطن لها، ولا يخفى أن الصورة لوكانت ظاهرة في الجرم أو به لكان الأمر بالعكس.
ومن ثمة وقع التحير لأرباب العقول (حتى أن بعض من أدرك مثل هذا في صور المرايا ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي وبين المرآة) بناء على ما ذهبوا إليه من أن الصور المتجسدة إنما يتكون في عالم المثال، لكن شرط ظهورها للحواس الظاهرة حضور الأجسام الهيولانية ذوي السطوح الصقيلة عندها والتفاتها لها.
(هذا أعظم ما قدر عليه من العلم، والأمر كما قلناه وذهبنا إليه) من أن المرآة مثال نصبها الله لتجليه الذاتي، حيث أن الظاهر فيها عين الباطن، والباطن فيها هو الظاهر، كما قال :
وباطن لا يكاد يخفى   …. وظاهر لا يكاد يبدو
(وقد بينا هذا في الفتوحات المكية) فإنه قد بين أمر ماثلة المرآة ووجه استجماعها الأحكام الممثل من حيرة المشاهد وجمعيته للأضداد والأطراف ، حيث قال :
« إن الإنسان يدرك صورته في المرآة ، ويعلم قطعا أنه أدرك صورته بوجه ، وأنه ما أدرك صورته بوجه ، لما يراها في غاية الصغر لصغر جرم المرآة ، والكبر لعظمه ، ولا يقدر أن ينكر أنه رأى صورته ، ويعلم أنه ليس في المرآة صورة ، ولا هي بينه وبين المرآة ، فليس بصادق ولا كاذب .
في قوله : «إنه رأى صورته ، ما رأى صورته » ، فما تلك الصورة ؟
وأين محلها ؟ وما شأنها ؟
فهي منفية ثابتة ، موجودة معدومة ، معلومة مجهولة ، أظهر الله سبحانه وتعالى هذه العبده ضرب مثال ليعلم ويتحقق أنه إذا عجز وحار في درك حقيقة هذا وهو من العالم ولم يحصل عنده علم بتحقيقه ، فهو بخالقها أعجز وأجهل وأشد حيرة » ، هذا ما عثرت عليه مما يتعلق بهذا البحث من كلامه .
( وإذا ذقت هذا ) أي أدركته بمجرد ذوقك الكاشف وفطرتك السليمة خالصة عن علائق التعاملات الفكرية المشوشة ، صافية عن شوائب التوسل إلى القياسات الجعلية الموسوسة.
(دقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق) إذ المخلوق - من حيث أنه مخلوق لا مدخل له وراء ذلك أصلا، (فلا تطمع ولا تتعب نفسك، في أن ترقي في أعلى من هذا الدرج، فما هو ثم أصلا) أي فما أعلى من هذا الدرج مقام موجود مشهود أصلا.
(وما بعده إلا العدم المحض؛ فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسمائه وظهور أحكامها) كالسماع والرؤية، فإنهما من أحكام اسمي السميع والبصير، وهما إنما يظهران بأحكامها في مرآة العبد، وإذ تميز في هذه المرآة الظاهر عن المظهر تعدد فيها الصور الظاهرة.
(و لیست ) تلك الصور يعني الأسماء و أحكامها (سوى عينه) فيكون العبد -على أي حال مرآة لعين الحق ، كما أن الحق مرآة لعينه ، فهو على هذا التقدير الإطلاقي مرآة يظهر فيها أسماؤه ، كما أن العبد مرآة يظهر فيها ذاته ، كما قال العطار:
توني از روی ذات آئینه ی شاه   …. شه از روي صفات آئینه تست
توني من جوهر مرآة الملك    ..... تحقق من سمات المرآة
وإذ قد ظهر أن العين واحدة ، وحكم المدارك والمشاعر جعلها ذا اعتبارات ظواهر تارة ، ومظاهر أخرى ؛ أجمل الحال .
(فاختلط الأمر وانبهم؛ فمنا من جهل في علمه) لغلبة حكم الإمكان والمظهرية عليه.
فقال: (والعجز عن درك الإدراك إدراك) مفصحا عما يقتضيه مشهده الذاتي من تعانق الأطراف وجمعية الأضداد.
( منا من علم) أن ذلك الجهل الذي في العلم هو منتهی مراتب العلم ، إلا أن القول بذلك الكلام يدل على عدم وصوله إلى هذا العلم ، (فلم يقل مثل ذلك) مع أنه هو الكلام الكاشف عن كنه مقتضى هذا الموطن .
(وهو أعلى القول ، بل أعطاه العلم السكوت ، ما أعطاه العجز) لعدم انقهاره تحت أحكام الإمكان ومظهريته الخلقية ؛ ( وهذا هو أعلى عالم بالله ) حيث لم ينقهر بقوة استعداده الذاتي لمقتضيات ذلك المشهد العظيم من تجاذب الأطراف المتعانقة ، وتخالف أحكامها المتضادة ، بل أحاط بالكل علما ، ولم يتأثر من تلك الأحكام وهو أعلى عالم بالله . 


في العلم الخاص بخاتم الأولياء :
(وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء) فإنهما هما الواصلان في الحقائق والمعارف إلى أقاصي كمالها بجزئياتها وكلياتها ، وصورها ومعانيها ، وهي حضرة متعانق الأطراف ومجتمع الأضداد ، كما علم من آثارها ، حيث أن الجهل في عين العلم بها ، والعجز عن إدراكها هو إدرا كها ، وأن معلوميتها تقتضي الخفاء ومجهوليتها الإظهار إلى غير ذلك وهذه الحضرة هي المسماة في لسان الاصطلاح بالهوية المطلقة والتعين الأول ، يقال لها بهذا الاعتبار الحقيقة المحمدية ، فإن الحقيقة من كل أحد هي مستند المعرفة التي له من الحق .
ولذلك قال : ( وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم ، وما يراه أحد من الأولياء إلآ من مشكاة الولي الخاتم ) .
ثم إن هذا العلم لما كان من الكمالات المعنوية والحقائق الكلية التي لا تتحول أحكامها بتبدل أجزاء الزمان ، ولا ينقرض بانقراض تنوعاته ، يكون من خصائص أطوار الولاية ولوامع أنوارها ، فكل من أظهر لمعة منه إنما يكون ذلك من عين الولاية مقتبسة من مشكاة خانمها ضرورة حتى أن الرسل لايرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء .
فإن الرسالة والنبوة "أعني نبوة التشريع " لا نبوة التحقيق الكاشفة عن المواطن المعادية والمواقف المحشرية ، فإن ذلك أيضا من شعاشع أنوار الولاية التي لا تختلف باختلاف الزمان وصروف الدوران (ورسالته تنقطعان) لأنهما مبنیتان لأحوال أفعال مكلفي كل دور من الأدوار الزمانية ، حسبما يقتضيه ذلك الزمان منها ، فتنقرض انقراضها ضرورة (والولاية لاتنقطع أبدا) لأنها الكاشفة عن الحقائق الكلية المستقرة ، على حال واحدة من الأزل إلى الأبد .
(فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلآ مشكاة خاتم الأولياء؛ فكيف من دونهم من الأولياء) فخاتم الأولياء هو السابق في مضمار هذا النوع من الكمال ،وغيره من لواحقه وتوابعه.
(وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه یكون أنزل).
وهو وضع الصور الجزئية والهيئات والأوضاع الجعلية، المنطوية على الحقائق الكمالية، (كما أنه من وجه يكون أعلى)، وهو كشف المعاني الكلية والعلوم اللدنية الذاتية والحقائق الكمالية المعربة عن كنه المراد منها، فيكون متبوعا من وجه، تابعا من آخر، على ما اقتضاه الصورة الوجودية من الأمر الدوري والنظم، الربطي الوحداني الامتزاج.
(وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه) من تابعية المتبوع المطلق فهو في المتبوع من وجه أولى بالوقوع.
وذلك (في فضل عمر) على أبي بكر (في ساری بدر ، بالحكم فيهم ) ، حيث رأى فيهم أبوبكر أن يأخذ منهم الفدية و يطلقهم ، ورأى فيهم عمر بضرب الرقاب ، فأنزل الله الآية الكريمة موافقة لرأي عمر وهي قوله تعالى : " مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)" سورة الأنفال .
(وفي تأبير النخل) حيث منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ما أرى في ترككم تأبيره مضرة"، فتركوا تأبير النخل، ففسدت ثماره.
فقالوا لرسول الله، فقال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» واعترف بأعلميتهم في هذا الحكم، فعلم من هذا أن الكامل قد يتبع غيره في جزئيات الأحكام.
(فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في رتب العلم بالله - هنالك مطلبهم- وأما حوادث الأكوان، فلا تعلق لخواطرهم بها . فتحقق ما ذكرناه) وهو أن الحوادث الكونية لايصلح لأن يلتفت إليها خواطر الكتل أصلا، لأنها مع عدم تناهيها ليس لأحوالها أيضا انقطاع، حتى يستقر على حالة واحدة يعلم بها، فلا يمكن أن تتعلق بتصفح تلك الجزئيات فائدة علمية ولا غاية كمالية.
نعم إنما يتوجه إليها من كان بمعزل عن الحقائق الكلية والمعارف الكمالية جدا، غیر محتظي من أذواقها المتشوقة أصلا.
كبعض المجذوبين أو السالكين القاصرين استعداداتهم عنها فإذا لاح لهم في خلواتهم عقيب ارتكاب مجاهداتهم تلك الصور في المثل الخيالية أو ما يجري مجراها من الأنوار الشعشعانية التي تبجح بها بعض الأفاضل من أهل النظر.
استلذوا منها، واستقنعوا من لذيذ أذواق المشرب الكمالي وعذب شرابها بلامع سرابها.
دع التصوف والفضل الذي اشتغلت  …. به جوارح أقوام من الناس
وعج على دير داري فإن بها     …. الرهبان ما بين قسيس وشماس
واشرب معتقة من كف كافرة   ….. تسقيك خمرين من لحظ ومن كاس
وإذ قد انساق الكلام في أمر الخاتمين وبيان ما بين كمالهما من التفاوت إلى ما انساق مما يستصعبه طباع أكثر المسترشدين من الذين أسسوا مباني عقائدهم على الصور المثالية ، واستحكموها بالمقدمات النقلية والأقيسة الخيالية ، أراد أن يستوضح ذلك بمثال يكشف عن تحقيق معنى الختمين.
يتبع الفقرة الثانية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 9:54 am

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية  الجزء الثاني
وعن تصوير حقيقة المختومين ، بما ينبئ عن خصوصية كمالي الخاتمين و وجوه تمييزهما .
مما نقل عن النبي الخاتم و تحليلا لعقود استصعابه ، وتقريبا منه إلى فهوم المستصعبين من المسترشدين في قوله :

تمثيل النبوة بالحائط :
( ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن ) ؛ ووجه مناسبتها بالحائط إما صورة : فلكونها مع ما فيها من الحيطة يحوط نظام متفرقات العالم من الشتات من قولهم : «حاطه يحوطه» أي كلاه ، و«يحوط » - أيضا إذا جمعه .
ولكونها مع أنها حائطة بتلك المعاني مشتملة على العلوم المتمثلة بحسب الصورة ، المتفاوتة بالعلو والكمال ؛ وذلك علوم الأنبياء كلها .
ولذلك قال : «من اللبن» فإنه عين اللبن المأول بالعلم بحسب الصورة الرقمية .
وأيضا : اللبن إنما هو صورة تنوع أرض الاستعداد على ما صورها عليه ماء العالم ، بعد أن لينها وصتها في قوالب قلوب الأنبياء .
وأما معنى : فلأنها امتداد طالع من أسافل أراضي الحدوث والإمكان إلى أعالي سماوات القدم والوجوب ، ولأنها متدرجة في ذلك الطلوع باشتمالها على أجزاء متماثلة الصورة والحقيقة ، هي جزئيات نوع واحد .
كما قال تعالى : "لا نفرق بين أحد من رسله " متخالفة الرتب ودرجات الكمال ، الذات ، إنما يتعدد ويتكثر بالأعيان والمظاهر القابلة ، وذلك لما أثبتوا لها من الوحدة المقابلة للكثرة .
ولما كانت وحدتها عند الشيخ هي الوحدة الإطلاقية والأحدية الجمعية الذاتية التي لا يشوبها شائبة ثنوية التقابل أصلا ، فلابد وأن يكون مخزن العطايا الغير المتناهية الغير المتكثرة
إنّما يتكمّل ذلك الامتداد بواحد منها هو أعلى من الكلّ ، لأنّ جميع تلك الجزئيّات مدارج علوّه ومباني مراقي قربه ، بل إنّما يوجد به لأنّه الجزء الأخير من مركَّب ذي أجزاء ، هي تلك الجزئيّات الإنسانيّة المسمّاة بالأنبياء ، وإليه أشار بقوله :

ما يراه خاتم الأولياء في مواضع اللبنات
( وقد كمل سوى موضع لبنة واحدة ، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم تلك اللبنة ، غير أنّه صلَّى الله عليه وسلَّم لا يراها إلَّا كما قال : لبنة واحدة وأمّا خاتم الأولياء فلا بدّ له من هذه الرؤيا ) لأنّه الحائط بكماله الذي هو غاية الغايات وأقصى النهايات في الحيطة بمعانيها ( فيرى ما مثّله به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ) من الحائط المشتمل على تلك الأجزاء المترتّبة المرتبة لمدارج علوّه ومراقي عروجه إلى مقامه الأقرب إلَّا أنّه يرى تلك الأجزاء المشتمل عليها الحائط نوعين ( ويرى في الحائط موضع اللبنتين ، واللبن ) المبتني منه الحائط في رؤيته مختلف في الصورة والعزّة ( من ذهب وفضّة ، فيرى اللبنتين اللتين ينقص الحائط عنهما ويكمل بهما لبنة فضّة ولبنة ذهب ، فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين ) لأنّ الحائط هو صورة امتداد علوّه من أسافل أراضي القوّة إلى أعالي سماوات كمالها ( فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين فيه ، فيكمل الحائط ) .
(والسبب الموجب لكونه يراها لبنتين أنّه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر - وهو موضع اللبنة الفضّية ) لظهور لون الفضّة مع نقصان جوهرها عن الكمال النوعي له ( وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام ) الشرعيّة والأوضاع النبويّة الظاهرة فخاتم الأولياء تابع ( كما هو آخذ عن الله في السرّ ما هو في الصورة الظاهرة متّبع فيه ، لأنّه ) بكمال كشفه التامّ ( يرى الأمر على ما هو عليه ، فلا بدّ أن يراه هكذا ) لما عرفت أنّ اللبن صورة علمهم الواقعة في مراتب كمالهم .
ولمّا كان لخاتم الأولياء أنهى الغايات فيه لا بدّ أن يرى صورة ما يكشف له من المتابعة - وهو موضع اللبنة الفضيّة في الظاهر - وأن يرى صورة ما يكشف له عن حقيقة تلك الصور التابع لها ولميّته - ( وهو موضع اللبنة الذهبيّة في الباطن ) فإنّها كمال الفضّة المتبطَّن فيها ، وغايتها المساقة هي إليها ، فيراه على تلك الصورة ضرورة ( فإنّه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول ) فيكون صافية عن شوائب الوسائط التي بها يتمكَّن أن يظهر على الكافة ، أعني بياض الفضّة ، فإنّه مع كمال الظهور متوسّط في غاية كماله النوعي ، بخلاف صفرة الذهب ، فإنّها مع جامعيّتها بين بياض الظهور وسواد البطون لها الغاية الكماليّة التي لا يتخلَّلها الوسائط .
فلئن قيل : كان الأنسب لرؤية رؤيا اللبنتين خاتم الأنبياء ، لجامعيّته بين الولاية والنبوّة ؟
قلنا : إنّما يكون كذلك لو كان المراد باللبنة الذهبيّة هي الولاية - كما توهّمه من هو ذاهل عن لطائف إشارات الشيخ ودقائق مرموزاته - فأمّا إذا كان  المراد بها ما ذكرناه مما أخذ عن الله في السرّ من الصور المتّبعة فيها - على ما هو صريح عبارة الشيخ - فلا فإنّ الحائط الذي في تمثيل خاتم الأنبياء هو بعينه الحائط الذي يراه خاتم الأولياء من حيث أنّه صورة حيطة النبوّة بأوضاعها ، إلَّا أنّه لاختصاصه بالأخذ من المعدن ، والكشف عن سرّ ذلك لا بدّ وأن يرى الحائط مشتملا على النوعين من اللبنتين ، ويرى نفسه منطبعة في موضع اللبنتين اللتين من متمّماته وأعاليه ، فإنّهما صورة السرّ المأخوذ من المعدن ، الذي هو الغاية الكماليّة ، وصورة الواسطة الواقعة بينه وبين تلك الغاية ، فهو صورتهما بعينهما بخلاف خاتم الأنبياء ، فإنّ الواسطة في موقف نبوّته هو الملك الذي يوحى به إليه ، وهو خارج عنه ، غيره وفي هذا الكلام دقائق إنّما يتفطَّن إليها اللبيب بقوّة ذكائه وذوقه .
وفي تخصيصه التمثيل بخاتم الأنبياء ، والرؤية بخاتم الأولياء ما يطلعك على هذا .
وفي عقدي « الولي » و « النبي » أيضا ما يلوّح على اختصاص خاتم الولاية بالوجهين ، وهما رؤية اللبنة متعددة ، وأنّ إحداها « 1 » من الذهب ، فإنّ الأولى هي صورة زيادة الكشف على الوضع ، والثانية صورة عدم الواسطة بينه وبين الغاية التي ليس وراءها غاية .
وإلى أمثال هذه التنبيهات أشار بقوله : ( فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع ) ضرورة أنّ النافع من العلوم هو ما يختصّ بنيله أهالي كلّ زمان ، من اولي نهايات الكمال فيه ، فإنّه ممّا يترقى به المستعدّ ومن انخرط في سلك المسترشدين منه في ذلك الزمان بالوقوف عليه من مواقف تقاعده وتكاسله إلى معارج الطلب والسلوك ، حتّى يتّصل بهم ، كخصائص خاتم الولاية في زماننا هذا .
ثمّ إنّ في كلام الشيخ ما يدلّ على أنّه هو الخاتم للولاية الخاصّة المحمّديّة.
وأنّه قد رأى الرؤية المذكورة بذلك الوجه المقرّر وقد صرّح في الفتوحات أنّه قد ظهر له ذلك في سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة فاس مدينة بالمغرب . "الفتوحات المكية : الباب الثالث والسبعون ، جواب السؤال الثالث عشر من أسئلة الترمذي ، 2 / 49 .
"وأما ختم الولاية المحمدية ، فهي لرجل من العرب ، من أكرمها أصلا ويدا ، وهو في زماننا اليوم موجود ، عرفت به سنة خمس وتسعين وخمس مائة ، ورأيت العلامة التي له قد أخفاها الحقّ فيه عن عيون عباده ، وكشفها لي بمدينة فاس ، حتى رأيت خاتم الولاية منه ، وهو خاتم النبوة المطلقة ولا يعلمها كثير من الناس ، وقد ابتلاه الله بأهل الإنكار عليه فيما يتحقّق به من الحقّ في سرّه من العلم به"
وذلك يدلّ على أنّه مما خصّه الله به من الولاية المحمّدية ، لا الولاية العامّة كما يدلّ إذا حوسب معه زمان ظهور هذا الكتاب أنّه هو لبّ ما ظهر له من المعارف الختميّة وخصائصها ، على ما يتنبّه إليه الفطن .
وإذ قد لا يخفى على من له دربة بأساليب ذوي التحقيق أنّ الغاية هي التي تساوق الفاعل في مطلق الوجود ، لكمالها الخاصّ بها ، فإنّها توجد أوّلا بوجود الفاعل وتتّحد معه وتشوّقه إلى ذلك الكمال الخاصّ بها ، ثمّ تسوقه « 3 » نحو مباشرة الفعل المفضي إليها ، وأمّا ما توسّط بينها وبين الفاعل ممّا يتدرّج إلى تلك الغاية
فإنّما يوجد بكماله بعد مباشرة الفعل إيّاه وجوده بالفعل ، لأنّ وجوده متأخّر عن الفاعل وفعله مباين له غير متّحد به أصلا .
(فكلّ نبيّ - من لدن آدم إلى آخر نبيّ - ما منهم أحد يأخذ إلَّا من مشكاة خاتم النبيّين ، وإن تأخّر وجود طينته ، فإنّه بحقيقته موجود ) ضرورة أنّه هو الغاية للحركة الوجوديّة بحسب الظاهر ، فإنّه الواضع بأفعاله وأقواله تمام الصورة الدالَّة على كنه المراد ، فله التقدّم بحسب الوجود على الكلّ ، فإنّه الموجود بوجود فاعله ، لكماله الخاصّ به متّحدا به ، (وهو قوله : " كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين " وغيره من الأنبياء ما كان نبيّا إلَّا حين بعث ) .
( وكذلك خاتم الأولياء ) لأنّه هو الغاية لتلك الحركة بحسب الباطن ، وهو الكاشف بتقريره وتحريره تمام المراد وكنهه عن تلك الصور الموضوعة من خاتم الأنبياء ، فلذلك ( كان وليّا وآدم بين الماء والطين ، وغيره من الأولياء ما كان وليّا إلَّا بعد تحصيله شرائط الولاية ، من الأخلاق الإلهيّة في الاتصاف بها من كون الله يسمّى بالولي الحميد ) بيان لتلك الأخلاق وتنبيه إلى أنّ الولاية من الأوصاف الإلهيّة الأبديّة ، فختمها ليس بمعنى الانقطاع ، بل بمعنى تماميّتها
وكماليّتها ، ولا يمكن أن يختم أبواب تمامها وكمالها إلَّا باسم الكامل المطلق .
( فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم للولاية نسبة الأنبياء والرسل معه ، فإنّه الولي الرسول النبي ، وخاتم الأولياء الوليّ ) بذاته ( الوارث ) مرتبة الرسالة والنبوّة منه ، ( الآخذ عن الأصل ) أسرارها ، ( المشاهد للمراتب ) بأطوارها .
وهذان الخاصّتان هما المتمثلتان في رؤيا اللبنتين بصورتيهما كما عرفت .
وإذ قد ظهر أنّ خواصّ ختم الأولياء كلَّها الأسرار الخفيّة والحقائق المعنويّة - لا غير - وهي إنّما تتحقّق في ضمن الصور الكائنة التي هي من أوضاع خاتم الرسل وخواصّ أطوارها ، بل الخاتم نفسه منها ، ضرورة أنّه من الصور التي أشار إليها بضروب من الإشارات والدلالات ، إلى ذلك أشار بقوله : ( وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم ) وإلى ذلك يحمل ما سأل في قوله تعالى : " رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً " ، فإنّ المراد بـ « حسنة الآخرة » هو ختم الولاية ، كما أنّ حسنة الدنيا هو ختم النبوّة .

سيادة خاتم الرسل صلَّى الله عليه وآله وشفاعته
ثمّ إنّ أمر الصورة وظهور أحكامها إنّما يتحقّق أو يمكن عند نفوذ حكم سلطان الجمعيّة في متفرقات الموادّ المتخالفة والأسماء المتقابلة ، وكشف كل منها عن أفعالها الضارّة وأحكامها المنتقمة ، ولذلك وصف خاتم الرسل بقوله (مقدّم الجماعة وسيّد ولد آدم في فتح باب الشفاعة) فإنّ في قدمه مرابط نظام متفرقات أعيان العالم وأشتات الأسماع ، وبيده مقاليد خزائن كمالها ، بمحافظتها عن الانقهار تحت أحكام مقابلاتها ومعانداتها وهو المعبّر عنه بالشفاعة ، إذ الشفاعة لغة هي الانضمام إلى الآخر ناصرا له وسائلا عنه وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى ، ويمكن أن يستشعر من الشفاعة هذه معاني أخر ينبّه إليها إن شاء الله تعالى في غير هذا المجال .
ولمّا كان سيادته ليست على إطلاقها قيّد ذلك ( فعيّن حالا خاصّا ) وهو فتح باب الشفاعة (ما عمّم ، وفي هذا الحال الخاصّ تقدّم على)
( الأسماء الإلهيّة ) على ما ورد في الحديث إنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو أوّل من يفتح باب الشفاعة فيشفع في الخلق ، ثمّ الأنبياء ، ثمّ الأولياء ، ثمّ المؤمنون ، وآخر من يشفع هو أرحم الراحمين ، فإنّ محمّدا هو أوّل من فتح باب الشفاعة في إتمام نظام صور الخلق ، بانضمامه إليهم ، ووضع أحكامها الكماليّة لهم كما سبق ثمّ الأنبياء على اختلاف طبقاتهم في إحاطة أحكامهم لتلك الصور ، ثمّ الأولياء الوارثين لهم ، ثمّ المؤمنين المجتهدين لتلك الأحكام الارتباطيّة والمقلَّدين من الحكَّام والقضاة .
ولا يخفى أنّ هذه الشفاعة مختصّة بمكلفي بني آدم من العالمين ، وما بقي من ذلك يكون تحت شفاعة أرحم الراحمين ، فالمنهمكون في فيافي الكفر وظلمات الضلالة أمر شفاعتهم قد اختصّ بالرحمن ، ( فإنّ الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلَّا بعد شفاعة الشافعين ) وهذا مبتن على ما مهّد عندهم من أنّ طلب الأعيان وسؤالهم مقدم على وجود الأسماء وظهور أحكامها .
( ففاز محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم بالسيادة في هذا المقام الخاصّ ) - لاستيعاب شفاعة عموم الخلائق ، وإن كانوا مخالفين لأحكام نبوّته التشريعيّة - بقوله: " شفاعتي لأهل الكبائر من امّتي " ، وذلك لتقدّمه في المراتب الوجوديّة .
ثمّ إنّ اختصاص سيادته صلَّى الله عليه وسلَّم بالمقام المذكور ، الساري حكمه في سائر المراتب الوجوديّة والمقامات الشهوديّة لا يخلّ بكماله الأتمّ ، وإليه أشار بقوله : ( فمن فهم المراتب ) الوجوديّة ( والمقامات ) الشهوديّة ( لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام )

المنح الأسمائية
هذا كلَّه في الأعطيات الذاتيّة ( وأمّا المنح الأسمائيّة ) - وفي تخصيص لفظ « المنح » بالأسمائيّة و " العطاء " بالذاتيّة ما قيل من أنّ " المنح : تمليك الانتفاع دون الرقبة ، والعطاء تمليك الرقبة " وما نبّهتك عليه في طي التلويحات من اختصاص الأفراد بطرف بطون الذات  واختصاص الأزواج بظهور الأسماء ومنه أيضا علم وجه اختصاص العطاء الذاتي ب « الله » ، والأسمائي بـ « الرحمن » ، مع ما في الأوّل من معنى الوله والحيرة ، التي هي مقتضى البطون وما في الثاني من معنى الرحمة والوجود ، الذي هو مقتضى الظهور ، ولذلك قال : (اعلم أنّ منح الله تعالى خلقه رحمة منه بهم ، وهي كلَّها من الأسماء )
ضرورة أنّ الذات من حيث هي هي مقطوعة النسبة مطلقا عن الخلق ، إلَّا أنّ الرحمة الأسمائيّة على قسمين : ( فإمّا رحمة خالصة) عن المنافرات وغير الملائمات - ممّا يشوب به صرافة الرحمة عاجلا وآجلا ( كالطيّب من الرزق اللذيذ في الدنيا ، الخالص يوم القيامة ، ويعطي ذلك الاسم الرحمن ، فهو عطاء رحماني ) .
(وإمّا رحمة ممتزجة ، كشرب الدواء الكرية  الذي يعقب شربه الراحة ، وهو عطاء إلهي ) وإنّما اختصّ هذا بالإلهي مع أنّ الكلّ منه ، لما فيه من عدم الملاءمة التي تقابل الرحمة الوجوديّة ، فلا بدّ من انتسابه إلى ما يقابل الرحمن ، مما هو في حيطة خصوصيّة اسم الله ، كالقهّار والحكيم والضارّ ، إذ الحاصل من الكل إلهي .

أقسام العطايا
( فإنّ العطاء الإلهي لا يتمكَّن إطلاق عطائه منه من غير أن يكون على يدي سادن من سدنة الأسماء ) لامتناع انتساب شيء من الأحكام والأفعال إليه من حيث إطلاقه ، بدون أن يضاف إليه من خصوصيّات الأسماء ومقتضيات القوابل شيء ، فإنّه غير متمكَّن عن ذلك .
( فتارة يعطي الله العبد على يدي الرحمن ) وهو الوجود المحض ( فيخلص العطاء من الشوب الذي لا يلائم الطبع في الوقت ) في الدنيا ( أوّلا بنيل الغرض)  في الآخرة (وما أشبه ذلك ) من الأوصاف العدميّة المنافية للرحمة الوجوديّة ، وهذا هو العطاء الرحماني .
وأمّا ما يقابله يعني العطاء الإلهي فله أقسام أشار إليها بقوله : ( وتارة يعطي الله على يدي الواسع ) بإظهار لفظة « الله » تنبيها على أنّه هو الذي في مقابلة العطاء الرحماني ، ( فيعمّ ) الملائم وغيره .
هذان القسمان لهما الشمول والإحاطة للمخلوقات ، وأمّا ما يختصّ منها بالبعض ، فلا يخلو من أن يكون المخصّص لها حال العبد ، أو الحق والأول إمّا أن يكون الحال التي هو عليها ، أو الحال التي يستحقها ، فهذه الأقسام هي السبعة التي هي صورة الكمال الأسمائي للحق على ما ستطلع عليه في طيّ الكتاب إن شاء الله تعالى .
ولذلك بنى أمر تفصيل الأسماء التي هي طرف السعة الحق على السبعة ، لأنّها صورة الكمال مشيرا إلى تلك الأقسام بقوله : ( أو على يدي الحكيم فينظر في الأصلح في الوقت ) أي بالنسبة إلى العبد .
( أو على يدي الواهب ، فيعطي لينعم ، ولا يكون مع الواهب تكليف المعطى له بعوض على ذلك من شكر أو عمل ) فيكون المخصّص لهذا القسم ما للحق من الجود .
( أو على يد الجبّار ، فينظر في الموطن وما يستحقّه ) . ( أو على يد الغفّار ، فينظر المحلّ وما هو عليه ، فإن كان على حال يستحقّ العقوبة فيستره عنها ، أو على حال لا يستحقّ العقوبة فيستره عن حال يستحقّ العقوبة ، فيسمّى معصوما ) فيمن كان له قصد بذلك كبعض المؤمنين ( ومعتنى به ) فيمن كان غير قاصد ، فإن كان خاطرا بباله كالأولياء ، ( ومحفوظا ) فيمن حفظه الله من أن يخطر بباله ذلك كالأنبياء .
( وغير ذلك مما شاكل هذا النوع ) من العطاء ، وكذلك كل اسم يعطي بحسب ما يختصّ به من العطاء اسما يشاكل نوعه .

العطاء باليدين أو باليد الواحدة
ثمّ هاهنا دقيقة حكميّة لا بدّ من الوقوف عليها ليظهر المراد من تمام كلامه ، وهي أنّ الفعل العطائي المستحصل من الأسماء إلهيّة كانت أو ربوبيّة لا يخلو من أن يكون كلتا يدي القبول والفعل - الذين بهما يصدر ما يصدر من
الأسماء - لهما دخل في اختصاص ذلك الصدور بوقته ومحلَّه ، وهو أن يكون المخصّص لبعض العباد بذلك العطاء ما للحقّ من الإرادة والحكمة - كتخصيص الرحمن والإله والواسع عطاياها ببعض العباد في وقت ، وآخر في آخر - أو يكون مبدأ ذلك الصدور أحدهما فقط ، وهو أن يكون المخصّص المذكور ما للعبد من الاستحقاق والافتقار ، كتخصيص الجبّار والغفّار بعض المستحقّين بعطائهما به فإذا عرفت هذا وقفت على وجه ما خصّص بعض الأسماء عند عطائها باليدين ، والآخر باليد .
( والمعطي هو الله من حيث ما هو خازن لما عنده ) من العطايا والنسب الأسمائيّة كلَّها بذواتها وأوصافها وأحكامها ( في خزانته) العلميّة التابعة للمعلوم ( فما يخرجه إلَّا بقدر معلوم ) يقتضيه استعداد ذلك المعلوم ( على يدي اسم خاصّ بذلك الأمر ) من الأحكام المستدعية لها ذلك المعلوم بلسان الاستعداد ( فـ " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ُ " (على يدي الاسم العدل وأخواته ) كالمقسط والحكم واللطيف والخبير .

( وأسماء الله ) وإن كانت ( لا تتناهى ، لأنّها تعلم بما يكون عنها ) ، أي يحصل منها من الأعيان ، ( وما يكون عنها غير متناه ، وإن كانت ترجع إلى أصول متناهية ) كالعوالي من الأجناس وأئمّة الأسماء ، وتلك حقائق كلَّية (هي امّهات الأسماء) باعتبار صدور الجزئيّات وتولدها منها (أو حضرات الأسماء)
باعتبار تقدّمها في نفسها وتقرّبها إلى الذات ، ضرورة أنّ الكلّ راجع إلى إمام الأئمّة التي له الإحاطة بالكل ، وفيه حضور الكلّ .

تتميّز الأعطيات بتميّز الأسماء
( وعلى الحقيقة ، فما ثمّ إلَّا حقيقة واحدة تقبل جميع هذه النسب والإضافات التي يكنّى عنها بالأسماء الإلهيّة ) وهي الحضرة الإلهيّة المنسوبة هي إليها ، فاللَّه هو الجامع وله الإحاطة الاتحاديّة بالكلّ .
( والحقيقة تعطي أن يكون لكلّ اسم يظهر - إلى ما لا يتناهي - حقيقة يتميّز بها عن اسم آخر  تلك الحقيقة التي بها يتميّز هي الاسم عينه ، لا ما يقع فيه الاشتراك ) ضرورة أنّ تعيّن كل عين إنّما هو بالوجوه الامتيازيّة المحصّلة لعينيّته كما أنّ تحقّق الأنواع بالفصول المقوّمة لنوعيّته .
فعلم أنّ الأسماء تتميّز بخصوصيّاتها ( كما أنّ الأعطيات تتميّز كلّ اعطية عن غيرها بشخصيّتها ، وإن كانت من أصل واحد ، فمعلوم أنّ هذه ) العطيّة ( ما هي هذه الأخرى وسبب ذلك تميّز الأسماء ) المعطي لها ، ولا شك أنّ النسبة تتمايز بتمايز أحد المنتسبين .
فالاعطيات متغايرة ( فما في الحضرة الإلهيّة لاتّساعها شيء يتكرّر أصلا ) ضرورة أنّها خزانة الأعطيات الغير المتناهية ، وهذا خلاف ما ذهب إليه أرباب التوحيد الرسمي ، من أنّ العطاء والعلم والفيض كلَّها في تلك الحضرة وحدانيّة
الذات ، إنّما يتعدّد ويتكثّر بالأعيان والمظاهر القابلة ، وذلك لما أثبتوا لها من الوحدة المقابلة للكثرة .
ولمّا كانت وحدتها عند الشيخ هي الوحدة الإطلاقيّة والأحديّة الجمعيّة الذاتيّة التي لا يشوبها شائبة ثنويّة التقابل أصلا ، فلا بدّ وأن يكون مخزن العطايا الغير المتناهية الغير المتكثّرة ،
، وإلى ذلك الخلاف أشار بقوله : ( هذا هو الحق الذي يعول عليه ) كما قال في نظمه :
كثرة لا تتناهي عددا    ….. قد طوتها وحدة الواحد طي
( وهذا العلم كان علم شيث عليه السلام ) أي العلم بالسعة الإحاطية الحاوية لما لا يحيط به نهاية ، لا عدا ولا حدا ؛ وذلك لما تقرر في مطلع الفص أنه أول مولود ولد من الوالد الأكبر ، فهو الجامع لسائر ما ولد بعده من الأولاد .
ويلوح على ذلك ما اشتمل عليه اسمه هذا عقدا ورقما من التسعة التي هي أقصى طرف سعة الكثرة و أنهى مراتبها، وهذا هو السبب في تقديم كلمته وتصدير حكمته، لأنها الكاشفة عن جملة ما اشتمل عليه الكلم من الحكم.
(وروحه هو الممد لكل من يتكلم في مثل هذا من الأرواح، ما عدا روح الختم، فإنه لاتأتيه المادة إلا من الله) لما سبق أنه الغاية والصورة التمامية، فله التقدم الذاتي والعلق الرتبي الذي لا يتخلل الواسطة بينه وبين العلي المطلق ، فتكون مادته العلمية الكمالية من الله (لامن روح من الأرواح بل من روحه تكون المادة لجميع الأرواح ، وإن كان لايعقل ذلك من نفسه في زمان تركیب جسده العنصري) لتراكم كثائف حجب الغواشي الهيولانية في ذلك الزمان ، وتسلط قهرمان القوى الجسمانية فيه على ما حققه صاحب المحبوب سلام الله عليه في كتابه .
ولكونه بتلك الرقيقة الجمعية الحائزة للطرفين، والرابطة الإحاطية الحاوية للضدين الخاصة به يتقرب إلى الهوية المطلقة، ويستفيض منها بلا واسطة، فإنه وإن كان من هذه الحيثية جاهل بذلك العلو.
(فهو من حيث رتبته) الغائية (وحقيقته) العلوية المحيطة (عالم بذلك كله بعينه، من حيث ما هو جاهل به من جهة تركيبه العنصري) بناء على ما مر غير مرة من أن الحقيقة الختمية من خصائصها تعانق الأطراف والإحاطة بجميع النهايات وجملة الزيادات، وبين أن ذلك إنما يتحقق بجمعيتها للضدين بحيثيتهما المتضادتين، فيكون مجمع الأضداد حينئذ من الجهتين.
أي باعتبارأحدية الموردين والمبدئين المتغائرین، لا باعتبار تغائر الحيثيات فإنه ليس مجمعا للضدين حينئذ. وقوله : " بعينه " لدفع ذلك الوهم.
وكذلك قوله رضي الله عنه: (فهو العالم الجاهل ، فيقبل الاتصاف بالأضداد كما قبل الأصل الاتصاف بذلك ، كالجليل والجميل ) في الأوصاف الحقيقية الغير النسبية (وكالظاهر والباطن والأول والآخر) في الأوصاف النسبية .
( وهو عينه ) عند الاتصاف بتلك المتقابلات ( ليس غيره ) في حال من تلك الأحوال ؛ ( فيعلم ولا يعلم ، ويدري ولا يدري ، ويشهد ولا يشهد ) .

سبب تسمية شيث :
قال رضي الله عنه : (وبهذا العلم سمي شيث) أي بالعلم بأحدية جمع جميع العطايا الإلهية جمعا إحاطيا حاويا لجميع النهايات وغايات الزيادات بما لا يفي بمقابلته نقود استعداد العباد، فيكون من خزانة الوهب ومحض الامتنان .
فوقع اسم شيث مطابقا لمسماه ( لأن معناه : هبة الله ؛ فبيده ) أي في قبضة حقيقته الجامعة واستعداده الأصلي (مفتاح العطايا على اختلاف أصنافها ونسبها) كما سبق تفصيلها .
قال رضي الله عنه : (فإن الله وهبه لآدم أول ما وهبه) إسعافا بما استدعاه لسان استعداده من استخراج كوامن العطايا الذاتية والأسمائية فيه ، فما استدعى آدم إلا ما فيه ، (وما وهبه إلآ منه ، لأن الولد سر أبيه ).
وأما بيان أنه أول ما وهبه : فإن آدم كما عرفت هي النفس الواحدة بالوحدة الجمعية ، الكائنة بالكون الإحاطي ، الكامنة فيها تفاصيل جميع العطايا والمواهب ، من مبدأ الفتح إلى منتهی الختم ؛ وشيث كما ظهر من التنزيلات المتعسفة والتأويلات الغير المتسقة لهذا الكلام .
وإذ قد تبين أن الأولاد أسرار الآباء فوهب شيث لآدم ليس مما ناله من الخارج، بل إنما هو من نفسه (فمنه خرج، وإليه عاد، فما أتاه غريب لمن عقل عن الله) أي أدرك منه بلا توسط آلة ولا وساطة عبارة.
ولفظ «العقل» له خصوصية هاهنا من دون "الأخذ" و "الكشف" وغيره من حيث أنه من علوم التفرقة التي يعتبر فيها التفصيل، فلابد من عقل يضبطها، ضبط جمعية للأطراف والنهايات ، فالواصلون إلى هذا الإدراك هم الحكماء الإلهيون ، أرباب العقول الكاملة والأذواق الشاملة .
وما قيل": «إن غفل» من الغفلة، بناء على أن «ما» موصولة فهو بعيد ، نشأ من الغفلة عن مقصود الكتاب ، فإنه تعريض بمن عقل عن الأسباب أعني أهل النظر كما سيجيء ما يؤيده .
قال رضي الله عنه : (وكل عطاء في الكون على هذا المجرى) بواسطة كان ذلك ، أو بلا واسطة، ذاتيا كان ، أو أسمائيا - فإنك قد عرفت أن العطاء الذاتي هو الذي بصورة استعداد المعطى له ، لاغير ؛ والمرآة نصبها الله مثالا له .
( فما في أحد من الله شيء) من خصوصيات العطايا ، وإن كان أصلها ذاتية إلهية ، فإن تلك الحضرة أقدس وأنزه من أن يحضر لديها تلك النسب ، كما سبق تحقيقه في مثال المرأة والصورة المتمثلة فيها ، إذ قد ظهر أنه ليس في التجليات الإلهية خصوصية إلا من القوابل .
قال رضي الله عنه : ( وما في أحد من سوى نفسه شيء ، وإن تنوعت عليه الصور ) أي على ذلك الأحد بحسب سيره في مواطن أراضى استعداده و مسالك عرضها الواسع الذي لاحد لأبعادها ، ولا عد لأفراد الصور المتشخصة فيها ، فتكون هذه الصور التي لا يبلغها الإحصاء عدا وحدا تنوع بها ذلك الأحد مع أحديته، فالكل فيه ، وما فيه من الله شيء.
قال رضي الله عنه : (وما كل أحد يعرف هذا وأن الأمر على ذلك ، إلآ آحاد من أهل الله) صاحب الإشراف على متعانق الأطراف وشاهد الأحدية الجمعية الذاتية ، بأن الكل منه وإليه ، لا خارج منه شيء أصلا ، وأن الله بذاته منزه عن هذه النسب كلها .
لا يقال : إن أحديته تعالى إذا كان أحدية جمع لا تنافي تعدد النسب تقده وتنزهه ؟
لأن الذي ينافيه النسبة مطلقا هو هذه الأحدية ، دون أحدية الفرق - كما مر.
(فإذا رأيت من يعرف ذلك فاعتمد عليه، فذلك هو عين صفاء خلاصة خاصة الخاصة من عموم أهل الله تعالى) ، المعدودين في طي هذه الحكمة بأنواعها وأصنافها .
فذلك الكامل هو عين المنتقدين من الأصفياء، وخلاصة طبقات المنتجبين من الكتل، طبقا على طبق، إلى سبع مراتب لما عرفت سترها غير مرة على ما صرح إليه بعبارته هذه - فلا تغفل.
(فأي صاحب كشف شاهد صورة) مثالية - كما وقع لكثير من المنقطعين المتجردين أن يظهر لهم صورة شخص من المرشدين والمعلمين في عالم المثال نوما ويقظة (تلقى إليه) من سماء الوهب والعطايا الذاتية (ما لم يكن عنده من المعارف و تمنحه) من خزائن المواهب الأسمائية (ما لم يكن قبل ذلك في يده ) من نقود الحقائق ، ( فتلك الصورة عينه لاغيره ) على ما هو المتوهم لأكثر المشاهدين .
( فمن شجرة نفسه ) المنغرسة في أرض استعداده بید ما له من القوة العالمة العاملة الساقية لها من مشربه المعلوم له من مقسم : "قد علم كل أناس مشربهم ".
( جني ثمرة غرسه ) وفي بعض النسخ : « ثمرة علمه » ، لكن الأول أقرب إلى مساق العبارة وترشيح الاستعارة -.
وفي تخصيصه هذه العطايا أولا عند نفيها بالزمان ، وثانيا عند إثباتها بالمكان لطيفة لايخفى على الفطن.
سبب الاختلاف في الكشف :
ثم إنه لما كان مأنوس طباع الجمهور في الصورة المذكورة غير ما ذهب إليه بناء على أن الصورة المشاهدة قد تختلف المشاهد واحد في أوقاته وحالاته.
فلو كانت من نفسه ما تغيرت الصورة لعدم تغيرها أراد أن يبينه في مثال يكشف عن تلك الاختلافات ، ويطابق الصورة المذكورة كل التطابق .
فإن نسبة هذا المكاشف إلى ما اقتطف من غرس نفسه من حيث أنه ليس لأحد في تحصيل ذلك الأمر وتصويره مدخل غيره بعينها ( كالصورة الظاهرة منه في مقابلة الجسم الصقيل ، ليس غيره ) بالذات ، كما لايخفى.
( إلا أن المحل ) يعني الجسم الصقيل ( أو الحضرة ) يعني المواطن الأسمائية المتجلى فيها (التي رأى فيها صورة نفسه تلقي إليه) تلك الصورة (ينقلب من وجه حقيقة تلك الحضرة) والخصوصية الامتيازية التي لمحل .
وذلك لأن المحل المشاهد فيه إذا كان له الوجوه الامتيازية بينه وبين المشاهد ، وغلب عليه ذلك ، لابد وأن يرى صورته في ذلك المحل أو الحضرة المتجلى فيها ، منقلبة من تلك الوجوه ، جوهريا كان ذلك الامتياز أو عرضيا ، وجوديا أو عدميا ، (كما يظهر الكبير في المرآة الصغيرة صغيرا ، والمستطيلة مستطيلا ، والمتحركة متحركا).
فعلم أن المواطن والحضرات الأسمائية التي يتحقق بها العبد ، و يساك فيها نحو مواقف القرب ، لها تأثير في مشاهداته و مكاشفاته من الصور اللائحة له في تلك المواطن التي هي بمنزلة المرايا .
وذلك إنما يختلف بحسب علو الاستعداد وقربه لفضاء الإطلاق وانقهار أحكام المتقابلات فيه ، وانحطاطه في مضائق القيد ومهاوي البعد ، واستيلاء قهرمان تلك الأحكام عليه .
فمن العباد من حاذي بوجه استعداده العلي مواطن تعطيه الصورة على ما هي عليه ، أو على قرب منه ، بأن تعطيه الصورة على ما عليه ، ولكن منتكسة في وضعها ، بأن جعل عاليها سافلها ، وخربها عن وضع قبولها ، كما للملامية" على ما قيل:
وخلع عذارى فيك فرضي وإن أبى   …. اقترابي قومي ؛ والخلاعة سنتي
ومنهم من حاذی بوجه استعداده المنحط نحو مواطن إنما تعطيه الصورة منصبغة بتلك الأحكام الانحطاطية والوجوه التقابلية .
وأشار إلى القسمين الأولين بقوله: (وقد يعطيه انتكاس صورة من حضرة خاصة ، وقد يعطيه عين ما تظهر منها ، فيقابل اليمين اليمين من الرائي )
وإلى الثالث بقوله : ( وقد يقابل اليمين اليسار ، وهو الغالب في المرايا بمنزلة العادة في العموم ).
وذلك لأن الأجسام الصقيلة التي ترى مثل المحسوسات بعمومها، إنما يراها لدى الاستقبال ومواجهة الرائي للجسم الصقيل.
ولا شك أن ظهور أحكام التقابل يقتضي أن يقابل اليمين اليسار، لكن إذا علا الرائي علوا إحاطيا لا يظهر تلك الأحكام كما ظهر لدى المواجهة، فتعطي المرآة حينئذ انتكاس الصورة من الحضرة الخاصة.
وهي الحضرة التي انخلع في طوى إطلاقها نعلا التقابل، وإذا بلغ منتهاها يصير المظهر عين الظاهر على ما هو محتد ذوق الختم وحقيقته كما عرفت.
وعند سطوع تباشير هذه المرتبة تنطوي أحكام تمايز العقل على ما هو محتد ذوق العامة وحقيقة آدم وتختفي كواكب تمييزه العادي وتفرقته الرسمية المأنوسة للكل، وتفصيل جزئيات الأنوار اللائحة عليه في ظلمات نشأته الكونية.
وإليه أشار بقوله: (وبخرق العادة يقابل اليمين اليمين ويظهر الانتكاس).
(وهذا) الانقلاب والاختلاف (كله من اعطيات حقيقة الحضرة المتجلي فيها ، التي أنزلناها منزلة المرايا) ؛ ولا يتوهم التدافع بين هذا الكلام وبين ما قال : "ما في أحد من سوى نفسه شيء" فإن الحضرة المذكورة ليست مصدرا للعطاء إلآ باعتبار حقيقته التي هي عين المشاهد من القوابل المتكثرة ، وفي لفظ «المرايا» ما ينتهك عليه ، وقد سبق في الفص الآدمي ما يفيدك معنی الحقيقة ، في هذه الحضرة و وجه اختصاصها بها فلا نعبده .
وإذ قد عرفت أن العالي على مرآة قابلیته واستعداده هو الذي تظهر الحقائق على ما هي عليه - دون من دونه ممن قابلها - ظهر لك وجه ارتباط قوله : (فن عرف استعداده عرف قبوله ) لما يستعده من المراتب و يستأهله من الحقائق ، ضرورة أنه هو العالي على مرآة استعداده ، فتعطيه الصورة منتكسة مطابقة .
(وما كل من عرف قبوله عرف استعداده إلا بعد القبول) لأنه في حيطة أحكام التقابل ، فلا تعطيه مرآة استعدادها الصورة المطابقة ، فلا يعرفها بتفاصيل نسبها ، (وإن كان يعرفه مجملا) لأن صاحب المواجهة برى اليمين واليسار ، و يعرفهما ، لكن لا من حيث أنهما يمين ويسار.
وهذا الكلام كله ذیل لقوله: "ما في أحد من الله شيء، وما في أحد من سوى نفسه شيء".
وإذ خصص إدرا كه بالعاقلين عن الله، أضرب عن ذلك متعرضا لما ذهب إليه بعض العاقلين عن الأسباب، من الأنظار والأقيسة بإيراد «إلآ» موضع «لكن» في قوله: (إلا أن بعض أهل النظر من أصحاب العقول الضعيفة).
المستمسكين عند استفاضة الحقائق بعروة الوسائل والدلائل ( يرون أن الله لما ثبت عندهم أنه فقال لما يشاء ) ومعنى المشية على ما عرفت بلسان التحقيق هو الذي به يتحقق الشيء نفسه بصفته الأصلية ، فلا يمكن أن يكون إلا على ما عليه الأمر من الحكمة البالغة 

يتبع الفقرة الثالثة
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 9:57 am

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية  الجزء الثالث
وإذ لم يفهموا معنى المشية (جوزوا على الله ما يناقض الحكمة وما هو الأمر عليه في نفسه) ، إذ الحكمة هوما عليه الأمر في نفسه من الصور والأحكام المطابقة للواقع أعني الموجود في نفس الأمر فلا يكون الممتنع في تقسيم المواد معدودا من الأقسام ، ولا الممكن المعدوم أيضا إذ لا فرق بينه وبين الممتنع على ما ذهبوا إليه فيكون قسمة المواد حينئذ مثناة بين الموجود الممكن والواجب .
(ولهذا عدل بعض النظار إلى نفي الإمكان وإثبات الوجوب بالذات و بالغير ؛ والمحقق) بالنظر الحق ، لما شاهد الواقع اطلع على نفس الأمر بما عليه
من الصور والأحكام وما قصر النظر على الخارج منها عاكفا لديها بأحكامها المحسوسة عرف الإمكان الذي هو مقتضى حقائق الأعيان في حضرة تمايز المعلومات عن العلم ، حيث انفصل العلم عن الوجود وثبت لها أعيان متمايزة .
فإذا نظر إليها في أنفسها بشرط أن لا يلاحظ ما عليه من الخارج عنها تكون نسبة الوجود والعدم إليها على السوية، وهي البرزخ الواقع بينهما، وهي بهذا الاعتبار هو الممكن بما هو ممكن، وهذا موطن إثباته.
وإذا نظر إليها مطلقا عن ذلك الشرط - فقد يعتبر معها خارج هي بعينها - تصير واجبة بالغير بذلك الاعتبار.
وهذا الموطن الإطلاقي هو الذي يصح إطلاق اسم الغير، الذي اقتضى لها الوجوب، وبه يصير الممكن واجبا.
ولذلك (يثبت الإمكان ويعرف حضرته، والممكن ما هو الممكن، ومن أين هو ممكن، وهو بعينه واجب بالغير، ومن أين صح عليه اسم الغير الذي اقتضى له الوجوب) .
(ولا بعلم هذا التفصيل) أي تفصيل معنى الإمكان والوجوب، والممكن بما هو ممكن وتحقيق موطنه و صيرورته واجبا بالغير، وموطن صحة هذا الاسم عليه.
( إلا العلماء بالله خاصة ) و العاقلون عنه لا العلماء بالنظر والاستدلال و العاقلون عنه ، فإنهم عاجزون عن ذلك التفصيل ، قاصرين عن تحقيق مبادئه لما مر.


طلوع من الرقوم والعقود :
وهو أن «الله » قد انطوى على ثلاثة أرقم : 
أحدها الخط البسيط المتنزل الذي لا نسبة فيه بالفعل.
والثاني منها ذلك الخط بعينه منفصلا عنه ، منحدا به خط آخر منبسط على الأرض ، انبساط العلم ، وحصل هناك بذلك نسبة غير تامة الارتباط .
والثالث منها ذانك الخطان بارزا عنهما خط آخر ، يرتبط به المنبسط إلى الخط الأول ، و يصير به تام الارتباط ، ويتم الدائرة التي عليها مدار كمال الوجود .

وأيضا قد اشتمل من العقود على الثلاثة منها :
أحدها : الواحد الذي هو مبدء سائر الأعداد والنسب ، ولم يكن له بالفعل نسبة أصلا.
الثاني : الثلاثة التي عليها مدار الظهور والبروز و إيجاد الممكن وإثبات الحدوث.
الثالث : الخمسة التي هي العدد الدائر الكامل ، الذي احتوى على التام من الأزواج والأفراد ، وهي أنهی طرف الكثرة ، فهي أم الأعداد بمراتبها ، وهي العدد الأم - كما سبق بيانه .
ولا يخفى على الفطن تحقیق معنى الواجب بالوجوبين والممكن من هذا التلويح وتطبيق تفصيل المواطن عليه ، فلا حاجة إلى زيادة من التوضيح .
ولما تقرر وجوب مماثلة المبدء والختم ولزوم مطابقتهما ، وجب أن یكون الآخر من كل نوع مشتملا على جميع ما عليه الأول بالفعل والقوة (وعلى قدم شيث يكون آخر مولود يولد من هذا النوع الإنساني ) ضرورة أنه أول من ولد من الوالد الأكبر ، فآخر من انتهى إليه سلسلة المواليد لابد وأن يكون في موطن كماله وعلى قدم قراره .
و أنت عرفت مرادهم من هذا الاصطلاح فلا نعيده وإن ارتاب به بعض مستكشفي هذا الكتاب، حتى وقع في القول بأن شيث عليه السلام من القائلين بالتناسخ.
وعليه حمل قوله : (وهو حامل أسراره) ؛ وأنت عرفت تفصيل أولاد آدم ، وأن الذكر منهم هو الذي له الأسرار والعلوم الشهودية ، هذا بحسب مواقف شهوده من حيث أنه آخر الأولاد (وليس بعده ولد في هذا النوع ، فهو خاتم الأولاد).
وأما من حيث الوجود فلابد وأن يقارن وجوده مايماثل أصل القابلية التي تتولد مع شيث من الوالد الأكبر ، كما علم من حكمته ، لأن قابلیته مقدمة عليه ، وذلك بأن يولد (ويولد معه أخت له ، فتخرج قبله ، ويخرج بعدها ، يكون رأسه عند رجليها) لأن ظهوره إنما يمكن بعد تمام بروز القابلية عن الوالد الأكبر بقدميها الصورة والمعنى ، أي بأخرهما ، أو لأنه كما هو خاتم الأولاد فهو خانم هذا النوع من الظهور الكمالي والوجود الجمی فلابد وأن يماثل آدم بهذا الاعتبار.
كما صرح به الشيخ في عنقاء المغرب حيث قال : وإنما يولد معه أخته ، ليكون الاختتام مشابها للابتداء ، فإن خلق آدم كان أيضا مقارنا لخلق حواء " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم" .
أو لأنه لما كان منتهی ظهور هذه الصورة النوعية الاعتدالية الكمالية الواقعة في أقصى نهاية العدالة الحيوانية، لابد وأن يضاهي مبدأ ظهورها.
وأختها هي النفس الحيوانية، فإن النفس الناطقة الإنسانية إنما تتولد من أم موادها العنصرية معها بعد تمام ظهورها، ويكون رأس تسليمها عند رجلي قوتها الشهوة والغضبية، اللتين بهما يسلك مسالك متمناها في عرض أرض استعدادها.
ومما عرفت في التفرقة بين أولاد آدم   من أن الذين لهم الظهور بالصور الوجودية والقوة التامة المقدرة للنوع من التمكن عن اقتناص المعارف من الصور الوجودية كشفا، هم أبناء آدم.
كما أن الذين لهم الخفاء في الملابس الكونية، والضعف عن الاستكشاف من الصور المذكورة، بل انما يستنبطون علومهم من مكامن الحجب النظرية والحجج العقلية فهم بنات آدم أهل الحجاب.
ظهر لك أن الكامل الذي هو خاتم الأولاد إنما يخرج مع أخته صاحب العقل ، ورأس ظهوره تحت رجلي قوتيه النظرية والعملية ، اللتين بهما يسلك مسالكه .
وقوله : (ويكون مولده بالصين) إما لأنه لما كان في آخر ما أمكن من أجزاء الزمان مما يصلح لأن يكون ظرفا لتكون أفراد نوعه ، فالصين كذلك في المكان ، فإنه آخر ما أمكن أن يتكون فيه هذا النوع ؛ ولأنه واقع بین مبدأ شروق شمس الظهور المبينة للصورالكائنة ، المخفية للحقائق وما يختص بها من الستر والصور ، وشمال الشمول والجمعية المستدعية للعلوم ، وحصولها في طي الحجب بمساعي الجوارح ، متلبسة بالصور الكونية ، مستجلية بروابط المقدمات النظرية ، بدون توسل إلى تلك الصور الموضوعة من عند الأنبياء ، ولذلك ترى هنالك تلك الصور فيها مختفية ، ومن هاهنا تسمع فيه : "أطلبوا العلم ولو بالصين".
وفيه تلويح لفظي وعددي :
أما الأول فيما للحجب والقشور من الصيانة . 
وأما الثاني فلما فيه من الدلالة على النسب الكونية الحاجبة.
ومن خصائص الولي الخاتم اختفاؤها عند ظهوره، كما حققه صاحب المحبوب سلام الله عليه: "إنه تحلية النفس بقرية العكس".
الأول لقوله تعالى: "ثم كلي من كل الثمرات " ، أي مرها وحلوها ، نافعها ومضارها .
والثاني لجعامتها، ومن ثمة ترى أحكام الطبيعة في حينه عالية وسلطان قوتي الشهوة والغضب بالغا في الظهور لما أشير إليه. "الجعمي : الحريص بشهوة"
و أومي إلى ذلك بقوله: (ولغته لغة بلده) البعيد عن الظهور الوجودي وكمالاته الشهودية، على ما أرسل به بنو آدم من الأنبياء ، فلذلك لا ينتج كلامهم لقومهم الكوني ، الذين هم بنات آدم .
(ويسري العقم في الرجال والنساء ، فيكثر النكاح) الأظهاري بين الناكح الداعي والقابل الواعي ( من غير ولادة ) للكمال الإنساني ( ويدعوهم إلى الله فلا يجاب ).
( فإذا قبضه الله وقبض مؤمنی زمانه بقى من بقى مثل البهائم ، لا يحلون حلالا ) به يحلون محال ظهوره ومجالي شعوره ، ( ولا يحرمون حراما ) به يحرمون عنها.
(يتصرفون بحكم الطبيعة شهوة مجردة عن العقل) بإهمالهم شرائط بقاء النسل والحرث (والشرع) بإهمالهم شرائط محافظة النسب عن الاختلال والوهن .
فعند انطواء هذين المحليين في طوى جلال الزمان وحمى كماله طلعت على أهله شمس الظهور من مغرب إخفائها ، واختفت في مشرقها ومنصات جلائها .
(فعليهم تقوم الساعة) فإن من شأن الحكم الإلهي أنه إذا حان ظهور الثمرة وخروجها من الحبة المزروعة لابد من تفرق أجزائها وانقلاب أوضاعها ، وانعدام نضدها ونظمها ، فعند ذلك أمكن خروج الثمرة من مكامن قوتها و إمكانها إلى مجالي الخارج .
وتلك الحبة هي الشرع ، والثمرة هي الحقيقة المندمجة فيها ، فإذا تجردت الحبة عن صورتها الظاهرة التي هي الشرع ، وعن جمعيتها المزاجية التي هو العقل برز ما فيه من السنابل السبع، في كل سنبلة منها مائة حبة ، وهو المعبر عنه بالساعة .
ولتحقيق ذلك وبيان لميته كلام كاف وبرهان شاف في الكتاب ، من اهتدى إلى استكشاف ذلك فقد فاز من جلائل حقائق الوقت ولطائف خصائص المحبوب المراد بحظ والسلام .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فصّ حكمة سبّوحيّة في كلمة نوحيّة الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 10:13 am

03 - فصّ حكمة سبّوحيّة في كلمة نوحيّة الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
03 - فصّ حكمة سبّوحيّة في كلمة نوحيّة  الجزء الأول
فصّ حكمة سبّوحيّة في كلمة نوحيّة ووجه المناسبة بين الاسم والكلمة هاهنا ظاهر لما عرفت في بيان الترتيب أنّ الكلمة النوحيّة هي المبيّنة لحقائق التنزيه ، الداعية إلى لطائف معاني التسبيح وخصائص كماله .
على أنّ هاهنا تلويحا من تحليل الاسم ، وهو أنّ السين والباء - الذين بهما امتاز الاسم عن الكلمة وظهر حقيقتهما - إنّما تقوّمتا بالمد والنون الذين بهما ظهرت الكلمة .

التنزيه عين التحديد
ثمّ إنّ أصول أرباب الحقائق تقتضي أنّ كلّ معنى فيه تقابل - وإن كان من المفهومات العامّة - إذا نسب إلى الحضرة الإطلاقيّة والجناب الإلهي ، يكون تخصيصا وتحديدا لذلك الجناب ، ولهذا تسمعهم يقولون : « هو خالق العدم ، كما هو خالق الوجود » فبناء على ذلك الأصل قال : (اعلم أنّ التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد ) وذلك لأنّ التنزيه عبارة عن تبعيده تعالى عن المواد الهيولانيّة وما يستتبعه من التحدّد والتحيّز ، وعن الصور الكونيّة المنوّعة والحوادث الإمكانيّة المعيّنة وما يستدعيه من التقيّد والتشخّص .
والأوّل تنزيه المجتنبين عن التجسيم من المتكلَّمين ، والثاني تنزيه الحكماء .
ولا شك أنّ تبعيده عن المواد يقتضي إثبات نسبته إليها ، وانتهاء حدّه عندها ، وذلك عين التحديد ، كما أنّ إطلاقه عن الصور الكونيّة المنوّعة والعوارض الحادثة المشخّصة إنّما يستدعى تخصيصه بالإطلاق وتمييزه به ، وهو عين التقييد .

المنزّه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب
( فالمنزّه إمّا جاهل ) إذا حصّل ذلك بفكره ونظره ( وإمّا صاحب سوء أدب ) إذا قلَّد فيه الرسل وأهل الحقّ .
ولا يتوهّم من هذا الكلام أنّ المنزّه مطلقا يكون جاهلا وصاحب سوء أدب - فإنّ الموحّد أيضا لا بدّ له من التنزيه كما سيجيء تحقيقه - ( ولكنّ ) إنّما ينسب إليه ذلك ( إذا أطلقاه ) عن التشبيه (وقالا به) ، أي ذهبا إليه ، على ما هو مذهب الفريقين .
واعلم أنّ هذا الترديد بمعنى منع الخلوّ ، أي لا يخلو أمر المنزّه عنهما ، وقد يستجمعها ، فإنّ المتيقّن بنظره ممن لم يقل بالشرائع ، إذا فكَّر وأدّاه إلى التنزيه ، ووقف عنده ولم ير غير ذلك فقد جهل الحقّ ، والمقلَّد القائل بالشرائع إذا نزّه بتقليده الرسل وأهل الحق فقد أساء الأدب بنسبته إلى الرسل ، ( والقائل بالشرائع ، المؤمن ) أي المتيقّن بفكره ( إذا نزّه ووقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك ، فقد أساء الأدب وأكذب الحقّ  والرسل صلوات الله عليهم وهو لا يشعر ، ويتخيّل أنّه في الحاصل ) مما أوتي به الرسل (وهو في الفائت) من ذلك ( وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض ) فهو من المستجمعين بين الجهل وإساءة الأدب .

المعنى المراد من الألفاظ الواردة بلسان الشرايع
ثمّ لمّا استشعر ما يتمسّك به ذلك القائل من أنّ مؤدّى ألسنة الشرايع إنّما هو المفهوم الأوّل من مدلولاتها الوضعيّة ، والحكم إنّما يترتّب على الظاهر منها ، تعرّض لذلك بما يوهنه مشوّقا إلى ما يعلم منه مبدأ تقاعد الكلّ عند معتقداتهم الجزئيّة المتخالفة .
وبلوغ الكمّل إلى ما يحيط منها بالكلّ بقوله : ( ولا سيّما وقد علم ) - أي المنزّه القائل ، المؤمن المتيقّن ، إذا كان متفطَّنا - ( أنّ ألسنة الشرايع الإلهيّة إذا نطقت في الحقّ تعالى بما نطقت به ) سريانيّا كان أو عبرانيّا أو يونانيّا أو عربيّا مبينا ( إنّما جاءت به في العموم ) من العباد والمكلَّفين ( على المفهوم الأوّل ) من الدلالات الوضعيّة الحقيقيّة أو العقليّة المجازيّة التي في ذلك اللسان.
(وعلى الخصوص) من أهل الحقائق وعلى لسان الخواصّ من العباد واستعمل « على » موضع « في » مستشعرا منها معنى العلوّ (على كلّ مفهوم يفهم) ثانيا أو ثالثا أو رابعا ، إلى أن ينتهي إلى الذوق الإحاطي الجمعي ، وكلّ ما انتقل إليه فهم من تلك الأفهام مراد للحقّ ، ولكن ينبغي أن تكون تلك الانتقالات صحيحة ( من وجوه ذلك اللفظ ، بأيّ لسان كان في وضع ذلك اللسان ) بمفردات حروفه ومركَّبات كلماته .

الظاهر والباطن
وإنّما قلنا أنّ كل ذلك مراد مجيء به ( فإنّ للحقّ في كل خلق ظهورا ) بحسب عموم رحمته الوجوديّة وشمول رأفته الشهودية ( فهو الظاهر في كلّ مفهوم ) من أوّل مراتبه للعامّة من العباد ، متدرّجا فيها ، مترقّيا إلى آخر ما تنتهي إليه درجات معتقدات الخواصّ منهم في ذلك ، وهو مكاشفات الكمّل ، المحيطة بالكلّ ، كلّ ذلك مجالي ظهور الحقّ .
( وهو الباطن عن كلّ فهم ) من أفهام القاصرين عن درجة الكشف العلي والذوق الإحاطيّ فهم محاطون لمفهوماتهم ومعتقداتهم ، عاكفون لديها ، عابدون إياها (إلَّا عن فهم من قال: إنّ العالم) بأعيانه ومفرداته الخارجيّة والذهنيّة ونسبه الكونيّة والإلهيّة (صورته وهويّته) لبلوغ فهمه ذلك إلى ما لا يحيط به مفهوم ولا يحصره صورة من العقائد ، إذ الصورة الإحاطيّة هي له ، فله أحديّة جمع العقائد كلَّها .
وفي قوله : « من قال » دون « فهم » أو « شهد » لطيفة لا بدّ من الاطلاع عليها : وهي أنّ القول أعلى درجات قوس الإظهار - يعني الشهود والكشف - وأتمّ مراتبه ، إذ ليس له في الخارج عين وراءه ، وهو المراد بـ « عين اليقين » ، فإنّه ليس لليقين عين غير الكلام ، ومن هاهنا ترى سائر الآيات كريمة المشتملة على عقائل المعارف ونفائس العقائد مصدّرة ب « قل » .
( وهو ) أي العالم بجمله وتفاصيله ( الاسم الظاهر ، كما أنّه ) أي الحقّ الظاهر بصورته في العالم ( في المعنى روح ما ظهر فهو الباطن ) .
وإذ ليس هاهنا محل تفصيل الاسم عن المسمّى ، ما أورد لفظ " الاسم " .
هذا تحقيق معنى الاسمين بمفرديهما ، وهما الكاشفان على ما حقّقه عن طرف التشبيه فقط ، فأراد أن ينبّه على التنزيه الذي في عين هذا التشبيه المذكور ، كما هو مقتضى أصوله الممهّدة بقوله : ( فنسبته لما ظهر من صور العالم ) ( نسبة المدبّر للصورة ) ، في عدم تحدّده بها ودوام تصرّفه فيها ، وامتيازه بحقيقته عنها .
إذا تقرّر هذا فنقول : إذا أريد تمييز شيء من تلك الصور وتحديد حقيقتها لا بدّ وأن يجمع بين طرفيها ، ( فيؤخذ في حدّ الإنسان - مثلا - ظاهره وباطنه ) كما يقال في حدّه : « إنّه الحيوان الناطق » معربا عنهما بالترتيب ، أمّا الأوّل فإنّ ظاهره ليس إلَّا الجسم الناميّ المتحرّك الحسّاس ، وأمّا الثاني فإنّ باطنه ليس إلَّا « مدرك المعقولات » وما يحذو حذوها (وكذلك في كلّ محدود) حتّى يتمّ تحديد تلك الحقيقة وتحصيل صورة تطابقها .
( فالحقّ ) لما كان له أحديّة جمع الصور بمعانيها ( محدود بكل حدّ ) ، فحدّ جميع صور العالم من حدّه ،
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ) لعدم تناهيها ، ( و ) على تقدير ضبطها (لا تعلم حدود كلّ صورة منها إلَّا على قدر ما حصل لكلّ عالم من صورة ) المناسبة لاستعداده (فلذلك يجهل حدّ الحقّ ، فإنّه لا يعلم حدّه إلَّا بعلم  حدّ كلّ صورة) من الصور المشتمل عليها
العالم بطرفيها الروحاني والجسماني ( وهذا محال حصوله ، فحدّ الحقّ محال ) .
التنزيه في عين التشبيه  فعلم من هذا أنّ من نزّه الحقّ مطلقا وما شبّهه - فقد حدّد ما لا يحدّ فما عرفه ، ( وكذلك من شبّهه وما نزّهه فقد قيّده وحدّده وما عرفه ، ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه ) وقال بوجوده في كلّ عين ، منزّها عنه ، وشاهد بطونه في عين الظهور ووصفه ( بالوصفين على الإجمال  لأنّه يستحيل ذلك على التفصيل ، لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور ) حتّى يتمكَّن من مشاهدته في كلّ واحد مفصّلا ( فقد عرفه مجملا ، لا على التفصيل ، كما عرف نفسه مجملا ، لا على التفصيل ) إذ الإحاطة بما انطوى عليه ظاهرها - من القوى الجسمانيّة وآلاتها وأفعالها وباطنها من القوى الروحانيّة وأطوارها ومقاماتها مما لا يمكن إلَّا على ضرب من الإجمال .
(ولذلك ربط النبيّ عليه السّلام معرفة الحقّ بمعرفة النفس فقال  : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » ) وهذا غاية الإجمال حتّى أن الوصفين فيه مجمل .
وأمّا ما يدلّ على ضرب من التفصيل فما أفصح عنه التنزيل الكريم .
وإليه أشار بقوله : ( وقال تعالى : " سَنُرِيهِمْ آياتِنا " ) أي ما يدلّ على أحديّة جمع الحقّ ، بجمعيّته الإحاطيّة الأسمائيّة ( " في الآفاقِ")أي في أطراف محيط الاعتدال الكمالي الإنساني ( وهو ما خرج عنك ) أي عن مركز الاعتدال النوعي ( "وَفي أَنْفُسِهِمْ"  وهو ) أي أنفسهم أو الآيات التي فيها ( عينك ) أي عين تلك النقطة المركزيّة .
فإنّ سائر النسب فيها عينها ، ولهذا وحدّ ضمير الأنفس أو آياتها باعتبار مصدوق الخبر أعني المخاطب ، تنبيها إلى أنّ الكثرة التشبيهيّة فيها عين الوحدة التنزيهيّة ، كما فسرّ ضمير الجمع بالواحد في قوله : (" حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ " أي للناظر)  تنبيها على أنّ الوحدة التنزيهيّة عين تلك الكثرة والمنبّه على هذا التحقيق ما وقع في الآية الكريمة من هذا الأسلوب في قوله : ( " أَنَّه ُ الْحَقُّ " ) [ 41 / 53 ] أي الناظر ، على أنّ ما سبق في الآية مما يصلح لرجع هذا الضمير صيغ الجمع كالآفاق والآيات والناظرين فوحّد الضمير بذلك الاعتبار .
فعلم أنّ النقطة المركزيّة - أعني عين الإنسان الذي هو الناظر - قد تبيّن له باعتبار اتّصافه بالوصفين وجمعيّته للطرفين أنّه الحقّ ( من حيث أنّك صورته وهو روحك ) ضرورة أنّ عينك هو البرزخ بين الظاهر والباطن ( فأنت له كالصورة الجسميّة لك ، وهو لك كالروح المدبّر لصورة جسدك ) .
هذا طرف التنزيه ، وأمّا طرف التشبيه ، فقد بيّنه بقوله : ( والحدّ يشمل الظاهر والباطن منك ) حتّى يستجمع بين المادّة الجنسيّة والصورة الفصليّة ويستحصل منهما صورة مطابقة لك ، لكن لما كان الحدّ المستجمع بين الظاهر والباطن يحتاج في الإنسان إلى رابطة مزاجيّة ، تستدعي اقتران الصورة الفصليّة بالمادّة ، ولا استقرار لتلك الرابطة أصلا ، لا يمكن إطلاق ذلك الحدّ دائما على نشأته هذه.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّ الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبّر لها لم تبق إنسانا ) لانتفاء الصورة الفصليّة عنها ( ولكن يقال فيها : إنّها صورة ) تشبه صورة ( الإنسان ، فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة ) , ضرورة أنّ الباقي في الكل إنّما هو الصورة الجسميّة فقط ( ولا يطلق عليها اسم الإنسان إلَّا بالمجاز لا بالحقيقة .)
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وصور العالم لا يمكن زوال الحقّ عنها أصلا ) ،   لأنّه أوّل الأوائل في أزل الآزال ، فسائر الصور صورته الحقيقيّة ، بل عين تلك المادّة الأولى والقابليّة الذاتيّة ، لما تقرّر من أنّ الآخر عين الأوّل ، وهذا معنى البساطة التي ذهب إليها أهل النظر .
( فحدّ الألوهيّة له بالحقيقة ، لا بالمجاز ) لاستجماعه الظاهر والباطن مطلقا ، وصدق الحدّ إنّما يستدعي ذلك ( كما هو حدّ الإنسان إذا كان حيّا ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكما أنّ ظاهر صورة الإنسان تثني بلسانها على روحها ) المحيي فالعالم في تسبيح وحمد دائم  ( ونفسها ) المدركة العاقلة ( و ) طبعها ( المدبّر لها ) فإنّ تلك الصورة بما صدر عن قواها وأعضائها من الأفعال مظهرة لكمالات مباديها ، معرّفة لخصائص أوصافها الوجوديّة ، وليس ذلك غير الثناء ، لكن لمّا كان ألسنتهم مقصورة على إظهار الأوصاف الوجوديّة المعربة عن طرف التشبيه فقط لا يكون ثناؤهم لتلك المبادي جامعا بين التسبيح والحمد ، بخلاف ثناء صور العالم للحقّ ، فإنّه جامع بينهما .
ولذلك قال الشيخ رضي الله عنه : ( كذلك جعل الله صور العالم يسبّح بحمده ، ولكن لا تفقه تسبيحهم) وإن كان لنا اطَّلاع على حمدهم وثنائهم ، لأنّه بمجرّد ما يشاهد من آثارهم وخواصّهم يعرف إظهارهم لكمالات الحقّ .
وحمدهم له وأمّا التسبيح فيحتاج أن نعلم جهاتهم الامتيازيّة المنزهة لهم عمّا يشاركهم ، وذلك يتوقّف على معرفة ما وراء ذلك من الصور والمظاهر ، فيتوقّف على الإحاطة بجميع الصور ، ولا تفي بذلك القوّة البشريّة ( لأنّا لا نحيط بما في العالم من الصور ) .
هذا بالنسبة إلى مداركنا الجزئيّة ، وأمّا بحسب الأمر نفسه ، فالكلّ معبّر عن كمالاته ومفصح بأنّها ليست مقصورة على ما عبّر عنه .
( فالكلّ ألسنة الحقّ ناطقة بالثناء عليه ، ولذلك قال : " الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ ") فالكلّ معبّر عن كمالاته ومفصح بأنّها ليست مقصورة على ما عبّر عنه . باللسان الجمعي القرآني الختمي ، مترجما عمّا نطق به ألسنة صور العالمين أجمعين .
من أنّ الحمد أي التعريف والإظهار الذي تؤديه ألسنة تلك الصور كلَّها لله ، الذي هو ربّهم ( أي إليه يرجع عواقب الثناء ) والتعريف بمحامد الأوصاف والأحكام الوجوديّة ، وإن نسبت تلك الأوصاف ابتداء إلى الصور الكونيّة والتعيّنات الإمكانيّة ، لكنّها من حيث أنّها أحكام وجوديّة لا يمكن أن تتعلَّق بها ، فيكون مرجعها هو الوجود الحقّ ضرورة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهو المثني ) باعتبار إظهاره لتلك الكمالات في الصور التشبيهيّة ( والمثنى عليه ) باعتبار ظهوره في نفسه وتقويمه لتلك الصور في أرواحها التنزيهيّة  .
ثمّ لما انساق الكلام هذا المساق حان أن يفصح بالمقصود ويصرّح بما أشير إليه على ما هو مقتضى الصورة المنظومة من الكلام .
فقال : ( فإن قلت بالتنزيه كنت مقيّدا ) ضرورة أنّ التنزيه يقتضي تقييد الحقيقة الحقّة وتعيّنه بالتعيّن الإطلاقي كما عرفت ( وإن قلت بالتشبيه قلت محدّدا ) لأنّ الصورة لا بدّ لها من الإحاطة والتحديد ، وفيما سبق من الكلام ما يدلَّك على تخصيص الثاني بـ « قلت » فلا نعيده هاهنا .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإن قلت بالأمرين كنت مسدّدا ) أي موفّقا للصواب ، من القول والاستقامة من القصد ، وذلك لأنّك بجمعك بين الأمرين وصلت إلى مقتضى الذوق الإحاطيّ الختميّ ، ودخلت في الامّة الوسط الذي هو خير الأمم ، وإليه أشار بقوله :
ثمّ لمّا كان الجمع بين الأمرين يتصوّر على وجهين : أحدهما أن يعتبر التشبيه بإزاء التنزيه خارجا عنه وهو القول بالإشفاع والآخر أن يعتبر كلّ منهما في ضمن الآخر متّحدا به - وهو القول بالإفراد - قال  رضي الله عنه :
فمن قال بالإشفاع كان مشرّكا    .... ومن قال بالإفراد كان موحّدا  
فعلم من هذا أنّ من اعتقد أنّ العبد ثاني الحقّ لا يمكن له القول بالتشبيه ، وإلَّا يلزم أن يكون مشركا ، كما أنّ من اعتقد بإفراده معه لا يمكن له القول بالتنزيه - أي التنزيه الرسمي على ما ذهب إليه القائلون به - وإلَّا يلزم أن لا يكون مفردا ، وإليه أشار بقوله :
فإياك والتشبيه إن كنت ثانيا   .... وإياك والتنزيه إن كنت مفردا   
فظهر من هذا أنّ التنزيه الذي لا ينافي التوحيد والإفراد ، غير هذا التنزيه ، بل ذلك هو التنزيه الذي في عين التشبيه ، وذلك التشبيه هو الذي يليق بالموحّد ، ولا يليق بالثنوي .
وتحقيق ذلك أنّ العبد غير الحق بمجرّد اعتبار التعيّنات النسبيّة والإضافات التي إنّما تتحقّق بمجرّد الاعتبار - كالغيبة والخطاب - وأمّا بالنظر إلى الأمر نفسه فهو عينه ، وهو معنى التنزيه في عين التشبيه ، والمشير إلى ذلك كلَّه قوله :
فما أنت هو بل أنت هو ، وتراه في   .... عين الأمور مسرّحا ومقيّدا 

لتنزيه والتشبيه في القرآن الكريم  
ثمّ لما أشار إلى أن الجامع هو الإمام السيّد ، بيّن ذلك بقوله : ( وقال تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " فنزّه ) بناء على ما تقرّر في فنون البلاغة أنّ انتفاء أمر عمّا يماثل الشيء يدلّ على انتفائه عنه بأبلغ وجه وأتمّ قصد ، كما يقال للجواد : « مثلك لا يبخل » لا على أنّ الكاف زائدة ، فإنّ أصول التحقيق يأبى ذلك   .
(" وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " فشبّه) لأنّه من أوصاف العبد ، وهذا هو الجمع بين التنزيه والتشبيه على ما أشار إليه .
ولمّا كان مقتضى الكلمة المحمّديّة والقرآن الختمي أعلى من ذلك وهو التشبيه في عين التنزيه  ، والتنزيه في عين التشبيه قال : ( قال تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِشَيْءٌ " فشبّه وثنّى ) إشارة إلى ذلك ، وذلك لأنّ النفي إذا كان متوجّها إلى مثل مثله ، يدلّ على ثبوت المثل بالضرورة وعلى ثنويّة الموجود ، ويلزمه التشبيه في عين التنزيه ، والكثرة في نفس الوحدة .
وأمّا عكسه فيستفاد من قوله : ( " وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " فنزّه وأفرد ) وذلك من الحصر الدالّ عليه بخصوصيّة تركيبه ، وبديع نظمه وترتيبه .
فلئن قيل : أما صرح في نظمه أنّ الجمع بين التثنية والتشبيه ، والإفراد والتنزيه ممّا يحترز عنه في الاعتقاد ؟
قلنا : إنّه من خصائص القرآن الختميّ والاعتدال الحقيقيّ الجمعيّ أنّه قد التئمت الأضداد لديه وتعانقت فيه ، حيث لا يبقى للغير والسوي هناك عين ولا أثر ، كما قيل   :
تعانقت الأطراف عندي وانطوى   .... بساط السوي عدلا بحكم السويّة
فتأمّل .
دعوة نوح عليه السّلام إلى التنزيه  
ثمّ إنّ الإنسان من حيث هو هو إنّما يقتضي بحسب قبوله الذاتي هذا النوع من الكمال ، ولما كان زمان بعثة نوح عليه السّلام ما كان أوان ظهور ذلك الكمال ، بل حكم قهرمان الأمر فيه اختفاؤه ، ما أجاب قوم نوح له ( ولو أنّ نوحا جمع لقومه بين الدعوتين ) على ما هو مقتضى قابليّتهم الأصليّة ( لأجابوه ) .
( فدعاهم " جِهاراً " ) [ 71 / 8 ] في مظاهر الصور ومواطن التشبيه تنزّلا إلى درك إدراكهم (ثمّ دعاهم ) بكلمته المبعوثة في زمانهم على لسانهم ( " إِسْراراً " ) [ 71 / 9 ] في مكامن المعاني ومسالك التنزيه ، تسليكا لهم إلى مراقي كمال حقيقتهم .
ثمّ إنّه لما شاهد منهم التصامم والتقاعد عن دعوته إيّاهم ، وعرف ممّا نوّر عليه من مشكاة نبوّته أنّهم إنّما عملوا ذلك لما في قوّة قابليّتهم من طلب القرآن الكماليّ الذي هو غاية حقيقتهم النوعيّة ، وعرف أيضا أنّ كلمته النوحيّة المبعوثة في زمانه ذلك على ألسنة قومه إنّما يفصح عن التنزيه الفرقاني ، وذلك هو الذي عليه كلمتهم ولسانهم في زمانهم .
فاقتضى ذلك أن يعتذر عن نفسه فيما صدر عنه من الإخفاء والفرقان ، فأشار إلى ذلك الاعتذار المترتّب على عرفانه بما رأى منهم بقوله : ( ثمّ قال لهم " اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّه ُ كانَ غَفَّاراً " ) [ 71 / 10 ] أي أمرهم بالستر لربّهم في صور الشعائر الشرعيّة ، إنّه قد بالغ في ستره نفسه ، على ما هو مقتضى بعثته ومؤدّى رسالته ونبوته .
ثمّ لمّا بلَّغ ما كان له أن يعبّر عنه لسان رسالته وما أنزل إليه أن يعلَّمهم به ويوقفهم عليه ، وشاهد منهم ما شاهد من النفار والفرار ، جاء يعرض ذلك أداء لحق التبليغ .
فلئن قيل : إذا كان نوح عارفا بالأمر على ما هو عليه من مشكاة نبوّته .
وعلم أنّ عدم إجابتهم دعوته إنّما هو لما في جبلَّتهم من طلب القرآن الكماليّ الجمعيّ ، وكان الأنبياء مبعوثين لتكميل أممهم ، فما سبب توقّفه في إبلاغهم القرآن الكمالي مع طلبهم إيّاه ؟
قلنا : إنّ الأمم وإن كان متوجّه طلبهم الأصليّ ذلك الكمال القرآنيّ .
ولكن لهم بحسب نشأتهم الطارية على أصلهم ألسنة بها يتدرّجون إلى مراقي فهمه ، والأنبياء مبعوثون بحسب تلك الألسنة ، فإنّ كل نبيّ إنّما أرسل بلسان قومه .

اعتذار نوح عن قومه  
ولذلك وقف نوح موقف الاعتذار عن قومه ( و" قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً . فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً " ) [ 71 / 6 ] ، أي ما رضوا بذلك ولا قنعوا بما بلَّغتهم من الدعوة الفرقانيّة ، لما في جبلَّتهم من الأهليّة للجمعيّة القرآنيّة الكماليّة ، بحسب قابليّتهم الأصليّة .
وإذ قد علم أنّ مقتضى تبليغه ومؤدّى أحكام رسالته إنّما هو الستر ، وما صدر عن قومه من الفرار عن دعوته وعدم السماع لها كلَّه يستلزم ذلك .
فهم أجابوه فعلا في صورة الإباء والإعراض ، أظهر ذلك أيضا ( وذكر عن قومه أنّهم تصامموا عن دعوته ، لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته ) أي هم علموا بحسب استعدادهم الأصلي أنّ الذي يجب عليهم في هذه الدعوة ، هو هذا النوع من الإجابة ، وهو الذي في صورة الإباء ، حتّى يعلم أنّهم ما قنعوا بهذا القدر من العرفان ، ولهم استيهال ما وراء ذلك من الكمالات المدّخرة لنوعهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فعلم العلماء باللَّه ما أشار إليه نوح في حقّ قومه من الثناء عليهم بلسان الذمّ ) في مقابلة ما صدر عنهم من إجابة دعوته في صورة الإباء والاستكبار ، والقيام بما يجب عليهم من عين العصيان والإصرار .
وأمثال هذه الإشارات إنّما يفهمها العلماء باللَّه ، ممن له ذوق المشرب الختميّ الإحاطيّ ، حتّى يعرف شرب كلّ من الأنبياء من ذلك المجمع المعتنق للأطراف ، وقدر ما لكلّ منهم من الدخل فيه ، فهذا دخل نوح فيه .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وعلم) أيضا أولئك العلماء ( أنّهم إنما لم يجيبوا دعوته ) بلسان التلقّي والإقبال على ما هو المفهوم من لفظ الإجابة مطلقا ( لما فيها من الفرقان ) على ما هو مقتضى بعثته من الستر والإخفاء ، الذي عليه قهرمان زمانه .
( والأمر ) في نفسه وبحسب الكمال الإنسانيّ الذي جبّل عليه حقيقته ( قرآن ) ضرورة أنّه الكون الجامع المتّصف بالوجود ، وهو إنّما يقتضي الوحدة الجمعيّة القرآنيّة ، إذ لا كثرة في الوجود و ( لا فرقان ) فيه أصلا ، فإنّه إنّما يقتضيه العدم ضرورة أنّه كونيّ .
( ومن أقيم ) بحسب حقيقته الأصليّة ( في القرآن ) ويكون موطنه هناك ( لا يصغي إلى الفرقان ، وإن كان فيه ) بحسب نشأتها الطارية عليها في كلمته الظاهرة في ذلك الزمان ، وذلك هو الذي أوقع كلمته هناك بحسب تطوّراته الاستيداعيّة .
وذلك وإن كان لسانه المفصح عنه ولكن ما طلب فهمه ، إلَّا مقتضى حقيقته الأصليّة فلذلك ما أصغى إلى الفرقان لعدم دلالته على القرآن .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّ القرآن ) الجمعيّ الوجوديّ ( يتضمّن الفرقان ) الفرقيّ الكونيّ ، ضرورة أنّ الجمع يستوعب جميع ما في التفرقة من الأفراد ، مع الهيئة الجمعيّة التي ليس فيها شيء من ذلك ، فله دلالة عليه بالتضمّن ( والفرقان ) الفرقىّ ( لا يتضمّن القرآن ) الجمعيّ ولا دلالة عليه أصلا ، فلذلك ما أصغي إليه فظهر أنّ صاحب الجمعيّة هو القرآن ، فيكون القرآن أكمل من الفرقان .

المناسبات الحرفية في ألفاظ الإنسان والفرقان والقرآن  
وهاهنا تلويح له مزيد دخل في تبيين هذا الكلام وتحقيقه ، وهو أنّ الألف والنون - على أيّ ترتيب كان إذا كان تامّ الدلالة يدلّ على النفس والذات ، التي هي مبدأ ظهور الوجود ومصدر إظهار العلم ، الذي مظهره الكلام لا غير ، والذي يصلح لظهور ذلك فيه من الكائنات الإنسان ، وما يظهره من جوارحه أعني اللسان والبنان .
ثمّ إنّ الإنسان مشتمل عليها ظاهرا وباطنا : أمّا باطنا فلأنّ حقيقته هي البرزخ بين العلم والوجود ، وأمّا ظاهرا فلأنّ صورته كونيّة وجوديّة ، فهي مشتملة عليهما كما سبق بيانه ، ولذلك تراه محفوفا بهما  .
وأمّا البنان والبيان : وإن كان بحسب المعنى والبطون لهما الإحاطة بالعلم والوجود بسائر مراتبهما ، لكن صورتهما كونيّة صرفة ، فلذلك تراهما متأخّرين فيهما وفي الفرقان والقرآن ، اللذين بهما تمّ صور تنوّعاتهما .
ثمّ إنّ القرآن له خصوصيّة إلى الكمال الإنساني ، وهي أنّه إذا حوسب عقدا ما يمتاز به عن الإنسان ونسب إلى ما به يمتاز الإنسان عنه يكون ذلك نسبة النصفيّة التي هي أخصّ نسبة بالجمعيّة ، وذلك لأنّ النصف هو البرزخ الجامع وأمّا الفرقان فإذا حوسب كذلك يكون ذلك النسبة هو الثلثية ، التي هي التفرقة الصرفة .

وجه اختصاص القرآن بالخاتم صلَّى الله عليه وآله
وإذ قد عرفت إنّ الرسل إنّما أرسلت بلسان قومهم ، وهو ما ظهر عليهم في طيّ نشأتهم الطارية على أصلهم ، ليتدرّجوا بها إلى فهم القرآن الكماليّ الذي هو كمال آدم بحسب حقيقته الإنسانيّة ، ظهر لك أنّ صاحب القرآن لا يكون إلَّا خاتما .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولهذا ما اختصّ بالقرآن إلَّا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ) الذي به تمّ دائرة الكمال الإنساني ، وبتلك النقطة حصل لها الصورة الجمعيّة الوحدانيّة وجودا وشهودا ، ظهورا وإظهارا ، شعورا وإشعارا وذلك لأنّ سائر الأنبياء لهم العلم بالجمعيّة القرآنيّة ، فلهم الظهور به ، ولكن أمر إظهاره متوقّف على أنّ أمم زمانه مستعدّون لأن يكونوا امّة الخاتم ، وإليه أشار بقوله : ( وهذه الامّة التي هي خير امّة أخرجت للناس ) بميامن مناسبتهم له وحسن تأسّيهم به .

التلويحات العددية في لفظ محمّد والإنسان ونوح
ومن التلويحات التي لها كثير دخل هاهنا أنّ للإنسان من العقود ، التسعة المتّسعة للكلّ ، وأمّا محمد فقد اشتمل عليها بزيادة اثنين : أحدهما إشارة إلى كماله ، والآخر إلى ختمه ، ولا يخفى على الفطن أنّ العقد الإنسانيّ بضم هذا الواحد الكماليّ إليه قد بلغ إلى ما يرجع إلى الواحد الجامع بين الوحدة والكثرة ، فمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم هو الواحد الجامع إنسانا وبيانا ، ظهورا وإظهارا ، فهو المثل الذي لا يمكن مثله .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فليس كمثله شيء ، فجمع الأمر في أمر واحد ) لأنّه قد أدرج كلَّا من المتقابلين في الآخر ، والأمر لا يخلو منهما فجمع الكل في واحد .
وأمّا نوح : وإن كان له أيضا ذلك العقد الكامل رسالة ونبوّة ولكن ما ظهر في « محمد » من الزيادة الختميّة قد تبطَّن فيه منفصلا ، وما ظهر فيه من الكثرة الفرقيّة تبطن في « محمد » متوصّلا مجتمعا ،ولذلك ما كان له أن يظهر مثل ذلك الإظهار ، ولا أن يأتي بيانا تامّا وكلمة جامعة.

الفوارق بين دعوتي نوح ومحمّد عليهما السّلام
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلو أنّ نوحا أتى بمثل هذه الآية لفظا أجابوه ) وفي قوله : « لفظا » إشعار بما سبق من أنّ الرسل ما يظهرون الحقائق في صورة الألفاظ ذات الإنباء إلَّا مطابقين للسان أممهم الظاهرة به ، فلذلك ما أتى نوح بالقرآن لفظا ،وأتى به محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّه شبّه ونزّه في آية واحدة ، بل في نصف آية ) على ما سبق بيانه   .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ونوح دعا قومه ليلا من حيث عقولهم وروحانيّتهم ) دعوة تنزيه ( فإنّها غيب ) بالنسبة إلى هذه النشأة ( ونهارا ) أيضا ( دعاهم من حيث ظاهر صورهم وحسّهم) دعوة تشبيه ( وما جمع في الدعوة ) بينهما ، وما جعل الأمرين أمرا واحدا ، على ما هو مقتضى كمال الحقيقة الإنسانيّة ( مثل " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " [ 42 / 11 ] ، فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان فزادهم فرارا ) حسبما يقتضيه الفرقان من التفرقة  .
( ثمّ قال ) معتذرا ( عن نفسه : إنّه دعاهم ليغفر لهم ) على ما هو مقتضى أمر قهرمان الوقت ودعاء ألسنة استعدادات أهاليه من الستر ، فإنّه مبدأ ظهور سلطان النبوّة وإظهار ما اتّفق عليه كلمة أعيان تلك الدولة ، يعني وضع الصور وإسبال الستائر ( لا ليكشف لهم ) على ما هو مقتضى أمر الولاية وسلطانها ، فإنّه إنّما يمكن ظهوره بعد ختم السلطنة الأولى .
واعتذر عن قومه أيضا بأنّهم عرفوا لسان دعوته (وفهموا ذلك منه صلَّى الله عليه وسلَّم ، لذلك "جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ" ، وهذه كلَّها صورة الستر التي دعاهم إليها ، فأجابوا دعوته بالفعل ، لا بلبّيك ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ففي " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " [ 42 / 11 ] إثبات المثل ونفيه ) على ما سبق بيانه بحسب المعنى الواحد ، لا على أن يكون الكاف زائدة على أحد التقديرين ، فإنّه يلزم أن يكون دلالته على المعنيين بحسب الوضعين المتغايرين وهو خلاف المقصود ، فإنّ المقصود أنّه جمع بين المتقابلين في معنى واحد ( ولهذا قال عن نفسه عليه السّلام أنّه أوتي جوامع الكلم ) بين المغفرة والكشف ، والإظهار والستر .
( فما دعا محمّد قومه ليلا ونهارا ) أي إخفاء وإظهارا (بل دعاهم ليلا في نهار ونهارا في ليل) " يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ " [ 22 / 61 ] .
وإذ كان أمر نوح دعوته بالاستغفار وقد بيّن الاختلاف والتفاوت بين ما أتى به نوح عليه السّلام وما جاء به محمّد عليه الصلاة والسّلام في أصل التوحيد .
شرع يبيّن وجه سريانه في سائر ما يتفرّع عليه من الحكم ، من جملة ذلك ما أشير إليه بقوله : قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقال نوح في حكمته ) المترتّبة على الاستغفار مشيرا إلى غايته ( "يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ") أي يفيض عليكم من سماء القدس وعلوّ التنزيه إذا توجّهتم نحوه بالاستغفار ذوارف الحقائق التنزيهيّة وطريق استحصالها من الاعتبارات العقليّة التي هي مبنى قواعد النظر.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهي المعارف العقليّة في المعاني والنظر الاعتباري ) الذي منه يكتسب تلك المعاني ويستحصل تلك النتائج .
(" وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ " أي بما يميل بكم إليه) من العلوم اليقينيّة والعقائد الراسخة المميلة قلوبكم نحوه ، (فإذا مال بكم إليه رأيتم صورتكم فيه) ، إذ من شأن الأمور اللطيفة الخالية عن الاختلافات الهيولانيّة والاعوجاجات الجسمانيّة ، الصافية عن صدء الغواشي الغريبة والعوارض المشخّصة الظلمانيّة ، أن يرى الناظر فيها صورته ، والعقائد العلميّة الكليّة لها تلك اللطافة بأتمّ وجه ، فهي إنما يظهر لأربابها صورتهم - لاغير .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فمن تخيّل منكم أنّه رأى) أي رأى الحقّ (فما عرف) الحكمة الإلهيّة لجهله بتلك الضابطة الكلَّية ، ( ومن عرف منكم أنّه رأى نفسه فهو العارف ، فلهذا انقسم الناس إلى عالم وغير عالم ) ،  وإلَّا فالكل قد استحصل عقيدة واعتكف عندها واطمئنّ بها .
ومما يؤيّد هذا ما قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا من لَمْ يَزِدْه ُ مالُه ُ " ( و " وَلَدُه " وهو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري ) بمقدمتيه المزدوجتين ازدواج الأبوين.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والأمر موقوف علمه على المشاهدة ، بعيد عن نتائج الفكر " إِلَّا خَساراً " ) وضياعا لرأس المال ، يعني المقدّمات الحاصلة لهم والقواعد التي يميل إليها قلوبهم ويستنتجون بها العقائد ويستربحون بها الأموال .
وإذ كان ذلك في المعارف الإلهيّة مما لا يجدي بطائل ، وطريق النظر فيها منبتّ ما يفيض على السالك فيه بطلّ ولا وابل ( فما ربحت تجارتهم ) .
وإذ تزلزلت تلك القواعد ، لأنّ مسلكهم ذلك مثار الشبه والشكوك التي بها يضطرب القواعد ويزول عن مستقرّها ( فزال عنهم ما كان في أيديهم ممّا كانوا يتخيّلون أنّه ملك لهم ) وهذا أيضا مما يدلّ على أنّ العقائد صور أنفس المعتقدين ، فهي عند ترقّيها بمدارج الكمال تتحوّل صورتها ، فلا بدّ من زوال تلك العقيدة التي هي صورتها أولا .
هذا ما في الكلمة النوحيّة والنوحيين من هذه الحكمة ( وهو في المحمّديين " وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه " [ 57 / 7 ] ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وفي نوح: " أَلَّا تَتَّخِذُوا من دُونِي وَكِيلًا " [ 17 / 2 ] ، فأثبت الملك لهم ) في الحكمة النوحيّة ( والوكالة لله فيه) وأمّا في المحمّديين ( فهم المستخلفون فيهم ) أي في أنفسهم وفي جميع الممالك ( فالملك لله ) .
(وهو) في النوحيّين ( وكيلهم ، فالملك لهم ، وذلك ملك الاستخلاف ) ، فإنّه ليس للعبد أن يملك بالاستحقاق قطعا .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فصّ حكمة سبّوحيّة في كلمة نوحيّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 10:18 am

03 - فصّ حكمة سبّوحيّة في كلمة نوحيّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
03 - فصّ حكمة سبّوحيّة في كلمة نوحيّة   الجزء الثاني
ملك الملك
قال الشيخ رضي الله عنه : (وبهذا) أي بما ظهر من هذه الحكمة وهو أنّ أحوال العقائد التي هي أملاك أصحابها النوحيين الخاسرين في التصرّف فيها ، وهي بالنسبة إلى أصحابها المحمّديين ممالك مستخلفين فيها ومنفقين منها كلَّها حقّ . كما سيجيء تحقيقه ففي هذه الصورة.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كان الحقّ ملك الملك ، كما قال الترمذي ) في أسئلته ، وقد أجاب الشيخ عنها في الفتوحات "المكية "  .
فإنّ الحكيم محمّد بن علي الترمذي قد سأل الخاتم للولاية عن أسئلته ، وكان قبل الشيخ بأربعمائة سنة تقريبا ، وصرّح بأنّ الخاتم هو الذي يجيب عنها ،ومن جملتها : « كم مجالس ملك الملك»؟
فأجابه أوّلا بأنّه على عدد الحقائق الملكيّة والناريّة والإنسانيّة  واستحقاقاتها الداعية لإجابة الحقّ فيما سأله منه .

ثمّ بسطه بما معناه : إنّ الكلام هاهنا مسبوق بمعرفة ملك الملك ، وذلك موقوف على معرفة الملك ، وهو الذي يقضي فيه مالكه بما شاء فلا يمنع عنه . . . فالمأمور هو الذي يقال له الملك ، والآمر هو المالك . . . سواء كان المأمور دونه أو مثله أو أعلى . . . فإنّ قول العبد : « اهدنا » أمر منه ، وإن سمّي دعاء .
فإذا فهمت هذا وعلمت أنّ المأمور قد امتثل أمر آمره ، فأجابه فيما سأل منه ، أو اعترف بأنّه يجيبه إذا دعاه لما يدعوه إليه .
إذا كان المدعوّ أعلى منه فقد صيّر نفسه - هذا الأعلى - ملكا لهذا الدون ، وهذا الدون هو تحت حكم هذا الأعلى وقدرته وأمره ، فهو ملكه بلا شكّ ، وقد قرّرنا أنّ الدون الذي هو بهذه المثابة - قد يأمر سيّده ، فيجيب السيّد لأمره ، فيصير بتلك الإجابة ملكا له .
وإن كان عن اختيار منه فيصحّ أن يقال في السيّد : « إنّه ملك الملك » لأنّه أجاب أمر عبده ، وعبده ملك له ، والمأمور هو الملك ، فالسيّد عند الإجابة ملك الملك . فعلم وجه التفاوت بين الكلمتين في هذه الحكمة .

معنى المكر في الدعوتين
ومن جملة تلك الحكم ما قال تعالى حكاية عن قوم نوح : ( "وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً "[ 71 / 22 ] لأنّ الدعوة إلى الله مكر بالمدعوّ ) ، " حيث قال نوح : « ربّ إنّي دعوتهم » مطلقا ، ولا شكّ أنّ الحقّ عين المدعوّ والداعي والبداية والنهاية ، فالدعوة مكر بالمدعوّ ضرورة ( لأنّه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية ) .
وأمّا محمّد فما أطلق في دعوته بل قال : ( " أَدْعُوا إِلَى الله " على بصيرة ) أي على وقوف وعلم بأنّه بحسب هويّته الجمعيّة عين الكلّ .
لكن الدعوة إنّما هي بحسب أسمائه المهيمنة في وقتها ، ( فهذا عين المكر على بصيرة ) وحيث قيّد دعوته بالبصيرة علم أنّه إذا كان عين الكل يستدعي أن يكون الدعوة حقّا ، إذ هي عينه ، (فنبّه أنّ الأمر له كلَّه ) فليس للداعي دخل في الدعوة أصلا .
وإذ ليس في الدعوة النوحيّة هذا التنبيه ، بل إجمال من القول ، أجمل قومه أيضا في الجواب ، (فأجابوه مكرا ، كما دعاهم ) امتثالا لما أمرهم لسان الوقت وعملا بمقتضاه .
ولما كان في الدعوة المحمّديّة ذلك التفصيل ، فهم قومه منه ذلك.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فجاء المحمّديّ وعلم أنّ الدعوة إلى الله ) لما كانت عبارة عن طلب الإقبال والتوجّه نحو الاسم المهيمن في وقته بالتزام مقتضياته والإعراض عمّا يقابل ذلك الاسم بالكفّ عمّا يستدعيه (ما هي من حيث هويّته ) .
إذ نسبة الهويّة المطلقة مع الكلّ سواء ، ( وإنّما هي من حيث أسمائه ، فقال : "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً " [ 19 / 85 ] ( فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم ) الذي هو قهرمان الوقت ، وإن كان من الأسماء الكلَّية المحيطة بالكلّ ، لكن الاسم من حيث هو له طرف الظهور فالطرف الآخر يقابله ويوجب الأمر للمقبلين إليه أن يجتنبوا عن أحكام ذلك المقابل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فعرفنا أنّ العالم كان تحت حيطة اسم إلهي ) هو قهرمان الوقت كالرحمن في زمان الخاتم ، فله السلطنة على العالمين ( أوجب عليهم أن يكونوا متّقين ) عن أن يقبلوا وجوه كماله نحو غيره ، وينسبوا الصفات الكماليّة والأحكام الوجوديّة إليه ، فإنّ المنتسب إلى غيره إنّما هو النقائص الإمكانيّة والأحكام العدميّة - لا غير ، كما سبق تحقيقه في بيان معنى التقوى   .

مكر قوم نوح  
ثمّ إنّ نوحا لما أطلق الدعوة والمكر بها إطلاق تفرقة بعدم تقييدها وبالغ في تلك التفرقة حيث قال : " لَيْلًا وَنَهاراً " [ 71 / 5 ] أجاب قومه بما يطابق ذلك في التفرقة والمكر ( فـ " قالُوا " في مكرهم " لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً " ) [ 71 / 23 ] فصرّحوا في صورة تفرقة الآلهة بالعدد الخمس الذي هو امّ التفرقة العدديّة كلَّها ،على ما سبق .
هذا وجه الإجمال ، وأمّا وجه التفصيل منه ، فله مجالي على منصّات التأويل حسب مدارج الأفهام ودخلها في حقائق التنزيل ، وأجلاها أن يحمل على المجالي الخمسة .
ولا يخفى وجه النسبة الدالَّة عليها بترتيبها من الأعلى إلى الأنزل ، فلا نوضحه أكثر من ذلك .
فبهذه الوصيّة مكروا معه مكرا كبّارا ، لأنّهم إنّما تواصوا على عدم تركهم تلك الصور شيئا منها لئلَّا يفوتهم من الجمعيّة شيء.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء ، فإنّ للحقّ في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله ) .
وأمّا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم لما أطلق الدعوة إطلاق جمع بضمّ القيد إليها ، ظهر في قومه الجمعيّة الإطلاقيّة ، وسرت في سائر أحكامه ، ولذلك ترى ما يوازي تلك الوصيّة ( في المحمّديين "وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه ُ " [ 17 / 23 ] أي حكم ) بما مؤدّاه تلك الجمعيّة التي لا يشذّ منها شيء من تلك الصور أصلا ، فأظهر تفرقة التشبيه في صورة جمعيّة التنزيه ، يعني ضمير الغائب في الوصيّة ، كما أظهر جمعيّة التنزيه في صورة تفرقة التشبيه في الدعوة ، يعني الدعوة المقيدة  .

وقضى ربك ألَّا تعبدوا إلا إيّاه
ثمّ إذا تقرّر أنّ المعبود في أيّ صورة كان إنّما هو الحقّ ( فالعالم يعلم من عبد ) في تلك الصور ( وفي أيّ صورة ظهر حتّى عبد ) فإنّ الصور مختلفة في الحيطة والكمال وقبول ظهور الوحدة الجمعيّة وعدمه ( وأنّ التفريق والكثرة ) في أحديّة الجمعيّة الإلهيّة ( كالأعضاء في الصورة المحسوسة ) من الشخص الواحد ، فإنّ له صورة محسوسة ظاهرة ومعنويّة باطنة ، كلّ منهما ذات كثرة ، ولا يقدح ذلك في وحدة الشخص بوجه ، على تخالف مراتب تلك الكثرة في كلّ من تينك الصورتين .
فإنّ الأعضاء المحسوسة : منها ما هي بمنزلة الرؤساء في إنفاذ الأمر ، ومنها ما هي بمنزلة الخدّام في إعداد ما ينبغي لها ، ومنها ما هي بمنزلة الأساس والأعمدة ، ومنها ما هي بمنزلة الزوائد والفضلات .
( وكالقوى المعنويّة في الصورة الروحانيّة ) فإنّ منها ما هو رئيس الكلّ ، إنّما يقوم أمر الوحدة الشخصيّة به ، ولا يشذّ من محيط حكمه شيء منها وهو القلب فإنّ له أمر أحديّة جمع الأعضاء كلَّها ، بحيث لا يمكن بقاء شيء منها إلَّا بوصول المدد الوجودي منه إليه ، ولا ينتهض أحد من الجوارح لإقامة العبادة إلَّا بأمره - أيّة عبادة كانت ، لأيّ معبود كان فهو المعبود حقيقة .
( فما عبد غير الله في كلّ معبود ) إلَّا أنّ العبّاد على اختلاف طبقاتهم فرقتان :
منهم من جاوز أسافل الصور ومهابط كثائفها وما وصل إلى أعالي المعاني ومطالع لطائفها ، فهم المسخّرون تحت سلطان الخيال ، ممتثلين أوامره ، عابدين إيّاه ، فمعبودهم لا يكون إلَّا متعيّنا بالتعيّن التقابلي ، وواحدا بالوحدة المقابلة للكثرة ضرورة ، سواء كان ذلك من الأصنام الصوريّة المحسوسة ، أو العقائد المعنويّة المعقولة .
ومنهم من جاوز ذلك ووصل إلى أعالي المعاني ، وبلغ المرتبة الجمعيّة القلبيّة ، وتحقّق بأحديّة جمعيّتها فمعبودهم لا يكون إلَّا المتعيّن بالتعيّن الإحاطيّ ، والواحد بالوحدة الإطلاقيّة الجمعيّة ، سواء كان قبلة توجّهه الصورة المحسوسة أو المعاني والهيئات المعنويّة المعقولة .
وأشار إليهما بقوله رضي الله عنه  : ( فالأدنى من تخيّل فيه الألوهة ، ولولا هذا التخيّل ما عبد الحجر ولا غيره ) فمعبودهم إنّما هو المتخيّل الذي تصوّر فيه الألوهة ، لا المحسوس ( ولهذا قال : " قُلْ سَمُّوهُمْ "[ 13 / 33 ] فلو سمّوهم ، لسموهم حجرا أو شجرا أو كوكبا ولو قيل : «من عبدتم ؟» لقالوا : «إلها» ) من الآلهة ( ما كانوا يقولون : «الله» ولا «إله» ) الدالَّان على الذات الواحدة ، ضرورة أنّ معبودهم متعيّن بالتعيّن الفرقي المنكر ، غير المعروف عندهم - وإن كان معروفا في نفسه .
( والأعلى ما تخيّل) فيه الالوهيّة ( بل قال ) أي أظهر من اليقين القلبي ( هذا مجلى إلهيّ ينبغي تعظيمه ) حسبما يستحقّه من الرتبة التي تليق به ويفصح عنه لسان الشرع في ذلك الزمان بين المجالي ( فلا يقتصر ) على عبادة ذلك المجلى وتعظيمه بالعبادة فقط .
( فالأدنى صاحب التخيّل ) لما كان معبوده إنّما هو المتخيّل - لا غير - ولا يسمّى الأصنام إلَّا بأسمائهم الطبيعيّة ، ولا يظهر غير ذلك ( يقول : " ما نَعْبُدُهُمْ " ) أي تلك التعيّنات المتقابلة الغائبة عن نظرهم في الحجب الإمكانيّة ( " إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى " [ 39 / 3 ] والأعلى العالم ) الواصل إلى أحديّة الجمع الذاتي ( يقول : * ( فَإِلهُكُمْ إِله ٌ واحِدٌ ) * ) بالوحدة المطلقة ( " فَلَه ُ أَسْلِمُوا " ) قياد عبادتكم ، وإليه أسندوا الوجود وما يتبعه من الأوصاف والنسب ( حيث ظهر ) في المجالي المقيّدة ، فإنّها مظهر الوحدة الإطلاقيّة ، لا غير ( "وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ" [ 22 / 34 ] الذين خبت نار طبيعتهم ) أي خمدت وسكنت فإنّ الخبت : الاطمئنان .
وما قيل : « إنّه من الخبو » فهو خلاف الظاهر ، وذلك وإن كان على قاعدة التحقيق صحيحا إلَّا أنّ الشيخ قلَّما يرتكبه ، سيّما في وجوه التأويل .
فإنّ الذين سكنت فيهم لواعج نيران الطبيعة وانقطعت أحكام تسلَّطها عنهم هم الذين علموا الأمر على ما هو عليه وأظهروا ذلك ( فقالوا : « إلها » ) لتلك الموجودات المعبودات ( ولم يقولوا : طبيعة ) ويسمّوهم بأساميها .


تأويل الإضلال
ثمّ إنّ من جملة الحكم التي للكلمة النوحيّة ما نسب إلى قومه من الضلال بقوله : ( " وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً " أي حيّروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب ) حيث قالوا : " فَإِلهُكُمْ إِله ٌ واحِدٌ "[ 2 / 163 ] مع تكثّر المظاهر والتعيّنات.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( " وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ " لأنفسهم ، المصطفين ، الذين أورثوا الكتاب أوّل الثلاثة ) .
بقوله تعالى " ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا من عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِه ِ " [ 35 / 32 ] برفع أوصافها الامتيازيّة التي بها يتقوّم ذاتها وقلع مواد تشخّصاتها بالكلَّية ، حيث لا يبقى لها أثر ولا حكم ولا عين أصلا ، فيكون ظالما عليها في عدم إبقاء آثارها وإخفائها في ظلمات أوصافها العدميّة الكونيّة .
ثمّ إنّ ذلك لما كان في المآل ترقّيا لها إلى مراقي كمالها ، استعمل « الظلم » باللام تنبيها إليه ، فلذلك تراه أوّل من يرث الكتاب ( فقدّمه على « المقتصد » و « السابق » " إِلَّا ضَلالًا " [ 24 / 71 ] : حيرة  ) .
وأمّا ( المحمّديّ ) فطلب الزيادة في ذلك حيث قال : « ربّ ( زدني فيك تحيّرا » ) وجعل ذلك مقاما ، حيث حكى عن مثل المنافقين من قوم موسى: ( "كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيه ِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا " ) [ 2 / 20 ] .
ثمّ إنّ الإقامة مما لا يمكن في الوجود لأنّه حركة وسير كما قال تعالى : " بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ " [ 50 / 15 ]
وقال : " كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ"    [ 55 / 29 ]  
لكن الحركة أيضا مما لا يتصوّر للأعلى العالم ، فإنّها تستلزم الإعراض عن جهة ، والإقبال إلى ما يقابلها ، وذلك مما ينافي مشهد الأحديّ الجمعيّ الذي موطنه ، اللهم إلَّا أن يكون ذلك حركة دوريّة ، فإنّ كلّ جهة ونقطة يعرض عنها في تلك الحركة فهي التي يقبل إليها في عين الإعراض عنها ، فهذه الحركة هي المناسبة له ، فلذلك قال :


الحركة الدورية وغيرها
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالحائر له الدور ، والحركة الدوريّة حول القطب ) ، حيث أنّ المتحرّك لم يختلف نسبته إلى القطب بالبعد والقرب ، وإن كان في كل لحظة معرضا عن جزء من أجزاء تلك المسافة ومقبلا إياها ، ولكن تلك الكثرة ما أثرت في وحدة نسبته إلى القطب ( فلا يبرح منه ) أي لا يتحرّك عنه أصلا ، فهي الجامع بين الحركة والسكون ، كما أنّ الحيرة جامعة بين العلم والجهل فهو معتنق الأطراف .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وصاحب المستطيل ) يعني الأدنى الذي يتخيّل صورة متعيّنة ويجعلها قبلة التوجّه ، وينتهض إليها معرضا عن الكلّ ، فإنّه إنّما يتصوّر ذلك في الحركة المستطيلة المستلزمة للإعراض عمّا هو المطلوب من التعيّنات والجهات ، فهو أبدا ( مائل ، خارج عن المقصود ، طالب ما هو فيه ) ، كما قيل : "أراك تسأل عن نجد وأنت بها "
( صاحب خيال ) أي مثال متخيّل من الصور المجعولة له ( إليه غايته ، فله « من » و « إلى » وما بينهما ) ممّا فيه من المدارج والمقامات المختلفة بنسبة القرب والبعد .
( وصاحب الحركة الدوريّة لا بدء ) لسيرة ( فيلزمه « من » ولا غاية فيحكم عليه « إلى » ، فله الوجود الأتمّ ) الذي لا يقبل الزيادة أصلا من حيث الرتبة الذاتيّة التي له ، وجمعيّة الأطراف ، ( وهو المؤتى جوامع الكلم والحكم ) بما ورثه أولا من الكتاب يعني القرآن الجمعيّ الفرقيّ .

تأويل الغرق في قوم نوح
ومن جملة تلك الحكم قوله فيهم أيضا : " مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً " [ 71 / 25 ] ( ممّا خطيئاتهم ) أي صور أعمالهم وأحكام تعيّناتهم الباطلة التي هي الخطاء ( فهي التي خطت بهم ) إمّا من « الخطو » ، أي تلك الصور هي التي ساقتهم ، وإمّا من « خطَّ بالقلم » ، أي الصور الكثيرة المتولَّدة عنهم في طيّ المراتب والمقامات تولَّد الصور الكتابيّة من القلم هي التي أعدّتهم لأن يغرقوا في بحار العلم باللَّه .
وهي الصور الكتابيّة التي أنزلت على الأنبياء وأرسلوا بها ، فإنّها هي التي أوردتهم مخاض العرفان ( فغرقوا في بحار العلم باللَّه ، وهو الحيرة ) التي لا تبقى معها صورة من الصور العلميّة والحقائق أصلا ، فإنّها " لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ " * [ 74 / 28 ] ("فَأُدْخِلُوا ناراً " في عين الماء ) .
و ( في المحمّديّين ) من هذه الحكمة ما يؤدّيه قوله : ( " وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ " [ 81 / 6 ] سجّرت التنور : إذا أوقدته ) ولا يخفى على الفطن ما بينهما من التفاوت في الجمعيّة القرآنيّة .
قال الشيخ رضي الله عنه : (" فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ من دُونِ الله أَنْصاراً " ) لفناء الكلّ في ذلك البحر ( وكان الله عين أنصارهم ، فهلكوا فيه ) من نفوسهم وأحكامها الامتيازيّة.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إلى الأبد ، فلو أخرجهم إلى السيف "سيف الطبيعة " لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة ، وإن كان الكلّ لله وباللَّه ، بل هو الله ) أي وإن كان الساحل وجميع ما ينسب للبحر هو له وبه يوجد ، إذ بدونه لا يقال له ذلك ، بل الكل في نظر الشهود الجمعي هو البحر ،إذ ليس لذلك البحر ساحل.
لا ترم في شمسه ظلّ السوي   ..... فهي شمس وهي ظل وهي فيء
وملخّص ما في هذه العبارة من الإشارة أن في عين الطبيعة ثلاث اعتبارات :
أنزلها كونها أثرا للذات وفعلا لها ، وهو المشار إليه بالطبيعة .
وبعده كونها صفة قائمة بها ، غير متحقّقه بدونها ، وهو المشار إليه بالسيف .
وأعلاها كونها عينها ، كما هو في نظر الأعلى العالم الذي هو الكامل في الإخلاص  فعلم أنّ مشهود الأعلى ليس أمرا خارجا عن الطبيعة ، بل هو عينها ، لكن فيها مواطن بعضها أعلى ، وبعضها أنزل .


تأويل دعاء نوح على قومه
ومن جملة تلك الحكم ما ( قالَ نُوحٌ رَبِّ " ) " لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ من الْكافِرِينَ دَيَّاراً " [ 71 / 26 ] ( ما قال : « إلهي » ، فإنّ الربّ له الثبوت ) باعتبار أن لكلّ نوع ربّا يخصّه ، فلا يختلف مقتضياته ويثبت على اقتضاء واحد ( والإله يتنوّع بالأسماء ) باعتبار الجمعيّة التي له. قال الشيخ رضي الله عنه : (فهو كلّ يوم في شأن فأراد بالربّ ثبوت التلوين ) فإنّ الاستثبات والتمكَّن في نظر التحقيق ما هو في عين التلوين والتجدّد ، لأنّ المقامات إنّما تصحّ عند الأعلى العالم إذا جاوز إلى مقابله ، وبه تمّ ظهوره ، فالصحيح من التمكين ما هو في عين التلوين ( إذ لا يصحّ إلَّا هو ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : (" لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ " يدعو عليهم أن يصيروا في بطنها ) أي يتحقّقوا بحقيقة البطون ، ولا يبقوا على ظاهر أرض الظهور ، عاكفين بمشاعرهم على سنائرمن سنا صورها التنزيهيّة وحجبها الإمكانيّة الاعتقاديّة ، على ما هو مقتضى دعوته بقوله لهم " فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا " ليشاهدوا الحقّ في أسفل الحقائق ومركز الخفاء ، ولا يخصّوه بالعلوّ الذي في حيطة التقابل وهذا وإن كان دعاء لهم بحسب الحقيقة ، لكن بحسب تعيّناتهم التي بها هم الكافرون يكون عليهم ، ضرورة فنائها بالكلَّية عند هذا التحقّق . ( المحمّديّ ) له في هذه الحكمة وجوه :
منها قوله: ( « لو دلَّيتم بحبل لهبط على الله » ) ، وقوله : ( " لَه ُ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ " ) [ 2 / 255 ] .
الأوّل يدلّ على ثبوت تلك النسبة للذات ،
والثاني على ما لها من الأفعال .
ثمّ إنّ من شأن من يؤتى جوامع الكلم أن يثلث الدالّ في كل أمر .
لذلك قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإذا دفنت فيها ، فأنت فيها ، وهي ظرفك )
كما قال تعالى : ( " وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى " ) [ 20 / 55 ] فالأرض لها جامعيّة نسبة المبدئيّة والمعاديّة مع ما ذكر .
كلّ ذلك لأنّها وقعت مركزا ، والمركز مستجمع لوجوه الكثرة التي على محيط الظهور والإظهار جملة ، فإنّه أصل تلك الكثرة .
ثمّ إنّ نوحا إنّما دعي عليهم بتلوينهم من ظاهر أرض الظهور إلى باطن خفائها ، ( لاختلاف الوجوه من الكافرين ،الذين " اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ " و " جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ " طلبا للستر) على ما هو مقتضى دعوته لهم ( لأنّه دعاهم ليغفر لهم ) السرائر الإلهيّة وأسرار الربوبيّة في صور الشرايع وشعائرها حتّى يتحقّقوا بالجمعيّة الكماليّة ، لا ليغفر عليهم ويستر عنهم ذلك ، ( والغفر :الستر ).
(" دَيَّاراً " : أحدا ) ، أي إنّما دعي عليهم بعدم إبقاء ربّه على ظاهر أرض الظهور منهم أحدا ، ويصيّرهم في باطنها ( حتّى تعمّ المنفعة ) للأمم الآتية ( كما عمّت الدعوة ) لأمم زمانه ، فإنّ الدعوة إنّما هو إلى ما يطلبه ألسنة استعداداتهم بقوله " وَما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِه " [ 14 / 4 ] ، وهو ما عليهم من الستر .
ثمّ إنّ وضع الصور الشرعيّة وإخفاء الحقائق الإلهيّة كما أنّه يتضمّن الرسالة بلسان قومه خاصّة ، يتضمّن المنفعة لسائر الأمم الآتية ، لبقاء تلك الصور بعد واضعيها ، وأمّا المنفعة ووجه عمومها للأمم فبما يعدّهم للترقي عمّا يعتكفون عنده ، وعلم من هذا سبب التعبير عن الدعاء بالمنفعة ، ووجه مقابلتها للدعوة .
قال الشيخ رضي الله عنه : (" إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ " أي تدعهم وتتركهم ) فيما هم فيه من مجاورة أرض الظهور وسرائر الصور الإلهيّة ( " يُضِلُّوا عِبادَكَ "، أي يحيّروهم ) لأنّها موطن الحيرة والضلال بما اشتملت عليه من الجمعيّة والكمال وآيات الالوهيّة من العزّة والجلال .
(فيخرجوهم من العبوديّة إلى ما فيهم من أسرار الربوبيّة) فإنّ الظاهر الذي هو موطن شهودهم له السلطنة والخلافة ، باشتماله على المراتب وكماله وانقهار الكل تحت قهرمان قوّته وجلاله ، (فينظرون أنفسهم ) عند ضلالهم ( أربابا ) بإراءة المتحقّقين به إيّاهم ذلك المقام ( بعد ما كانوا عند نفسوهم عبيدا ) على ما هو مشهود كل أحد بنفسه ( فهم العبيد الأرباب ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : (" وَلا يَلِدُوا ") أي ما ينتجون ولا يظهرون (" إِلَّا فاجِراً " أي مظهرا ما ستر) يعني أسرار الربوبيّة ( " كَفَّاراً " أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره ) ، يعني أحكام العبوديّة ، فإنّهم ستروها بعد ظهورها عندهم ، ( فيظهرون ما ستر ) من العبوديّة وأحكامها ، لأنها عدميّة ممحوّة العين ، (ثمّ يسترونه بعد ظهوره) عندهم بإظهار أسرار الربوبيّة .
وهذا ممّا يوجب الحيرة للمسترشدين ، فإنّ العبوديّة لممحوّة مختفية بنفسها ، لا سبيل لظهورها ، وبعد ظهورها عند أنفسهم تراهم يسترونها (فيحار الناظر) الطالب حينئذ (ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره ، ولا الكافر في كفره ، والشخص واحد) لا يقبل ورود الأحكام المتقابلة عليه .
ومن جملة تلك الأحكام ما قال نوح دعاء له ولقومه مفصّلا
قال الشيخ رضي الله عنه : ( " رَبِّ اغْفِرْ لِي " أي استرني ) على أن يكون اللام صلة ( واستر من أجلي ) على أن يكون لام الأجل .
ومن جملة تلك الأحكام ما قال نوح دعاء له ولقومه مفصّلا. وإنّما جمعهما لأنّ مؤدّاهما واحد ، وهو ستر حقيقته وحقيقة الكلّ من الذين في حيطة دعوته بأحكام تعيّناتها ، حتّى يتمّ الأمر الذي يترتّب عليه المراد ، على ما هو مقتضى منصب النبوّة والرسالة من وضع الصور وتربيته الحقائق في ضمنها ، سيّما ما اختصّ به الكلمة النوحيّة ، فإنّها مؤسس هذا البنيان وممهّد قواعده.
وذلك لأنّ الحقائق لو لم تكن مختفية بصورها ، متلبّسة بأحكامها الساترة بل كانت ظاهرة للكل  لم ينتظم أمر الوجود ، لعدم التفاضل حينئذ ، فلا ينقاد المأمور للآمر ، ولا المألوه للإله ، وإليه أشار الشيخ رضي الله عنه بقوله : ( فيجهل قدري ومقامي ، كما جهل قدرك ) ومقامك ( في قولك : " وَما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِه " ) [ 6 / 91 ] .
قال الشيخ رضي الله عنه : ("وَلِوالِدَيَّ " من كنت نتيجة عنهما ، وهما العقل ) المجرّد الذي له التأثير ( والطبيعة ) القابلة المتأثرة عنه دائما ، والطبيعة هاهنا مستعملة على العرف المتعارف .
قال الشيخ رضي الله عنه : (" وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ " أي قلبي ، " مُؤْمِناً " ، أي مصدّقا بما يكون فيه من الإخبارات الإلهيّة ، وهو ما حدّثت به أنفسهم) وفيه تنبيه على أنّ من انتسب إلى أحد من الكمّل واستحكم رقائق الانتساب بروابط المحبّة التي هي الطريق إلى مستفاض الاتّحاد ، ودخل بها قلبه وأخذ منه مكانا لنفسه ، فكلّ ما حدّثت به نفسه هو من الإخبارات الإلهيّة الواردة عليه ، وذلك لظهور سلطان الاتحاد .

( "وَلِلْمُؤْمِنِينَ " من العقول ) المنتسبة إلى المواد ( " وَالْمُؤْمِناتِ"من النفوس ) المنطبعة فيها .
("وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ" ) يعني المستهلكين في غياهب غيب الهويّة التي لا تميّز فيها أصلا ، (من الظلمات : أهل الغيب ، المكتنفين خلف الحجب الظلمانيّة ) يعني وراء أحكام البطون ومقتضيات غيب الذات ، فإنّهم يعبّرون عن تلك الأحكام بالظلمة ، كما قال الشيخ في اصطلاحاته: " يسمّى العلم بالذات ظلمة " .
(" إِلَّا تَباراً " [ 71 / 28 ] أي هلاكا ، فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحقّ ) ومحيا إطلاقه الذي الكلّ فيه عينه ، لا تحيّر فيه أصلا ( دونهم ) .
وما يدلّ على هذه الحكمة ( في المحمّديين ) بأجمع كلمة : (" كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ") [ 28 / 188 ] .
( ومن أراد أن يقف على أسرار نوح ) وتفاصيل حكمه ( فعليه بالرقي في فلك نوح ) يعني فلك الشمس ( وهو في التنزّلات الموصليّة لنا - والسّلام ) .
فإنّه قال فيها :
« اعلم أنّ فلك الولاية هو الفلك الأعظم المحيط الأتمّ العقلي
وفلك النبوّة هو الفلك الأتمّ النفسي ،
وفلك الرسالة هو الفلك القريب الهيولاني ،
وفلك الجهل هو فلك الزحل ،
وفلك العلم هو الفلك المشتري ،
وفلك الشك هو الفلك المرّيخي ،
وفلك النظر هو الفلك الشمسي ،
وفلك الظنّ هو الفلك الزهري ،
وفلك التقليد هو الفلك العطاردي ،
وفلك الايمان هو الفلك القمري " .
وقال في موضع آخر منها: « لمّا طلب عقلي الرئاسة على العقول والتقديم قرع بهمّته باب القديم ، فنزل إليه الروح ،ملتفّا في بردة يوح » إلى هنا كلامه.
وتحقيق ذلك أنّ النظر العقليّ موطن التمييز الذي هو عبارة عن ستره الأعيان بصورها الخاصة الظاهرة بها عند المدارك ، المخفية إيّاها في المشاهد ، كما أن الشمس هي المظهرة للمحسوسات بصورها الكونيّة ، المخفية للأعيان بصورها الوجوديّة ، ولما كان لنوح نوع اختصاص بهذا الموطن الإظهاري النظري قال : " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً " [ 71 / 28 ] حسبما مرّ من التأويل   .
وذلك لأنّ النظر العقليّ وإن كان موطن الحصر والتنزّل ، ولكن إذا ايّد بالقوّة القدسيّة السماويّة التي للأنبياء صار بجمعيّته للطرفين معدن الكمالات الحقيقيّة .
وفي طيّ عبارته من جمعيّة الترقّي والتنزّل إشارة إليه - فلا تغفل .
ثمّ هاهنا تلويح حرفيّ لا يبعد ذلك من قصد الشيخ في هذا التعبير ، وهو أن التركيب من الواو والحاء الذي هو صورة الوجه الباقي وفيه لسان الوحي الذي منه وصول الأنبياء إلى بساط الاستكمال والتكميل .
قد ابتني ذلك في الكلمة النوحيّة ، على ما هو أقصى نهاية التنزلات العشريّة الشعوريّة ، كما أنّه في « يوح » قد ابتنى على مبدأ تلك المرتبة .
وأمّا في « الروح » فقد ابتني على ما ترقى مرتبة أخرى في أمر الإظهار ، وهي المترتّبة على القدرة والاختيار ، كما لا يخفى على الواقف بالأصول الإحصائيّة .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 04 - فصّ حكمة قدّوسيّة في كلمة إدريسيّة الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 11:14 am

04 - فصّ حكمة قدّوسيّة في كلمة إدريسيّة الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

04 - فصّ حكمة قدّوسيّة في كلمة إدريسيّة  الجزء الأول

فصّ حكمة قدّوسيّة في كلمة إدريسيّة
اعلم أنّ « التقديس » هو تطهير الذات عمّا يشوب به صرف تنزّهها وخالص إطلاقها من التبعيد عن القيود الذي يستلزم التحديد .
على ما يتضمّنه معنى « التسبيح » فيكون أتمّ في تأدية تلك الحقيقة منه ولذلك تراه مطلقا منتسبا إلى الحقّ - دون التسبيح - في قوله تعالى : " نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ " [ 2 / 30 ] .
وجه تسمية الفص
وإدريس عليه السّلام قد بالغ في نفض موادّ التعلَّق وما يختلط به صرافة التجرّد والتروّح ، وجدّ في ذلك بما لا تفي به النشأة البشريّة والطبيعة المزاجيّة الإنسانيّة  إلى أن سرت آثار الروحانيّة إلى جسده ، وباين لذلك أمثاله وأقرانه من البشر وناسب به الملأ الأعلى ، ورفع به مكانا عليّا ، فلذلك استأهل أن يؤدّي كلمته الحكمة القدّوسيّة .
تلويح من التحليل
وهو أنّ « السرّ » هو مادّة تقوّم كلمة « إدريس » وأحكامه هي مقتضى  دعوته ، كما أنّ « الروح » هو مادّة تقوّم كلمة « نوح » وأحكامه مقتضى دعوته  » ولذلك ترى الستر - الذي هو مقتضى دعوتيهما - قد تمّمه إدريس حيث ستر بنفسه عن بني نوعه ، وتلبّس بأحكام هويّات الأنواع العالية ، وحيث أنّه سيّره متلبّسا بهويّة الكلمة الإلياسيّة صاحب دعوة ورسالة .
وفي نفس كلمته ما يدلَّك على هذا ، وذلك لأنّ ما تفرّد به إدريس - أعني الدال والراء - باطنهما هو الذي ظهر في « إلياس » وتفرّد بهما - أعني اللام والألف - .
معنى العلوّ وأقسامه
ثمّ إنّ التجرّد والتنزّه إنّما يقتضيان الإطلاق والإحاطة ، المستلزمين للعلوّ ومن هاهنا ترى » بين إدريس - من حيث بلوغه إلى ذروة التمام من العلوّ الصوريّ - وبين المحمّديّين - الواصلين إلى أوج تمام العلوّ المعنويّ الذاتيّ -
وقعت مشاركة في مطلق العلوّ ، ولهذا صدّر الفصّ بتحقيق معنى العلوّ وتقسيمه بما ينبئ عن حقيقته .
حيث قال رضي الله عنه: ( العلوّ نسبتان : علوّ مكان ، وعلوّ مكانة ) ، والجامع بينهما هو نسبة الشرف ورفعة المرتبة التي هي مقتضى التجرّد والقرب إلى المبدء وذلك لأنّ المظاهر كلَّما كانت أحكام الظاهر فيها غالبة ، خالصة عن شوائب الغرائب - من خصوصيّات المظهر نفسه - فإنّها أقرب إلى المبدء وأرفع نسبة إليه ، ومن ثمّة تراه جعل الجماد أعلى الأشياء كلَّها - كما ستطلع عليه - فعلى هذا أعلى الأمكنة إنّما هي القطب ،من حيث خلوّه عن الحركات وطروّ الأحكام الغريبة له .
هذا إذا نظر إلى كلّ فلك في نفسه ، وأمّا إذا نظر إلى الأفلاك كلَّها - من حيث نضدها الجمعيّ ونظمها الصوريّ المشاهد لأرباب البصائر والأبصار - فأعلاها مكانا إنّما هو فلك الشمس ، لأنّه واسطة نظم هذه الجمعيّة وعليها مدار أمر الإظهار .
وإذا نظر إليها بحسب ما لها في نفسها من حيث صورتها الجمعيّة وتشخّصها الأحديّ ، فأعلى الأمكنة فيها هو العرش ، لاشتماله على ما ذكر من جهة العلوّ مع تحديده لتلك الجهة - على ما بيّنه أرباب الحكمة - على أنّ العلوّ الحقيقيّ هو الذي ليس في مقابلة السفل - بناء على الأصل الممهّد - وهو إنّما يتحقّق في فلك الشمس - دون المحدّد.
فلئن قيل : ما ذكر في بيان جهة العلوّ يقتضي أن يكون المركز هو الأعلى مطلقا بتلك الجهة ، لأنّه لا شيء أخلى منه عن الخصوصيّات الغريبة والأحكام الخارجيّة .
قلنا : البحث إنّما هو في الأمكنة ، وهو ليس منها - سواء ذهب إلى أنّه بعد مجرّد ، أو السطح - بل ليس من هذه الجمعيّة أصلا .
فإنّه صرّح الشيخ في عقلة المستوفز أنّه محلّ نظر العنصر الأعظم ، الذي خلق العقل من التفاتته وأنّ أمر الكون كلَّه منه صدر ، وإليه يعود ، فلا يكون داخلا فيه منه .
فلك الشمس في أعلى الأمكنة
وإذا عرفت أنّ مطلق العلوّ منقسم إلى علوّ مكان وإلى علوّ مكانة ( فعلوّ المكان ) هو المنصوص عليه بقوله تعالى :" وَرَفَعْناه ُ مَكاناً عَلِيًّا " [ 19 / 57 ] وأعلى الأمكنة ) - حسبما ذكر من البيان - ( المكان الذي تدور عليه رحى عالم الأفلاك ، وهو فلك الشمس ، وفيه مقام روحانيّة إدريس ) وذلك لأنّ الشمس لها رتبة كمال الظهور والإظهار ، وإذ قد كان إدريس صاحب الحكمة  القدّوسيّة - والتقديس هو طرف كمال ظهور الحقّ ، على ما عرفت ، وموطن إظهاره - لذلك اختصّ به روحانيّته .
وإنّما قلنا : « إنّه بمنزلة القطب في رحى العالم » لأنّه الواقع في الوسط ( وتحته سبعة أفلاك ، وفوقه سبعة أفلاك ، وهو الخامس عشر ) فهو صاحب السبع المثاني ، ولكن في الحسّ وفي مرتبة الكون فقط .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالذي فوقه : فلك الأحمر ، وفلك المشتري ، وفلك كيوان ، وفلك المنازل ) الذي عليه الثوابت ، وهو محلّ تفاصيل الحقائق والحروف الثمانية والعشرين ( والفلك الأطلس ) الذي لا كوكب فيه .
واعلم أنّ الذي اتّفقت عليه كلمة أهل التعليم وأكثر أرباب التحقيق في تفصيل الأفلاك وتحقيق مراتبها هو هذا القدر - لا غير - وإن لم يكن لهم برهان على الحصر ، ولكن ليس لمداركهم بحسب آلاتها واستدلالاتها قوة الوصول إلى ما وراء ذلك - على ما نصّ عليه الشيخ في العقلة حيث قال نقلا عن بعض العلماء   :
" قال بعض العلماء في قوله : " وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ " [ 69 / 17 ] :
« إنّ هذا الفلك - يعني فلك المنازل - أحد الثمانية الحملة والسبعة التي تحتها » وجعل فلك البروج هو العرش ، وهو الأطلس ، والله أعلم أنّ  الأمر على خلاف ما قاله من كلّ وجه ، وهذا الترتيب لا يمكن إدراكه إلَّا بالكشف والاطلاع أو بخبر الصادق ، إذ لا خبر به .
وكذلك أهل التعاليم والقائلون بالرصد وأصحاب علم الهيئة لم يعرفوا ما عرفوا من ذلك إلَّا بطريق الكشف الحسّي ، فأبصروا حركات الكواكب ، واستدلَّوا بذلك على كيفيّة الصنعة الإلهيّة وترتيب الهيئة ، فأخطئوا في بعض وأصابوا في بعض ، واختلفت آراؤهم في ذلك اختلافا معروفا متداولا بين أهل هذا الشأن " .
إلى هنا كلامه ، وقد علم منه أنّ إثبات هذين الفلكين من خصائص كشفه الكامل .
قوله : ( فلك البروج ) عطف بيان للفلك الأطلس ، فإنّه وإن لم يظهر فيه من الكواكب شيء ، لكن ظهر فيه بحسب المراتب التي تحته دوائر تقسمها إلى اثنا عشر برجا ، ففيه تفصيل .
( وفلك الكرسي ) - وهو المسمّى بـ « العرش الكريم » عنده  و « مستوى اسم الرحيم » و « موضع القدمين » و « محلّ تفصيل الكلمتين » ففيه تفصيل ما .
( وفلك العرش ) وهو عرش الرحمن ، لا تفصيل فيه أصلا .

العروش الخمسة
واعلم أنّ الشيخ أثبت خمسة عرش حقيقيّة: عرش الحياة - وهو عرش الهويّة - وعرش الرحمانيّة والعرش العظيم والعرش الكريم والعرش المجيد .
فعرش الحياة هو عرش المشيّة - كما سبق التنبيه في مطلع الكتاب - وهو مستوى الذات ، وهو عرش الهويّة ، قال الله تعالى : " وَكانَ عَرْشُه ُ عَلَى الْماءِ " [ 11 / 7 ] فأضافه إلى الهويّة ، وجعله على الماء ، ولهذا قلنا فيه : « عرش الحياة » . . .
لقوله تعالى : " وَجَعَلْنا من الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ " [ 21 / 30 ] ، فهو العنصر الأعظم . . . وهو اسم الأسماء ومقدّمها . . . و « العرش المجيد » هو العقل الأوّل ، وهو القلم الأعلى .
و « العرش العظيم » النفس الناطقة الكليّة وهو اللوح المحفوظ .
و « عرش الرحمانيّة » وهو الجسم الكلّ . « والعرش الكريم » محل التفصيل .
وأثبت عرشا سادسا نسبيّا ليس له وجود ، وهو العماء  وهو عرش الحيرة .
رجوع إلى ذكر الأفلاك
هذا حكم ما فوق فلك الشمس ، ( والذي دونه : فلك الزهرة ، وفلك الكاتب « 2 » ، وفلك القمر ، وكرة الأثير ، وكرة الهواء ، وكرة الماء ، وكرة التراب ) فعلم أنّ إطلاق الأفلاك عليها كان تغليبا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن حيث هو قطب الأفلاك هو رفيع المكان ) وفيه إشارة إلى أنّ العلوّ من هذه الحيثيّة له ، ولا ينافي أن يكون لآخر علوّ من حيثيّة أخرى .
علوّ المكانة للمحمدييّن
هذا كلَّه علوّ المكان ( وأمّا علوّ المكانة فهو لنا - أعني المحمّديين - قال الله تعالى : " وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَالله مَعَكُمْ " [ 47 / 35 ] في هذا العلوّ ، وهو يتعالى عن المكان ) لأنّه يستلزم التجسيم الذي يلزمه التقييد - تعالى عنه - ( لا عن المكانة ) ، لأنّه لا رتبة وراء رتبة الإطلاق ، ولا سلطنة أعظم من سلطنته الإحاطيّة ، فتكون المعيّة المنصوص بها إنّما هي في علوّ المكانة - لا غير .
( ولمّا خافت نفوس العمّال منّا ) - إذ فهموا من الآية معيّة علوّ المكانة - أن يفوت جزاء أعمالهم - يعني علوّ المكان - ( أتبع المعيّة بقوله : " وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ " ) [ 47 / 35 ] - أي لن ينقصكم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالعمل يطلب المكان ) من حيث تجسّدهما وكونهما آخر سلسلة الترتيب (والعلم يطلب المكانة) من حيث تروّحهما وكونهما أول سلسلة الترتيب ( فجمع لنا بين الرفعتين : علوّ المكان - بالعمل - وعلوّ المكانة - بالعلم - ثمّ قال تنزيها للاشتراك بالمعيّة : " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى " [ 87 / 1 ] عن هذا الاشتراك المعنويّ ) فإنّ العلوّ الذاتيّ لا يكون إلَّا للحقّ ، والعلوّ الذي لغيره بالتبعيّة .

العلوّ للمكان والمكانة بالذات ولغيرهما بالتبع
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن أعجب الأمور كون الإنسان - أعني الإنسان الكامل - أعلى الموجودات ، وما نسب إليه العلوّ إلَّا بالتبعيّة ، إمّا إلى المكان وإمّا إلى المكانة - وهي المنزلة - ) وهما من الموجودات ، فيكون علوّ الإنسان تابعا لما يكون هو أعلى منه ، وهذا من خصائص جمعيّته الإطلاقيّة وإحاطتها بالأطراف والأضداد .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما كان علوّه لذاته فهو العلي بعلوّ المكان والمكانة ، فالعلوّ لهما ) بالذات ، لا للإنسان ، ولا لشيء غيرهما فإنّ الأسماء الإلهيّة أيضا لا علوّ لها إلَّا بهما .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعلوّ المكان ك " الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى " [ 20 / 5 ] ، وهو أعلى الأماكن ) فإنّه ليس بين أسماء الحقّ أعلى وأشمل إحاطة من « الرحمن » فإذا كان العرش مستواه يكون هو أعلى الموجودات ضرورة .
( وعلوّ المكانة : " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ " ) [ 28 / 88 ] وهو طرف جامعيّته وظهوره ، فللوجه رتبة العلوّ في الظهور .
( " وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ " ) [ 11 / 123 ] وهو طرف غيبه وبطونه ، فإنّ الهويّة المطلقة لها رتبة العلوّ في الوجود .
(" أَإِله ٌ مَعَ الله ") [ 27 / 60 ] ، وهو الجامع بين الطرفين ظهورا ووجودا .
فعلم من هذا أنّ لعلوّ المكانة حضرات ثلاثا ، وعلم أيضا وجه ذاتية العلوّ للمكان والمكانة .
وأمّا أنّه لغيرهما بالتبعيّة .
فمن قوله : ( ولمّا قال تعالى : " وَرَفَعْناه ُ مَكاناً عَلِيًّا " [ 19 / 57 ] ، فجعل « عليّا » نعتا للمكان ) لا لإدريس ، علم أنّ رفعته بتبعيّة المكان ، هذا في علوّ المكان .
وأمّا علوّ المكانة ، فمن قوله تعالى : ( " وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً " [ 2 / 30 ] ، فهذا علوّ المكانة )
المضاف إلى الإنسان فإنّه يدلّ على أنّ من الإنسان من له هذا العلوّ ، ( وقال في الملائكة : " أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ " ) [ 38 / 75 ] ، فإنّه يدلّ على أنّ من الملائكة من له العلوّ مكانة ، ( فجعل العلوّ للملائكة ، فلو كان لكونهم ملائكة لدخل الملائكة كلَّهم في هذا العلوّ ) ، ضرورة أنّ مقتضى الذات مشترك في سائر الأفراد .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلمّا لم يعمّ - مع اشتراكهم في حدّ الملائكة - عرفنا أنّ هذا علوّ المكانة عند الله ، وكذلك الخلفاء من الناس ) المنسوب إليهم العلوّ في الآية المذكورة.
(لو كان علوّهم بالخلافة علوّا ذاتيّا لكان لكلّ إنسان ، فلمّا لم يعمّ ،عرفنا أنّ ذلك العلوّ للمكانة) التي هي عند الله بأحد الوجوه الثلاثة .
علوّ الحق تعالى بالذات
وإذ قد تبيّن أنّ العلوّ لغير المكان والمكانة إنّما هو بالتبعيّة والإضافة ، والذي لهما مرجعه بالحقيقة إلى الحقّ - أمّا الذي للمكانة فظاهر ، وأمّا الذي للمكان فلأنّه باستواء الرحمن عليه ، وهو من أسمائه تعالى ، فعلم أنّ العلوّ بالذات إنّما هو للحقّ فقط - أخذ يحقّق العلوّ الذاتي الذي للحقّ بقوله : ( ومن أسمائه الحسنى « العليّ » ، على من ؟ ) - فإنّ علوّ المكان غالبا إنّما يستعمل بـ « على » .
لقوله تعالى : " الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى " [ 20 / 5 ] - فإذا لم يكن في الوجود أحد يعلو عليه الحقّ بالمكان ، لا يمكن أن يكون علوّه بالإضافة .
فإنّ كلّ ما فيه هو الحقّ ، ( وما ثمّ إلَّا هو ، فهو العليّ لذاته ) أي العليّ المطلق الذي هو أعلى من أن يكون علوّه بالقياس إلى السفل .
هذا حال علوّ المكان - وكذلك أمر علوّ المكانة ، وإليه أشار بقوله : ( أو عن ماذا ؟ ) - فإنّ علوّ المكانة أكثر ما يستعمل ب « عن » كما يقال :
" جناب الخليفة عال عن كذا " - فإذا لم يكن شيء يعلو عنه بالمكانة ، لا يمكن أن يكون علوّه ذلك له بالإضافة ، فإنّ كل أمر فرض فهو شيء ، ( وما هو إلَّا هو فعلوّه ) - مطلقا ، سواء كان بالمكان أو بالمكانة - له ( لنفسه) فإذ قد تحقّق أنّ العلوّ الذي للحقّ هو العلوّ الذاتي - حيث أنه ليس في الوجود شيء يعلو عليه أو عنه ، فلا يكون في الوجود إلَّا العليّ بالذات - لا بدّ أن يحقّق أمر العلوّ الإضافي ، وأنّ العالي به من هو ؟ وإلى ذلك أشار بقوله :
الموجودات علية بالذات بعلوّه تعالى
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهو من حيث الوجود عين الموجودات ، فالمسمّى « محدثات » هي العليّة لذاتها ، وليست إلَّا هو ) أي ليست المحدثات إلَّا المسمّى نفسه ( فهو العليّ - لا علوّ إضافة ) أي المسمّى محدثات ( لأنّ الأعيان ) - أي المحدثات باعتبار كونها مسمّى بها - ( التي لها العدم الثابتة فيه ، ما شمّت رائحة من الوجود ، فهي على حالها ) في العدم ، وإلَّا لم تكن ثابتة فيه ( مع تعداد الصور ) الظاهرة من آثارها ( في الموجودات ) .
وهذا في نظر التحقيق غير ممتنع - كما ستطلع عليه إن شاء الله تعالى - وأصل ذلك ما وقفت عليه مرارا ، من أنّ الوحدة الحقيقيّة التي للواحد الأحد هو الذي نسبة الكثرة العدديّة إليه كنسبة وحدتها إليه  - بلا فرق - .
( والعين ) التي هي الحقّ ( واحدة من المجموع في المجموع ) يعني واحدة حاصلة من مجموع الموجودات في عين ذلك المجموع - لا في الخارج عنه – فإنّه قد سبق مرارا أنّ أحديّته تعالى أحديّة جمع ، فتحقّقها في الجمعيّة ومنها ، لا أحديّة فرق - حتّى يقابلها الكثرة ، ويقبل طريانها لتلك الوحدة - إذ الكثرة مستهلكة الحكم في الوحدة الذاتيّة ، ( فوجود الكثرة ) إنّما هو ( في ) حضرة ( الأسماء ، وهي النسب ، وهي أمور عدميّة ، وليس ) في الوجود .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إلَّا العين الذي هو الذات ، فهو العليّ لنفسه - لا بالإضافة - فما في العالم من هذه الحيثيّة علوّ إضافة ) .
النسب الأسمائيّة
وإذ قد حقّق حيثيّة الوحدة الذاتيّة والإطلاق الصرف الذي لا إضافة هناك ، لا بدّ وأن يلحق ذلك بتحقيق حيثيّة النسب الأسمائيّة وإثبات الإضافة تفصّيا عن تمام التحقيق وكمال التوحيد .
واعلم أنّ النسب الأسمائيّة التي هي أمور عدميّة في نفسها ليست أعداما صرفا .
فإنّها من حيث هي أعدام لا يمكن أن يشار إليها ويعبّر عنها ، بل لها نسبة إلى العدم بالقياس إلى أنفسها ، كما أنّ لها نسبة إلى الوجود بالإضافة إليه.
فهي بالاعتبار الأوّل تسمّى بـ « الأمور العدميّة » و « النسب الإمكانيّة الاعتباريّة » .
وبالاعتبار الثاني تسمّى بـ « الوجوه الوجوديّة » إذ بها يظهر الوجود .
وهذا الاعتبار هو الذي يسمّيه الحكيم بـ « الوجوب اللاحق » ، وسائر الأحكام الثبوتيّة والأوصاف الوجوديّة إنّما يضاف إلى تلك الوجوه .
فلذلك قال رضي الله عنه: ( ولكن الوجوه الوجوديّة متفاضلة ، فعلوّ الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة ) ، فإنّ الوجوه وكثرتها لا يقدح في تلك الوحدة ، بل يجعلها موردا للأحكام المتقابلة ، ( لذلك يقول فيه : هو لا هو ) .
أي يقول في الحقّ : « غيب وباطن ، ليس بغيب وباطن » لإحاطة وحدته المطلقة بالظاهر والشاهد ، و : ( أنت لا أنت ) وتقول فيه أيضا : « حاضر مشاهد ، ليس بحاضر مشاهد » ، لاحاطتها الغيب والبطون .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال الخرّاز - وهو وجه من وجوه الحقّ ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه - بأنّ الله لا يعرف إلَّا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها ) .
أي بالأضداد ، على ما هو مقتضى وحدته الذاتيّة - إذ به يعرف تلك الوحدة كما مرّ غير مرّة - (فهو الأوّل والآخر ،والظاهر والباطن ، فهو عين ما ظهر ،وهو عين ما بطن في حال ظهوره ) ، فإنّ الظهور إنّما يكون بالصور الحاجبة فهو في عين بطونه ظاهر ، وفي عين ظهوره باطن  .
بدت باحتجاب فاختفت بمظاهر
وذلك الظهور والبطون ليس لغيره أو عنه ، إذ ليس له وجود ( وما ثمّ من تراه غيره ) حتّى يظهر له ، ( وما ثمّ من ) يحتجب له حتّى ( يبطن عنه ، فهو ظاهر لنفسه ، باطن عنه ، وهو المسمّى أبا سعيد الخرّاز ) الذي ظهر له ، وجعله لسانا يظهره ، ( وغير ذلك من أسماء المحدثات ) التي يحتجب فيه وجعلها ستائر إخفائه .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فيقول الظاهر : « لا » إذا قال الباطن : « أنا » .
ويقول الباطن :« لا » إذا قال الظاهر : « أنا » وهكذا في كلّ ضدّ ) يطويه الأحديّة الإطلاقيّة - كالقابليّة والفاعليّة والمتكلَّميّة والسامعيّة - ( والمتكلَّم واحد ، وهو عين السامع .
يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: « وما حدثت به أنفسها »فهي المحدّثة السامعة حديثها ، العالمة بما حدّثت به نفسها والعين واحدة ) - يعني الشخص - ( وإن اختلفت الأحكام ) وهي الحديث والسماع والعلم والمحدّث والسامع والعالم .
( ولا سبيل إلى جهل مثل هذا ) ، فإنّه من الوجدانيّات الضروريّة التي يجد كل أحد من نفسه ، لا يتفاوت فيه الغبيّ من الذكيّ ( فإنّه يعلمه كل إنسان من نفسه ، وهو صورة الحقّ ) - كما سبق تحقيقه - .
تمثيل الوجود ومراتبه بالواحد ومراتب الأعداد
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فاختلطت الأمور ) أي الأحكام الكونيّة العدميّة والحقيقيّة العينيّة الوجوديّة ، والتبس الحقّ الواحد في المراتب التي ليس لها وجود في العين ، بل إنّما هي أمور اعتباريّة يتصوّرها العقل بأحكامها وآثارها الخصيصة بكلّ منها .
ثمّ إنّ هذه الأحكام لمّا كانت من آثار تلك المراتب المعدومة بالذات ، لا بدّ وأن تكون أنزل منها وأخفى في مكامن العدم بالنسبة إليها : لكن لمّا التبس الحقّ بها فاختفى فيها بنفسها ، وتصوّر بصورها وظهر بظهورها : انتسب الوجود في العين إليها ، فصارت الموجود في العين تلك الأحكام - لا غير - كما قيل :
إن قيل لك الكون عليه عرض ..... حقّق نظرا فيه ، ترى الجوهر هو
وإذ كان هذه المسئلة من أغمض المسائل عند أكثر المسترشدين - ممّن عوّدوا مداركهم بالاستفاضة عن الأنظار القياسيّة ، والمقدّمات المأنوسة لهم في أوائل أحوالهم - صوّر لهم تلك المسئلة في صورة عدديّة ، فإنّ العدد بما عليه من الصور المدركة أوّلا مختزن عويصات الحقائق وغوامض المعارف .
فأشار إلى ذلك بقوله : ( وظهرت الأعداد بالواحد في المراتب المعلومة ) ظهور الأكوان وأحكامها بالحقّ في مراتب الوجود التي هي اعتبارات عقليّة ، وذلك لأنّ العدد أيضا له مراتب كليّة تنطوي على أحكام مشخّصة وجزئيّات معيّنة - كالآحاد والعشرات والمآت والألوف - المتمايزة بمجرّد نسبة التقدّم والتأخّر - التي هي محض الاعتبار - المحتوية كل منها على جزئيّات إنّما يظهر الواحد بصورها في العين مفصّلا ، ( فأوجد الواحد العدد ، وفصّل العدد الواحد ) في مراتبه وجزئيّاتها المندمجة فيها بالقوّة ، وجعلها بالفعل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما ظهر حكم العدد ) الذي يوجد الواحد في العين مفصّلا ( إلَّا بالمعدود ) ظهور الأكوان بالماهيّات وأشخاصها ( والمعدود منه عدم ، ومنه وجود ) ، يعني وجود المعدود في العين ، لا دخل له في إظهار حكم العدد ، وإلَّا لم يكن الأعدام معدودة ، فعلم أنّ العدد كما يتحقّق نفسه بالواحد وسيره في المراتب ، كذلك أحكامه إنّما تتحقق بالمعدود - سواء كان موجودا في الحسّ أو لا - ( فقد يعدم الشيء من حيث الحسّ وهو موجود من حيث العقل ) ، ومبنى ظهور الأحكام على الوجود العقلي .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلا بدّ من عدد ومعدود ) سواء كان في العين أو بمجرّد الاعتبار ، ( و لا بدّ من واحد ) في العين ( ينشئ ذلك ) بسيره ، ( فينشأ بسببه ) العدد بمراتبه ، ويظهر أحكامه بالمعدود ، فإنّ الواحد هي المادّة المقوّمة لتلك المراتب كلَّها .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّ لكلّ مرتبة من العدد حقيقة واحدة ، كالتسعة - مثلا - والعشرة إلى أدنى وإلى أكثر - إلى غير نهاية - ) ، إذ ليس حقيقة شيء من تلك المراتب - بالغة ما بلغت - إلَّا واحدة وقعت متأخّرة عن المجموع ، فحصل لها باعتبار تلك النسبة اسم مرتبته الخاصّة .
ثمّ إنّ تلك النسبة لمّا كانت موقوفة على المجموع إنّما يحصل له اسم تلك المرتبة بعده ، فحقيقة تلك المرتبة هي الواحدة السارية ( ما هي المجموع ، ولا ينفكّ عنها اسم جميع الآحاد ) ضرورة لزوم المنتسبين للنسبة ، فهو من اللوازم الخارجة التي لا دخل لها في حقيقته.

يتبع الجزء الثاني
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 04 - فصّ حكمة قدّوسيّة في كلمة إدريسيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 11:18 am

04 - فصّ حكمة قدّوسيّة في كلمة إدريسيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

04 - فصّ حكمة قدّوسيّة في كلمة إدريسيّة  الجزء الثاني

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّ الاثنين حقيقة واحدة ، والثلاثة  حقيقة واحدة - بالغا ما بلغت هذه المراتب - وإن كانت واحدة فما عين واحدة منهنّ عين ما بقي ) من أجزائه ، وإلَّا يلزم أن يكون الجزء عين الكلّ ، فذلك اللازم الخارج - يعني المرتبة الجمعيّة - هو الذي يعيّنها ويحصّلها ويسمّيها حقيقة مستقلَّة واحدة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالجمع يأخذها ) يعني أنّ الجمع - الذي هو ظلّ الإطلاق يأخذ تلك العين الواحدة بالوحدة العدديّة - المسمّاة بالاثنين والثلاثة - من غيب الوحدة الإطلاقيّة الذاتيّة ، ويجعلها حقيقة مستقلَّة عينيّة كالفصل ، فإنّه وإن كان خارجا من الحقيقة الواحدة بالوحدة الجنسيّة ، لكن هو الذي يحصّلها ويجعلها حقيقة عينيّة ، فلا بدّ وأن يعتبر الجمعيّة المرتبية في العين الواحدة ، وتثبت تلك الجمعيّة لها .
( فيقول رضي الله عنه: ) أي يظهر ذلك الجمعيّة تلك الحقيقة المسمّاة المأخوذة من غيب الوحدة الإطلاقيّة ويسمّى ( بها منها ) في الصورة الكلاميّة الإشعاريّة ، ( ويحكم بها عليها ) في الصورة العقليّة الشعوريّة .
وتمام تبيين هذا الكلام أنّ الوحدة الإطلاقيّة الذاتيّة هي التي ظهرت من كنه الغيب بصورة الوحدة العدديّة ، متوجّهة في قطعها مسافة تلك الأبعاد العدديّة صوب ذلك المبدء الأوّل ، الذي عبّر عنه العقل النظري ب « ما لا يتناهى » عند عجزه عن ضبطه بالصور الإحاطيّة ، التي بها يدرك الأشياء ، وذلك الطرف هو المشار إليه بقوله : " بالغا ما بلغت " .
فينبغي أن تعلم أنّ لتلك الوحدة الظاهرة في هذه الوحدات العدديّة صورتين :
إحداهما هو الذي في الكثرة العدديّة منها ، وهي المسمّاة بالمرتبة ، ويلزمها الجمع ، وعبّر عنه هاهنا ب « اللازم » .
وثانيتهما هو الذي في الوحدة العدديّة ، وقد عبّر عنه المصنّف ب « العين الواحدة » .
والأولى منهما هي التي يقال لها في لسان الميزان : « الصورة التي تتقوّم بالمادّة » والثانية هي إيّاها ، كما أنّ ما يقال له « الفصل » هو الأولى منهما ، و « الجنس » هو الثانية ، ولذلك ترى مراتب الجنس مترتّبة متنزّلة - تنزّل تلك العين الواحدة - .
فظهر من هذا أنّ الجمع له مزيد اختصاص بتلك الوحدة الإطلاقيّة ، حيث أنّه هي الصورة التي يظهرها على مجالي الفعل - دون العين الواحدة - .
إذا تقرّر هذا - فاعلم أنّ ذلك الجمع هو الذي يأخذ تلك العين الواحدة من مستبهم غيب الإطلاق ومستجنّه ، ويظهرها على مجالي الإشعار ، ويسمّيها بتلك العين الواحدة منها ، فإنّك قد عرفت أنّ العين الواحدة هي المادّة والمبدء لخصوصيّة تلك الحقيقة المسمّاة ، فتكون مبدأ لسائر تلك الخصوصيّات - إشعاريّة كانت أو شعوريّة - وإلى الثاني أشار بقوله : " ويحكم بها عليها " .
وإذ كان الإشعاري منهما مقدّما في الخارج - فإنّه الدالّ على الشعوري - قدّمه معبّرا عنه بعبارة « القول » فإنّه هو الصورة التي يوجد بها الصور الشعوريّة في الخارج ، فهو المقصد الذي ينحلّ به ومنه سائر المقاصد ، فلذلك أخذ في تحقيق الصور التي للعدد باعتباره
قائلا رضي الله عنه: ( وقد ظهر في هذا القول ) بحسب سير الواحد في أطوار مراتبه ( عشرون مرتبة ) .
أمّا حقيقة : فلأنّ سيره إنّما هو لكماليه الذاتيّ والأسمائيّ الظهوريّ منه والإظهاريّ ، وتمام مرتبته إنّما هو العشرة : " تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ " [ 2 / 196 ] .
والذي يدلّ على هذا من التلويحات العدديّة الرقميّة أنّ الصفر الذي هو الدالّ على المرتبة نوعان : بياض وسواد - على ما قاله الشيخ سعد الدين الحموي سلام الله عليه :
"الصفر بياض يتبيّن فيه كلّ مفقود ، وسواد يعدم فيه كلّ موجود ، ولكلّ منهما كمال : فكمال بياضه إلى العشرة ، وكمال سواده إلى الألف ، والأوّل هو الملوّح إلى غاية الظهور والإظهار الذي موطنه العقل الشعوري ، كما أنّ الثاني هو الملوّح إلى غاية الشعور والإشعار ، الذي موطنه الحبّ الألفي العشقي " .
ولا تغفل عن التلويحات التي في طيّ هذه الألفاظ المعبّر بها عنهما فإنّها منطوية على أعلى من هذا ، قد أفصح عنه في المفاحص - من أراد ذلك فليطالعه - .
وأمّا ظاهرا : فلأنّ ما يدلّ على ذلك في العربي المبين إنّما هو عشرون لفظا : عشرة من الواحد إلى العشرة ، وثمانية عقود العشرات ، ومائة وألف ، وأمّا غير ذلك من عقود المائة والألف (فقد دخلها التركيب ) .
هذا إذا نظر إلى تراكيبه الوضعيّة ومؤلَّفاته الجعليّة التي أتى بها الحضرة النبويّة ، وعبّر عنها بلسان نبوّته إلى العامّة في تحقيق كمال الإنباء والإظهار ، وأمّا إذا نظر إلى مقطَّعات حروفه ومفردات بسائطه التي تكلَّم بها لسان الولاية مع أهل الخصوص في تحقيق كمال الكشف والإشعار ، فقد ضمّ إليها عقود المآت ، وكمّلها ثمانية وعشرون .
ومن ثمّة لو عدّدت منها الظواهر الصرف التي لا دخل لها في البواطن ، وأسمائها التي هي البيّنات المشعرة بحقايقها ، وجدتها عشرين ، والثمانية الباقية حروف البواطن ، يدخل في أساميها ويعبّر عن حقائقها: " وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ "   [ 69 / 17 ] .
وملخّص هذا الكلام أنّ المرتبة وإن كانت معدومة العين بنفسها ولكنّ الواحد ليس له وجود في العين إلَّا بها ، إذ الواحد إنّما يتحقّق في ضمن أحد الصفرين - على ما لا يخفى على الواقف بأصول القواعد - فالثابت في العين - حقيقة - ليس إلَّا المرتبة ( فما تنفكّ تثبت عين ما هو منفي عندك لذاته ) من المرتبة والكثرة .
التنزيه في عين التشبيه
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومن عرف ما قرّرناه في الأعداد ) - أنّها من حيث هي أعداد ومراتب أعدام لا تحقّق لها بنفسها أصلا ، مع ما لكلّ منها من الأسماء المستقلَّة والخصائص والآثار المحسوسة ، وأنّ وجودها إنّما هو بالوجود الواحد الساري ، ( وأنّ نفيها عين ثبتها ) ، لأنّ نفيها من حيث أنفسها معناه هو أنّ تحقّقها عين تحقّق الواحد الذي ليس وراءه تحقّق .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( علم أنّ الحقّ المنزّه ) مطلقا عن سائر القيود ( هو الخلق المشبّه ) ضرورة أنّ الإطلاق الحقيقي هو الذي في عين التقييد ( وإن كان قد تميّز الخلق من الخالق ) ، تميّز المطلق من المقيّد فيه ( فالأمر الخالق ) هو بعينه ( المخلوق ) في الخارج ، ( والأمر المخلوق ) في الخارج هو بعينه ( الخالق . كلّ ذلك ) - أي الخلقيّة والحقّية - ( من عين واحدة ) مطلقة منهما .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لا ، بل هو العين الواحدة ، وهو العيون الكثيرة ) ، فإنّ نسبة الوحدة والكثرة والإطلاق والتقييد ، والخلقيّة والحقّية ، وسائر المتقابلات إلى الواحد المطلق سواء .
فلذلك لمّا قال ذلك العين الواحدة بلسان الوالد : " إِنِّي أَرى في الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ " و  ( " فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ " بلسان الولد : يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ " [ 37 / 102 ] .
والمأمور ليس إلَّا الذبح ، ( والولد عين أبيه ) وسرّه ، ( فما رأى يذبح سوى نفسه ، وفداه " بِذِبْحٍ عَظِيمٍ " [ 37 / 107 ] فظهر ) في الخارج ( بصورة كبش من ظهر ) في الخيال ( بصورة إنسان وظهر ) في الخيال ( بصورة ولد - لا ، بل بحكم ولد ) ،  فإنّ المغايرة بين الصورة الوالديّة والولديّة نسبة حكميّة لا حقيقيّة ، سيّما في عالم الخيال - ( من هو عين الوالد ) في الخارج .
فتبيّن من هذه الآية تنوّع العين الواحدة بالصور المتخالفة حقيقة وحكما ، ولكنّ في الخيال والخارج - لا في الخارج - والذي يدلّ على ذلك فيه هو قوله تعالى : " يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ "  ( " وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها " ) [ 4 / 1 ] ) أي من النفس الواحدة ( فما نكح سوى نفسه ) .
فتبيّن من هذه الآيات القرآنيّة الكاشفة عن كنه الأشياء أن لا مغايرة في العين بين الوالد وزوجه ، ولا بينه وبين ولده ، ( فمنه الصاحبة والولد ، والأمر واحد في العدد) فما اتخذت صاحبة ولا ولدا .
كيفيّة ظهور الكثرة
وإذ قد بيّن - بالقواعد العدديّة عقلا ، والآيات المنزلة السماويّة نقلا - إثبات وحدة العين ، أخذ في تحقيق ظهور الكثرة منها وإبانة ما يتوهّم من تلك العبارة ، وإزالته من التجزية والتبعيض ، فقال مستفهما : ( فمن الطبيعة ) الكل ( ومن الظاهر منها ) في الخارج ؟
إذ لا يمكن أن يكون بعضها على ما هو المتوهّم منها ، وإلَّا لزم أن ينقص الكل بما ظهر منها وخرج من كنه كمونها ، ويزيد بعدم ذلك الظهور .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما رأيناها نقصت بما ظهر منها ، ولا زادت بعدم ما ظهر ) على ما هو مقتضى الجزئيّة ، ولا يمكن أن يكون جزئيّا لها لتحقّق المغايرة بين الكلَّي وجزئيه ، ( وما الذي ظهر غيرها ) بما أشير إليه عقلا ونقلا وذوقا .
ثمّ لمّا تقرّر أنّ المشهد الختمي الكمالي هو أنّ التوحيد الأتمّ ما يجمع بين التنزيه والتشبيه ، والتفرقة والجمع ، أراد أن يشير إلى ذلك بما يكشف عن أصله ومبدئه ، وهو أنّ الطبيعة الكلّ إذا لم تكن مغايرة لما ظهرت فيه لا بدّ وأن تكون عينه ( وما هي عين ما ظهر ، لاختلاف الصور بالحكم عليها ) حسبما تصوّر بها من الأوصاف المتقابلة والآثار المتباينة المتناقضة ، المتسلَّطة في تلك الصور ( فهذا بارد يابس ، وهذا حارّ يابس ) وفي اختيار هذا المثال تنبيه على ما سلف لك من النظم الطبيعي الدوريّ الذي لآخر الكرات الطبيعيّة العنصريّة إلى أوّلها ، فلذلك قال : ( فجمع باليبس ) الذي هو صورة المركز ( وأبان بغير ذلك ) من الكيفيّات التي للكرات المحيطة الأعلى فالأعلى .
وقوله رضي الله عنه: ( والجامع الطبيعة ) إشارة إلى الفرق التنزيهي الذي هو مشهد اولي العقول.
كما أنّ قوله رضي الله عنه:: (لا ، بل العين الطبيعة) إشارة إلى الجمع التشبيهي الذي هو مشهد اولي الذوق والشهود .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة ) إشارة إلى تفصيل معنى الأوّل ، و ( لا ، بل صورة واحدة في مرايا مختلفة ) إلى تفصيل معنى الثاني .
حيرة العقل النظري  
ثمّ إنّ الجمع بين الطرفين والاحتواء على المتقابلين مما لا بدّ منه في كلّ من هذين المشهدين - على ما لا يخفى - وإذ ليس من وسع العقل بقوّته النظريّة أن يضبطهما ضبطا جمعيا إحاطيّا ، وما أمكن له أن يخوض في تيّار ذلك البحر عندما تتلاطم أمواج المتقابلات والمتناقضات الدافعة للضبط ، الذي به يدرك العقل ما يدركه ، قال :
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما ثمّ إلَّا حيرة لتفرّق النظر ) فإنّه كلَّما استحصل من ذلك المشهد علما حار ورجع مما كان عليه ، فإنّ « الحيرة » لغة هي الرجعة ، فليس له من ذلك إلَّا الحيرة والعجز - كما قيل : « العجز عن درك الإدراك إدراك » - فكلَّما ازداد منه علما ، ازداد فيه تحيّرا ، وعليه ورد: « ربّ زدني تحيّرا » و " رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " * [ 20 / 114 ] .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومن عرف ما قلناه ) من الجمعيّة الكماليّة الختميّة التي أشير إليها ( لم يحر - وإن كان في مزيد علم ) من تلك الجمعيّة الإطلاقيّة ، وذلك لأنّ العجز والحيرة التي للمحجوبين بالعقول والقوى وإدراكاتها المختصّة بالإنسان وموطن حقيقته - وهو مفترق المتقابلين ، ومثار المتناقضين الذين يوجبان الحيرة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فليس ) ذلك الحيرة ( إلَّا من حكم المحل ، والمحلّ عين العين الثابتة ، فيها يتنوّع الحقّ في المجلى ، فيتنوّع الأحكام عليه ، فيقبل كلّ حكم ، وما يحكم عليه إلَّا عين ما تجلَّى فيه ما ثمّ إلَّا هذا ) .
أي ليس في موطن الحيرة إلَّا هذا التقابل الذي في الأمر مطلقا ، وهذه الحيرة من جملته ، وهو أنّ الأعيان الثابتة - بما لها من العدميّة والعجز والافتقار - حاكمة على ما ظهر فيها بما ظهرت ، مع وجوده واستغنائه واقتداره ، فالعارف بهذا ما يتحيّر عند تنوّع تلك الأحكام المتقابلة ولا يرجع بظهور أحد المتقابلين عن الآخر ، رجوع المحجوب وتحيّره .
وملخّص هذا الكلام أنّ العالم الذي هو العين الواحدة التي ذات تكثّر وتنوّع ، يمكن أن يشهد الكثرة هي الذاتيّة لها ، والوحدة الجمعيّة إنّما لحقت إيّاها وأحاطت بها بحسب المدارك والمشاهد التي بها يتّحد الكثير - اتّحاد الصور في مرآة واحدة - كما أشار إليه أوّلا ، على ما هو مدرك العقل ويمكن أن يشهد الوحدة هي الذاتيّة لها ، والكثرة إنّما طرأت عليها في المدارك والمشاعر المتنوّعة التي بها يتكثّر الواحد - تكثّر الصورة الواحدة في المرايا المختلفة - كما أشار إليه ثانيا على ما هو مشهد الذوق .
وإلى ذينك الوجهين أشار بقوله نظما قال الشيخ رضي الله عنه:
( فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا  ..... وليس خلقا بذاك الوجه فادّكروا)
وهذا مبدأ بدء المتقابلات ، ومنشأ جمع المتناقضات التي عجزت البصائر المحجوبة المخذولة عن إدراكه ، ووقفت أقدام أفهام ذوي العقول الفكريّة - التي لا تقع قوى شعورها إلا على مجرّد التجريد ومفترق التقديس والتنزيه ، دون بلوغها إليه - محرومة عن مجمع الإطلاق والتوحيد دون العارفين بالحقائق الذوقيّة ، الناظرين إلى العين الواحدة بالبصر الحسّيّ الشهوديّ الواقع أشعّة إدراكه على اللطائف الجمعيّة ، وإليه أشار بقوله :
(من يدر ما قلت لم يخذل بصيرته   ..... وليس يدريه إلَّا من له بصر)
وذلك لأنّ العين الشاملة للكلّ هي الواحدة بالوحدة الإطلاقيّة - كما هو المشاهد المحسوس - وإنّما يفصّلها الاعتبارات العقليّة ، تفصيل الجمعيّة والتفرقة بفرضه واعتباره - لا أنّها في نفسها كذلك - والمنبّه على ذلك صيغة الأمر في قوله :
(جمّع وفرّق ، فإنّ العين....    واحدة وهي الكثيرة لا تبقى ولا تذر)
تلك العين الواحدة غيرها ( ولا تذر )
اشتمال الاسم الجلالة وإحاطته بجميع الأمور والنسب  وإذ قد تقرّر أنّ العين لها الشمول والإحاطة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالعليّ لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجوديّة والنسب العدميّة ، بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها ، وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا ،أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا ،وليس ذلك إلَّا لمسمّى « الله » خاصّة) .
ومما يلوّح إلى شمول مسمّى « الله » لسائر النعوت - وجوديّة إلهيّة محمودة بسائر الألسنة الثلاثة كانت ، أو عدميّة كونيّة مذمومة بها - اشتمال هذا الاسم على ذلك التفصيل رقما وعددا :
أمّا الأوّل : فلاشتماله على اللامين المشيرين إلى تلك الألسنة .
وأمّا الثاني : فلاشتماله على العقدين التامّين في المرتبتين ، الدالين على ما يمكن أن يخرج من القوّة إلى الفعل ، وتمام تفصيل ذلك وتحقيقه يطلب في الشجرة السينيّة  - وهذا مشهد الكمّل الختميّ .


صورة الشجرة السينية
60
30 30
20 20 20
15 15 15 15
12 12 12 12 12
10 10 10 10 10 10
6 6 6 6 6 6 6 6 6 6
5 5 5 5 5 5 5 5 5 5 5 5
4 4 4 4 4 4 4 4 4 4 4 4 4 4 4 4
3 3 3 3 3 3 3 3 3 3 3 3 3 3 3 3 3 3 3 3
2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2 2
111111111111111111111111111111111111111111111111111111111111111

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّا غير مسمّى « الله » خاصّة ) - وهو مشهد العامّة - ( مما هو مجلى له ) يعني الأعيان - كما هو مشهد العقل وإيقانه - ( أو صورة فيه ) يعني الأسماء - على ما هو مشهد الذوق وعيانه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن كان مجلى له ، فيقع التفاضل ، لا بدّ من ذلك بين مجلى ومجلى ) حسبما يتنوّع منه الأحكام على الحقّ المتجلَّى فيه وقبوله إيّاها - كما بيّن - وعند ما وقع التفاضل بين تلك الأحكام تمايزت المذمومات الثلاث عن المحمودات فانحرف مستوى الإحاطة عن استقامته وعلوّه .
فلا يكون له الكمال الذاتيّ بعينه - بل بمثاله وعكسه - وإلى ذلك أشار بقوله رضي الله عنه: ( وإن كان صورة فيه فلتلك الصورة عين الكمال الذاتي ) وهو الشمول الإحاطي الجمعي الوحداني ، المستوي على عرش استقامته .
وذلك لأنّ من شأن الصورة أنّها تصير عين المرايا والمجالي ، ظاهرة بنفسها مخفية إيّاها ، فإذا كان المشهود هو الصورة فله الكمال الجمعي الوحداني ( لأنّها عين ما ظهرت فيه ) بخلاف ما إذا كان المشهود هو المجلى ، فإنّه حينئذ منشأ التفرقة والتكثّر على ما هو الظاهر في المرآة ، فإنّه إذا كان الملحوظ فيها هي الصورة الظاهرة فيها لا تفرقة هناك ، وإذا لوحظ المرآة ظهرت التفرقة لامتياز الصورة عنها .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالذي لمسمّى « الله » ) من الجمعيّة والكمال ( هو الذي لتلك الصورة ) من الإحاطة الاستوائيّة المستقيمة التي لا ينحرف ميزان استقامته بتميّز أحد المتقابلين ، ورجحان إحدى كفّتيه - من العينيّة والغيريّة .
وملخّص هذا الكلام : أنّ العلوّ الذاتي إمّا أن يكون لمسمّى « الله » خاصّة ، أو لغير مسمّى « الله » خاصّة ، والذي لغير مسمّى الله خاصّة إمّا أن يكون باعتبار كونه غيرا - كما هو موطن إدراك العقل - وذلك موطن التفاضل ، الذي يأباه العلوّ الذاتي والكمال العيني - كما أشار إليه إيماء أوّلا - بل من حيث الجمعيّة الذاتيّة التي هي مشهد الذوق ، وذلك موطن الإحاطة والشمول ، الذي يلزمه العلوّ الذاتي ، فيكون العين والغير.
ولذلك قال رضي الله عنه: ( ولا يقال : « هي هو » ) باعتبار خصوصيّتها الصوريّة ، ( ولا : « هي غيره » ) باعتبار أنّها هي العين الشاملة الكاملة المحيطة بالكل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقد أشار أبو القاسم بن قسي في خلعه  - أي في كتابه المسمّى :
بـ « خلع النعلين » - ( إلى هذا بقوله : إنّ كل اسم إلهي يتسمّى بجميع الأسماء الإلهيّة وينعت بها ، وذلك هناك أنّ كلّ اسم يدلّ على الذات وعلى المعنى الذي سيق ) ذلك الاسم من كنه البطون إلى مخارج الظهور  ( له ) ، حسبما يسأله مما يظهر به ( ويطلبه ) مما يدلّ عليه .
قال إبراهيم ابن قسي رضي الله عنه  : ( فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء ، ومن حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به ، يتميّز عن غيره - كالربّ ، والخالق ، والمصوّر ، إلى غير ذلك - فالاسم ، المسمّى من حيث الذات ، والاسم ، غير المسمّى من حيث ما يختصّ به من المعنى الذي سيق له ) .
العليّ من هو
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا فهمت أنّ « العليّ » ما ذكرناه ) من أنّه الذي له الكمال الشامل والجمع الإحاطي ( علمت أنّه ليس علوّ المكان ولا علوّ المكانة ) ، ضرورة أنّهما لا يشملان ذلك الشمول ، بل هو الشامل لهما وأيضا فإنّهما يلحقان العالي لحوق نسبة وإضافة ، ولا يلزمانه لزوم جمعيّة وإحاطة .
ثمّ إنّ علوّ المكانة وإن أطلق على العلوّ بالصفات اللازمة - كالعلم مثلا - ويتصوّر فيه حينئذ الشمول والإحاطة ، ولكن ليس ذلك من حيث علوّ المكانة فقط .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّ علوّ المكانة يختصّ بولاة الأمر ، كالسلطان والحكَّام والوزراء والقضاة وكلّ ذي منصب - سواء كانت فيه أهليّة ذلك المنصب أو لم تكن - والعلوّ بالصفات ليست كذلك ) .
فإنّه يعطي الأهليّة للموصوف ، بل تلك الأهليّة هي المستجلبة لتلك الصفات.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّه قد يكون أعلم الناس يتحكَّم فيه من له منصب التحكَّم - وإن كان أجهل الناس - فهذا عليّ بالمكانة بحكم التبع ما هو عليّ في نفسه ، فإذا عزل زالت رفعته والعالم ليس كذلك ) .
فعلم أن العالم هو العليّ في نفسه باعتبار الشمول للمعلومات والإحاطة بكنه الكلّ .
والذي يلوّح عليه أنّ « الياء » مادّة « الميم » وباطنه لفظا ، كما أنّه صورة تماميّته وهيئة جمعيّة سواده عقدا .
على ما روي من محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم: " أنا مدينة العلم وعليّ بابها " .
وجه ارتباط هذا الفص مع الفص الآتي  
ثمّ إذ قد فرغ عمّا للمبادئ الأول والصدر الأقدم من الحكم الكاشفة عن الحقائق التنزيهيّة والمعارف التقديسيّة - على ما عليه عموم العقول البشريّة والحقيقة الإنسانيّة - أخذ يشرع فيما عليه أولو النهاية من الحكم الكاشفة عن التنزيه الكمالي ، والتقديس الأتمّ الأكمل - على ما هو مقتضى القابليّة الأولى والطلب الأصلي المتوجّه نحو الكمال الختمي .
وذلك هو الذي يسمّيه أكثر المتأخّرين بـ « العشق » ويلزمه الوله والشوق والتهيّم ، وهو مادّة تعطَّش القوابل للفيض الوجوديّ والكمال الشهوديّ ، فلذلك وصف هذه الحكمة بـ « المهيّميّة » في قوله :
 فإنّ الهيمان هو شدّة العطش والوله .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 11:24 am

05 - فص حكمة مهيّميّة في كلمة إبراهيميّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

05 - فص حكمة مهيّميّة في كلمة إبراهيميّة

* فإنّ الهيمان هو شدّة العطش والوله .
ثمّ إنّ الوحدة الشخصيّة والأحكام الامتيازيّة التي بها تتعيّن الحقائق منها ما يحيط بتلك الحقائق إحاطة المكان بالمتمكَّن - بدون أن يكون بينهما امتزاج أو تحصل منهما هيأة وحدانيّة ، للاختلال بجهة المناسبة وفقدان كمال الجمعيّة الموجب لذلك الامتزاج والاتّحاد - كالمفارقات والبسائط المجردة .
وبيان ذلك : أنّ المجرّدات لعدم استيعابها التحقّق بسائر الأسماء فإنّها الجمعيّة القاضية بالمناسبة بينها وبين أصل التعيّن ومبدئه ، فلذلك إنّما أفيض عليهم ضرب من التعيّنات التي لا امتزاج لها بالمتعيّن - امتزاج التخلَّل والاختلاط ، كما في الأعراض السارية في الجواهر ، بل امتزاج الملاقاة والإحاطة ، كما للمكان بالنسبة إلى المتمكَّن .
وذلك لما عرفت من أنّ التعيّن الخارجي هو ثمرة ذلك الأصل وظلّ شجرته ، فبحسب ظهور المناسبة يقع الامتزاج ، وكمال تلك المناسبة مفقودة لديهم ، فلذلك إنّما اختلط التعيّن بهم اختلاط تمايز وتفرقة ، على ما لوّح إليه عقد العقل .

وبيّن أنّه إذا كان كذلك لا يقع مداركهم من ذلك الأصل إلَّا على حدوده ونهاياته ، ولذلك إنّما يدرك من الحقّ أوصافه العدميّة .
ومنها ما يختلط ويتخلَّل اختلاط الأعراض السارية في أجزائها ، الممتزجة بها كل الامتزاج ، كالمركَّبات الماديّة المنتهي أمر تمامها إلى القلب الإنساني ، وبذلك يستأهل أن يدرك من الحقّ أوصافه الثبوتيّة .
ويجمع بين التنزيه والتشبيه حاصرا للكلّ ، به يستحقّ لأن يحمد الله ويعرفه بالأوصاف الثبوتيّة والمتحقّق بذلك هو إبراهيم ، فإنّ من قبله من الأنبياء إنّما هم المسبّحون فقط .
وتمام تحقيق هذا الكلام : أنّ الكامل ما لم يترقّ عن مفترق المتقابلين - الذي هو منتهى مدارج النوع الإنساني ، وهو الذي يقال له « قاب قوسين » - كما مرّ غير مرّة - هو في طيّ أحدهما بالضرورة ، فالوحدة عنده هو الذي  في مقابله الكثرة ، والتنزيه هو الذي في مقابله التشبيه - إلى غير ذلك .
فأمّا إذا فاز بالوصول إلى مدارج الورثة الختميّة ، وبلغ إلى مقام الوحدة الحقيقية التي انطوى عندها ثنويّة المتقابلين ، فهو لا ينحجب بأحد المتقابلين عن الآخر ، بل إنّما يشهد كلَّا منهما في الآخر .

وجه اختصاص إبراهيم بالخلَّة
ومن فهم هذا عرف سبب اختصاص شهود القرب من الله بالخاتم وأهله وعلم وجه تصدير الفصّ هذا بالتخلَّل الذي هو سبب التسمية فإنّه لما كان إبراهيم هو أوّل من وفّى بمقتضى الحقيقة الإنسانيّة وفاز بالكمال الجمعيّ ، وتحقّق بالمقام القلبي ، وبه أسّس بنيان بيت الكمال الختمي ورفع قواعده ، سمّي خليلا .
وأشار إلى ذلك بقوله : ( إنّما سمّي خليلا لتخلَّله وحصره جميع ما اتّصفت به الذات الإلهيّة - قال الشاعر :
وتخلَّلت مسلك الروح منّي   .... وبه سمّي الخليل خليلا
كما يتخلَّل اللون المتلوّن ) فإنّ في القلب بإزاء كلّ اسم جزء يقابله ويظهر - هو به - ظهور الجوهر بالعرض - ( فيكون العرض بحيث جوهره ، ما هو كالمكان والمتمكَّن ) ، فإنّ حلوله فيه ليس حلول السريان ، بل إنّما امتزاجها بحسب الحدود والنهايات فقط .

قرب النوافل
وهذا التخلَّل المذكور هو المسمّى بـ « قرب النوافل » لما ورد في الصحيح:
"لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحببته ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ".
فإنّ مؤدّى تقرّب العبد إلى الحقّ بالنوافل والزوايد من الأوصاف والأفعال - متدرّجا فيها إلى أن ينتهي إلى حبّ الله الواحد بالوحدة الحقيقيّة له - إنّما هو الحصر المذكور ، على ما لوّح عليه "الحبّ " .
كما أنّ كون الحقّ عين سمع العبد وساير قواه مشعر بالتخلَّل الاستيعابيّ الإحاطيّ مطلقا .
وإنّما سمّى بقرب النوافل ، لأنّ الإدراك فيه إنّما نسب إلى العبد ، فإنّ ضمير « يسمع » إنّما يرجع إليه ، فهو القريب ، والعبد - من حيث هو عبد - زائد في الوجود نافل .
( أو  لتخلَّل الحقّ وجود صورة إبراهيم ) ، فإنّ إبراهيم لتحقّقه بالصفات الوجوديّة اكتسب صورته وجودا به يستعدّ للتخلَّل المذكور ، ولذلك قال :
" وجود صورة إبراهيم " بزيادة قيد « الوجود » وهو المسمّى بقرب الفرائض لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم : « إنّ الله قال على لسان عبده : سمع الله لمن حمده » ، لأنّ الإدراك وسائر الأوصاف إنّما هو للحقّ في هذا القرب ، ووجود الحقّ مقطوع به ، والفرض : القطع - لغة - .
وملخّص هذا الكلام : أنّ الكمال الجمعي الذي هو موطن تحقّق إبراهيم - كما أشير إليه - إنّما يقتضي إثبات عين العبد مع الحق ضرورة ، وحينئذ يتحقّق نسبة القرب .
لكل موطن حكم خاصّ
( وكلّ حكم يصحّ من ذلك ) الموطن فإنّه ما لم يثبت ذلك العين لم تتصوّر النسبة التي هي مبدأ سائر الأحكام ، ( فإنّ لكلّ حكم موطنا يظهر به - لا يتعدّاه - ) وهو الذي عبّر عنه لسان الشريعة بأن الأسماء توقيفيّة .
فلا بدّ من التخلَّل المذكور حتّى يمكن ظهور تلك الأحكام المتنوّعة الواقعة في طي تلك المواطن ، ( ألا ترى أنّ الحقّ يظهر بصفات المحدثات ؟ - وأخبر بذلك عن نفسه - وبصفات النقص ، وبصفات الذمّ ؟ ) كالتأذّي في قوله :
" يُؤْذُونَ الله " [ 33 / 57 ] ، والمكر في قوله : " وَمَكَرَ الله "   [ 3 / 54 ] والاستهزاء في قوله : " الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ " [ 2] 15 ] ، فلو لا التخلَّل الأوّل ما صحّ ذلك .
وكذلك التخلَّل الثاني واقع ( ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحقّ من أوّلها إلى آخرها ، وكلَّها حقّ له ؟ كما أنّ صفات المحدثات حقّ للحقّ ) فلو لا أمر التخلَّل المذكور ما أمكن ذلك .


الحمد لله من كل حامد وعلى كلّ محمود
وعلى كلّ واحد من التقديرين ، فمورد الصفات الوجوديّة التي يحمد بها إنّما هو الحقّ لا غير فيكون ( الحمد لله ) الذي له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجوديّة - ذمّا كان ذلك أو حمدا - بحيث لا يمكن أن يفوته نعت - كما سبق تحقيقه في الفصّ السابق .
(فرجعت إليه عواقب الثناء من كلّ حامد ومحمود " وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ " [ 11 / 123 ] فعمّ ما ذمّ وما حمد ، وما ثمّ إلَّا محمود أو مذموم ) .
إذا ظهر الحق فالخلق باطن ، وإذا ظهر الخلق فالحق باطن
ثمّ إذ قد بيّن أمر هذا الموطن الكمالي وشمول جمعيّته وتمام إحاطته لا بدّ وأن ينبّه إلى كيفيّة انطوائه للطرفين ومعانقة النقيضين فيه ، فإنّه هو الدليل على تمام جمعيّته وكمال شموله ، فأشار إلى ذلك بقوله :
و ( اعلم أنّه ما تخلَّل شيء شيئا إلَّا كان محمولا فيه ) أي ذلك الشيء يكون حاملا للمتخلَّل ، شاملا لكليّته ، شمول الإحاطة والحصر .
( فالمتخلَّل - اسم فاعل - محجوب بالمتخلَّل - اسم مفعول - فاسم المفعول هو الظاهر واسم الفاعل هو الباطن المستور ، وهو غذاء له ) ، أي اسم الفاعل الباطن غذاء لاسم المفعول الظاهر ، ( كالماء يتخلَّل الصوفة فتربو به وتتّسع ) .
( فإن كان الحقّ هو الظاهر ) - كما هو مقام قرب الفرائض على ما ورد : « إنّ الله قال على لسان عبده : سمع الله لمن حمده » ، وقال : " وَلكِنَّ الله رَمى " [ 8 / 17 ] - ( فالخلق مستور فيه ، فيكون الخلق جميع أسماء الحقّ وسمعه وبصره وجميع نسبه وإدراكاته ) ضرورة أنّه هو الغذاء المقوّم له فالخلق حينئذ في عين ستره واختفائه هو الظاهر بأوصافه وبآثاره .
( وإن كان الخلق هو الظاهر ) - كما هو مقام قرب النوافل على ما ورد في حديث : « كنت سمعه وبصره » - ( فالحقّ مستور باطن فيه فالحقّ سمع الخلق وبصره ويده ورجله وجميع قواه - كما ورد في الخبر الصحيح) ، فالحق حينئذ في عين اختفائه واستتاره هو الظاهر بأوصافه وآثاره .

بمألوهيّة العبد يكون الحقّ إلها
ثمّ إنّه بعد ذلك ينبّه إلى أن من لم يعرف الحقّ في هذا الموطن على هذه النسب هو بمعزل عن العرفان ، مشيرا في ذلك إلى علوّ رتبة العبد وتقدّم نسبته على الأسماء كلَّها بقوله :
( ثمّ إنّ الذات لو تعرّت عن هذه النسب لم تكن إلها ، هذه النسب أحدثتها أعياننا ، فنحن جعلناه - بمألوهيّتنا - إلها ) ضرورة أن العبد القابل هو الذي صار سبب تطوّرات الذات في طيّ صنوف التعيّنات ، ( فلا يعرف ) الحقّ ( حتّى نعرف ) نحن ( قال عليه السّلام  : « من عرف نفسه عرف ربّه » - وهو أعلم الخلق باللَّه ) .  


استدلال الحكماء على وجود الواجب تعالى
وهذا ذوق عال يعزّ واجده ( فإنّ بعض الحكماء ) المشّاءين ومن تابعهم ( وأبا حامد ادّعوا أنّه يعرف الله من غير نظر في العالم ) .
فإنّ لهم في طريقهم الاستدلاليّ مسلكين :
أحدهما إنّيّ ، يتدرّجون فيه من الأثر إلى المؤثّر ، والآخر لمّيّ ، يتنزّلون به من المؤثّر إلى الأثر . وبيّن أن من وقع مواطئ سلوكه على الثاني منهما في معرفة الحقّ لا يحتاج فيه إلى النظر في العالم - على ما تفطَّن لذلك صاحب الإشارات من قوله تعالى : " سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ " [ 41 / 53 ] .
ومن قوله تعالى : " أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه ُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " [ 41 / 53 ] حيث جعل الأوّل إشارة إلى أوّل المسلكين ، والثاني إلى الآخر .
ولكن ذلك المعرفة له من حيث أنّه ذات ، لا من حيث أنّه إله ، والمبحث إنّما هو هذا ، ولذلك قال : ( وهذا غلط نعم ، تعرف ذات قديمة أزليّة لا يعرف أنّها إله ، حتّى يعرف المألوه ) الذي هو معطي تلك النسبة من العبد القابل ( فهو الدليل عليه ) أولا في مسالك البعد والتفرقة ، ( ثمّ بعد هذا ، في ثاني الحال ) عند مواطن القرب والجمعيّة .
( يعطيك الكشف : أنّ الحقّ - نفسه - كان عين الدليل على نفسه وعلى الوهيّته ، وأنّ العالم ليس إلَّا تجلَّيه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه ) - تجلَّى الشبح المقابل في السطح القابل .
( وإنّه ) أي ذلك التجلَّي ( يتنوّع ) كليّا في العقل ( ويتصوّر ) جزئيّا في الخارج ( بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها ) - على ترتيب اللفّ والنشر - ( وهذا بعد العلم به منّا : أنّه إله لنا ) ، ضرورة أنّه ما لم يعلم نسبة بين الذات القديمة والعالم ، لم يعلم أمر الظاهريّة والمظهريّة المذكورتين أصلا .

مشهد الجامع بين الجمع والتفرقة
ثمّ إنّ ذلك النسبة تتفاوت بحسب قوّة الأذواق وصفاء المشارب ، فمن المكاشفين من وقف في موطن المغايرة بين الظاهر والمظهر ، والنور والظلّ ، والوجوب والإمكان ، والجمع والتفرقة - إلى غير ذلك - فهو الذي لضعف ذوقه وشوب مشرب إدراكه غوائل أحكام المدارك الجزئيّة ، قد انحجب بأحد المتقابلين عن الآخر ، ومنهم من جاوز ذلك وبلغ حريم الإطلاق ، وفاز بالدخول في حرم الاتّصال والاتحاد .
وإلى ذلك أشار بقوله : ( ثمّ يأتي ) له ( الكشف الآخر ) عند بسط بساط الامتياز والتفصيل ، وهو الموسوم بالفرق بعد الجمع ( فيظهر لك صورنا فيه ، فيظهر بعضنا لبعض في الحقّ ، فيعرف بعضنا بعضا ) بقوة نسبة الاتحاد والجمع ( ويتميّز بعضنا عن بعض )
بقوّة قهرمان المغايرة والافتراق ، فهذا المشهد هو الجامع بين الجمع والتفرقة ، والتفصيل والإجمال .
وأهل هذا المشهد أيضا متفاوتون : ( فمنّا من يعرف أن في الحقّ وقعت هذه المعرفة لنا ، بنا ومنّا من يجهل الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة بنا ) - على ما هو مقتضى مسلك بعض الحكماء المذكورين- ( أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين ).
( وبالكشفين معا ما يحكم علينا إلا بنا ، لا - بل نحن نحكم علينا بنا ولكن فيه ) فإنّ الأول هو المعطي للجمعيّة بأنّه هو الدليل على نفسه ، وعلى الوهيّته .
والثاني هو الذي يعطي أن التفرقة التي بها تمتاز الأعيان عين تلك الجمعيّة ، فإنّ الجمعية الحاصلة منها هو الجمعية بين التفرقة والجمع .

لله الحجة البالغة
( ولذلك ) - أي لما أنّ الحكم الذي علينا إنّما هو بنا - (قال : " فَلِلَّه ِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ " [ 6 / 149 ] ، يعني على المحجوبين إذا قالوا للحقّ : « لم فعلت بنا كذا وكذا » ؟ - ما لا يوافق أغراضهم - فيكشف لهم عن ساق ) .
أي عمّا يقوم به أمرهم على ساق النظام ، أو عمّا يسوقهم إلى ذلك على طريقة الاشتقاق الكبير - على ما هو المعوّل عليه عند المحقّقين - ( وهو الأمر الذي كشفه العارفون هنا ) أي في آخر موطن سلوكهم ونهاية قامة قيامتهم ، وبهذا الاعتبار عبّر عنه بالساق .
( فيرون أنّ الحقّ ما فعل بهم ما ادّعوه : « إنّه فعله » ، وأنّ ذلك منهم فإنّه ما علمهم إلا على ما هم عليه ، فتندحض حجّتهم وتبقى الحجّة البالغة لله ) .
معنى : لو شاء لهديكم أجمعين
( فإن قلت ) : « إذا كان أمر أحوال الأعيان وما يطرأ جزئيّات قوابل الإمكان مطلقا إنّما هو على ما هم عليه في حال ثبوتهم ، ولا دخل للفاعل فيه أصلا ( فما فائدة قوله : " فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ " [ 6 / 149 ] ؟ ( قلنا : لو شاء « لو » حرف امتناع ) التالي ( لامتناع ) المقدّم .
فيكون امتناع هداية الكلّ لامتناع المشيّة فإنّ المشيّة إنّما تتعلَّق بما عليه أمر القوابل ( فما شاء إلا ما هو الأمر عليه ، ولكن عين الممكن قابل للشيء ونقيضه في حكم دليل العقل ) .
وذلك لأنّه ليس في قوّة قابليّة العقل النظري ومكنة اقتداره أن يجاوز حضرة المعلومات ، حيث يتمايز العلم عن الوجود ، فإنّما يتصوّر الحقائق هناك مفردة ، مجرّدة عن سائر لوازمها الوجوديّة ، ولواحقها الضروريّة ، فتكون نسبة سائر المتقابلات من الأحكام إليها سواء في ذلك النظر .
( وأيّ الحكمين المعقولين وقع ، ذلك هو الذي عليه الممكن في حال ثبوته ) وتلك الحال غير متبيّن عند العقول المحجوبة والأفكار التي تتوسل في اقتناص المطالب بمخالب الدلائل والأنظار ، فإنّها قبل حضرة العلم ، إذ هي تابعة لتلك الحال كما عرفت .
( ومعنى " لَهَداكُمْ " : لبيّن لكم ) الأمر في نفسه على ما هو عليه ( وما كل ممكن من العالم فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو عليه ) في القابليّة الأولى ، لدى الفيض الأقدس الذاتي ، الذي لا مجال فيه لثنويّة القابل والفاعل أصلا .
وهناك تسأل القوابل بألسنة استعداداتهم ما هي عليه ، فمن العالم من فتح الله عيني بصيرته لإدراك ذلك الأمر - وهم المهتدون العارفون بسائر الأحكام والخواص التي للحقائق - ومنه من لم يفتح عين بصيرته ، فتكون مدركاته مقصورة على ما يدركه العقل النظريّ بحجب الأكوان ومحتملات عوالم الإمكان ، ( فمنهم العالم والجاهل ، فما شاء ، فما هداهم أجمعين ) .

مشيّة الحقّ تعالى أحديّة التعلَّق تابعة للعلم
فعلم من هذا الكلام أنه ممّا يحسم به مادة الشبهة عن أصلها بأيّ عبارة عبّر عنها غير مبتن على أن تكون « المشيّة » على صيغة الماضي أو ملحوقة ل « لو » - على ما يمكن أن يبادر إلى بعض الأوهام .
فلذلك قال : ( ولا يشاء وكذلك إن يشاء ) في زمان الاستقبال ( فهل يشاء ؟ ) أي فهل يمكن أن تتعلق به المشيّة مطلقا في الماضي أو في الاستقبال ، بخلاف ما عليه الأمر - على سبيل الإنكار - ( هذا ما لا يكون ) .
( فمشيّته أحديّة التعلَّق ) بالنسبة إلى الأكوان والاحتمالات الواقعة في حيّز الإمكان ( وهي نسبة تابعة للعلم . والعلم نسبة تابعة للمعلوم ، والمعلوم أنت وأحوالك ، فليس للعالم أثر في المعلوم ، بل للمعلوم أثر في العالم) فإن المعلوم هو الذي جعل العالمية مصوّرا بصورته .
( فيعطيه من نفسه ما هو عليه في عينه ) .
( وإنما ورد الخطاب الإلهي ) بلسان الحضرة الختميّة ( بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون ، وما أعطاه النظر العقليّ ) على ما عليه مدارك العامّة من أمم زمانه ، من الاحتمالات اللازمة لما وقع في حيّز الإمكان - على ما هو مقتضى منصب الرسالة وختميّتها ، حتّى يكون الكلّ محظوظا من جوامع كلمته التامّة ، وإلَّا فلا يكون مبعوثا للكافّة .
ولذلك ( ما ورد عليه الخطاب على ما يعطيه الكشف ) من الجزم بما عليه الأمر ، على ما يختصّ به الندر من الخواصّ .
( ولذلك كثر المؤمنون ) أرباب الفهوم من الواقفين عند ظواهر ما أعطاه النظر العقليّ ، ممّا يمكن أن يتواطأ عليه الجمهور من المخاطبين ( وقلّ العارفون - أصحاب الكشوف ) من الواقفين على سرّ ما عليه الأمر في نفسه ، وهم ، هم المقصودون بالذات ، وغيرهم إنّما خلق لأجل تمهيد المقصود .

حكم المعلوم على العالم
والذي يدلّ على ما مرّ - من أنّ لكلّ أحد مقاما لا يتجاوزه ، وهو صورة معلوميّته المؤثّرة في العالم ، الحاكمة بالخصوصيّة - ما ورد : ( " وَما مِنَّا إِلَّا لَه ُ مَقامٌ مَعْلُومٌ " [ 37 / 164 ] وهو ما كنت به في ثبوتك ، ظهرت به في وجودك هذا - إن ثبت أنّ لك وجودا ) على ما هو ذوق مقام قرب النوافل .
( وإن ثبت أنّ الوجود للحقّ - لا لك - ) - على ما هو ذوق مقام قرب الفرائض - ( فالحكم بلا شك لك في وجود الحقّ ) في هذا المقام أيضا ، فإنّ صاحب الحكم إنّما هو العين .
( وإن ثبت ) على التقديرين - وهو مقام الجمعيّة بين القربين - ( أنّك الموجود فالحكم لك بلا شك ، وإن كان الحاكم ) في سائر المقامات حقيقة هو ( الحقّ ) والفرق بيّن بين ذي الحكم والحاكم عند اللبيب ، والأعيان ذوو الأحكام - والحاكم إنما هو الحق ، فإنّه إنما يتحقّق الأحكام بالوجود ، وهو منه .

الأمر منك إليك
( فليس له إلَّا إفاضة الوجود عليك ، والحكم لك عليك ، فلا تحمد إلَّا نفسك ) إن اهتدت إلى كمالاتها - ( ولا تذمّ إلَّا نفسك ) إن ضلت عنها ( وما يبقى للحقّ ) في كلّ حال من تينك الحالتين المتقابلتين .
( إلَّا حمد إفاضة الوجود - لأنّ ذلك له ، لا لك - فأنت غذاؤه بالأحكام ) بناء على أن الوجود الحقّ هو الظاهر بصور أحكام الأعيان ، مختفية فيه تلك الأحكام ، ( وهو غذاؤك بالوجود ) ، لأنّ العين هو الظاهر بالوجود ، وهو مختف فيه - اختفاء الغذاء في المغتذي  .
( فتعيّن عليه ) أن يظهر بصورة عينك ، وهو ( ما تعيّن عليك ) أن تتعيّن به عينك من الأحكام ( فالأمر منه إليك ) وجودا ، ( ومنك إليه ) حكما ( غير أنّك تسمّى مكلَّفا ، وما كلَّفك إلا بما قلت له : « كلَّفني » بحالك ، وبما أنت عليه ولا يسمّى ) الحقّ ( مكلَّفا - اسم المفعول - ) وذلك لأنّ الذي منه - وهو الوجود - إنّما يقتضي الوحدة والإطلاق ، وذلك يأبى التمييز الذي يستلزم التكليف والذي من عين العبد - أعني الأحكام - إنّما يقتضي التمييز والاختلاف ، وهو ما يترتّب عليه التكليف ضرورة .
ثمّ هاهنا نكتة حكميّة لا بدّ من الوقوف عليها :
وهي أنّ العبد إذا وصل بميامن رقيقتي التدنّي والتدلَّي إلى مقام قربي النوافل والفرائض ، وفاز من دائرة الحقيقة الجمعيّة الإنسانيّة بقاب قوسيها ، لا بدّ وأن يظهر على منصّات العيان في صور الأعمال والأحوال أثر بحسب ذينك القربين ، فما يتعلَّق بالحقّ من ذلك هو الحمد ، كما أنّ ما يتعلَّق بالعبد هو العبوديّة .
فلذلك نظم وقال :
فيحمدني و أحمده   .... و يعبدني و أعبده
( فيحمدني ) بأن يظهرني ويعلن كمالاتي بتغذيته وجوده لي .
( وأحمده ) بإظهاري كمالاته ، بأن غذيته بأحكامي وأظهرت وجوده بكماله الأسمائي بها ( ويعبدني) - بامتثاله ما قلت له من أمر التكليف وسائر ما يلزم العين من الأحكام -"أو من عبد الطريق اى اعده وجهزه للوظيفته".
( وأعبده ) بالتزامي ذلك التكليف وانقيادي لسائر أحكامه أمرا كان أو نهيا وبالجملة ، سائر الأسماء إنّما يظهر في طيّ تقابل عين العبد للحقّ ، ولكنّ  للحقّ السبق في الاتّصاف ، وذلك لأنّ منه الوجود ، وبه يظهر سائر الأسماء - وجوديّا كان أو عدميّا .
ومعلوم أنّ الحامد العابد في قوس الوجود من القوسين هو الحقّ ، والمحمود المعبود العبد ، وفي قوس الشهود منهما بالعكس ، فلذلك قال : ( ففي حال ) أي في مشاهد العلوم والأذواق - ( اقرّ به ) لأنّها مواقف حمده وعبوديّته .
( وفي الأعيان ) أي في مجالي عالم الشهادة والعيان ( أجحده ) لأنّها منتهى مراتب قوس محموديّته ومعبوديّته .
( فيعرفني ) في هذا الموطن لأنّه الحامد فيه - ( وأنكره ) ( وأعرفه ) - عند العروج في مراقي قوس الشهود ( فأشهده ) وذلك هو الغاية للحركة الوجوديّة والسير الكمالي .
ولا يخفى أنّ العبد هو المساعد للحقّ في استحصال تلك الغاية والممدّ له ، فكيف يصحّ له الغناء ؟ وإليه أشار بقوله :( فأنّى بالغنا ، وأنا   .... أساعده واسعده )
( لذاك ) المساعدة والإسعاد ( الحقّ أوجدني ) بالوجود العيني . فأعلمه و أوجده ) بالوجود العلمي الشهودي في مشهدي السمع والبصر .
( بذا جاء الحديث لنا ) ورد : " كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به " .
وذلك لأنّه أسند الفعلين - اللذين بهما يتحقّق السمع والبصر ، اللذان بهما يتكوّن الحقّ - إلى العبد - فهو فاعله وهذا المشهد الكوني الذي فيه هو مشهده الكمالي ومقصده الغائي .
وإليه أشار بقوله : ( وحقّق في مقصده ).

خلَّة إبراهيم عليه السّلام
( ولما كان للخليل هذه المرتبة التي بها سمّي « خليلا » ، لذلك ) - وهو تخلَّل الحقّ وجود صورة الخليل في مشاهده ومشاعره ، أو تخلَّل الخليل جميع ما اتّصف به ذاته في مواطن الأسماء ومواقفها - ( سنّ القرى ) بحكم سراية ما تحقّق به ذاته في أوصافه وأفعاله - سراية حكم الأصول في فروعها ، ( وجعله ابن مسرّة مع ميكائيل للأرزاق ) .
قال الشيخ على قوله تعالى : " وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ " [ 69 / 17 ] :
روينا عن ابن مسرة الجبلي "هو عبد اللَّه بن مسرة الجبلي الصوفي المعتزلي ، ولد بقرطبة عام 269 ، وتوفى سنة 319 " من أكبر أهل الطريق علما وحالا وكشفا : العرش المحمول هو الملك ، وهو محصور في جسم وروح وغذاء ومرتبة فآدم وإسرافيل للصور ، وجبرئيل ومحمّد للأرواح ، وميكائيل وإبراهيم للأرزاق ، ومالك ورضوان للوعد والوعيد ، وليس في الملك إلَّا ما ذكر " .
ثمّ إنّ الخليل إذا كان للأرزاق ( وبالأرزاق يكون تغذي المرزوقين - فإذا تخلَّل الرزق ذات المرزوق بحيث لا يبقي فيه شيء إلَّا تخلَّله ، فإنّ الغذاء يسري في جميع أجزاء المغتذي كلَّها - وما هنالك أجزاء فلا بد أن يتخلَّل ) .
جواب الشرط : أي إذا تخلَّل الرزق ذات المرزوق ، والخليل للأرزاق : فلا بدّ أن يتخلَّل الخليل ( جميع المقامات الإلهيّة المعبّر عنها ب « الأسماء » فيظهر بها ) .
أي بتلك المرتبة الجليلة الخليليّة ( ذاته جلّ وعلا ) ، ضرورة أنّها هي التي يتخلَّل جميع الأسماء الإلهيّة - تخلَّل اللون للمتلوّن ، فيظهر بها ظهور المتلوّن باللون .
ثمّ إنّك قد نبّهت على أنّ للضمائر بين الأسماء دلالة بسيطة ساذجة عن المعاني الوضعيّة والنسب الفعليّة - التي هي مبادئ الأسماء كلَّها - فلها من هذا الوجه اختصاص بالذات ، كما أنّ لغيرها من الأسماء اختصاصا بمرتبة الأفعال والأوصاف ، وقد بيّن أمرها في النظم السابق .
ثمّ لما انساق الكلام هاهنا إلى أحكام الذات وظهورها بالمرتبة الخليليّة الإبراهيميّة ، أخذ في تبيين أمر تلك الأسماء البسيطة من حيث الدلالة على تلك المرتبة ، بصرافة معنى التكلم والغيبة ، والوحدة والكثرة ، بدون اعتبار معنى وصفي ولا أثر فعلي ، بقوله :
لي وجهان : هو وأنا  
( ونحن له كما   .... ثبتت أدلَّتنا )
فإنّ الأدلَّة العقليّة إنّما تدلّ على أنّ الكثرة العينيّة الكونيّة الإمكانيّة إنّما هي للهويّة الغيبيّة.
" الواحد الغيبي هو هوية الوجود . والواحد العيني هو الواحد الكوني ، فتباينا وتعانقا إليه يرجع الأمر كله . "
(الوجوديّة الوجوبيّة    .... ونحن لنا )
بحسب المدارك الذوقيّة الشهوديّة - كما مرّ غير مرّة في تقدّم القوابل وسبق أحكامها على الكل - وإذا كان أمر الكثرة العينيّة التكلميّة  إلى نفسها - وقد رجع أمرها إلى الوحدة, فلا يكون للوحدة الغيبيّة الوجوديّة ، إلَّا الكون الوحداني المضاف إلى الواحد العيني ، فالكثرة حينئذ منمحية ، سواء نسب إلى الوحدة الغيبيّة أو الكثرة العينيّة .
وإليه أشار بقوله :
( وليس له سوى كوني  .... فنحن له كنحن بنا)
فعلم أنّ للواحد العيني وجهين :
أحدهما الغيبيّة الوجوديّة
والآخر العينيّة الكونيّة .
وليس أحد الوجهين بالآخر في شيء ، فإنّ الكون يباين الوجود مباينة ذاتيّة .
( فلي وجهان : هو وأنا  .... وليس له أنا بأنا )
ثمّ إنّ الوجود الغيبي وإن باين الكون العيني ، ولكن إنّما يظهر فيه كما قيل :
" فبضدها يتبيّن الأشياء " .
فالكون العيني بمنزلة الإناء في حصره وإظهاره .
( ولكن في مظهره    .... فنحن له كمثل إنا )


( والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل )
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 06 - فصّ حكمة حقّيّة في كلمة إسحاقيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 11:33 am

06 - فصّ حكمة حقّيّة في كلمة إسحاقيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإسحاقي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
06 - فصّ حكمة حقّيّة في كلمة إسحاقيّة    الجزء الأول
لا ريب أنّ أوّل ما يترتّب على الجمعيّة الوجوديّة ويتولَّد من كلَّية الحقائق الثبوتيّة التي تحقّق بها إبراهيم هو الصورة العكسيّة المثاليّة التي إذا اعتبرت مطابقتها للواقع تسمّى حقّا ، ولذلك اختصّت الحكمة الحقيّة بالكلمة الإسحاقيّة .
وأيضا ما تفرّد به الكلمة عن الاسم - هو الخصوصيّة التي بصورتها الجمعيّة تفرّد الاسم وامتاز عن المسمّى .
ومن التلويحات البيّنة هاهنا هو أن بيّنات ما تفرّد به الكلمة هذه تدل على أنّها صاحب التحقّق بتلك الصورة المثاليّة المترتّبة على تحقّق القلب بكمالاته الخاصة به ، أعني الحقائق الثبوتيّة التي تحقّق بها إبراهيم ، فإنّ تلك الصور المثاليّة المترتّبة على الكمال القلبي لها مظاهر في الخارج ، وذلك هو الصور الحرفيّة التي إنّما تتحقّق خارجا في المشعرين الشاعرين - أعني السمع والبصر - والمتحقّق بالأوّل منهما هو إسحاق ، لدلالة بيّنات ما تفرّد به كلمته على السمع   .
وقد وقفت على أنّ تلك الصورة منها هو المختصّ بالنبوّة ، فطرف صورتها الإجماليّة أولا هو الذي تحقّق به هذا النبيّ . وأمّا طرف تفصيلها وتبيّنها ثانيا هو الذي تحقّق به أخوه إسماعيل ، وكأنك وقفت على وجه تلويحه فلا تحتاج إلى تبيينه  .
والذي يدلّ على استشعار المصنّف هذا التلويح كشفا هو المصرع الثاني من البيت الذي صدّر به الفصّ والبيت الذي ختم القطعة المصدّر بها .
(فداء نبيّ ذبح ذبح  لقربان ) « الفداء » و « الفداء » : حفظ الإنسان عن النائبة بما تبذله عنه.
"" إضافة الجامع : ما سطره الشيخ بنفسه على أن الاعتقاد يكون الذبيح إسماعيل عليه السّلام ظاهر مما أورده الشيخ ابن العربي نفسه في كتابه الإسفار عن نتيجة الأسفار ( ص 37 ، سفر الهداية ) : " ولما ابتلي بذبح ما سأله من ربه وتحقق نسبة الابتلاء ، وصار بحكم الواقعة ، فكأنه قد ذبح - وإن كان حيّا - بشّر بإسحاق عليه السّلام من غير سؤال ، فجمع له بين الفداء وبين البدل مع بقاء المبدل منه. ""
والنبيّ لكونه أكمل بني نوعه صورة ومعنى وأتمّهم ظهورا وإظهارا ، وأعمّهم أوضاعا وآثارا - لا يكون فداه من الأموال إلَّا ما يكون ذا أثر وفعل ظاهر ، كما للحيوانات ، وذلك إنّما يكون بالذبح للقربان ، فإنّ أرواح المذبوح يقرّب المذبوح له ويمدّه في إظهار الآثار - كما سيجيء الكلام عليه في الفصّ الموسوي إن شاء الله تعالى - وبيّن أنّه إذا كان المطلوب من القربان إمداد المذبوح المتقرّب به بضرب من الامتزاج والاتّحاد للمتقرّب له بظهور آثاره فيه ، فكيف ينوب الإنسان  شيء في ذلك - أي في إظهار الآثار .
( وأين ثؤاج الكبش من نوس إنسان ) النوس : التذبذب ، وهو كناية عن النطق لتذبذب الصوت به في المخارج .
( وعظَّمه الله العظيم ) في قوله : " وَفَدَيْناه ُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ " [ 37 / 107 ] على حقارة آثاره
( عناية بنا ) فإنّه ما يصلح لأن يتقرّب به الإنسان ذلك التقرّب يكون عظيما ( أو به ) كما سيجيء بيانه ، ( لا أدر ) حذف الياء منه اكتفاء بالكسرة - على ما في قوله تعالى : " وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ " [ 89 / 4 ] .
( من أيّ ميزان ) فإنّ هاهنا ميزانين : أحدهما العلوّ الشرفيّ ، والآخر الكمال الجمعيّ ، فإذا اعتبر الأوّل منهما كان التعظيم الذي للكبش بنفسه لا للمفدى به وإذا اعتبر الثاني كان التعظيم المشار إليه باعتبار المفدى به كما سيجيء بيانه .
( ولا شكّ أنّ البدن أعظم قيمة  .... وقد نزلت عن ذبح كبش لقربان )
فيه تعريض بما ذهب إليه أهل الظاهر من استحباب غلوّ القيمة في القرابين .
( فيا ليت شعري كيف ناب بذاته  .... شخيص كبيش عن خليفة رحمان )
ووجه تقريب هذا الكلام هاهنا أنّ إسحاق لما كان صورة سرّ إبراهيم ، الذي هو أوّل من تحقّق بالهويّة الجمعيّة والوحدة الذاتيّة التي انطوى فيها أمر التقابل والتغاير ، واقتضى ظهور كلّ من المتقابلين في عين الآخر كما نبّهت عليه كذلك سائر ما يترتّب عليه في أفعاله ، من رؤياه القربان وفدائه فإنّ الكمال في ذلك قد ظهر في مقابله أيضا - أعني الجماد الذي هو أنقص ما في الوجود - لعدم خروج ما في قوّة القابليّة فيه من الصفات الوجوديّة - كالحياة والعلم وما يتبعهما - فهذه الحكمة حاكمة بعلوّ الجماد وكماله ، بناء على الأصل الممهّد من ظهور كلّ من المتقابلين في عين الآخر .
"" إضافة المحقق : قال القاشاني : فإن كل ما انقاد لأمر اللَّه مطلقا ولم يظهر بالأنانية أصلا - كالجماد - كان أعلى رتبة من الموجودات ، لوجوده باللَّه وانقياده لأمره مطلقا وعدم ظهوره بنفسه وأنانيته .أهـ. ""
ثمّ إنّ الحيوان كلَّما كان أقرب إلى الجماد كان أعلى و أكمل ، وليس فيه ما يقرب إليه قرب الكبش ، فلذلك صار فداء.
وإلى ذلك أشار بقوله :( ألم تدر أن الأمر فيه مرتّب  .... وفاء لإرباح ونقص لخسران )
أي الأمر في الفداء مرتّب ، فإنّ منه ما له كمال ووفاء بمقتضى القابليّة الأولى ، فيترتّب عليه الربح في الوجود بصونه عن الانغماس في القيود الكونيّة وبقائه على شرفه الأصلي ومنه ما له نقص بمقتضى القابليّة المذكورة ، فيترتّب عليه الخسران ، بتراكم الحجب الكونيّة على وجوده ، وتلاشي أحكام القدس فيه وذلك لأنّ مقتضى تلك القابليّة إنّما هو الإطلاق الحقيقي الذي لا يشوبه أمر من القيود ، ولا يغشيه حجاب من الأكوان - نسبة كانت أو صفة أو فعلا - فعلوّ المراتب في التنزّلات الإمكانيّة بقدر عروّها عن تلك الحجب .
( فلا خلق أعلى من جماد ) لعروّ ماهيّته عن انتساب فعل إليه لنفسه .
( وبعده نبات ) - لعروّه عن انتساب حسّ وفعل اختياري إليه ، ( على قدر يكون ) ذلك النبات عليه ( وأوزان ) يستقرّ مزاجه في ميزان الاعتدال إليه ، فإنّ عرض النبات ممتدّ من الجماد إلى الحيوان - كما سبق القول فيه - .
( وذو الحسّ بعد النبت والكل عارف  ..... بخلَّاقه كشفا وإيضاح برهان )
ضرورة امتناع تخلَّف لوازم الوجود وبيّنات خواصّه عنه في مراتب تنزّلاته ، بما اعتورت عليها من الحجب الإمكانيّة والغواشي الخارجيّة الهيولانيّة ، فالبرهان له مجرّد إيضاح الأمر هاهنا للمسترشد الخبير لا أن يوصله إليه ولذلك قلَّما يهتدي أحد منهم به إليه.
ولا يذهب على المتفطَّن هاهنا أنّه كلَّما كان أعلى فهو أعرف - على ما توهّمه البعض .
"" يشير المؤلف لما قاله بعض الشارحين – كالقاشاني ومؤيد الدين الجندي قال: " وأعلى المخلوقات في هذا الكشف والمعرفة المعدن والجماد.أهـ ""
فإنّ العلوّ والشرف بحسب القرب للإطلاق الذاتي وقدسها ، وأمّا العرفان فبحسب التنزّل في المراتب ، واستجماع خصوصيّاتها ، فكلَّما كان أنزل ، فهو أكمل وأعرف ، كما أنّه كلَّما كان أعلى ، كان أقدس وأشرف ، وقد سلف لك في الفصّ الآدمي ما يفيد زيادة تحقيق لهذا الكلام .
(وأمّا المسمّى آدما فمقيّد  بعقل وفكر ) إن كان من أهل النظر وعلومه الاستدلاليّة .
( أو قلادة إيمان ) إن كان من أرباب العقائد التقليديّة ، فإنّ الإنسان له في الارتقاء إلى مدارج كماله الشهودي ثلاث مراتب : برهان وإيمان وإحسان .
لأنّ المعارف اليقينيّة المستحصلة له إمّا أن يكون عقدا أو انشراحا وعلما .
والأوّل هو الإيمان ،
والثاني إمّا أن يكون وراء أستار الأسباب والآثار وهو البرهان ، أو يكون منكشفا ، منزّها عمّا يطلق عليه الغطاء أو الحجاب وهو الإحسان ، وهذا منزل اولي التحقيق .
كما قال :( بذا قال سهل والمحقّق مثلنا ....  لأنّا وإيّاهم بمنزل إحسان )
( فمن شهد الأمر الذي قد شهدته ) من الإجمال الذاتي وتفاصيل تعيّناتها وتنوّعاتها ، ومقتضيات الكلّ من الإظهار والإخفاء بحسب أحكام المواطن ، ومدارك المعاصرين ذوي العناد أو أهل الاسترشاد .
( يقول بقولي في خفاء ) للغمر من المعاندين الغافلين.( وإعلان ) للمسترشدين المتفطَّنين. "الغمر = الجاهل"
( ولا تلتفت قولا يخالف قولنا ) أي لا تسمع قول القاصرين عن فهم المراد من كلام الحقّ ، والواقفين عند شواطئ ذلك البحر الزخّار ، القانعين من لآليه ودرره ، المبطونة فيه بطنا بعد بطن ، بما يعلو ظاهر سطوحه المحسوسة من الحثالات والزبد فالعاقل ينبغي أن لا يلتفت إليهم سماعا ولا خطابا ، فإنّ الخطاب معهم ببثّ ذلك الدرر لديهم هو عين إضاعتها عزّت عن ذلك.
الحثالة : ثفل الشيء. ما يسقط من قشر الشعير أو الأرز ونحوه. الزبد : ما يعلو الماء البحر او النهر ونحوه من الرغوة ."
كما قال :( ولا تبذر السمراء في أرض عميان) "ولا تبذر الحنطة السمراء - أي القول الحق الذي يغذي الباطن والروح - في أرض استعداد العميان ، الذين لا يبصرون الحق في الأشياء ولا يشاهدونه في المظاهر.أهـ القيصري "
( هم الصمّ والبكم الذين أتى بهم    ..... لأسماعنا المعصوم في نصّ قرآن )
لما سبق غير مرّة أن القصص القرآنيّة حكايات ألسنة أحوال الاستعدادات المتخالفة للعباد ، وهي التي لم يزل يتكلَّم الزمان بأفواههم في كلّ عصر ما هي أساطير الأوّلين ، كما هو زعم البعض من الجهلة المنكرين لبيّنات آياته .
رؤيا إبراهيم عليه السّلام وتعبيره  
( واعلم - أيّدنا الله وإيّاك ) بميامن الوراثة الختميّة وقرابتها ، تأييدا يتبيّن به دقائق المراد من الكلام على عرف التخاطب الذي مع الكمّل.
(أنّ إبراهيم الخليل عليه السّلام قال لابنه : " إِنِّي أَرى في الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ " [ 37 / 102 ] والمنام حضرة الخيال ) وهي مجبولة على محاكاة ما في أحد الجانبين المحاذيين لها .
أعني الشهادة والغيب بتمثّل الصور المناسبة له فيها ، مناسبة الأشباه أو الأضداد ، فلا بد من الانتقال والعبور من الصور المثاليّة الخياليّة برابطة تلك المناسبة والشبه إلى ما هو في الواقع من الصور العينيّة فلا بد من التعبير وأمّا إبراهيم (فلم يعبّرها ،وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام) .
ووجه المناسبة هاهنا هو أنّ إبراهيم أوّل من تحقّق بالحضرة الجمعيّة الوجوديّة ، التي هي ظاهر القابليّة الأولى الذاتيّة ، كما أنّ الكبش صورة تلك القابليّة التي ظهرت في المرتبة الحيوانيّة - ولذلك تراه في مصدريّة الأفعال الاختياريّة هو الغاية في القبول إذعانا واستسلاما .
ثمّ لمّا كان الابن صورة سرّ الأب، على ما ورد : « الولد سرّ أبيه » .
تصوّر الكبش في الحسّ المشترك عند ظهوره من طرف الغيب والبطون للخيال بصورة ابن إبراهيم ، لقوّة المناسبة المذكورة وكمال الاستيناس به .
(فصدّق إبراهيم الرؤيا) أي أخذ تلك الصورة المرئيّة صادقة مطابقة لما في الأمر نفسه مما وجب عليه.

سرّ رؤيا إبراهيم عليه السّلام
وهاهنا تلويح حكميّ له كثير دخل في تحقيقه، ومنه يعلم لميّة تصديقه وما يترتّب عليه من التفدية : وهو أنّ البعد بين المتقابلين - الذين بهما يتقوّم أمر التعاكس والتماثل - كلَّما كان أكثر ، كانت مطابقة العكس لأصله أشدّ وذلك لأنّ المشاركة - ولو في صفة من الصفات أو جهة من الجهات - تستلزم عدم ظهور العكس بكماله ، لتخلَّفه عن الأصل في تلك الصفة ، وانحرافه عنه بها ، ولذلك ترى المرايا ما ترى الصورة ما لم تكن في الجهة التي في غاية البعد - وهي القطر - وإذا انحرف عنها ما أرت الصورة كما هي ومن هاهنا أيضا ترى عكس العكس عين الأصل ، لأنّه أنهى ما يتباعد به عن الأصل .
ثمّ إنّ إبراهيم لما وصل من القرب إلى ما وصل، ما تمكَّنت مرآة خياله عن إراءة العكس كاملا، لزوال البعد والقطريّة فيه، وكمال القرب والخلَّة، وإذ قد كان ميلانه إلى طرف علوّ قربه الخلَّية، جاوز في أمر القربان أيضا إلى ما هو أعلى من فداء المال وذبح ذوي الحياة منه حتّى توهّم ذبح الابن وفدائه - وهو أوثق العلائق رابطة وأحكمها وثاقا - ولذلك ما اختصّت به ذوو العقول فقط، بل عمّت الحيوانات العجم تلك العلاقة .
فظهر أنّ وثاقة علاقة الابن النسبيّ وهميّة فلذلك لما رأى إبراهيم في رؤياه الذبح العظيم صوّر الوهم ذلك العظيم بابنه إذ ليس عنده أعظم منه.
(ففداه ربّه من وهم إبراهيم بالذبح العظيم ، الذي هو تعبير رؤياه عند الله - وهو لا يشعر) لغلبة أمر القربة فيه واستيلاء سلطان الخلَّية عليه.
تعبير ما في حضرة الخيال
(فالتجلَّي الصوريّ في حضرة الخيال محتاج إلى علم آخر يدرك به ما أراد الله تعالى بتلك الصورة) ، وهو ممّا يختصّ بنيله أولو النهاية ، ممن غلب في مواطن معرفته ومواقف نبوّته وبعثته ، علم الصور وأحكام تجلَّياتها ، ولم يحتجب بكمال قربته وجمعيّته عن أحكام التفرقة والتفصيل.
فلا بدّ وأن يكون صاحب حظَّ من الختم مّا بحسب الصورة فقط كيوسف على ما نبّهت عليه في تحقيق ترتيب الكتاب وبيان الحصر أو بحسب الصورة والمعنى ، كالحضرة الجمعيّة الختميّة وإلى ذلك أشار بقوله :

تعبير أبي بكر لرؤيا الرجل
( ألا ترى كيف قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي بكر في تعبيره الرؤيا : « أصبت بعضا ، وأخطأت بعضا » . فسأله أبو بكر أن يعرّفه ما أصاب فيه وما أخطأ ، فلم يفعل صلَّى الله عليه وسلَّم ) ، فإنّه قد روي بالأسانيد الصحيحة أنّ رجلا أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال : « إنّي رأيت ظلَّة  ينطف منها السمن والعسل ، وأرى الناس يتكففون في أيديهم ، فالمستكثر والمستقلّ ، وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض فأراك - يا رسول الله - أخذت به فعلوت ، ثمّ أخذ به رجل فعلا ، ثمّ أخذ به رجل آخر فعلا ، ثمّ أخذ به رجل آخر فانقطع به ثمّ وصل له فعلا " . البخاري و مسلم و أحمد و الترمذي.
فقال أبو بكر : أي رسول الله - بأبي أنت - والله لتدعني فلاعبّرها ؟
فقال : « اعبرها » .
فقال : « أمّا الظلَّة : فظلَّة الإسلام . وأمّا ما ينطف من السمن والعسل :
فهو القرآن - لينه وحلاوته - وأمّا المستكثر والمستقلّ : فهو المستكثر من القرآن والمستقل منه . وأمّا السبب الواصل من السماء إلى الأرض : فهو الحقّ الذي أنت عليه ، تأخذ به فيعليك الله ، ثمّ يأخذ به بعدك رجل آخر فيعلو به ، ثمّ يأخذ به رجل آخر بعده فيعلو به ، ثمّ يأخذ به رجل آخر فيقطع به ، ثمّ يوصل له فيعلو . أي - رسول الله - لتحدّثني أصبت ، أم أخطأت ؟ » .
فقال : « أصبت بعضا وأخطأت بعضا » .
قال : « أقسمت - بأبي أنت يا رسول الله - لتحدّثني ما الذي أخطأت » ؟
فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم : « لا تقسم » - قطعا لمادة توقّعه فإنّه من الخصائص التي لا دخل لأحد فيها .

تأويل تلك الرؤيا
والذي باح لسان الوقت بالإفصاح عنه في تأويله: أنّ السبب الواصل هو الرابطة الموصلة للعبد، أعني التزام التمسّك بعروة العبادة.
وأمّا الرجال الأربعة الواصلون : فهم الخاتمان بوارثيهما ، فإنّ وارث خاتم الولاية عقود عرى العبادة منه واهية ، ينقطع كثيرا ، ولكن يوصله ،على ما صرّح به صاحب المحبوب  .
وممّا يدلّ على أنّهم هم الأربعة، قوله تعالى: " إِنَّ الله اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ " [ 3 / 33 ] .
ولكن إنّما يفهم ذلك بعد الوقوف على لسان أهله .
ثمّ إنّه ظهر من هذا أنّ ممّا أخطأ فيه المؤوّل هو إبقاؤه الرجل على صورته المرئيّة ، وما عبّرها من الشخص الصوريّ الكوني الكامل من بني نوعه ، إلى الشخص الكماليّ الوجوديّ الكامل منهم فإنّه هو الرجل حقيقة على ما عرفت .

معنى التعبير
( وقال الله تعالى لإبراهيم عليه السّلام حين ناداه " أَنْ يا إِبْراهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا " ) [ 37 / 105 ] ،أي أخذت صورتها المرئيّة مطابقة للواقع.
( وما قال له : « صدقت في الرؤيا أنّه ابنك » ) أي وفّيت حقّها من قولهم : « صدق في القتال » إذا وفّى حقّه وفعل على ما يجب ، وعليه قوله تعالى: "رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا الله ".
أي حقّقوا العهد بما أظهروه من أفعالهم وما وفّى حقّ الرؤيا ( لأنّه ما عبرها بل أخذ بظاهر ما رأى والرؤيا يطلب التعبير ،ولذلك قال العزيز : "إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ" ) [12 / 43] .
( ومعنى التعبير الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر ) هو منتهى ما قصد من الصورة - تقول : « عبرت الرؤيا » : إذا ذكرت آخرها وعاقبة أمرها .
كما تقول :"عبرت النهر" إذا قطعته حتّى تبلغ آخر عرضه وهو عبره ونحوه "أوّلت الرؤيا " إذا ذكرت مآلها .
رؤيا ملك مصر وتعبير يوسف عليه السّلام لها  وقد ورد في الآثار إنّه لمّا دنى فرج يوسف رأى ملك مصر - الريّان بن الوليد - رؤيا عجيبة هالت : رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر مالس ، وسبع بقرات عجاف ، فابتلعت العجاف السمان ، ورأى سبع سنبلات خضر ، قد انعقد حبّها ، وسبعا أخر يابسات ، قد استحصدت وأدركت ، فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبن عليها فاستعبرها ، فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها ، حتى استعبر يوسف فأوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب ، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة .
( فكانت البقر ) في تأويل يوسف ( سنين في المحل والخضب ) وبيانه أنّ البقر في جنس الحيوانات هو المخصوص بالجعامة وتناول ساير النباتات حلوها ومرّها وشرب المياه كلَّها  صافيها وكدرها .
كما أن السنة هي التي تسع الأمور كلَّها مرغوبها ومكروهها .
وتأتي بالحوادث حسنها وسيّئها وأيضا المعتبر في أمر التعبير هو عبارة الرائي كما لا يخفى على الفطن الخبير .
وقد عبّر الملك عن رؤياه بـ « بقرات » و « سنبلات » ، فاستشعر يوسف
من الأوّل بالاشتقاق الكبير على ما هو المعوّل عليه عند الأكابر « آتي قريب »
ومن الثاني « سنة بلاء » ثمّ إنّ البلاء مشترك بين الخير والشرّ ، و « الخضر » فيه حرفان من الخير ، مع ظهور ضاد « الضوء » بها ، و « اليابس » هو « البايس » وهذا إنّما يفهمه من له ذوق إدراك التلويحات .
معنى تصديق إبراهيم عليه السّلام الرؤيا مع عدم ذبح الولد  
ثمّ إنّ إبراهيم ما صدّق في هذه الرؤيا ، لأنّ الصورة المرئيّة مأولة بالكبش وهو الذي ذبح .
( فلو صدّق في الرؤيا لذبح ابنه وإنّما صدّق الرؤيا في أنّ ذلك ) المرئي ( عين ولده ، وما كان عند الله إلَّا الذبح العظيم ) يعني الكبش ( في صورة ولده )  .
وذلك ليس فداء لإسحاق وصورته في الخارج ، ( ففداء لما وقع في ذهن إبراهيم ما هو فداء في نفس الأمر عند الله).
وذلك أنّ قهرمان منزلته الرفيعة وقربته القريبة لما اقتضى القربان ، وأظهر الله تلك الصورة من غيب قلبه وبطونه إلى مجالي مشاعره وقواه ، تيقّن بفداء ما هو الأعزّ عنده والأحبّ لديه .
( فصوّر الحسّ الذبح ، وصوّر الخيال ابن إبراهيم فلو رأى الكبش في الخيال لعبّره بابنه أو بأمر آخر ) يكون أعزّ عنده منه كما سبق بيانه.
( ثمّ قال : "هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ " [ 37 / 106 ] أي الاختيار المبين - أي الظاهر ، يعني الاختبار في العلم ) الذي يتبيّن به الأسرار الخفيّة .
وهو أنّه ( هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير ، أم لا ؟ ) وليس الاختبار في علوّ الهمّة وكمال الإيثار ، ليكون ذبح الابن فيه منجحا .
وملخّص الكلام هاهنا : أنّ للحقّ في إفاضة عوارف اللطائف وتوشيح الكلمة الإبراهيميّة نوعين من الإمداد في جهتين منها : أحدهما ما يتعلَّق بتربية الظاهر منه ، من إعلاء أعلام نبوّته وإظهار أمر رسالته ، وما ينضاف إلى ذلك من علوم الصور - مثاليّة كانت أو عينيّة - وأحكامها .
والآخر ما يتعلَّق بالباطن ، من تكميل مكانة ولايته والارتقاء في مراقي قربته وزلفته ، وما يستتبعه من التبتّل إلى الله بالكليّة ، متحقّقا بالتجرّد والإيثار ، وترك التعرّض والاختيار ، بما يلزمه من المعارف الذوقيّة واللطائف المستلذّة الشوقيّة .
ثمّ إنّ إبراهيم لتسلَّط قهرمان الجهة الثانية في حقيقته وكمال استلذاذه به واستغراقه فيه « 1 » ، أخذ في رؤيته تلك الرؤيا ما يقتضيه ذلك الموطن الذوقي وعلم الصور وأحكامها ممّا يتعلَّق بالجهة الأولى - والاختبار المبين إشارة إليه .
فهو لسلطان أمر القربة والخلَّة عليه ذهل عن ذلك ، وما كان جاهلا به ( لأنّه يعلم أنّ موطن الخيال يطلب التعبير ، فغفل فما وفّى الموطن حقّه وصدّق الرؤيا لهذا السبب ) .
( كما فعل تقي بن مخلد الإمام صاحب المسند) «هو الحافظ بقي بن مخلد ابن يزيد 200هـ. سير أعلام النبلاء ومعجم الأدباء وتذكرة الحفاظ والأعلام للزركلي » - وذلك من سراية حكم ولاية الأنبياء المرسلين في ولاية الأولياء المحمّديين - ( سمع في الخبر  الذي ثبت عنده أنّه عليه السّلام قال : « من رآني في النوم فقد رآني في اليقظة » ) .

وذلك لختم صورته وتمام إحاطته فيها (« فإنّ الشيطان لا يتمثّل على صورتي ») لكونه محاطا فيها - ولذلك تراه عارض آدم وقابله ، وأسلم على يده وأذعن له .
( فرآه تقيّ بن مخلد ، وسقاه النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في هذه الرؤيا لبنا ، فصدّق تقيّ بن مخلد رؤياه فاستقاء ، فقاء لبنا ولو عبّر رؤياه لكان ذلك اللبن علما ) لأنّه أوّل ما يظهر بصورة الحياة ويغتذي به الحيوان ، فيصير حيّا كما أنّ العلم أوّل ما يتعيّن به الذات فيظهر به عالما ولأنّه أكرم ثمرة أثمرها شجرة النشأة الجسمانيّة الإنسانيّة ، كما أنّ العلم أكرم ثمرة أثمرها شجرتها الروحانيّة الجسدانيّة .
وأيضا في لفظه تلويح بيّن على تأويله ذلك ، بما فيه من لام « العلم » و « التفصيل » والباء والنون المشعرين بالإبانة والظهور حيثما اجتمعا .
( فحرّمه الله علما كثيرا على قدر ما شرب ) لما قاء به .

رؤيا رسول الله صلَّى الله عليه وآله  
(ألا ترى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما اتي في المنام بقدح لبن قال : « فشربته حتّى خرج الريّ من أظافيري ، ثمّ أعطيت فضلي عمر » . قيل : « ما أوّلته يا رسول الله » ؟
قال : « العلم » ، وما تركه لبنا على صورة ما رآه ، لعلمه بموطن الرؤيا وما يقتضي من التعبير ) . مسلم و الترمذي
واعلم أنّ في تعبيره الرؤيا بهذه العبارة إشارة لطيفة إلى أنّ العلم الذي رؤي العطشان ، هو الذي خرج من أظافير أصابع يدي قدرته ، ووضعه الشعائر المستدعية للإشعار من ظواهر الصور المتكثرة الكونيّة التي تعلم وترقى عند النظر والافتكار .
ففيه تلويح إلى الصور الكتابية من تلك الكونيات بخصوصها أنّها هي منابع ذلك العلم ، وأنّ فضلها قد اختصّ به عمر .
أي له عمر وبقاء بعده هذا لمن له قوّة التدبّر في الإشارات الختميّة .
من رأى رسول الله صلَّى الله عليه وآله في المنام
ثمّ إنّ صورة محمّد عليه السّلام على ما علم من الحديث على خلاف هذا المقتضى في الرؤيا ، لأنّه لا يقبل التعبير ، فلا بدّ من بيانه بما ينبئ عن وجه اختصاصه بين الصور بذلك ، وعن معقوليّة أمره وتمام كيفيّته .
فقوله : ( وقد علم أنّ صورة النبي عليه السّلام - التي شاهدها الحس - أنّها مدفونة في المدينة ، وأنّ صورة روحه ولطيفته ما شاهدها أحد من أحد ، ولا من نفسه - كلّ روح بهذه المثابة فيتجسّد له روح النبيّ عليه السّلام في المنام بصورة جسده ، كما مات عليه ، لا يخرم منه شيئا ، فهو محمّد عليه السّلام المرئي من حيث روحه ، في صورة جسدية تشبه المدفونة ، لا يمكن لشيطان أن يتصوّر بصورة جسده عليه السّلام ، عصمة من الله في حقّ الرائي ).
فإنّه هو مظهر الهداية التامّة ، والخاتم لإبانة طريق الحق على الخاصّة والعامّة فلو لم يكن الرائي لصورته معصوما وأمكن الشيطان أن يتصوّره بتلك الصورة ما يتمّ له شيء من ذلك .
(ولهذا من رآه بهذه الصورة يأخذ عنه جميع ما يأمر به أو ينهاه أو يخبره ، كما كان يأخذ عنه في الحياة الدنيا من الأحكام ، على حسب ما يكون منه اللفظ الدالّ عليه - من نصّ أو ظاهر أو مجمل أو ما كان ) .
فعلم أنّ صورته المرئيّة عليه السّلام خارجة عن مقتضى الرؤيا من التعبير ، ( فإنّ أعطاه شيئا فإنّ ذلك الشيء هو الذي يدخله التعبير ، فإن خرج في الحسّ كما كان في الخيال ) لما في حقيقة الرائي من المقابلة والصفا كما علم ( فتلك رؤيا لا تعبير لها ) ، وهذا إنّما يوجد قليلا ، ( وبهذا القدر عليه اعتمد إبراهيم الخليل وتقي بن مخلد ) .

تعبير رؤيا الحق تعالى في المنام
( ولمّا كان للرؤيا هذان الوجهان ، وعلَّمنا الله - فيما فعله بإبراهيم وما قال له الأدب - لما يعطيه مقام النبوّة ) .
على جلالة قدرها من الابتلاء والاختبار في الرؤيا أهلها ، وعدم تقريرهم الصورة المرئيّة بحالها ( علمنا في رؤيتنا الحقّ تعالى ) جواب لمّا ( في صورة يردّها الدليل العقلي ) لا الأدلَّة مطلقا.
لأنّ العقل موطن التمييز بين الحق والباطل ، ومحلّ تسطير تصوّر الأشياء بما هي عليه - فإذا كانت الصورة التي رئي الحقّ عليها مما يردّها العقل لا بدّ و ( أن يعبّر تلك الصورة بالحقّ المشروع ) فإنّ « الشرع » هو العرش الذي استقرّ عليه الحقّ بصورته العينيّة وشاكلته المرضيّة ، فما لم يكن عليه لا ينسب إليه تعالى كما في الأسماء ، فإنّها ما لم يطلق الشرع عليه ما لنا أن ننسب إليه .
وتلك الصورة التي ردّها العقل ويجعلها مفتقرة إلى التعبير ( إمّا في حقّ حال الرائي ) بحسب مناسبته لتلك الصورة المردودة عقلا ( أو المكان الذي رآه فيه ) - كما روي أنّ بعض الصالحين في بلاد الغرب رأى الحقّ تعالى في المنام في دهليز بيته ، فلم يلتفت إليه ، فلطمه في وجهه فلمّا استيقظ قلق قلقا شديدا فأخبر الشيخ رحمه الله  بما رأى وفعل ، فلمّا رأى الشيخ ما به من القلق العظيم .
قال له : « أين رأيته » ؟
قال : « في بيت لي قد اشتريته » .
قال الشيخ : « ذلك الموضع مغصوب ، وهو حقّ للحقّ المشروع ، اشتريته ولم تراع حاله ، ولم تف بحقّ الشرع فيه فاستدركه » فتفحّص الرجل عن ذلك .
فإذا هو من وقف المسجد وقد بيع بغصب ولم يعلم الرجل ولم يلتفت إلى أمره .
ولعلّ الشيخ من صلاح الرائي وشدّة قلقه علم أنّه ليس من قبل الرائي .(أو هما معا ).
( وإن لم يردّها الدليل العقلي أبقيناها على ما رأيناها كما ترى الحقّ في الآخرة سواء) فإنّه كثيرا ما يتجلَّى فيها بصور ينكرها أرباب العقول وذوو العقائد على ما ورد في الحديث.
فلئن قيل : « إنّ الصورة المرئيّة من الخاتم لا تحتاج إلى التعبير ، لأنّ الشيطان لا يتمثّل به فكيف تكون الصور المرئيّة من الحق تعالى مفتقرة إليه والشيطان يتمثّل به » ؟ !
قلنا : إنّ الخاتم للنبوّة هو الغاية في إظهار الصورة المبعوث لتمام أمرها ، فلا يمكن أن يتطرّق إليه من الخفاء شيء أصلا ، ولا يقدر الشيطان الذي هو قهرمان أمر الإخفاء والإلباس أن يحوم حول حماه الأحمى قطعا وإلَّا لا يكون خاتما للنبوّة .
وأمّا الحقّ ، فكما أنّ له صورة الظهور ، فله صورة الخفاء أيضا ، والكلّ منه ، وإليه ، وإلى هذه النكتة المستشعرة منه أشار بقوله نظما :
(فللواحد الرحمن في كل موطن) صوريّا كان أو معنويا، عينيّا أو مثاليّا، خياليّا أو جسمانياًّ  
(من الصور ما يخفى) كالقبائح والقاذورات المردودة للعقول والشرايع ( وما هو ظاهر )
كالمحاسن والمنزّهات، وذلك لأنّ التعيّنات والاعتبارات الفارقة على أيّ وجه كانت لا دخل لها في الحقيقة الحقّة ، فهو المطلق المنزّه عن الكلّ في الكلّ ، فمن أثبت الحقّ للكلّ على أنّه هو المنزّه عنه فيه ، فهو صادق وإلَّا فكاذب .
ولذلك قال : (فإن قلت هذا الحقّ قد تك صادقا ). وذلك إذا كان القائل ممن يرى كثرة الصور ممحوّة في الوحدة الحقيقيّة التي للحق. (وإن قلت: أمر آخر. (أي الحقّ أمر آخر أنت عابر).
أي عابر لتلك الصورة، بمعنى التعبير كما سبق في النثر بيانه أو عابر عن الحقّ ، ففيه إيهام المعنيين ، والثاني أوفق لسياق النظم .
( وما حكمه في موطن دون موطن )لأنّه المطلق الشامل( ولكنّه بالحقّ للخلق سافر ).
أي ظاهر الخلق بحسب المناسبات لهم ، ومدارج التنزّلات إليهم بالحقّ ، وإن كان ذلك في صورة الباطل ، كما قال شيخ الشيخ المؤلف أبو مدين رضي الله عنه كذلك نظما :
لا تنكر الباطل في طوره   .... فإنّه بعض ظهوراته
وأعطه منه بمقداره     .... حتى توفّي حقّ إثباته
فالحقّ قد يظهر في صورة  .... ينكرها الجاهل في ذاته
ولأنّ ظهور الحقّ للمحجوبين من الخلق ، إنّما يمكن في رقائق المناسبات لهم ، ومدارج التنزلات إليهم ، تراه
( إذا ما تجلَّى للعيون تردّه   ..... عقول ببرهان عليه تثابر )
لأنّ الصور الكونيّة والمواد الهيولانيّة التي بها يظهر الحقّ للعيون ، قد نزّه العقول بالبراهين القاطعة جناب الحقّ عنها .
( ويقبل في مجلى العقول ) وذلك لأنّ هذا المجلى من شأنه أن يجرّد ما فيه عن الغواشي الغريبة واللواحق الهيولانيّة الخارجة مطلقا ، بل وعمّا يلحقه فيه أيضا من خصوصيّات المجلى ، وذلك الذي هو مقبول الفلاسفة وذوي العقول
( وفي الذي ...   يسمّى خيالا )
لما في الصور المختصّة به من التجرّد عن المواد الهيولانيّة والتنزّه عن اللواحق الجسمانيّة ما ليس لغيرها من الصور .
على ما هو مقبول أرباب الخلوات الرسميّة والرياضات العاديّة ، من الأنوار الشعشعانيّة والإشراقات الخالصة عن الشوائب الهيولانيّة .
( والصحيح النواظر ) بالنصب ، عطفا على « خيالا » والنظر حينئذ بمعنى الفكر وبالرفع على أن يكون جملة حاليّة ، والنظر حينئذ بمعنى البصر .
ثمّ إنّ الكلام لما انساق إلى طرف سعة الحقّ ومجال ظهوره في سائر المواطن والمجالي ، وبروزه بكسرة الكلّ خفاء وظهورا ، أخذ في تبيين ذلك قائلا: ( يقول أبو يزيد "البسطامي" في هذا المقام : « لو أنّ العرش وما حواه مائة ألف ألف مرّة في زاوية من زوايا قلب العارف ما 
أحسّ بها » ) أي ما وجد لها حسّا ، وهذا غاية ما أمكن من السعة في مرتبة الأجسام ، لأنّه قد جمع غاية البعدين المتّصل والمنفصل في المظروف وفي الظرف وقد خصّ من بين عموم زواياه زاوية واحدة .
ولذلك قال : ( وهذا وسع أبي يزيد في عالم الأجسام ) لا مطلقا  .
ولما كان وسع القلب وإحاطة رتبته غير مختصّ بما في الأجسام وغيرها ، من المراتب ومدارج التنزّلات ، بل ولا اختصاص له أصلا بالعوالم والتعيّنات الاستجلائيّة فإنّه المجلى الجامع بين الجلائيّ والاستجلائيّ .
أشار إليه بقوله : ( بل أقول : لو أنّ ما لا يتناهى وجوده ) لأنّ جزئيّات العوالم والتعيّنات الاستجلائيّة إذا أريد أن يعبّر بلفظ صادق عليها ومفهوم يحمل عليها جملة ، فهو ذلك لا غير ، والذي قام البرهان العقلي على انتهائه هو البعد الجسماني القائم بالموجود ، لا وجوده .
فإنّ وجودات الأكوان والحوادث غير متناهية ، ولهذه الدقيقة صرّح بـ « الوجود » .
وإنّما قال : ( يقدّر انتهاء وجوده ) لأنّ التقدير أنّه محاط للقلب .
فعلم أنّ انتهاء القلب أيضا تقديريّ فرضيّ، وإذ قد علم أنّ سعة القلب أكثر حياطة من التعيّنات الاستجلائيّة وأفسح فضاء منها.
ضمّ إلى ذلك: (مع العين الموجدة له ، في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحسّ بذلك في علمه). أي ما ظهر له حسّ وخبر تحت حكمه الشامل وأمره المحيط الكامل - أعني العلم.
(فإنّه قد ثبت أنّ القلب وسع الحقّ ) - بما روي : « ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن » .
( ومع ذلك ما اتّصف بالريّ ) فإنه لو ارتوى قنع به وانقطع عنده الطلب والسعي فعلم أنّه ليس مما يملؤه (فلو امتلأ ارتوى).
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 11:40 am

ثمّ إنّه لما كان قوله : « وهذا وسع أبي يزيد في عالم الأجسام » يوهم تعريضا بقصوره ، وغرضه تحقيق ظهور السعة الإلهيّة في كلّ زمان لصاحبه من الأولياء جسمانيّة وإطلاقيّة - فأمّا السعة الجسمانيّة لأبي يزيد فهو الذي نبّه إليه أوّلا ، وأمّا الإطلاقيّة الحقّة فهو الذي سينبّه عليه - أشار إليه دفعا لذلك الوهم بقوله : ( وقد قال ذلك أبو يزيد ) في نظمه:
( شربت الحبّ كأسا بعد كأس .... فما نفد الشراب ولا رويت )
وفي قوله : « كأسا بعد كأس » يشير إلى تينك السعتين .
""كما أورد القشيري البيت عن الشبلي :
عجبت لمن يقول نسيت إلفي   ....  وهل أنسى فأذكر من هويت
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا   ....  ولولا ما أؤمل ما حييت
فأحيا بالمنى وأموت شوقا   ....  فكم أحيا عليك وكم أموت
جعلت الصمت ستر الحب حتى   ....  تكلمت الجفون بما لقيت
شربت الحب كأسا بعد كأس   ....  فما نفد الشراب وما رويت""
فلئن قيل: «لا يدفع بهذا الكلام ما يتوهّم من التشنيع ،لأنّه يدلّ على ضيق أمره في عالم الجسم".
قلنا : السعة الإطلاقيّة هو المعوّل عليها في المعرفة ، وأمّا الجسمانيّة منها فإنّما تتعلَّق بظهور الولاية ، وذلك بحسب احتمال الزمان ، وزمان أبي يزيد ما احتمل وراء ذلك .
ثمّ إنّ تحقيق أمر السعة مطلقا إنّما يتمّ ببيان كمال الجمعيّة والإحاطة بما يقابلها يعني الضيق ولذلك قال : ( ولقد نبّهنا على هذا المقام ) أيضا كذلك نظما ( بقولنا ) :
(يا خالق الأشياء في نفسه) لما سبق بيانه أنّ القوابل من فيضه الأقدس(أنت لما تخلقه جامع).
( تخلق ما لا ينتهي كونه فيه بك) ، لأنّه قد خلق الكلّ فيه . ( فأنت الضيّق ) باعتبار أحديته الذاتيّة التي لا مجال للثنويّة فيها أصلا  وهو الوحدة الحقيقيّة التي هي مبدأ الإحاطة ، فهو المحيط (الواسع) للكلّ.
( لو أنّ ما قد خلق الله ) بقلبي، ( مالاح بقلبي فجره الساطع ) أي ما ظهر عليه ، بل تبطَّن فيه واتّحد به ، لأنّه إنّما يظهر عليه إذا ضاق عنه ، وهو قد وسع الحقّ ، و :
( من وسع الحقّ فما ضاق عن  .... خلق، فكيف الأمر ياسامع ) فإنّه الجامع بين الحقّ والخلق ، فهو الكلّ .


 العارف يخلق بالهمّة  
ولذلك ترى الحقّ فيه قد يخلق الخلق ويحفظه ، فإنّه ( بالوهم يخلق كلّ إنسان في قوّة خياله ما لا وجود له إلَّا فيها ، وهذا هو الأمر العامّ ) الذي لأهل التفرقة ممن لم يكن لهم أن يستجمعوا قوى القلب وينفّذوا فيها أحكامه ، حتّى يظهر سلطانه .
( والعارف ) من أهل الجمعيّة القلبيّة التي قد تبدّلت تفرقة وهمه بجمعيّة الهمّة  ( يخلق بالهمّة ما يكون له وجود من خارج محل الهمّة ) .
وذلك عند ظهور سلطانه واستجماع جنوده وقواه تحت قهرمانه ، النافذ أمره في سائر العوالم والحضرات ( ولكن لا تزال الهمّة تحفظه ولا يؤدها حفظه أي حفظ ما خلقته ) لكمال سعته .
( فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق ) عند غلبة أحكام حضرة من الحضرات أو العوالم ، على وقته وانجذابه نحوها ، ( عدم ذلك المخلوق ) ضرورة أنّ مدده الوجودي إنّما هو من همّته وتوجّهه .
( إلَّا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات ) المرتبطة بعضها بالبعض ، ارتباط الأرواح بالأجساد والأجسام والحضرات هي المواطن الكليّة ، فلا بدّ وأن يكون لكل من الموجودات وجود في كل منها بحسبها ، كما في مرتبة الأرواح والأجساد بعينها (وهو لا يغفل مطلقا، بل
لا بدّ له من حضرة يشهدها،
فإذا خلق العارف بهمّته ما خلق وله هذه الإحاطة، ظهر ذلك الخلق بصورته في كلّ حضرة، وصارت الصور يحفظ بعضها بعضا، فإذا غفل العارف عن حضرة ما، أو حضرات - وهو شاهد حضرة ما من الحضرات، حافظ لما فيها من صورة خلقه - انحفظت جميع الصور بحفظه تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل عنها، لأنّ الغفلة) عن الحضرات كلَّها ( ما تعمّ قطَّ لا في العموم ) بالنسبة إلى سائر الأشخاص ( ولا في الخصوص ) من الأولياء والكمّل .
فإذا انحفظت الصورة في حضرة من الحضرات العالية لا بدّ وأن تكون محفوظة في العوالم السافلة، لارتباط العوالم بالحضرات بكلَّياتها وجزئيّاتها .
 
الفرق بين خلق الحقّ وخلق العبد
( وقد أوضحت هنا سرّا لم يزل أهل الله يغارون على مثل هذا أن يظهر ) فإنّه الكاشف عن الجهة الامتيازيّة الفارقة بين الحقّ والعبد في مرتبة الفعل والخلق .
وذلك ( لما فيه من ردّ دعواهم أنهم الحقّ فإنّ الحق ) لتقدّسه عن التلبّس بأحكام المراتب والمجالي ( لا يغفل ، والعبد ) لجمعيّته واحتيازه للكلّ.
( لا بدّ له أن يغفل عن شيء دون شيء ، فمن حيث الحفظ لما خلق ، له أن يقول : « أنا الحقّ » ) . وقوله حقّ بحسب الذات والعين ، فإنّ التميّز بحسب الأحكام والآثار .
وإليه أشار قوله : ( ولكن ما حفظه لها حفظ الحقّ ، وقد بيّنا الفرق ) بين الحفظين ، ( ومن حيث ما غفل عن صورة ما وحضرتها ) أي العين الواحدة من الغفلة عن الصورة المخلوقة وحضرتها ( فقد تميّز العبد من الحقّ ) .
هذا على تقدير عدم بقاء الحفظ ، ( ولا بدّ أن يتميّز مع بقاء الحفظ لجميع الصور ) أيضا ( بحفظه ) أي حفظ العبد .
( صورة واحدة منها في الحضرة التي ما غفل عنها فهذا حفظ بالتضمّن ، وحفظ الحقّ ما خلق ليس كذلك ، بل حفظه لكلّ صورة على التعيين ) .
فعلم أنّ ملاك الأمر في التفرقة والتمييز بحسب الأحكام والآثار لا غير كما قيل : « العين واحدة ، والحكم مختلف » وذلك أيضا بمجرّد الاعتبار ، فإنّ مخلوقي العبد والحقّ محفوظان ، إلَّا أنّ الأوّل بالتضمّن والثاني بالتعيين ، وذلك تفصيل يعتبره العقل .
( وهذه مسألة ) هي الفارقة في مرتبة الفعل ، الجامعة فيها لعلوّ حكمها ونفاسة مقصدها ( أخبرت أنّه ما سطرها أحد في كتاب - لا أنا ، ولا غيري - إلَّا في هذا الكتاب ) لعدم بلوغ الزمان إلى ما يقتضي إبراز الحقائق  .
وإظهار أسرارها بما هي عليه ، فإنّه من خصائص الوقت الختمي ، ولطائف مولَّداته ، التي لم يكن يلد الزمان ما يتولَّد منه ذلك ( فهي يتيمة الوقت فريدته ) .
ثمّ لا مرية أنّه إذا كان مبدأ التمايز والتفرقة ، ومنشأ التفصيل والمغايرة ليس إلَّا مجرّد الآثار والأحكام الاعتباري ، فتكون العين الواحدة مما لا يمكن أن يتفرّق ويفصل في نفسها ، فسائر الحضرات إنّما هو العين الواحدة التي تتكلَّم وتخاطب ، وإليه أشار مخاطبا : ( فإيّاك أن تغفل عنها ، فإنّ تلك الحضرة التي يبقي لك الحضور فيها مع الصورة ، مثلها مثل الكتاب الذي قال الله فيه : " ما فَرَّطْنا في الْكِتابِ من شَيْءٍ "  [ 6 / 38 ] .
وذلك من حيث أنّها هي الجامعة بين كمال تفصيل الصور، وتمام تبيين المعاني، كالكتاب، ( فهو الجامع للواقع ) مما يمكن أن يكون له في النشأة الخارجة عن المشاعر صورة ظهرت ، أو لم تظهر ( وغير الواقع ) مما لا يمكن له ذلك ، كالمعاني العقليّة والمثل الخياليّة التي يمتنع لها البروز عن مواطنها ذلك ، ويستحيل أن يظهر في هذه النشأة الخارجية .
( ولا يعرف ما قلناه ) من أنّ الكلّ إنّما هو من العين الواحدة المسماة بالعبد - وإن اختلفت النسب والعبارات بحسب الاعتبارات .
( إلَّا من كان قرآنا في نفسه ) جامعا بين تمام التفرقة وكمال الجمع ، شاهدا في عين العبد ، الكاشفة عن تمام البعد كنه القرب من الحقّ بعينه ( فإنّ المتّقى ) الذي جعل عينه وقاية للحقّ في الذم والحقّ وقاية لعينه في الحمد.
( الله يجعل له فرقانا) حتّى يتمكَّن من التفرقة بين الذمّ والنقص ، والتفرقة والبعد ، وبين الحمد والكمال ، والجمعيّة والقرب .
( وهو مثل ما ذكرنا في هذه المسألة ) ، الكاشفة في مرتبة الفعل والخلق عمّا ينسب إليه  (فيما يتميّز به العبد من الربّ).
(وهذا الفرقان أرفع فرقان ) ، فإنّه فرقان في أنزل المراتب ، يعني الفعل والخلق ، وهي العين المنبئة عن كمال الجمع ، وعلم من طي ما اقتبسها من مشكاة النبوّة في عبارته الكاشفة عن مصباح الولاية : إنّ القرآنيّة هي مقتضى حقيقة العبد ، وله في نفسه ، والفرقانيّة إنّما يجعل له الله ، فلذلك أخذ في النظم مفصحا عن ذلك : "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ".


فوقتا يكون العبد ربا بلا شك ... ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك
(فوقتا يكون العبد ربّا بلا شكّ) عندما يجعل الله له فرقانا
(ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك ) عندما يصل إلى قرآنيّته التي له في نفسه.
فإن كان عبدا كان بالحق واسعا ... وإن كان ربا كان في عيشة ضنك
(فإن كان عبدا) قابلا على الإطلاق جامعا (كان بالحقّ واسعا ) لأنّه طرف الإطلاق والسعة يقابلها يعني الضيق
( وإن كان ربّا ) مقيّدا به ومفرقا فيه بخصوصه ( كان في عيشة ضنك ) لأنّ القيد مطلقا طرف الضيق والتفرقة .


فمن كونه عبدا يرى عين نفسه ... وتتسع الآمال منه بلا شك
( فمن كونه عبدا ) جامعا ( يرى ) الكلّ لجمعيّته الإطلاقيّة ( عين نفسه ويتّسع الآمال منه بلا شك ).
ومن كونه ربا يرى الخلق كله ... يطالبه من حضرة الملك و الملك
( ومن كونه ربّا ) مفرقا ( يرى الخلق كلَّه يطالبه ) لغلبة سلطان التفرقة في مشهده ذلك ( من حضرة الملك ) وهو الذي يستحقّه لأصل استعداده ويملكه ( والملك ) وهو الذي يستحقّه عند الظهور بأعماله وراثة لها .
ويعجز عما طالبوه بذاته ... لذا تر بعض العارفين به يبكي
( ويعجز عمّا طالبوه بذاته )لأنّ القدرة إنّما هو للجمعيّة والإطلاق ( لذا تر بعض العارفين به يبكي ) بحذف الياء من "ترى " تخفيفا ، وفي بعض النسخ « كذا كان » .
فكن عبد رب لا تكن رب عبده ... فتذهب بالتعليق في النار والسبك
( فكن عبد ربّ لا تكن ربّ عبده ، فتذهب بالتعليق في النار ) المفرّقة ( والسبك ) بها لإفناء غشّ القاذورات المستتبعة للإنيّة الفارقة ، وخلاص ذهب حقيقته العبديّة عنها .
و"الباء" فيه على طريقة قوله تعالى: "تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ " أي : فتذهب متلبّسا بالتعليق .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 07 - فصّ حكمة عليّة في كلمة إسماعيليّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 12:30 pm

07 -  فصّ حكمة عليّة في كلمة إسماعيليّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإسماعيلي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

07 - فصّ حكمة عليّة في كلمة إسماعيليّة

كأنك قد اطَّلعت على أن للسير الوجوديّ والحركة الإيجاديّة نحو تمام الظهور والإظهار - التي مبدؤها من التعيّنات التي بها يثبت للعبد عين وجوديّة هو العقل الأوّل.
سريانين : 
أحدهما ينتهي عند تمام ظهور الكثرة ، كما في الفلك الثامن  
والثاني عند تمام الإظهار ، وهو المبتدي من العنصر الأعظم الذي حصل العقل من التفاتته ،المنتهي ببعض الوجوه إلى آدم ،وبسائرها إلى الخاتم.
وجه تسمية الفصّ
ثمّ إذ قد تذكَّرت هذا الترتيب لا يخفى عليك حينئذ وجه مناسبة الكلمة الإبراهيميّة بالعقل - حيث أنّه بها يثبت للعبد عين - ومناسبة أول السريانيين المنشعبين منه بإسحاق من حيث تولَّد الأنبياء والرسل المتكثّرة منه ، والثاني منهما بإسماعيل من حيث تولَّد الخاتم منه .
ولا يخفى أيضا منه وجه اختصاص كلمته بالعلوّ ، فإنّها وإن كانت منشعبة من الكلمة الإبراهيميّة ، إلَّا أنّ استمدادها من العنصر الأعظم بالاستقلال ونسبتها إلى الذات أقرب وأعلى .
وهاهنا تلويح يكشف عن تحقيق ما قلنا : وهو أنّ أوّل ما يتقوّم به الألف هو النقطة نفسها ، ثمّ تعدّدها وتكثّرها - فإنّ ذلك هو المادّة له - ثمّ الصورة الجمعيّة التي بها يتحصّل الألف ، وهذا هو الذي بإزاء الكلمة الإسماعيليّة ، كما أنّ الأوّلين هما اللذان بإزاء الكلمتين الإبراهيميّة والإسحاقيّة.
ومن تفطَّن في  إسماعيل على ما اومي إليه في المقدّمة  تفطَّن إلى ما يرشده إليه .
ثمّ إذ قد تبيّن أنّ الكلمة الإسماعيليّة لتضمّنها أمر صلوح الوالديّة المذكورة ، تضمّن الكلمة الآدميّة أمر الوالديّة الكبرى .
ولها نسبة إلى المبدأ ، وقربة خاصّة إلى الذات منها يستمدّ العاملون : لا بدّ وأن تكشف عن أمر تلك النسبة الحاكمة على تسمية أحدهما بالربّ ، والآخر بالعبد - كشف الكلمة الآدميّة عن النسبة المسمّية أحدهما بالإله ، والآخر بالمألوه - فلذلك أخذ في تبيين أمر تلك النسبة و الفحص عن مبدأ ربطها وتأثيرها في الحضرات قائلا :
( اعلم أنّ مسمّى « الله » أحديّ بالذات ) لما سلف لك في المقدّمة أنّ الأحديّة أوّل ما يلزم الإطلاق والوحدة الحقيقيّة - ( كلّ بالأسماء ) لأنّه بالعلم والكلام يتحقّق الكلمة ،والكلام هو الكلّ .
وهاهنا تلويح - وهو إنّه كما أنّ « الكلّ » هو الكلام ،كذلك « الأحد » هو القلب .
وإنّما لم يقل « أحد » لأنّ اعتبار معنى التسمية يأبى إطلاق ذلك الاسم عليه إلَّا بضرب من الاشتقاق والنسبة .
ثمّ إنّ تحقيق أمر النسبة - على ما هو بصدده - إنّما يتصوّر بعد تبيين المنتسبين.
وإذ قد بيّن الأوّل شرع في الثاني منهما بقوله :
( وكلّ موجود ، فما له من الله إلَّا ربّه خاصّة يستحيل أن يكون له الكلّ ) لأنّ العين الواحدة المتشخّصة - من حيث أنّها كذلك - لا يمكن أن تكون تحت تربية الأسماء المتقابلة ، موردا لوفود أحكامها المتناقضة ، فإنّ كلَّا منها ظلّ لاسم خاصّ متشخّص بذلك التشخّص الذي تشخّصت به العين ولكن في الحضرة الأسمائيّة .

الأحدية والواحدية
( وأمّا الأحديّة الإلهيّة فما لواحد فيها قدم ) حيث أنّ الواحد منشأ النسب والأحديّة مسقطها ، فلا يمكن أن يكون للأعيان الواحدة فيها قدم ( لأنّه لا يقال لواحد منها شيء ، ولآخر منها شيء ، لأنّها لا يقبل التبعيض ) وإلَّا كانت موردة للنسب .
( فأحديّته مجموع كلَّه بالقوّة ) ولا يخفى أنّه إذا كان الكلّ بالقوّة تكون الجمعيّة التي بين أفراد ذلك الكلّ أحرى بأن تكون بالقوّة ، فلا يرد أنّ إثبات معنى المجموعيّة للأحديّة ينافي ما اتفقوا عليه من أن الأحديّة تنفي النسب كلَّها .
وذلك لأنّ نفي النسب وإسقاطها يتصوّر على وجهين :
أحدهما أن يكون لذوي النسب وجود خارج ما أسقط عنه نسبهم - وهو غير متصوّر هاهنا .
والثاني أن يكون مجموع ذوي النسب مندمجا فيما أسقط عنه ، متّحدا به : فهو أحديّ بالفعل ، كلّ بالقوّة  ، وهو المقصود هاهنا .

الربوبيّة والعبوديّة
ثمّ إنّك قد عرفت أن النسبة - حيث كانت حاكمة على طرفيها المنتسبين إليها مسمّية لهما فهذه النسبة قد سمّى الكلّ من طرف الحقّ : « ربّا » .
والعين من طرف الكون : « عبدا » - في نظر العامّة.
وفي شهود الكمّل والخواصّ : « سعيدا » .
وإلى ذلك أشار بقوله : ( والسعيد من كان عند ربّه مرضيّا - وما ثمّ إلَّا من هو مرضيّ عند ربّه ، لأنّه الذي يبقي عليه ربوبيّته فهو عنده مرضيّ ، فهو سعيد ولهذا قال سهل :"إنّ للربوبيّة سرا ، وهو أنت " - تخاطب كلّ عين ) أي سرّ الربوبيّة امتياز العين المعدومة بنفسها واختصاصها بالمخاطبة منك ، مع أنّه لا وجود له إلَّا بربّه ، فلو ظهر ذلك السرّ ، وبان عدمه على ما هو عليه لا يصلح لاختصاصه بالمخاطبة ، فيبطل الربوبيّة الموقوف تحقّقها على تمايزه واختصاصه بالخطاب فإنّ سائر المراتب الظهوريّة والإظهاريّة مبتنية على الخطاب .
أمّا الأوّل فلتوقّف أمر الظهور على خطاب « كن » .
وأمّا الثاني فلابتناء أمر الإظهار على القول الصادر عن الأعيان في النشأة الذرّية المسبوقة بالخطاب ، كما أفصح عنه في قوله تعالى : " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ " [ 7 / 172 ] .
ومن لطائف ما اشتمل عليه كلام سهل أنّ ظهور السرّ هو بطلانه بالضرورة ، وبطلانه بطلان الربوبيّة ، ولذلك قال :
فذلك السرّ ( لو ظهر ) - أي زال سرّيته وبطل - ( لبطلت الربوبيّة فأدخل عليه « لو » ، وهو حرف امتناع لامتناع ، وهو لا يظهر ) أي لا يزول سرّيته ولا يبطل فإنّ الخطاب باق إلى أبد الآباد ( فلا تبطل الربوبيّة لأنّه لا وجود لعين إلَّا بربّه ، والعين موجودة دائما ) به ، وإن تحوّلت تنوعات تعيّناتها ، ( فالربوبيّة لا تبطل دائما ) .
وما قيل  : « إنّ معناه أنّه في الغيب موجود دائما » فخارج عن قانونهم ، لأنّ ما في الغيب لا يطلق عليه « العين  ولا ترتبط به نسبة الربوبيّة ، كيف - والشيخ قد صرّح هاهنا بأنّ الكلّ في الأحديّة بالقوّة ، والغيب مقدّم عليها .

الكلّ مرضيّ ومحبوب عند ربّه
ثمّ إذا تقرّر أنّ الكلّ عند ربّه مرضيّ ، ( وكلّ مرضيّ محبوب ) لأنّ رضاه بإبقائه على الربوبيّة وتمكينه من الإتيان بفعله الذي هو عين المراد .
وكلّ ما يظهر منه المراد فهو محبوب - ( وكلّ ما يفعل المحبوب محبوب : فكلَّه مرضيّ ) فعلا كان أو عينا ( لأنّه لا فعل للعين ، بل الفعل لربّها فيها ، فاطمأنت العين أن يضاف إليها فعل ، فكانت راضية بما يظهر فيها وعنها ) باعتبار قربي الفرض والنفل ( من أفعال ربّها ، مرضيّة تلك الأفعال لأنّ كل فاعل وصانع راض عن فعله وصنعته ، فإنّه وفّى فعله وصنعته حقّ ما هي عليه ) .
وذلك لأنّ كل فعل من الصانع الحكيم لا بدّ وأن تكون له غاية كماليّة تترتّب عليه ، فذلك الترتّب على الوجه الأتقن الأحكم هو التوفية المستلزمة للرضا عند عثور الصانع عليها ، فالعين إذا اطمأنّت عن إضافة ما ظهر فيها وعنها إليها وسكنت في مستقرّ عدميّتها : كانت راضية عن أفعال ربّها من حيث ظهورها عنها ، مرضية تلك الأفعال بالترتيب المذكور ، والعثور من حيث الإظهار .
وإلى ذينك الظهور والإظهار أشار قوله تعالى: ("أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ُ ثُمَّ هَدى" [ 20 / 50 ] ، أي بيّن أنّه أعطى كلّ شيء خلقه ) وأظهر وفاء بكمال الظهور والإظهار ، ( فلا يقبل ) خلق الأشياء كلَّها ( النقص ولا الزيادة ) لأنّه لو قبل شيئا منهما ما كان وافيا بتمام الخلق .
( فكان إسماعيل بعثوره على ما ذكرناه ) من أنّ الكل مرضي موفي حقّه ( عند ربّه مرضيّا ) بظهور آثاره الكماليّة فيه ، وهو العلم والعثور المذكور ، ( وكذا كلّ موجود عند ربّه مرضيّ ) بظهور أثره الخاص به منه ، فيكون الكلّ مرضيّا وسعيدا عند ربّه .

الشقيّ ومغضوب عليه
وإذ قد استشعر أن يقال : « فلا يكون للشقاوة والغضب حكم ، ولا يكون شقيّ ولا مغضوب أصلا » ، أشار إلى منشأ تلك التفرقة بقوله : ( ولا يلزم إذا كان كلّ موجود عند ربّه مرضيّا - على ما بيّناه - أن يكون مرضيّا عند ربّ عبد آخر ) ، فإنّ المرضيّ عند ربّ عبد الهادي ، غير مرضيّ عند ربّ عبد المضلّ ، وكذا السعيد عند عبد الرحيم شقيّ عند عبد القاهر .
إذ الأرباب متقابلة الأحكام والآثار ( لأنّه ) أي العبد ( ما أخذ الربوبيّة إلَّا من كلّ ) في حضرة تفرقة الأسماء ( لا من واحد ) في حضرة الجمعيّة ( فما تعيّن له ) - أي للعبد الذي أخذ رقيقة الربوبيّة أولا ( من الكلّ إلَّا ما يناسبه ) بحسب الأحكام والآثار فكلّ عبد يصدر منه حكم يناسب اسما من الأسماء المتقابلة ( فهو ربّه ) لأنّ العبد إنّما يأخذ الربّ من الكلّ ( ولا يأخذه أحد من حيث أحديّته ) .
( ولهذا منع أهل الله التجلَّي في الأحديّة ، فإنّك إن نظرته به ، فهو الناظر نفسه ، فما زال ناظرا نفسه بنفسه ، وإن نظرته بك ، فزالت الأحديّة بك ) لاستلزامه النسبة ، ( وإن نظرته به وبك ، فزالت الأحديّة أيضا ، لأنّ ضمير التاء في « نظرته » ما هو عين المنظور ) - الذي هو الهاء - ( فلا بدّ من وجود نسبة ما ، اقتضت أمرين : ناظرا ومنظورا فزالت الأحديّة ) هذا كلَّه إذا كان الناظر أنت ، ( وإن كان) الناظر هو و ( لم ير إلَّا نفسه بنفسه ، ومعلوم أنّه في هذا الوصف ناظر منظور ) معا ، مندمج حكم أحدهما في الآخر ، فلا يكون ناظرا ولا منظورا .

وإذا تبيّن أنّ الأحديّة مما لا يكاد يصلح لأن يكون موطن الناظريّة والمنظوريّة ، ولا غيرها من النسب ذات الثنوية والتقابل - كالراضي والمرضي - فلا يكون المرضي المطلق هو العبد الذي ينتسب إليها إلَّا بعد أن اطمأنّ عن الإضافة والتعمّل كما سبق .
( فالمرضيّ لا يصحّ أن يكون مرضيّا مطلقا ، إلَّا إذا كان جميع ما يظهر به من فعل الراضي فيه ) غير مشوب بشيء من آثاره الكونيّة التي تنصبغ بها أحكام الربّ ، وتلتبس وتختلط صرافة قابليّته الذاتيّة بتلك الآثار الخارجة ، فتصير حجابا له عن إدراك الأمر على ما عليه وهو إعطاء الربّ كلّ شيء خلقه وتبيينه - الذي هو الهداية .

كان إسماعيل عليه السّلام عند ربّه مرضيّا
( ففضل إسماعيل غيره من الأعيان بما نعته الحقّ به  من كونه عند ربّه مرضيّا) فإنّه هو المرضي المطلق .
( وكذلك كلّ نفس مطمئنّة ) من التصرّف والتعمّل وكلّ ما يظهر بها من خوالص الأعمال والأفعال صافية عن شوائب الامتزاجات الكونيّة وتخلَّصت بذلك من مهاوي البعد إلى مدارج معارج القرب ، حيث وصلت إلى حريم المباسطة ، واستوفزت ببساط المخاطبة و ( قيل لها " ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ"  [ 89 / 27 ]فما أمرها أن ترجع إلَّا إلى ربّها الذي دعاها )
بقوله : " يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ " ، ( فعرفته ) بميامن تلك المقاربة والمخاطبة ربّها الذي دعاها ( من الكلّ " راضِيَةً مَرْضِيَّةً " [ 89 / 28 ] .
وأوّل ما يترتّب على ذلك الدخول في مواطن الخلَّص من المنتسبين إليه بأوثق النسب وأقرب الرقائق ، هو العرفان لربّه الخاصّ به ، فلذلك قال : (" فَادْخُلِي في عِبادِي ") [ 89 / 29 ] بإضافة العباد إلى الياء ، الدالّ على الخصوصيّة التي هي الموطن الأصلي للعبد .
ولذلك قال : (" ارْجِعِي ") ، وإليه أشار بقوله : ( من حيث ما لهم هذا المقام ) على ما هو مقتضى مفهوم الرجوع .

عبد الربّ
( فالعباد المذكورون هنالك كلّ عبد عرف ربّه تعالى واقتصر عليه ولم ينظر إلى ربّ غيره ، مع أحديّة العين لا بدّ من ذلك ) أي الاقتصار على ربّه الخاصّ ، مع أحديّة العين ، وذلك لأنّ مربط رقيقة العبوديّة والربوبيّة إنّما هو حضرة الكلّ - على ما بيّن - وذلك إنّما يقتضي التفرقة في عين الجمعيّة.
وفي لفظ « العبد » ما يلوّح على أنّ العبوديّة عرفان الربّ الخاص مقتصرا عليه ، فإنّ «داله» دالّ على « صاد » الخصوصيّة والاقتصار .

العبد يستر الربّ ويوجد به
ثمّ إنّ العبوديّة بهذا المعنى وإن كانت متضمّنة لعرفان الربّ ، ولكنّها مستلزمة لستره تعالى ، فلذلك قال : ( " وَادْخُلِي جَنَّتِي " [ 89 / 30 ] التي هي ستري ) فإنّ الجنّة فعلة من « الجنّ » وهو الستر ( وليست جنّتي سواك ، فأنت تسترني بذاتك ) لأنّ المظهر من حيث أنّه مظهر ساتر للظاهر فيه بالذات ( فلا اعرف ) وأظهر ، ( إلَّا بك ، كما أنّك لا تكون ) وتوجد ( إلَّا بي ) .
والذي يلوّح عليه أنّ الثنويّة الفرقيّة الخطابيّة التي في الكاف ،  هي مبدأ الإظهار - كلاما كان أو كتابا - كما أنّ الوحدة الجمعيّة التكلَّميّة التي في الياء مبدأ الظهور والوجود ، ولا شك أنّ الأوّل متضمّن للثاني .
ولذلك قال : ( فمن عرفك عرفني ، وأنا لا اعرف) ما دام مستورا في الجنّة حتّى يدخل فيها ( فأنت لا تعرف ) لأنّك عين الجنّة التي إنّما تدخلها بي وبعبادتي ، ( فإذا دخلت جنّته ) على قدم عبوديّتك الإطلاقيّة القرآنيّة ولذلك أتى بضمير الغايب الدالّ على الهويّة  (دخلت نفسك ، فتعرف
نفسك معرفة أخرى ، غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربّك بمعرفتك إيّاها ) عندما دخلت في دار عبوديّتك الأصليّة ، قبل دخولك في جنّته الجمعيّة بقوله تعالى : " فَادْخُلِي في عِبادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي " [ 89 / 30 - 29 ] .
( فتكون ) بدخولك  جنّته ( صاحب معرفتين : معرفة به من حيث أنت ) في مواقف عبوديّتك ، ( ومعرفة به ) مستعينا ( بك من حيث هو - لا من حيث أنت - ) في مواطن جنّته التي دخلتها .

النفس لمن
وقد استشعر صاحب المحبوب من هذه الآية الكريمة لطيفة لا يخلو التعرّض لها من فوائد ، وذلك أنّه نقل عن سهل بن عبد الله التستري قائلا :
قال سهل رحمة الله عليه حين سئل عن النفس : « ليس للمؤمن نفس ، نفس المؤمن دخلت في البيع » ، يعني في الصفقة التي باعها من الله عزّ وجلّ واشتراها منه ، وتلا هذه الآية : " إِنَّ الله اشْتَرى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ " [ 9 / 111 ] .
ثمّ قال : « دع النفس على ربّ النفس ، واعبد ربّ النفس بلا نفس ، واذكره به له عنده ، وفرّ منه به إليه ، واعتكف عنده بلا أنت ، فإذا اهتممت بالدواء عند المرض ، وبالخبز عند الجوع ، وبالشكوى عند الأذيّة : فنفسك باقية ، وأنت بها قائمة » .
قال المؤلَّف لهذه الكلمات والمدرج هذه الإشارات في هذه العبارات .
يعني صاحب المحبوب : « كلام صحيح في مرتبته وفي هيكله وقامته ، لمن انتهى أمره دون قيام قيامته ، والوصول إلى إدراك حقيقته عند بسط سعة ساعته ، فأمّا المؤمن الواصل إلى إدراك حقيقة إيمانه ، الذي سلَّم نفسه إلى الله عزّ وجلّ بنزول آيات الله إليه وبيّناته ، فالنفس له ، وليس لغيره نفس ، لأنّ من لم يسلم نفسه إلى الله سبحانه وتعالى بعد البيع والشراء .
فليست النفس له ، بل هو لنفسه ، ومن سلَّم نفسه إلى الله عزّ وجلّ بعد المبايعة بطيبة نفسه - كنبيّنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم بمقتضى محبّته وصحّة إرادته واستقامة حالته ، ومن هو قريب المعنى من حالته وفعاله ومقالته ، فالنفس له ، لأنّ بالبيع والشراء وتسليم النفس إلى الله سبحانه وتعالى صارت النفس نفس الله فصارت الرحمة مكتوبة عليها .
فانصبغت النفس المضافة إلى الله بصبغته ، فصارت مفروغة في قالب فطرته ، وتحمّلت مقادير خطَّه وكتابته ، فظهرت بذلك ، وظهرت في ذلك ، وقربت هنالك وصارت نقيّة بيضاء ، مغسولة في أبحر نوره بماء الرحمة ، ساكنة ببرد اليقين ، مطمئنّة أمينة ، فأخذ الله إيّاها باليمين مطمئنّة معطرة بنفس روح القدس والروح الأمين ، أدرج الله سبحانه وتعالى فيها بهذه الحكمة .
الجنّة ، وجودها وقصورها وغلمانها وولدانها ومقامها الأمين ، وجعل بفضل رحمته وجهه تعالى في رضوانه على المدرج دليلا ، وفي المخرج والمدخل ظلا ممدودا وظلَّا ظليلا ، وكمّل نعمته فيها لعبده المؤمن قليلا قليلا وفتح له منهاجا وسبيلا ، وأدخله في عدن وهو مقصورة الرحمن ، الذي أجرى منها زنجبيلا وسلسبيلا ، وعند إكمال الله تعالى هذه النفس ، وإنزاله العكس ، ملَّكها للمؤمن - الذي هو ربّها - تمليكا صريحا صحيحا جزيلا .
وعند ذلك خاطب النفس وقال : " يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي في عِبادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي " [ 89 / 30 - 27 ].
وإنّي إنّما ذكرت هذه الكلمات ، ونقلت هذه الإشارات - على أنّي بمعزل عن حكايات الزبر السالفة ، وتسطير أساطيرها الماضية - تلميظا لأهل الذوق من الطالبين خصائص موائد المحبوب ، وتحريضا لهم في الاغتذاء منها والاحتظاء بها .
ثمّ إذا تقرّر أنّ العارف بالمعرفتين هو أنت - من حيث هو كانت ، أو من حيث أنت - قال بلسان الجمع والإجمال نظما :
( فأنت عبد ، وأنت ربّ   .....  لمن له فيه أنت عبد )
هذا بحسب المعرفة الأولى التي أنت ثابت في مواقف عبوديّتك ، وأمّا بحسب المعرفة الثانية ، التي أنت في مواطن جنّة ربوبيّته ، فقوله   :
( وأنت ربّ ، وأنت عبد  .... لمن له في الخطاب عهد )
وهو عهد " أَلَسْتُ بربكم " أعني عهد كمال الإظهار في الحضرة الأسمائيّة المترتّب على كمال الظهور ، على ما هو مؤدّى أمر " كُنْ " وهذه عقيدة اولي الألباب من أرباب الإطلاق .
فأمّا أرباب العقائد الجزئيّة :
( فكلّ عقد ) أي اعتقاد  (عليه شخص  .... يحلَّه من سواه) فهو (عقد)  أي قيد لا يرتجى انشراح الصدر من ذلك الاعتقاد ، ويمكن أن يجعل « من سواه » على تركيب الجار ومجروره ، فحينئذ يكون « العقد » فاعل « يحلَّه » ولا حاجة إلى التقدير .
وعلى التقديرين يلزم أن يكون صاحب الاعتقاد له جهتان في ذلك العقد إحداهما كونه حلَّا لعقد ذي اعتقاد آخر ، وأخرى كونه نفس العقد والأولى منهما بإزاء جهة الربوبيّة لأرباب الكشف والانشراح والثانية بإزاء جهة العبوديّة منهم فالعبد لا يخلو عن الجهتين قطَّ .


ما في الوجود غير حقيقة واحدة  
ثم إذ قد انساق الكلام إلى هذه الذوق الكمالي - الذي دون حيطته كل اعتقاد وذوق - عاد يتكلَّم في المبحث بمقتضاه مما يكشف عن تمام التوحيد المنبئ عن التشبيه والتنزيه معا فيما هو بصدد تبيينه ممّا يختصّ بنيله إسماعيل ، من الرضا وصدق الوعد - على ما أخبر عنه التنزيل - قائلا : ( فرضي الله عن عبيده ) إذ عرفوا أربابهم خصوصيّاتهم الكماليّة وإتيانهم بمقتضاها ، ( فهم مرضيّون ورضوا عنه ) كلَّهم ( فهو مرضيّ فتقابلت الحضرتان ، تقابل الأمثال ) من حيث أنّهما راضيان مرضيّان ( والأمثال أضداد ، لأنّ المثلين ) حقيقة ( لا يجتمعان ) وهما وجوديان ، وإلَّا لم يكونا مثلين ، وكل أمرين شأنهما ذلك فهما ضدّان .
وإنّما قلنا « أنهما لا يجتمعان » ( إذ لا يتميّزان ، وما ثمّ إلَّا متميّز ) أي عند الاجتماع لا بدّ من التمييز ، وإلَّا يكون اتّحادا ، لا اجتماعا .
( فما ثمّ ) أي في الحضرات الإلهيّة والكيانيّة ( مثل، فما في الوجود مثل، فما في الوجود ضدّ) سواء كان ذلك الضدّية على طريق المماثلة أو على سبيل المنافاة والمباينة ، فإنّك قد عرفت أنّ غاية البعد والمباينة إنّما تنتهي إلى المقاربة وعدم الامتياز ، بناء على الأصل الممهّد من تمام كلّ شيء في مقابله  .
( فإنّ الوجود حقيقة واحد ) على ما مرّ غير مرّة - عقلا وبرهانا ، ذوقا وعيانا - ( والشيء لا يضادّ نفسه ) .
ولا ريب أنّه إذا كان الحضرتان المتماثلتان من العبيد - بالمعنى الذي بيّنه - والإله : هو موطن ذوق إسماعيل ومن تقرّبه من ذوي النفوس المطمئنّة ، وقد آلت المماثلة على ما حقّق أمرها إلى الوحدة الحقيقيّة التي لا مجال للثنويّة أصلا أن يحوم حول حماها :
( فلم يبق ) في مطمح شهودهم ذلك ( إلا الحقّ ) الوجود الواحد .
( لم يبق ) في ذلك ( كائن ) من الكيان الإمكانيّة التي هي مبدأ التفرقة ومنشأ الكثرة .
( فما ثمّ موصول ، وما ثمّ بائن ) ضرورة أنّ تحقّقهما موقوف على وجود ثنويّة الحجب وتفرقة البعد والقرب .
( بذا جاء برهان العيان ) وحجج الذوق والوجدان ، لا برهان النظر ودلائل العقل والفكر ولذلك قال : ( فما أرى بعيني إلَّا عينه إذ أعاين) معا  إذ المعاينة هي مقابلة العين بالعين وإدراكه به ، وذلك بأن يدرك بالعين عين الشيء الذي منه يتقوّم ويتعيّن معناه ، لا كونه الذي به يتصوّر صورته .

رؤية الوحدة والكثرة في الوجود
ثمّ لما بيّن في مبحثه هذا طرف التشبيه والإجمال ، الذي هي إحدى كفّتي ميزان بيان التوحيد - على ما أنزل إليه جوامع الكلم الختميّة - لا بدّ وأن يعادله بطرف التنزيه والتفصيل ، معتصما في ذلك كلَّه لوثائق التنزيل الختمي وتأويله قائلا : ( " ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه ُ " ) [ 98 / 8 ] .
أي ذلك المماثلة من الحضرتين - الكاشفة عن الوحدة الحقيقيّة الوجوديّة ، الرافعة للكثرة الحاجبة الكونيّة لمن خشي ربّه - ( أن يكونه ) فارقا في عين تلك الجمعيّة ، حتى يكون توحيده ذاتيّا ، وتحقّقه بالوحدة الحقيقيّة الذاتيّة ، لا الوحدة الرسميّة الوصفيّة - التي في مقابلتها الكثرة ، فلا يحيط بها ولا يجامعها ، بل يعاندها وينافيها .
وذلك الخشية والتفرقة ( لعلمه بالتمييز ) بين الأعيان وتفاوت أقدارهم في مراتب إدراكاتهم ونيّاتهم ( دلَّنا على ذلك جهل أعيان في الوجود بما أتى به عالم . فقد وقع التمييز بين العبيد ) .
بذلك ( فقد وقع التمييز بين الأرباب ولو لم يقع التمييز ) بين الأرباب ، ويكون الكلّ في حضرة الأسماء واحدا ( لفسّر الاسم الواحد الإلهي من جميع وجوهه بما يفسّر به الآخر ) حيث لا تفرقة بينهما بوجه من تلك الوجوه ( والمعزّ لا يفسّر بتفسير المذلّ ) ولا الهادي بالمضلّ ( إلى مثل ذلك ) .
وهذه التفرقة والتفصيل بين كلّ اسم ومقابله إنّما هو في حضرة الكلّ الذي بها مربط رقيقة العبوديّة والربوبيّة ، ( ولكنّه هو من وجه الأحديّة ، كما يقول : كلّ اسم ، إنّه دليل على الذات وعلى حقيقته من حيث هو ) أي من حيث ذلك الاسم بعينه ، وهو ظرف اسميّته وخصوصيّته الممتازة بها عن مسمّاه .
فالكلّ من حيث دلالته على الذات المسمّاة واحد ، فإنّ الأسماء وإن تكثّرت في حضرة الكلّ باعتبار حقائقها من حيث هي ( فالمسمّى واحد فالمعزّ هو المذلّ من حيث المسمّى ، والمعزّ ليس المذلّ من حيث نفسه وحقيقته ) يعني من حيث ظاهر الاسم الذي به اسميّته ،وهو الصفة.
وإذ قد تقرّر أنّ مدرك الظاهر من كلّ شيء هو الفهم قال : ( فإنّ المفهوم يختلف في الفهم في كلّ واحد منهما ) ضرورة أنّ ما فهم من مصدر " الإعزاز " مخالف لما فهم من مصدر « الإذلال » ، وإن كان واحدا في الخارج والوجود كالضاحك والناطق للإنسان .

محصّل الكلام في التوحيد
ثمّ إذا عرفت أنّ الأمر في التوحيد الختمي القرآني هو الجمع الأحدي :
( فلا تنظر إلى الحقّ  ..... وتعريه عن الخلق )
حتّى تشاهد ظاهريّته في عين الباطن .
( ولا تنظر إلى الخلق ....  وتكسوه سوى الحق)
حتّى تشاهد باطنيّته في عين الظاهر ، بناء على أنّ المنظور أوّلا هو الظاهر .
( ونزّهه وشبّهه و ..... قم في مقعد الصدق )
جامعا بين المتقابلين : نزّهه وشبّهه عقلا وعينا ، وقم في مقعد الصدق ذاتا وفعلا ، ثمّ فصّل ذلك بقوله :
( وكن في الجمع إن شئت  ..... وإن شئت ففي الفرق )
وكن في الجمع قاعدا في مقعد التشبيه قائما في معبد التنزيه .
ثمّ إن تكن في الموطن الجمعي القرآني قادرا على طرفيه بحسب مشيّتك سواء :
( تحز بالكلّ ، إن كلّ   .... تبدّى - قصب السبق )
أي تحز قصب السبق بالكلّ إن كلّ تبدّى لك ، بحيث لا تحتجب بأحدهما عن الآخر .
( فلا تفنى ) حينئذ عن نفسك - كما هو عقيدة الصوفيّة الرسميّة –
( ولا تبقى  بالبقاء الحقّي  .... ولا تفني غيرك بالإرشاد )
( ولا تبقي )
(ولا يلقى عليك الوحي   ..... في غير ) من غيرك
( ولا يلقى ) منك إلى الغير ، بل الأمر كلَّه منك إليك .

تحقيق في الوعد والوعيد الإلهي
ثمّ إنّ من جملة ما يختصّ به إسماعيل أنّه كان صادق الوعد ، فإذ قد فرغ من بحث الرضا ، أخذ فيه قائلا :
( الثناء بصدق الوعد ، لا بصدق الوعيد ) وذلك أنّ الثناء المحمود إنّما تقتضي الظهور والانبساط واللطف - على ما لا يخفى على الواقف لما سلف في تحقيق معنى الحمد - وصدق الوعيد إنّما يستدعي الخفاء والانقباض والقهر .
( والحضرة الإلهيّة تطلب الثناء المحمود بالذات ) فإنّ الإله ما لم يظهر ويعبد لم يكن إلها ،
( فيثنى عليها بصدق الوعد - لا بصدق الوعيد - بل بالتجاوز ) .
حيث قال : ( " فَلا تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِه ِ رُسُلَه " [ 14 / 47 ] ولم يقل : « ووعيده » ، بل قال فيه : ( " وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ "  [ 46 / 16 ] ) .
مع أنّه توعّد على ذلك .
( فأثنى على إسماعيل ) جريا على ما عليه الكمال الإلهي الوجودي( بـ " إِنَّه ُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ " ) [ 19 / 54 ] مع إمكان عينه وما يطلبه بالذات من الأوصاف العدميّة المذمومة ( وقد زال الإمكان في حقّ الحقّ لما فيه من طلب المرجّح) .
( فلم يبق إلَّا صادق الوعد وحده ) فإنّ صدق الوعيد ينفيه  الثناء المحمود الذي هو مقتضى الوجوب الذاتي.
( وما لوعيد الحقّ عين تعاين ) على ما ينادي عليه النصوص الجليّة كقوله : " ذلِكَ يُخَوِّفُ الله به عِبادَه ُ " [ 39 / 16 ] ، " وَما نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً " [ 17 / 59 ] - إلى غير ذلك - مؤيّدة بالبراهين العقليّة الذوقيّة .
وما قيل هاهنا : - « إنّه بحسب ما يؤول إليه الأمر ، فإنّ أهل النار إذا دخلوها وتسلَّط العذاب على ظواهرهم وبواطنهم ملكهم الجزع والاضطراب ، فيكفّر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، متخاصمين متقاولين - كما نطق به كلام الله في مواضع - وقد " أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها " [ 18 / 29 ] ]  وطلبوا أن يخفّف عنهم العذاب - كما حكى الله عنهم بقولهم : " يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ " [ 43 / 77 ] .
أو أن يرجعوا إلى الدنيا - فلم يجابوا إلى طلباتهم ، بل أخبروا بقوله : " لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ " [ 3 / 88 ] ، وخوطبوا بمثل  قوله :" إِنَّكُمْ ماكِثُونَ " [ 43 / 77 ] ، " اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ " [ 23 / 108 ] فلمّا يئسوا ووطَّنوا أنفسهم على العذاب والمكث على مرّ السنين والأحقاب ، فعند ذلك رفع العذاب عن بواطنهم » - فكلام من ليس له ذائقة إدراك الحقائق كما هي .
فإنّ ذلك التكفير والاضطراب والملاعنة والمخاطبة كلَّها موائد استلذاذهم الخاصّة ، التي ليس لأحد أن يحوم حولها ، أو يروم نيلها ، كما قال أبو يزيد فيه  :
فكلّ مآربي قد نلت منها   ..... سوى ملذوذ وجدي بالعقاب
وإليه أشار شرف الدين ابن الفارض بقوله :
وإن فتن النسّاك بعض محاسن   ...... لديك ، فكلّ منك موضع فتنة
وكذلك سؤالهم المالك " لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ " [ 43 / 77 ] وعدم جوابهم تارة وإخبارهم بعدم التخفيف عنهم أخرى وخطابهم بالمكث والخساء ، كل ذلك نعم يتنعّمون بها ، كما قال الشيباني :  
جوروا وصدّوا واهجروا مضناكم   ..... وتباعدوا ما شئتم وتجنّبوا
فالجور عدل منكم ، وصدودكم     ...... وصل ، وبعدكم لديّ تقرّب

وإنّما يعرف هذا من خلصت له مشارب عبوديّته عن شوائب التعمّلات الإمكانيّة ، والتسبّبات الكيانيّة ، وحصلت له بذلك نسبة المحبّة المشعرة لإدراك ذلك ووجده وذوقه :
فقل لقتيل الحبّ ، وفّيت حقّه  .... وللمدعي هيهات ما الكحل الكحل
والذي أوهم البعض أنّها ليست بنعيم : أنّ صورتها مباينة لصور نعيم الجنان ، الذي قصر مدارك  استلذاذهم عليها ، وإلى دفع ذلك أشار بقوله :
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... .. وما لوجود الحق عين تعاين
فإن دخلوا دار الشقاء فإنهم ... ... على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد ...   ... وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة طعمه ... ...  وذاك له كالقشر والقشر صاين
من حيث أنّه مبدأ اللذة ...... وبينهما عند التجلَّي )
بحسب مدارك الأقوام ومراتب أفهامهم ( تباين ) حيث أنّ كلَّا منهم لا يدرك نعيم الآخر .
ولذلك يسمّى الأوّل بالنعيم والآخر بالعذاب ، إبانة لحكم تلك المباينة الموهومة ولكنّ الأمر في نفسه واحد ، فإنّ العذاب أيضا نعيم يستلذّ به أهله .
(يسمّى عذابا من عذوبة طعمه وذاك ) التخصيص والتسمية الموهمة للاختلاف ( له ) أي لنعيم دار الشقاء ( كالقشر ، والقشر صائن ) يصونه عن غير أهله .
وعن أن يوصل إليه ويدرك مغزاه في غير أوانه ، فإنّه إنّما يصل إلى ذلك أولو الألباب في أوان ظهورها للأفهام ، وبروزها عن الأكمام يوم تبلى السرائر ، وأمّا الظاهريّون من أهل القشر وذويه ، فليس لهم منه غير معنى التعذيب والتأليم ، الذي هو ظاهر اسمه .

التمهيد للفصّ الآتي
ثمّ ليعلم أنّ مادة الروح بجواهر حروفها  تدلّ على مبدأ الانبساط ومصدر اللطف والانتشار - كالروح والروح والريح والراح .
وإذ قد كان الكلمة اليعقوبيّة بين آباء هذه السلسلة هي مبدأ الانبساط الزائد الاثني عشري واللطف الكمالي اليوسفي :  خصّصها بالحكمة الروحيّة قائلا :
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 08 - فصّ حكمة روحيّة في كلمة يعقوبيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 12:43 pm

08 - فصّ حكمة روحيّة في كلمة يعقوبيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليعقوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
08 - فصّ حكمة روحيّة في كلمة يعقوبيّة
ولذلك قال تعالى على لسانه : " لا تَيْأَسُوا من رَوْحِ الله " [ 12 / 87 ] ، و " إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ "  [ 12 / 94 ] .
وبيّن أنّ أتمّ ما يظهر به الانبساط الوجودي المستتبع للطائف العلميّة هي الأوضاع الدينيّة والأحكام الشرعيّة ، فإنّها مع كونها هي المقوّمة للصورة الانبساطيّة ، والهيئة الجمعيّة الانتظاميّة التي بها قامت العين في الخارج متشخّصة بالفعل ، منطوية أيضا على جملة من الحقائق ، كاشفة عنها ، لذلك أخذ في هذا الفصّ يبيّن أمر الدين بأقسامه وأحكامه ، في قوله :

الدين دينان
قال رضي الله عنه : (الدين دينان : دين عند الله وعند من عرّفه الحقّ) بوسيلة الوحي من الأنبياء والرسل ،(ومن عرّفه من عرّفه الحقّ ) بوسيلة الفكر والإلهام ، والكشف من الوارثين لهم .
قال رضي الله عنه : ( ودين عند الخلق ) مما واطأ عليه خيار الناس وحكماؤهم من الأوضاع المستحسنة المستجلبة للمكارم ، الموافقة للحكم الخاصّة ، المطابقة لمصلحة العامّة ، ( وقد اعتبره الله ) بلسان الخاتم صلى الله عليه وسلم، المعرب عن الحكم والمصالح كلَّها ، فإنّه ما لم يعتبره كذلك فهو من العادات الرديئة المردية التي تتبعها الغواشي المظلمة المضلَّة .
"إشارة إلى الآية الكريمة : " وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّه ِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ" [الحديد : 27].
قال رضي الله عنه : ( فالدين الذي عند الله هو الذي اصطفاه الله وأعطاه الرتبة العليّة على دين الخلق .
فقال تعالى : " وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) ".سورة البقرة
(بيّن أوضاعكم المرغوبة وعاداتكم المطبوعة من أفعالكم الاختياريّة ، التي تخرجكم عن مشتهياتكم المتفرقة وتجمعكم فيها جمعا " فَلا تَمُوتُنَّ " اختياريّا كان بالفطام عن تلك العادات ، أو اضطراريّا بالانفطام عن مطلق الطبيعيّات وانقطاع أحكامها" إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " [ البقرة: 123 ].
( أي منقادون إليه ) ظاهرا بلزوم الاعتقاد والإخلاص فيه ، وإلزام الجوارح بالعكوف على مقتضاه ، وباطنا بالتدبّر في جزئيّات أوضاعه واستكشاف لطائف المعارف ودقائق الحقائق منها جملة كافية .
قال رضي الله عنه : ( وجاء « الدين » بالألف واللام للتعريف والعهد ، فهو دين معروف معلوم ) ضرورة أنّ الغاية التي هي الحقيقة الآدميّة لما كانت معلومة معروفة في الأزل .
فكذلك الطريقة الموصلة إياها إلى كمالها المتمّمة لها ، لا بدّ وأن تكون معلومة معروفة ، وإلى ذلك في القرآن الكريم إشارة : ( وهو قوله تعالى : " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ " [ 3 / 19 ] وهو الانقياد ) - كما عرفت - ظاهرا وباطنا .
قال رضي الله عنه : ( فالدين عبارة عن انقيادك والذي من عند الله هو الشرع الذي انقدت أنت إليه ) ، فالانتساب إليه تعالى هو الذي يسمّيه الشرع ، وإلَّا ( فالدين الانقياد والناموس ) أي المستور المضنون به على غير الكمّل ، فإنّ ناموس الرجل هو صاحب سرّه الذي يخصّه بما يستره عن غيره .
وذلك ( هو الشرع الذي شرّعه الله ) للعامّة بحسب التعلَّق به أفعالا ، وللخاصّة بحسب التعلَّق والتخلَّق أفعالا وأوصافا ، ولخلَّص الخاصّة بحسب التعلَّق والتخلَّق والتحقّق أفعالا وأوصافا واستكشافا عمّا ينطويه من الحقائق المضنون بها.
قال رضي الله عنه : ( فمن اتّصف بالانقياد لما شرّعه الله له فذلك الذي قام بالدين وأقامه - أي : أنشأه - كما تقيم الصلاة ) فإنّ الإذعان والانقياد إنّما هو إعداد الجوارح والقوى الفعّالة لارتكاب الواجبات والكفّ عن المحرّمات ، وليس ذلك سوى فعل من أفعال العبد .
( فالعبد هو المنشئ للدين ، والحقّ هو الواضع للأحكام ) من الوجوب والتحريم ، المستدعي للإتيان أو الكفّ ، ( والانقياد ) والإذعان لهما ( عين فعلك فالدين من فعلك ، فما سعدت ) واتّصفت بكمال العبوديّة ( إلَّا بما كان منك ) .

قال رضي الله عنه : ( فكما أثبت السعادة ) التي هي كمال العبوديّة ( لك ما كان فعلك ، كذلك ما أثبت الأسماء الإلهيّة ) التي هي كمال الالوهيّة الأسمائيّة ( إلَّا أفعاله ، وهي أنت ) يعني العين باعتبار تفرقته في ثنويّة الخطاب وثبوته فيه عيانا ( وهي المحدثات ) .
قال رضي الله عنه : ( فبآثاره سمّي إلها ، وبآثارك سمّيت سعيدا ، فأنزلك الله منزلته إذا أقمت الدين ، وأنقدت إلى ما شرّعه لك ) فكمّلت نفسك بأفعالك ، كما كمّل الله نفسه بك وهو عين فعله ( وسأبسط في ذلك - إن شاء الله - ما تقع به الفائدة بعد أن تبيّن الدين الذي عند الخلق ، الذي اعتبره الله ) فهو أيضا لله .
( فالدين كلَّه لله ، وكلَّه منك ) - لأنّه فعلك - ( لا منه ، إلَّا بحكم الأصالة ) ، فإنّ الكلّ بذلك الحكم  منه إليه " كُلٌّ من عِنْدِ الله "، لا تفرقة هناك أصلا .

الدين الذي وضعه الخلق واعتبره الله تعالى
وأمّا بيان اعتباره تعالى ذلك الدين : فإنّه ( قال تعالى " وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها " [ الحديد : 27 ] ، وهي النواميس الحكميّة ) والأسرار المضنونة الخاصّة ،( التي لم يجيء الرسول المعلوم بها ) - أي لم يجيء بتلك النواميس ( في العامّة من عند الله ) .
ولا يتوهّم أنّ عدم مجيء الرسول بها مطلقا ، بل ( بالطريقة الخاصّة المعلومة في العرف ) الشرعي التي هو مسلك أئمّة الفقهاء والمجتهدين في استنباط الأحكام فإنّ الرسول الخاتم عند التحقيق لا بدّ وأن يجيء بسائر الأسرار والحكم كما سلف بيانه ولكن لا على الطريقة المعلومة في العرف العاميّ لعدم بلوغ مدارك أهل ذلك العرف إليه .
ولا بدّ له من التنزّل إلى مقامهم ، والتكلَّم على مقادير عقولهم وأفهامهم ، وعلى ذلك العرف
قال رضي الله عنه :  : ( فلمّا وافقت الحكمة والمصلحة الظاهرة فيها الحكم الإلهي في المقصود بالوضع المشروع الإلهي ) وهو الانتهاج إلى الغاية الكماليّة ، أعني النظم الوجودي والسلوك الشهودي الذي هو وجهة الحركة الكماليّة الإنسانيّة.
قال رضي الله عنه : ( اعتبرها الله اعتبار ما شرّعه من عنده تعالى ، وما كتبها الله عليهم ) كتابة إلزام وإيجاب - لما عرفت آنفا -
( ولما فتح الله بينه وبين قلوبهم باب العناية والرحمة من حيث لا يشعرون ) مورد ذلك الرحمة ، ولا مصدر تلك العناية فإنّهم رأوا أن المعارف والعلوم إنّما استحصلوها من الفكر والنظر ، وليس للانتساب بالكمّل من الورثة الختميّة التي للأنبياء والأولياء له دخل في ذلك وقد اقتبس هذا المعنى من قوله تعالى :" وَجَعَلْنا في قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوه ُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها " [ الحديد : 27 ] .
قال رضي الله عنه : ( جعل في قلوبهم تعظيم ما شرّعوه ، يطلبون بذلك رضوان الله على غير الطريقة النبويّة ) الموضوعة للعامّة ، ليكون شكرا وفاقا ، بإزاء تلك العناية الخاصّة الخفيّة عندهم مورد نزولها وفيضانها .
فإنّ ذلك عبادة زائدة - على ما ألزمهم بها - من عند أنفسهم تبرّعا ، كسنن المتصوّفة من الإسلاميّين وغيرهم من سائر الملل.
ولذلك وصف الطريقة المذكورة في أكثر النسخ بقوله : ( المعروفة بالتعريف الإلهي فقال ) مفصحا عن ذلك المعنى : ( " فَما رَعَوْها " هؤلاء الذين شرّعوها ) - بوضعهم تلك الرهبانيّة الناموسيّة - ( وشرّعت لهم ) بالتزام أحكامها - ( " حَقَّ رِعايَتِها " . " إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ الله " ولذلك اعتقدوا ) الرضوان برعاية تلك الرهبانيّة .
فتكون الاستثناء على هذا التقدير متّصلا ، ففسّر الآية على المعنى إظهارا لذلك ، فإنّ ظاهر الآية  على ما عليه العامة أنّ الاستثناء منقطع والمعنى على ذلك أيضا مشوّش ، فلذلك عدل عمّا هو الظاهر من التركيب ، وجعل الاستثناء عن قوله " فَما رَعَوْها " مع تقدّمه ، فإنّ ذلك غير بعيد على قانون ذوي الألباب ، الذين لا يلتفتون إلى الرسوم الاصطلاحيّة الجعليّة .
( " فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا " بها " مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ " ) وهو الرضوان ، ( " وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ " أي من هؤلاء الذين شرّع فيهم هذه العبادة " فاسِقُونَ "  [ الحديد : 27 ] أي خارجون عن الانقياد إليها والقيام بحقّها .
(ومن لم ينقد إليها لم ينقد إليه مشرّعه بما يرضيه لكن الأمر ) على ما عليه حقيقته في نفسه ( يقتضي الانقياد ) ، إذ لا يلزم من عدم انقياد المشرّع إليه بما يرضيه عدم انقياده إليه مطلقا ، فإنّه لا بدّ للأمر مطلقا من الانقياد .

الدين هو الجزاء
قال رضي الله عنه : ( وبيانه أنّ المكلَّف إمّا منقاد بالموافقة ، وإمّا مخالف فالموافق المطيع لا كلام فيه لبيانه ) وظهور أمره ( وأمّا المخالف : فإنّه يطلب بخلافه الحاكم عليه من الله ) - فإنّ الحكم إنّما هو لصرافة القابليّة الأصليّة الذاتيّة كما سبق تحقيقه .
( أحد الأمرين : إمّا التجاوز والعفو ، وإمّا الأخذ على ذلك . ولا بدّ من أحدهما ، لأنّ الأمر حقّ في نفسه ) وهو يقتضي ذلك ، ومقتضى الحقّ حقّ .
قال رضي الله عنه : ( فعلى كلّ حال - قد صحّ انقياد الحقّ إلى عبده لأفعاله ، وما هو عليه من الحال فالحال هو المؤثّر ، فمن هنا كان الدين جزاء ، أي معاوضة بما يسرّ أو بما لا يسرّ فيما يسرّ " رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه ُ " [ 58 / 22 ] هذا جزاء بما يسر ) للمكلَّف الموافق .
(" وَمن يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْه ُ عَذاباً " [ 25 / 19 ] هذا جزاء بما لا يسرّ ) للمكلَّف المخالف.
(" وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ " [ 46 / 16 ] هذا جزاء ) بما يسرّ للمكلَّف المخالف ( فصحّ أن الدين هو الجزاء ) .
قال رضي الله عنه : (وكما أنّ الدين هو الإسلام ، والإسلام عين الانقياد ، فقد انقاد إلى ما يسرّ وإلى ما لا يسرّ - وهو الجزاء) - فيكون الدين كلا معنييه مرادا ، مستقيما إرادته هاهنا .

لا يصل إلى العبد شيء عن غير ذاته
قال رضي الله عنه : ( هذا لسان الظاهر في هذا الباب ) حيث فصّل المكلَّف ، وقسّم المكلَّفين إلى الموافقين منهم والمخالفين ، وبيّن للكلّ ما لهم من الدين ( وأمّا سرّه وباطنه فإنّه تجلَّى في مرآة وجود الحقّ ، فلا يعود على الممكنات من الحق إلَّا ما تعطيه ذواتهم في أحوالها ) فإنّ المرآة إنّما تعطي ما على الرائي من الأوضاع والهيئات وتحوّلهم في تلك الأوضاع في مراقي السعادة تارة ، ومهاوي الشقاوة أخرى ، بحسب تطوّرهم في الأحوال.
قال رضي الله عنه : ( فإنّ لهم في كلّ حال صورة ، فتختلف صورهم لاختلاف أحوالهم ، فيختلف التجلَّي لاختلاف الحال ، فيقع الأثر في العبد بحسب ما يكون ) عليه بالذات ( فما أعطاه الخير سواه ) .
وإذ قد تقرّر على أصولهم أنّ الشرّ من حيث أنّه شرّ لا يقبل الوجود ، فإنّ ما يقال له « الشرّ » عرفا إنّما هو باعتبار نسبته إلى الخير ومضادّته المظهرة إيّاه - كما قيل: « فبضدّها تتبيّن الأشياء » .
وقال المتنبي:
ونديمهم وبهم عرفنا فَضلهُ ... وبِضدها تتبين الأشياءُ
وينبّه على هذه النكتة حيث قال : ( ولا أعطاه ضدّ الخير غيره ) .
وما قال : « ولا أعطاه الشرّ » فإنّه من حيث هو شرّ غير قابل لأن يكون معطى .
فظهر أنّه لا شيء ممّا هو سبب نعيم العبد وعذابه خارجا عن ذاته .
قال رضي الله عنه : ( بل هو منعم ذاته ومعذّبها ، ولا يذمنّ إلَّا نفسه ، ولا يحمدنّ إلَّا نفسه ، فللَّه الحجّة البالغة في علمه بهم ، إذ العلم يتّبع المعلوم ) .
وهذا السرّ وإن انطوى فيه كثير من متفرّقات أحكام الأكوان ومتوهّمات أعيان عوالم الإمكان ، ولكن ما أفصح عن التوحيد الذاتي خالصا عن شوائب الثنويّة والتقابل حيث أثبت المعلوم بإزاء العالم ، والظلّ بإزاء الشمس ، والكثرة بإزاء الوحدة - فلا بدّ مما يفصح عن ذلك السرّ حتّى يتمّ البيان.
كما  قال العارف التلمساني :
لما انتهت عيني إلى أحبابها ....   شاهدت صرف الراح عين حبابها
"" صرف الراح : كناية عن حضرة الهوية الصرفة المحيطة القاهرة ، وحبابها عن الصور التي تجلت وتصورت بها ""
ثمّ إنّه ما جاوز صاحب المشهد هذا بعد عن مفترق المتقابلين ، وهو المعبّر عنه بـ " قابَ قَوْسَيْنِ " ، والذي يناسب طور كتابه هذا إنّما هو المشهد الختمي ، المعبّر عنه بـ " أَوْ أَدْنى " [ 53 / 9 ] وهو الذي لا تغاير هناك ولا نسبة أصلا ، وإلى ذلك أشار بقوله : ليس في الوجود إلا الحقّ تعالى وتجلَّياته
قال رضي الله عنه : (ثمّ السرّ الذي فوق هذا في مثل هذه المسألة : أنّ الممكنات على أصلها من العدم ، وليس وجود إلَّا وجود الحقّ بصور أحوال ما هي عليه ، أي الممكنات في أنفسها وأعيانها ) .
فلئن قيل : إذا ثبت أنّ الممكنات على عدمها الأصلي ، فكيف يتصوّر لها أحوال يظهر الحقّ بصورها ؟
قلنا  : إنّ الممكنات إذا لوحظت من حيث أنفسها وأعيانها - أي ذواتها  و أصالتها فهي الاعتبارات المسمّاة بالشؤون الذاتيّة ، وهي عين الذات ، وإنّما يقال لها « الممكن » إذا لوحظت خارجة عن الوجود الحقّ ، مقابلة له وكأنّا بيّنا زيادة بيان لهذه المسئلة في كتاب « التمهيد »  فليطالب ثمّة .

الثواب والعقاب
قال رضي الله عنه : ( فقد علمت من يلتذّ ومن يتألَّم ، وما يعقب كلّ حال من الأحوال ، وبه سمّي عقوبة وعقابا ، وهو شائع في الخير والشرّ ،غير أنّ العرف سمّاه في الخير « ثوابا » وفي الشرّ « عقابا ») فإن عقب الشيء آخره ، ولذلك يقال للولد : عقب .
وبهذه النسبة خصّص بحث الدين بالفصّ اليعقوبي ، الذي هو آخر الآباء في هذه السلسلة ، فإنّ « اليعقوب » في أصل اللغة هو ذكر الحجلة لما له من عقب الجري.
"الحجل : طائرٌ في حجم الحمام من رتبة الدَّجاجيّات ، ومنه أنواع عدة ، أحمرُ المنقار والرجلين ، طيَّب اللحم "
 
الدين هو العادة
قال رضي الله عنه : ( وبهذا سمّي - أو شرح الدين ) الذي هو الجزاء - ( بـ « العادة » ، لأنه عاد عليه ما يقتضيه ويطلبه حاله ) من الصور الملائمة وغير الملائمة - على ما سبق تفصيله.
قال رضي الله عنه : ( فالدين : العادة .
قال الشاعر :
كدينك من امّ الحويرث قبلها أي : عادتك .ومعقول العادة أن يعود الأمر بعينه إلى حاله، وهذا) العود بعينه ( ليس ثمّ ) أي في الدين ، ( فإنّ العادة تكرار ) ولا تكرار في الوجود أصلا .
( لكن العادة حقيقة ) بمعنى التكرار ( معقولة ) ، فلا يأباه العقل ظاهرا ، ( والتشابه في الصور موجود ) كما في المتّحدين بالنوع والمتماثلين من أفراده ، فيتصور العادة حينئذ بحقيقتها كما في الأفراد الإنسانيّة مثلا .
قال رضي الله عنه : (فنحن نعلم أنّ زيدا عين عمرو في الإنسانيّة ، وما عادة الإنسانيّة إذ لو عادت تكثّرت) الإنسانيّة ( وهي حقيقة واحدة ) غير متكثّرة ، ( والواحد لا يتكثّر في نفسه ونعلم أن زيدا ليس عين عمرو في الشخصيّة ، فشخص زيد ليس شخص عمرو ، مع تحقيق وجود الشخصيّة بما هي شخصيّة في الاثنين ) أي مع اعتبار معنى التشخّص فيهما ، فإنّه معنى واحد لا تكثّر فيه بنفسه كالحقيقة بعينها .
قال رضي الله عنه : ( فيقول في الحسّ « عادت » لهذا الشبه ) الواقع بينهما من عروض
هذا التشخّص الواحد ، ومن حيث تماثلهما في أصل الحقيقة .
قال رضي الله عنه : ( ونقول في الحكم الصحيح ) العقلي : ( « لم تعد » ) من حيث أنّ العائد بالذات غير البادئ ، على ما دلّ عليه برهان امتناع إعادة المعدوم بعينه .
قال رضي الله عنه : ( فما ثمّ عادة بوجه ، وثمّ عادة بوجه ) فقد جمع في حكمه هذين الطرفين ، وإنّما خصّ ذلك في الحسّ لأنّ مرجع الاشتباه بين المتمايزات ومورده ذلك ، ومن ثمة يرى العقل يغلطه في كثير من المواضع.
ولذلك وصف الحكم العقلي بالصحّة ( كما أنّ ثمّ جزاء بوجه ) حيث أنّ العقاب بما يستعقبه أفعال العبد وأحواله فهو العوض لها وجزاؤها ، ( وما ثمّ جزاء بوجه ) حيث أنّ كلّ حال مستقلّ في طروّها للعبد بنفسها (فإنّ الجزاء أيضا حال في الممكن من أحوال الممكن) ممّا يقتضيها الممكن بذاته ، وهي الأمور المتغايرة بالذات ، فليس بينها ما يستعقب بعضها بعضا ، من النسب الارتباطيّة والرقيقة الاتحاديّة بهذا الاعتبار .
وملخّص هذا الكلام أنّ الدين الذي هو من أحكام الأعيان الممكنة جامع للطرفين ، كالأعيان بعينها ، فإنّها من وجه عدم محض ، ومن وجه آخر أحوال وأحكام يتصوّر بها الوجود ، فلها وجود بهذا الوجه  . 
قال رضي الله عنه : (وهذه مسألة أغفلها علماء هذا الشأن - أي أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي ، لا أنّهم  جهلوها) ، وإلَّا لم يكن لهم علم بالشأن أصلا - وإنّما أغفلوا عن إيضاحها (فإنّها من سرّ القدر المتحكَّم في الخلائق) إذ ما من مخلوق إلَّا وهو مجبور تحت حكم قابليّته الأصليّة الذي يتّبعه التجلَّي .
وأعيان علماء ذلك الشأن ما حكمت قابلياتها وما طلبت ألسنة استعداداتهم إيضاح تلك المسئلة على ما ينبغي .

خدمة الرسل عليهم السّلام
وبيان ذلك ما أشار إليه بقوله : (واعلم أنّه كما يقال في الطبيب : « إنّه خادم الطبيعة »)
فيمن يستعلجه ويعالجه (كذلك يقال في الرسل والورثة) الذين هم العلماء بالشأن المذكور :
قال رضي الله عنه : (انّهم خادمو الأمر الإلهي في العموم) ممّا يتعلَّق بأنفسهم من الأحكام الخاصّة بهم ، ومما يتعلَّق بالأمم المتعلَّقة بهم مما يختصّ بهم (وهم في نفس الأمر خادمو أحوال الممكنات ، وخدمتهم من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم) وباقي الأعيان هم المخدومون في حال ثبوت أعيانهم .
قال رضي الله عنه : (فانظر ما أعجب هذا) حيث وقع أحوال الممكنات مخدومة - وهي خادمة بعينها - وحيث وقع الأشرف خادما ، والأخسّ مخدوما في أصل القابليّة ( إلَّا أن ) لهذه الخدمة تفصيلا لا بدّ من الوقوف عليه عند الاستطلاع لما يراد من هذا البحث هاهنا .
وهو أنّ ( الخادم المطلوب هنا إنّما هو واقف عند مرسوم مخدومه إمّا بالحال أو بالقول .
فإنّ الطبيب إنّما يصحّ أن يقال فيه : ) « إنه بالفعل ( خادم الطبيعة » لو مشى بحكم المساعدة لها ) فيما تريد في إصلاحها حالا أو قولا .
قال رضي الله عنه : ( فإنّ الطبيعة قد أعطت في جسم المريض مزاجا خاصّا به سمّى « مريضا » ، فلو ساعدها الطبيب خدمة ) في إبقاء ذلك المزاج له.
قال رضي الله عنه : ( لزاد في كميّة المرض بها أيضا ، وإنّما يردعها طلبا للصحة ، والصحّة من الطبيعة أيضا بإنشاء مزاج آخر يخالف هذا المزاج ) الذي هو مبدأ الانحراف عن نهج الاستقامة والاعتدال الصحيح .
قال رضي الله عنه : ( فإذن ليس الطبيب بخادم للطبيعة ) مطلقا ( وإنّما هو  خادم لها من
حيث أنّه لا يصلح جسم المريض ولا يغيّر ذلك المزاج الَّا بالطبيعة أيضا ) كما أنّ الخدمة للأعيان الممكنة من أحوال أعيان الرسل .
قال رضي الله عنه : ( ففي حقّها يشفي من وجه خاصّ غير عامّ ) وذلك هو معاونة الطبيعة في إنشاء مزاج يقيمه على إصلاحه واعتداله بالطبيعة ، فخدمته مختصّة بهذا الوجه ( لأنّ العموم لا يصحّ  في مثل هذه المسئلة ) .
قال رضي الله عنه : ( فالطبيب خادم ، لا خادم - أعني للطبيعة - ) فهو أيضا ذو طرفين ( كذلك الرسل والورثة في خدمة الحقّ ) فإنّهم يخدمون الأمر الإلهي لا من جميع الوجوه ، بل من جهة الإصلاح ومساعدته للوصول إلى موقف الإسعاد .
قال رضي الله عنه : ( وأمر الحقّ على وجهين في الحكم في أحوال المكلَّفين ) فإنّه قد سلف لك في مطلع الكتاب أنّ للأمر الإلهي مدرجتين في النزول :
إحداهما من عرش الذات نحو تحصيل الأعيان بلا واسطة الرسل وهو المسمّى بالمشيّئة  والحاصل منه هو الشيء .
والثانية من علم الرسل نحو تبيين أحكام تلك الأعيان وخواصّها ، وهو المسمّى بالتشريع والحاصل منه هو الشرع .
والكل من المدرجة الأولى ، لكن خدمة الأنبياء والرسل إنّما تتعلَّق بما يعرض أحوال المكلَّفين منها من الأحكام ، وخدمتهم أيضا من تلك المدرجة .
وإليه أشار بقوله : ( فيجري الأمر من العبد بحسب ما تقتضيه إرادة الحقّ ، وتتعلَّق إرادة
الحقّ به بحسب ما يقتضي به علم الحقّ على حسب ما أعطاه المعلوم من ذاته ، فما ظهر ) الأمر الحقّ التابع للعلم ( إلَّا بصورته ) أي بصورة المعلوم .

الرسل خادمو الأمر الإلهي ، لا إرادته تعالى
قال رضي الله عنه : ( فالرسول والوارث خادم الأمر الإلهي ) - مما يتعلَّق منه بأحوال المكلفين - ( بالإرادة ) التي ظهرت بذلك الرسول وتعلَّقت به ، لما عرفت من شمول المدرجة الأولى للكلّ ، ( لا خادم الإرادة ) فإنّ الإرادة حكمها شامل للإسعاد والإشقاء ، وخدمة الرسل إنّما تتوجّه نحو إسعاد العبيد والمكلَّفين فقط .
قال رضي الله عنه : ( فهو يردّ عليه به طلبا لسعادة المكلَّف ) كما يردّ الطبيب على الطبيعة بها طلبا لصحّة المستعلج ، أي يردّ على الأمر المراد بذلك الأمر أيضا ، عند النصيحة بكفّهم عمّا يتوجّهون إليه بأنفسهم وذواتهم .
قال رضي الله عنه : ( فلو خدم الإرادة الإلهيّة ما نصح ، وما نصح إلَّا بها - أعني بالإرادة ) كما أنّ الطبيب ما ردّ الطبيعة الخارجة عن الاعتدال في أمزجة المرضى إلَّا بالطبيعة .
قال رضي الله عنه : ( فالرسول والوارث طبيب اخراوي «للنفوس ، منقاد لأمر الله حين أمره ، فينظر في أمره تعالى ، وينظر في إرادته تعالى ، فيراه قد أمره بما يخالف إرادته ، ولا يكون إلَّا ما يريد ، ولهذا كان الأمر ) - أي وقع من الأنبياء أمر أممهم - ( فأراد الأمر فوقع ، وما أراد وقوع ما أمر به بالمأمور ، فلم يقع من المأمور ، فسمّي مخالفة ومعصية ) .
قول رسول الله صلَّى الله عليه وآله : شيبتني سورة هود
( فالرسول مبلَّغ ) للأمر المحتمل لما يوافق الإرادة ويخالفها ، فيسعد ويشقي به  ( ولهذا قال  : « شيّبتنى هود وأخواتها » لما تحوي عليه من قوله : " فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ "  [ 11 / 112 ] ) من وجوب دعوة الأمم كلَّها ، ومن جملتهم من تعلَّقت الإرادة بأن لا يقع منه المأمور به .
فإنّ طلب وقوع المأمور به منه مع مخالفته للمراد ، يكون تكليفا بالمحال وطلبا لما يمتنع حصوله ( فشيّبه " كَما أُمِرْتَ ".
فإنّه لا يدري هل امر بما يوافق الإرادة - فيقع - أو بما يخالف الإرادة  فلا يقع . ولا يعرف أحد حكم الإرادة إلَّا بعد وقوع المراد - إلَّا من كشف الله عين بصيرته ، فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها على ما هي عليه ، فيحكم عند ذلك بما يراه ، وهذا قد يكون لآحاد الناس في أوقات ) صافية لهم ( لا يكون مستصحبا ) في سائر الأوقات .
وليس مما يختصّ بنيله الأنبياء ، فلا يلتفتون إليه كلّ الالتفات فإنّه ليس في معرفة الجزئيّات وتصفّح سماتها من الكمال ما يعتدّ به ولهذا ( قال ) النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم
( " ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ " [ 46 / 9 ] ، فصرّح بالحجاب وليس المقصود إلَّا أن يطَّلع في أمر خاصّ ) من الكمال الذي لا شركة لأحد فيه ( لا غير ) ذلك من المآرب المتنوعة التي لأفراد نوعه .

التمهيد للفصّ اليوسفي الآتي
ثمّ إنّه قد اتّضح لك - حيث تكلَّمنا على كيفيّة نضد الفصوص أنّ الكلمة اليوسفيّة هي التي تمّت بها إحدى الحركات الوجوديّة في هذا النوع الكماليّ الإنسانيّ .

وهي التي تتوجّه فيها نحو ظهور كمالاته الصوريّة التي في مخارج الخارج على المشاعر الشاعرة ، وذلك إنّما يتحقّق بالنور الظاهر بنفسه ، المظهر لسواه ، ولذلك خصّها بالحكمة النوريّة ، فإنّ النور على اصطلاحهم ظاهر الوجود ، فقال :

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 1:01 pm

09 - فصّ حكمة نوريّة في كلمة يوسفيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليوسيفي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
09 - فصّ حكمة نوريّة في كلمة يوسفيّة
ومما يلوّح عليه أنّ التسعة الكماليّة المتبطَّنة في عقد الوجود تراها ظاهرة في " النور" والكلمة ، وهما متطابقان فيه ، متوافقان في إظهار تلك الصورة الكماليّة وإبرازها إلى العيان : وجود ( 19 ) ، نور ( 256 ) ، ون اوا ( 64 ) ، ين ال ( 91 ) ، يوسف ( 11 ) ، ااوين ا ( 69 ) .
ومن هاهنا ترى هذه الحكمة واقعة من النظم في المرتبة التاسعة .

تسمية الفصّ
وبيّن أنّ الحكمة النوريّة كما هي منتهى سرّ الظهور وإبانة الصور في أحد الأبعاد الثلاثة التي عليها بناء نظم الفصوص الحكميّة التي في هذا الكتاب لا بدّ وأن تكون كاشفه عن أمر الإظهار وتبيين المعاني على ما هو بصدده الكلمات الكماليّة النبويّة .
التي هي مظاهر تلك الحكم ، إلَّا أن ذلك الكشف والإظهار إنّما يتصوّر تحقّقه في الصور بحسب عقائد العامّة ، إذا كانت تلك الصور خياليّة محضة في المنام ، دون الحسيّة المشاهدة .
وأمّا عند الخاصّة من المحقّقين فعامّ كما سبق الإيماء إليه في طيّ منظوماته ، وإليه أشار بقوله :

مبادئ الوحي
( هذه الحكمة النوريّة انبساط نورها على حضرة الخيال ) وذلك في أوّل مراتب إظهار النور لطائف المعاني .
ولذلك قال : ( وهو أوّل مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية ) فإنّ الأكثرين عاكفون عليه في استكشاف المعاني ، ما يجاوزون عنه ، سيّما أهل الظاهر ، الذين هم بنات آدم كما سبق تحقيقه  وإليه نبّه بقوله : ( تقول عائشة رضي الله عنها: « أوّل ما بدئ به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من الوحي : الرؤيا الصادقة ، وكان لا يرى رؤيا إلا خرجت ) أي ظهرت في عالم العيان ( "مثل فلق الصبح » ) في الصدق والإبانة .
ولذلك قال : ( تقول : لاخفاء بها ، وإلى هنا بلغ علمها ) أي إلى ظهور رؤياه مثل فلق الصبح بما لا يشك فيه ولا يرتاب ( لا غير ) ذلك من المعاني .

الدنيا منام في منام
(وكانت المدّة له في ذلك ستّة أشهر ، ثمّ جاءه الملك ) ،  وهذا التفصيل من عندها بحسب مبلغ علمها في رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ( وما علمت أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد قال  : « إنّ الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا » ) . 
فتكون الصور المرئيّة في هذا العالم كلَّها مبيّنة للحقائق مثل فلق الصبح في الشهود الختمي ( وكلّ ما يرى في حال النوم  فهو من ذلك القبيل ) مثل فلق الصبح وذلك لأنّ الصورة حيثما كانت مبيّنة للمعاني ، كاشفة عن تفاصيلها سيّما للحضرة الختميّة ( وإن اختلفت الأحوال ) بحسب النوم واليقظة .
( فمضى قولها « ستة أشهر » ) أي مضت المدّة التي حدّتها بحسب علمها الذي مضى حكمها ، فإنّه ما هي مقصورة عليه ( بل عمره كلَّه في الدنيا بتلك المثابة ) هذا كلام وقع في البين .
وقوله  رضي الله عنه : ( إنّما هو منام في منام ) الضمير فيه راجع إلى « كلّ ما يرى في حال النوم » ، أي كلّ ما يرى في حال النوم إنّما هو منام في منام .

قال رضي الله عنه : ( وكلّ ما ورد ) من الصور الحسّية العيانيّة أيضا ( من هذا القبيل ، فهو المسمّى « عالم الخيال » ) لأنّ سلطان الخيال أمره قويّ في العالمين ، والصور متشاكلة متناسبة فيهما ، وأمزجة الرائي بحسب أوقاتها وروابط مناسباتها إلى تلك الصور متفاوتة .
فربّما رأى شيئا في المنام ، أو ورد عليه في القيام على صورة مشاكلة لما عليه في نفس الأمر ، بحسب مناسبته لتلك الصورة المرئيّة مزاجا أو وقتا أو حالا  .

التعبير 
قال رضي الله عنه : ( ولهذا يعبّر ) من الصورة المرئيّة - مثاليّة كانت أو حسّية - إلى الصورة التي عليها في نفس الأمر ، فإنّ الصور كلَّها من الخيال .
ولغرابة هذا الكلام على المدارك احتاج إلى تفسير عالم المثال مطلقا والتعبير عمّا وقع فيه بقوله قال رضي الله عنه : ( أي الأمر الذي هو في نفسه على صورة كذا ظهر في صورة غيرها ، فيجوز العابر من هذه الصورة التي أبصرها النائم إلى صورة ما هو الأمر عليه - إن أصاب ) .
وهذه هي الحكمة النوريّة التي تفرّد بإظهارها الكلمة اليوسفيّة ( كظهور العلم في صورة اللبن ، فعبر في التأويل من صورة اللبن إلى صورة العلم ، فتأوّل أي فآل  مآل هذه الصورة اللبنيّة إلى صورة العلم ) .
ووجه المناسبة بينهما بحسب الأصول الحكميّة : أنّ اللبن مع صفاء جوهره وبياض نوريّته المبين أوّل ما يتغذّى به القوابل في مهد تقدّسها وتنزّهها عن التعمّلات الإمكانيّة والتسبّبات الكونيّة الهيولانيّة ، وهو الذي  يعدّ مزاج الطفل القابل للأغذية المتكثّرة ، فذلك هي الرقيقة الوحدانيّة بين القابل والأكوان المعدّة له أن يتّحد بالكلّ - إعداد العلم للعالم أن يتحد بمعلوماته المتكثّرة.

وأمّا بحسب التلويحات الحرفيّة فهو أنّ ما يستحصل من بيّنات « اللبن » يدلّ على الصحّة التي هي من خواصّ الصور العلميّة ، المطابقة لما في نفس الأمر ، وإذا انضمّ إليها بيّنات عددها يستحصل منه صورة الوضوح التي إنّما يكون للعلم : لبن : أم ا ون 98 ، ادا .


" يعني من « صورة الوضوح » لفظة « الصحو » فان من ( 98 ) يستحصل حرفا الصاد والحاء ، ومن بينات صاد وح يعني ( اد ) و ( ا ) ، وعدد هذه الحروف الثلاثة جمعا هو الستة التي هي عدد الواو ، فإذا انضم الواو إلى ص وح حصل لفظة « صحو » ، والصحو نهاية الظهور الذي يعبّر عنه بالوضوح في عرف العامة ".

أخذ الوحي في حضرة الخيال
هذا ما في عالم المثال من الصور الخياليّة . وأمّا ما في عالم الحسّ منها ، فإليه أشار بقوله :
قال رضي الله عنه : ( ثمّ إنّه صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا أوحي إليه أخذ عن المحسوسات المعتادة ) بجواذب الصور الفائضة عليه ، الشاغلة له عنها ، ( فسجّي وغاب عن الحاضرين عنده ) - سجّيت الثوب على الميّت : إذا مددته عليه ( فإذا سرّي عنه ) أي كشف - ( ردّ ) إلى تلك المحسوسات المعتادة.

قال رضي الله عنه : ( فما أدركه إلَّا في حضرة الخيال ) ، أي ما أدرك الوحي إلَّا في طيّ الصور الخياليّة ، مما لا اعتياد لقواه الحاسّة بها ، كالصور الحرفيّة وتركيباتها المعجزة الفائقة ، وإدراك تلك الصور وإن كان لا يمكن  إلَّا في حضرة الخيال التي هي من عالم المثال ( إلَّا أنّه لا يسمّى نائما ) لعدم تعطيل قواه وتحويلها جملة من هذا العالم إلى عالم المثال .
هذا إذا قوي عليه سلطان الوحي ، بحيث غاب عن المحسوسات .

قال رضي الله عنه : ( وكذلك إذا تمثّل له الملك رجلا ) فيما لم يغب عن تلك المحسوسات ، (فذلك من حضرة الخيال ) أيضا ( فإنّه ليس برجل ) في نفسه ( وإنّما هو ملك ، فدخل في صورة إنسان ، فعبره الناظر العارف حتّى وصل إلى صورته الحقيقيّة ) التي هو عليها في نفسه ( فقال : « هذا جبرئيل أتاكم يعلَّمكم دينكم  ").
قال رضي الله عنه : (وقد قال لهم : « ردّوا عليّ الرجل » فسمّاه ب « الرجل » من أجل الصورة التي ظهر لهم فيها ) تنزّلا إلى مواطن إدراكهم ( ثمّ قال : «هذا جبرئيل» فاعتبر الصورة التي هي مآل هذا الرجل المتخيّل إليها ، فهو صادق في المقالتين ، صدق للعين في العين الحسيّة ) ، لأنّ المحسوس هو المشار إليه بهذا الرجل ، والعين صادقة في إدراكها هذا بأنّه رجل ، ( وصدق في أنّ هذا جبرئيل ، فإنّه جبرئيل بلا شك ) ، فإنّه هو في نفسه .
هذا ما أشار إليه الحضرة الختميّة من الجمعيّة في هذا الموطن .

رؤيا يوسف ووجه تعبيرها
قال رضي الله عنه : (وقال يوسف عليه السّلام : " إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ " [ 12 / 4 ] فرأى إخوته في صورة الكواكب ) لما في متخيّلة يوسف من الاقتداء بأوضاعهم البيّنة الواضحة لديه والاهتداء بنيّرات أعمالهم عنده في ظلمات الغواسق الطبيعيّة والعوائد النفسانيّة.
ثمّ هذا النور تتفاوت أضواء هدايته في متخيّلة يوسف - تفاوت الأنوار الحسّية فيها - فلذلك رأى الإخوة في صورة الكواكب ( ورأى أباه وخالته في صورة الشمس والقمر).

قال رضي الله عنه : ( هذا من جهة يوسف ) وما في متخيّلته من الصورة المناسبة لهم حسب نيّته وخلاصة عقيدته فيهم ، ( ولو كان من جهة المرئي لكان ظهور إخوته في صور الكواكب وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم ) ويستلزم ذلك أن يكون مقتضى إرادتهم ومقاصد نيّاتهم إنّما يتوجّه إلى تبيين مسالكه وهدايته .
قال رضي الله عنه : ( فلما لم يكن لهم علم بما رآه يوسف ) من الصورة الهادية ( كان الإدراك من يوسف ) إياهم في تلك الصورة ( في خزانة خياله ) فقط .
قال رضي الله عنه : ( وعلم ذلك يعقوب حين قصّها عليه ) وهو أنّ الصور النورانيّة الهادية التي رآهم فيها من جهة يوسف وما في صافي نيّته لهم ( فـ " قالَ يا بُنَيَّ "على صيغة التصغير ترحّما عليه بما فيه ( " لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ " ) لئلَّا يعرفوا رتبة منزلتهم في نيّتك وكمال عقيدتك فيهم وعلوّ رتبتك عليهم في نفسه ( " فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً " ) .
قال رضي الله عنه : ( ثمّ برّأ أبناءه عن ذلك الكيد ) إبقاء ليوسف في صفاء نيّته ونقاء سريرته ( وألحقه بالشيطان ، وليس ) ذلك الإبراء والإلحاق ( إلَّا عين الكيد )، لئلَّا ينحرف يوسف عن جادّة نيّته القويمة الموصلة له إلى كمالاته ، وإن كان في طريقه ذلك من المهالك الموحشة ما رآه - هذا من أدب الإرشاد .
قال رضي الله عنه : (فقال:  "إِنَّ الشَّيْطانَ لِلإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ " [ 12 / 5 ] أي ظاهر العداوة ) ، فإنّه في الباطن ما كان عداوة ، بل لو نظر إلى ما يؤول إليه أمر كيدهم ذلك كان عين الشفقة والحفاوة .
ولذلك قد استردف هذا الكلام بقوله : ( ثمّ قال يوسف - بعد ذلك في آخر الأمر ) قاعدا على سرير جلاله ، ومتمكَّنا في مستقرّ كماله ، مشيرا إلى موطن ذوقه وحاله - : ( " هذا تَأْوِيلُ رُؤيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " [ 12 / 100 ] أي أظهرها في الحسّ بعد ما كان في الخيال ) .  

البيان الختمي للرؤيا ومقارنته مع البيان اليوسفي
قال رضي الله عنه : ( فقال له ) أي للأمر الذي قبل فيه من يوسف : " هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " ( النبي محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم ) بلسان رتبته الإحاطيّة الختميّة في مضمار تسابق جياد الأذواق الحامدة ، والإنباء عن الحقائق الكاشفة - :
( « الناس نيام » ) في هذه المرتبة الحسّية أيضا ، لأنّهم مشغولون بالصور ، مستغرقين فيه ومشتغلين به عن جلائل الحقائق واللطائف المشتملة هي عليها .
قال رضي الله عنه : (فكان قول يوسف : " قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " بمنزلة من رأى في نومه أنّه قد استيقظ من رؤيا رآها ، ثمّ عبّرها ولم يعلم أنّه في النوم عينه ما برح ، فإذا استيقظ يقول : « رأيت كذا ، ورأيت كأنّي استيقظت وأوّلتها بكذا » هذا مثل ذلك ) فمقام محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم هو الاستيقاظ الحاكم بالأشياء على ما هي عليه .

قال رضي الله عنه : (فانظر كم بين إدراك محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وبين إدراك يوسف عليه السّلام في آخر أمره ، حين قال : " هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " معناه : حسّا أي محسوسا ) فأدرك مطابقة عقيدته وما في متخيّلته من الصورة بالمحسوسات ، وسمّاها بالحقّ .
وهذا ليس تأويله حقّا ، لأنّ تأويل الصور ومآل أمرها إنّما هو الحقائق المعنويّة ولطائفها الأصليّة ، لا المحسوسات نفسها ، كيف ( وما كان ) عند رؤيته ( إلَّا محسوسا ، فإنّ الخيال لا يعطي أبدا إلَّا المحسوسات ) ، بتركيباتها الخاصّة وامتزاجاتها الاختراعيّة ، ( غير ذلك ليس له ) .
قال رضي الله عنه : (فانظر ما أشرف علم ورثة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم ، وسأبسط من القول في هذه الحضرة بلسان يوسف المحمّدي ما تقف عليه إن شاء الله تعالى ) .
وذلك لأنّ لنقطة الولاية في دائرة الدولة المحمّديّة سيرا خاصّا بحسب تطوّراتها الأصليّة ، ولذلك تسمعهم يقولون لكلّ من الأولياء المحمّديّة : " إنّهم على قدم واحد من الأنبياء".
ثمّ إنّ ورثة محمّد من الأولياء ، الواقفين على مواقف يوسف ، المقتفين آثار أقدامه ما يقنعون في تأويل رؤياه من سجود الأنوار كلَّها له بالمحسوسات فقط بل يعبّرونها باللطائف المعنويّة ، وذلك بميامن تلك الوراثة الختميّة فإنّها شنشنة أعرفها من أخزم كما أشار إليه بقوله :

العالم كظل للحقّ تعالى
قال رضي الله عنه : (فنقول : اعلم أنّ المقول عليه : « سوى الحقّ » أو مسمّى « العالم » هو بالنسبة إلى الحقّ كالظلّ للشخص ، فهو ظلّ الله ) ، ولا شك أن الظلّ صورة ظهور الشخص ، فنسبة الظلّ وإن كانت إلى الله ( فهو عين نسبة الوجود إلى العالم ، لأنّ الظلّ موجود بلا شك في الحسّ ، ولكن إذا كان ثمّ من يظهر فيه ذلك الظلّ ، حتّى لو قدّرت عدم من يظهر فيه ذلك الظلّ كان الظلّ معقولا ) وجوده بمجرّد الاعتبار ( غير موجود في الحسّ ) ولا ظاهر في الخارج ، ( بل يكون بالقوّة في ذات الشخص المنسوب إليه الظلّ ) .
قال رضي الله عنه : ( فمحلّ ظهور هذا الظلّ الإلهي - المسمّى بالعالم - إنّما هو أعيان الممكنات ، عليها امتدّ هذا الظلّ ) ، وإذا كان الأعيان الممكنة كالمحل المنبسط عليه الظلّ ، الذي هو للذات كالصورة للشخص ( فيدرك من هذا الظلّ بحسب ما امتدّ عليه من وجود هذه الذات ) ليس لتلك الأعيان دخل في الظهور عند المدارك بوجه .
وبيّن أنّه لا بدّ للظلّ من أمور ثلاثة حتّى يظهر :
الأوّل هو الذات – ذات الظلّ
الثاني هو المحلّ الممتدّ عليه الظلّ ،
والثالث النور الذي يدرك ويتميّز به الظلّ .
فلمّا بيّن الأولين أراد أن يشير إلى الثالث ، ثمّ إنّ المعهود في الظلال المحسوسة أن يباين النور المميّز لتلك الذات التي هي ذات الظلّ ، وفيما نحن فيه وقع الأمر على خلاف ذلك ، فإنّ النور أيضا من تلك الذات.
لذلك نبّه عليه بأداة الاستدراك قائلا : ( ولكن باسمه « النور » وقع الإدراك ) وكما أنّه ليس للأعيان دخل في الظهور والمدركيّة ، كذلك ليس له دخل في الإظهار والمدركيّة ، فإنّ الأعيان باقية في كنه بطون الخفاء والعدميّة التي لها في الغيب .

قال رضي الله عنه : ( وامتدّ هذا الظلّ على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول ) لما مهّد من أنّ محل انبساط الظلّ إذا كان معدوما أو قدّر كذلك ، كان بالقوّة في ذات الشخص المنسوب إليه ، منغمرا في كنه بطونها الذاتي .
وقد أبدع في هذا البيان حيث برهن ذوقيّا وعقليّا للمتفطَّن ظهوره في كنه البطون ، وبطونه في غاية الظهور وقد أشار إليه نظما :وباطن لا يكاد يخفى وظاهر لا يكاد يبدو .

نسبة الظل مع صاحبه
قال رضي الله عنه : (ألا ترى الظلال تضرب إلى السواد ، تشير إلى ما فيها من الخفاء لبعد المناسبة بينها وبين أشخاص من هي ظلّ له ،وإن كان الشخص أبيض ، فظلَّه بهذه المثابة ).
هذا في البعد المعنوي ، وكذلك الصوري منه - يعني البعد المكاني - : ( ألا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سودا ، وقد تكون في أعيانها على غير ما يدركه الحسّ من اللونيّة ، وليس ثمّ علَّة إلَّا البعد ) .
هذا إذا كان البعيد متلونا ، وكذلك إذا كان شفّافا ، فإنّه لا بدّ وأن يرى وفيه بعض السواد ، وإليه أشار قوله : ( وكزرقة السماء ) .
قال رضي الله عنه : ( فهذا ما أنتجه البعد في الحسّ في الأجسام غير النيّرة ) وذلك لأنّ نور البصر يتحلَّله بحب المسافة ، ولذلك لا يشخّص البعيد ، ولا يفي بإدراك ما عليه في متخيّلته من الأوضاع والهيئات المشخّصة له ما لم يقرّب ، فإذا لم يكن البعيد من الأجسام النيّرة ، ولم يصل إليه نور البصر بحيث يظهر في ضوئه أوضاعه لا بدّ وأن يرى شبحا أسود .

قال رضي الله عنه : ( وكذلك أعيان الممكنات ليست نيّرة ، لأنّها معدومة ) في نفسها ( وإن اتّصفت بالثبوت ، لكن لم تتّصف بالوجود إذ الوجود نور ، غير أنّ الأجسام النيّرة يعطي فيها البعد في الحسّ صغرا ، فهذا تأثير آخر للبعد ) في الحسّ ( فلا يدركها الحسّ إلَّا صغيرة الحجم ، وهي في أعيانها كبيرة عن ذلك القدر وأكثر كمّيات ، كما تعلم بالدليل ) الهندسي .
( أنّ الشمس مثل الأرض في الجرم مائة وستّون وربع وثمن مرّة وهي في الحسّ على قدر جرم الترس مثلا ) .
هذا يتبيّن به إنّيّته وأمّا لميّته : فهو أنّ الشعاع المخروطي ، الذي قاعدته عند المرئي ، ورأسه على الثقبة العينيّة ، كلَّما كان مسافة المرئي أبعد ، كان المخروط أرقّ ورأسه أحدّ ، وكلَّما كان أحدّ ، كان المرئي أصغر - على ما لا يخفى - .
قال رضي الله عنه : (فهذا أثر البعد أيضا ، فما يعلم من العالم إلَّا قدر ما يعلم من الظلال ، ويجهل من الحقّ على قدر ما يجهل من الشخص الذي عنه كان ذلك الظلّ ، )  .
(فمن حيث هو ظلّ له يعلم ) ، وقد عرفت ما بين الظلّ وشخصه من وجوه المخالفة وصنوف المباينة والمباعدة فما يعلم من الظلّ إلَّا وجود الشخص أو بعض ما عليه من الأوضاع والأشكال إجمالا .

ما ذا نعرف من الحقّ  
قال رضي الله عنه : (ومن حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظلّ - من صورة شخص من امتدّ عنه - تجهل من الحقّ ، فلذلك نقول : إنّ الحقّ معلوم لنا من وجه ، مجهول لنا من وجه ) كما يدلّ عليه قوله تعالى : ( " أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ " ) [ 25 / 45 ]  .
دلالة إشارة ، فإنّ الرؤية فيه إنّما تتعلَّق بالربّ من حيث مدّ الظلّ لا مطلقا وهو وجه معلوميّته للأعيان المخاطبة ، وذلك الرؤية والعلم للأعيان إنّما يتحقّق ويمكن بعد حركته في مدّه الظلّ على تلك الأعيان ( "وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَه ُ ساكِناً " ) فيبقى الأعيان على ما عليه (أي يكون فيه بالقوّة).
فتبيّن أنّ رؤية العبد في الحركة المدّيّة الظلَّيّة .
وإليه أشار بقوله : ( يقول : ما كان الحقّ ليتجلَّى للممكنات حتّى يظهر الظلّ ، فيكون كما بقي من الممكنات التي ما ظهر لها في عين الوجود  .
قال رضي الله عنه : ( " ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْه ِ دَلِيلًا " ) [ 25 / 45 ] فظهر بها ظهور المدلول بدليله  ( وهو اسمه النور الذي قلناه ، ويشهد له الحسّ ) بكونه هو الدليل عليه ( فإنّ الظلال لا يكون لها عين بعدم النور ) .
ثمّ إنّ مدّ الظلّ كما أنّه عبارة عن الحركة الوجوديّة ، فالسكون حينئذ إنّما يدلّ على الثبوت الذي عليها الأعيان في نفسها ، حيث يتميّز المعلوم عن العلم ويتشعّب الإمكان عن الوجوب ، فإنّ الحضرات السابقة على ذلك لا تمايز فيها ، فيكون فيها من بقايا أحكام الظلّ شيء يسير ، ولذلك قال: (" ثُمَّ قَبَضْناه ُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً " ) [ 25 / 46 ] .

معنى ألم تر إلى ربك كيف مد الظل  
اعلم أنّه يمكن أن يتفطَّن من هذه الآية تمام الحضرات على طريقة الإيماء والإشارة فإنّه يمكن أن يجعل هذا هو الحقيقة المحمّديّة ، التي فيها وجه الظلَّيّة يسير مقبوض.
كما أنّ قوله : " وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَه ُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْه ِ دَلِيلًا " فيه إشارة إلى الحقيقة الآدميّة بوجوهها ونشآتها ، فإنّ الحركة المدّيّة فيها سكنت من وجه ، لأنّها بلغت إلى غايتها ، والعين عليها دلَّت من آخر ، وهو عين الحقيقة الشاهدة المظهرة ، وما اعتبر في تعبير السكون من « لو » الامتناعيّة الشرطيّة المعلَّقة.

إيماء إلى أنّ السكون المتوهّم في هذه النشأة ممتنع بامتناع المشيّة ، ولذلك جعل الشمس عليه دليلا . 
ومن هاهنا قيل : « الأعيان على عدمها - مع نسبة الوجود إليها - مطلقا » .
فالقرينتان الأوليان اللتان أجري الكلام فيهما على الغيبة تدلَّان على قوس الوجود .
والقرينتان الأخريان اللتان سلك فيهما مسلك التكلَّم والحضور تدلَّان على قوس الشهود .
وإنّما قال : " قَبْضاً يَسِيراً " إذ الظلّ هو المقبوض ، وما بقي من الظليّة هناك إلَّا قليلا ، فيكون قبضه يسيرا فإنّ القبض في تلك الحضرة عين المقبوض ، كما أنّ الفيض عين المفاض ، وهو مكمن القوابل الذي هو الغيب المجهول كما سبق آنفا .

ويمكن أن يجعل " يَسِيراً " هاهنا من « اليسر » أي يسير غير عسير ، وذلك لأنّه جعل الشمس عليه دليلا ، فيكون رجوعه إلى أصله ، وقبضه إليه غير عسير ، ضرورة أنّ دليله جعلي .
( وإنّما قبضه إليه لأنّه ظلَّه ) والذي يدلّ عليه ما اعتبر في فاعل القبض ، من الكثرة العدميّة الظلمانيّة الظلَّيّة - فافهم .

(فمنه ظهر : " وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ " ) [ 11 / 123]  ظهورا كان أو رجوعا ، وظلمة كان أو نورا ( فهو هو ) المسند إليه بالهويّة التي هي مرجع الأمور ( لا غيره - فكلّ ما يدركه فهو وجود الحقّ في أعيان الممكنات ) .

مراتب الهويّة الذاتية  
ثمّ من الآيات الدالَّة على انطواء هذه الآية الكريمة على جملة من الحضرات والعوالم أنّ الشيخ قد تعرّض في طيّ مؤدّاها للهويّة الذاتيّة الإطلاقيّة ، بمراتبها الأربع ، المعربة عن الكلّ بكنهه ، حيث نبّه للهويّة الإطلاقيّة ، ثمّ لحيثيّاته الأربع بقوله : ( فمن حيث هويّة الحقّ هو وجوده ) الذي هو ظاهر الهويّة الإطلاقيّة.
قال رضي الله عنه : (و من حيث اختلاف الصور فيه ) اختلاف ظلال الزجاجات المتلوّنة عند ظهورها في النور وإظهاره لها ( هو أعيان الممكنات ، فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظلّ .  كذلك لا يزول عنه باختلاف الصور اسم « العالم » ، أو اسم « سوى الحقّ » فمن حيث أحديّة كونه ظلَّا هو الحقّ ) لا غير .
كما أنّه من حيث أنّه نور هو الهويّة الإطلاقيّة الوجوديّة - وفيه إشارة إلى أنّ ظلَّيته مما لا يزول بها كونه نورا ، كما أنّ وحدته مما لا يزول بالكثرة .
وإليه أشار بقوله : ( لأنّه الواحد الأحد ) أي الجامع بين الوحدة النورانيّة والكثرة الظلمانيّة ( ومن حيث كثرة الصور ) بدون اعتبار صورته الجمعيّة (هو العالم).

قال رضي الله عنه : ( فتفطَّن وتحقّق ما أوضحته لك ) من التوحيد الذاتي الذي لا يشوبه ثنويّة ظلَّية الأكوان والأغيار  كما قيل :لا ترم في شمسها ظلّ السوي فهي شمس وهي ظلّ وهي فيءهذا مفهومه الإجمالي .
وأمّا ما علم منه من تفصيل الحضرات والعوالم : فهو أنّ الوجود هو ظاهر الهويّة الذاتيّة ، وأعيان الممكنات هي صورها المتخالفة ، وأنّ الظلّ هو حضرة الأسماء والصفات ، وأنّ العالم هو صورها المتخالفة وإذا تقرّر هذا ظهر أنّ العالم هو الظلّ الثاني ، والوجود في الحقيقة ليس إلَّا النور .

العالم متوهّم ماله وجود
قال رضي الله عنه : (وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهّم ، ما له وجود حقيقيّ ، وهذا معنى الخيال ، أي خيّل لك أنّه أمر زائد قائم بنفسه ، خارج عن الحقّ ).
خروج الأشكال اللونيّة للزجاجات عن جمعيّة النور وظلَّه ، ( وليس كذلك في نفس الأمر ) فإنّ تلك الأشكال إنّما هي للظلال قائمة بها ، ليست قائمة بنفسها فإنّه ليس خارج الظلّ شيء .
قال رضي الله عنه : ( ألا تراه في الحسّ متّصلا بالشخص الذي امتدّ عنه ؟
يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتّصال ، لأنّه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته ) والشخص هو الذات للظلّ .

مراتب العبد
قال رضي الله عنه : ( فاعرف ) من هذا التفصيل المدرج في طيّ هذا البيان المثالي المنزل به الخاتم ( عينك ) الذي هو شكل الظلّ ، ( ومن أنت ) الذي هو باطن العين ، يعني الظلّ نفسه ، ( وما هويّتك ) الذي هو النور ، يعني باطن الظلّ .
قال رضي الله عنه : ( وما نسبتك إلى الحقّ ) نسبة الظلّ إلى نوره ، ( وبما أنت حقّ ) يعني طرف الجمعيّة الظلَّية وأحديّتها ( وبما أنت عالم وسوى ، وغير وما شاكل هذه الألفاظ ) يعني طرف كثرة الصور للظلّ وتنوّع الأشكال والألوان المتخالفة له من حيث هي قائمة بنفسها .
ثمّ اعلم أنّه قد أدرج في هذا التفصيل مراتب العبد من مبدأ اعتباره إلى منتهى وجوده واختياره  حيث بيّن ستّ مراتب ، ثمّ في التعبير عن الأوّل بـ " العين " والثاني بـ « من » والثالث بـ « ما » : إشارة إلى ما له في الحضرات الثلاث .
هذا قبل بروز تعيّنه الباين العالمي ، ثمّ إذا ظهر ذلك وتحقّق النسبة شرع في تفصيل ذلك بما ينبئ عن خصوصيّات كل من العوالم الإمكانيّة على ما لا يخفى على اللبيب وجه تحقيقه .

وفي بعض النسخ : « بما أنت حقّ » - بلا واو ، فيكون « ما » موصولة ، أي : بما أنت به حقّ - وفي أكثر النسخ مع الواو ، فيكون استفهاميّة ، وإثبات الألف على غير القياس المتعارف إشارة إلى ما لهذه المرتبة العالميّة من إثبات الزوائد والنوافل .

المعرفة ذو درجات
قال رضي الله عنه : ( وفي هذا يتفاضل العلماء : فعالم وأعلم ) تفاضل الأنوار في قوابلها الشفّافة ، حسب تفاوت تلك القوابل في الصفاء وقبولها وإظهارها لما يفيض عليها من أشعّة تلك الأنوار ( فالحقّ بالنسبة إلى ظلّ خاصّ صغير وكبير ، وصاف وأصفى كالنور بالنسبة إلى حجابه عن الناظر في الزجاج يتلوّن بلونه ، وفي نفس الأمر لا لون له ، ولكن هكذا تراه) على صيغة المجهول من الإراءة  . " الرؤية ".
قال رضي الله عنه : ( ضرب مثال لحقيقتك بربّك ) أي تعلم الزجاج المذكور ضرب مثال لحقيقتك مع ربّك - فيكون نصب « ضرب » على أنّه مفعول ثاني لـ « تراه » ، ويجوز أن يكون نصبا على المصدر ، والباء في « بربّك » بمعنى " مع " .
قال رضي الله عنه : ( فإن قلت : « إنّ النور أخضر » - لخضرة الزجاج - صدقت ) بما أدركت منه ( وشاهدك الحسّ وإن قلت : « إنّه ليس بأخضر ولا ذي لون » كما أعطاه لك الدليل ، صدقت ، وشاهدك النظر العقليّ الصحيح ) فأنت في إضافة الألوان إلى النور وتنزيهها عنه صادق .
وذلك لأنّ ظلّ الزجاج المتلوّن هو المشار إليه بقوله : ( فهذا نور ممتدّ عن ظلّ ، وهو عين الزجاج ) بما بيّن آنفا أنّ ذات الظلّ إنّما هو الشخص ( فهو ظلّ نوريّ لصفائه) أي صفاء ذاته ، وهو شخص الزجاج .

قال رضي الله عنه : ( كذلك المتحقّق منّا بالحقّ تظهر ) لصفائه ( صورة الحقّ فيه أكثر مما يظهر في غيره ، فمنّا من يكون الحقّ سمعه وبصره وجميع قواه وجوارحه بعلامات قد أعطاها الشرع الذي يخبر عن الحقّ ) كما سمعت غير مرّة في حديث قرب النوافل .
( ومع هذا عين الظلّ موجود ، فإنّ الضمير من سمعه ) في قوله : « كنت سمعه » ( يعود عليه ، وغيره من العبيد ليس كذلك ، فنسبة هذا العبد أقرب إلى وجود الحقّ من نسبة غيره من العبيد ) .

الوجود الحق هو الله تعالى والباقي خيال في خيال
قال رضي الله عنه : (وإذا كان الأمر على ما قرّرناه : فاعلم أنّك خيال ، وجميع ما تدركه مما تقول فيه : «ليس أنا» خيال )  من القوى العقليّة ودلائلها النظريّة  (فالوجود كلَّه ) - سواء أدركته بأوصافك الوجوديّة أو بسلبها عنه من الأوصاف التنزيهيّة ( خيال في خيال ) باعتبار أنّه في قوّتك الإدراكيّة الحاكمة عليه بأنّه ليس بخيال.
(والوجود الحقّ إنّما هو الله خاصّة ، من حيث ذاته وعينه ، لا من حيث أسمائه ، لأنّ أسماءه لها مدلولان : المدلول الواحد عينه ، وهو عين المسمّى ) أي المدلول الأوّل عين المسمّى.
قال رضي الله عنه : ( والمدلول الآخر ما يدلّ عليه مما ينفصل الاسم به عن الاسم الآخر ويتميّز فأين «الغفور» من « الظاهر » ومن « الباطن » ، وأين « الأول » من « الآخر» ) .

نسبة كل اسم مع الحق ومع الأسماء الاخر
قال رضي الله عنه : (فقد بان لك بما هو كلّ اسم عين الاسم الآخر وبما هو غير الاسم الآخر ، فبما هو عينه هو الحقّ ) أي بان لك بما هو عينه من الأسماء أنّه الحقّ ( وبما هو غيره هو الحقّ المتخيّل).
أي بان لك بما هو غيره أنّه المتخيّل ، أي الوجود الظلي الذي أثبت أنّه الحقّ ، باعتبار جمعيّته وأحديّته الظلَّية ، التي هي ذات الوحدة الحقيقيّة ، لا غيرها ، وهو بصدد إثبات ذلك في هذه المقدّمات ، ولذلك قال : ( الذي كنّا بصدده ) .

قال رضي الله عنه : (فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه ) لأنّ الظلّ الذي هو الدليل قد ثبت أنّه قائم بالشخص الذي هو نفسه ، والأسماء التي هي دليل كونه هي عينه فلذلك قال : ( ولا ثبت كونه إلَّا بعينه).
قال رضي الله عنه : ( فما في الكون إلَّا ما دلَّت عليه الأحديّة ، وما في الخيال إلَّا ما دلَّت عليه الكثرة ، فمن وقف مع الكثرة كان مع العالم ) - إن كان الملاحظ من تلك الكثرة هي صور الظلالات المتنوعة بما هي كذلك ( ومع الأسماء الإلهيّة ) إن كان الملاحظ من تلك الصور المتكثرة هو وجه أحدية الظلَّية وجمعيّتها .

قال رضي الله عنه : ( وأسماء العالم ) إن كان الملاحظ من تلك الصور الظلَّية هي نفس الكثرة وعلى أي حال فأصل تلك الصور إنّما هي الخصوصيّات الأسمائيّة التي بها ينفرد بعضها عن البعض .
(ومن وقف مع الأحديّة كان مع الحقّ من حيث ذاته الغنيّة عن العالمين ، وإذا كانت غنيّة عن العالمين فهو ) أي غناؤها عن العالمين  ( عين غنائها عن نسبة الأسماء لها لأن الأسماء لها كما تدلّ عليها ) باعتبار أحد مدلوليها ( تدلّ على مسمّيات أخر ) باعتبار مدلوله الآخر.
قال رضي الله عنه : (محقّق) تحقّق الأعيان (ذلك) المسمّيات (أثرها) أي أثر تلك المسمّيات التي هي مصدر ذلك الأثر ، وهو العالم .
سورة الإخلاص نسبة الحقّ تعالى
وقد كشف عن معنى الأحديّة قوله : ( " قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ "  من حيث عينه ) أي الهويّة الإطلاقيّة الجامعة للأسماء كلَّها أحد من حيث أنّه عين الكلّ ، وهو الأحديّة العينيّة التي لا يشوبها شيء من النسب والإضافة .
قال رضي الله عنه : (" الله الصَّمَدُ " من حيث استنادنا إليه) في الافتقار، وهذا أحديّة الكثرة، وفيها مبدأ أمر النسبة، لذلك أخذ في نفي سائر الأصناف عنها .
( " لَمْ يَلِدْ " ) أي ليس في نسبة استنادنا إليه نسبة الوالديّة والمولوديّة ( من حيث هويّته ونحن) أنّه والد بالنسبة إلينا نحن ، أو ما يجري مجراه مما يحصل الشيء منه مستقلَّا بنفسه ، كالعلَّية والفاعليّة وغير ذلك .
( " وَلَمْ يُولَدْ " كذلك ) من حيث هويّته ونحن ، بأن يكون مولودا أو ما يحذو حذوه كالمعلوليّة والمعموليّة .  

قال رضي الله عنه : ( " وَلَمْ يَكُنْ لَه ُ كُفُواً أَحَدٌ " كذلك ) من حيث هويّته ونحن ، بأن كنّا فاعلين مستقلَّين ، متكافئين في التقدّم والعلوّ .
وقد اندرج في هذا سائر أصناف النسب ، وذلك لأنّ مؤدى قوله : " الله الصَّمَدُ " نفي سائر النسب عنه إلَّا مجرّد نفي انتسابنا إليه واستغناه عنّا ، فبيّن ذلك بما يستوعب أصنافها كلَّها .
فإنّ المنتسبين لا يخلو أمرهما في النسبة عن أن يكون أحدهما عاليا مقدّما محيطا ، كما للعلَّة إلى المعلول ، والقديم إلى الحادث ، والعامّ إلى الخاصّ ، أو سافلا مؤخّرا محاطا ، كما للمعلول إلى العلَّة ، والحادث إلى القديم ، والخاصّ إلى العامّ ، أو يكونا متكافئين في ذلك ، متقابلين ، وفي هذا القسم الأخير لكلّ من المنتسبين تفرّد واستقلال بنفسه ، دون القسمين الأوّلين ، ولذلك كرّر لفظ « الأحد » في الأخير.

قال رضي الله عنه : ( فهذا نعته ) في كيفيّة انتساب الأسماء إليه ونسبته إليها ( فأفرد ذاته بقوله : " الله أَحَدٌ " ) من حيث نفي تلك النسب عنه بصنوفها وجزئيّاتها ( وظهرت الكثرة بنعوته المعلومة عندنا ، فنحن نلد ونولد ، ونحن نستند إليه ، ونحن أكفاء بعضنا لبعض وهذا الواحد ) وهو الأحد المنتفي عنه هذه النسب التي هي لنا .
قال رضي الله عنه : ( منزّه عن هذه النعوت ) التي هي لنا ( فهو غنيّ عنها ، كما هو غنيّ عنّا وما للحقّ نسب ) عند تبيين أصله وتعريف ما عليه منه وفي نفسه ( إلَّا هذه السورة سورة الإخلاص ) التي إنّما أتى بها الحضرة الختميّة ، التي أوتي بجوامع الكلم ، تبيّنا لكمال استغناء الله عن العالم ونفي الصفات والأسماء عن جلاله ، على ما ورد عن أمير ممالك الولاية علي عليه السّلام .

"كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه » وبه سمّيت سورة الإخلاص ( وفي ذلك نزلت ) .
قال رضي الله عنه : ( فأحديّة الله من حيث الأسماء الإلهيّة التي تطلبنا : أحدية الكثرة ) على ما يستفاد من " الصَّمَدُ"،( وأحديّة الله من حيث الغنى عنّا وعن الأسماء : أحديّة العين ) على ما هو مؤدّى " الله أَحَدٌ " ( وكلاهما يطلق عليه اسم الأحد ) فقوله : " أَحَدٌ " شامل لهما ) فاعلم ذلك.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فصّ حكمة نوريّة في كلمة يوسفيّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 1:21 pm

09 - فصّ حكمة نوريّة في كلمة يوسفيّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليوسيفي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
09 - فصّ حكمة نوريّة في كلمة يوسفيّة  الجزء الثاني
قال رضي الله عنه : ( فما أوجد الحقّ الضلال وجعلها ساجدة ) على الأرض خاضعة متذللة له ( متفيّئة عن الشمال ) ، وهو طرف شمول الطبيعة وشيوع أحكامها الظاهرة أولا ، ( واليمين ) ، وهو طرف ميامن تعيّن الحقيقة وظهور أحكامها المختفية آخرا ، على ما ورد في التنزيل : " أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ الله من شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُه ُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّه ِ وَهُمْ داخِرُونَ " [ 16 / 48 ] فإنّه قد علم في طيّة أن تفيّؤ ظلال الشيء الواحد الذي هو ذو أظلال وصور شماليّة جلاليّة ، ويمينيّة جماليّة إنّما هو لسجدتهم لله داخرين .
فما بيّن لك هذا ( إلَّا ) ليكون ( دلائل لك عليك وعليه ، لتعرف من أنت ؟ وما نسبتك إليه ؟ ) في قيام وجودك به ، قيام الظلّ بشخصه ( وما نسبته إليك ) في استغنائه عنك استغناء الشخص عن ظلَّه.
قال رضي الله عنه : ( حتى تعلم من أين ومن أيّ حقيقة إلهيّة اتّصف ما سوى الله بالفقر الكلَّي ) وهو الاحتياج في الوجود نفسه ( إلى الله ) احتياج الظلّ إلى شخصه ( وبالفقر النسبي بافتقار بعضه إلى بعض ) وذلك كما في انتظام أمر المعاش أو تبيين طريق المعاد ، فإنّه  في الأوّل يفتقر أهالي ظلال اليمين إلى الشمال ، كما أنّه في الثاني بالعكس .
 
قال رضي الله عنه : (وحتّى يعلم من أين ، ومن أيّ حقيقة اتّصف الحقّ بالغنى عن الناس والغنى عن العالمين واتّصف العالم بالغنى - أي بغنى بعضه عن بعض من وجه ) لكن لا بد وأن يكون وجه الاستغناء ( ما هو عين ما افتقر به إلى بعضه) .
فعلم أنّ العالم له الافتقار الكلَّي والجزئي ، والحقّ له الاستغناء الكلَّي ، منزّه عن الافتقار الكلَّي والجزئي ، وأمّا الاستغناء الجزئي فقد يكون للعالم ، ولكن لا بدّ وأن يكون فيه جهة افتقاريّة - بدون ذلك لا يمكن ( فإنّ العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شكّ افتقارا ذاتيّا ، وأعظم الأسباب له سببيّة الحقّ ، ولا سببيّة للحق يفتقر العالم إليها ، سوى الأسماء الإلهيّة ) ،  كالحياة والقدرة والخلق والرزق ، وذلك سواء كان من المظاهر الجزئيّة التي للعالم ، أو عين الحقّ .
 
على ما قال رضي الله عنه : العالم مفتقر ( والأسماء الإلهيّة كلّ اسم يفتقر العالم إليه ) سواء كان ذلك المفتقر إليه ( من عالم مثله ) كاحتياج الابن مثلا إلى الأب في ظهوره ( أو ) من ( عين الحقّ ) كاحتياجه في حياته إليه ، ( فهو الله لا غيره ) هذا خبر « كلّ اسم » متّصف بتلك الأوصاف ، ف « كلّ اسم » مبتدأ ، و « يفتقر » صفة له  .
قال رضي الله عنه : ( ولذلك قال : " يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله " ) فأطلق " الفقر " عليهم بإطلاقه ، لأنّه ذاتي لهم كليّا وجزئيّا ( " وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ " ) [ 35 / 15 ] .
وقيّد الغناء باللَّه بالحميد منه ، لما عرفت أنّ الغناء الجزئي قد يكون للعالم فيه حقّ ، وعلى التقادير فالمفتقر إليه لا بدّ وأن يكون هو الله - على ما علم من النصّ .
 
قال رضي الله عنه : (ومعلوم أنّ لنا افتقارا من بعضنا إلى بعض، فأسماؤنا أسماء الله تعالى، إذ إليه الافتقار بلا شكّ، وأعياننا في نفس الأمر ظلَّه ) المتقوّم به ( لا غيره ، فهو هويّتنا ) باعتبار نسبة الأسماء إلينا ( لا هويّتنا ) في نفسه .
( وقد مهّدنا لك السبيل ) في تحقيق ذلك مما يشاهد من الظلّ وقيامه بالشخص ( فانظر ) في ذلك حتّى يتبيّن لك ما به تصل إلى المراد .
 
تمهيد للفصّ الآتي
ثمّ إنّه قد تبيّن مما نبّهت عليه في أمر تنسيق هذه الفصوص وترتيبها أن الفص الهودي كاشف عما بدئ به من السير الكمالي الإظهاري الذي على عرض أرض الكون الجمعي الإنساني، فلذلك خصّه بالحكمة الأحديّة التي حضرتها أول التعيّنات قائلا :   حكمة فاتحيّة في كلمة صالحيّة
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 4:28 pm

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية  الجزء الأول
وإذا نظرت إلى أول بيّنات اسم هود ( اا وال ) ظهر لك أوليّته ، وكذلك إذا تأمّلت في بيّنات عدده.
وأيضا - فإن لكل من الكلمة والاسم له حروفا من أول المراتب ، وبيّن أن الأول - حيثما كان - غالب عليه حكم الإجمال - على ما مرّ غير مرّة - وإذ كان صورة النظم لها مزيد اختصاص بالإجمال ، وأجلى مراتب ظهوره وأتمّها حكما عالم الأفعال التي فيها منتهى أمر التفصيل ، وعليها مبتنى أوضاع  الأنبياء وأحكامهم أخذ يبيّن الوحدة الإجمالية في مرتبة الفعل بصورة النظم قائلا :
( إنّ لله الصراط المستقيم ) وهو أقرب الطرق لأن الأقرب هو الأقوم .
وهو ( ظاهر غير خفيّ ) أمر ظهوره ( في العموم ) من الخلائق
( في كبير وصغير عينه ) إذ لا تفاوت للأعيان في ذلك وإن كان صغيرا بحسب الظاهر ناقصا ، كما أنه لا تفاوت للحقائق في ذلك ، وإن كان جاهلا بحسب الباطن ناقصا فيه .
كما قال :( وجهول بأمور وعليم )
( ولهذا وسعت رحمته  ..... كلّ شيء من حقير وعظيم ) قدرا ومنزلة .
تلويح  : لا يخفى على الواقف بأساليب اولي الأيدي والأبصار وعبارات إشاراتهم .
 أنّ كلمة « هود » في عرفهم ذلك عبارة عن الدال الكاشف اسم « هو » بما له من الأحكام في غيبه .
كلّ دابّة على الصراط المستقيم
الذي يدلّ على أنّ لهود هذا المشهد الذوقي ما ورد في التنزيل حاكيا عن "هو" »
(" ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ")  وهو المنهج الاعتدالي الموصل إلى الكمال الختمي ، الذي به سبقت الرحمة غضبه ( فكلّ ماشي ) من السالكين نحو ذلك الكمال ( على صراط الربّ المستقيم ) ضرورة أنّ المأخوذ بالناصية لا ينفك عن الآخذ ، فهو واصل البتة إليه  .
المآل إلى الرحمة
( فهم غير مغضوب عليهم من هذا الوجه ) وإن كان بحسب مداركهم الجزئيّة الكونيّة ، وسلطان الواهمة عليها كلَّها فيهم ترى بعضهم يسوقون مطايا أفعالهم وإدراكهم إلى مهامه نهايات التفرقة الموحشة ، فيفضي بذلك أمرهم إلى دركات الحرمان ونيران البعد والخذلان ، ولكن لم يزل لذلك الكمال وجه إليهم ، به يأنسون ونحوه ينتهجون ، فهم في سلوكهم الموصل إلى ذلك غير مغضوب عليهم ( ولا ضالَّون ) وإن كان في طريقهم ذلك من الأغوار الهائلة والمهامه المضلَّة ما لا يحتمله إلا كل فحل من أبطال الرجال ، فإنّ ذلك واقع في طريقه بالعرض .
(فكما كان الضلال عارضا ، كذلك الغضب الإلهي عارض ، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كلّ شيء وهي السابقة).
 وتطابقت البراهين الحكميّة العقليّة والمؤيّدات الذوقيّة اليقينيّة ، أن كلّ حركة إنّما ينتهى عند حصول مبدئها الباعث لها ، ولذلك ترى سائر العوالم والحركات دوريّة .
ثمّ إذ قد بيّن أن المآل إلى الرحمة ، شرع يتبيّن أنّ ذلك عامّ ، فإنّ مآل الذوات كلَّها إليها ، قائلا : ( وكلّ ما سوى الحقّ دابّة - فإنّه ذو روح - وما ثمّ من يدبّ بنفسه ، وإنّما يدبّ بغيره ، فهو يدبّ بحكم التبعيّة للذي هو على الصراط المستقيم ) والذي يدبّ مستقلَّا بنفسه هو الحقّ ، كما أنّ الذي يدبّ عليه هو الصراط ( فإنّه لا يكون صراطا إلَّا بالمشي عليه ) .
وإذ قد انساق مآل إجماله هذا المساق بما هو مقتضى الذوق الهودي ، أتى بنظم يفصح عن ذلك على ما عليه الكلمة الختميّة في التوحيد الفعلي من القول الفصل ، الفارق في عين الجمع ، المنزّه في عين التشبيه ، قائلا :
( إذا دان لك الخلق  .... فقد دان لك الحقّ )
لما مرّ من أنّ الفاعل من الخلق في فعله بالتبعيّة ، فلا يتخلَّف عنه المتبوع .
( وإن دان لك الحقّ  .... فقد لا يتبع الخلق )
لأنّ المتبوع المستقلّ بنفسه له الإحاطة في الأحكام ، فلا يكون محاطا ، فشبّه ونزّه .
( فحقّق قولنا فيه  .... فقولي كلَّه الحقّ )
أي اسمع قولنا في هذا المرام ، فإنّه مما لا حركة له بنفسه ، وللقول في حركاته مقالات إليك من هذا الباب إن وعيت .
( فما في الكون موجود  ..... تراه - ما له نطق )
(وما خلق تراه العين  .... إلَّا عينه حقّ )
( ولكن مودع فيه )  أي له في الخلق مواطن الاختفاء كما أنّ له فيه منصّات الظهور
( لهذا صوره حقّ ) أي مطايا ظهوره وصوره إنّما هو الحقّ ، وهو من الإبل ما بلغ عمره إلى أن يركب عليه ، ويظهر فيه .
ومن تأمّل في الأبيات الثلاثة ظهر له من التوحيد الجمعي ما يستفاد من قوله تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ  [ 42 / 11 ] بترتيبه .
أقسام العلوم الإلهية
ثمّ إنّ الحركة والفعل الذي هو محلّ البحث هاهنا منها كوني ظلَّي لا اعتداد به لديهم ، ومنها وجوديّ حقيقيّ هو مقصد الإشارة والدلالة عندهم ، وهو ما لمدارك الكمّل من التنوّعات الذوقيّة وتطوّراتهم فيها ، فأخذ في تحقيق ذلك فيه بقوله : ( اعلم أنّ العلوم الإلهيّة الذوقيّة الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة ) هي ( منها ، مع كونها راجعة إلى عين واحدة ) - وهو عين الحقّ المتجلَّي في تلك القوى بما لها من القبول .
( فإنّ الله تعالى يقول : « كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده الذي يبطش بها ، ورجله الذي يسعى بها ».
 فذكر أن هويّته هي عين الجوارح ،التي هي عين العبد ،فالهويّة واحدة ،والجوارح مختلفة ) ولكون تلك الوحدة حقيقية يستجمع مع التكثّر والتخالف ولا ينافيها ذلك أصلا ، فإنّ لكلّ من تلك القوى شعورا خاصّا بتلك الوحدة .
(ولكلّ جارحة علم من علوم الأذواق يخصّها من عين واحدة تختلف باختلاف الجوارح ، كالماء حقيقة واحدة تختلف في الطعم باختلاف البقاع ) واكتساب خواصّها المعدنيّة منها ، وذلك للطافته وصلوح اتحاده بما يجاوره ويمرّ عليه .
وبهذه المناسبة شبّهها بالعلم ( فمنه " عَذْبٌ فُراتٌ " ) له صلوح التغذّي (ومنه " مِلْحٌ أُجاجٌ ") ليس له ذلك ( وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغيّر عن حقيقته وإن اختلفت طعومه ) .
علم الأرجل
( وهذه الحكمة من علم الأرجل ) وذلك لما سبق من أنّ الفيض في ذلك على صورة المحلّ القابل ، متلبّسا بخصوصيّات المشاعر الجزئيّة ومشخّصاتها ، فهو من طرف السفل والرجل ، دون ما يفاض على العقل بكلَّيته بدون توسّط الآلات والجوارح ، فإنّه من طرف العلو .
والذي يدلّ على ذلك ( هو قوله تعالى : " في الأُكُلِ") [ 13 / 4 ] وهو التغذّي بما يفاض عليه روحا أو جسدا ( لمن أقام كتبه ) وهي كليّة تفاصيل البيان ، سواء كان من طرف الجزئيّات وفرقان الجوارح القوابل ، أو من الكلَّيات وقرآن العقول الفواعل ، أو ما يجمعهما .
كما قال الله : " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ لأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ " ( "وَمن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " ) [ 5 / 66 ] .
وإنّما خصّص هذا بعلم الأرجل ( فإنّ الطريق - الذي هو الصراط - هو للسلوك عليه ، والمشي فيه ، والسعي لا يكون إلَّا بالأرجل ، فلا ينتج هذا الشهود في أخذ النواصي بيد من هو على صراط مستقيم ، إلَّا هذا الفن الخاصّ من علوم الأذواق ) .
وهو أنّ الناس عند تحرّكهم في مدركاتهم الجزئيّة نحو مستلذّاتهم المألوفة ومشتهياتهم المطبوعة ، غير مستقلّ بنفسه في تلك الحركة ، بل مجبور ، جبر من أخذ نواصيه من هو أعلى منه وأقوى .
ومن ثمّة ترى التائب عن الذنب وهو الذي يتحرّك إليه بتلك الحركة طبعا عائدا إليه وهو نادم في عوده ، عائذ منه ومباشر له ، حريص عليه كما قيل :
وإذا ذكرت التائبين عن الطلا  ...... لا تنس حسرتهم على أوقاتها
" الطلا = الخمر "
ولا يتوقّف المتفطَّن اللبيب هاهنا أنّه ما ذلك إلَّا صفات مجبور محسور ، وسمات متحيّر محصور .
مساق المجرمين
( فيسوق المجرمين - وهم الذين استحقّوا ) بجرمهم ذلك وسعيهم في صراطه المستقيم ( المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور ،التي أهلكتهم عن نفوسهم بها ) .
بما ورد في الحديث: « نصرت بالصبا » وهو الريح الذي يستقبل الوجه عند توجّهك إلى مطلع شمس الظهور والإظهار « وأهلكت عاد بالدبور » ، وهو الريح الذي يستدبرك في ذلك . راجع الأحاديث البخاري ومسلم و أحمد وغيرهم.
فهو يسوقك إلى ذلك المطلع ، وإن كان ما يروحك ترويح الصبا ، وذلك من مرورها على المطلع وظهورها عليك بآثاره - كما قال  من قيس ابن الملوح العامري :
أيا جبلي نعمان باللَّه خلَّيا   .... سبيل الصبا يخلص إلىّ نسيمها
فإنّ الصباريح إذا ما تنسّمت  ..... على قلب محزون تجلَّت همومها
( فهو يأخذ بنواصيهم ، والريح تسوقهم ) ، وفي عبارته هاهنا لطيفة إنّما يتفطَّن لها من تذكَّر ما مهّدنا قبل من تقديم الضمائر الأسماء الإلهيّة ، وقربها إلى الذات ، وتخلَّف الظواهر منها وتأخّرها عنها ، وتقدّم ضمير الغايب منها على الكلّ .
ومما يلوّح على ذلك أنّ لفظ « هود » ذلك الضمير مع الدال الدالة على إظهار أمره وتعيّن حكمه .
فعلم بذلك وجه اختصاص هذا الذوق بهود فـ « هو » هو المسند إليه أخذ النواصي ، ولا شكّ أنّه كلَّما كان أقرب إلى الذات من الأسماء ، كان أقهر في الحكم وأشدّ في إنفاذه .
عين القرب في جهنّم
فلا تخالف كيف ، وما يروحه من أصل جبلَّته وطينة طبيعته يسوقه .
(وهي عين الأهواء التي كانوا عليها إلى جهنّم ، وهي البعد الذي كانوا يتوهّمونه ) لخفائها وسترها عن أنظارهم وعقولهم التي إنّما يتميّز ويحكم بين الأشياء بعقائد الأضواء التشريعيّة الواقعة بها أمر الصورة مواقع كمالها وتمامها .
وممّا نبّهت عليه في التلويح ظهر وجه تقدّم هذا الطرف وتقرّبه إلى الذات .
(فلمّا ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب ، فزال البعد ، فزال مسمّى « جهنّم » في حقّهم ) - وهو البعد ، فإنّه معرّب ، فارسي الأصل ، يقال : « ركية جهنام » : أي بعيدة الغور ، وكأنّه في الفرس : " چه نم " 
 ( ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق لأنّهم مجرمون ) مجبورون في ذلك بما يحطَّ به عند الناس مراتب أقدارهم ، ومنازل تمكَّنهم في التعيّن ، واستقرارهم.
( فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنّة ، وإنّما أخذوه ) هم أنفسهم
( بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها ) في أصول قابليّاتهم .
( وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الربّ المستقيم ، لأنّ نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة ، فما مشوا بنفوسهم ، وإنّما مشوا بحكم الجبر ) في ذلك البعد الموهوم .
( إلى أن وصلوا إلى عين القرب ) .
قال رضي الله عنه : ( "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه ِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ" [ 56 / 85 ]  . وإنّما هو يبصر ، فإنّه مكشوف الغطاء ) لوصوله إلى قرب لا يسعه الغطاء .
( فبصره حديد ، فما خصّ ميّتا من ميّت ، أي ما خصّ سعيدا في العرف من شقيّ ) عند إثبات القرب للعبد .
فإنّه قال رضي الله عنه: ( " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه ِ من حَبْلِ الْوَرِيدِ " [ 50 / 16 ] وما خصّ إنسانا من إنسان ، فالقرب الإلهي من العبد ) مطلقا ( لا خفاء به  في الإخبار الإلهي ) وعدم تبيين القريب وتميّزه من البعيد منه .
وما ورد في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : « لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل » وهي غير التكليفات المكتوبة عليه مما خصّ بوقت معيّن ، وحدّ بعدد مخصوص ، فإنّها هي الزوائد من أفعال العبد ، وهي معدّات ذلك التقرّب ففي دلالة هذا الحديث ضرب من الإجمال ، فإنّه إنّما يتبيّن من الحديث كيفيّة ذلك القرب وغايته لا غير .
 
قال رضي الله عنه : (فلا قرب أقرب من أن تكون هويّته عين أعضاء العبد وقواه ، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى ، فهو حقّ مشهود في خلق متوهّم ) فإنّ الحقّ موجود ، والخلق كائن في ظلاله ، متخيّل ، على ما سبق في الفصّ اليوسفي .
الحقّ عند أهل الكشف
قال رضي الله عنه : ( فالخلق معقول ) لأنّه ليس خارج المشاعر له وجود ( والحقّ محسوس مشهود ) فإنّه الموجود في الخارج عن المشاعر ، الداخل في المداخل الحسّية على المشاعر .
وذلك إنما هو ( عند المؤمنين ) ممن وصل إلى اليقين ، وميّزه عن المتخيّلات ، إمّا نظرا وحدسا ، أو سماعا وتفرّسا ( وأهل الكشف والوجود)
من الواصلين إليه بالذوق والشهود في المشاهد الحسّية التي بها أرسلت الرسل وعليها أنزلت الكتب ، بدون توسّط وضع ولا تعمّل نقل وجعل .
قال رضي الله عنه : ( وما عدا هذين الصنفين ) من الذاهبين إلى اعتبارية الوجود الحق ، وإلى أن له ماهيّة غير الوجود ، أو موصوفة به ( فالحقّ عندهم معقول ) ضرورة أنّه مجعول عقولهم وتصوّراتهم ، ما له في الخارج عنه مطابق ، ( والخلق مشهود ) ، فإنّ الموجود في الخارج عندهم هي الماهيّات المشخّصة وأعراضها المشخّصة لها .
الناس حسب علومهم قسمان
قال رضي الله عنه : ( فهم ) في إفاضة العلوم ( بمنزلة الماء الملح الأجاج ) حيث أنّه قد شاب اللطيفة العلميّة عند مرورها عليهم بما يكيّفه ويغيّره عن لطفه الطبيعي ، ويحرّفه عن أصل اعتداله الذي به يصلح لأن يتغذّى به المسترشد ويقويه أو يروح به السالك ويرويه في مسالكه ، فإنّه بتلك الكيفيّة المكتسبة الاجاجية إنّما يزيد لهم عطشا على عطش وضعفا على ضعف .
قال رضي الله عنه : ( والطائفة الأولى ) من أهل الذوق والإيمان الذين لم يمتزج فيهم لطيفة ماء اليقين بشوائبه المعدنيّة ، المحرّفة له عن أصل مزاجه العلمي ، فهم في إفاضتهم العلوم والمعارف ( بمنزلة الماء العذب الفرات ، السائغ لشاربه ).
 فعلم أن ما به تتميّز هذه الطائفة عن الأولى هو خلوص علومهم عن شوائب الامتزاجات الجهليّة ، وذلك غامض قلَّما يهتدي إليه المسترشد .
فنبّه على ما يظهر من آثار ذلك المميّز العلمي في أعمالهم تبيينا لأمره عند السالكين بقوله :
قال رضي الله عنه : ( والناس على قسمين ) كما يشاهد كلّ أحد من أهل زمانه :
( من الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها ) وكلّ طريق معروفة هي قريبة عند السالك العارف . 
( فهي في حقّه صراط مستقيم ).
(ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها ، وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر ) غير أنّه متحيّر فيها ، لأنّها قد احتفّت في علمه بظلمات جهالاته المدهشة ، كالماء بعينه ، فإنّه باق على أصل طبيعته ، غير أنّه ممتزج بالأخلاط الخارجيّة .
قال رضي الله عنه : ( فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة ) في مسالكه العلميّة النيّرة .
( وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة ) في مسالكه المجهولة المظلمة ، فعلم أنّ الغاية هو الحقّ والتخالف إنّما هو بحسب مدارك الهادين والمهتدين .
قال رضي الله عنه : ( فهذا علم خاصّ ) يورثه الخاتم ، وبه ( يأتي من أسفل سافلين ) إنّما يليق به أكمل الكاملين ، وإنّما قلنا : إنّه من أسفل سافلين ( لأنّ الأرجل هي السفل من الشخص ، وأسفل منها ما تحتها ، وليس ) ذلك ( إلَّا الطريق ) وهي أعماله وأقواله التي يسعى فيها على أراضي الاستعداد منه إلى الحقّ .
قال رضي الله عنه : ( فمن عرف الحقّ عين الطريق ) وهو أسفل سافلين يعني الأعمال والأقوال الإنسانيّة التي هي أنزل منه في الظهور والوجود ، وأكمل جمعيّة في الإظهار والشهود .
قال رضي الله عنه : ( عرف الأمر على ما هو عليه ، فإنّ فيه جلّ وعلا يسلك ويسافر ، إذ ) لا مسلك من المسالك  عقديّة كانت أو عمليّة أو قوليّة - إلا وكانت معلومة للسالك والمسافر . 
و ( لا معلوم إلَّا هو ، وهو عين السالك والمسافر ، فلا عالم إلَّا هو فمن أنت ؟ فاعرف حقيقتك وطريقتك ) أنّ الحقيقة عين الطريقة ،وأنّها ناشية عنك.
( فقد بان لك الأمر على لسان الترجمان ) الختمي صلَّى الله عليه وسلَّم حيث قال : « كنت سمعه الذي يسمع به » وصرح بالفعل ومبدئه ، وهذا ظاهر.
قال رضي الله عنه : ( إن فهمت ، وهو لسان حقّ )   لأنّ الترجمان ما له تصرف في ذلك أصلا ، ( فلا يفهمه إلا من فهمه حقّ ) فإنّه لا يعرفه ولا يفهمه إلَّا هو.

الحروف والكلمات
وهاهنا نكتة لا بدّ من الاطلاع عليها : وهي أنّك قد اطلعت من قبل على أنّ أصحاب علم الأرجل هم الذين يسوقهم ريح دبور الطبيعة من خلفهم  ، وهم يسعون في مقتضيات جوارحهم ومشتهيات أنفسهم ، هالكين فيها مجبورين ، وهم أهل القرب وإن كان في بعد موهوم .
وقد بيّن هاهنا أن أسفل سافلين الذي هو موطنهم من وجه ومسلكهم من آخر هو عين الحقّ ، وما هو إلَّا عالم الأفعال البشريّة وإدراكاته ، والجامع للكلّ منها هو القول الظاهر بصور الحروف والكلمات ، فإنّه الآتي بمدركات الجوارح كلَّها ، والكاشف عنها أجمع .

القرب الذاتي في أسفل سافلين
فقد علم في طيّ هذه المقدّمات أنّ أهل أسفل سافلين وهم أبعد الموجودات في نظر العامّة لهم القرب الذاتي .
فبيّن ذلك بقوله : ( فإنّ للحقّ نسبا كثيرة ) كثرة نسب الظلال إلى شخصه ( ووجوها مختلفة ) اختلاف وجوه تلك النسب الظلَّية بحسب قرب بعض الأطراف من الظلّ إليه وبعده عنه ، وأنت تعرف أنّ أقرب أطرافه إليه إنّما هو طرف الرجل .
قال رضي الله عنه : ( ألا ترى عادا قوم هود كيف قالوا ) لما أظلَّهم سحب هذه العوارض الكائنة المدركة بجوارحهم : ( " هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا " ) [ 46/ 24 ] . أي يفيض علينا ما به يستحصل أغذيتنا ، بعد امتزاجات معدّة وترتيب مقدّمات منتجة مستجمعة للشرائط ، كحرية أرض قابليّتهم وسلامة نبات أوليات علومهم عن الآفات .
تأويل ما حكي عن قوم عاد
وكأنّا قد أسمعناك من قبل أنّ القصص المنزلة السماويّة سيّما ما اختصّ منها بالخاتم ما هي حكاية أشخاص مخصوصة قد انقرضت بانقراض بعض أجزاء الزمان وأبعاضه .
فإنّها حكاية أحوال حقائق كليّة وأسماء إحصائيّة إلهيّة ، يتشخّص أفرادها في كل زمان متكلَّمين بتلك القصص حالا وقولا ، فإنّ لتلك الأحوال المختصّة بالزمان ماضيا كان أو مستقبلا وجوها شهاديّة إنّما يحتظي بها أهل الذوق والشهود .
فلا ينبغي للمسترشد اللبيب أن يقنع من تلك القصص الحكميّة بالحكايات المنقرضة في سالف من الأزمنة ، منخرطا نفسه في سلك ذوي الحرمان من القرآن الختمي على ما أخبر عن لسان حالهم قوله تعالى : " قالُوا أَساطِيرُ الأَوَّلِينَ " [ 16 / 24 ] .
وقد أومأنا إلى وجوه من المناسبات والاستعارات هاهنا ، عساك تتفطَّن بها لذلك الوجه الشهادي . فإنّ عادا على ما نبّهت عليه آنفا هم الماشون على صراط العادات التي إنّما يسوقهم إليها الأهوية الدبوريّة من خلف الطبيعة .
ولا يخفى أنّ المسترشدين منهم لمّا رأوا تلك العوارض المحسوسة المظلَّة لهم 
قالوا : هذا العارض سيفيض علينا بعد امتزاجات وترتيبات معدّة علوما يغتذي حقيقتنا بها .
وذلك هم أهل النظر ، المستدلَّون بالصنع على الصانع .
قال رضي الله عنه : ( فظنّوا خيرا باللَّه ) وهو إفاضة ما يستحصل منه أغذيتهم وأقواتهم ، ( وهو عند ظنّ عبده به ، فأضرب لهم الحقّ عن هذا القول ) . 
"قال الله تعالى :  وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) سورة الأحقاف

بقوله : " بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُمْ به " ( وأخبرهم بما هو أتمّ وأعلى في القرب ) والخيريّة ( فإنّه إذا أمطرهم فذلك ) أوّلا ( حظَّ الأرض ) يعني استعداداتهم وآلاتها من الجوارح الظاهرة.
( و ) ثانيا ( سقى الحبّة ) من العلوم الأوّلية التي بها تنوط رقيقة الحبّ .
( فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلَّا عن بعد ) من تركيب الأوّليّات وثواني الامتزاجات ثمّ التفطَّنات ( فقال لهم " بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُمْ به رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ " [ 46 / 24 ] .
 
تأويل العذاب في حقّ قوم عاد
قال رضي الله عنه : (فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة لهم ، فإنّ بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة ) الهيولانيّة الكثيفة التي هي منبع كلّ شرّ ، ومثار كلّ ظلمة ، إلى العالم العقلي الذي هو مستنزه العوالم ومستروحها أجمع .
( والمسالك الوعرة ) وهي المشاعر ومقتضياتها المتخالفة الخشنة ، ذات أغوار وأنجاد ، ملاءمة ومنافرة ( والسدف المدلهمّة ) من العوائد الرسميّة والحجب العادية ، المتراكمة المتحتّمة الانقياد عند كل طائفة وجمع من الأمم . فإنّ « السدفة » - لغة - هي اختلاط الظلمة والنور .
قال رضي الله عنه : ( وفي هذه الريح ) المريحة لهم عن لوازم التعيّن ومقتضياته ( عذاب أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه ) كما قيل :
أنا صبّ ، ودمع عينيّ صبّ   .... عذّبوا ، فالعذاب في الحبّ عذب
قال رضي الله عنه : ( إلَّا أنّه يوجعهم لفرقة المألوف ) وهي مؤلمة من حيث أنّه تفرّق اتّصال ، فهو "عَذابٌ أَلِيمٌ " ، ( فباشرهم العذاب ، فكان الأمر إليهم أقرب مما تخيّلوه ) من الإمطار والإفاضة وما يترتّب على ذلك مما يؤول إلى ما ينفعهم .
( فدمّرت " كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها " ) من العلائق العائقة عن بلوغهم إلى الكمال .
قال رضي الله عنه : ( " فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ " [ 46 / 25 ] وهي جثثهم ) الأصليّة الوجوديّة الجوهريّة   دون الجعليّة الكونيّة الوهميّة ، وهي ( التي عمّرتها أرواحهم الحقّية ) الوجوديّة بمجرّد انتسابها إليها .
قال رضي الله عنه : ( فزالت حقّية هذه النسبة الخاصّة ) وهي نسبة روح الوجود إلى هذه التفرقة الكونيّة التشخّصية ، التي بها عمرت جثثهم بنسبة الأرواح .
قال رضي الله عنه : ( وبقيت على هياكلهم ، الحياة الخاصّة بهم ) وهي الحياة العامّة الجوهريّة الوجوديّة التي بها حيّت الجمادات الواصلة إليها ، دون المشخّصة الكونيّة العرضيّة ، وتلك الحياة الوجوديّة هي التي قال : إنّها (من الحقّ التي تنطق بها الجلود والأيدي والأرجل ، وعذبات الأسواط والأفخاذ)
واستشعار الوجه الشهادي من هذا لا يخفى على من له ذوق المقامات الحسّية ،
كما قال ابن الفارض في تائيته :
فلو كوشف العوّاد بي وتحقّقوا   ..... من اللوح ما منّي الصبابة أبقت
لما شاهدت منّي بصائرهم سوى .....  تخلَّل روح بين أثواب ميّت
وأيضا قال ابن الفارض في لاميّته :
وعنوان ما فيها لقيت وما به    ..... شقيت وفي قولي اختصرت ولم أغل
خفيت ضني حتّى لقد ضلّ عائدي  ..... وكيف يرى العوّاد من لا له ظلّ
وما عثرت عين على أثري ولم  ...... تدع لي رسما في الهوى الأعين النجل 
( وقد ورد النصّ الإلهي بهذا كلَّه ) بعضه في الآيات المنزلة القرآنيّة ، وبعضه في الأحاديث النبويّة الصحيحة .
وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ  [الأنعام : 151]" و " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ  [الأعراف :33 ]"
ثمّ إنّ اختلاف مدارك القوم من النصّ الذي لا يحتمل غيره ، وعدم فهمهم المقصود منه لا بدّ له من سبب ، كشف عن ذلك السبب بقوله : ( إلَّا أنّه تعالى وصف نفسه بالغيرة ، ومن غيرته حرّم الفواحش ، وليس الفحش إلَّا ما ظهر ) فإنّ الفحش هو السوء إذا جاوز الحدّ في الإفشاء .
( وأمّا فحش ما بطن فهو لمن ظهر له ) ذلك السرّ المتبطَّن .
قال رضي الله عنه : ( فلما حرّم الفواحش أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه ) وتظهر في المدارك ، فإنّ الأعيان أنفسها ليست محرّمة ، بل ارتكابها بالجوارح وإظهارها في المشاعر.
( و ) تلك الحقيقة الممنوعة ( هي أنّه عين الأشياء ) مع ما فيها من التفاوت بالقرب إلى الذات والبعد عنه ( فسترها بالغيرة ) التي وصف الحقّ نفسه بها .
( وهو أنت ) ، فإنّه الساتر نفسه بالغيرة ، المشتقّة ( من الغير ) .
قال رضي الله عنه : ( فالغير ) بهذا المعنى ( يقول : " السمع سمع زيد " ) ساترا للحقّ بالغيرة .
قال رضي الله عنه : ( والعارف يقول : « السمع عين الحقّ » ) لعدم حكم الغيرة المشتقّة من الغيرة على العارف ، كما قال ابن الفارض  :
أغار عليها أن أهيم بحبّها    ..... وأعرف مقداري فأنكر غيرتي
قال رضي الله عنه : (وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء ، فما كلّ أحد عرف الحقّ ، فتفاضل الناس ، وتميّزت المراتب ، فبان الفاضل والمفضول ) .
رؤية ابن العربي الأنبياء عليهم السّلام في مبشرته ومكالمته مع هود عليه السّلام  
وإذ قد تبيّن في هذا الفصّ من العلوم ما هو حظَّ أهل الخصوص من الكمّل الختمي ، استشعر سبب تلك الخصوصيّة وما هو المبدء لها قائلا : ( واعلم أنّه لما أطلعني الحقّ وأشهدني أعيان رسله عليهم السّلام وأنبيائه كلَّهم - البشريين - ) لأنّه رآهم في مبشرته .
قال رضي الله عنه : ( من آدم إلى محمّد عليهم السّلام أجمعين في مشهد أقمت فيه بقرطبة ) وهي مدينة بالمغرب "بالأندلس" كان ساكنا بها .
 ( سنة ستّ وثمانين وخمسمائة ، ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلَّا هود عليه السّلام ) وذلك لعلوّ كشفه وشهوده الغائي ، وكمال اختصاصه بالقرب الذاتي وميله إلى طرف الولاية وختمها .
قال رضي الله عنه : ( فإنّه أخبرني ) بقوّة تلك الرقيقة الاختصاصيّة ( بسبب جمعيّتهم ) ، وهو احتظاؤه من الكمال الختمي وانتماؤه إلى حضرته الجمعيّة الشهوديّة الأكمليّة التي من آثارها تسطير هذا الكتاب وإبرازها للناقدين من اولي الألباب.
ولذلك من رؤية تلك المبشّرة إلى أوان تأليفه هذا تمام ميعاد الميقات ، وهو أربعين ( 333 ) وذلك لأنّ التثليث الذي هو صورة الجمعيّة الناتجة ، والازدواج الناكح الفاتح ، قد ظهر فيه بكماله وتثلَّث .
قال رضي الله عنه : ( ورأيته رجلا ضخما في الرجال ) لكمال سعته في العلوم ( حسن الصورة ) لقرب نسبته إلى أمر الصورة وتمام كشفها عليه - على ما يظهر من شهوده في الآية .
 ( لطيف المحاورة ) لظرافته وقرب ذوقه إلى ذوق ظرفاء الزمان كما عرفت ،(عارفا بالأمور) - أي حدود تفاصيل الأشياء وخصوصيّاتها - ( كاشفا لها) .
قال رضي الله عنه : (ودليلي على كشفه لها قوله : " ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ") [ 11 / 56 ] .
حيث أسند أخذ نواصي الدوابّ أعني زمام أفعال ما يدبّ على عرض أرض الكثرة ، التي هي نهاية أمرها إلى هو ، وهو أوّل ما يطلع من كنه الكمون ومبدأ آثار الوحدة الإطلاقيّة الذاتيّة .
قال رضي الله عنه : ( وأيّ بشارة للخلق أعظم من هذه ) أنّه في أقاصي ما ينتهي إليه دركات بعده - وهو أفعاله - تراه قريبا إلى الحقّ ، صادرا منه من حيث الوحدة الذاتيّة والهويّة الإطلاقيّة التي لا مجال للبعد هناك أصلا .
قال رضي الله عنه : (ثمّ من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن ) العربي المبين أمر الحقائق على ما هي عليه ، معربا عن كنهه ، مطابقا لما رآه في مشهده الذي أقيم فيه شاهدا على حقيّته .
مدارج النبي الخاتم صلَّى الله عليه وآله
وهاهنا نكتة حكميّة لا بدّ من ذوقها حتّى يتحقّق الأمر ، وهي أنّ الخاتم في إظهار ما عليه الأمر له ثلاثة مدارج بحسب ما قدّر لقدره الرفيع من المناصب :
الأوّل موطنه الختمي النبوي الأحدي الجمعي ، الذي من آثار كماله نزول الكلام القرآني العربي ، الجامع لأذواق الرسل والأنبياء أجمع ، ولما في موطنه من الإطلاق الأحدي الجمعي لا يضيق أمر نزوله ذلك عن توسّط الرسالة ، وتخلَّل ما فيها من الكثرة ، وهو المقام المحمّدي ( 92 ) والذي يلوّح ما فيه أولا مما يدلّ على الصبابة والمحبّة .
والثاني موطنه الولائي الخصوصي الأحدي الذي لا يسعه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، ومن آثار كماله ظهور الكلام القدسيّ عنه بدون توسّط ولا تخلَّل ، وهو المقام الأحمدي ( 53 ) والذي يلوّح عليه ما نبّه أوّلا مما يدلّ على الستر والجنّة .
والثالث موطنه الرسالي الإبلاغي الآتي بما يكمل الخلائق كلَّها ، وهو المقام المحمودي ( 98 ) ومما يلوّح عليه ما فيه أوّلا من الصحّة النسبيّة التي هي مقتضى حكم التبليغ.
فلذلك لمّا بيّن الحكمة الأحديّة المذكورة بما في القرآن العربي على لسان هود - وهو الأوّل من أقسام الكلام - كمّلها بالثاني منها قائلا :
بيان الحكمة الأحدية في الكلام الختمي صلَّى الله عليه وآله
قال رضي الله عنه : (ثمّ تمّمها الجامع للكل محمد صلَّى الله عليه وسلَّم بما أخبر به عن الحقّ ) ووجه تتميمه صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك أنّه إنّما علم من الكشف الهودي أنّ أفعال الخلق التي هي أنزل المراتب وأبعدها - في قبضة إحاطة الحقّ ، آخذا بناصيتها ، ولا يخفى ما فيه بعد من اعتبار حكم النسبة القاضية بالتفرقة .

.
يتبع


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في السبت أغسطس 03, 2019 5:20 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 4:29 pm

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية    الجزء الثاني
وأمّا عبارة الحديث القدسي الصادر منه صلَّى الله عليه وسلَّم فهي كاشفة عن تمام الوحدة الذاتيّة التي لا مجال للنسبة فيها أصلا ، فإنّه قد نصّ فيه ( بأنّه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان ، أي هو عين الحواسّ ) الجسمانيّة الظاهرة في الكون .
قال رضي الله عنه : ( والقوى الروحانيّة ) المتبطَّنة عن الكون كالحسّ المشترك والخيال والذكر والفكر ( أقرب ) إلى الوجود الحقّ ( من الحواس) .
قال رضي الله عنه : ( فاكتفى بالأبعد المحدود ) المعلوم حدوده وجدانا وذوقا (عن الأقرب المجهول الحدّ ، فترجم الحقّ لنا عن نبيّه هود مقالته لقومه - بشرى لنا - وترجم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الله مقالته بشرى ) لأهل الخصوص منّا .
قال رضي الله عنه : ( فكمّل العلم في صدور الذين أوتوا العلم ، " وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ ") [ 29 / 47 ]   منهم ( فإنّهم يسترونها ) بالإخفاء عن المسترشدين .
قال رضي الله عنه : ( وإن عرفوها ) وتحقّقوا بالتوحيد الذاتي ( حسدا منهم ) في أن يصل إليه غيره ( ونفاسة )
لتلك المنقبة العزيزة ( وظلما ) على الطالبين كما لا يخفى على من له أدنى تنبّه أنّ الكافر على هذا التأويل لا يمكن أن يكون كفّار أهل الكتاب كيف ذلك وقد صرف الكفر عن حقيقته الشرعيّة إلى اللغويّة ، وهو مجرّد الستر .
التنزيه في عين التشبيه
ثمّ إنّه لما بالغ في تحقيق طرف التشبيه ، إلى أنّ آل أمره إلى التحديد ، أخذ في تحقيق ذلك بما يظهر منه كمال التنزيه قائلا :
قال رضي الله عنه : ( وما رأينا قطَّ من عند الله في حقّه تعالى آية في آية أنزلها ، أو إخبار عنه أوصله إلينا فيما يرجع إليه إلَّا بالتحديد ، تنزيها كان ) مؤدى ذلك الإخبار كما سيجيء بيانه في قوله تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " (  أو غير تنزيه ) كما في الآيات والأخبار الدالَّة على تنزّله في المراتب. 
قال رضي الله عنه : ( أوّلها العماء الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء ) فبتبيّن الفوق والتحت منه حدّده مكانا ، وبقوله : ( فكان الحقّ فيه قبل أن يخلق الخلق ) حدّده زمانا ( ثمّ ذكر ) في مدارج تلك التنزّلات ( أنّه استوى على العرش ، فهذا أيضا تحديد ثمّ ذكر أنّه ينزل إلى السماء الدنيا ، فهذا تحديد ثمّ ذكر أنّه "في السَّماءِ " ( إِله ٌ " وَ أنّه  " في الأَرْضِ" )  إِله ٌ ) [ 43 / 84 ] .
قال رضي الله عنه : ( وأنّه معنا أينما كنّا ) وفي عبارته هذه إشارة إلى أنّ ترتيب التنزّلات الوجوديّة إلى الأرض ، ثمّ فيها ترتيب آخر على أرضها الإظهاري ، إلى أن يكون عين المظاهر ، وإليه أشار بقوله : (إلى أن أخبرنا أنّه أعيننا)  في حديث النوافل ، فهذا منتهى المراتب
  قال رضي الله عنه : ( ونحن محدودون ، فما وصف نفسه ) حيث أخبرنا بأنّه عيننا ( إلَّا بالحد ) هذا في الآيات والأخبار الدالَّة على طرف التشبيه ، وتنزّله في مراتب الظهور والإظهار .

وأمّا ما يدلّ على التنزيه منها ، فإليه أشار بقوله : ( وقوله : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " [ 42 / 11 ] حدّ أيضا إن أخذنا الكاف زائدة لغير الصفة ) بمعنى المثل - كما سيجيء تحقيقه - وهو يدلّ على التحديد ، فإنّه إنّما يدلّ على أنّه ليس مثل المحدود ويمتاز عنه .
قال رضي الله عنه : ( ومن تميّز عن المحدود ، فهو محدود بكونه : ليس عين هذا المحدود - فالإطلاق عن التقييد  تقييد ) لأنّه مقابل له ، ممتاز عنه ، وكلّ مقابل وممتاز فهو مقيّد ( والمطلق مقيّد بالإطلاق لمن فهم ) معنى الإطلاق - وقد بينّا ذلك غير مرّة . هذا إن جعلنا الكاف زائدة .
قال رضي الله عنه : ( وإن جعلنا الكاف للصفة ) بمعنى المثل ، فإن أخذنا على ما هو الظاهر من هذا التركيب وهو حظَّ العامّة منه من إثبات المثل ونفي أن يكون شيء مثله ( فقد حدّدناه ) .

قال رضي الله عنه : ( وإن أخذنا " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " )  على ما هو استعمال البلغاء وخواصّ الخطباء (على نفي المثل) فإنّهم إذا أرادوا تنزيه المحمود أو الممدوح عن وصف ، ينفون ذلك الوصف ويبعّدونه عن مثله .
كما في قولهم : « مثلك لا يبخل » أدبا وإغراقا في تبيين تلك النزاهة ، وإشعارا بأنّ في المحمود من الأوصاف الكماليّة ما ينفي ذاك الوصف حيثما كان في نظائره وأشباهه ، وهذا ضرب من الاستدلال على نفي الشيئية والوجود عن مثل الحقّ بأن من هو نظيره منزّه عن هذا الوصف .
فلذلك قال رضي الله عنه : ( تحقّقنا بالمفهوم ) أي بما هو مفهوم الخاصّة من البلغاء عن هذا التركيب .
( وبالإخبار الصحيح ) مما يدلّ عليه ظاهرا ويصل إليه فهوم العامّة ( أنّه عين الأشياء ، الأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها ) على تكثّر صنوفها وتنوّع جزئيّاتها .
فإنّ الحدود منها ما هي ذاتيّة للشيء ، وهو ما ينتهي إليه الشيء ذاته ، كمدركات قواه وأفعال جوارحه ، ومنها ما هي عرضيّة له .
كالسطوح المكانيّة والآنات الزمانيّة التي ينتهي إليه الشيء بأعراضه وأحواله ، ومنها ما هي جامعة لهما ، كاشفة عن الكلّ وهي الأعداد وصورها الحرفيّة.
وعلم من تحقيق معنى الحدّ هذا وتبيين أقسامه وجه دخل هذا الكلام في الفصّ الهودي والحكمة الأحديّة ، فإنّك قد نبّهت في التلويحات السابقة أن "الدال "  إذا ظهر بـ « حاء » حقيقة الحق إنّما يدلّ على كنه غايات الشيء ونهايته ، فإذا ظهر في ضمن « ألف » ابتداء الوجود هو " الأحد " كما أنّه إذا جمعهما « ميم » منتهى العلم هو « الحمد » .

 فالحمد هو العلم بحدود الأشياء على اختلاف أنواعها وتكثّر صنوفها ، فإنّها حدود الحقّ .
قال رضي الله عنه : ( فهو محدود بحدّ كلّ محدود ، فما يحدّ الشيء إلَّا ) حدّه ذلك ( هو حدّ الحقّ ) .
والذي يلوّح عليه أن حد ( اال ) كل شيء هو لبّه المرئي فيه ، هذا إن أخذ من بيّناته ما هو أول ، وإن تعمّق فيها يظهر ما هو أبين .

الإنسان الكبير
قال رضي الله عنه : ( فهو الساري في مسمّى المخلوقات ) الماديّة ( والمبدعات ) المجرّدة ، ( ولو لم يكن الأمر كذلك ما صحّ الوجود ) لشيء ، ضرورة نفي الوجود عمّا يماثل الحقّ ويقابله (فهو عين الوجود) الظاهر الذي به يوجد الكلّ ، ( فهو " عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ " [ 11 / 57 ] بذاته ) وما بالذات من الشيء لا تكلَّف له في إصداره ، ولا ثقالة له منه في احتماله ، فلا يثقله ( ولا يؤده حفظ شيء ).  " إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا " [ فاطر : 41]
قال رضي الله عنه : ( فحفظه تعالى للأشياء كلَّها حفظه لصورته أن يكون الشيء ) على ( غير صورته ) ، فإنّه لم لو يحفظه ذلك لكان الشيء على غير صورته مقابلا له ومماثلا ، وذلك محال عقلا وذوقا ، فإنّ الأشياء ظاهر الحقّ وصورته ، وهو بالذات حافظ له أن يكون غير صورته .
( ولا يصحّ ) بالنظر العقلي والشهود الذوقي ( إلَّا هذا ) على ما لا يخفى ( فهو الشاهد من الشاهد ، والمشهود من المشهود ) ، فلا مدرك ولا مدرك في المعنى والصورة إلَّا هو .
قال رضي الله عنه : ( فالعالم صورته ، وهو روح العالم المدبّر له ) بهويّته ( فهو الإنسان الكبير) .
قال رضي الله عنه : ( فهو الكون ) بالكثرة الكيانيّة .
( كلَّه . وهو الواحد ) بالوحدة الوجوديّة ( الذي ) ( قام كوني بكونه ) وإطلاق الكون هاهنا على وجوده باعتبار كثرته النسبيّة الأسمائيّة ضرورة وجوب مناسبة الغذاء للمغتذي.
( ولذا قلت نغتذي ) فإنّ الغذاء ما به يتقوّم المغتذي .
قال رضي الله عنه : ( فوجودي غذاؤه ) باعتبار وحدته ليناسب المتغذي ( وبه نحن نحتذي ) ونغتذي في غذائه المغتذي .
ثم استشعر أنّه إذا كان قيام كونه بكون الحق فكيف يتمكَّن من تعوّذه واجتنابه عن البعض ،
وقال :( فبه منه إن نظر ت بوجه ) وهو هذا التوحيد الذاتي الذي فيه يتكلَّم ( تعوّذي ) كما أفصح عنه الحضرة الختميّة بقوله : « نعوذ بك منك » وعن وجوهه الأسمائي والأفعالي بقوله : "نعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقابك " .
وإذا تقرّر أن حدود الأشياء ونهاياتها وصورها وغاياتها المستخرجة من مكامن القوة إلى مجالي الفعل كلها صورة الحق ، وهي منطوية فيه ، مقتضية للظهور والبروز انطواء الكلمات في باطن المتكلم المقتضية للتكلم بها والتنفّس بإظهارها .
ولذلك عبّر عن ذلك الاقتضاء بالكرب قائلا : ( ولهذا الكرب تنفّس ، فنسب النفس إلى الرحمن ، لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية ، من إيجاد صور العالم التي قلنا ) الصورة ( هي ظاهر الحق ، إذ هو الظاهر ، وهو باطنها ، إذ هو الباطن ) ومما يلوّح على هذا تلويحا بيّنا أن « هي » هو هاء الهويّة الظاهرة على ياء الغيب ، و « هو » هو الياء منه فقط .

النفس الرحماني وظهور العالم فيها
قال رضي الله عنه : (و"هُوَ الأَوَّلُ " إذ كان ولا هي ، وهو " الآخِرُ " إذ كان عينها عند ظهورها فالآخر عين الظاهر ، والباطن عين الأوّل ) فظهر أن الحدود كلَّها عين هويّة الحقّ ( "وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ")  [ 57 / 3 ] لأنّه بنفسه عليم ) لأنّ حدود الأشياء ظاهرها وباطنها نفس هويّة الحقّ وعينها في الحضرة العليميّة والهويّة الأحديّة التي لا يتميّز المعلوم عن العالم ، فلا صورة هناك لشيء إلَّا للحقّ ، ولا نسب إلَّا له . 
قال رضي الله عنه : ( فلمّا أوجد الصور في النفس ) الرحماني الذي به انبسط عن الكرب الذي من تراكم النسب والصور في الباطن ( وظهر سلطان النسب المعبّر عنها بالأسماء ، صحّ النسب الإلهي للعالم ) ضرورة امتياز المعلوم حينئذ عن العالم ، والموجود عن الوجود ، وفتح باب لام التفصيل المنخفض كلّ الانخفاض في العليم ، وصحّة نسبة الموجودات والمعلومات مطلقا أن يكون إلى الله الحقّ . 
قال رضي الله عنه : ( فانتسبوا إليه تعالى ) بعبوديّتهم له ومخلوقيّتهم ومرزوقيّتهم ( فقال : اليوم ) أي حيث يظهر أمر النسبة عند تمايز المنتسبين ، ويطلع شمس الإظهار من أفق غيبه .
( أضع نسبكم وأرفع نسبى . أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم ) الذي كنتم عليه في يوم لا نسبة ولا المنتسبين ( وأردّكم إلى انتسابكم إليّ ) لتكونوا عبيدي ومظاهري ، فاعبدوا ما ظهر بكم .
ثمّ إذ قد علم أن يوم الظهور والإظهار إنّما اقتضى قهرمان أمر نسبة العبيد إلى الحق ، وقطع انتسابهم إلى أنفسهم - فإنّ ذلك مما ينفي إنفاذ حكم النسبة - فأخذ في تفصيل تلك النسبة - فإنّ من المحقّقين من شاهد نسبة العبيد إلى الحقّ نسبة الباطن إلى الظاهر .
ومنهم من شاهدها بالعكس  قائلا : أين المتّقون ؟ 

للمتّقي اعتباران
قال رضي الله عنه : (أين المتّقون ؟ أي الذين اتّخذوا الله وقاية ،فكان الحقّ ظاهرهم ،أي عين صورهم الظاهرة ) لوقايته لهم ( وهو أعظم الناس ) قدر الشهود صورته أعظم ما في الوجود ( وأحقّه ) شهودا ، أي الواقع أظهر مطابقة لشهوده من شهود غيرهم ، وهو ظاهر.
( وأقواه ) حجّة ( عند الجميع ) وذلك أنّ الظاهر أنزل المراتب ، فهو أشمل ، فسائر الحجج تثبت مدعاه .
قال رضي الله عنه : ( وقد يكون المتّقي من جعل نفسه وقاية للحقّ بصورته ) وهو أن يكون الحقّ باطنه ، وهو ظاهر الحقّ لوقايته له
قال رضي الله عنه : ( إذ هويّة الحقّ قوى العبد فجعل مسمّى العبد وقاية لمسمّى الحقّ على الشهود ) عن أن ينتسب إلى الحقّ جهل أو شيء من نقائص الأوصاف الكونيّة فجعل مرجع ذلك كلَّها إلى العبد .
قال رضي الله عنه : ( حتّى يتميّز العالم ) ومن يوصف بالأوصاف الكماليّة ( عن غير العالم ) ممن ينتسب إليه النقائص ويوصف بها ( " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ " [ 39 / 9 ] وهم الناظرون في لبّ الشيء ) ، المطَّلعون على غايته وحدّه .
قال رضي الله عنه : ( الذي هو المطلوب من الشيء ) وأنت قد نبّهت على ما بين اللبّ والحدّ من النسب الدالَّة التلويحيّة .
( فما سبق مقصّر ) واقف بين الأوساط ( مجدّا ) واصلا إلى حدّه ( كذلك لا يماثل أجير) يعمل بجعل هو يحرّكه وهو مجعوله ( عبدا ) يسوقه ويجرّه الفواتح والخواتم ، كما سبق في بحث السائق والآخذ بالناصية .
قال رضي الله عنه : ( وإذا كان الحقّ وقاية للعبد بوجه ، والعبد وقاية للحق بوجه ) بناء على ما في المشهد الجمعيّ الختميّ ، من الجمع بين المشاهد والأذواق كلَّها ، والختم بتمامها .
( فقل في الكون ما شئت إن شئت قلت : « هو الخلق » ) كما في مشهد المتّقين ، الذي جعلوا صورتهم وقاية للحق ، وإنّما قدم هذه الطائفة لكثرتها وغلبتها .
قال رضي الله عنه : ( وإن شئت قلت : « هو الحق » ) - كما هو مشهد المتّقين الذين اتّخذوا الله وقاية لهم .
( وإن شئت قلت : "هو الحقّ الخلق ") كما هو في المشهد الإطلاقي الختمي .

للهويّة الإطلاقيّة وجهان
ثمّ هاهنا نكتة لها كثير دخل فيه ، وهي أنّ للهويّة الإطلاقيّة التي هي مشهد الورثة الختميّة وجهين ظاهرين ولازمين بيّنين ، يظهر بهما في مجالي الوجود ومواطن الشهود :
أحدهما الإحاطة التامّة المقتضية لأن يكون عين الأشياء ، وقد عبّر عن ذلك عبارة الكاشف عنها أنّه « مع كلّ شيء لا بمقارنة » وهذا مبدأ الأوصاف الوجوديّة وقد لوّح عليه هاء « هو » رقما.
والآخر العلوّ فيها وعنها ، وهو أن لا يكون شيء يحيط بها  أو يقابلها في تلك الإحاطة ، وهو وجه تماميّتها ، وذلك يقتضي أن لا يكون عين شيء من الأشياء ، بل غيره .
كما عبّر عنه في تلك العبارة بأنّه  : " غير كلّ شيء لا بمزايلة " وهذا مبدأ الأوصاف السلبيّة ، وهو أبطن وأقرب إلى الذات ، وقد لوّح عليه واو «هو» عقدا .
فمنهم من غلبه الأوّل ، ومنهم من الغالب عليه هو الثاني ، وإليه أشار 

بقوله : ( وإن شئت قلت : لا حقّ من كلّ وجه ، ولا خلق من كلّ وجه ) كما هو ذوق بعض الشاهدين ذلك المشهد ، فإنّك قد عرفت في طيّ هذه النكتة الحكميّة ما يطلعك على ما للمعنى الإطلاقي من الوجهين ، وأنّ العدمي منهما أقرب إلى الذات وأعلى .
( وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك ) كما هو ذوق بعض الحائرين في سطوات تموّجات بحر الذات ، الضالَّين في أنوار هدايتها :ما بين ضال المنحني وظلاله
ضلّ المتيّم واهتدى بضلاله ( فقد بانت المطالب بتعيينك المراتب ) وتبيينك غايات أذواق الكمّل وحدود مراقيهم ، ( ولولا التحديد ما أخبرت الرسل ) عند الكشف عما ينبئ ما عليه الحقّ في نفسه ( بتحوّل الحقّ في الصور ، ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه ) . 
أمّا الملازمة الأولى فظاهرة ، إذ الصورة هي إحاطة حدّ أو حدود ، فهي تستلزمه ضرورة ، وأمّا الثانية فلما مرّ من أن مقابل المحدود لا بدّ وأن يكون محدودا ، كما أنّ مقابل المقيّد مقيّد بالإطلاق كما سبق تحقيقه آنفا وهذان هما الحدّان للإطلاق كما تذكَّرته آنفا . 

( فلا تنظر العين إلَّا إليه ولا يقع الحكم ) في نفي المنظوريّة عنه ( إلَّا عليه ) 
( فنحن له ) نبيّن ( وبه ) ظهر ، حال كوننا ( في يديه ) مخففين ومختفين في ثنوية المتقابلين ( وفي كلّ حال ) من الإخفاء والإظهار ( فإنّا لديه ) وذلك لما في القرب من الوحدة الإطلاقيّة ما ليس في الاتحاد ، ولذلك تراها ظاهرة بالوجهين .

أقسام الناس ومراتبهم في شهود الوحدة
( ولهذا ) الذي في الهويّة الإطلاقيّة من الوجهين ( ينكر ويعرف ، وينزّه ويوصف فمن رأى الحقّ منه فيه بعينه : فذلك العارف ) لشهوده الوحدة الجمعيّة والهويّة الإطلاقيّة بإطلاقها .
قال رضي الله عنه : ( ومن رأى الحقّ منه فيه بعين نفسه :  فذلك غير العارف ) لشهوده الوحدة ليس بإطلاقها .
قال رضي الله عنه : ( ومن لم ير الحقّ لا منه  ولا فيه ، وانتظر أن يراه بعين نفسه : فذلك الجاهل ) فإنّ حظَّه من المشهد الجمعي الختمي هو الانتظار ، ليس إلَّا ولذلك ترى سائر الأمم حظَّهم من السعة الساعة الإطلاقيّة هو انتظار ظهور الخاتم ، معبّرا عن اسمه بما أفصح عنه لسان مرتبتهم ، وناطقة عقيدتهم ، ضرورة شمول نسبة الكلّ ، وعدم بلوغ رقيقة قربهم وراء الانتظار .
قال رضي الله عنه : ( وبالجملة ، فلا بدّ لكلّ شخص من عقيدة في ربّه ) ورقيقة نسبية ( يرجع بها إليه ويطلبه فيها ، فإذا تجلَّى له الحقّ فيها عرفه وأقرّ به ، وإن تجلَّى له في غيرها نكره وتعوّذ منه ، وأساء الأدب عليه في نفس الأمر ) ضرورة إنكاره له في بعض مجاليه ومظاهره .
قال رضي الله عنه : ( وهو عند نفسه أنّه قد تأدّب معه ) ونزّهه ( فلا يعتقد معتقد ) من ذوي العقائد الجزئيّة - تقليديّة كانت أو نظريّة ( إلها إلَّا بما جعل في نفسه ) من الصورة التي عقدها من إمامه الذي تقلَّده أو ساق إليها نظره .
قال رضي الله عنه : ( فالإله في الاعتقادات بالجعل ) من المعتقد وما يصوّرون به بواطنهم ونفوسهم ( فما رأوا إلَّا نفوسهم وما جعلوا فيها ) من الصور .
قال رضي الله عنه :  (فانظر مراتب الناس في العلم باللَّه تعالى هو عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة ) كما نبّهت عليه من رؤية الحقّ كلّ أحد في سعة ساعته ، على ما عليه نفسه من الصور ، إمّا انشراحا علميا من الحقّ ، أو عقدا تقليديّا جعليّا من نفسه ، وهذا لا يمكن له أن يجاوز ذلك الصورة المحصورة إلى غيرها في تلك السعة .
قال رضي الله عنه : ( وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك ) وهو العقد الذي جعله عليه تعمّلا وتكلَّفا ، تقليدا لمن حسن ظنّه به ، فطاب له قبوله عنه .
قال رضي الله عنه : ( فإيّاك أن تتقيّد بقيد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير ) ضرورة أنّ ما تكفر به من صور الحقّ كثير بالنسبة إلى ذلك العقد المخصوص .
قال رضي الله عنه : ( بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه ) في نفسه ، فإنّه في نفسه مطلق ، وهو قد اعتقده مقيّدا مخصوصا ، فيكون الفائت منه حينئذ العلم كلَّه .

أينما وليت فثمّ وجه الله 
قال رضي الله عنه : (فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلَّها ، فإنّ الإله تعالى أوسع وأعظم أن يحصره عقد دون عقد ، فإنّه يقول : " فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه ُ الله " [ 2 / 115 ] وما ذكر أينا من أين ، وذكر أنّ ثمّ وجه الله - ووجه الشيء حقيقته - فنبّه بهذا قلوب العالمين لئلا يشغلهم العوارض)
من الصور العقديّة التي عليها جمهور الأمم ، فإنّها شاغلة للإنسان ، لتمدّنه بالطبع ، وضرورة تشاركه لبني نوعه ( في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا ) الإطلاق الذاتي ، ( فإنّه لا يدري العبد في أيّ نفس يقبض ) عن هذا الموطن الإطلاقي والنشأة الطبيعيّة الكلَّية ( فقد يقبض في وقت غفلة ، فلا يستوي مع من قبض على حضور ) .
ثمّ أخذ يبيّن مبدأ ما عليه الجمهور من العوارض الشاغلة ، والعقائد العائقة قائلا : ( ثمّ إنّ العبد الكامل مع علمه بهذا ) الوجه الإطلاقي ( يلزم في الصورة الظاهرة ) وما هي عليه من حكم الكون وقهرمان القيد ( والحال المقيّدة ) من العوارض المشخّصة الزمانيّة وتطوّراتها المكانيّة.

قال رضي الله عنه : ( التوجّه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ،ويعتقد أن الله في قبلته حال صلاته) وهو من آثار تقيّد العبد وتشخّصه زمانا ومكانا.
قال رضي الله عنه : (وهو بعض مراتب وجه الحقّ من : " فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه ُ الله " فشطر المسجد الحرام منها) أي من تلك المراتب وجزئيّاتها ( ففيه وجه الله ، ولكن لا تقل « هو هنا فقط » ) .

كما قيل :
لا تقل دارها بشرقي نجد   ..... كلّ نجد للعامريّة دار
فلها منزل على كلّ ماء   ...... وعلى كلّ دمنة آثار
قال رضي الله عنه : ( بل قف عندما أدركت ) من الإطلاق ، ( والزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام ) خاصّة ، وفاء بحقّ العبوديّة من الإذعان والانقياد .
( والزم الأدب في عدم حصر الوجه في تلك الأينية الخاصّة ) وفاء بحقّ كمال العبوديّة ، وبيّن أنّ كلّ ما يقصده المتحرّك فهو المتوجّه إليه - سواء كان شرحيّة صدريّة ، أو عقديّة عقليّة ، أو كونيّة طبيعيّة ، أو ظهوريّة جوهريّة ، أو حاليّة عرضيّة نمويّة كميّة ، أو استحاليّة كيفيّة ، أو انتقاليّة أينيّة - وهذا أظهر أقسام الحركة وأنزل مراتبها.
ولذلك قال : ( بل هي من جملة أينيّات ) أي منسوبات إلى الأين ، وهي سائر أقسام الحركة وأصنافها ( ما تولى متول إليها ) على ما هو المستفاد من العموم في "أَيْنَ ما".
قال رضي الله عنه : ( فقد بان لك عن الله أنّه في أينية كلّ وجهة ، وما ثمّ ) في الأينيّات ( إلَّا الاعتقادات ) فإنّها أصل سائر الحركات والأينيّات ، ( فالكلّ ) من المعتقدين ( مصيب ) في اعتقاده ، لأنّه ممّا تولَّى إليه متولي .
قال رضي الله عنه : ( وكلّ مصيب مأجور ، وكلّ مأجور سعيد ، وكلّ سعيد مرضيّ عنه وإن شقي زمانا  في الدار الآخرة ) باعتبار إدراكه الأمور الغير الملائمة المنافرة لمقتضى زمانه .
قال رضي الله عنه : ( فقد مرض وتألَّم أهل العناية - مع علمنا بأنّهم سعداء أهل حقّ - في الحياة الدنيا ) .

نعيم أهل جهنّم
قال رضي الله عنه : ( فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار يسمّى" جهنّم " ) وأنت قد عرفت من قريب ما يختصّ به أهل جهنّم من الملائمات الخاصّة بأهل القرب ، فاستشعر ذلك قائلا رضي الله عنه : ( ومع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه أنّه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاصّ بهم ، إمّا بفقد ألم كانوا يجدونه )
مما يمنعهم عن إدراك ما هم عليه من القرب ، كالتوهّمات والخيالات العائقة عن إدراك الأمر على ما هو عليه ( فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم ، أو يكون نعيم مستقلّ زائد ) على فقد المؤلم ، ذلك مما يثمره أطوار أدوار الزمان على أفنان الوقت ، ( كنعيم أهل الجنان في الجنان والله أعلم ) . 

تمهيد للفصّ الآتي
وإذ قد بيّن في الفصّ الهودي أمر الطريق وما هو عليه من الاستقامة والاستواء واتّفاق السالكين كلَّها فيه على منهج الصواب ومسلك السداد :
ناسب أن يستردف ذلك بما يكشف عمّا به يتحقّق السلوك على ذلك الصراط المستقيم .
ومنه تصدر الحركة في منهجه القويم ، وعمّا به تتخالف المذاهب وتتباين الطرق والشوارع فقال : فص حكمة فاتحية في كلمة صالحية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 11 - فصّ حكمة فاتحيّة في كلمة صالحيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالثلاثاء أغسطس 20, 2019 2:35 pm

11 - فصّ حكمة فاتحيّة في كلمة صالحيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الصالحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
11 - فصّ حكمة فاتحيّة في كلمة صالحيّة
فصّ حكمة فاتحيّة في كلمة صالحيّة ووجه اختصاص هذه الكلمة بحكمتها هو أنّ لصالح عليه السّلام قد انفتق عن جبل الجبلَّة ناقة القوّة وإبل القابليّة .
وله انفتح عند إنبائه وانبساطه على عرض أرض الإظهار أبواب مظاهر الأوصاف الكماليّة ، يعني الحيوان الذي به يظهر الحياة والإرادة والقدرة والسمع والبصر ، وعليه تقطع اللطيفة الإنسانيّة سباسب قفار الأمزجة الكثيفة الانحرافيّة ، إلى أن يبلغ سواد اعتدالها النوعي ، ورياض أوصافها الوجوديّة وأفعالها الكماليّة الكلاميّة ، الكاشفة عن كنه الكلّ ، فله صلوح الكشف عن الحكمة الفتوحيّة الحصوليّة الصلوحيّة .
والذي يلوّح على ذلك اتّفاق عقدي الفاتح ( 21 ) والصالح ( 21 ) في الثلاثة التي عليها يقوم أمر فتح أبواب الظهور والإظهار كما سيحقّق ذلك
وإلى ذلك أشار بقوله : ( من الآيات ) الكاشفة عن الحكمة الفاتحيّة( آيات الركائب )ركائب القوابل التي بها يقصد كلّ أحد مواطنه المتخالفة ، وعليها يسلك مسالكهم المتفاوتة المتباينة .
( وذلك لاختلاف في المذاهب ) فإنّ القابليّة أصل الخصوصيّات ومعدن تكثّر التعيّنات .
( فمنهم قائمون بها بحقّ ) أي واقفون بتلك الركائب على موطن الحقّ في عين الحركة والسلوك ، وفي لفظ « قائمون » إشارة إلى تلك الجمعيّة - فتنبّه.
ومنهم قاطعون بها (السباسب) فإنّ من الناس من وقع بسبب تشدّدهم على ركائب قابليّاتهم بأسواط التعمّلات والتسببات في فيافي الأنظار والأفكار ، ومنهم من هام بها في مهامه الأوصاف والأحوال ، ومنهم من ضلّ في سباسب الأعمال والأفعال. " سباسب جمح سبسب : البيداء والصحراء ".
( فأمّا القائمون فأهل عين )وشهود ، ضرورة قيام أمرهم بها ،( وأمّا القاطعون هم الجنائب ) أي المطيعون ، يقال : « فرس جنيب » أي منقاد والجنيب فيه معنى القربة والبعد ، ويقال : « جنيب » لفرس يتهيّأ للركوب ، وسائر المعاني هاهنا مستشعر منه .
وإذ كان الغرض من هذا التفصيل تمييز مراتب السالكين وأطوارهم ، وإنّما يستفاد ذلك من الحصر - على ما لا يخفى - فما نوقش في هذا التركيب من ترك « الفاء » بمعزل عن الصواب عند أهل التحقيق ، سيّما في النظم .
( فكلّ منهم ) - من أهل العين والجنائب - ( يأتيه منه ) أي من هو الذي آخذ بناصية الكلّ
( فتوح غيوبه من كلّ جانب ) من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
[ الفرديّة والتثليث ]
( اعلم - وفّقك الله ) للاستطلاع على حقائق العدد ومكنونات رموزه ودقائقه - ( أن الأمر ) - ظهورا كان أو إظهارا - ( مبنيّ في نفسه على الفرديّة ) وهي عدم الانقسام بالمتساويين عمّا من شأنه الانقسام فلا يشمل الواحد ضرورة .
وقد لوّحت على ما بين بحث التثليث وهذه الحكمة من المناسبة آنفا فلا نعيده ، على أنّ الفرد مشتمل بيّناته الأول على عقدي التثليث الذي في الكلمة والحكمة ( ا ا ال ) ( 33 ) .
وبيّن أنّ المنقسم إمّا أن ينقسم بالمتساويين ، فله الشفعية والتثنية من العدد ، أو لا ينقسم بالمتساويين ، - بل بالمتخالفين في الزيادة والنقصان - فله الفرديّة والتثليث ، ضرورة اشتمال القسم الزائد على الناقص وفضل ، وإليه أشار بقوله :
(فلها التثليث ، فهي من الثلاثة فصاعدا . فالثلاثة ) في نفسه مجرّدا عمّا يقوم به ( أوّل الأفراد ) فإنّ المراتب العدديّة حقائق مجرّدة في نفسها عند أهل التحقيق ، وذلك التثليث هو الذي ظهر لقوم في صورة الفاعل والقابل والفعل ، ولآخر في العلَّة والمعلول والعليّة ، ولآخر في المحبّ والمحبوب والمحبّة ، ولآخر في الذات والصفة والاسم ، ولآخر في الإله والعبد والعبوديّة .
( وعن هذه الحضرة الإلهيّة ) - التي لها التثليث - ( وجد العالم ، فقال تعالى : " إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناه ُ أَنْ نَقُولَ لَه ُ كُنْ فَيَكُونُ " [ 16 / 40 ] فهذه ذات ذات إرادة وقول ، ولولا هذه الذات وإرادتها ، وهي نسبة التوجّه بالتخصيص لتكوين أمر ما ) .
واعلم أنّ هذين الأمرين في التكوين بمنزلة المادّة ، التي بها الشيء بالقوّة ، والقول بمنزلة الصورة التي بها الشيء بالفعل .
وإليه أشار بقوله : - ( ثمّ لولا قوله عند هذا التوجّه « كن » لذلك الشيء : ما كان ذلك الشيء ) ولذلك ترى القول في الآية المذكورة مكرّرة ، ضرورة أنّ الصورة من الشيء التي هي الغاية للحركة الإيجاديّة ، لها تكرّر تقدّم ذاتي أوّلا على الكل وتأخر رتبيّ ثانيا عنه .
( ثمّ ظهرت الفرديّة الثلاثيّة أيضا في ذلك الشيء ) المتوجّه اليه ، فإنّ النسبة حاكمة على الطرفين ، مسمية لهما ، وبتكرّر هذه الفرديّة الثلاثيّة في طرفي الفاعل والقابل ثمّ أمر الكون ، فإنّ الستّة هي أوّل ما ظهر منه أمر تمام الكثرة ، ولذلك ترى صورة التثليث في الفرد مثنّاة ، كما لوّح عليه آنفا .
فمن تلك الفرديّة والتثليث انتسب إليه الكون ( وبها من جهته ) - أي من طرف الشيء - ( صحّ تكوينه واتّصافه بالوجود ، و ) تلك الفرديّة الثلاثية ( هي شيئيّته وسماعه وامتثاله أمر مكوّنه بالإيجاد ، فقابل ثلاثة بثلاثة ) وبه يسمّى بالمقابل ، إذ بمقابلته الثلاثة بالثلاثة تمّ أمر الكثرة المستتبعة للصورة الكونيّة .
وذلك ( ذاته الثابتة في حال عدمها في موازنة ذات موجدها ، وسماعه في موازنة إرادة موجده ، وقبوله بالامتثال لما أمر به من التكوين في موازنة قوله « كُنْ » فكان هو ، فنسب التكوين إليه ) أي نسب ظهوره بالصورة الكونيّة إلى الشيء ، فهو الذي كوّن نفسه بالقابليّة المذكورة .
(فلولا أنّه في قوته التكوين من نفسه عند هذا القول ، ما تكوّن ، فما أوجد الشيء بعد أن لم يكن عند الأمر بالتكوين إلَّا نفسه ) وليس للحقّ تعالى سوى الأمر فقط ، ( فأثبت الحقّ تعالى أنّ التكوين للشيء نفسه ، لا للحقّ ، والذي للحقّ فيه أمره خاصّة ، وكذا أخبر عن نفسه ) بشهادة أداة الحصر على الأمر ( في قوله : " إِنَّما أَمْرُه ُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَه ُ كُنْ فَيَكُونُ " [ 36 / 82 ] فنسب التكوين لنفس الشيء عن أمر الله ) فإنّ الغاية للإرادة وتوجّه الذات بالتخصيص الأمري إلى الشيء إنّما هو تكوينه ، فلذلك قال : "فَيَكُونُ " أي بدون فاعل من خارج ، وللإشعار بأن الشيء هي الغاية قال : « لنفس الشيء » باللام دون إلى .
( وهو الصادق في قوله ) . هذا ما يدلّ على ما ذكرنا بحسب منطوق النقل (وهذا هو المعقول) أيضا ( في نفس الأمر ، كما يقول الآمر الذي يخاف ولا يعصى لعبده : « قم » ، فيقوم العبد امتثالا لأمر سيّده ، فليس للسيّد في قيام هذا العبد سوى أمره بالقيام ، والقيام من فعل العبد ، لا من فعل السيّد. فقام أصل التكوين على التثليث ، أي من الثلاثة من الجانبين : من جانب الحقّ ، ومن جانب الخلق ).
ومما يلوّح عليه تلويحا كاشفا اشتمال « الله » على الثلاثة المتكرّرة من لامي الفاعل والقابل ، وبهما تمّ أمر الظهور ، كما أنه بالستّة - التي هي من ألف الابتداء وهاء المنتهى - تمّ أمر الإظهار .
ولما بيّن سريان الفرديّة الثلاثيّة في أمر الظهور أخذ يبيّن ذلك في أمر الإظهار قائلا :
( ثمّ سرى ذلك في إيجاد المعاني بالأدلَّة ، فلا بدّ في الدليل من أن يكون مركَّبا من ثلاثة على نظام مخصوص وشرط مخصوص ، وحينئذ ينتج ، لا بدّ من ذلك وهو أن يركَّب الناظر دليله من مقدّمتين : كلّ مقدّمة يحتوي على مفردين ، فتكون أربعة ، واحد من هذه الأربعة يتكرر في المقدمتين ، لتربط إحداهما بالأخرى ، كالنكاح )
فإنّه مشتمل على مقدّمتي الأبوين المنطويين على آلتيهما للتناسل ، وذلك الواحد المتكرر ( فتكون ثلاثة لا غير ، لتكرار الواحد فيهما ، فيكون المطلوب ) - ظهوريّا كان أو إظهاريّا ( إذا وقع هذا الترتيب على الوجه المخصوص - وهو ربط إحدى المقدّمتين بالأخرى ، بتكرار ذلك الوجه المفرد ، الذي به صحّ التثليث ) الموجب لتولَّد النتيجة ، فيكون ذلك هو العلَّة للتوليد ( والشرط المخصوص ) وهو ( أن يكون الحكم ) أي المحكوم به في المطلوب .
المسمّى بالأكبر ( أعمّ من العلَّة ) المذكورة المسمّاة بالأوسط - كما يقال في « هذا حيوان » : « إنّه إنسان ، وكلّ إنسان حيوان » - ( أو مساويا لها ) - كما يقال فيه : « إنّه ماش ، وكلّ ماش حيوان » - ( وحينئذ يصدق ) النتيجة .
( وإن لم يكن كذلك ) كما إذا كان الحكم أخصّ أو مباينا ، كما يقال :
« كلّ إنسان حيوان ، وبعض الحيوان فرس » أو « ليس بإنسان » ( فإنّه ينتج نتيجة غير صادقة ) .
وإذ كان الغرض هاهنا تبيين مثال ، اكتفى من أشكال البراهين بالأوّل منها ، ومنه بما ينتج الموجبات ، لا مطلقا ولذلك لم يتعرّض لإيجاب الصغرى ، كما تعرّض لكلَّية الكبرى .
(وهذا ) الحكم التثليثيّة ( موجود في العالم ، مثل إضافة الأفعال إلى العبد ، معراة عن نسبتها إلى الله ) أي لا دخل له تعالى فيها أصلا ، كما هو رأي بعض المتكلَّمين ( أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى الله مطلقا ) بدون دخل للعبد فيه - كما هو رأي أكثر الملَّيين - ( والحقّ ما أضافه إلَّا إلى الشيء الذي قيل له : " كُنْ " ) كما هو رأي أهل الحقّ ، وهذا هو الثالث الذي يتولَّد منه النتيجة الحقّة .
هذا ما له من المثال في عالم الظهور ، وأمّا ما في عالم الإظهار والإثبات ( مثاله إذا أردنا أن ندل أنّ وجود العالم عن سبب ، فنقول : « كلّ حادث فله سبب » ) وفي تقديمه الكبرى إشارة إلى أنّها الامّ في التوليد المذكور وقربها إلى الإنتاج ( فمعنا الحادث والسبب ثمّ نقول في المقدّمة الأخرى : « والعالم حادث » ) وإنّما أخلّ بالترتيب بالمقدّمتين تنبيها على أنّ مرجع سائر الأشكال إنّما هو إلى الأوّل .
بأيّ ترتيب وقعت ، فإنّ هذا ترتيب الرابع منها ، أو على أنّ المادّة الصحيحة والصورة المستجمعة للشرائط منتجة في أيّ ترتيب كان ، ( فتكرّر « الحادث » في المقدمتين ) .
( والثالث قولنا : « العالم » ) هذا استشعار لما حكم آنفا من أن الأوسط هو الذي صحّ به التثليث المنتج ، فإنّه قد يكون ذلك الأصغر ، كما نبّه عليه.
( فأنتج أنّ « العالم له سبب » يظهر في النتيجة ما ذكر في المقدّمة الواحدة ) المسمّاة بالكبرى ، لاشتمالها على الأكبر ، يعني الحكم في النتيجة ( وهو السبب ) فإنّ الحكم والمحمول هو الظاهر على المحكوم عليه والموضوع ، وبهذا الاعتبار له الأكبر .
( فالوجه الخاصّ هو تكرار الحادث ) هاهنا ( والشرط الخاصّ عموم العلَّة ) فإنّ العلَّة هو الحكم هاهنا ( لأنّ العلَّة في وجود الحادث السبب ، و ) ذلك السبب الذي هو الحكم هاهنا .
( هو عامّ في حدوث العالم عن الله) فإنّ ما له سبب أعمّ من الحادث من الله - الذي هو العالم - والحادث من سبب آخر ، وإنّما صرّح بذلك تنبيها على أنّ الحكم في هذا المثال أعمّ من العلَّة فقوله : ( أعني الحكم ) - تفسير للضمير الغائب ( فنحكم على كلّ حادث أنّ له سببا ، سواء كان ذلك السبب ) أي العلَّة التي هي الوسط في القياس - وهو الحادث هاهنا - ( مساويا للحكم ) - كما في مثالنا هذا إذا أطلق الحادث على الذاتي ، ولم يخصّ بالحادث عن الله ، كما نبّه عليه آنفا - ( أو يكون الحكم أعمّ منه ) كما إذا أخذ الحادث زمانيّا أو لم يخصّ ( فيدخل ) الحادث ( تحت حكمه ) في الصورتين ( فتصدق النتيجة ) ضرورة تعدّى الحكم منه إلى الأصغر .
وإنّما اختلط هاهنا في التعبير ، حيث أطلق السبب تارة على الأكبر ، وأخرى على الأوسط ، والعلَّة أيضا كذلك : تنبيها على أنّ محافظة أمر المصطلحات وتعيين مفهوماتها وتبيين أحكامها وموضوعاتها - على ما أكبّ عليه أرباب هذه الصناعة - مما لا يجدي فيها بطائل ، وتعريضا لهم بذلك .وعاد دعاوى القيل والقال وانج من عوادي دعاو صدقها قصد سمعة.
( فهذا أيضا قد ظهر حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتنص بالأدلَّة ،فأصل الكون التثليث) ظهوريّا أو إظهاريّا ، وجوديّا أو عدميّا.
[ حكمة تأخير نزول العذاب على قوم صالح ]
(ولهذا كانت حكمة صالح عليه السّلام التي أظهر الله في تأخير أخذ قومه ثلاثة أيام ) - لما في كلمته وحكمته من حكم التثليث - ( وعدا غير مكذوب) وفي بعض النسخ « وعد » - كما هو لفظ التنزيل - على الحكاية أو على خبر مبتدأ محذوف : أي ذلك وعد غير مكذوب .
( فأنتج ) التثليث ذلك ( صدقا ) أي ما يطابق الواقع ( وهو الصيحة التي أهلكهم بها " فَأَصْبَحُوا في دِيارِهِمْ جاثِمِينَ " ) [ 11 / 67 ] أي هالكين .
وهذا الذي تنتجه الصيحة من أثر التثليث ( فأوّل يوم من الثلاثة اصفرّت وجوه القوم ) لأن الاصفرار أوّل ما يتدرّج به البياض نحو السواد ( وفي الثاني احمرّت ، وفي الثالث اسودّت ، فلما كملت الثلاثة ) في الأيّام الثلاثة كمًّا وكيفا .
( صحّ الاستعداد ) للفساد ، أعني السواد - فإنّ السواد يناسب الفساد ويقربه عقلا وعقدا - ( فظهر كون الفساد فيهم ) إذ كلّ ما وقع في هذا العالم كون وظهور في نفسه ، وإن كان فسادا باعتبار آخر .
ولذا عبّر عنه بقوله تعالى : " فَأَصْبَحُوا في دِيارِهِمْ " أي ما كانوا فيه وعليه" جاثِمِينَ " [ 11 / 67 ] أي ملتذّين به ، قاعدين عنده ، غير مترقّين عنه ( فسمّى ذلك الظهور هلاكا ) لما فيه من الخفاء لهم بالنسبة إلى السعداء .
( فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة إسفار وجوه السعداء في قوله تعالى " وُجُوه ٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ " [ 80 / 38 ] من السفر وهو الظهور ) فكان الإسفار في أوّل يوم ظهور علامة السعادة ، ( كما كان الاصفرار في أوّل يوم ظهور علامة الشقاوة في قوم صالح ) .
( ثمّ جاء في موازنة الإحمرار القائم بهم ) أي غير زائل عنهم سريعا ، كما في احمرار السعداء ، فإنّ ( قوله تعالى في السعداء " ضاحِكَةٌ " فإنّ الضحك من الأسباب المولدة لاحمرار الوجوه ، فهي في السعداء احمرار الوجنات) الغير القائم ، كما هو أثر الضحك.)
ثمّ جعل في موازنة تغيير بشرة الأشقياء بالسواد قوله تعالى :
(" مُسْتَبْشِرَةٌ " وهو ما أثّره السرور في بشرتهم ) من الآثار المتحوّلة السريعة الزوال ( كما أثّر السواد في بشرة الأشقياء ) أثرا قائما مستقرّا ، فالكلّ مشتركون في أثر بشرتهم الظاهرة
( ولهذا قال في الفريقين بالبشرى ، أي يقول لهم قولا يؤثّر في بشرتهم ، فيعدل بها إلى لون لم تكن البشرة تتصف به قبل هذا ) ضرورة أنّ ذلك اللون متبطَّنة فيهم إلى أن يقول الخاتم ويظهر ، فإنّ القول هو الإظهار ، ليس إلَّا .
وفي قوله هاهنا تلميحات وإشارات خفيّة إلى أنّ الأشقياء هم المختصّون بخصائص أولى النهايات من ذوي الولايات ، كما أنّ السعداء لهم الكمال المختصّ بأهل البدايات من اولي النبوات ، كما قال ابن الفارض مصرّحا ببعض ما فيه من الإشارات:
و قل لقتيل الحب وفيت حقه .... و للمدعى هيهات ! ما الكَحَلُ الكُحلُ
وفي حبها بعت السعادة بالشقا، ... ضلالا وعقلي عن هداي به عقل
وما في الحديث أيضا على ما هم عليه: " الفقر سواد الوجه في الدارين " .
وكذا في قوله : (فقال في حقّ السعداء : "يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْه ُ وَرِضْوانٍ") [ 9 / 11 ] على صيغة الخبر والوعد بالرحمة العامّة والرضوان ).
وقال في حقّ الأشقياء :" فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ "[ 9 / 34 ] .
على صيغة الخطاب ، والأمر ببشارتهم بالعذاب الذي هو من المنح الخاصّة .
على ما نصّ عليه قوله تعالى : " عَذابِي أُصِيبُ به من أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ " [ 7 / 156 ] .
( فأثّر في بشرة كلّ طائفة ) وظاهر أمرهم ( ما حصل في نفوسهم ) و بواطن قابليّاتهم ( من أثر هذا الكلام ) الجمعي والإظهار الختمي.
( فما ظهر عليهم في ظاهرهم إلَّا حكم ما استقرّ في باطنهم من المفهوم ) عن ذلك الكلام ( فما أثّر فيهم سواهم ، كما لم يكن التكوين إلَّا منهم ، فللَّه الحجّة البالغة ) على الكل فيما يفيض عليهم ويمنحهم .
( فمن فهم هذه الحكمة الفتوحيّة وقرّرها في نفسه ) تقرير متيقّن ( وجعلها مشهودة له ) في سائر أحواله ( أراح نفسه من التعلَّق بغيره ، وعلم أنّه لا يؤتى عليه بخير ولا بشرّ إلَّا منه ، وأعني بالخير ما يوافق غرضه ويلائم طبعه ومزاجه ، وأعني بالشرّ ما لا يوافق ولا يلائم طبعه ومزاجه ) حتّى تعلم أنّهما يختلفان بالنسبة والاعتبار ، فإنّ الخير عند قوم قد يكون شرّا عند آخر ، فالخير عند السعداء شرّ عند الأشقياء وبالعكس .
(ويقيم صاحب هذا الشهود معاذير الموجودات كلَّها عنهم ، وإن لم تعتذروا ) هم عن أنفسهم ضرورة أنّه يعرف مبدأ ذلك ( ويعلم أنّه منه كان كلّ ما هو فيه كما ذكرناه أوّلا في أنّ العلم تابع للمعلوم فيقول لنفسه إذا جاءه ما لا يوافق غرضه : " يداك أوكتا وفوك نفخ ") .
أوكأ على ما في سقائه : إذا شدّه بالوكاء .
وفي هذا المثل إشارة إلى مرتبتي الظهور والإظهار على ما لا يخفى .
( والله يقول الحقّ وهو يهدى السبيل ) .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فصّ حكمة قلبيّة في كلمة شعيبيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 8:59 pm

12 -  فصّ حكمة قلبيّة في كلمة شعيبيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الجزء الأول

12 - فصّ حكمة قلبيّة في كلمة شعيبيّة

وجه تسمية الفصّ
ووجه اختصاص الكلمة بالحكمة هاهنا ما ستطلع عليه من كلام المصنّف أنّ في القلب فنونا من التشعيب لا تحصى ،بها تثمر العقائد التي عليها يتصوّر في الجنّة وبها يتجلَّى عند أربابها.
وأمّا التلويح الكاشف لذلك : فهو أنّ شعيبا ( 13 ) صورة تفصيل ما للقلب من العقود ( 6 ، 13 ) ، كما أنّ القلب ( 132 ) معرب عمّا لشعيب ( 382 ) من الأربعة المحيطة بصورة السعة الإلهيّة .
 
وأيضا في تفصيل البيّنات القلبيّة ( أف ، أم ، ا 123 لف ا ، لف يم ، لف 381 )  ) ما يشعر بأنّ الكلمة الشعيبيّة هي الكاشفة عن حكمة القلب ، ضرورة أنّه الصورة المقوّمة إياها خاصّة ، ولذلك أخذ يتكلَّم في القلب قائلا
  سعة القلب   
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أنّ القلب - أعني قلب العارف باللَّه - ) فإنّه يستفهم منه معاني غير ذلك ، لا دخل له هاهنا ( هو من رحمة الله ) فإنّه من الحقائق الوجوديّة المنطوية على ما في قوسي الحقائق الإلهيّة والمراتب الكيانيّة ، كما اطَّلعت على تحقيقه مرارا ، ( وهو ) لكمال سعته المذكورة ( أوسع منها ، فإنّه وسع الحقّ جلّ جلاله ، ورحمته لا تسعه ) على ما ورد : « ما وسعني أرضي ولا سمائي » ، فإنّ وجوده ورحمته ليس له مظهر غير سماء الأسماء الإلهيّة وأرض الحقائق الكيانيّة .
( هذا لسان عموم ) تكلَّم على ما ورد من الحديث غير مجاوز عن ظاهره ، ولكن ( من باب الإشارة ) لا صريح العبارة ، ( فإنّ الحق ) على فهم العموم (و) لسانه ( راحم ليس بمرحوم ، فلا حكم للرحمة فيه ) حتّى يحيط به ويسعه .


الربوبية تطلب المربوب والألوهية تطلب المألوه
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا الإشارة من لسان الخصوص : فإنّ الله وصف نفسه بالنفس ، وهو من التنفيس )
الذي هو تفريج الكرب ، فإنّ في باطنه من الأسماء ما يطلب الظهور ويهتمّ به وذلك ممّا يستلزم الكرب.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنّ الأسماء الإلهيّة عين المسمّى ، وليست إلَّا هو ، وإنّها طالبة ما تعطيه من الحقائق ، وليست الحقائق التي تطلبها الأسماء إلَّا العالم ، فالالوهة تطلب المألوه ) .
حتّى تثبت وتتعيّن ، فإنّ الأسماء الإلهيّة تقتضي ثبوت المألوه وتعيّنه ، كما أنّ أسماء الربوبيّة تقتضي وجوب المربوب وظهوره ، وإليه أشار بقوله : ( والربوبيّة تطلب المربوب ) حتّى تظهر به وتوجد في العين وهذا هو الفرق بين الالوهيّة والربوبيّة ، لا ما قيل في بعض الشروح « 1 » - فتأمّل .
( وإلا ) - أي وإن لم تطلب نسبة الالوهة والربوبة ، المألوه والمربوب - لم تحصل تلك النسبة أصلا ( فلا عين لها إلَّا به وجودا ) في الخارج ( وتقديرا ) في العلم ، فإنّ النسبة وإن كانت حاكمة على الطرفين ، مسمّية لهما : لكن لا وجود لها إلَّا بهما .
هذا اقتضاء الحقّ من حيث النسب الأسمائيّة الوهيّة وربوبيّة ( والحقّ من حيث ذاته غنيّ عن العالمين ، والربوبيّة ما لها هذا الحكم ) ضرورة احتياجه إلى المربوب .
ثمّ إنّ الربوبيّة لما كان أنزل من الالوهيّة فهي أشمل ضرورة اقتصر عليها قائلا : ( فبقي الأمر بين ما تطلبه الربوبيّة وبين ما تستحقّه الذات من الغنى عن العالمين ، وليست الربوبيّة على الحقيقة ) عند الثبوت ( والاتّصاف ) عند الإثبات ( إلَّا عين هذه الذات ) - كما سبق تحقيقه مرارا
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما تعارض الأمر ) بين الاحتياج والغنى ( بحكم النسب ) التي هي العين حقيقة واتّصافا ، فإنّه بالنسبة إلى الذات عينها يستلزم الغناء ، وبالنسبة إلى الأسماء التي هي عينها يقتضي الاحتياج ( ورد في الخبر ما وصف الحقّ به نفسه من الشفقة على عباده ) وما كتب على نفسه من الرحمة عليهم ، وذلك لأنّ الشفقة على العباد وكتابة الرحمة عليهم فيها معنى الاستغناء مع الاحتياج على ما لا يخفى .
 
سعة الرحمة
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأوّل ما نفّس عن الربوبيّة بنفسه المنسوب إلى الرحمن ) فإنّ الرحمة هي الوجود ، فنسب إليه النفس ( بإيجاده العالم الذي تطلبه الربوبيّة بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهيّة ) .
( فيثبت من هذا الوجه ) الذي يتكلَّم فيه لسان الخصوص ( أنّ رحمته وسعت كلّ شيء ، فوسعت الحقّ ، فهي أوسع من القلب ) بناء على أنّ الرحمة
 
الوجوديّة لها الإحاطة بالأشياء ، ومنها القلب ، فهي أوسع منه ضرورة أنّه لا يسع نفسه .
ثمّ إنّ من شأن القلب الإحاطة بسائر المتقابلات وبنفسه أيضا إحاطة علميّة  وإليه أشار بقوله :
( أو مساوية له في السعة ، هذا مضى ) مما تكلَّم به لسان العموم ولسان الخصوص .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ ليعلم أنّ الحقّ تعالى - كما ثبت في الصحيح  يتحوّل في الصور عند التجلَّي ) أيّ الصور كلَّها ، فإنّها الجمع المحلَّى ، وهو يستغرق الأفراد الغير المتناهية كلَّها .
 
سعة القلب وضيقه
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأنّ الحقّ تعالى إذا وسعه القلب لا يسع معه غيره من المخلوقات ، فكأنّه يملؤه ) بأحديّة جمعيّته التي لا يمكن أن يكون معه غيره ، لامتناع أن يكون الخارج من الغير المتناهي شيئا ( ومعنى هذا أنّه إذا نظر إلى الحقّ عند تجلَّيه له لا يمكن أن ينظر معه إلى غيره ) وهذا من كمال إحاطة الحقّ بالكلّ ، لا من ضيق القلب ، كيف...
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقلب العارف من السعة كما قال أبو يزيد البسطامي : " لو أنّ العرش وما حواه مائة ألف ألف مرّة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحسّ به " ) .
وذلك لأنّ هذا كلَّه متناه ، وهو مندرج في أحديّة جمع الصور الغير المتناهية ، مندمج فيها ، فلا يحسّ به أصلا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقال الجنيد في هذا المعنى : « إنّ المحدث إذا قرن بالقديم لم يبق له أثر » ) وفي عبارة الجنيد زيادة بيان لذلك المعنى ، فإنّ المحدث - المحصور بين الحاصرين - إذا قرن بالقديم الذي لا يحصره حدّ لم يبق له أثر . فإنّه مندمج فيه ، فلا يحسّ بوجوده أصلا ، وإن كان فيه .
وإليه أشار بقوله : ( وقلب يسع القديم كيف يحسّ بالمحدث موجودا ) وإن أحسّ به في ضمن الموجود .
 
القلب والتجلي الإلهي
ثمّ إنّ من كمال السعة أن لا يقابله الضيق - بل يجمعه - والسعة القلبيّة بهذه المثابة ، كما أشار إليه بقوله رضي الله عنه  : ( وإذا كان الحقّ يتنوّع تجلَّيه في الصور ) كلَّها ( فبالضرورة يتّسع القلب ) بحسب قبوله للصور المتنوّعة على كثرتها واختلافها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلَّي الإلهي ، فإنّه لا يفضل من القلب شيء عن صورة ما يقع فيه التجلَّي ، فإنّ القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محلّ فصّ الخاتم من الخاتم ) على ما نبّهت عليه في صدر الكتاب من وجوه المناسبات بين القلب والفصّ ولكن فصّل تلك المناسبة بما يميّز بين مراتب القلب وأطواره ، وما شبّه به من الخاتم وطبقاته ، بحيث تتطابق أحكام تلك المراتب على تلك الطبقات .
وذلك لأنّه ظهر من عبارته التمييز بين القلب والتجلَّي ، وما وقع فيه التجلَّي وصورته ، وكذلك بين الخاتم والفصّ وما وقع فيه الفصّ وصورته ، ولا يخفى على الذكيّ وجه التطابق بين الكلّ ، ولكن غرض المصنّف تحقيق أمر التطابق بين صورة ما وقع فيه التجلَّي ، وبين صورة ما وقع فيه الفصّ ، حيث أنّ شيئا من أجزائه عن الفصّ ( لا يفضل ، بل يكون على قدره وشكله من الاستدارة - إن كان الفصّ مستديرا - و من التربيع والتسديس والتثمين ) .
وفي تخصيص هذه الصور في المثال المذكور بالبيان نكتة ، وهي أن يكون الاستدارة إشارة إلى التنزيه الصرف ، لما فيها من الأوصاف العدميّة ، لعدم تمايز الأطراف ، وعدم التشكَّل بالزوايا والسطوح ، والباقي إشارة إلى طرق التشبيه المعتبرة ، وهي الظاهرة أحكامها من الأزواج ، كما سبق التنبيه إليه والذي يدلّ على ذلك قوله تعالى : " ما يَكُونُ من نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى من ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ "[58 / 7].
فصرّح بما صرّح به التنزيل من تلك الصور ، وأجمل حيث أجمل ، ولذلك عمّم .
وقال رضي الله عنه  : ( وغير ذلك من الأشكال ، إن كان الفصّ مربعا أو مسدّسا أو مثمّنا - أو ما كان من الأشكال - فإنّ محلَّه من الخاتم يكون مثله - لا غير – وهذا عكس ما يشير إليه الطائفة من أنّ الحقّ يتجلَّى على قدر استعداد العبد ) فيكون التجلَّي حسب إشارتهم تابعا لمحلَّه من العبد .
( وهذا ليس كذلك فإنّ العبد يظهر له الحقّ ) بحسب استعداده ( على قدر الصورة التي يتجلَّى له فيها الحقّ ) إذ ليس للعبد صورة مستقلَّة بحسب استعداده ، بدون تجلَّي الحقّ في غيبه .
 
لله تعالى تجليين وحظَّ العبد من كلّ منهما
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وتحرير هذه المسئلة ) وتبيين مشاهد كلّ طائفة فيها : ( أنّ لله تجليين تجلَّي غيب ، وتجلَّي شهادة ) - على ما بيّن لك تفصيله في المقدّمة أنّ له تجلَّيين بحسب التعيّنين - ( فمن تجلَّي الغيب يعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب ) وهذا الإعطاء ليس على صورة الأثر والفعل ، فإنّك قد نبّهت أنّه من قبيل الفيض الأقدس عن ثنويّة الفائض والمستفيض .
ولذلك قال :
 
( و ) ذلك ( هو التجلَّي الذاتي الذي الغيب حقيقته و ) ذلك الغيب ( هو الهويّة التي يستحقّها بقوله عن نفسه "هو") فإنّ « هو » إنّما يدلّ على ذات مستقلَّة في الجمعيّة ، مستوية على عرش الوجود غائبة .
والذي يلوّح عليه أن « الغيب » صورة ظهور « هو » في عقده الذي هو حامل العرش .
( ين اا ) ( ااو ) ( فلا يزال هو له دائما أبدا ، فإذا حصل له - أعني القلب - هذا الاستعداد تجلَّى له التجلَّي الشهودي في الشهادة ، فرآه ) - ضرورة جمعيّته بين الغيب والشهادة - (فظهر بصورة ما تجلَّى له ) من الصور الغيبيّة الاستعداديّة
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (كما ذكرناه ، فهو تعالى أعطاه الاستعداد بقوله : " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ُ " ) [ 20 / 50 ] فإن خلق الشيء هو ما خصّ لوح قابليّته به من رقوم صوره المنوعة والمشخّصة ، ولا يكون ذلك إلَّا الاستعداد الأصلي الذي من التجلَّي الغيبي المحتجب بستائر الاندماج والكمون ، اندماج أوّل لامي الجلالة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثمّ رفع ) ذلك ( الحجاب بينه وبين عبده ) بالتجلَّي العينيّ الشهاديّ ، وظهر على المشاعر ظهور ذلك اللام في الثاني من ذلك الاسم ( فرآه في صورة معتقده ، فهو عين اعتقاده ) الذي هو صورة استعداده ، ( فلا يشهد القلب ولا العين أبدا إلَّا صورة معتقده في الحقّ ) بين صورة الإحاطيّة الجمعيّة ، لأنّك قد عرفت أنّ ما عليه القلب هي صورة استعداده الأصلي .
 
 تنوّع التجليّات والاعتقادات
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالحقّ الذي في المعتقد ) - بكسر القاف - ( هو الذي وسع القلب صورته ، وهو الذي يتجلَّى له فيعرفه ، فلا ترى العين إلَّا الحقّ الاعتقادي ، ولا خفاء بتنوّع الاعتقادات ) حسب تفاوت المعتقدين في درجات إدراكاتهم.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن قيّده أنكره في غير ما قيّده به ، وأقرّ به فيما قيّده به إذا تجلَّى ، ومن أطلقه عن التقييد لم ينكره ، وأقرّ له في كلّ صورة يتحوّل فيها ، ويعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلَّى له ) فيها بإقامة مراسم التعظيم والإجلال ، على قدر درجته في مرتبته ، كما قال شيخ الشيخ المؤلَّف أبو مدين :
لا تنكر الباطل في طوره     ..... فإنّه بعض ظهوراته
وأعطه منه بمقداره     ..... حتّى توفّي حقّ إثباته
 
فإنّ الحقّ يتحوّل في اعتقاد العارف في المجالي المتنوّعة المشتمل كل منها على الصور المترتّبة المنتظمة ( إلى ما لا يتناهي ) كما نظم الشيخ المؤلَّف :
لقد صار قلبي قابلا كلّ صورة     .... فمرعى لغزلان ، ودير لرهبان
وبيت لأوثان ، وكعبة طائف      ..... وألواح توراة ، ومصحف قرآن
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنّ صورة التجلَّي ما لها نهاية تقف عندها ، وكذلك العلم باللَّه ما له غاية في العارفين يقف عندها ، بل ) الحقّ ( هو العارف ) يترقّى ( في كلّ زمان ) ويظهر في تجدّدات أدواره وتنوّعات أطواره ( يطلب الزيادة من العلم به ) ، فتارة بلسان وجه العارف داعيا : ( "رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " ) [ 20 / 114 ] .
وتارة بلسان وجه الحقّ وهويّته قائلا : ( " رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " ) * وتارة بلسان الوجه الجمعي سائلا : ( " رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " ) ويمكن أن يجعل هذه التكرار إلى مراتب اليقين من العلم والعين والحقّ .
فإنّ لكلّ مرتبة من علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين مدارج في الكمال غير محصورة ، فيقتضي الحال طلب الزيادة ، لكن الوجه الأوّل أليق ربطا في هذا السياق وهو قوله : ( فالأمر لا يتناهي من الطرفين ) يعني الحقّ والخلق .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (هذا إذا قلت : « حقّ وخلق » وإذا نظرت في قوله : « كنت رجله التي يسعى بها ، ويده التي يبطش بها ، ولسانه الذي يتكلَّم به » - إلى غير ذلك من القوى ) التي هي مبادئ الإدراكات والأفعال ( ومحالَّها التي هي الأعضاء - لم تفرّق ) في نظرك هذا ( فقلت : « الأمر حقّ كلَّه » أو : « خلق كلَّه " ).
 وإذا كان الأمر ذا وجهين : ( فهو خلق بنسبة ، وهو حقّ بنسبة ، والعين واحدة ، فعين صورة ما تجلَّى عين صورة من قبل ذلك التجلَّي ، فهو المتجلَّي والمتجلَّى له فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويّته ) الذاتيّة العينيّة ، التي تقتضي إسقاط النسب  .
( ومن حيث نسبته إلى العالم في حقائق أسمائه الحسنى ) حيث أنّ الحيثيّتين لهما عين واحدة ، وأنّ الحقّ فيها عين الحيثيّتين المتقابلتين مع وحدته الآبية عن الثنويّة والتقابل.
وهذا هو كمال الوحدة الذاتيّة ، حيث أنّه لا خارج عن واحدها أمر يثبت به للثنويّة حكم ، ويصحّ هناك نسبة ، إليه أشار في النظم المفصّح :( فمن ثمّ ؟ وما ثمّه ؟ )
منكرا جاحدا للأشخاص والماهيّات من ذوي العقول وغيرهم أن يكونوا في الخارج والواقع ، أو في تلك الحضرة ، المشار إليها في صورة الاستفهام المعرب عن الاستبعاد ، تقريرا لذلك الجحد .
 
 ( فعين ثمّ ، هو ثمّه ) أي عين تعيّن في الواقع ، أو تحقّق بتلك الحضرة ، هو عين تلك الحضرة أو الواقع - أيّتهما شئت فقل .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن قد عمّه ) وأطلقه عن القيود المشخّصة والفصول المنوّعة ( خصّه ) بالإطلاق ، ونزّهه بالتنزيه الرسمي ( ومن قد خصّه ) بتلك القيود والفصول المعيّنة للعين ( عمّه ) وأطلقه عن الإطلاق المقابل للتقييد ، ونزّهه بالتنزيه الحقيقي ، كما سبق تحقيقه غير مرّة .
وإذا كان تعيين الأعيان عين تعميمها : ( فما عين ) من الأعيان الشخصيّة ( سوى عين ) آخر منها ، وإذا كان نور الإطلاق إنّما يظهر في دياجير القيود المعيّنة العدميّة ( فنور عينه ظلمة ) ضرورة تراكم الحجب الكونيّة على العين الظاهرة ، وهي ظلمات بعضها فوق بعض ( فمن يغفل عن هذا ) بتراكم الحجب الحاجزة له عن إدراك الحقّ ،( يجد في نفسه غمّة )لأنّ المحجوب مغموم أبدا جاهل ( ولا يعرف ما قلنا ) من الإطلاق الذاتي .
( سوى عبد له همّة ) يأنف بها أن يقلَّد أحدا في عقيدته حتّى يظهر الأمر له في مدرجة استعداده الفطري وسكينته الذاتيّة ، فلا سفينة في هذه اللجج إلَّا السكينة .
 
الحقّ تعالى عند العارف واعتقاد أهل النظر
ثمّ إنّ هذه الدقيقة الجليلة لمّا كانت من المسائل الغامضة التي لا يصل إليها العقول بقوتها النظريّة أصلا ، لاستلزامه الجمع بين النقيضين ، واحتوائه للضدّين - وهو من أجلى البديهيّات من المستحيلات عندها .
إلى ذلك أشار بقوله : ( "إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ " لتقلَّبه في أنواع الصور والصفات ) حسب تقلَّب الحقّ وتنوّعه فيها وعدم توقّفه في شيء منها .
( ولم يقل : « لمن كان له عقل » فإنّ العقل قيد ) ضرورة غلبة قهرمان الكون عليه ، ومقتضاه أن يعيّن ( فيحصر الأمر في نعت واحد ) ويتوقّف هناك ( والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر ) للزومها الإطلاق الذاتي .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فما هو ذكرى لمن كان له عقل ، وهم أصحاب الاعتقادات ، الذين يكفّر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ) على ما هو مقتضى قوّة حكم القيد ونفوذ أمر التقابل فيه فما لهم إلَّا وجه واحد من الجمعيّة الكماليّة ، ودليل واحد ينصره عليه السلام .
( وما لهم من ناصرين ، فإنّ الإله المعتقد ما له حكم في الإله المعتقد الآخر ، فصاحب الاعتقاد يذبّ عنه - أي عن الأمر الذي اعتقده في إلهه ) حافظا له عن أن يصيبه ما يدفعه أو يزلزله عن عقده من ورود الشبهات والشكوك ( وينصره ) على وثوق ذلك العقد .
والعجب أنّه ينصر ذلك ( وذلك الذي في اعتقاده لا ينصره ) عليه ، ضرورة أنّه الذي جعله وعقد عليه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلهذا لا يكون له أثر في اعتقاد المنازع له وكذا المنازع ) له لكونه صاحب عقد مجعول مثله ( ما له نصرة من إلهه الذي في اعتقاده فـ " ما لَهُمْ من ناصِرِينَ " ، فنفى الحقّ النصرة عن آلهة الاعتقادات ، على انفراد كلّ معتقد على حدته ، فالمنصور المجموع ) ضرورة أنّه هو الذي له الناصرون .
( والناصر ) الذي يصلح لأن ينصر هو ( المجموع ) .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فصّ حكمة قلبيّة في كلمة شعيبيّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 9:00 pm

12 -  فصّ حكمة قلبيّة في كلمة شعيبيّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الجزء الثاني

12 - فصّ حكمة قلبيّة في كلمة شعيبيّة

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالحقّ عند العارف هو المعروف الذي لا ينكر ) بوجه ، وبهذه النسبة يقال لأهله : العارف .
( فأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ) أي من له أهليّة عرفان الحقّ في موطن الصور عند تقلَّبه فيها ، بحيث لا يتغيّر وجه معروفيّته من ذلك التقلَّبات ، فهو الذي له أهليّة عرفانه في موطن المعاني عند تقلَّبه فيها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلهذا قال : " لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ "فعلم تقليب الحقّ في الصور بتقليبه في الأشكال ) باطنا في متخيّلته ومتفكَّرته ، وظاهرا في أشكاله وأوضاعه عند النموّ والذبول .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فمن نفسه عرف نفسه ، وليست نفسه بغير لهويّة الحقّ ، ولا شيء من الكون - مما هو كائن ويكون - بغير لهويّة الحقّ ، بل هو عين الهويّة ) ، إذ هو الظاهر وهو الباطن .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو العارف والعالم ، والمقرّ في هذه الصورة ، وهو الذي لا عارف ولا عالم ، وهو المنكر في هذه الصورة الأخرى ) .
 
مقلدو الرسل عليهم السّلام
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( هذا حظَّ من عرف الحقّ من التجلَّي والشهود في عين الجمع ، فهو قوله :" لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ " يتنوّع في تقليبه ، وأمّا أهل الإيمان ) العقدي ( فهم المقلَّدة الذين قلَّدوا الأنبياء والرسل فيما أخبروا به عن الحقّ ) وهم أهل إلقاء السمع على ما ورد : " أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ " [ 50 / 37 ] .
( لا من قلَّد أصحاب الأفكار والمتأوّلين للأخبار الواردة ) الكاشفة عن الحقّ كشفا مبينا ( بحملها على أدلَّتهم العقليّة ) وارتكاب احتمالاتها البعيدة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهؤلاء الذين قلَّدوا الرسل - صلوات الله عليهم - هم المرادون بقوله : " أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ " لما وردت به الأخبار الإلهيّة على ألسنة الأنبياء عليهم السّلام ، وهو - يعني هذا الذي يلقى السمع - شهيد ، ينبّه على حضرة الخيال واستعمالها ) فإنّه باستعمال القوّة الخياليّة يتمثّل الصور ويحضر ، وحينئذ يصدق الشهود .
( و ) ذلك التنبيه ( هو قوله عليه السّلام في الإحسان : « أن تعبد الله كأنّك تراه » ) فإنّ الحضرة المشبهة بالمرئيّة هي حضرة الخيال ليست إلَّا .
وكذلك قوله : ( والله في قبلة المصلَّي ) حيث عيّن الجهة التي لذات الصورة ليست إلَّا ( فلذلك " هُوَ شَهِيدٌ " ) .
 
وملخّص هذا الكلام أنّه إنّما يختصّ بتذكَّر ما في الكتاب :
من كان له قلب يتقلَّب في شؤونه - وهو مقام اولي التنزيه ، وليس كمثله شيء - أو كان ممن ألقى السمع لأرباب القلوب وهو شهيد لما ألقى إليه شهادة صاحب حضرة الحيال - وهو مقام اولي التشبيه ، وهو السميع البصير .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ومن قلَّد صاحب نظر فكري وتقيّد به فليس هو الذي ألقى السمع ، فإنّ هذا الذي ألقى السمع لا بدّ وأن يكون شهيدا لما ذكرناه ) شهادة أهل الرؤية الخياليّة الإحسانيّة ، جامعا بين شهادة المشعرين الشاهدين ، فإنّ الشاهد الواحد لا يكفي في الحكم .
فلذلك قال : ( ومتى لم يكن شهيدا لما ذكرناه ، فما هو المراد بهذه الآية ) وما كان من المتذكَّرين والموقنين .
( فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم : "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا من الَّذِينَ اتَّبَعُوا" [ 2 / 166 ] والرسل لا يتبرّؤن من أتباعهم الذين اتّبعوهم ).
( فحقّق يا وليّ ما ذكرته لك في هذه الحكمة القلبيّة ) من تحقيق تطوّرات القلب وسعة أحوالها وتجلَّياتها وبيان من تحقّق بكلّ منها من أرباب القلوب ، ومن ناسبهم وانتسب إليهم .


وجه اختصاص الفص بشعيب عليه السّلام
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا اختصاصها بشعيب : لما فيها من التشعيب ، أي شعبها لا تنحصر ، لأنّ كلّ اعتقاد شعبة ، فهي شعب كلَّها - أعني الاعتقادات - فإذا انكشف الغطاء انكشف لكلّ أحد بحسب معتقده ) في الهويّة الذاتيّة .
( وينكشف بخلاف معتقده في الحكم ) عليها بجزئيّات الأوصاف والأفعال ( و ) الذي يدلّ على ذلك ( هو قوله : " وَبَدا لَهُمْ من الله ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ") [ 39 / 47 ] .
 
بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون
( فـ ) تلك الاعتقادات ( أكثرها في الحكم : كالمعتزلي يعتقد في الله نفوذ الوعيد في المعاصي إذا مات على غير توبة ، فإذا مات ) المعتزلي ذلك ( وكان مرحوما عند الله - قد سبقت له عناية بأنّه لا يعاقب - وجد الله غفورا رحيما ، فبدا له من الله ما لم يكن يحتسبه ) . هذا ما في الحكم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا في الهويّة : فإنّ بعض العباد يجزم في اعتقاده أنّ الله كذا وكذا ، فإذا انكشف الغطاء رأى صورة معتقده - وهي حقّ - فاعتقدها ) علما وانشراحا ، لا عقدا .
فإنّه قد انكشفت ( وانحلَّت العقدة ، فزال الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة . وبعد احتداد البصر ) - بانحلال عقد الاعتقاد وانكشاف صورة اليقين .
( لا يرجع كليل النظر ، فيبدو لبعض العبيد باختلاف التجلَّي في الصور عند الرؤية ، لأنّه لا يتكرّر ) فإنّه كلّ يوم من أيّام تجلَّياته في شأن آخر من شؤون الصور ( فيصدق عليه في الهويّة "وَبَدا لَهُمْ " في هويّته " ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ "  فيها قبل كشف الغطاء ) من اختلاف صور الحقّ .
 
التكامل بعد الموت
ثمّ إذ قد استشعر أن يقال هاهنا : كيف يصحّ ذلك وبعد الموت ينبت على العبد مدارج ترقّيه وينقطع انتظام أسبابه ؟
قال : ( وقد ذكرنا صورة الترقّى بعد الموت في المعارف الإلهيّة )
خاصّة ( في كتاب التجلَّي لنا ، عند ذكرنا من اجتمعنا به من الطائفة في الكشف ، وما أفدناهم في هذه المسئلة مما لم يكن عندهم ومن أعجب الأمر أنّه في الترقي دائما ولا يشعر بذلك للطافة الحجاب ورقّته ) .
فإنّ التخالف بين الصور وتمايزها إنّما يترتّب على قوّة الحجاب الكوني وكثافته - كما سبق تفصيل ذلك في المقدّمة .
 
 الكثرة في الوحدة وعكسها
ثمّ إنّ تلك الحجب الكونيّة يوم القيامة إذ لطفت لزمها عدم التمايز ( وتشابه الصور ، مثل قوله تعالى : " وَأُتُوا به مُتَشابِهاً ") في الآية الكريمة الكاشفة عن أمر غذاء أهل القيامة وأرزاقهم القائلة ("كُلَّما رُزِقُوا مِنْها من ثَمَرَةٍ ") متجدّدة ( رِزْقاً ) خاصّا ( قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا من قَبْلُ ) * بعدم التمايز بين صور الأرزاق وغلبة قهرمان المعنى فيها ( وَأُتُوا به مُتَشابِهاً ) .
( وليس ) ذلك الرزق المتشابه ( هو الواحد عين الآخر ، فإنّ الشبيهين - عند العارف - أنّهما شبيهان غيران ) أي الأمران المتشابهان عند العارف لهما حكمان :
أحدهما التشابه والتناسب ،
والآخر التغاير والتخالف .
فـ « هو » ضمير الفصل و « الواحد » خبر ليس و « عين الآخر » خبر آخر له ، ف « أنّ » المفتوحة مع معمولها مفعول العارف ، والظرف معمول الشبيهين و " غيران " خبر أنّ .
وفي بعض الشروح: « من حيث أنّهما شبيهان » هكذا صحّحه ، وذلك كأنّه الحاق من الشارح .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد ) رؤية شهود ( كما يعلم أنّ مدلول الأسماء الإلهيّة - وإن اختلفت حقائقها وكثرت - إنّها عين واحدة ) علم ذوق ويقين ، ( فهذه ) الكثرة الأسمائيّة ( كثرة معقولة في واحد العين ، فتكون في التجلَّي ) عند ظهورها على المشاهد والمشاعر ( كثرة مشهود في عين واحدة ).
وفي عبارته هاهنا لطيفة ، حيث أنّ الواحد في العلم والعقل هو متعلَّق الإدراك بعد إضافته إلى العين ووصفها به ، وفي التجلَّي والشهود إنّما يتعلَّق الإدراك بالكثرة المنطوية في الواحد ، وذلك لأنّ حكم اسم الباطن هو الغالب في الأوّل ، فالوحدة غالبة هناك ، بخلاف الثاني .

ومثال ذلك : ( كما أنّ الهيولى ) وهو عندهم كلّ ما يظهر بصورة من الصور جوهرا كان أو عرضا ، مقوّما لمحلَّه أو متقوّما به فهو أعمّ ممّا عليه كلمة المشاءين وهو يشمل المادّة الجنسيّة .
إنّها ( تؤخذ في حدّ كلّ صورة ) من الصور النوعيّة عقلا - كما يؤخذ الجوهر والجسم في حدّ الحيوان والنبات والجماد ، فهو واحد العين ذو كثرة أسمائيّة - عينا - كما يؤخذ ذلك أيضا في حدود أنواع كلّ من الثلاثة وأشخاصها - ( مع كثرة الصور ) فيها ، فمبدأ تلك الصور ( واختلافها ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد ) وهو الجنس العالي ( و ) ذلك الجوهر ( هو هيولاها ) أي هيولى الصور كلَّها .
فذلك الجوهر هو واحد العين في العقل ، ذو كثرة أسمائيّة ، وهو ظاهر ، وهو العين الواحدة في الخارج التي هي ذات كثرة مشهودة فإنّ الشخص هو الجوهر في الخارج ذو كثرة مشهودة كما لا يخفى ، فهذا مثال للصورتين .
 
طريق المعرفة معرفة النفس
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن عرف نفسه بهذه المعرفة ) - واحدة العين ذا كثرة معقولة ، وعينا واحدة ذا كثرة مشهودة محسوسة كما ظهر - ( فقد عرف ربّه ) كذلك ( فإنّه على صورته خلقه ، بل هو عين هويّته وحقيقته ) فإنّ الذي خلق على صورته هو آدم بالمعنى الذي اصطلح عليه أوّلا ، فنفس الإنسان حينئذ هو هويّته وحقيقته ( ولهذا ما عثر أحد من العلماء على معرفة النفس وحقيقتها إلَّا الإلهيّون من الرسل والصوفيّة ) إذ لا يحمل عطاياهم إلَّا مطاياهم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأمّا أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلَّمين في كلامهم في النفس وماهيّتها ، فما منهم من عثر على حقيقتها ) فإنّ الحقائق لا يمكن أن يوصل إليها بطريقهم ذلك ( ولا يعطيها النظر الفكري أبدا ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن طلب العلم بها من طريق النظر الفكري فقد استسمن ذا ورم ) وذلك حيث أخذ الحاصل من النظر - يعني التفصيل الانبساطي الذي يزول سريعا بأدنى شبهة - بمنزلة الانشراح العلمي والانبساط الذوقي ، الزائد أبدا بازدياد الأغذية الروحانيّة الذوقيّة .
( ونفخ في غير ضرم) وذلك حيث يتوجّه إلى استحصال الحقائق العلميّة واستنتاج اللطائف الذوقيّة من العلوم الحاصلة من النظر مما يشبه اليقين ، فإنّ ذلك التوجّه مما لا يفيد من اليقين شيئا ، ولا يحصل علما ولا نورا ، فإنّه إنّما يقول لسان الاستعداد الفطري له .

ما قاله ابن الفارض :
أتيت بيوتا لم تنل من ظهورها  ..... وأبوابها عن قرع مثلك سدّت 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لا جرم أنّهم من الذين " ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيا "  ) التي هي مادّة الحياة الحقيقيّة الأبديّة ، وتحصيل موادّها ( " وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً" )   ، فمن طلب الأمر من غير طريقه فما ظفر بتحقيقه ) .
ضرورة أنّ الموصل إنّما هو الطريق القويم والصراط المستقيم ، فإذا أعرض عنه وسلك مسالك التعمّلات والتسبّبات الجعليّة ، لا يمكن له الظفر به أصلا ، كما قيل :
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى   .... ولكنّما الأهواء عمّت ، فأعمت
 
العالم في حدوث دائم
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وما أحسن ما قال الله تعالى في حقّ العالم وتبدّله مع الأنفاس في خلق جديد في عين واحدة ) وما أطرف دلالته على الكثرة المشهودة في العين الواحدة.
( فقال في حقّ طائفة - بل أكثر العالم – " بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ " ) .
فإنّه يدلّ على أنّ تلبّس العالم في ملابس الخلقيّة وظهوره في صورة الأثر ، والفعل متجدّد حسب تجدّد الآنات والأنفاس ، إذ الخلق خروج القابل إلى الفعل على ما لا يخفى على أهله .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس ، لكن قد عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات - وهي الأعراض - وعثرت عليه الحسبانيّة في العالم كلَّه ) وهم المسمّاة بالسوفسطائيّة الذين يذهبون إلى تبدّل العالم وعدم تقرّره بحال .
( وجهّلهم أهل النظر بأجمعهم ، ولكن أخطأ الفريقان) :
أمّا خطاء الحسبانيّة فبكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدّل في العالم بأثره على أحديّة عين الجوهر) المعقول ( الذي قبل هذه الصور ، ولا يوجد ) ذلك الجوهر ( إلَّا بها ، كما لا تعقل ) تلك الصور ( إلَّا به ) ضرورة امتناع قيام الصور بذواتها ، كظهور الموادّ بدونها .
 
وفي عبارته هاهنا لطيفة وهي أنّ عدم العثور على الشيء والعلم به لا يقال له الخطأ في عرف ، لأنّ الخطأ من الجهل المركَّب ، وهو بسيط ، فنبّه على أنّ إطلاق الخطأ على الحسبانيّة باعتبار عدم العثور هاهنا ، حيث أنّهم جهلوا ما هو المبدء الأولى لهذا العثور والملزوم البيّن له ، وهو قولهم بتبدّل العالم في الصور ، وذهابهم إليه ، مع لزومه البيّن لما يتبدّل ذلك الصور عليه .
وبيّن أن القول بالملزوم البيّن مع عدم العثور على لازمه البين ، ذلك هو الجهل المركَّب عند التحقيق ، فإنّه يستلزم عدم العلم بالملزوم مع اعتقاد علمه به .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلو قالوا بذلك فازوا بدرجة التحقيق في الأمر ) .
( وأمّا الأشاعرة فما علموا أنّ العالم كلَّه مجموع أعراض ) أي العالم كلّ ، ومجموع ما يتقوّم به ذلك الكلّ هي الأعراض المتبدّلة .
( فهو يتبدّل في كلّ زمان إذ العرض لا يبقى زمانين ، ويظهر ذلك في الحدود للأشياء ،فإنّهم إذا حدّوا الشيء تبيّن في حدّهم كونه الأعراض)
فإنّهم إذا حدّوا الإنسان - مثلا - بالحيوان الناطق ، معناه أنّه جسم ذو حسّ وحركة إراديّة ونطق ، ولا شكّ أن « ذو » من الأعراض النسبية ، وكذلك الحس والحركة والنطق ( و ) لا شكّ ( أنّ هذه الأعراض - المذكورة في حدّه - عين هذا الجوهر وحقيقته القائم بنفسه ) فإنّ المذكور في حدود الأشياء ذاتيّاتها ومقوّماتها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن حيث هو هو عرض لا يقوم بنفسه ، فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه ، من يقوم بنفسه ، كالتحيّز في حدّ الجوهر القائم بنفسه الذاتي ) فإنّ الجسم يحدّ بأنّه متحيّز قابل للأبعاد الثلاثة ، فالتحيّز حدّ له ذاتىّ .
( وقبوله للأعراض حدّ له ذاتىّ ، ولا شكّ أنّ القبول عرض ، إذ لا يكون إلَّا في قابل ، لأنّه لا يقوم بنفسه وهو ذاتىّ للجوهر ) الذي هو الجسم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والتحيّز عرض ولا يكون إلَّا في متحيّز ، فلا يقوم بنفسه ، وليس التحيّز والقبول بأمر زائد على عين الجوهر المحدود ، لأنّ الحدود الذاتيّة هي عين المحدود ) في العقل ( وهويّته ) في العين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقد صار ما لا يبقى زمانين يبقى زمانين وأزمنة ، وعاد ما لا يقوم بنفسه يقوم بنفسه ) هذا ما في الخارج أنفسهم ( ولا يشعرون لما هم عليه ) في أنفسهم ( وهؤلاء "هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ " ) دائما ولا يشعرون بذلك أصلا .
( وأمّا أهل الكشف : الكشف : فإنّهم يرون أنّ الله يتجلَّى في كلّ نفس ، ولا يكرّر التجلَّى ، ويرون - أيضا شهودا - أن كلّ تجلّ يعطى خلقا جديدا ويذهب بخلق فذهابه به هو الفناء عند التجلَّى ، والبقاء لما يعطيه التجلَّى الآخر ) .
( فافهم ) سرّ البقاء والفناء حتّى تعرف المتحقّقين بالفناء والبقاء .
 
يهنئك هذا سرّ ما يفنى فدع   ..... عنك التلفّت للحديث الموهم
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فصّ حكمة ملكيّة في كلمة لوطيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 9:01 pm

13 - فصّ حكمة ملكيّة في كلمة لوطيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

13 - فصّ حكمة ملكيّة في كلمة لوطيّة
وجه تسمية الفصّ
ووجه اختصاص الكلمة هذه بحكمتها هو ما غلب عليها بمقتضى زمانها على ألسنة قابليّة أقوامها من الشدّة والقوّة .
ومما يلوّح على وجه المناسبة بينهما اشتمال عقديهما على التسعة وأن في الكلمة تفصيلها ، وإلى تبيين ذلك قصد بقوله رضي الله عنه : ( الملك : الشدّة . والمليك : الشديد . يقال : ملكت العجين : إذا شددت عجنه قال قيس بن الحطيم - يصف طعنه - ) .
"" أضاف المحقق : قال القيصري : " معنى البيت : إني شددت بالطعنة كفى أي مسكت الرمح قويّا فضربت به العدوّ ، فأوسعت ما فتقت الطعنة حتى يرى القائم ما وراء تلك الطعنة من جانب آخر ، كأنه جعل موضع الطعنة مثل شبّاك يرى منها ما وراءها " ""
( ملكت بها كفىّ فأنهرت فتقها  …. يرى قائم من دونها ما وراءها )
 يقال : « أنهرت الطعنة » أي وسّعتها ،وملكت بها كفىّ : (أي شددت بها كفىّ يعنى الطعنة).
( فهو ) أي فصّ الحكمة الملكيّة عن الكلمة المذكورة ( قول الله عن لوط :
" لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ") [ 11: 80 ] والظاهر أنّ « لو » هاهنا للتمنىّ ، أي ليتني بكم قوّة تستخرج منّى ما هو بالقوّة في هذا النوع الكمالي من الظهور على الكلّ بكلامه المعرب عن الأمر بتمامه .
وذلك أنّ كلّ نبىّ إنّما يظهر منه ما يسأل ألسنة قوّة قومه وقابليّة أمّته ، فإنّه لو لم يكن في قوّة قابليّة القوم ما يقوى به النبىّ في إظهار كمال النبوّة وتمامها لا بدّ له من الالتجاء إلى القبيلة الختميّة والانخراط فيهم على ما اقتضى التّوجه الأصلي ولاستعداد الفطري من إظهار ذلك بمعاونة من في حيطته يتمّ الأمر والانخراط في سلك من يظهر به ذلك ، وإلى ذلك أشار مفصحا عنه : " أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ "  .
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم : « رحم الله أخي لوطا ،لقد كان يأوى إلى ركن شديد ») والتعبير عنه بـ « أخي » إشعار بتلك النسبة.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنبّه صلى الله عليه وسلَّم أنّه كان مع الله ) في صورة جمعيّة الختميّة ، ولكن ( من كونه شديدا ) : أي من هذه الحيثيّة ، ( والذي قصد لوط عليه السلام : القبيلة « بالركن الشديد » ، والمقاومة بقوله : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " ، وهي الهمّة هنا من البشر خاصّة ) والقصد المتوجّه إلى تمام الكمال الذي إنّما يجيء منه خاصّة ، وبه يوجد الأشياء ويعدم ، فإنّ الغاية سبب وجود الأشياء وظهورها .
ثمّ إذ قد أفصح لسان كمال النبوّة في الكلمة اللوطيّة ، داعيا الانخراط في سلك القبيلة الجمعيّة ، ظاهرا بهم ، وقد استجيب دعوته ضرورة.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم : « فمن ذلك الوقت » - يعنى من الزمن الذي قال فيه لوط عليه السلام : " أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ " ما بعث نبىّ بعد ذلك إلَّا في منعة من قومه ، فكان تحميه قبيلته ، كأبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ) .
فإنّه كان يتعصّب للنبي صلى الله عليه وسلَّم ويذبّ عنه دائما ، وإنّما اضطرّ إلى الهجرة بعد وفاته .مراد لوط عليه السلام من القوة
( فقوله : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " إنّما يتمنّى القوّة العرضيّة بقومه ( لكونه عليه السلام سمع الله تعالى يقول : " الله الَّذِي خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ " بالأصالة " ثُمَّ جَعَلَ من بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً " فعرضت القوّة بالجعل ، فهي قوّة عرضيّة ، " ثُمَّ جَعَلَ من بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً " [ 30 / 54 ] فالجعل تعلَّق بالشيبة وأمّا الضعف فهو رجوع إلى أصل خلقه ، وهو قوله : "خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ " ضرورة أنّ ما هو خلقيّ ذاتىّ لا يحتاج فيه إلى جعل ( فردّه لما خلقه منه ، كما قال ثمّ " يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً " [ 16 / 70 ] ، فذكر أنّه ردّ إلى الضعف الأوّل).
( فحكم الشيخ حكم الطفل في الضعف ) فإنّه ما لم يضعف ما طرأ على أرض القابليّات مستجلبا عمّا فيها ومظهرا لها بصورته العرضيّة التطفّلية .
لم يمكن أن يخرج عنها ما غرس في أصل طينتها وزرع على متن قوّتها .
( و ) لذلك ( ما بعث نبىّ إلَّا بعد تمام الأربعين ، وهو زمان أخذه في النقص والضعف ) بحسب القوّة الجسمانيّة ، ليضعف الطارئ على أرض استعداده من نباتات الاقتضاءات المشوّشة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلذا قال : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " مع كون ذلك ) ما يطلب القوّة الجسمانيّة ، بل إنّما ( يطلب همّة مؤثّرة ) في الوجود عليّة ، ونيّة قاصدة إلى الغاية رفيعةأولياء الله تعالى يستنكفون من التصرّف بالهمّة
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن قلت : وما يمنعه من الهمّة المؤثّرة ، وهي الموجودة في السالكين من الأتباع ) على ما هم عليه من القصور وجزئيّة الحكم وضعفها ، (والرسل ) بكمالهم وكليّة أحكامهم وقوّتها ( أولى بها ) ؟
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قلنا : صدقت ، ولكن نقصك علم آخر ، وذلك أنّ المعرفة لا تترك للهمّة تصرّفا ) يعنى استقلالا في التأثير والحكم ( فكلَّما علت معرفته ) ورقّت رقيقته الامتيازيّة الخلقيّة ، وقربت وصلته إلى مواطن الاتّحاد ( نقص تصرّفه بالهمّة ، وذلك لوجهين : ) ( الوجه الواحد لتحقّقه بمقام العبوديّة ) الآبية عن غير الإذعان والقبول لأحكام الربّ وتصرّفاته أفعالا وأعمالا ( ونظره إلى أصل خلقه الطبيعي ) وضعفه الفطري ذوقا وحالا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والوجه الآخر أحديّة المتصرّف والمتصرّف فيه ) في مشهده الجمعىّ ، و بيّن أنّه لا بدّ وأن يكون الفاعل في بعد عن القابل يقابله ، حتّى يتمكَّن من التأثير ، فإنّ القريب من الشيء منقهر تحت أحكام وحدته الشخصيّة ، مختفية في أحديّته الإحاطيّة ( فلا يرى ) صاحب المشهد الجمعي غيرا في نظر همّته حتّى يتوجّه إليه بقوّة تأثيره وإلى من يقصد عند التأثير ، و ( على من يرسل همّته ) إليه ، فإنّ للفاعل والمؤثرّ مرتبة العلوّ على مجعوله المتأثّر منه ، لا بدّ من ذلك حتّى يتمّ التأثير .
فلذلك استعمل الرؤية بـ " على " وهي الرؤية البصريّة ، بقرينة « النظر » في الوجه الأوّل ( فيمنعه ذلك ) الأحديّة المشهودة له من تقابل العلو والسفل ، الذي به يتمكَّن الفاعل في التصرّف .نزاع ، أم وفاق ثمّ لما ستشعر أن يقال :
إنّ المنازع للعارف لا بدّ له من بعد عنه ومقابلة له إليه ، وطلَّا لم يكن منازعا ، وما أمكن أن يصدر عنه النزاع أصلا ، قال : ( وفي هذا المشهد ترى أنّ المنازع له من عدل عن حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه وحال عدمه ، فما ظهر في الوجود إلَّا ما كان له في حال العدم في الثبوت ، فما تعدّى حقيقته ، ولا أخلّ بطريقته ) فما خاصم وما انحرف عادته الجمعيّة .
"" أضاف المحقق : قال القيصري : " ويجوز أن يكون الرؤية بمعنى العلم ، ومن استفهاميّة أي فلا يعلم على أيّ موجود يرسل همّته " ""


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتسمية ذلك نزاعا إنّما هو أمر عرضى أظهره الحجاب الذي على أعين الناس ) ومداركهم الجزئيّة ، التي إنّما يدرك الأمور بالغواشي الخارجيّة والعوارض النسبيّة ، التي هي ذات التقابل والتعاند ضرورة ، ذاهلين عن المقاصد الكلَّية والأصول الجمليّة التي جمعت الكل تحت إحاطته آخرا ( كما قال الله تعالى فيهم : " وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ .  يَعْلَمُونَ ظاهِراً من الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ " ) [ 30 / 7 - 6 ] .
"" أضاف المحقق : قال القيصري : " أي الغلاف هو الكنّ المذكور في قوله تعالى :" إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوه ُ وَفي آذانِهِمْ وَقْراً " [ 18 / 57 ] فهو الذي ستر القلب وحجبه من إدراك الحقائق على ما هي عليه " . ""


قال رضي الله عنه :  ( وهو ) - أي النزاع - على ما تصوّروه ( من المقلوب ، فإنّه ) وفاق في الحقيقة ، وهم قلَّبوه ، أو الغفلة التي لهم من باب المقلوب ، فإنّه ( من قوله :
" قُلُوبُنا غُلْفٌ"   [ 2 / 88 ] فإنّ « غفل » قلب « غلف » ( أي في غلاف ، وهو الكنّ الذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه ) .
( فهذا وأمثاله يمنع العارف من التصرّف في العالم ) .محاورة عارفين حول التصرّف بالهمّة
(قال الشيخ أبو عبد الله بن قائد للشيخ أبى السعود بن الشبل : لم لا تتصرّف » ؟ فقال أبو السعود : " تركت الحقّ يتصرّف بي  كما يشاء ") .
"" أضاف المحقق : الشيخ أبو عبد الله بن قائد و الشيخ أبى السعود بن الشبل من أصحاب الشيخ عبد القادر الجيلاني القطب الشهير ومؤسس الطريقة القادرية . ""


(يريد قوله تعالى آمرا : " فَاتَّخِذْه ُ وَكِيلًا " [ 73 / 9 ] فالوكيل هو المتصرّف ، ولا سيّما وقد سمع الله يقول : " وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه ِ ") [ 57 / 7 ]
قال رضي الله عنه: (فعلم أبو السعود والعارفون أنّ الأمر بيده ليس له وأنّه مستخلف فيه .)
ثمّ قال له الحقّ : " هذا الأمر الذي استخلفتك فيه وملَّكتك إيّاه ، اجعلني واتّخذنى وكيلا فيه " فامتثل أبو السعود أمر الله واتّخذه وكيلا ، فكيف يبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر همّة يتصرّف بها ؟ ! والهمّة لا يفعل إلَّا بالجمعيّة التي لا متّسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه ) واهتمّ به ممّا يوجده أو يبقيه أو يعدمه ، ( وهذه المعرفة ) التي لا بدّ للعبد العارف أن يكون صاحب قدم فيها ( تفرقة عن هذه الجمعيّة ) فلا يمكن أن يكون له الهمّة الموجدة والمؤثّرة أصلا ، مع تلك المعرفة المفرّقة له عن الجمعيّة المؤثّرة ( فيظهر العارف - التامّ المعرفة - بغاية العجز والضعف ) عن التصرّف والتأثير .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (قال بعض الأبدال للشيخ عبد الرزّاق رضي الله عنه : قل للشيخ أبى مدين بعد السلام عليه : يا أبا مدين ، لم لا تعتاص علينا شيء ، وأنت يعتاص عليك الأشياء ؟ ) أي يستشكل ،.
يقال : اعتاص عليه الأمر أي التوى - ( ونحن نرغب في مقامك ، وأنت لا ترغب في مقامنا ؟ وكذلك كان ) أبو مدين يعتاص عليه الأمور ( مع كون أبى مدين - رضي الله عنه - كان عنده ذلك المقام وغيره ، ونحن أتم في مقام الضعف والعجز منه ، ومع هذا قال له هذا البدل ما قال ، وهذا ) الذي نحن فيه ( من ذلك القبيل أيضا ) أي من كمال المعرفة وتمامها .


متى يتصرّف صاحب الهمّة
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( و ) لذلك ( قال صلى الله عليه وسلَّم في هذا المقام عن أمر الله له بذلك : "ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ " [ 46 / 9 ] فالرسول صلى الله عليه وسلَّم ) ، الذي هو أكمل العبيد أمره .
( يحكم ما يوحى به إليه  ، ما عنده غير ذلك ، فإن أوحى إليه بالتصّرف بجزم تصرّف ، وإن منع امتنع ، وإن خيّر اختار ترك التصرّف ) لأنّه للعبيد بالذات ، وحكم ما بالذات غالب مطلقا ، ما لم يغلب على المحل العوارض الخارجيّة ، 
وإليه أشار بقوله :

( إلَّا أن يكون ناقص المعرفة ) بما هو ذاتي للعبيد وما هو أصلح له في التأدّب بين يدي سيده ومولاه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال أبو السعود لأصحابه المؤمنين به : إنّ الله أعطاني التصرّف منذ خمس عشرة سنة ، وتركناه تطرّفا  ) أي تكرّما وإيثارا ، فإنّ الطرف بكسر الطاء : هو الكريم أو من أطرف الرجل : أي جاء بطرفة : أي تركناه إتيانا بأمر بديع ( وهذا لسان إدلال) أي تبجّح وتشطَّح .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا نحن فما تركناه تطرّفا - وهو تركه ) إتيانا بأمر بديع ، أو ( إيثارا ، وإنّما تركناه لكمال المعرفة ، فإنّ المعرفة لا تقتضيه بحكم الاختيار ) فإنّها إنّما تقتضيه بحكم الجبر والاضطرار ، توفية لمقام العبودية حقّها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ) فمتى تصرّف العارف بالهمّة في العالم فعن أمر إلهي وجبر ، لا باختيار ولا شكّ أنّ مقام الرسالة ) بما هو مقتضاه من وضع الصور وإظهارها ونظم الأمور وأطوارها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( يطلب التصرّف لقبول الرسالة التي جاء بها ، فيظهر عليه ما يصدّقه عند امّته وقومه ، ليظهر دين الله) لاقتضائه خلاف ذلك.
قال رضي الله عنه :  ( والولي ليس كذلك ، ومع هذا فلا يطلبه الرسول في الظاهر ، لأنّ للرسول الشفقة  على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجّة عليهم ، فإنّ في ذلك هلاكهم ) إذا لم يذعنوا وتمرّدوا ، دون ما إذا لم يظهر الحجّة عليهم ( فيبقى عليهم ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد علم الرسول ) صلَّى الله عليه وسلَّم ( أيضا أن الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة ، فمنهم من يؤمن عند ذلك ، ومنهم من يعرفه ويجحده ، ولا يظهر التصديق به ) إمّا ( ظلما ) لنفسه ، كما للمنهمكين في الشهوات منهم ( و ( إمّا ( علوّا ) على الناس ، كما للمتوجّهين إلى التجوّه والغلبة ( و ) إمّا ( حسدا ) على صاحب المعجزة كما للمشاركين معه ، إمّا في النسب أو ما يجري مجراه ، هذا عند من يعرفه ويعلمه .
( ومنهم من يلحق ذلك بالسحر والإيهام ) من الجاهلين به والغافلين عنه عند إدراكهم المعجزة ،فإنّ الجهل بعثهم على إلحاقه بالسحر والشعبذة.


متى تؤثّر المعجزة 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلمّا رأت الرسل ذلك وأنّه لا يؤمن إلَّا من أنار الله قلبه بنور الإيمان)   في الأصل .
( ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمّى إيمانا ، وإلَّا فلا ينفع في حقّه الأمر المعجز ، ) من الأنبياء .
قال رضي الله عنه : (فقصرت الهمم عن طلب الأمور المعجزة ،لمّا لم يعم أثرها في الناظرين ) إليها ، لا في عقولهم ، حتّى يعتقدوا عقدا تقليديّا ( ولا في قلوبهم ) حتّى يؤمنوا به إيمانا علميّا انشراحيّا .
فعلم أنّ مساعي الأنبياء بقوّة المعجزة غير مفيد ( كما قال في حقّ أكمل الرسل وأعلم الخلق وأصدقهم في الحال :  " إِنَّكَ لا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ " ) [ 28 / 56 ] .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولو كان للهمّة أثر ولا بدّ ) يعني يلزم الهمّة أثرها لزوما كليّا - لا في الجملة - كما يشاهد في بعض الأفراد من المستكملين
 ( لم يكن أحد أكمل من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، ولا أعلى ولا أقوى همّة منه ، وما أثرت في إسلام أبي طالب عمّه) وقريبه بوثاقة رقيقة نسبته إليه وألفته معه .
وكلّ ذلك مما يعدّ في أمر التأثير والتأثّر ( وفيه نزلت الآية التي ذكرناها ، ولذلك قال في الرسول أنّه ما عليه إلَّا البلاغ ) في صيغة الحصر ( وقال : " لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ " [ 2 / 272 ] وزاد في سورة القصص ) على ذلك بيانا بقوله : ( "وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " [ 28 / 56 ] أي بالذين أعطوه العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة ) .


مبدأ السعادة والشقاوة عين السعيد والشقي 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأثبت ) بقوله هذا ( أنّ العلم تابع للمعلوم ، فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ظهر بتلك الصورة في حال وجوده ، وقد علم الله ذلك منه أنّه هكذا يكون ) فاوجده عليه .
( فلذلك قال : " وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " ) منهم بأنفسهم ، فإنّ العالم بالشيء الممكن مع السبب الموجب له أعلم بالعالم به فقط ( فلمّا قال مثل هذا ) وأظهر الأمر على ما هو عليه ( قال أيضا : " ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ " [ 50 / 29 ] لأنّ قولي على حدّ علمي في خلقي ) فإنّه صورته ( " وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ " [ 50 / 29 ] أي ما قدّرت عليهم الكفر الذي يشقيهم ) .

حتّى تثبت به نفس الظلم وأكون به ظالما ( ثمّ طلبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به ) حتّى يثبت به المبالغة في الظلم وأكون به ظلَّاما ( بل ما عاملناهم ) في إعطائهم الوجود بما لهم من نقود استعداداتهم ( إلَّا بحسب ما علمناهم ، وما علمناهم إلَّا بما أعطونا من نفوسهم ، مما هم عليه ) من نقوش استعداداتهم ونقودها ، ( فإن كان ) في الواقع ( ظلم فهم الظالمون ) فإنّهم الذين طلبوا من الجواد المطلق ما هم عليه من الخصوصيّات ( ولذلك قال :  " وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " [ 2 / 57 ] فـ " ما ظَلَمَهُمُ الله " ) [ 3 / 117 ] .
وكما أنّه ما عاملناهم في الظهور والوجود إلَّا بحسب ما علمناهم ( كذلك ما قلنا لهم ) في الإظهار والشهود بإظهار الصورة الحرفيّة على مشعري السمع والبصر ( إلَّا ما أعطته ذاتنا ) من خصوصيّات نقوش القوابل التي هي في صدد الإظهار ، فإنّ منها ما يقتضي الخفاء وعدم الظهور ، وهو الذي غلب عليه حكم البطون من الذاتيّات ، ولذلك خصّص ما أعطته بقوله :
قال الشيخ رضي الله عنه :  (أن نقول لهم وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ) ويظهر ما يقتضي ذلك ويستأهله ( ولا نقول كذا ) ويخفى ما يقتضي البطون والستر .
فعلم أنّ تلك الخصوصيّات والأحكام ما لا يظهره الكلام بالإفصاح عنه والقول بها، بل القول إنّما نزل بإخفائه والكفّ عنه، كالمحرّمات والمناهي في الأفعال (فما قلنا إلَّا ما علمنا أن نقول) ويظهر بالأمر بإصداره، والحثّ على إيجاده واختلاقه كالواجبات (قلنا القول منا، ولهم الامتثال) - ممن له طرف الظهور وتعلَّق رقيقة نسبته الأصليّة به - (وعدم الامتثال) ممن له الطرف المقابل له (مع السماع منهم) .
فعلم أنّ لأمر الظهور والإظهار لا بدّ من الطرفين : طرف الحقّ من حيث كثرته الأسمائيّة الكاشفة عن أمر تمام الإظهار بالقول ، وطرف العبد من حيث الأعيان المتكثّرة بحسب تلك الأسماء التي منها يظهر بالوجود الكوني.
 ( فالكلّ منّا ومنهم   ..... والأخذ عنّا وعنهم) و ( إن ) كان بعض الأعيان من غير المتمثّلين الذين يظهرون ما لا يصدر القول به وبإظهاره ( لم يكونون  منّا ) ضرورة أنّ الصادر منّا هو الكلام القولي ، وهم من حيث ظهورهم بتلك الصور الغير المقولة ما هم منّا ، ولكن لما كان ذلك فيهم لغلبة حكم الوحدة الذاتيّة ، الساترة على حقيقتهم ، كما أشير إليه ، ( فنحن لا شك منهم ) لأنّ الكل من ظرف الذات ووحدتها .
 
سرّ عنوان هذه المباحث في هذا الفصّ
ثمّ إنّك قد عرفت أنّ تمام الأمر في هذين الطرفين - أعني الوجود الكوني العيني ، والقول الكلامي السمعي وكلاهما صورة ظهور المعلومات - فهما صورتان متطابقتان ، وكان وجه اختصاص هذه النكتة بالحكمة الملكيّة لاشتراك اسم الملك والكلم في تمام المادّة ، فلذلك كشفت عن الصورة الكلاميّة وما ينطوى عليه .
وإليه أشار بقوله رضي الله عنه : ( فتحقّق يا وليّ هذه الحكمة الملكيّة من الكلمة اللوطيّة ) باستيناف العبارة تحريضا للطالب المتفطَّن أن يمعن النظر في كلمته كلّ الإمعان .
عسى أن يتفطَّن لمغزاها ( فإنّها لباب المعرفة ) إذ اللبّ إنّما هو الحدّ - على ما لوّحت على ذلك  والحدّ إنّما هو هذان الطرفان اللذان عليهما الختمان بكماليهما ، كما نبّهت إليه في المقدّمة ، وحينئذ ظهر معنى البيت وانكشف مغزاه .
( وقد بان لك السرّ  .... وقد اتّضح الأمر )
( وقد ادرج في الشفع )القولي ، فإنّ بالوجود الكلامي قد شفّع وجود المتكلَّم وبه صار وجودين
( الذي قيل هو الوتر ) فإنّ الكلام منطو على الكل على ما لا يخفى .
ومن السرّ الذي اتّضح هاهنا هو معنى الشفاعة المحمّديّة المخلَّصة للعاصين عن عذابهم في الآخرة ، فلا تغفل .
 
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فصّ حكمة قدريّة في كلمة عزيريّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 2:39 pm

14 - فصّ حكمة قدريّة في كلمة عزيريّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
14 - فصّ حكمة قدريّة في كلمة عزيريّة     الجزء الأول
ووجه اختصاص الكلمة هذه بحكمتها ما لها في أصل جبلَّتها وقابليّتها من النسبة الشوقيّة إلى تلك الحكمة ، والرابطة العشقيّة نحو ضبطها واستكشافها ، ولذلك رأى في طلبها ما رأى من العتاب والملامة والوعيد بالعزل عن عالي منصبه النبوي - على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى .
والذي يلوّح عليه ما في « عزيز » بحسب بيّناته وبيّنات عدده من تفاصيل.
 ااا 113 ما اشتمل عليه بيّنات « القدر » 287 . ين ااا 63 ، ين يم 110 .
أف ال ا س ج 113


  القضاء والقدر  
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أنّ القضاء حكم الله في الأشياء ) بما يجرى عليها من الأحكام والأوضاع الظاهرة هي بها .
( وحكم الله في الأشياء على حدّ علمه بها ، وعلم الله في الأشياء على ما أعطته المعلومات مما هي عليه في نفسها ) أي في أصل قابليّتها الأقدسيّة .
( والقدر توقيت ما هي عليه الأشياء في عينها ) أي تعيين وقت ظهور الأشياء بأحكامها ، فإنك قد عرفت أن الأعيان في موطن ثبوتها كليّة الحكم ، ليس لها ظهور بأحكامها الخاصّة بها .
ما لم يظهر بصورة شخصيّتها في الخارج ، محفوفة بمشخّصاتها ، من الزمان وما يتبعه ، كالوضع والأين والكيف وسائر الأعراض التي بها يتكوّن الأعيان في الخارج واحدا بالشخص الذي هو ظلّ الوحدة الحقيقيّة - كما نبّهت عليه في المقدمة - وبيّن أن الزمان أصل سائر المشخّصات والأحكام ، فتوقيت كلّ عين بزمانه يترتّب عليه سائر ما عليه العين من الأحكام الأصليّة في ثبوتها ، من غير زيادة على ذلك أصلا .
فقوله : ( من غير مزيد ) إشارة إليه . وإذ كان النقصان مما لا إمكان له فيه - فإنّ الأنزل من المراتب لا بدّ وأن يكون أكمل - ما تعرّض له وبهذا الاعتبار يعبّر عنه بالقدر ، فان القدر والقدر يقال على مبلغ الشيء.
 
القضاء تابع لسؤال الأعيان وهذا سر القدر
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما حكم القضاء على الأشياء إلَّا بها ) أي بتلك الأشياء وما هي عليه في نفسها ( وهذا هو عين سرّ القدر لمن كان له قلب ) يعلمه بذوقه الجمعيّ من موطنه الإحاطيّ ( أو ألقى السمع ) إلى ما أنزل عليه من الكلام المعرب بموادّ حروفه وصورها على الأمر كلَّه ( وهو شهيد ) مشاهد لما انطوى عليه من الدلائل الملوّحة على الحقائق ( فللَّه الحجّة البالغة ) على عباده ، إذ كان لا يحكم عليهم إلَّا بهم ، ولا يفيض عليهم ويجود إلَّا بما يسأل ألسنة أصلهم وقابليّاتهم عنه .
فالحاكم في التحقيق تابع لعين المسألة التي يحكم فيها بما تقتضيه ذاتها ) فإنه لو لم يحكم به ما كان حاكما ، بل مفتريا كاذبا ، ( فالمحكوم عليه بما هو فيه ) من الأحكام الخاصّة به ( حاكم على الحاكم ، أن يحكم عليه بذلك) الحكم الذي هو عليه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكلّ حاكم محكوم عليه بما حكم به ) من الأحكام ، ( و ) كذلك محكوم عليه بما حكم ( فيه ) من الأعيان . فإنّ الحاكم تابع منقاد لهما في حكمه ( كان الحاكم من كان ) ، وهذا يعرفه ولا يتوقّف فيه كلّ من يتفطَّن للأوليّات في بدايات عقوله .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتحقّق هذه المسألة ، فان القدر ما جهل إلَّا لشدّة ظهوره ) فإنّ الشيء إذا جاوز حدّه انعكس ضدّه . فهذه المسألة إذ جاوزت في الظهور حدّه اختفت ، ( فلم يعرف وكثر فيه الطلب والإلحاح ) .


علم الرسل عليه السّلام على مراتب علوم أممهم
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم أن الرسل صلوات الله عليهم من حيث هم رسل - لا من حيث هم أولياء وعارفون - على مراتب ما هي عليه أممهم ) في إدراك الدقائق واستشعار الحكم والحقائق ، وذلك لما مهد آنفا من أنّ الحاكم محكوم عليه ، منقاد لما فيه يحكم ، ولا شكّ أنّ الرسول حاكم في الأمم ، فلا بدّ أن يكون تابعا لهم في مقتضى قابليّاتهم ومقترحات نيّاتهم ، ولكن من حيث أنّه رسول وحاكم - لا مطلقا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما عندهم من العلم الذي أرسلوا به إلَّا بقدر ما تحتاج إليه امّة ذلك الرسول ) ممّا سألوه بألسنة استعداداتهم - ( لا زائد ، ولا ناقص والأمم متفاضلة ، يزيد بعضها على بعض ، فيتفاضل الرسل في علم الإرسال بتفاضل أممها ) .
وفي التنزيل ما يشعر بذلك ( وهو قوله تعالى " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ " ) [ 2 / 253 ] أي في رسالته وعلومها المختصّة بها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما هم أيضا فيما يرجع إلى ذواتهم من العلوم والأحكام متفاضلون بحسب استعداداتهم ) وبه أيضا إشعار فيه ( وهو قوله : " وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ " ) [ 17 / 55 ] هذا ما فيه بلسان الخصوص ( وقال تعالى ) بلسان العموم ما يدلّ على ذلك ( في حقّ الخلق) ،" وَالله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ في الرِّزْقِ " ) [ 16 / 71 ] .
( والرزق منه ما هو روحانيّ كالعلوم ، وحسّي كالأغذية ) وذلك الرزق ( ما ينزّله الحقّ إلَّا بقدر معلوم ) أي مبلغ معين في كلّ زمان ( و ) ذلك القدر ( هو الاستحقاق الذي يطلبه الخلق ) من كلّ شيء ( فإن الله " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه " ،   " يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ " [ 42 / 27 ] ، وما يشاء إلَّا ما علم ، فحكم به ، وما علم - كما قلنا - إلا بما أعطاه المعلوم ، فالتوقيت في الأصل للمعلوم ) ، وهو أنت ، ( والقضاء والعلم والإرادة والمشيئة تبع للقدر ) كما بيّن وحقّق غير مرّة .
فالكلّ تابع لك بما أنت عليه من الأحكام الذاتيّة التي من الفيض الأقدس.
 
سرّ القدر
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فسرّ القدر من أجلّ العلوم ) لأنّها من الخصائص الذاتيّة ( وما يفهّمه الله ) على وضوحه وظهوره ( إلَّا لمن اختصّه بالمعرفة التامّة ) التي للورثة الختميّة - وممّا يدل على أنّها من الخصائص الذاتيّة ما يلزمه من جمعيّة الأضداد وتعانق الأطراف - ( فالعلم به يعطي الراحة الكليّة للعالم به ) من سكونه عن طلب ما لم يطلب في أصله واستراحته عنه ( ويعطي العذاب الأليم أيضا للعالم به ) حيث يدرك أنّ قصوره في الرتبة من تقصيره في السؤال وقناعته بذلك القدر مع جوده الفائض بلا امتنان .
تعضّ ندامة كفّيك ممّا   .... تركت مخافة المنع السؤالا
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو يعطى النقيضين ) كما هو مقتضى الهويّة المطلقة على ما سبق ، ( وبه وصف الحقّ نفسه بالغضب وبالرضا ، وبه تقابلت الأسماء الإلهيّة ) فعلم أن جمعيّة الأضداد التي هي من خصائص الهويّة المطلقة ، مما يلزم سرّ القدر.
وكفى به دلالة على جلالة قدره ، فله الإحاطة التامة التي لا يخرج عنها شيء في الوجود أصلا وإلى ذلك أشار بقوله : ( فحقيقته تحكم في الموجود المطلق ) باستتباع ما هي عليه في صورته العلميّة ، ( والموجود المقيّد ) بجريه على مقتضاها في سائر المراتب - إلهيّة كانت أو كيانيّة - ( لا يمكن أن يكون شيء أتم منها ) حيطة ( ولا أقوى ) تأثيرا ( ولا أعظم ) قدرا ، ( لعموم حكمها المتعدّي ) منها - كالعلم والإرادة والمشيّة ، فإنّها حاكمة على الكلّ - ( وغير المتعدّي ) كما عليه الأعيان في مراتب ظهورها .
فلا حكم إلَّا تحت حكمها مندرج ، ولا حاكم إلا منقهر تحت سلطانها .

يا عين غيب الله يا نور الهدى   .... يا نقطة الخط البديع الأقوم
يا معدن الأسرار يا كنز الغنى   .... يا مشرق الأنوار للمتوسّم
يا فاتح الأمر العظيم وخاتم      .... الخلق البديع ونكتة لم تفهم
اقرأ كتابك قد كفى بك شاهدا   .... يهديك منك بعلم ما لم تعلم
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا كانت الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين - لا يأخذ علومها إلَّا من الوحي الخاصّ الإلهي ، فقلوبهم ساذجة من النظر العقلي ، لعلمهم بقصور العقل ، من حيث نظره الفكري ) - دون ذوقه الذاتي – ( عن إدراكه الأمور على ما هي عليه ) .
هذا طريق النظر والاستدلال ، ( والإخبار أيضا ) من طريق النقل والإسناد ( يقصر عن إدراك ما لا ينال إلَّا بالذوق ) ، ضرورة أن فسحة أمر النقل وعلومه أضيق مجالا من الاستدلال ، كما هي لا يخفى .
( فلم يبق العلم الكامل ) الشامل للمعلومات كلَّها ( إلَّا في التجلَّي الإلهي ، وما يكشف الحق عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية ) ، وهي الحجب الاعتقاديّة التقليديّة ، والرسوم المستحسنة العادية المانعة للبصر ، والبصيرة عما خلقا له من المرتبة الإدراكيّة - ف « من » لا سترة به أنّه بيان لـ « ما » وهي معطوفة موصلة ليست الَّا على التجلَّي  
(فتدرك الأمور - قديمها وحديثها ، وعدمها ووجودها ، ومحالها وواجبها وجائزها - على ما هي عليه في حقائقها وأعيانها ) .
 
تحقيق ما سأله عزير عليه السّلام
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما كان مطلب عزير على الطريقة الخاصّة ) النبويّة وشارع شريعتها ، المقصورة أمر استفاضتها على الوحي خاصة والإخبار عن الله ، ( لذلك ) لما طلب المعرفة المذكورة بهذا الطريق ( وقع العتب عليه - كما ورد في الخبر) :
" لئن لم تنته لأمحونّ اسمك من ديوان النبوّة " - ( فلو طلب الكشف الذي ذكرناه ) أنه هو الذي به يدرك الأمور - قديمها وحديثها - ( ربما ما كان يقع  عليه عتب في ذلك . والدليل على سذاجة قلبه قوله في بعض الوجوه  " أَنَّى يُحْيِي هذِه ِ الله بَعْدَ مَوْتِها " ) وهو الاستبعاد والشك ، على ما يفهم من لفظ " أنّى " .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأمّا عندنا فصورته عليه السّلام في قوله هذا كصورة إبراهيم عليه السّلام في قوله " رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى " ) [ 2 / 260 ] .
فان ما قصد من الصورتين إنما هو إرادة كيفية إحياء الموتى ، ( ويقتضي ذلك الجواب بالفعل ) لا بالقول ، وذلك هو ( الذي أظهره الحقّ فيه في قوله  : "فَأَماتَه ُ الله مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَه ُ " ) [ 2 / 259 ] .
هذا ما يجاب به بلسان الفعل ، وأما بلسان القول ( فقال له : " وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً " ) [ 2 / 259 ]، ( فعاين كيف تنبت الأجسام معاينة تحقيق ، فأراه الكيفية ) .
ثمّ إذ قد سأل عن عجائب أفعاله وبدائع مقدوراته وأجيب عنها فعلا وقولا وعيانا ، ( فسأل عن القدر ) أي مبدأ ذلك المقدور ، ومصدر ذلك الفعل ، وبيّن أن هذا السؤال مما يترتّب على إراءة تلك الكيفيّة العجيبة ، فيكون معطوفا على « فأراه » بدون تمحّ] .
 
سرّ القدر من مفاتيح الغيب
ثمّ إن ذلك المسؤول لما كان من ( الذي لا يدرك إلا بالكشف للأشياء في حال ثبوتها في عدمها ) واستقرارها على مركز أصلها وقابليّتها ( فما أعطي ذلك ، فإن ذلك من خصائص الاطلاع الإلهي ) لما عرفت أن حقيقة القدر ومعرفته من الخصائص الذاتيّة ( فمن المحال أن يعلمه إلَّا هو ) .
ومما عرفت ظهر لك أنه أوّل ما بدء به سلسلة أمر الظهور والإظهار ، وانفتح فيه أبواب خزائن السؤال والعطاء ( فإنّها المفاتيح الأول ) - فالضمير عائد إلى القدر وتأنيثه باعتبار الخبر (أعني مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو ، وقد يطلع الله من شاء من عباده على بعض الأمور من ذلك  . (
ثمّ إن تعدّد الأسماء لمّا كان بحسب اختلاف الاعتبارات ، فإنما يطلق الأسماء حين يعتبر تلك الاعتبارات التي هي كالمبادئ ، وإليه أشار قائلا : واعلم إنه لا يسمى « مفاتح » إلَّا في حال الفتح ، وحال الفتح هو حال تعلَّق التكوين بالأشياء ، و قل إن شئت : حال تعلَّق القدرة بالمقدور) وهذا مبدأ اسم القادر ، كما أن العبارة الأولى مبدأ اسم الفاتح .


( ولا ذوق لغير الله في ذلك ) التكوين والقدرة ، (فلا يقع فيها تجلّ ولا كشف ،إذ لا قدرة ولا فعل إلا لله خاصّة ، إذ له الوجود المطلق الذي لا يتقيّد) ولا شك أن الإطلاق مبدأ التأثير والفعل ، كما أن القيد مبدأ التأثّر
والقبول:  (فلما رأينا عتب الحقّ له عليه السّلام في سؤاله في القدر علمنا أنه إنّما طلب هذا الاطَّلاع ) أي شهود تعلَّق القدرة بالمقدور ذوقا ( فطلب أن يكون له قدرة تتعلَّق بالمقدور ) ضرورة أنّ ذوق تعلق القدرة بالمقدور إنّما يكون للقادر بالذات.
( وما يقتضي ذلك ) القدرة والذوق ( إلا من له الوجود المطلق فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق ) من حيث هو خلق ( ذوقا ، فإنّ الكيفيات ) فيهم ( لا تدرك إلا بالذوق ) وأما العلوم والمعارف فإنما يعلمها الخلق ذوقا بالحقّ ، لا من حيث أنّه خلق .
ونبّه على ذلك في مطلع هذا البحث حيث قال : « لو طلبها بطريق التجلَّي والكشف ربما لا يمنع ".


توجيه ما روي فيما أجيب به عزير عليه السّلام
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما ما رويناه مما أوحى الله به إليه : « إن لم تنته لأمحونّ اسمك من ديوان النبوّة » أي أرفع عنك طريق الخبر ) - هذا وقع جواب « أما » أي فمعناه أرفع عنك طريق الإنباء والرسالة والخبر الذي هو طرف خلقيّتك .
 ( وأعطيك الأمور على التجلَّي ) الحقّاني ، ( والتجلَّي لا يكون إلا بما أنت عليه من الاستعداد الذي به يقع الإدراك الذوقي ) إذ الذوقيّ من الإدراك هو الذي بلغ في الاتّحاد الوجودي الذي يستلزم الإدراك مبلغا لا يكون للثنوية الكونية هناك مجال أصلا ، وذلك هو الذي في القابلية الأصليّة الأوليّة .
فإذا أدركت شيئا بمجرّد الذوق إنّما تعرف ذلك وتحقّقه بأن تستقصي فيما عندك من قوى الاستعلام وآلات استحصال النتائج ، ولم تجد شيئا منها مما يستحصل به ذلك ( فتعلم أنك ما أدركت إلا بحسب استعدادك ) .
ثمّ إنّك إذا عرفت أن التجلَّي بما عليه الاستعداد هو مبدأ الإدراك الذوقي ، فإذا طلبت شيئا (فتنظر في هذا الأمر الذي طلبت ، فلمّا لم تره ) في ذلك التجلَّي ( تعلم أنّه ليس عندك الاستعداد الذي تطلبه ) - وهو الذي يعطي ذلك المطلوب وتذوقه به .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأنّ ذلك من خصائص الذات الإلهيّة ) أنها في تجلَّيها لكل أحد إنما يظهر له خصوصيّته المختصّة به .
(وقد علمت أن الله " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ُ " ولم يعطك هذا الاستعداد الخاصّ فما هو خلقك ، ولو كان خلقك لأعطاكه الحقّ الذي أخبر أنّه:  أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ُ " [ 20 / 50 ] .
فتكون أنت الذي تنتهي عن مثل هذا السؤال من نفسك ، لا تحتاج فيه إلى نهي إلهي .
( وهذه عناية من الله بعزير ) حيث وفّقه الله لهذا السؤال ، ووفّقه على ما يرقيه من مواقف الغيبة ومستفاض النبأ والخبر إلى مواطن الحضور ومشاهد التجلي والعيان ( علم ذلك من علمه ، وجهله من جهله ) فإنّ فهم أمثال هذا الكلام يحتاج إلى ذوق يعزّ واجده جدّا .


الولاية والنبوّة
ثمّ لما استشعر من هذا القول أنّه يستلزم تعظيم أمر الولاية وترجيحها على النبوّة ، أخذ فيما يحقّق ذلك من البيان قائلا :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم أنّ الولاية ) لما لها من غلبة حكم البطون والأصالة الذاتيّة ( هي الفلك المحيط ) بسائر ما في الظاهر من الصور ، ( العامّ ) نسبتها إلى الكل ، عموم نسبة المحيط إلى محاطه ، ( ولهذا لم تنقطع ) ضرورة أن دوران الأفلاك وسائر الحركات الدورية لا ينقطع ، انقطاع الحركة المستقيمة التي للمحاط - ( ولها الإنباء العامّ ) إلى المكلفين - أرباب الأحكام - وإلى المحقّقين من ذوي الإيقان ، ضرورة أن نسبة إحاطته على الكلّ سواء .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا نبوّة التشريع ورسالته منقطعة ) فإنّ أفلاكها ليست لها الإحاطة التامّة ، ( وفي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم قد انقطعت ، فلا نبيّ بعده - يعني مشرّعا ، أو مشرّعا له ولا رسول ، وهو المشرّع ) .
ثمّ إنّ الولاية التي هي حكم البطون والإطلاق لا اختصاص لها بالعبد ، بل هي ذاتيّة للحقّ ، موهوبة للعبد ، وأما النبوّة لما كانت أحكام الصور والقيد ، هي ذاتيّة للعبد ، وهي درجة كماله وذروة عروجه إلى أوج ما أمكن له من مراقي جلاله ولهذا قال : ( وهذا الحديث قصم ظهور أولياء الله ، لأنه يتضمّن انقطاع ذوق العبوديّة الكاملة التامّة ) .
فإنّ كمال كل حقيقة وتمامه إنما هو بإظهار ما له من خصوصيّاته المميّزة له عن غيره . والنبوّة هي التي تختصّ بالعبد ، وفصله المميّز له عن الحقّ ، فعند انقطاعها لا يمكن ظهوره بها ، ( فلا ينطلق عليها اسمها الخاصّ بها ) وذلك يوجب كتمان أمر العبد وخفائه ، وإن أطلق عليها الأسماء المشتركة بينه وبين الحق ( فإنّ العبد يريد أن لا يشارك سيّده - وهو الله - في اسم ) إظهارا لكماله الخاص به ،وإنفاذا لأمر سلطانه.


قال الشيخ رضي الله عنه :  (والله لم يتسمّ بنبيّ ولا رسول ، وتسمّى بالوليّ . واتّصف بهذا الاسم فقال : " الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا " [ 2 / 257 ] وقال : " وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ " [ 42 / 28 ] وهذا الاسم ) الوليّ ( باق ، جار على عباد الله دنيا وآخرة ) .


وهذا له مثال يستفهم منه مغزاه :
وهو أن الشجرة ما لم يظهر عن أكمام نظام أجزائها حكم الثمرة ، يكون الظاهر على العالمين أمر أجزائها الصورية فقط ، كالأوراق والأغصان والأزهار ، ولذلك تراهم يقنعون عنها حينئذ برؤية ألوانها واستشمام نسائمها وروائحها ، منتظرين بدوّ الثمرة في تلك الصورة الحاملة لها ، مترقّبين لذلك كل الترقّب ، حتى فتقت الأكمام عن ثمارها وحكم الزمان بإبرازها وإظهارها.
 
ويومئذ تنعزل تلك الصورة عن إمرة قبولها ونفوذ سلطانها ولا يقنع العالمون بالاحتظاء عن صورتها ، بل يجنون ثمارها بأيادي الاستعدادات ويملكونها ويغتذون منها ويتّحدون بها .
فعلم أن أمر تلك الثمرة باق ظاهرا وباطنا ما ينقطع حكمها أبدا ، دون الصورة الحاملة لها .
 
الباقي من أمر النبوة العامّة
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلم يبق اسم يختصّ به العبد دون الحقّ ، بانقطاع النبوّة والرسالة ، إلَّا أن الله لطيف بعباده ، فأبقى لهم النبوّة العامة ) ، أعني الإنباء عن الله تعالى بصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامها وخواصّها من الحكم النظرية (التي لا تشريع فيها ، وأبقى لهم التشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام ، وأبقى لهم الوراثة في التشريع ، فقال: « العلماء ورثة الأنبياء » ) وقد اعتبر العلماء هاهنا على العرف المعروف للعامّة حيث خصّص الوراثة بالتشريع وما عمّها لها وللإنباء .
ويمكن أن يقال : الميراث إنما يطلق على ما تخلَّف عن الميّت مما اختصّ به ملكا له دون غيره ، وإذ كان الإنباء ليس كذلك ما أدخله فيه وإليه أشار بقوله : ( وما ثمّ ميراث في ذلك إلا فيما اجتهدوا فيه فشرّعوه) فإن الأنباء الحكميّة والحقائق الإلهية لا يطلق عليها الميراث ، حيث أنّ صاحبها وخاتمها بعد ما مات عنها .
 
كلّ نبيّ وليّ
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا رأيت النبيّ يتكلَّم بكلام خارج عن التشريع ) من الأنباء الحكميّة والحقائق الذوقيّة وتبيين مقامات القوم ومراتب الناس فيها وعوائقهم عن البلوغ إلى أقاصي كمالاتهم ( و ) ذلك كلَّه ( من حيث هو وليّ وعارف ) ، ضرورة أنّ النبي مفهومه كمال خاصّ يتضمّن الولاية والعرفان ، وهي رقيقة نسبته إلى الحقّ في بطونه ، كما يتضمّن النبوّة التشريعية ، وهي رقيقة نسبته إلى الخلق في ظهوره .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولهذا مقامه من حيث هو عالم ووليّ أكمل وأتمّ من حيث هو رسول أو ذو تشريع أو شرع .
فإذا سمعت أحدا من أهل الله يقول أو ينقل إليك عنه أنّه قال : « الولاية أعلى من النبوّة » فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه ، أو يقول : « إنّ الوليّ فوق النبيّ والرسول » فإنّه يعني بذلك في شخص واحد ، وهو أنّ الرسول عليه السّلام من حيث هو وليّ أتمّ منه من حيث هو نبيّ ورسول لا أن الوليّ التابع له أعلى منه ، فإنّ التابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه إذ لو أدركه لم يكن تابعا له . فافهم )
 ولا تغفل عن حيثية قيد التابعيّة ، فإن أمر الرسالة والتشريع في الشخص إنما يتعلَّق بنشأته هذه دون الولاية ، فإنها مما يلازم حقيقته ولا يفارقه أبدا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمرجع الرسول والنبيّ المشرّع إلى الولاية والعلم ) الذي هو صورتها ومظهرها ( ألا ترى الله قد أمره ) - أي الرسول النبيّ المشرّع - ( يطلب  الزيادة من العلم ، لا من غيره ) ممّا يتعلق بأمر الرسالة والتشريع .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فقال له آمرا : " قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " ) [ 20 / 114 ] ( وذلك أنّك تعلم أن الشرع تكليف بأعمال مخصوصة ، أو نهي عن أعمال مخصوصة ، ومحلَّها هذه الدار ).
 أي محلّ تلك الأعمال والأفعال التي هي موضوع الشرع ، ومحلّ أحكامه هذه الدار الفانية .
 
انقطاع النبوّة وبقاء الولاية
( فهي منقطعة والولاية ليست كذلك ، إذ لو انقطعت لانقطعت من حيث هي هي ) بدون اعتبار إلى محل خاصّ وشخص معيّن ( كما انقطعت الرسالة من حيث هي هي ) بدون اعتبار محل خاصّ ، فإنّها منقطعة بذاتها ، فلا يوجد لها شخص تتقوّم به أبدا .
 
نسبة العبد إلى الأسماء الإلهيّة
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( و ) الولاية ( إذا انقطعت من حيث هي لم يبق لها اسم ، والوليّ اسم باق لله ) بالأصالة ( فهو لعبيده تخلَّقا ) - وذلك في قيامهم بها وتقويمهم إيّاها على ما يليق بالعبيد في إظهارها - ( وتحقّقا ) - وذلك في معرفتها والتيقّن بحقيقتها بالنسبة إلى الله وبالنسبة إليهم - ( وتعلَّقا ) .
وذلك في انتسابهم من حيث الافتقار والعبوديّة إلى الذات من حيث الولاية كما في سائر الأسماء الإلهية .
فإن العبد له ثلاث مراتب بالنسبة إليها كما قال الشيخ في بعض الرسائل :
للعبد بأسماء الله تعالى تعلَّق وتحقّق وتخلَّق .
فالتعلَّق افتقارك إليها مطلقا من حيث ما هي دالَّة على الذات .
والتحقّق معرفة معانيها بالنسبة إليه سبحانه وبالنسبة إليك .
والتخلَّق أن تقوم فيها علي ما يليق بك ، كما انتسب إليه ما يليق به .
فجميع أسمائه تعالى يمكن تحقّقها والتخلَّق بها إلا اسم « الله » عند من يجريه مجرى العلميّة ، فيقول إنّه للتعلَّق خاصة.أهـ » - إلى هنا كلامه بعبارته الشريفة .
وإنما أوردت ذلك ليعلم أن هذا تدرّج من الأعلى إلى الأدنى على - خلاف ما توهّمه البعض - فالتخلَّق عند قيام العبيد بمقتضيات الأسماء أعلى من التحقّق وإن كان التحقّق في الحقائق العلميّة والمواطن الشهوديّة أعلى منه .
وأما التعلَّق فهو الأدنى مطلقا .
 
ما خوطب به عزير كان على مجرى الوعد ، لا الوعيد
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقوله للعزير : لئن لم تنته عن السؤال عن ماهيّة القدر لأمحونّ اسمك من ديوان النبوّة فيأتيك الأمر على الكشف بالتجلي ) في مشاهد الحضور والاتّحاد .
( ويزول عنك اسم النبيّ والرسول ) في موطن التفرقة والبعاد ، وحينئذ يكون الوجود لله (وتبقى له ولايته ) ، فإنّك أنت به وليّ تخلَّفا وتحقّقا .
ويمكن أن يرجع ضمير إلى العزير ، وتكون هذه الجملة خبرا لمبتدأ أو قرينة لحذفه - والأول أولى ، فإنّ الأكابر لا يلتفتون إلى معهودات المصطلحات كثير التفات ، فأتى بالواو تكثيرا للفائدة وتبيينا للمعنى الأول - وحاصل ذلك أنّ قوله للعزير : « لأمحونّ اسمك من ديوان النبوّة » يبقي له ولايته ، ويبشّره على الكشف بالتجلَّي ، فيكون من قبيل الوعد .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إلا أنّه لمّا دلَّت قرينة الحال أن هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد علم من اقترنت عنده هذه الحالة مع الخطاب أنّه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية في هذه الدار ، إذ النبوّة والرسالة خصوص رتبة في الولاية ).
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فصّ حكمة قدريّة في كلمة عزيريّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 2:40 pm

14 - فصّ حكمة قدريّة في كلمة عزيريّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
14 - فصّ حكمة قدريّة في كلمة عزيريّة
فإنّهما الصورة الظاهرة المنطوية عليها ، فلا بدّ من احتوائهما ( على بعض ما تحتوى عليه الولاية ) المطلقة ( من المراتب ) وإلا لم تكن صورة لها .
فإنّك قد عرفت أنّ الرسالة والنبوّة من صور تنزّلات الولاية ومظاهر أحكامها ، فالرسول النبيّ هو الولاية الظاهرة أحكامها في العين ، النافذة أوامرها على الخلق ( فيعلم أنّه أعلى من الوليّ الذي لا نبوّة تشريع عنده ولا رسالة ).
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن اقترنت عنده حالة أخرى ) غير هذه الحالة ( تقتضيها أيضا مرتبة النبوّة يثبت عنده أن هذا وعد لا وعيد ، وأنّ سؤاله عليه السّلام مقبول ، إذ النبيّ هو الوليّ الخاصّ ) الذي لا يقدم على ما لا يرضى الله تعالى به ، ولا يسأل ما لا يعلم أنّه يعطيه ويمنحه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويعرف بقرينة الحال أنّ النبيّ من حيث له في الولاية هذا الاختصاص محال أن يقدم على ما يعلم أنّ الله يكرهه منه ، أو يقدم على ما يعلم أنّ حصوله محال . ).


قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإذا اقترنت هذه الأحوال عند من اقترنت وتقرّرت أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده في قوله : « لأمحونّ اسمك من ديوان النبوّة » مخرج الوعد ، وصار خبرا يدلّ على علوّ مرتبة باقية وراء مرتبة النبوّة التشريعيّة ، وهي المرتبة الباقية على الأنبياء والرسل في الدار الآخرة التي ليست بمحلّ الشرع ، يكون عليه أحد من خلق الله ) - أي حال كون ذلك الشرع عليه أحد من خلق الله ليست الدار الآخرة محلا لها - ( في جنّة ولا نار ، بعد الدخول فيهما ).
 
فقوله تعالى للعزير عند سؤاله عن ذلك السرّ : « لئن لم تنته لأمحونّ اسمك من ديوان النبوّة » خبر فيه ضرب من التشويق إلى المسؤول عنه - لا نهي عن السؤال - عند الفطن .
وهذا من الكنايات المستعملة والملحقات بالبطن الأوّل .
فإنّ المصنف قلَّما يستشهد بآية ويستكشف عنها المعاني غير ما في ذلك البطن وملحقاته .
"" أضاف الجامع : تجدر الإشارة والبشارة في جمال الله ولطفه لكونه سبحانه المعلم والمربي وصانع  عباده المخلصين المختاريين :
فتحذيره لأولياؤه وعباده المخاصي اللذين صنعهم على عينة تكون من راعيهم ومعلمهم المحب الى عباده المحبين له فلا تكون من ديوان المنتقيم أو الشديد البطش تكون بدون عقوبة السلب والآلام للعذاب ، نذكر أمثال :-
1 - قوله تعالي لرسول الله صلى الله عليه وسلم  :
 وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) سورة الإسراء.
وقوله تعالى : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) سورة الأنفال .
2 - أبينا آدم عليه السلام :
لما عصى ربه لم يسلبه النبوة وعلمه كلمات وتاب عليه السلام  وأنزله بالنبوة ليتولى وظيفته بالخلافة في الأرض لحقق إرادة الله فبه.
3 - نبي الله ذا النون يونس عليه السلام :
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) سورة الأنبياء .
ولم يسلبه الله سبحانه واللهمة كلمات التوبة وعفا عنه وارسله الى مائة ألف او يزيدون
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) سورة الصافات
4 - رسول الله ونبيه موسى عليه السلام :
قال تعالى : وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سورة الأعراف
ولكن رسول الله موسي عليه السلام ، ألقى الألواح من الغضب ولم يعاقبه الله ولم يسلبه بل أعانه وساعده ليأخذ الألواح مرة أخرى  بل كفأؤه وقومة وحدد لهم ميقاتا لملاقاه الله سبحانه .
قال تعالى :  وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) سورة الأعراف
قال تعالى :  وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) سورة الأعراف
قال تعالى :   وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) سورة الأعراف ""
 
الباقي من أمر الشرع في القيامة
( و ) الانطلاق عن الشرع ورفع أحكامه ( إنما قيّدناه بالدخول في الدارين ) أعني - ( الجنّة والنار - لما شرع يوم القيامة لأصحاب الفترات ) الذين زمان ظهورهم ما بين نبيّين ما أدركوا حكم أحد منهما .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والأطفال الصغار والمجانين ، فيحشر هؤلاء في صعيد واحد لإقامة العدل والمؤاخذة بالجريمة ) في أصحاب الجحيم .
( والثواب العملي في أصحاب الجنّة ) وإنما لم يصرّح بأصحاب الجحيم لما عليه كلمته من أنّ الجحيم ومقتضياتها أمر موهوم - « وما لوعيد الحق عين تعاين » - فليس له ظهور مثل ظهور نعيم الجنة .
( فإذا حشروا في صعيد واحد ) - لغلبة حكم البرزخ على أرواحهم ، فهم في موضع مرتفع عن أهله ( بمعزل عن الناس - بعث فيهم نبيّ من أفضلهم وتمثّل لهم نار ).
أي تصوّر العقل الذي هو مبدأ التكليف والتمييز بصورة مثاليّة ناريّة ( يأتي بها هذا النبيّ المبعوث في ذلك اليوم ) وذلك لأنّ النار لها نوريّة يهتدي به الناس ، وإحراق يستتبع تفريق المختلفات وجمع المتماثلات ، وهو فيه التمييز المترتّب على إدراكه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيقول لهم : « أنا رسول الحقّ إليكم » فيقع عندهم التصديق به ، ويقع التكذيب عند بعض ) على ما هو مقتضى أمر النسبة من ظهور حكم التقابل .
( ويقول لهم : « اقتحموا هذه النار بأنفسكم ) وادخلوا في ورطات مهالكها - إذ الاقتحام هو الدخول في المهالك .
( فمن أطاعني نجا ودخل الجنة ، ومن عصاني وخالف أمري هلك وكان من أهل النار » - فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها سعد ونال الثواب العملي ، ووجد تلك النار ) بشهوده اليقيني.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بردا وسلاما ومن عصاه استحقّ العقوبة ، فدخل النار ونزل فيها بعمله المخالف ، ليقوم العدل من الله في عباده ).
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وكذلك ) يدلّ على بقاء حكم التشريع في الآخرة ( قوله : " يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ " [ 68 / 42 ] أي أمر عظيم ) .
إذ الساق عضو عظيم ذو عظم عظيم من الأعضاء ( من أمور الآخرة ) فإنّه آخر الأعضاء للشخص - ( " وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ " ) والامتثال والإذعان ، مثل كشف هذا الأمر على الشيخ ، فإنّه أمر عظيم من أمور الآخرة ، وكذلك سائر أصول مكاشفات الكمّل .
ويمكن أن يجعل مشيرا إلى ذلك قوله : ( فهذا تكليف وتشريع ، فمنهم من يستطيع ) في الدنيا امتثال أمر الله ( ومنهم من لا يستطيع ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم : " وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ " ). [ 68 / 42 ].


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما لم يستطع في الدنيا امتثال أمر الله بعض العباد - كأبي جهل وغيره ) .
( فهذا ) السجود المدعوّ إليه وتكليف الأطفال والمجانين على صعيد المحشر بالاقتحام في نار عقولهم وتمييزهم التشريعي ( قدر ما يبقى من الشرع في الآخرة يوم القيامة قبل دخول الجنة والنار فلهذا قيّدنا) بذلك .
( والحمد لله ) على أن علَّمنا ذلك الحقائق التي تتعلَّق بالأنبياء وأولي النهايات منهم .

تم الفص العزيري
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسويّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:57 am

15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسويّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسويّة
  وجه تسمية الفصّ  
إنّما اختصّت الكلمة العيسويّة بين الأنبياء كلَّها بالحكمة النبويّة لما قد اطَّلعت عليه أولا من أن النبوة - التي هي الإخبار عن الله بأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامها كلها - مبنى أمرها على الوجود الكلاميّ ، ومنشأ ظهورها من النقطة النطقيّة التي بها ينطبق قوسا البطون والظهور ، ويتمّ الكمال الوجوديّ بالشهوديّ ، والظهوريّ بالشعوريّ .
 
ثمّ إنّ الكلمة العيسويّة هي التي تفرّدت بين الكلمات بمظهرية هذه المرتبة من الوجود استقلالا ، بدون تعلَّم ولا تعمّل اكتساب وتدبّر - دون غيرها من الأنبياء - فهي التي تظهر هذه المرتبة لذاتها ، ولذلك ترى أول أثر يترتّب على شخصه الكماليّ هو هذه ، إذ تكلَّم في بطن امّه بقوله : “ أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا “ [ 19 / 24 ] وفي المهد بقوله : “ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا”  [ 19 / 30 ] .
وهذا هو وجه المماثلة والمشابهة بينه وبين آدم ، على ما أفصح عنه قوله :
“ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَه ُ من تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَه ُ كُنْ “ كلمة كاملة ذات نطق وكلام “ فَيَكُونُ “ [ 3 / 59 ] فإنّ « ثمّ » يدل هاهنا على أنّ أمر “ كُنْ “ إنما يتوجّه إلى مرتبة وراء خلق آدم ، مرتّبة عليه ، فعيسى مثل آدم في مصدرية الكلام الكماليّ ومظهريّة الكمال الكلاميّ بدون تعلَّم من أحد ولا تطفّل على أحد ، فلذلك اختصّت بالنبوّة .
ومما يلوّح عليه أن في لفظة « النبويّة » جميع ما في الكلمة العيسويّة من الحروف ، إمّا بأعيانها ، أو ببيّناتها .
 
وبيّن أن ظهور الكلمة العيسويّة بمرتبة الإنبائيّة الكلاميّة - التي بها صحّت مماثلتها لآدم - ليس على ما عليه الطبيعة الجزئيّة البشريّة ، فإنّها ليست ظاهرة بها إلا بعد تعلَّم من الأبوين ، وزيادة تدبّر وتعاون من القوى ، على استحصال تلك الملكة ، فليس لها في ذاتها إلا القابليّة لها فقط . ولذلك كان امّها من جزئيات هذه الطبيعة البشريّة ، والنفخ الجبرئيليّ فيها بمنزلة الأب .
 
 مبدأ خلق عيسى عليه السّلام   
فأشار إلى ذلك بضرب من التلطَّف مستفهما عن ترديد على معنى منع الخلوّ دون الجمع  قائلا :
( عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين )
فإن الماء للين جوهره وكمال قبوله وانفعاله هو الامّ ، والنفخ لقوّة فعله وشدّة تأثيره هو الأب . على أن الماء هو الامّ مادّة ، كما أنّ « النفخ » « أب » في قاعدة العقد على ما يلوّحك عليه  بيّنات العدد منه ، إذا نسب إلى الأب بيّناته أو اسمه - تأمّل .
 
ثمّ إن ماء مريم بجوهريّته قابل لذلك ، كما أن نفخ جبرين بصورته الفعليّة فاعل له ، فلذلك ظهر الولد بجوهره
( في صورة البشر الموجود من طين )
كما أنّه بفعله في صورة الملك الموسوم بالجبرين ، وفي تبديل لامه بالنون إشارة إلى ما عليه في حالة النفخ ، أعني الصورة الإنسانية ، فإنّ النون من امّهات موادّ ذلك الاسم - كما لا يخفى - فمتعلَّق هذه الظروف كلها قوله :
( تكوّن الروح في ذات مطهّرة )
 من آثار تلك الصورة وأفعالها الهيولانيّة المظلمة ، فإن أفعال عيسى ومبدأها - أعني الروح - من جبرين ، إذ تكوّن الروح عن النفخ ، كما أن صورة البشر من الماء ، على ما يطلعك عليه تركيبه بترتيبه .
 
ثمّ إنّه قد حصل هاهنا صورة مزاجيّة اعتداليّة بين قاهرين قويّين :
أحدهما تكوّن روحه في ذات غير قابلة للفساد ، والتغيّر والحدوث ، مطهّرة من ذلك الأوصاف ، يجذبه إلى العلو مستقر جلالها ومسرع عزّها وإطلاقها .
والآخر تكوّن صورته ( من الطبيعة ) التي لم تزل تفسد وتتغيّر ( تدعوها ) إلى السفل معدن كمالها المسمى ( بسجّين ) الحصر والقيد .
وبيّن أن المزاج المعتدل بين القوّتين المتقاومتين ، لا بدّ وأن يكون لها بقاء بقدر قوّتهما وتكافؤهما عند تحاذيهما ، واستقرارهما في الاعتدال ( لأجل ذلك قد طالت ) للروح ( إقامته )
في تلك الذات ومكثه ( فيها ، فزاد ) مقدار إقامته ، ( على ألف ) وهو أنهى درجات مراتب المقدار وأطولها من السنة التي هي أنهى درجات مراتب الزمان وأطولها ( بتعيين ) مقداريّ عددا وزمانا .
 
وذلك الاعتدال فيه لقوّة أمر الروح ، حيث لم ينقهر من حكم الطبيعة مع أنّه متنزّل في مرتبتها ، ظاهر بحكمها ، كما انقهر غيره من الكلمات .
ووجه اختصاص روحه بتلك القوّة أنّه :
( روح من الله لا من غيره فلذا أحيا الموات )
إحياء إعادة( وأنشأ الطير من طين )إنشاء بدء . فتحقّق بالمبدئيّة والمعيديّة .
 
( حتّى يصحّ له من ربّه نسب به يؤثّر في العالي )
من المتروحين المتجرّدين ( وفي الدون ) من المتركَّبين المتدنّسين لما عرفت أنّه بصورته الاعتداليّة الجمعيّة محيط بالطرفين وجودا ، فإنّه بصورته الجسميّة التي هي نهاية المراتب الوجوديّة باقية في الجسم الكلّ ، مؤثّر في صورهم الوجوديّة ، كما أنّ محمّدا بصورته الكلاميّة التي  هي غاية الكلّ ، باق مؤثّر في كمالهم الشهوديّ .
وبيّن أن الإحاطة المذكورة إنما يتصوّر بمظهريّة الجمعيّة الإلهيّة ، وذلك إنما يتمّ بطهارة كمال قابليّته ، المطهّر بطرفيه الروحانيّ والجسمانيّ عن التدنّس والتغيّر ، حتّى يصحّ منهما المزاج الاعتداليّ المثليّ ، وإليه أشار بقوله :
 
(الله طهّره جسما ونزّهه  ... روحا وصيّره مثلا بتكوين )
وقد نبّهت على وجه مماثلته بآدم ، وهذا وجه مماثلته للحقّ ، وهو الظهور بالإبداء والإعادة فعلا ، والتطهير والتنزيه ذاتا وصفة .
 
 الروح مبدأ الحياة   
وبيّن أن موضوع البحث في الحكمة النبويّة - على ما عرفت - إنما هو تحقيق أمر الكلام ، والكشف عن أصل مادته التي هي الحياة ، ومبدأ صورته التي هي الصوت ، وبيان أنّ ذلك قد يتمّ أمره على غير المنهج المعتاد من التوالد والتناسل الطبيعيّ ، بل بضرب من الامتزاج الروحيّ بالموادّ العنصريّة ، فلذلك قدّم قصّة السامريّ قائلا :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أن من خصائص الأرواح أنّها لا تطأ شيئا )
أي لا تقع على أرض من أراضي القوابل وتطأها ( إلا حييّ ذلك الشيء ) بقوّة قبوله ( وسرت الحياة فيه ) بحسب تلك القوّة التي لها نباتيّة أو حيوانيّة - على اختلاف طبقاتها - ( ولهذا قبض السامريّ قبضة من أثر الرسول الذي هو جبرئيل ، وهو الروح ) .
 
العقل الأول في اعتباراته المختلفة
فإنّك قد عرفت في المقدّمة أن للعقل الأول أسماء بحسب طريان الاعتبارات المتخالفة له ، وظهور سلطانها عليه ، فإنّه باعتبار التدوين والتسطير يسمّى بالقلم ، وباعتبار التصرّف والتصريف يسمّى بالروح ، وباعتبار ضبطه وإحصائه الأسماء والرقائق الوجودية يسمى بالعقل ، هذه أسمائه في مرتبته .
ثمّ إذا تنزّل في عوالم الحجب فباعتبار وساطته ورسالته في إنزال أصول الصور الكلاميّة على الإنسان الكامل يسمى بجبرئيل ، كما أن العقل الأخير المسمى بالعقل الفعّال باعتبار وساطته في إحداث الصور الحرفيّة وإسماعها يسمى بإسماعيل .
"" أضاف المحقق : قال مؤيد الجندي في شرح الفصوص : وجبرئيل هو الروح الكليّ المسلط على عالم العناصر كلها ، وسلطانه ومقامه سدرة المنتهى ، وليس كما يزعم الفلاسفة أنه العقل الفعال - يعنون روح فلك القمر - فإن روحانية فلك القمر هو إسماعيل ، وليس بإسماعيل النبيّ ، بل هو ملك مسلّط على عالم الكون والفساد ، وهو من أتباع جبرئيل عليه السّلام ، وليس لإسماعيل حكم فيما فوق فلك القمر ، ولا لجبرئيل فيما فوق السدرة ، وحكمه على السماوات السبع وما تحتها من الأسطقسات والمواليد ""
 
وما قيل: « إنّ جبرئيل عند العرفاء هو ما يختصّ أمر سلطنته بالفلك السابع وما دونه »
""أضاف المحقق :هذا المعنى ظاهر كلمات الجندي والكاشاني والقيصري""


فهو غير ما علم من تصفّح كلام الشيخ ، فإنّه قد صرّح في كتاب عقلة المستوفز:
أنّ فلك البروج - الذي هو الفلك الأطلس عنده - فيه خلق عالم المثل الإنسانية والحجب الجسدانيّة ، وفي هذا الفلك مقام جبرئيل ، وإليه ينتهي علم علماء الرصد لا يجاوزه أصلا - هذا كلامه .
ثمّ هاهنا تلويح وهو أنّك قد عرفت ما في ( ال ) من الإحاطة بتمام الكلام ، « فجبرال » - بحسب الاشتقاق الكبير - الذي هو المعوّل عليه عند كبار المحققين - يدل على أنّه « الجائي برأي ال » كما أن « إسماعيل » يدل على أنّه المصدر « لإسماع ال » .
وبيّن أن ( ال ) هو الكلام الجامع بين المقطَّع والمركَّب ، والصورة الحائزة للجمع والتفرقة والفرقان القرآن .
ومن تفطَّن لهذا الأصل عرف كثيرا من الدقائق ، منها وجه التمييز بين القرآن المنزل السماويّ والحديث القدسيّ النبويّ .
 
السامريّ وخوار عجله
( وكان السامريّ ) لملازمته سدّة النبوّة مقتبسا من مشكاة حكمها الأنوار العلميّة ( عالما بهذا الأمر ) - وهو أن الحياة تترتّب على مواطأة الروح حيثما وطئ
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما عرف أنّه جبرئيل ، عرف أنّ الحياة قد سرت فيما وطئ عليه ، فقبض قبضة من أثر الرسول - بالضاد أو بالصاد ، أي بملء يده ، أو بأطراف أصابعه فنبذها بالعجل ،فخار العجل ) لأنّه أثّر الحياة في صورة العجل وغاية ما يترتّب على إقامة بنيته .
فإنّ الصورة الفصليّة للنوع هي الغاية الكماليّة التي بها يصير ذلك النوع بالفعل . ومبدأ تخالف تلك الصورة هي المادّة الاميّة المسماة بالجنس ، فإنّها تختلف بحسب اختلاف تلك المادّة .
 
( إذ صوت البقر إنما هو خوار ، ولو ) أنّ السامريّ ( أقامه صورة أخرى لنسب إليه اسم الصوت الذي لتلك الصورة ) ضرورة ترتّب ذلك على تركيب هيئته وصورة حياته ، التي هي المادّة الجنسيّة ( كالرغاء للإبل ، والثواج للكباش ، والثغاء للشياة ، والصوت للإنسان ) ممّن كان له صورة هذا النوع ( أو النطق ) ممّن له الإدراك منهم والنظر في الأمور العقليّة ( أو الكلام ) لمن له الكمال الإنساني .
وقد راعى المراتب الثلاث ، أعني أصل القابليّة وكمالها ، والواسطة بينهما في المادّة والصورة . فتكملت المراتب الستّ بذلك - فلا تغفل .
 
وإذ قد عرفت أنّ الحياة - التي هي إمام أئمة الأسماء الإلهيّة - قد تسري في الموادّ الهيولانيّة لمواطأة الروح لها ، ويجعلها ذا صورة كماليّة وجمعيّة كليّة يصلح لأن تكون مصدرا للقوى الطبيعيّة والإدراكات الكليّة بحسب قوّة قبولها وقربها للاعتدال الجمعي الوحداني .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء يسمى « لاهوتا » ، والناسوت هو المحلّ القائم به ذلك الروح ) في الظهور .
وإن كان الروح مقوّم ما حلّ فيه في الوجود ووطئ عليه ، كما حقّق ذلك في المادّة الهيولانيّة مع الصور الجسمانيّة بلسان النظر .
 
و " اللاهوت " فعلوت من لاه ، يليه : إذا تستّر .
و " الناسوت " من ناس ، ينوس : إذا تذبذب وظهر بفعله .
وأنت عرفت أنّ المادّة الاميّة هي المحتجبة بالصورة الكماليّة الظاهرة بالأثر ، على ما عرفت في مراتب الصوت مادّة وصورة .
ومما يلوّح على ذلك أن ما يختصّ به الأوّل  - يعني اللام والهاء - فضله هو الدالّ على الامّ ، كما أنّ ما يختصّ به الثاني - وهو السين والنون - على الصورة الشاخصة .
يقال : سننته سنّا : إذا صوّرته .
 
كيفية النفخ في مريم عليها السّلام
( فسمّي الناسوت ) - مثل عيسى مثلا - ( روحا بما قام به ) أي لقيام الروح به وظهور أحكامه منه بلا تلبّس وتشوّب . فكأنّه هو ، كما قيل  :
رقّ الزجاج ورقّت الخمر  .... فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ، ولا قدح   .... وكأنما قدح ، ولا خمر
( فلما تمثّل الروح الأمين - الذي هو جبرئيل - لمريم عليهما السّلام بشرا سويّا )
أي معتدلا سنّا وخلقة ، فإنّ من شأن الأعلى أن يقدر على تصوّره بصورة الأنزل كيفما شاء ، فلمّا رأت تلك الصورة بشبابها وحسنها ، لاعتدالها سنّا وخلقة
( تخيّلت أنّه بشر يريد مواقعتها ، فاستعاذت باللَّه منه استعاذة بجمعيّة منها ) ضرورة انضباط تلك الصورة البشريّة في متخيّلتها عند الاستعاذة ، ( ليخلصها الله منه ، لما تعلم أن ذلك مما لا يجوز ، فحصل لها حضور تامّ)  صورة ومعنى ( مع الله ) وذلك الحضور ( هو الروح المعنويّ ) لعيسى .
"" أضاف المحقق : قال القيصري : « فحصّل لها حضورا تامّا » من التحصيل ، أي حصّل جبرئيل لمريم عليهما السلام الحضور التام . ""
ومن هنا يقال له : "روح الله " فاللام لام العهد .
 
( فلو نفخ فيها ) جبرئيل ( في ذلك الوقت ) - يعني عند حضورها - ( على هذه الحالة ) - وهي حالة توحّشها وانقباضها من الصورة البشريّة - ( لخرج عيسى لا يطيقه أحد ، لشكاسة خلقه ) - أي لصعوبة خلقه وعبوسه - ( لحال امّه ) وسرايتها في الولد - لما مهّد آنفا من ترتّب الصورة الكماليّة الفصليّة على المادّة الاميّة الجنسيّة .
( فلمّا " قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ " جئت " لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا " [ 19 / 19 ] انبسطت عن ذلك القبض ) برفعه حجب الوحشة ، وبسطه معها بساط التكلَّم والخطاب ، بما ينبئ عن رقيقة نسبته إليها ، مبشّرا إيّاها بأنّه مرسل إليها من عند ربّها .
 
( وانشرح صدرها ) ببشارة مثل ذلك الغلام ، لأنّها قد بشّرت قبل هذا به  .
إشارة إلى قوله تعالى : " إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّه َ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْه ُ اسْمُه ُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " [ 3 / 45 ]
 
فلمّا رأت الآثار متطابقة انشرحت بذلك ( فنفخ فيها في ذلك الحين عيسى ) .
إذ قد كان جبرئيل رسولا مبلَّغ ما يظهر به الروح المعنوي الحاصل من حضورها مع الله ( فكان جبرئيل ناقلا كلمة الله لمريم . كما ينقل الرسول كلام الله لامّته ) والكلام هو الذي يظهر به الروح المعنويّ الحاصل من حضور كل من الأمم مع الله - فلا تغفل .
وفي لفظة « عي سا » ما يلوّح على تحقيق هذا المعنى عند التفصيل والتمييز .
"" أضاف المحقق :  لعل الشارح يعني أن « عي » صيغة خاطب من « وعي ، يعي » والسين والألف « سا » قلب الإنسان ولبه وروحه ، ومنزلة روح اللَّه من مريم منزلة روحها الذي حيّيت به والشارح يشير إلى وجود حروف الإنسان في « عي سا »  ""
 
ثمّ أنه علم من هذا الكلام أن عيسى - من حيث صورته الوجوديّة المعبّر عن ظاهرها بالكلمة ، وعن باطنها بالروح - من الله ، وجبرئيل من حيث صورته الوجوديّة ناقل له فقط .
( و ) الذي يدلّ عليه ( هو قوله : " وَكَلِمَتُه ُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْه ُ " [ 4 / 171 ] .
 
خلق عيسى من ماء محقق وماء متوهّم
ثمّ إنّ النفخ الجبرئيلي له حيثيّتان :
إحداهما جهة حمله كلمة الله ونقله إيّاها إلى مريم ، وهي الصادرة عنه من حيث صورته الوجوديّة الملكيّة .
والأخرى جهة بخاريّته وسراية رطوبته منها في مريم ، وهي الصادرة عنه من حيث صورته الكونيّة .
وهذه الجهة هي المشار إليها في نظمه المصدّر به الفصّ وإليه أشار بقوله ( فسرت الشهوة في مريم ) بذلك النفخ الحاصل من الصورة الاعتداليّة البشريّة تمثّلا عند انبساطها ، ( فخلق جسم عيسى من ماء محقّق من مريم وماء متوهّم من جبرئيل ، سرى في رطوبة ذلك النفخ ) سريان الشهوة في مريم بالنفخ فإنّ للوهم سلطانا في أمر الشهوة وسائر ما به يعمل القوى الفعليّة في الإنسان .
 
وذلك لأنّ الوهم في المملكة الإنسانيّة بيده إطلاق ديوان التحريك وتحت أمره عمّال قضايا الفعل والتأثير ، ولذلك ترى الوهم يؤثّر في الذائقة - عند تخيّل الحموضة أو رؤيتها وتذكَّر ما يتبع ذوقها - مثل ما يتبعه في الوجود العينيّ .
ومن ثمّة كثيرا ما تتحرك به الشهوة ويستفرغ منه المني ، وذلك إنما يكون عند وجود محلّ يقبل ذلك ، كحالة انبساط مريم عند رؤية الصورة البشريّة الاعتداليّة متوجّهة إليها لأن يسرى فيها الشهوة ، وكحال النفخ في الجسم الحيوان ، لسريان الماء فيه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأنّ النفخ من الجسم الحيوانيّ رطب ، لما فيه من ركن الماء ، فتكوّن  جسم عيسى من ماء متوهّم وماء محقّق ) .
فلئن قيل : إنما يكون الماء متوهّما إذا لم يكن له صورة في العين ، وحيث بيّن أن النفخ من الجسم الرطب الحيوانيّ مشتمل على ركن الماء بالفعل كيف يكون متوهّما ؟
قلنا : إنّ الماء وإن كان له وجود عينيّ وصورة مشخّصة في النفخ المذكور ، ولكن من حيث أنّه يصلح لأن يكون مبدأ لتكوّن جسم إنسانيّ هو معنى جزئيّ إنما يدركه الوهم ، بل الوهم هو الذي حصّل للماء المذكور ذلك المعنى - على ما لا يخفى .
فهذا الوهم من مريم ، لا من جبرئيل - كما توهّمه البعض بأنّه سلطان العناصر - لأنّه لو كان كذلك جعل بسلطنته ذلك الماء محقّقا لا متوهّما ، كيف - ولا يطلق على الملك التوهّم إلا بضرب من التمحّل .
""أضاف المحقق : فيها إشارة إلى ما قاله الكاشاني : الماء المتوهم جاز أن يكون من توهمها أن الولد لا يكون إلا من ماء الرجل ، فخلق الماء من النفخ بقوة وهمها وأن يكون من جهة جبرئيل ، لأنه سلطان العناصر ،يقدر أن يجري من نفسه الرحماني روح الماء في النفخ ، فيحصله ماء.""
 
صورة عيسى عليه السّلام
(وخرج على صورة البشر من أجل امّه ، ومن أجل تمثّل جبرئيل في صورة البشر ، حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني إلا على الحكم المعتاد )
وهو أن يكون من الأبوين ، من ذلك النوع ، وعلى صورته الطبيعيّة إذ لو لم يتمثّل جبرئيل في صورة البشر لما كان التكوين على الحكم المعتاد ، وذلك لأن التكوين والإيجاد هو الظهور من المكوّن بصورة الأثر ، فلا بدّ للفاعل من أن يتصوّر بصورة ما أراد مفعوله عليها ، حتّى يتمّ التصوّر بصورته ، فلذلك تمثّل جبرئيل بصورة البشر لأجل ذلك الحكم المعتاد والوجوب العادي.
 
ولذلك أيضا ورد  : " إن الله تعالى يتجلَّى في الصورة الإنسانية عند تخميره طينة آدم " .
ولا بدّ هاهنا من أن يكون مفعوله - وهو جسم عيسى - على الصورة المذكورة من التشكَّل بالشكل المعهود من تلك الأفراد ، لئلَّا يتنفّر منه طباع المستكملين من بني نوعه فيفوت الغاية المطلوبة من الإنباء والإرسال ، وذلك لأنّ تخالف الصور بالشخص تقتضي التوحّش ، كما أنّ توافقها توجب المؤانسة .
 
رمز إحياء الموتى بيد عيسى عليه السّلام
( فخرج عيسى يحيى الموتى لأنّه روح إلهي ) كما سبق بيانه من أنّ معنوية تلك الكلمة وروحها إنّما كذا حصل من الحضور الذي حصل لمريم مع الله بجمعية منها تامّة عند رؤيتها الصورة البشريّة الاعتداليّة في أيّام انتباذها من القوم مكانا شرقيّا ، أعني أيّام نقائها من الحيض ، فإنّ فيها مزيد هيجان لشهوة النسوان ، وزمان وقوعها في مكان يشرق فيها نيّر الإظهار والإشعار .
ثمّ إن أمر التوهّم والتحقّق - الذين في أصل خلقة الكلمة العيسويّة لهما دخل في سائر أحكامها . ولذلك قال : ( وكان الإحياء لله ، والنفخ لعيسى ) في صورة إحياء عيسى الموتى ( كما كان النفخ لجبرئيل والكلمة لله ) في صورة تكوين عيسى .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان إحياء عيسى للأموات إحياء محقّقا من حيث ما ظهر عن نفخه ، كما ظهر هو عن صورة امّه ، وكان إحياؤه أيضا متوهّما أنّه منه ، وإنّما كان لله ) وفي بعض النسخ: « وإنما كان من الله » وهو أظهر .
( فجمع ) الإحياء المحقق والمتوهّم ( لحقيقته التي خلق عليها - كما قلنا :
إنّه مخلوق من ماء متوهّم ، وماء محقّق - نسب إليه الإحياء بطريق التحقيق من وجه ، وبطريق التوهّم من وجه ( .
وقد سرى هذان الوجهان في جملة أوضاعه وأحواله إلى أن سرى فيما انزل من القرآن المجيد في قصّته عليه السّلام ( فقيل فيه من طريق التحقيق : "يحيي الموتى" وقيل فيه من طريق التوهّم : « فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله »  فالعامل في المجرور « يكون » )
أي يكون طيرا بإذن الله أي كونه ووجوده بإذن الله على ما عليه الأمر في نفسه .
 
قال تعالى : " وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيه ِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّه ِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَه َ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّه ِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ ال عمران / 49 ] ."
تعلق الإذن بتكوّن الطائر أو بالنفخ ؟
فيكون طائرا صورة ومعنى . لأن الأمر فيه حينئذ تنزّل على مدارجه المقدّرة من المراتب الاستيداعية والاستقرارية ، والموجب لذلك الكون إذا الله ، لا نفخ عيسى فنسبة تكوّنه إليه من طريق التوهّم .
هذا على تقدير أن يكون العامل في المجرور « يكون » ( لا « ينفخ » ) .
( ويحتمل أن يكون العامل فيه « ينفخ » ) وحينئذ يكون الطائر من النافخ بإذن الله ، إذ الإذن في عرف التحقيق نفاذ الأمر . فإذا كان الطائر من النافخ بنفاذ أمر الله فيه ، يكون من عيسى وهو روح الله . فيكون الأمر في تكوّن الطائر على هذا التقدير على غير مدارجه المقدّرة ، لا استيداعية منها ولا استقرارية . بل على معارجه الجعليّة ومرابطة المزاجيّة التوليديّة .
 
وأنت عرفت أن أمر التكوين والتوليد لا بدّ وأن يكون على الحكم المعتاد ، وهو أن يكون تولَّد كل فرد من أبويه النوعي - كما عرفت في قضية تمثّل جبرئيل في صورة البشر - فلا بدّ وأن يكون الاشتراك بتمام الحقيقة بين الوالدين وولده وبين المكوّن والمتكوّن .
وإذ لم يكن الاشتراك هاهنا بين عيسى وما تكوّن من نفخه إلا في معنى الجسميّة والإحساس - الذي هو حقيقة الحيوان - صرّح بذلك إفصاحا بما مهّد أولا ، وإشعارا بما ينبئ عن الوجه المحقّق ثانيا في قوله :
( فيكون طائرا من حيث صورته الجسميّة الحسيّة ) .
أمّا الأول فظاهر مما مرّ . وأما الثاني فلأن تكوّن الطير من حيث أنّه من عيسى محقّق ، ضرورة أنه ترتّب على نفخه بإذن الله ، فهو منه على طريق التحقيق ، كما أن إحياء الموتى على ما صرّح به من الحيثيّة المذكورة من عيسى على طريق التحقيق .
 
وإذا تقرّر هذا الموضع هكذا لدى المتفطَّن لا يخفى حينئذ عليه وهن ما قيل في توجيهه من أنّه : طير من حيث الجسميّة والحسّ ، لا بالحقيقة ، فإنّه لا حقيقة له وراء ذلك . فظهر أنّه الوجه المحقّق من الوجهين .
""أضاف المحقق:  القائل الكاشاني وقد اعترض عليه القيصري أيضا حيث قال: « وفيه نظر لأن المخلوق الطير بالحقيقة لا صورة الطير ، وليس جعل الصورة مجردة عن روحه مما يعدّ من المعجزات ""
 
لا يقال : الكون والإحياء المحقّق إنما هو من الله ؟
لأنّا نقول : الكلام فيما نسب إلى عيسى : إنّ له وجهين تحقيقيّ وتوهّمي ، ( وكذلك ) جميع ما ينسب إليه من خوارق العادات له هذان الوجهان ، كقوله: ( " تُبْرِئُ الأَكْمَه َ وَالأَبْرَصَ " [ 5 / 110 ] وجميع ما ينسب إليه وإلى إذن الله ) مما يتعلَّق بالكون والوجود ( أو إذن الكناية ) وذلك فيما يتعلَّق بأحوال الوجود وأحكامه ، كما ( في مثل قوله  : "وَتُبْرِئُ الأَكْمَه َ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي "  [ 5 / 110 ] و ) قوله : " فَأَنْفُخُ فِيه ِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله " [ 3 / 49 ] على طريقة اللفّ والنشر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإذا تعلَّق المجرور " بـ " ينفخ فيكون النافخ مأذونا له في النفخ ، ويكون الطائر عن النافخ بإذن الله . وإذا كان النافخ نافخا لا عن الإذن  ، فيكون التكوّن للطائر طائرا بإذن الله ، فيكون العامل عند ذلك « يكون » ، فلو لا أنّ في الأمر توهّما )
كما في الثاني ( وتحقّقا ) كما في الأول  ( ما قبلت هذه الصورة هذين الوجهين ، بل لها هذان الوجهان لأن النشأة العيسويّة تعطي ذلك).
 
ما ظهر من عيسى من جهة انتسابه إلى مريم ونفخ جبرئيل عليه السّلام
إنّ سائر ما يظهر من عيسى من جلائل الأحوال وكرائم الأخلاق كلَّها ، إمّا أن يكون محقّقا من جهة مريم - من الأوصاف العبديّة الخلقيّة - وإمّا مقدّرا من جهة جبرئيل وروحانيّته المعنويّة من الله من الأوصاف الإلهيّة ( و ) من ذلك أنه :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( خرج عيسى من التواضع ، إلى أن شرع لامّته أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ،وأنّ أحدهم إذا لطم في خدّه وضع الخدّ الآخر لمن لطمه )
 أي لا يكون في صدد الانتقام .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا يرتفع عليه ، ولا يطلب القصاص منه - هذا له من جهة امّه ، إذ المرأة لها السفل ، فلها التواضع ، لأنها تحت الرجل حكما).
أي من حيث المرتبة والشرف ، ولذلك ترى نصيبه ضعف نصيبها في قوله : " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ " [ 4 / 11 ] وشهادة اثنين منها بشهادة واحد منه ، ( وحسّا ) أي من حيث الوجود واقتضاء أصل الطبيعة ، ووضع الجزية صورة التحتيّة الحكميّة ، كما أنّ احتمال اللطم صورة التحتيّة الحسّية ، هذا ما له من جهة امّه .

وفيه تلويح أنّ الأوضاع المشروعة لامّته ما له من جهة امّه .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسويّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:57 am

15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسويّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الجزء الثاني

15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسويّة
قال الشيخ رضي الله عنه : (وما كان فيه من قوّة الإحياء والإبراء فمن جهة نفخ جبرئيل عليه السّلام في صورة البشر ) . وأنت عرفت أن من شأن الحكم الإلهي واقتضاء الوجوب ظهور الأثر بصورة مؤثّره ، وتكوّن الولد على هيئة والده ، ولذلك لما أتى جبرئيل عند النفخ بصورة البشر .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان عيسى يحيي الموتى بصورة البشر ، ولو لم يأت جبرئيل بصورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصريّة - من حيوان أو نبات أو جماد - لكان عيسى لا يحيي الموتى إلا حين يتلبّس بتلك الصورة ويظهر فيها ، ولو أتى جبرئيل بصورته النوريّة الخارجة عن العناصر والأركان ) لا الطبيعة .
( إذ لا تخرج عن طبيعتها) - فإنّ الكل داخل تحت الطبيعة بما عرفت من قبل - ( لكان عيسى لا يحيي الموتى إلَّا حين يظهر في تلك الصورة الطبيعية النوريّة ) التي عليها الفاعل للإحياء - بناء على الأصل السابق .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لا العنصريّة مع الصورة البشريّة من جهة امّه ) أي لا يمكن له الإحياء في الصورة العنصريّة التي مع الصورة البشريّة من جهة امّه ، التي هي طرف القابل ، فإنّه في القبول يتبعها .
ومن ثمّة ترى عيسى عند قبوله الأحكام المنزلة بالأوضاع المشروعة إنّما يقبل منها ما يتعلَّق بالانقياد والإذعان كما سبق بيانه آنفا .
وأمّا في الفعل – مثل الإحياء وإظهار المعجزة - فلا يمكن له ذلك إلا بأن يتأسّى الفاعل .
وفي بعض النسخ : « من الصورة البشريّة » وهو أظهر
 .
وملخّص الكلام أنّه لو لم يكن الإحياء منه في صورته العنصريّة التي مع الصورة البشريّة المستحصلة من امّه لوقعت الحيرة حينئذ . ( فكان يقال فيه عند إحيائه الموتى : هو ) من حيث إحيائه الموتى ، لا هو ) من حيث أنّه عيسى . لتبائن الصورتين حينئذ في مداركهم ( وتقع الحيرة في النظر ) الحسّي ( إليه ، كما وقعت في العاقل عند النظر الفكري ، إذ رأى شخصا بشريّا من البشر يحيي الموتى ، وهو من الخصائص الإلهيّة ) التي لا يمكن ذلك بنوع من الصناعات العمليّة والأعمال الطلسميّة .
فإنّ غاية ما تكلَّموا عليها تهيّؤ مادّة قابلة وتركيب أركان معيّنة ، بمقادير متّزنة بالميزان الذي عندهم ، حتى يفاض عليها نفس من العبد لا إحياء البدن الميّت فإن ذلك مما لا كلام لهم ولغيرهم عليه أصلا ، سيّما إذا كان ( إحياء النطق ) - أي إحياء ناطق من الحيوان - ( لا إحياء الحيوان ) فقط على ما هو المتبادر إلى الأذهان من إحياء الموتى ، فإنّه ليس من الخصائص الإلهيّة في شيء .
""  أضاف المحقق : لعله إشارة إلى ما قاله الكاشاني : " يعني إحياء بالنطق والدعاء ،فكان يقول : قم حيّا بإذن اللَّه أو : باسم اللَّه أو : باللَّه .
فيحيا ويجيبه فيما كلمه به ويقول : « لبّيك » إذا دعاه . لا إحياء الحيوان الذي يمشي ويأكل ويبقى حيّا مدّة - على ما روي في قصّته أنّه أحيا سام بن نوح ، فشهد بنبوته ، ثمّ رجع إلى حالته " .""
إذ عند ورود التعفينات وإيرادها على الجيف الموتى لا بدّ من حصول الحيوانات منها وتولدها فيها .
ويمكن أن يحمل إحياء النطق على الإحياء بالكلام والخطاب أو الدعاء منه - كما قيل إنّه ورد كذلك - لولا وقوعه في مقابلة قوله : « لا إحياء الحيوان » فاستشعار ذلك منه على سبيل الإيماء وضرب من الإيهام والإشارة ، لا منطوق اللفظ وفحوى العبارة .
 
علميّة الاعتقاد بالإلهيّة في عيسى عليه السّلام
هذا إذا ثبت ورود ذلك ، وإلا فلا حاجة إليه ، فإن إحياء الموتى مطلقا من الخصائص الإلهيّة ، ولذلك ( بقي الناظر حائرا ، إذ يرى الصورة ) بالصورة ( بشرا ، بالأثر إلها ) فإنّها من الخصائص الإلهيّة ، كما تقرّر عند أهل النظر أنّ وجود الخاصّة يستلزم وجود صاحبها ، فلا بدّ وأن يكون الناظر حائرا عند رؤيته ذلك .
( فأدّى بعضهم فيه ) ذلك النظر ( إلى القول بالحلول ) لما هم عليه أبدا في أصل ذوقهم ومشربهم من ثنويّة العلَّة والمعلول ، فإنّهم ما خلعوا قطَّ نعلي تعدّد المتقابلين ، مع توجّههم وقصدهم على مطايا النيّات بلوغ طوى التنزيه المقدّس عن التثنّي والتغاير .
 
ولذلك ذهبوا إلى القول بالحالّ والمحل ، ( وأنّه هو الله بما أحيا  الموتى ، ولذلك نسبوا إلى الكفر - وهو الستر - لأنّهم ستروا الله الذي أحيا الموتى بصورة بشريّة عيسى) ، فقال : "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ" [ 5 / 17 ].
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام كلَّه ، لأنّه ) - أي الكفر المنصوص عليه في الآية - ( لا بقولهم : « هو الله » ) أي المسيح .
لأنّ مؤدّى قولهم أنّ المسيح من حيث هويّته الله - وفي عبارته هذه إشارة إليه - ولا شكّ في صدقه ، ( ولا بقولهم : " ابْنُ مَرْيَمَ " ) فإنّ المسيح من حيث الصورة ابن مريم بلا شكّ بل بالجمع بينهما ، فإنّهم به ستروا الله بصورة بشريّة عيسى .
 
ثمّ إنّه لما بيّن أنهم جمعوا بين الخطأ والكفر في قولهم هذا ، وقد بيّن وجه كفرهم فيه ، شرع في تبيين خطأهم بقوله : ( فعدلوا بالتضمين ) - أي بسبب جعلهم الحقّ في ضمن المسيح حالَّا فيه - ( من الله - من حيث أحيا الموتى إلى الصورة الناسوتيّة البشريّة بقولهم : " ابْنُ مَرْيَمَ " فإنّك قد عرفت في مطلع الفصّ هذا أنّ محل الروح عندهم يسمّى بالناسوت .
 
( وهو ابن مريم بلا شكّ ) وإن ظهر من هذا أيضا كفرهم ، ولكن الغرض من هذا الكلام تبيين خطأهم .
وذلك لأنّهم عبّروا عن تلك العقيدة بقوله : "إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " بحمل هو هو.
وذلك إنما يقتضي الاتّحاد بين المحكوم عليه وبه ، لا تضمينه له ( فتخيّل السامع ) من عبارتهم هذه ( أنّهم نسبوا الإلهيّة للصورة وجعلوها عين الصورة ) على ما هو مؤدّى مثل ذلك الكلام .
أمّا نسبة الالوهيّة للصورة ، فبحمل المسيح بن مريم بهويّتها على الله بهو هو ، وأما جعلها عين الصورة فبوصفهم المحمول ذلك بالابن ، فحيث يخيّل السامع من كلامهم خلاف ما قصدوه من أصل عقيدتهم التي جبلوا عليها أوّلا.
 
 ( وما فعلوا ) ذلك النسبة على وفق ما فهم السامع من كلامهم وطبق ما يخيّل من معتقدهم ( بل جعلوا الهويّة الإلهيّة ابتداء في صورة بشريّة - هي ابن مريم - ففصّلوا بين الصورة والحكم ).
 
وهو نسبة الإلهيّة - تفصيل الحالّ عن المحلّ ، ( لا أنّهم جعلوا الصورة عين الحكم ) على ما هو المفهوم من كلامهم ، والمقصود من خلقتهم ، وهو أنّ الصورة التشبيهيّة عين الحكم المعنويّ التنزيهيّ .
وظاهر أنّ المراد بـ « الحكم » هاهنا هو نسبة الالوهيّة لا المحكوم عليه ، ولا القول بالحلول . وب « الفصل » هو التفرقة ، لا إيراد ضمير الفصل ، فإنّه من التعسّفات البعيدة التي لا يليق سلوكها بالمحصّلين ، فكيف بالمحقّقين  !
"" إضافة المحقق : تعريض للكاشاني حيث قال في شرح هذا المقطع: « حصروا الهوية الإلهية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم ، ففصّلوا بين الصورة المسيحية والحكم عليها بالإلهية بـ « هو » - ضمير الفصل - فأفاد كلامهم الحصر لا أنهم جعلوا صورة المسيح عين الحكم عليها بالإلهية .
والظاهر أن الشيخ استعمل « الحكم » بمعنى المحكوم عليه ، ليطابق تفسيره الآية ، فإنّ اللَّه في الآية محكوم عليه ، والمسيح هو المحكوم به .
وقد يستعمل الحكم كثيرا بمعنى المحكوم به ، فلا حرج أن يستعمل بمعنى المحكوم عليه للملابسة وأراد أنهم أرادوا حلول الحق في صورة عيسى ، وهم يقولون بالفصل ، أي بالفرق وهو أن اللَّه في صورة عيسى .
فمعناه : حلّ الحقّ في عيسى بن مريم . فالحكم على هذا حلول اللَّه " .""
 
وبـ « الخطأ » هو التعبير بما يخالف مقاصدهم ، بل ينافيه ، لا الحصر المستفاد من الفصل فإنّه من الكفر لا الخطأ .
إذ حصر الحقّ في صورة بشريّة عيسى هو ستره المذكور المفسّر به الكفر فلا بدّ وأن يكون الخطأ معنى وراء ذلك حتّى يصحّ أن يقال : إنّ كلامهم جامع لهما .
 
تنبيه كاشف لا بدّ من تذكره هاهنا :
الوحدة الإلهية لا تعاند الكثرة
اعلم أنّ الهويّة الإلهيّة - لانتفاء أحكام المتقابلات فيها - وحدتها ليست هي الوحدة المعاندة للكثرة ، بل هي الشاملة لها ، المستجمعة معها ، فعبّر عنها هاهنا بالحكم ، تنبيها على هذه النكتة ، وتنزّلا أيضا إلى مسلك النصارى في ذلك ، فإنّهم جعلوا الالوهيّة موطن ثالث الثلاثة وقالوا فيها بالأقانيم المتكثّرة .
 
ثمّ إنّهم فصّلوا في المسيح بما كان عليه من إحياء الموتى ( كما كان جبرئيل في صورة البشر - ولا نفخ - ثم نفخ . ففصّل بين الصورة والنفخ و ) الدليل على ذلك أنّه ( كان النفخ من الصورة ) بشهادة المشاهدة ، وبيّن أن تلك الصورة ما لزمها النفخ ، ( فقد كانت ولا نفخ ) ، فعلم أنّه ليس من ذاتيّات تلك الصورة ولا من لوازمها (فما هو النفخ من حدّها الذاتي) فإنّ الذي يدخل في الحدود لا أقلّ من أن يكون من لوازمها .
 
العقائد المختلفة حول عيسى عليه السّلام
ثمّ إنّه إذا استمرّ المراء بين أهل النظر في أمر عيسى اختلف آراؤهم فيه ، ( فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى ، ما هو ؟ فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانيّة البشريّة فيقول : « هو ابن مريم » ومن ناظر فيه من حيث الصورة الممثّلة البشريّة ) بظهور أوصافها الروحيّة وملكاتها الكماليّة منها ، مما لا يمكن صدوره من الصور الهيولانيّة الجسميّة.
( فينسبه لجبرئيل ، ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى فينسبه إلى الله بالروحيّة ) ، وبيّن أن لكل شخص حسّي من الإنسان صورة هيولانيّة جسمانيّة هي مبدأ النسبة إلى أمه ، فإنّها مقتضى أصل القابليّة الأولى ، ضرورة أنّها هي الآخر ،فلذلك وسمها بابن مريم.
وفي جمع بيّنات عدده معه ما يدلَّك على تولَّد الصورة منها .
 
وإذ كان ذلك هو موطن تمام الظهور والإظهار أشار في النسبة إليها بصريح القول ، وصورة جسدانيّة هي مبدأ النسبة إلى أبيه ، فإنّ الخيال والوهم الذين هما جناحا تأثيرها ورجلا تقوّمها ليس للفعل مبدأ غيرهما فلذلك نسبها إلى جبرئيل .
ثمّ إنّ الحاصل من الصورتين والنتيجة الكاشفة عن مؤدّى تينك المقدّمتين إنما هي آثارها من الأفعال والأحوال الظاهرة من هيئة جمعيّتهما فهي إذن صورة جمعيّة الكل ، فلذلك نسبها إلى الله بذلك الاعتبار.
 
 الاعتبارات الثلاث في عيسى عليه السّلام
وإذ كان فيها أمر تمام الإظهار بالفعل ، صرّح فيه أيضا بالقول حيث قال : ( فنقول : « روح الله » أي به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه ، فتارة يكون الحق فيه متوهّما - اسم مفعول ) ، حيث يعتقد فيه مبدئيّة ظهور الحياة ، فإنّها معنى جزئيّ .
( وتارة يكون الملك فيه متوهّما ) حيث يعتقد فيه ويعتبر مبدئيّة الأفعال الروحانيّة والملكات الملكيّة ، ( وتارة تكون البشريّة الإنسانيّة فيه متوهّمة ) حيث يعتبر منه ظهور الانفعالات البشريّة .
( فيكون عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه ) في اعتقاده : ( فهو كلمة الله ) باعتبار حصوله من نفخ جبرئيل ، ( وهو روح الله ) باعتبار مبدئيّته للإحياء ، ( وهو عبد الله ) باعتبار صورته البشريّة .
 
تمايز عيسى عليه السّلام عن غيره من بني نوعه
( وليس ذلك ) الوجوه ( في الصورة الحسيّة لغيره ) من بني نوعه ( بل كلّ شخص منسوب إلى أبيه الصوري ، لا إلى النافخ روحه في الصورة البشريّة ) ضرورة تخالفهما وتباينهما ، حيث يكون الكثرة الكونيّة هو الغالب عليه ( فإن الله إذا سوّى الجسم الإنسانيّ - كما قال : " فَإِذا سَوَّيْتُه ُ " نفخ فيه هو تعالى من روحه ، فنسب الروح في كونه ) حيث قال : " وَنَفَخْتُ فِيه ِ " ( وعينه ) حيث أضاف إلى نفسه بقوله :  "من رُوحِي " [ 15 / 29 ] .
( إليه تعالى ، وعيسى ليس كذلك ) لغلبة الوحدة الوجوبيّة عليه ، فليس لتلك التفرقة عليه قهرمان ( فإنّه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشريّة بالنفخ الروحي ) - فإنّ جسمه من الماء المتوهّم من نفخ جبرئيل - ( وغيره - كما ذكرناه - لم يكن مثله ) .
 
كلمة كن
ثمّ إنّه لما بيّن وجه اختصاص عيسى وامتيازه عن سائر الكلمات ، أخذ يكشف عن وجه اشتراك الكلمات كلها ، لما تحقّق به عيسى ، وتحقيق سريان الوجوه الثلاثة المذكورة وصور اختلاف الملل فيها ، تبيينا للمماثلة المنصوصة عليها بقوله تعالى : " إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ " [ال عمران : 59]  
بقوله : ( فالموجودات كلها كلمات الله التي لا تنفد ، فإنّها عن : « كن » ) من حيث أنّ ظهورها من مستجنّ الغيب إلى مراتب المخارج بانبساط النفس الرحماني المعبّر عنه بـ « كن » فهي صور تنوعاته ( و " كُنْ " كلمة الله ، فهل تنسب الكلمة ) هذه ( إليه تعالى بحسب ما هو عليه ، فلا تعلم ماهيّتها ) .
أي الكلمة ما هي : أمن مقولة القول ، أو نسبة خاصّة من اجتماع الأسماء ، أو غير ذلك ؟
( أو ينزل هو تعالى إلى صورة من يقول : " كن"  فيكون قول " كن " حقيقة لتلك الصورة التي نزل إليها ، وظهر فيها ) .
 
واختلف العارفون في هذه الكلمة اختلاف الملل في الكلمة العيسويّة : ( فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد ، وبعضهم إلى الطرف الآخر ، وبعضهم يحار في الأمر ولا يدري و ) لكن ( هذه مسألة ) - يعني مسألة تصوّر الوجهين هذه وتنزّل الحقّ إلى صورة القائل - لبعده عن المدارك العقليّة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لا يمكن أن تعرف إلا بذوق كأبي يزيد حين نفخ في النملة التي قتلها فحييت ، فعلم عند ذلك بمن ينفخ ، فنفخ ، فكان عيسويّ المشهد ) فعلم أنّ الإحياء ليس مختصّا بعيسى هذا في الإحياء الصوريّ بالكون العرضي المفارق .
 
الإحياء المعنوي
( وأما الإحياء المعنويّ بالعلم ) الذي هو أتمّ أصناف نوعه ، أعني إحياء النفوس البشرية المستهلكة في ظلمات القوى الطبيعية بإشراب ماء حياة العلم باللَّه من العين الخاصّ الختميّ ومشرب ذوقه الكماليّ ، الذي هو أتمّ أنواع الحياة وأشرفها - فإنّ هذه الحياة أعني إحياء الأجسام بالنفخ هي الحياة الكونيّة العرضيّة السفليّة الظلمانيّة .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتلك الحياة الإلهيّة الذاتيّة العليّة النوريّة التي قال الله فيها : " أَوَمن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناه ُ وَجَعَلْنا لَه ُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ " ) [6 : 122]   
(فكلّ من أحيا نفسا ميتة بحياة علميّة في مسألة خاصّة متعلَّقة بالعلم باللَّه ، فقد أحياه بها ، وكانت له نورا يمشى به في الناس . أي بين أشكاله في الصورة ) .
من بني نوعه ،فإنّ المشاكلة والمماثلة إنما تستدعي التورّط فيما هم عليه من الضلالة في ظلمات العادات وغياهب الاعتقادات ، فالإنسان في تلك الورطات إذا ممّا لا مندوحة له عمّا يهتدي به من الأنوار الكاشفة عن الطريق فلذلك صرّح في النص التنزيلي به .
 
ثمّ إنّه لما انساق الكلام إلى هذه الجمعيّة الختميّة ، حرّكه بواعث الشوق والانبساط إلى التنقّل من منثورات الحقائق نحو منظومات اللطائف ، بما ينبئ عن كمال ذوق هذه الورثة الختميّة ، وعلوّ قدرهم في فنون المعارف بقوله :
( فلولاه ولولانا  ... لما كان الذي كانا )
يمكن أن يجعل كناية « لولانا » عبارة عن الذين أحياهم الشرب من المشرب الختميّ ، وعين الحياة الحقيقيّة ويمكن أن يجعل لمطلق الإنسان ، وعلى الأول يكون قول :
(وإنا أعبد حقا ....   وإنّ الله مولانا )
(وإنّا أعبد حقّا)  تعريضا بما حكى عن عيسى  " إني عبد الله " أي نحن العبيد الحقيقي لله .
( وإنّ الله مولانا ) نحن وعلى الثاني معناه أنّ العبوديّة والالوهيّة الحقيقيّتين بالإنسان وقوله
 
(وإنّا عينه فاعلم ......   إذا ما قلت إنسانا)
 (وإنّا عينه ) أيضا يحتمل الوجهين : فعلى الأوّل ضميره عائد إلى الحقّ . وعلى الثاني عائد إلى « الذي كانا » وهو عبارة عن الإنسان ، أي الإنسان عين الحقّ ، أو المحمّديّون هم العيون في هذا النوع ، إذ لكلّ امّة من الأمم منزلة قوّة منه ، فهم الذين يدركون أنفسهم بهم ، وذلك مخصوص بالعين بين المشاعر ( فاعلم ) ذلك( إذا ما قلت إنسانا )أي إنّه إنسان عين الحق ، أو الوجود .
(فلا تحجب بإنسان ...  فقد أعطاك برهانا)
( فلا تحجب بإنسان ) ( فقد أعطاك ) بالعين ( برهانا ) تطلع به على جميع الحقائق - إلهيّة وكيانيّة - وتحيط منه بالكل إحاطة إنسان العين بالشخص.
(فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا)
( فكن حقّا وكن خلقا )بتلك الإحاطة الوجوديّة والشعوريّة ( تكن بالله ) وتأييده ( رحمانا ) أي مبدأ فيضان الرحمة من المعارف المحيية للنفوس الهالكة .
 
(وغذ خلقه منه ...    تكن روحا وريحانا)
( وغذّ خلقه منه ) أي من الله ( تكن روحا ) لروحك ( وريحانا ) للمستنشقين منك روائح الحياة الأبديّة .
 
ثمّ لما بيّن أمر الجمع والإجمال بما لا مزيد عليه محرّضا للطالبين والواجدين أن يطعموا الخلائق من تلك الأغذية الإجماليّة ، فإنها اسّ العلوم الذوقيّة والمعارف الوجدانيّة ، أشار إلى مبدأ التفرقة الكونيّة من تلك الجمعيّة المشار إليها بحيث يفضي إلى ما هو المقصد هاهنا بقوله:
(فأعطيناه ما يبدو ...    به فينا وأعطانا)
( فأعطيناه ) عطفا على قوله : « فلا يحجب » أي نحن في ذلك التعيّن العيني أعطيناه ( ما يبدوا ) ( به فينا ) من الصور والقوالب المشتملة عليها القوابل ، ( فأعطانا ) الظهور بها وهذه النسبة منشأ التفرقة .
 
( فصار الأمر مقسوما  .... بإيّاه وإيّانا)
( بإيّاه وإيّانا ) ثمّ إنّ الظهور والوجود وأحكامه من العلم والحياة لما كان هو سهم الحقّ في هذه القسمة :
(فأحياه الذي يدري  ... بقلبي حين أحيانا)
( فأحياه الذي يدري )  ( بقلبي )حياة علميّة هي أشرف أنواعها كما سبق .
فلئن قيل : إنما يصحّ ذلك لو لم تكن تلك الحياة له أزلا ، فإنّه على تقدير أزليّة حياته وعلمه لا يتصوّر إحياؤه بوجه .
قلنا : إنّ العلوم والمعارف لله قسمان - على ما صرّح به الشيخ في أكثر تصانيفه - : منها ما يكون قديما أزليّا لازما لذاته تعالى ، ومنها ما يكون حادثا متجدّدا بتجدّد الكاملين من أشخاص الإنسان .
ووجود القسم الثاني هو الغاية لإيجاد الخلق . وفي قوله : « الذي يدري بقلبي » إشعار بخصوصيّة القسم الأخير .
فعلم أنّ الذي يعلم ويدرى بالقلب إحياؤه تعالى في هذا المظهر والنشأة ( حين أحيانا ) ثمّ لما بيّن نصيب الحق وسهمه في تلك القسمة أشار إلى نصيب العبد ، منها بقوله :
(فكنا فيه أكوانا    ... وأعيانا وأزمانا)
( فكنّا فيه أكوانا ) متحوّلة ( وأعيانا ) ثابتة ( وأزمانا ) بها نتحوّل ونثبت ، فإنّ الأمور الكونيّة منحصرة في هذه الأقسام .
 
وفيه إشارة إلى قرب الفرائض ، فإنّ العبد بجميع جوارحه وقواه في هذه الحضرة متجدّدة معها بالفعل ، فلا تتوهّم من : « كنّا » أنّ ذلك كان في الأزل ، كما توهّمه البعض فإن « كان » في أمثال هذه المواضع يفيد استمرار الأزمنة .
كما قال الشيخ - فيما ألحق بقوله « كان الله ولم يكن معه شيء » يعني : « والآن كما كان » :  إنّه لا حاجة إلى ذلك لدلالة " كان " عليه . اللهم إلَّا للإفصاح ودفع الاحتمال .
وبيّن أن كون العبد آلة للحق وتبعا له في الوجود والشعور كما هو قرب الفرائض أمر ذاتيّ للعبد ، فهو من الضروريّات التي لا يحتاج فيها إلى تعيين وقت وحين ، دون عكسه ، وهو كون الحقّ آلة للعبد ، وهو المعبّر عنه عندهم بقرب النوافل ، فإنّه أمر عرضي إنما يتحقّق في بعض الأحيان ولذلك أشار إلى ذلك في صورة حينيّة بقوله :
(وليس بدائم فينا   ... ولكن ذاك أحيانا)
 ( وليس بدائم فينا ولكن ذاك أحيانا )فهو إشارة إلى قرب النوافل ، لا إلى قرب الفرائض ، كما توهّمه البعض  فإنّ كون الحقّ في العبد هو بأن يكون سمعه وبصره على ما لا يخفى ، فهو صريح في ذلك القرب .
 
كيف يصدر المادي من الروحاني 
ثمّ إنّه إذ قد ذكر ما استغربه العقول المحجوبة بالحجج النظريّة من أمر امتزاج النفخ الروحاني مع الصورة البشريّة العيسويّة ، وتركَّب مادّتها الجسمانيّة منهما ، أخذ يحقّق ذلك بإثبات القاعدة الكليّة المقنّنة الذوقيّة ، وانطباق أصول الحكم المتقنة الكشفيّة على ذلك .
بقوله رضي الله عنه  : ( وممّا يدلّ على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني مع صورة البشر العنصريّ هو أنّ الحقّ وصف نفسه بالنفس الرحماني ، ولا بدّ لكل موصوف بصفة أن يتبع الصفة جميع ما تستلزمه تلك الصفة )
من الترويح باستخراج أبخرة جسمانيّة صالحة لأن يتصوّر بصور الحروف والكلمات الحائزة سائر المراتب الوجوديّة - جسمانيّة كانت أو روحانيّة إلهيّة أو كيانيّة - ويعبّر بذلك عما انطوى عليه باطنه مما يقتضي الإظهار ، فيستريح به من تعب طلبه وما يلزمه من همّة وكربة وإليه أشار بقوله رضي الله عنه  :
( وقد عرفت أنّ النفس في المتنفّس ما يستلزمه ، فلذلك قبل النفس الإلهي صور العالم ، فهو لها كالجوهر الهيولاني ) الذي إنما يتقوّم في الخارج ، ويظهر فيه بتلك الصور ، تقوّم النفس وتصوّره في الخارج بصور الحروف .
 
الطبيعة وإطلاقاتها
( وليس ) ذلك الجوهر الهيولاني ( إلَّا عين الطبيعة ) وإذا كان الكلّ عين الطبيعة فلا يبعد أن يكون النفخ من الروحانيات مادّة للصورة البشريّة العنصريّة .
 
لا يقال : إنّما تنحسم بهذا مادّة الاستبعاد لو لم تكن الطبيعة حقائق مختلفة ؟
لأنّه قد ظهر بما بيّن في أمر النفس أنّه في العنصريّة والروحانيّة هي الطبيعة بما هي طبيعة ، وهذا يوافق إطلاق قدماء الحكماء - على ما حكى عنهم جابر رضي الله عنه : - « أنّهم في عرفهم العامّ كما يطلقون الطبيعة على مبدأ الحركة والسكون لما هي فيه بالذات ، فقد يطلقونها في الخاصّ من عرفهم على معان آخر : منها الطريق إلى الكون ، ومنها ذات الشيء » .
ولا يخفى أن هذا العرف منهم لا يخالف ما أطلق عليه الشيخ بالعموم والخصوص ، بل يساويه مفهوما وذاتا .
 
وما قيل هاهنا : « إنّها هي التي لا يكون أفعالها إلا على وتيرة واحدة ، سواء كان مع الشعور أو لا معه » ، فهو مما لا يناسب هذا الكلام أصلا ، فإنّه يقتضي أن يكون سائر المركبات - من الماديات - خارجة عن حيطة الطبيعة ، فإنّ للمركَّب من حيث أنّه مركَّب أفعالا متنوّعة على أنحاء شتّى .
وأيضا يلزم أن يكون الملأ الأعلى - على ما ذهبوا إليه - خارجة عنها ، إذ منها ما انزل فيه أنّه " شَدِيدُ الْقُوى " [ 53 / 5 ] وسيشير إليه الشيخ بإثبات الاختصام لهم .
 
مادّة تكوّن الأرواح والعناصر
فإذا كان الكلّ طبيعيّة ( فالعناصر صورة من صور الطبيعة وما فوق العناصر وما تولَّد عنها ، فهو أيضا من صور الطبيعة ، وهي الأرواح العلويّة التي فوق السماوات السبع ، وأما أرواح السماوات وأعيانها فهي عنصريّة ، فإنّها من دخان العناصر المتولَّد عنها )
تولَّد لطيف الأجزاء الدخانيّة من كثيف الأجزاء الناريّة ، فإنّ ألطف أجزاء النار هي التي يعلوها في صورة الدخان ، وفي الدخان أيضا أجزاء لطيفة وكثيفة ، فاللطيف منها يتولَّد منه أرواح السماوات وإليه أشار بقوله رضي الله عنه  :
( وما تكوّن عن كلّ سماء من الملائكة فهو منها ، فهم عنصريّون ومن فوقهم ) من العقول المجرّدة المسمّاة بلسان الشريعة ب « الملإ الأعلى » طبيعيّون ، فلهذا وصفهم الله بالاختصام - أعني الملأ الأعلى - لأنّ الطبيعة متقابلة ، والتقابل الذي في الأسماء الإلهيّة التي هي النسب إنّما أعطاه النفس )
 
مبدأ التقابل في العالم
فعلم من هذا أنّ التقابل وما يستتبعه من الاختصام إنّما هو أولا  وبالذات من النفس ، وثانيا وبالعرض من الأسماء ، فلا تعلَّل اختصام الملإ الأعلى بتقابل الأسماء ، فإنّ النفس هو مبدأ التقابل وأصله .
( ألا ترى الذات الخارجة عن هذا الحكم كيف جاء فيها الغنى عن العالمين ؟ )
 وهو مما يسقط نسبة العالم عنها مطلقا ، ( فلهذا ) أي لأنّ الذات لها الغنى ( خرج العالم على صورة من أوجدهم ) فإنّها مستغنية عن نسبة الإيجاد ( وليس ) الموجد ( إلا النفس الإلهي ) فعلم من هذا الفرق بين نفس الحقّ المتّصفة بالنفس وبين ذاته .
وكأنّك قد نبّهت في المقدّمة أنّ من الجلالة ما يلوّح عليهما تلويحا بيّنا فلا نعيده .
وليس في الوجود بمراتبه ظاهرا وباطنا إلا النفس الإلهي ( فبما فيه من الحرارة علا ، وبما فيه من الرطوبة سفل ، وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل ، فالرسوب ) في العالم الكبير ( للبرودة والرطوبة ) كذلك فيما يماثله من أفراد الإنسان .
 
( ألا ترى الطبيب إذا أراد سقى دواء لأحد ينظر في قارورة مائه ، فإذا رآه رسب علم أنّ النضج ) وهي استعداد أخلاط المزاج وتهيّؤ موادّه للصلاح بما يقبل تصرّف الطبيب فيه  ( قد كمل ، فيسقيه الدواء ليسرع في النجح ) فإنّه بدون النضج التامّ لا يتوقّع ذلك .
( وإنّما يرسب لرطوبته وبرودته الطبيعيّة ) فهما المقتضيان لكمال النضج المنجح ، والمزاج الحاصل منهما هو المسمى بالطين .
 
خلق الإنسان بيديه تعالى
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّ هذا الشخص الإنساني عجن طينته بيديه ، وهما متقابلان) ممّا يظهر منه الآثار المتقابلة : كالخير والشرّ ، واللطف والقهر ، والرحمة والغضب ( وإن كانت كلتا يديه يمينا ) في مصدريّة الرحمة واللطف كما قال في غير هذا الموضع أنّ وجود الغضب والقهر لرحمته عليهما .
وإليه أشار بقوله : " سبقت رحمتي غضبي " ( فلا خفاء بما بينهما من الفرقان ) فإن ذلك لا ينفي الفرقان والثنويّة ، فلا بدّ من التكثّر ( ولو لم يكن إلا كونهما اثنين ، أعني يدين ) وإنما لزم ذلك ( لأنه لا يؤثّر في الطبيعة ) بعجن الطينة المشتملة على المتقابلين ( إلا بما يناسبها ، وهي متقابلة فجاء باليدين) .
 
( ولمّا أوجده باليدين سمّاه بشرا ، للمباشرة اللائقة بذلك الجناب ) فإنّ المباشرة حقيقة هي الإفضاء بالبشرتين . والبشرة : ظاهر الجلد .
وذلك المباشرة إنما تكون ( باليدين المضافتين إليه ) تعالى . أعني مبدأ التأثير من حيث التعدّد والتكثّر ، الذي هو طرف ظاهريّة الحق وبشرة مباشرته .
( وجعل ذلك من عنايته لهذا النوع الإنساني ) فلذلك أمر ذوي العقول الشريفة بسجودهم له ( فقال لمن أبى عن السجود له : " ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ"[ 38 / 75 ]  .
"يوميئ" موميا فيه أن سبب استيهلاله لسجود الكل إنما هو مخلوقيته باليدين ( " أَسْتَكْبَرْتَ " على من هو مثلك عني عنصريا  " أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ " عن العنصر ، ولست كذلك ، ويعني بالعالين من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النوريّة عنصريّا ، وإن كان طبيعيّا ) .
 
فضل الإنسان على سائر المخلوقات
(فما فضل الإنسان غيره من الأنواع العنصريّة إلا بكونه بشرا من طين ) فإنّه مزاج كمال النضج المنجح كما سبق تحقيقه .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسويّة الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:59 am

15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسويّة الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الجزء الثالث

15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسويّة
( فهو أفضل نوع من كلّ ما خلق من العناصر من غير مباشرة ) وأنت عرفت معنى المباشرة من ملامسة ظاهر الجلد وملاقاته ، وقد سبق لك أنّ الإنسان بسمعه وبصره عند أحد القربين يتحقّق فيه ملاقاة الظاهرين ، كما لا يخفى - دون غيره من الأنواع ، علويّة شريفة كانت أو سفليّة خسيسة  ( فالإنسان في الرتبة فوق الملائكة الأرضيّة والسماويّة ) .
 
( والملائكة العالون ) - أي الذين ظهروا في الوجود قبل ظهور عوالم الإمكان كما أفصح عنه النظم الذي هو مطلع كتاب عقلة المستوفز ، وهو :
الحمد لله الذي بوجوده      ..... ظهر الوجود وعالم الهيمان
والعنصر الأعلى الذي بوجوده  .... ظهرت ذوات عوالم الإمكان
- فهم ( خير من هذا النوع الإنساني بالنصّ الإلهي ) كما علم من قوله: "أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ" .
وذكر الشيخ في فتوحاته المكيّة:
« إنّي رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسألت أنّ الإنسان أفضل أم الملائكة ؟ فقال عليه السّلام : أما علمت بأن الله يقول : " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " .
ففرحت بذلك » . فالملأ الذي خير منه هم العالون .
"" أضاف الجامع :  قال الشيخ رضي الله عنه قى الفتوحات الباب الثالث والسبعون في إجابة السؤال التاسع والعشرون على الحكيم الترمذي :
وأما المسألة الطفولية التي بين الناس واختلافهم في فضل الملائكة على البشر
فإني سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الواقعة
فقال لي إن الملائكة أفضل
فقلت له يا رسول الله فإن سألت ما الدليل على ذلك فما أقول؟
فأشار إلى أن قد علمتم أني أفضل الناس وقد صح عندكم وثبت وهو صحيح إني قلت عن الله تعالى أنه قال : "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ".
وكم ذاكر لله تعالى ذكره في ملأ أنا فيهم فذكره الله في ملأ خير من ذلك الملإ الذي أنا فيهم .
فما سررت بشيء سروري بهذه المسألة
فإنه كان على قلبي منها كثير وإن تدبرت قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ومَلائِكَتُهُ"
لا مفاضلة ولا أفضل من جهة الحقائق :-
وهذا كله بلسان التفصيل وأما جهة الحقائق فلا مفاضلة ولا أفضل لارتباط الأشخاص بالمراتب وارتباط المراتب بالأسماء الإلهية .
وإن كان لها الابتهاج بذاتها وكمالها فابتهاجها بظهور آثارها في أعيان المظاهر أتم ابتهاجا لظهور سلطانها
كما تعطي الإشارة في قول القائل المترجم عنها حيث نطق بلسانها من كناية نحن المنزل عن الله في كلامه وهي كناية تقتضي الكثرة
نحن في مجلس السرور ولكن ..... ليس إلا بكم يتم السرور
فمجلس السرور لها حضرة الذات وتمام السرور لها ما تعطيه حقائقها في المظاهر وهو قوله بكم وذلك لكمال الوجود والمعرفة لا لكمال الذات إن عقلت أهـ ""
 
وينبغي أن يعلم أنّ الخيريّة هاهنا هو غلبة أحكام الوجود - أعني الوجوب وما يتبعه - وذلك هو الشرف والقرب بالمبدأ ، دون الكمال الذي هو جمعيّة الوجوه ، إمكانيّة كانت أو وجوبيّة فعلم أن الخيريّة هاهنا ليست بحسب عموم الأفراد فقط ، وأنّه لا تدافع بين خيريّة بعض الملإ الأعلى لإنسان ، وبين ما له عندهم من الكمال الجمعيّ الإحاطيّ ، الذي به استحقّ خلافة الحقّ .
ثمّ إذا عرفت أنّ العالم على صورة من أوجده - أعني العالم  - وهو المعبّر عنه بالنفس الرحماني - كما ثبت آنفا .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أراد أن يعرف النفس الإلهي فليعرف العالم ، فإنّه « من عرف نفسه عرف ربه » الذي ظهر فيه ) أي في ربّه ، فإنّ العالم ظاهر والربّ مظهره  .
( أي العالم ظهر في النفس الرحماني الذي نفّس الله به عن الأسماء الإلهيّة ما تجده ) من الكرب ( من عدم ظهور آثارها ) بظهور أثرها ، ( فامتنّ على نفسه بما أوجده في نفسه ، فأوّل أثر كان للنفس إنّما كان في ذلك الجناب ) بظهور آثار الأسماء الإلهيّة بأعيانها الثابتة
(ثمّ لم يزل الأمر يتنزّل بتنفيس الغموم إلى آخر ما وجد ) وهو الإنسان بمراتبه من مدارج الإيقان ثم أخذ في تفصيله نظما بقوله :
(  الكلّ  في عين النفس   ..... كالضوء في ذات الغلس )
أي ظهور حروف الحقائق الكيانيّة في عين النفس الرحماني كظهور الضوء في مطلع تباشير إصباح الإظهار عند انغمار أشعّة الأضواء المظهرة للأكوان العدميّة المتكثّرة في ظلمة الوحدة الإطلاقيّة الذاتيّة ، فإن « الغلس » هو ظلمة آخر الليل ، وهذا أوّل نهار الإظهار .
 
كما أنّ العلم بالبرهان في آخر نهاره ، وذلك لأنّه إنّما يتحقّق في اللطيفة الإنسانيّة التي هي آخر أجزاء ذلك النهار ، ونهاية مراتب ظهوره عند إعراضها عن هذه التماثيل الموهمة ومشاعرها المشوّشة ، ذاهلا عن الموادّ الهيولانيّة ، ناعسا عن قواها فإنّ النفس الإنسانيّة حينئذ لا بدّ وأن ترى عند توجّهها إلى مبدئها الفيّاض بالذّات رؤيا تدلّ على ذلك النفس الجامع للكلّ ، وهي المرتبة المسمّاة عندهم بالعقل المستفاد . وإليه أشار بقوله :
( والعلم بالبرهان في   ..... سلخ النهار لمن نعس )
( فيرى الذي قد قلته   ...... رؤيا تدلّ على النفس )
 
فعلم أنّ البرهان من امّهات صور النفس الرحماني ، فإنّه عليه يترتّب الإيقان المنفّس له عن هموم الظنون والشكوك والجهالات المضلَّة كما قال .
( فيريحه من كل غمّ   .... في تلاوته عبس )
وذلك لأنّ من توجّه تلقاء حضرة الجواد لا يمكن أن يخيب منه الآمال ، ومن استوهب المواهب من الوهّاب بالذات لا بدّ وأن يرجع مقضيّ الحوائج على كلّ حال أما رأيت موسى عليه السّلام لما جدّ في طلب القبس قد ظهر له في صورة مطلوبه الناري معاينا له ، مع أنّه نور لملوك نهار الكشف وعسس ليالي البرهان وغياهب الحجاب كما أشار إليه بقوله :
( ولقد تجلَّى للذي   ..... قد جاء في طلب القبس )
( فرآه نارا - وهو نور  ..... في الملوك وفي العسس )
وإذا فهمت هذه المقالة علمت أنّ الطالب لا بدّ له من إظهار الاحتياج والافتقار ، متشمّرا أذيال التوجّه في مواقف الاستكانة والاضطرار ، فإنّه عليه السّلام لما استجمع فيه شروط الطلب ، لو كان يطلب غير النار لرآه فيه ، وما خاب من سعيه وطلبه كما قال :
( وإذا فهمت مقالتي   ..... تفهم بأنك مبتئس )   أي فقير
( لو كان يطلب غير ذا  ..... لرآه فيه وما نكس )
 
ما حكاه القرآن من محاورة عيسى عليه السّلام في القيامة
ثمّ إنّه لما بيّن أن شخص الأب الأولى - المعبّر عنه بآدم - له الختم بحسب الوجود من حيث استيعابه أحكام الكثرة الأسمائيّة ، وأحديّة الجمع الذاتيّة ، أخذ يبيّن أنّ الكلمة العيسويّة لها تلك المرتبة بحسب الشهود ، قائلا : ( وأما هذه الكلمة العيسويّة ) تبيينا لقوله تعالى : " إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ " [ 3 / 59 ] .
وذلك لأنّها ( لمّا قام لها الحقّ في مقام « حَتَّى نَعْلَمَ » و « يَعْلَمِ » ) يعني مقام الاختبار المفيد للمختبر تجدّد العلم وحصول الحادث من نوعي العلم - على ما نبّهت إليه آنفا .
مقتبسا من قوله تعالى : " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ " [ 3 / 142 ] .
ومن قوله : " وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ " [ 47 / 31 ]
فإنّ هذا المقام كما يفيد اختبار المخاطب يقتضي استخراج ما عليه كلمته ، من الحكم الكاشفة عن الأمر نفسه ، تنبيها للطالبين من الحاضرين ، وتبيينا للمسترشدين من الأمم الآتية ، طريق الحقّ.
وفي صيغة " حَتَّى نَعْلَمَ " وتكراره ما يدلّ على هذا .
 
(استفهمها عما نسب إليها : « هل هو حقّ أم لا » ؟
مع علمه الأول بـ « هل وقع ذلك الأمر أم لا » ؟
فقال : " أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ من دُونِ الله " [ 5 / 116 ]
ولا بدّ في الأدب من الجواب للمستفهم ) تفصّيا عن اختباره وما يتبعه من إظهار الأمر على ما عليه في نفسه .
وذلك ( لأنّه لما تجلَّى له في هذا المقام ) وهو مقام « حتى يعلم ونعلم » ( وهذه الصورة ) يعني صورة اتّخاذه وامّه إلهين والسؤال عنه : ( اقتضت الحكمة الجواب في التفرقة بعين الجمع ) الذي هو العبارة الكاشفة عن التوحيد الختمي ، جوابا للصورة المسؤول عنها ، وأداء لما هو مقتضى المقام .
(فـ " قالَ " وقدّم التنزيه - : " سُبْحانَكَ " فحدّد بالكاف الذي يقتضي المواجهة والخطاب ) اللذين إنّما يتحقّقان بالتشبيه ، فأتى بالقرآن الجامع في مطلع كلامه ، ثمّ فصّله بقوله :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( " ما يَكُونُ لِي " من حيث أنا لنفسي دونك " أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ " أي ما يقتضيه هويّتي ولا ذاتي ) ذلك القول ( " إِنْ كُنْتُ قُلْتُه ُ فَقَدْ عَلِمْتَه ُ " لأنّك أنت القائل ، ومن قال أمرا فقد علم ما قال ، وأنت اللسان الذي أتكلَّم به ) .
 
قرب النوافل والفرائض في مكالمة عيسى عليه السّلام
وبيّن أنّ في ظاهر كلامه هذا تدافع ، حيث نسب القول إلى الله والكلام إلى نفسه ، فدفع ذلك التدافع بقوله :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما أخبرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن ربّه في الخبر الإلهي فقال: « كنت لسانه الذي يتكلم به » فجعل هويّته عين لسان المتكلَّم ، ونسب الكلام إلى عبده ) .
فظهر أنّه لا تدافع بين أن يكون القائل أعني اللسان عين هويّة الحقّ . وبين أن يكون الكلام للعبد ، كما ورد به الحديث القدسي . وعلم أنّ هذا كلَّه قرب النوافل .
وإذ كان مقامه يستوعب القربين ، أشار إلى ذلك بقوله : ( ثمّ تمّم العبد الصالح ) - أي المتقرّب بالنوافل - ( الجواب ) عند مقاربته ومخاطبته بقرب الفرائض ، حيث يكون الحقّ متكلَّما والعبد آلته ( بقوله : " تَعْلَمُ ما في " نَفْسِي " والمتكلَّم الحق " وَلا أَعْلَمُ " ما فيها ) .
ثمّ لما استشعر أن يقال هاهنا : إذا كان المتكلَّم فيها هو الحقّ ، كيف يصدق منه قوله : « لا أعلم ما فيها ؟ » .
قال الشيخ رضي الله عنه  : ( فنفى العلم عن هويّة عيسى من حيث هويّته ، لا من حيث أنّه قائل وذو أثر ) .
وإذ قد كان هذا القرب يستلزم الاتحاد الذاتي نبّه إليه بقوله : « ولا أعلم ما فيها » - بإيراد الضمير وبإيراد الفصل على الاتّحاد الوصفي ، الدالّ على مبدأ القول المسؤول عنه - واصله بقوله : ( " إِنَّكَ أَنْتَ " ) "عَلَّامُ الْغُيُوبِ " [ 5 / 116 ]
( فجاء بالفصل والعماد تأكيدا للبيان واعتمادا عليه ، إذ لا يعلم الغيب إلَّا الله ) .
ثمّ إنّه لما بيّن أنّه قد أتى في هذا الجواب بالتفرقة ، التي هو عين الجمع ، أفصح عن ذلك بقوله : ( وفرّق وجمع ) - بالتنزيه والخطاب - ( ووحّد وكثّر ) من حيث انتفاء القول عن نفسه وإثباته للسانه الذي هو الحقّ تعالى ( ووسّع وضيّق ) من إثبات علم الحقّ بنفسه وسلبه عنها ، وبيّن أنه حينئذ قد أتى بالمتقابلين في صورة التثليث .
وذلك هو تمام الكثرة كما لا يخفى على الواقف بأساليب علم العدد . فيكون هذا غاية فيما اقتضت الحكمة من أصل الجواب بالتفرقة التي هي عين الجمع .
 
وإذ قد كان السؤال المذكور إنّما هو عن مصدريّته للقول المذكور وبلاغه إلى الناس - وما سبق منه إنّما يفيد نفي استحقاقيّته من حيث هويّته لذلك القول وأن الذي يستحقّ ذلك من هو ، ثمّ تمم بتحقيق مواطن ذلك المستحقّ وتبيين مبدأ القول المذكور - أعني العلم - ولا دلالة له أصلا على قوله للناس وبلاغه لهم على ما هو مقتضى مقام النبوة .
 
ومبتنى أصل السؤال - لا بد في الجواب من التعرّض لذلك وأنّ القول المنبّأ به إليهم ما هو ، حتى يتمّ الجواب فلذلك قال : ( ثمّ قال متمّما للجواب : " ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به " فنفى أولا مشيرا إلى أنّه ما هو ) عيسى ( ثمّ ) - أي عند القول - ( ثمّ أوجب القول أدبا مع المستفهم ) لأنّه سأل عن القول وبيّن أنّ عين العبد وإن كانت ممحوّة الوجود بالذات فينفى عنه الصفات الوجوديّة ضرورة .
ولكن باعتبار أنّه عبد مأمور لا يخلو عن الوجود ، فلا ينفى عنه الوجود وأوصافه من جميع وجوهه ، بل بوجه ووجه ( ولو لم يفعل كذلك لا تصف بعدم علم الحقائق - حاشاه من ذلك ) فإنّ صاحب علم الحقائق يعرف كل حقيقة بوجهها - وجه نفي - كما قال : " ما قُلْتُ لَهُمْ " ووجه إثبات ( فقال : " إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به " [ 5 / 117 ] وأنت المتكلَّم على لساني ) - أي في قرب الفرائض - ( وأنت لساني ) يعني في قرب النوافل .
 
( فانظر إلى هذه التثنية الروحيّة الإلهيّة ) التي قد اشتملت عليها الكلمة العيسويّة ، وكيفيّة سريانها في سائر أحوالها وأفعالها وأقوالها:
أوّلا في أمر التحقّق والتوهّم اللذين في أصل خلقته .
"" أضاف المحقق : في شرح القيصري: « التنبئة » . وقال : « التنبئة تفعلة من نبأ . وأكثر الناظرين فيه قرؤا « تثنية » من الثني .
وهو تصحيف منهم إذ هذه الحكمة نبوية ولا يحتاج التثنية - بالثاء - إلى الوصف بالروحية والإلهية .
أي فانظر إلى هذا الإنباء الروحاني الإلهي ما ألطفها - أي عبارة - وما أدقها - أي إشارة».""
 
وثانيا في الآية التي نزلت في حكاية إحيائها الموتى واحتمالها للوجهين كما سبق بيانه .
وثالثا في السؤال عنها : " أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ " حيث ثنّى الخطاب والإلهيّة . وكذلك في الجواب حيث ثنّى ضمير المتكلم في " كُنْتُ قُلْتُه ُ" وثنّى القول وثنّى العلم مرتين ، وثنّى ضمير الخطاب بـ " إِنَّكَ أَنْتَ " .
وفي استيناف الجواب أيضا تثنية ، وكذلك اشتماله على النفي والإيجاب فيه تثنية .
 
اللطائف الذوقيّة في محاورة عيسى عليه السّلام 
ثمّ إنّ هذا الجواب مع دلالته على التوحيد الجمعي الختمي وإشارته إلى القربين له لطيف معنى ودقيق فحوى . وإليه أشار بقوله : ( ما ألطفها وأدقّها ! ) أما وجه لطفها فهو إيراد الجواب مطابقا للسؤال ، حيث أنّ في السؤال ثنويّة في مقولة ، يعني قوله : " اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ " أتى في جوابه بمثل ذلك .
ووجه دقّتها هو أنّه قد أدرج في عبارته ما يلوّح على الثنويّة المشتمل عليها كلمته من التروّح والتأله ، حيث قال : " إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به " وذلك لأن « الأمر » إشارة إلى طرف تروّحه - فإنّ الروح منه  - والتاء إلى التألَّه ، فإنّه مع اشتماله عليه كناية عن الحقّ .
وهاهنا تلويح آخر ، وهو أنّ التمييز بين الكنايتين - أعني التاء والياء المشار بهما إلى الحقّ والعبد - تميّز نسبيّ اعتباريّ ، لا حقيقيّ في الدرج ، أعني في عالم الامتزاج والتركيب .
وذلك لأنّه إنما يتمايزان بتحتيّة النقطتين وفوقيّتهما .
ويمكن أن يشار بوجه الدقة واللطف إلى هذا التلويح .
 
وذلك المأمور به الذي قيل لهم : ( " أَنِ اعْبُدُوا الله " فجاء باسم " الله " لاختلاف العباد في العبادات والشرايع ، ولم يخصّ اسما خاصا دون اسم ) من الأسماء الجزئيّة التي تتحوّل أحكامها بتجدّد الأزمنة والاستعدادات .
( بل جاء باسم الجامع للكل ) فإن كلامه لا بدّ وأن يكون تامّا كاملا شاملا ليطابق ما أصله في الجواب من الجمع بين التنزيه والتشبيه والنفي والإثبات ، وسائر المتقابلات .
 
ثمّ إنه لما أمرهم بعبادة الله - وهو الدالّ على جميع الأرباب إجمالا - أتى بما يخصّ تفصيلا ، إفصاحا بما هو المطلوب من دعوة الامّة المختصّة به ، وتمكينا لذلك في خواطرهم - فإنّ التفصيل بعد الإجمال أمكن وأوقع - وتطبيقا لما جبل عليه الكلمة العيسويّة من الثنويّة بقوله :
( ثمّ قال " رَبِّي وَرَبَّكُمْ " ومعلوم أن نسبته إلى موجود بالربوبيّة ليست عين نسبته إلى موجود آخر ) ضرورة لزوم تغاير النسبة عند تغاير أحد المنتسبين .
 
( فلذلك فصّل بقوله : "رَبِّي وَرَبَّكُمْ " بالكنايتين : كناية المتكلم وكناية المخاطب ) اللتان هما أدلّ ما يفصّل به الإجمال ويميّز به العام ، ولذلك قيل : "إنهما أعرف المعارف في صناعة آداب الألفاظ " .
ثمّ إنّه قد أشار في هذه الآية إلى أنّه عابد لله في قوله لهم ذلك ، فإنّه تحت حكم الأمر في ذلك الفعل ، على ما أشار إليه قوله : ( " إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به " فأثبت نفسه مأمورا ، وليست ) نفسه في أفعاله وأقواله : ( سوى عبوديّته)
 
فعلم أن ذلك القول منه لهم عين عبوديّته لله على أيّ معنى حمل ، وذلك هو مقتضى أصل استعداده .
( إذ لا يؤمر إلا من يتصوّر منه الامتثال وإن لم يفعل ولمّا كان الأمر تنزل بحكم المراتب ) فإن الأمر هاهنا بمعنى طلب الفعل ، فهو فعل ، وهو آخر مراتب التنزّلات ، وله الإحاطة وبه تحصل المرتبة و ( لذلك ينصبغ كل من ظهر في مرتبة ما بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة ) من الآثار والأفعال - ( فمرتبة المأمور لها حكم يظهر في كل مأمور ) حقّا كان أو عبدا ، ( ومرتبة الآمر لها حكم يبدو في كل آمر ) كذلك .
( فيقول الحقّ : " أَقِيمُوا الصَّلاةَ ") [ 2 / 43 ] ( فهو الآمر والمكلَّف المأمور  ويقول العبد : « رب اغفر لي » فهو الآمر والحقّ المأمور . فما يطلب الحقّ بأمره هو بعينه يطلب العبد من الحقّ بأمره ) وإن اختصّ طلب العبد بالدعاء في عرف الأدب ، وطلب الحقّ بالأمر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا كان كلّ دعاء مجابا ولا بدّ ، وإن تأخّر كما يتأخّر بعض المكلَّفين ممّن أقيم مخاطبا بإقامة الصلاة فلا يصلَّي في وقت ، فيؤخّر الامتثال ويصلَّي في وقت آخر إن كان متمكَّنا من ذلك ، فلا بدّ من الإجابة ولو بالقصد ) بأن يجيب الدعاء من جانب الحقّ ، أو يؤديّ الصلاة من جانب الخلق .
وملخّص كلامه هذا أن عيسى عليه السّلام عند قوله المذكور منصبغ بما يعطيه أمره المنزل عليه ، غير قادر على السكوت عنه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثمّ قال : " وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ " - ولم يقل : « على نفسي معهم » كما قال : " رَبِّي وَرَبَّكُمْ " ، " شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ" لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم)
وفي تكرار ضميري المتكلَّم والغائب ما هو مقتضى الكلمة العيسويّة ( " فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي " أي رفعتني إليك وحجبتهم عنّي ، وحجبتني عنهم ، " كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " في غير مادّتي ، بل في موادّهم ، إذ كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة ، فشهود الإنسان نفسه شهود الحقّ إيّاه . وجعله بالاسم الرقيب لأنه جعل الشهود له ) - لدلالته على الحضور.
 
( فأراد أن يفصل بينه وبين ربّه حتى يعلم أنّه هو ) يعني أن عيسى في غيب كمونة وعدميّته الأصليّة ( لكونه عبدا ، وأنّ الحقّ هو الحقّ ) أي الحيّ القائم الدائم الباقي ( لكونه ربّا له ، فجاء لنفسه بأنّه شهيد ، وفي الحقّ بأنّه رقيب ) .
ووجه اختصاص نفسه بالشهيد لإشعاره بأنّ عيسى في الهويّة الإطلاقيّة وصرافة غيبها من حيث أنّه عبد ، وبيّن أنّ لتلك الهويّة تعانق الأطراف وجمعيّة الأضداد - على ما بيّن غير مرّة - فلا بدّ وأن يكون ذلك الغيب هو الحضور ، والشهيد هو الحاضر .
ثمّ إنّ الحضور أمر نسبي إنما يتصور بين اثنين ، فإنّ الحاضر إنما يقال له ذلك باعتبار قرينه ، فعلم على مسلك الاشتقاق الكبير وجه مناسبة الرقيب  واختصاصه هاهنا بالحقّ .
 
على أنّ هاهنا تلويحا يكشف عن وجهي الاختصاص كشفا بيّنا ، فإنّ الشهيد مع أن عقده عقد العبد ، فإن بيّناتهما يتوافقان بالموادّ ، كما أنّ الرقيب باعتبار ملاحظة الأوّل والآخر هو الربّ ، وعقد الربّ بفضله هو عقده .
(وقدّمهم في حقّ نفسه فقال : " عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ "  إيثارا لهم في التقدّم ، وأدبا ) لما هو مقتضى مقام تواضع الكمّل وإشارة أيضا على اختصاص شهادته بهم ( وأخّرهم في جانب الحق عن الحقّ في قولهم: " الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " لما يستحقّه الرب من التقدّم بالرتبة ) وعدم اختصاص رقابته تعالى بهم .
 
(ثمّ اعلم أنّ للحقّ : الرقيب . الاسم الذي جعله عيسى لنفسه ، وهو الشهيد في ط : " عَلَيْهِمْ شَهِيداً " فقال : " وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " ) ففي مقابلة تخصيص شهادته المستفاد من تقديم « عليهم » تعميم شهادة الحق ( فجاء بـ « كل » للعموم ، وبـ « شيء » لأنّه أنكر النكرات . وجاء بالاسم الشهيد فهو الشهيد على كل مشهود بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود ) على ما هو مقتضى تعميمه .
ثمّ إنّ هذا التعميم والتخصيص إنما يستفادان من التركيب بحسب ظاهره وخواصّه التي هي مطمح نظر علماء الرسوم في صناعة المعاني .
 
فلذلك قال : " اعلم " فإنّ ما سبق من المعاني وأكثر ما يتعرّض له من اللطائف الشريفة على الآيات الكريمة في هذا الكتاب وغيره إنّما يظهر بضرب من الإيماء ويفصح عنه لسان الإشارة والتنبيه ، دون الإعلام ، كما في دلالة هذه الآية على أنّ الحقّ هو الشهيد في المادّة العيسويّة ، فإنّه أيضا بلسان التنبيه .
فلذلك قال : ( فنبّه على أنّه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى حين قال :  "وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ " فهي شهادة الحقّ في مادّة عيسويّة كما ثبت أنّه لسانه وسمعه وبصره ) .
 
الكلمة العيسويّة والمحمديّة
( ثمّ قال ) بلسانه الذي هو الحقّ بعد إعلامه بالسمع وتنبيهه بالبصر - فإنّ محل الإعلام هو السمع ، كما أنّ موطن التنبيه إنما هو البصر - ( كلمة عيسويّة ومحمديّة ) وهذا أيضا من ثمرات شعب الثنويّة الأصليّة التي عليها الكلمة العيسويّة في مرتبة الكلام الكاشف عن الكل أنّه تكلم بلسانين ، وانتسب قوله إلى الرسولين ، عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام .
( أما كونها عيسويّة فإنّها قول عيسى بإخبار الله عنه في كتابه وأما كونها محمديّة فلموقعها من محمد صلَّى الله عليه وسلَّم بالمكان الذي وقعت منه ) من إجلاله لها وقيامه في مواقف تعظيمها ، ( فقام بها ليلة كاملة يرددها لم يعدل إلى غيرها حتّى طلع الفجر ) وفيه إشارة إلى أن ترتّب طلوع فجر الإظهار في غياهب الغيبة والكمون على كلامه الكامل هو إجابة دعائه صلَّى الله عليه وسلَّم .
وذلك قوله: ("إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " [ 5 / 118 ] ) .
 
نظر في الضمائر المذكورة في الآية
( و « هم » ضمير الغائب ، كما أن « هو » ) في قوله : " وَهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إِله ٌ وَفي الأَرْضِ إِله ٌ " [ 43 / 84 ] ( ضمير الغائب ) فمن غلب عليهم حكم الغيب الذاتي ، وظهر فيهم مقتضاه من اندماج الأحكام الظاهرة فيهم وعدم إذعانهم للمشهود الحاضر ، هم الذين أبوا من متابعة الأنبياء ، ولذلك أشار إليهم بضمير الغائب (كما قال: " هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا "[ 48 / 25 ]).
(بضمير الغائب - فكان الغيب سترا لهم عمّا يراد بالمشهود الحاضر ) من الإيمان به واليقين له
( فقال : " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ " بضمير الغائب ) وذلك العذاب ( هو عين الحجاب الذي هم فيه عن الحقّ ، فذكرهم الله قبل حضورهم ، حتّى إذا حضروا تكون الخميرة ).
 
 المنضجة لاستعداداتهم المستكملة لهم ، أعني تذكير عيسى إيّاهم عند الله ، فإنّ الوجود الكلامي مرتبة من الوجود يستتبع الشهود ويستلزمه على ما لا يخفى ( قد تحكَّمت في العجين ) - أي عجين تعيّناتهم المحجوبة في الغيب – ( فصيّرته مثلها ) في الحضور والشهود ، والذي يدلّ على أنّ حجابهم هو عين كمونهم في الغيب الذاتيّ قوله : ( " فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ " فأفرد الخطاب للتوحيد الذي كانوا عليه ) في تلك الغيبة ، وأشار بانقهارهم وإذلالهم في ذلك الغيب عند تسميته إيّاهم بالعباد ، ( ولا ذلَّة أعظم من ذلَّة العبيد ، لأنّهم لا تصرّف لهم في أنفسهم ) لغلبة قهرمان الأحكام الذاتيّة في الغيب عليهم ( فهم بحكم ما يريد به سيّدهم ، ولا شريك له فيهم ، فإنه قال :
" عِبادُكَ " فأفرد ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (والمراد بالعذاب إذلالهم ، ولا أذلّ منهم ، لكونهم عبادا ، فذواتهم تقتضي أنهم أذلَّاء ) بما جبلوا عليه من الغيب وكمونهم فيها ، ( فلا تذلَّهم ، فإنّك لا تذلَّهم بأدون مما هم فيه من كونهم عبيدا ) .
(" وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ " أي تسترهم عن إيقاع العذاب الذي يستحقّونه بمخالفتهم ) لما يراد منهم من الإيمان بالمشهود الحاضر ، وامتثال الأوامر في عالم الأفعال ، ( أي تجعل لهم غفرا يسترهم عن ذلك ) المخالفة ( ويمنعهم منه " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ " [ 5 / 118 ] أي المنيع الحميّ ).
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهذا الاسم إذا أعطاه الحقّ لمن أعطاه من عباده يسمى الحق ب " المعزّ " والمعطي له هذا الاسم ب « العزيز » ، فيكون منيع الحمى عمّا يراد به  المنتقم المعذّب من الانتقام والعذاب ) وفيه إشارة إلى التوحيد الذاتي حيث قال :  " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ".
( وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ) من حصر العزّة والحكمة فيه المستلزمة للتوحيد هاهنا على ما بيّن ( ولتكون الآية على سياق واحد ) من الاشتمال على الثنويّة المجبولة عليها الكلمة هذه ، كما مرّ غير مرّة – ( في قوله : " إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ " ) عند التعبير عن أصل ما تفرّع عنه أحواله وأقواله المسؤول عنها ، ( وقوله : " كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " ) عند الكشف عن ظاهر ما ابتنى عليه تلك الأحوال منه والأقوال .
( فجاء أيضا : " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " ) على مساقها في الاشتمال على الثنويّة التي هي أصل أمر الكثرة وتمامها ، على ما بيّن في موضعه ولوّح عليه .
 
لما ذا كرّر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الدعاء ليلة كاملة
ومن ثمّة ترى الخاتم يردّدها عند الاستجابة منه ، وأظهرها بصورة الكثرة التي هي مقتضى أمرها ، ( وكان سؤالا من النبيّ وإلحاحا منه على ربّه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر ، يردّدها طلبا للإجابة ، فلو سمع الإجابة في أوّل سؤال ما كرّر ، وكأنّ الحق يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب عرضا مفصّلا ، فيقول له في كل عرض عرض وعين عين ) عند استطلاعه صلى الله عليه وسلَّم على ما عليه أمر الكل في طي ثنويّة الفريقين وكثرتها الأصليّة الكماليّة : ( " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ " ) المفتقرون إليك ، المتذللون عندك نهاية الذلَّة ، فهم المستأهلون السائلون بلسان القابليّة عذابك - وهاهنا تلويح يدلّ على مناسبة بيّنة بين العباد والعذاب .
( " وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " ) بدون تمييز عين وتخصيصه بالدعاء له ، غير أنّه خصّص الفريق الأوّل بنسبتهم إليه تعالى وجعلها ذريعة في تحقيق أمرهم ، والثاني بالمغفرة الساترة لهم عن إظهار تلك النسبة .
ولذلك رتّب عليه صورة الحصر والتوحيد ، فهو الدعاء للفريقين على ما هو مقتضى جبلَّتهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحقّ وايثار جنابه لدعا عليهم - لا لهم - فما عرض الآية من التسليم لله والتعريض لعفوه ) .
 فـ « ما » في « ما يعطيه » بدل ممّا استحقّوا به  وفيه إشارة إلى أنّ وصول أهل العذاب والمغفرة إلى ما استحقّوه إنما هو بدعاء الخاتم ، على ما هو مقتضى الأصول .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقد ورد أنّ الحقّ إذا أحبّ صوت عبده في دعائه إيّاه أخّر الإجابة عنه حتى يتكرّر ذلك منه حبّا فيه ، لا إعراضا عنه ولذلك جاء باسم الحكيم ، والحكيم هو الذي يضع الأشياء مواضعها ، ولا يعدل بها عمّا تقتضيه وتطلبه حقائقها بصفاتها ، فالحكيم : العليم بالترتيب ) .
أي العارف بترتيب الأحكام والأوصاف على الحقائق ، ووضع كلّ منها مواضعها بمواقيتها المختصّة بها ، فإنّه من آثار الاسم الحكيم .
( فكان صلَّى الله عليه وسلَّم بترداد هذه الآية على علم عظيم من الله ) يعني العلم بمواضع كل شيء ومواقع تحقّقها وثبوتها ، وما يستتبعه من العلم بترتيب الإجابة على دعائه وسائر الصفات والأحكام مطلقا .
 
أدب الدعاء رمز الاستجابة
( فمن تلا فهكذا يتلو ) بمثل هذا التحقّق العلميّ الشهوديّ التفصيليّ على ما بيّن وراثة لحضرة الختميّة وفي هذا الكلام إيماء إلى أن الشيخ قد تلاها هذه التلاوة ، كما أنّ في اكتفائه بالضمير والصلاة إشارة إلى أنّ الرسولين إنّما وفّقا للمصدريّة المذكورة بميامن الكمال الختميّ الذي لمحمّد بالذات ، ولعيسى بالتبع من وجه .
 
(وإلَّا فالسكوت أولى به ) لأنّ ذلك مقتضى مقامه ، فهو من المرحومين على ما ورد : « رحم الله امرأ عرف قدره ولم يتعدّ طوره » فالسكوت للجاهل نجاته واستراحته من التعب .
( وإذا وفّق الله العبد إلى نطق بأمر ما ) - دعاء كان أو تمنّيا أو ترجّيا  ( فما وفّقه إليه إلا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته ) في طلبه ، على ما هو مقتضى الجود وقهرمان أمره في ديوان الخلق والإيجاد.
( فلا يستبطئ أحد ما يتضمّنه ما وفّق له ، وليثابر مثابرة رسول على هذه الآية في جميع أحواله ) فإنّه لا بدّ من الإجابة وإسعاف المسؤول ، وإن تأخّر في هذه الدار الصوريّة .
وإليه أشار بقوله : ( حتى يسمع باذنه ) الجسمانيّة التي في هذه النشأة ( أو بسمعه ) الروحانيّ ( كيف شئت أو كيف أسمعك الله الإجابة ، فإن جازاك بسؤال اللسان أسمعك بإذنك ، وإن جازاك بالمعنى أسمعك بسمعك ) وفق ما نبّه عليه في تسوية العبارتين بقوله :
 « كيف شئت أو كيف أسمعك الله » أي جواب تحقّق المجازاة مترتّب على سؤال القائل ، إمّا بلسان أصل قابليّته وشيئيّته الكونيّة ، أو بلسان جمعيّته السمعيّة الإلهيّة .
وهذا أيضا من أحكام تلك الثنويّة المشتمل عليها الكلمة هذه .
 
ثمّ إنّك ينبغي أن تعلم هاهنا أنّ من آثار ما اشتمل عليه الكلمة النبويّة من أمر الثنويّة وجلائل ثمارها - التي إنّما تجتنى من شجرة النبوّة عند بلوغها ووقت إدراك مقصودها - هو معرفة الفريقين التي عليها فيصل التفرقة ومباني أحكام التفصيل ، وهو الذي به تتفاوت مراتب الأنبياء عند الارتقاء إلى معارج كمالها في أمر النبوّة - ولذلك تراه أنّه به وافق الذوق الختميّ وعليه طابق نقطة تمام النبوّة ، حيث أخذ يردّده الخاتم ، إلى أن استجيب .
 
وكأنّك قد نبّهت في التلويحات السابقة بما يطلعك على أصل هذه النكتة عند تحقيق نهاية أمر الكثرة التي عليها استقرّت إمالة قهرمانها في الاثنين فليكن ذلك على ذكر منك إذ به ينكشف من جلائل الدقائق ما يعسر للعبارة المتعاورة أن ينبّه عليها بضرب من الدلالات المعتبرة عند أرباب الرسوم .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فصّ حكمة رحمانيّة في كلمة سليمانيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:18 pm

16 - فصّ حكمة رحمانيّة في كلمة سليمانيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
16 - فصّ حكمة رحمانيّة في كلمة سليمانيّة
ووجه اختصاص الكلمة السليمانيّة بالحكمة الرحمانيّة هو عموم حكمها ، فإنّ للكلمة السليمانيّة إحاطة سلطنة وقهرمان على البريّة كلَّها ، كما أنّ « الرحمن » بين الأسماء هو الشامل حكمه على الموجودات كلها ، فما من موجود له نوع من الحياة إلا وهو تحت ضبطهما وأمرهما.
 ولذلك يلوح فضلهما على اسم « الحي » على ما أخبر عنه قوله تعالى حاكيا عنه : “  يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا من كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ “  [ 27 / 16 ].

تصدير كتاب سليمان عليه السّلام باسم الله تعالى
وحيث أنّ لسليمان عموم الحكم على كلَّية تفاصيل الأمر وبيانه صدّر الفصّ بقوله : ( “ إِنَّه ُ “  يعني الكتاب “ من سُلَيْمانَ وَإِنَّه ُ “ عني مضمونه ) وهذا قول بلقيس .
يقول لقومها عند إراءتها لهم الكتاب ، لا حكاية مضمون الكتاب وما في طيّه ، على ما توهّمه أكثر أهل الظاهر من المفسّرين ، وارتكبوا في توجيه تقديم سليمان اسمه على اسم الله تعسّفات بعيدة كما سيشير إليه الشيخ - .
فقوله : “ إِنَّه ُ من سُلَيْمانَ “  بيان لمرسل الكتاب ، فإنّه أول ما اهتمّ ببيانه وإشاعته ، سيّما إذا كان سلطانا مثل سليمان “ وَإِنَّه ُ “  بيان لمضمون الكتاب يعني (“ بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ").

فالكتاب حينئذ مصدّر باسم الله ، وعلى ما فهمه أهل الظاهر مصدّر باسم سليمان ، وإليه أشار بقوله رضي الله عنه  : ( فأخذ بعض الناس في تقديم اسم سليمان على اسم الله تعالى ) بما توهّموه  ( ولم يكن كذلك ، وتكلموا في ذلك بما لا ينبغي ) من التوجيهات البعيدة ، كما يقولون : « إنما قدّم اسمه على اسم الله وقاية له أن يقع عليه الخرق ، وأنّه إن وقع الخرق يكون على اسمه ، لا على اسم الله » .
و « أنّ اسمه لكمال مهابته في قلوب البرية مانعة لهم عن الخرق » ،
وغير ذلك ( مما لا يليق بمعرفة سليمان عليه السّلام بربّه ، وكيف يليق ما قالوه وبلقيس تقول فيه : “ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ “ [ 27 / 29 ] .  ، فإنّه لا بدّ لكل نبيّ وداع إلى الله أن يكون عارفا بمقادير استعدادات المدعوّين ومدارج نسبهم في الإنكار والإقرار
 . فإذا كانت بلقيس في هذا المقام من الإقرار كيف يليق بسليمان على جلالة قدره أن يخاف منها على خرق كتابه ؟ وهي يقول عند ورود ذلك الكتاب : “إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ “  (أي يكرم عليها ).

ثمّ أشار إلى منشأ خطأهم إقامة لعذرهم على ما هو مقتضى أدب الطريق بقوله رضي الله عنه  : ( وإنما حملهم على ذلك - ربما - تمزيق كسرى كتاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وما مزّقه حتى قرأه كلَّه وعرف مضمونه . فكذلك كانت تفعل بلقيس - لو لم توفّق لما وفّقت له - ) من النسبة الداعية لها إلى القبول .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلم يكن يحمي الكتاب عن الخرق لحرمة صاحبه تقديم اسمه عليه السّلام على اسم الله تعالى ، ولا تأخيره ) عنه .

الرحمة الامتنانيّة والوجوبيّة
ثمّ إن سليمان لعموم سلطانه على الموجودات له خصوصيّة نسبة إلى الرحمة التي هو الوجود ، كما عرفت ذلك .
ولما كانت الرحمة نوعين :
امتنانيّة  : وهي التي لا تترتّب على ما يستجلبه من الاستعدادات والأعمال المورثة ، بل به يحصل الاستعداد وما يتقوّم به من القوابل ، كالفائض بالفيض الأقدس من الوجود العامّ الشامل ، الذي به يتنوّع الاستعدادات في التعيّن الأوّل .
ووجوبيّة : وهي التي تترتّب على الاستعدادات والأعمال المورثة له ، كالعلوم والكمالات المترتّبة على ما يستتبعه من المقتضيات والمعدّات –
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأتى سليمان بالرحمتين : رحمة الامتنان ، ورحمة الوجوب ، اللتان هما الرحمن الرحيم ) كاشفا بهما عن معنى اسم الله ، المصدّر به الكتاب ، تبيينا للذّات بأظهر أوصافها ، وتحقيقا لمبادئ ما ظهر من الكثرة الكونيّة في الوحدة الوجوديّة .
( فامتنّ بالرحمن ) أي بتعميم الرحمة والوجود على الكل بدون سابقة استعداد مقتضية لها ، كما قال تعالى : “ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ “  [ 7 / 156 ] .
( وأوجب بالرحيم ) أي بتخصيص الرحمة التي هي العلم والكمالات على من يستجلبها باستعداده ، كما قال : “ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ“ [ 7 / 156 ] .

عموميّة اسم الرحيم ودخوله في الرحمن بالتضمّن  وإذ قد ظهر لك أنّ الرحمة الامتنانيّة حيث ليس للمرحوم عين أصلا ، ثمّ بها ظهر المرحومون وعمّت لهم .
والوجوبية حيث ليس للمرحومين كمال ثمّ بها انفردوا بالكمال وخصّوا بما يليق به انتسابهم إلى جناب الراحم وجلاله الأحدي : كأن إلى مثل هذا المعنى أشار قول إمام المحقّقين جعفر الصادق: "الرحمن اسم خاصّ صفته عامة . والرحيم اسم عامّ صفته خاصّة " .
وبيّن أنّ الوجود العام - يعني الرحمة الامتنانية - له الإحاطة بالكل : فالوجوبيّة منها مندرجة فيها - اندراج الجزء تحت الكل .
وإليه أشار بقوله : ( وهذا الوجوب من الامتنان ، فدخل الرحيم في الرحمن دخول تضمّن ).
وبيّن  أنّ هذا غير اعتبار العموم والخصوص فإنّ دخول الخاصّ تحت العامّ ليس دخول تضمّن ثمّ إنّه وإن أمكن اعتبار العموم والخصوص في الرحمتين ، ولكن ليس فيما نحن بصدده ، فإنّ هذه النسبة إنما تتصور عند اتّحادهما وحملهما بهو هو ، وهو غير مراد هاهنا .
 
ولذلك علّله بقوله : ( فإنّه كتب على نفسه الرحمة سبحانه ) فإنّ نسبة بعض المكتوب إلى الجملة من الكتاب نسبة الجزء إلى كله ، لا نسبة الجزئي الخاص إلى كليّه العام ، وهذا المكتوب هو رحمة الوجوب إنما كتبه ،
قال الشيخ رضي الله عنه الله عنه : ( ليكون ذلك للعبد بما ذكره الحقّ من الأعمال التي يأتي بها هذا العبد حقّا على الله أوجبه له على نفسه ، فيستحقّ بها ) .
 أي بتلك الأعمال (هذه الرحمة - أعني رحمة الوجوب) كما عبّر عنه الحديث القدسيّ المفصح عن قرب النوافل .
 
تسمية العبد باسم الأول والآخر والظاهر والباطن  
( ومن كان من العبد بهذه المثابة ) في القرب بالتزام النوافل من الأعمال ( فإنّه يعلم من هو العامل منه ) - أي من العبد ، فإنّ له أعضاء عاملة وغير عاملة .
( والعمل مقسم على ثمانية أعضاء من الإنسان ) - اليدين والرجلين والسمع والبصر واللسان والجبهة.
قال رضي الله عنه :  ( وقد أخبر الحقّ ) في الحديث المذكور ( أنّه تعالى هويّة كل عضو منها ، فلم يكن العامل غير الحقّ ، والصورة للعبد ، والهويّة مدرجة فيه ) .
أي في العبد الذي هو اسم من أسماء الحقّ ، والاسم عين المسمّى ، فلم يكن للغير هنا دخل .
 وعنه أفصح بقوله : ( أي في اسمه ، لا غير ) أي ما بقي من المدرج فيه تلك الهويّة غير اسم العبد (لأنّه عين ما ظهر وسمّي خلقا وبه كان الاسم الظاهر والآخر للعبد ).
وهذا نتيجة رحمة الوجوب .
قال رضي الله عنه :  ( وبكونه لم يكن ثمّ كان ، ويتوقّف ظهوره عليه وصدور العمل منه ) - أي يتوقّف ظهور الحقّ على العبد الكائن كونا متجدّدا وصدور العمل منه.

قال رضي الله عنه :  ( كان الاسم الباطن والأول ) أما الأول فظاهر ، لكونه لم يكن ثمّ كان .
وأمّا الباطن فلأنّه يتوقّف على كونه المتجدّد ظهور الحق ، فلا بدّ وأن يكون باطنا بالنسبة إليه ، وإلا لم يتوقّف عليه الظاهر .
سيّما إذا كان مصدرا للأعمال . فإنّ الآثار إنما يصدر عن البواطن .
فلئن قيل : قد صرّح آنفا بأنّ العامل لم يكن غير الحقّ ، فكيف يكون مصدر الأعمال عبدا ؟
قلنا : إنّ العامل وإن كان هو الحقّ ، لا غير ، ولكن مصدريّته أمر معنويّ هو صفة العبد ، كما أفصح عنه الحديث .
حيث قال: « كنت سمعه الذي يسمع وبصره الذي يبصر » ، فإنّ ضمير يسمع ويبصر للعبد . وإن كان السمع عين الحقّ .
وكذلك ما يتوقّف عليه ظهور الحقّ من العبد . هكذا ينبغي أن يفهم هذا الموضع ، فإنّه قد اضطرب الأقوال هاهنا كل الاضطراب .
وإذ قد عرفت أن هذه الأسماء إنما ظهرت من الخلق ( فإذا رأيت الخلق رأيت الأوّل ) بكونه لم يكن ثمّ كان ، ( و ) رأيت ( الآخر ) بكونه أنهى مراتب الصورة ، ( والظاهر ) بكونه هو المدرك بالمشاعر الحسيّة ، ( والباطن ) بكونه يتوقّف عليه ظهور الحقّ ويصدر منه صنوف الأعمال التي منها الإظهار .

ملك سليمان الذي لا ينبغي لأحد
قال رضي الله عنه :  ( وهذه معرفة لا يغيب عنها سليمان عليه السّلام ) يعني رؤية هذه الأسماء التي لها الإحاطة التامّة والجمعية الكاملة من الخلق ( بل هي من ) جملة ( الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ) .
وهاهنا تلويح يدلَّك على أمور لا بدّ من الاطَّلاع عليها ، وهو أنّ للتسعة الإحاطة التامّة والجمعيّة الكماليّة - كما عرفت غير مرّة - وبيّن أنّها إذا وقعت في مرتبة العشرات لاكتساب الجمعيّة البرزخيّة التي هناك لها مزيد كمال ، ولذلك تراه يترتّب عليها حينئذ إشعار بأمور تستتبعه آثار في عالم الإظهار .
لإبرازه النسب التي هي منبع العجائب وأصل بدائع الصنائع - كما بيّن في موضعه - ولوقوع ذلك العدد في اسم سليمان موقعه وإحاطته بطرفيه بوحدتهما الكماليّة قد ظهر منه ما ظهر ، وهو الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده - كما لا يخفى .
كان لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مثل ملك سليمان ولا يتظاهر به
ثمّ إن ذلك الملك قد يكون بحسب العلم والشعور ، وقد يكون بحسب الوجود والظهور ، والذي اختصّ به سليمان بين الكمّل هو الظهور به .
وإليه أشار بقوله : ( يعني الظهور به في عالم الشهادة ) المسمّاة بعالم الملك أيضا ، ( فقد أوتي محمّد عليه الصلاة والسّلام ما أوتي به سليمان وما ظهر به ) ، ومن تأمّل في كيفيّة انطواء الاسمين على ذلك العدد يظهر له ذلك .
والذي يدلّ على أنّه أوتي محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك الملك أنّه جاءه عفريت أي خبيث ، من الجن
قال رضي الله عنه :  ( فمكَّنه الله تمكين قهر من العفريت الذي جاءه بالليل ليفتك به ، فهمّ بأخذه وربطه بسارية من سواري المسجد حتى يصبح فيلعب به ولدان المدينة ، فذكر دعوة سليمان فردّه الله خاسئا ، فلم يظهر عليه بما أقدر عليه ، وظهر بذلك سليمان ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( ثم قوله “  مُلْكاً “) أي ثمّ إظهاره ، فإنّ القول أبين مراتب الإظهار ( فلم يعمّ ، فعلمنا ) بتنكير الملك في قوله وإظهاره ( أنّه يريد ملكا ما ) خاصّا من الأملاك ، ( ورأيناه قد شورك في كل جزء جزء من الملك ) فإنّ لكل أحد من النبيّين تصرّفا في جزء من أجزاء الملك ( الذي أعطاه الله تعالى ، فعلمنا ) بهذه الآية المنزلة ( أنّه ما اختصّ إلا بالمجموع من ذلك ) الأملاك .
 
فأحديّة جمع الكلّ هو الملك الخاصّ الذي سأله هذا ، وعلمناه لمنطوق كلامه ( وبحديث العفريت أنّه ما اختصّ إلا بالظهور وقد يختصّ بالمجموع والظهور ) الذين هما أثر رحمة الامتنان ورحمة الوجوب . و « قد » هاهنا للتحقيق ، مثل :“  قَدْ يَعْلَمُ الله “[ 24 / 63 ].
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولو لم يقل صلَّى الله عليه وسلَّم في حديث العفريت : « فأمكنني الله منه » لقلنا : إنّه لما همّ بأخذه ذكَّر الله دعوة سليمان ، ليعلم أنّه لا يقدره الله على أخذه ، فردّه الله خاسئا . فلما قال : « أمكنني الله منه » علمنا أنّ الله تعالى قد وهبه التصرّف فيه ، ثمّ إنّ الله ذكَّره فتذكَّر دعوة سليمان ، فتأدّب معه . فعلمنا من هذا أنّ الذي لا ينبغي لأحد من الخلق بعد سليمان الظهور بذلك في العموم ) على ما هو مؤدّى الرحمتين .
 
عموميّة الاسم الرحيم
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وليس غرضنا من هذه المسألة إلا الكلام والتنبيه على الرحمتين ، اللتين ذكرهما سليمان في الاسمين اللذين تفسيرهما بلسان العرب الرحمن الرحيم . فقيّد رحمة الوجوب ) في قوله : “  بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ “  [ 9 / 128 ]
( وأطلق رحمة الامتنان في قوله : “  وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ “ ( [ 7 / 156 ] ( حتى الأسماء الإلهية ، أعني حقائق النسب ) .
وإنّما فسّر الأسماء الإلهية بحقائق النسب ، فإن الأسماء من حيث خصوصيّاتها الامتيازية التي بها تغاير الذات ، لها مرتبتان :
إحداهما عند وجود النسبة بظهور المنتسبين كليهما ، ويسمّى أسماء الربوبيّة .
والأخرى أقدم منها رتبة وأبطن نسبة ، وذلك عند فقد أحد المنتسبين وجودا ، أعني المعلوم والمقدور والمراد.
فإنّه ليس لها في الحضرات الأول إلا محض الاعتبار ، ويسمّى بالأسماء الإلهية فهي حقائق النسب وبواطنها - .
 
هو الراحم والمرحوم
( فامتنّ عليها بنا ) لظهورها بأعياننا ( فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهيّة والنسب الربانيّة ) أي هذا النوع الإنساني .
"" أضاف المحقق : اختلف الشراح في تفسير قول الماتن « بنا » ، فالجندي والكاشاني اعتقدا أنها خاص بالكمل ، واعترض عليهم القيصري قائلا أنه عام لجميع أفراد الإنسان كاملا أو ناقصا ، ولعل القول الوسط كلام الشارح بأن المراد هو النوع هو النوع الإنساني .""


 لكونه أنهى ما ينساق إليه مقدّمات المراتب الاستيداعيّة والاستقراريّة ، وأقصى ما يستنتج منه أقيسة الأسماء الإلهيّة والنسب الربانيّة ، فهو إذن النتيجة المستحصلة من تلك الامتزاجات بنوعه لا بأشخاصها المتفاضلة ، كما لا يخفى .
فلمّا أفضى أمر رحمة الامتنان وترتيب أشكالها البيّنة الإنتاج إلى هذه النتيجة الجمعيّة الكماليّة ، التي هي حاصرة للكل ، ثمّ بها أمر تلك الرحمة ، فأفاض في رحمة الوجوب ، وإليه أشار بقوله : ( ثمّ أوجبها على نفسه بظهورنا لنا ) .
ظهورا علميّا ليرحمنا بالرحمة الرحيميّة الشهوديّة ، كما رحمنا بالرحمة الرحمانيّة الوجوديّة ، وبيّن أن هذه النتيجة وإن كانت نتيجة من وجه ، ولكن هو الكلّ من وجه آخر ، وهو من حيث ظهور العلم والشهود .


ولذلك قال في هذه الرحمة « على نفسه » تنبيها إلى هذه الدقيقة :
( وأعلمنا أنّه هويّتنا ) عند ذلك الظهور بقوله : “وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ“ [ 42 / 11 ]
  لنعلم أنّه ما أوجبها على نفسه إلا لنفسه ، فما خرجت الرحمة عنه ) فهو الراحم والمرحوم - امتنانيّة كانت الرحمة أو وجوبيّة كما بيّن .
فعلى ما امتنّ وما ثمّ إلا هو ) هذا مقتضى لسان الإجمال . "في نسخة اخري : فعلى من "
الذي عبّر عن صرف الوحدة الإجمالية . وكأنّك قد عرفت غير مرّة أنّه لبيان تمام التوحيد لا بدّ مما يشعر بطرف التفصيل منها لئلا يتوهّم الوحدة العدديّة المقابلة للكثرة ، على ما هو المبادر إلى سائر الطباع .

وإليه أشار بقوله : ( إلا أنّه لا بدّ من حكم لسان التفصيل ) توفية لحقّ أدائه ، وذلك ( لما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم ، حتّى يقال : « إنّ هذا أعلم من هذا » مع أحديّة العين ) وفي عبارته لطيفة حيث أنّ في هذا أحديّة تأبى الشركة ، ففي لسان التفصيل إشعار بعين الإجمال ، وقوله : « مع أحدية العين تنبيه إليه » .

التفاضل في الأسماء
قال رضي الله عنه :  ( و ) هذا التفاضل ( معناه معنى نقص تعلق الإرادة عن تعلَّق العلم )
فإنّك قد عرفت في المقدّمة أنّ العلم له التقدّم الاحاطي والتحكَّم الشمولي على الإرادة . كما أنّ الإرادة لها التقدّم الإحاطي على القدرة ، فإنّ العلم عندهم عبارة عن تعلَّق الذات بنفسها وبجميع الحقائق على ما هي عليه .
ثمّ ذلك التعلَّق إن اعتبر على الممكنات خاصة بتخصّصها بأحد الجائزين مطلقا يسمّى إرادة ، كما أنّه إن اعتبر اختصاصه بإيجاد الكون يسمّى بالقدرة.
قال رضي الله عنه :  (فهذه مفاضلة في الصفات الإلهية ) ومرجعها ترتّب نسبة بعضها إلى بعض بالكمال والنقص ، وهو نقص تعلَّق الإرادة عن تعلَّق العلم (وكمال تعلَّق الإرادة وفضلها وزيادتها على تعلَّق القدرة) هذا فيما ظهر فيه نسبة الكمال والنقص من الأسماء المترتبة .
( وكذلك السمع الإلهي والبصر ) الإلهي ، فيما الظاهر فيه التقابل في حيطة الترتّب المذكور ، فإنّه داخل تحت حكم التفاضل المذكور ، كما للسمع هاهنا بالنسبة إلى البصر ، وفي عبارة المتن إشعار بذلك .


قال رضي الله عنه :  ( و ) كذلك ( جميع الأسماء الإلهيّة على درجات في تفاضل بعضها على بعض ) في الحيطة والتقدّم .
وإن ظهر ذلك في بعض منها ، واختفى في بعض ( كذلك تفاضل ما ظهر في الخلق ) في اتّصافه بالأوصاف الكمالية ( من أن يقال هذا أعلم من هذا مع أحديّة العين ) فإنّ الموافقة والمطابقة بين الظاهر والمظهر ، يعني الأسماء والأعيان واجبة التحقّق .
هذا إن قلنا بالمغايرة بين الظاهر والمظهر ، وإن أجملنا القول في ذلك ، فالتفاضل بين الأشخاص عين التفاضل الأسمائي.الفتوحات ج 2 / 61.
""أضاف الجامع : خير مثال على التفريق بين الظاهر والمظهر ما قاله الجيلي في الثلج والماء."
وما الخلق في التمثال الا كثلجة  .... وأنت لها الماء الذي هو نابع
فالظاهر: الماء والمظهر: الثلجة
- فالظاهر، هو عين المظهر كما أن الماء هو عين الثلجة.
- والمظهر ليس على التحقيق غير الظاهر كما أن الثلجة ليست على التحقيق غير الماء. ""
 
قال الشيخ في الفتوحات الباب الثالث والسبعون في معرفة عدد ما يحصل من الأسرار :
واعلم أنه من شم رائحة من العلم بالله لم يقل لم فعل كذا وما فعل كذا ؟! وكيف يقول العالم بالله لم فعل كذا ؟
وهو يعلم أنه السبب الذي اقتضى كل ما ظهر وما لم يظهر وما قدم وما أخر وما رتب لذاته
فهو عين السبب .
فلا يوجد لعلة سواه ولا يعدم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا فمشيئته عرش ذاته.
كذا قال أبو طالب المكي : إن عقلت فإن فتح لك في علم نسب الأسماء الإلهية التي ظهرت بظهور المظاهر الإلهية في أعيان الممكنات فتنوعت وتجنست وتشخصت "قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وكُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ ".
فسبب ظهور كل حكم في عينه اسمه الإلهي وليست أسماؤه سوى نسب ذاتية فاعقل.
 والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ
 
وقال الشيخ في الفتوحات الباب الثالث والسبعون عن الوجوب على الله هل هو من حيث مظاهره أو لمظاهره :
فهل هذا كله من حيث مظاهره أو هو وجوب ذاتي لمظاهره من حيث هي مظاهر لا من حيث الأعيان .
فإن كان للمظاهر فما أوجب على نفسه إلا لنفسه فلا يدخل تحت حد الواجب ما هو وجوب على هذه الصفة .
فإن الشيء لا يذم نفسه وإن كان للاعيان القابلة أن تكون مظاهر كان وجوبه لغيره .
إذ الأعيان غيره والمظاهر هويته .....
وبقيت الرحمة في حقه مطلقة ينتظرها من عين المنة التي منها كان وجوده.
أي منها كان مظهرا للحق لتتميز عينه في حال اتصافها بالعدم عن العدم المطلق الذي لا عين فيه.
ألا ترى إبليس كيف قال لسهل في هذا الفصل : يا سهل التقييد صفتك لا صفته فلم ينحجب بتقييد الجهالة والتقوى عما يستحقه من الإطلاق فلا وجوب عليه مطلقا أصلا فمهما رأيت الوجوب فاعلم إن التقييد يصحبه. أهـ. ""


وفي عبارة المتن ما يشعر بهذا الإجمال ، حيث قال : « معناه معنى نقص تعلَّق الإرادة عن تعلَّق العلم » بتكرار « المعنى » كما لا يخفى على الفطن.

تضمن كل اسم على سائر الأسماء وسريان هذا الحكم في المظاهر
( وكما أنّ كل اسم إلهي إذا قدّمته ) - ذكرا كان أو اعتبارا .
( سمّيته بجميع الأسماء ونعتّه بها ، كذلك فيما ظهر من الخلق ، فيه أهليّة كلّ ما فوضل به ) إذ كل شيء وإن ظهر فيه اسم لكن لا بدّ من تضمّنه للكلّ واختفائه فيه ، وهو المراد بالأهليّة ، إذ أهل الشيء إنما يقال لمن جمعه وإيّاه ذلك من دين ونسب أو صناعة وبلد وما يجري مجراه . فالأهليّة للشيء هو جمعيّته له ، ولا شكّ في جمعيّة كلّ شيء لسائر الأشياء ،
كما قال الشيخ :
كل شيء فيه معنى كل شيء   .... فتفطَّن واصرف الذهن إليّ
كثرة لا تتناهى عددا       ..... قد طوتها وحدة الواحد طيّ
 
اشتمال كل جزء على المجموع
( فكل جزء من العالم مجموع العالم - أي هو قابل لحقائق  متفرّقات العالم كله ) ، فإنّك قد لوّحت أن العالم هو العالم نفسه - بفتح لام التفصيل - وكلّ جزء من العالم عالم حيّ ناطق ، ولذلك تراه قد جمع جمع السلامة التي لذوي العقول الناطقة في قوله تعالى : “  الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ “ [ 1 / 2 ] .
والذي يقضى منه العجب حال هؤلاء الذين ادّعوا : « أنّا نحن نحكم بالظاهر » وهم مضطرّون في ظواهر أمثال هذه الألفاظ المفصحة عن الحقائق إلى التأويلات البعيدة ، تطبيقا لما تواطئوا عليه من العقائد التقليديّة ، وهذا
من الحكم البالغة للحكيم العليم ، ونعمه السابغة على المسترشدين ، أنّه جعل فعلهم ينادي على تكذيبهم فيما أدعوه أنّ الظاهر لهم .
ولله درّ " ابن الفارض"  من قال:
 ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى  .... ولكنما الأهواء عمّت ، فأعمت
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا يقدح قولنا : « إنّ زيدا دون عمرو في العلم » أن تكون هويّة الحق عين زيد وعمرو ، ويكون في عمرو أكمل وأعلم منه في زيد ، كما تفاضلت الأسماء الإلهيّة وليست غير الحقّ  فهو تعالى من حيث هو عالم أعمّ في التعلَّق من حيث هو مريد وقادر ،وهو هو ،ليس غيره.)
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا تعلمه - هنا يا وليّ - وتجهله هنا ، وتثبته هنا وتنفيه هنا ، إلَّا إن أثبتّه بالوجه الذي أثبت نفسه ، ونفيته عن كذا بالوجه الذي نفى نفسه ) ، وبيّن أن النفي إنّما يتوجه إليه باعتبار النسب وإضافتها إليه ، ولذلك فيه قال :
" عن كذا " إشعارا به . وذلك ظاهر في كلّ ما يدلّ على النفي .
 
( كالآية الجامعة للنفي والإثبات في حقّه حين قال : “ لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ“ [ 42 / 11 ] فنفى) عن أن ينسب إليه بالذات نسبة ما أو إضافة ، إذ المنتسبان هما المثلان ، فالنسبة تثبت المثليّة ، فنفيها يستلزم نفي النسبة ضرورة ، فنفاها عن الذات بأبلغ وجه كما يقال :«مثلك لا يبخل»

( “ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ“  فأثبت بصفة تعمّ كل سامع بصير من حيوان ) .
( وما ثمّ إلَّا حيوان ، إلا أنّه بطن في الدنيا عن إدراك بعض الناس ) كما نبّهت إليه في معنى « العالمين » وجمعه جمع السلامة .
وهذه التفاوت في  المدارك إنما هو في الدنيا ، ( وظهر في الآخرة لكل الناس ، فإنّها الدار الحيوان وكذلك الدنيا ، إلا أن حياتها مستورة عن بعض العباد ) استتار التفاضل الأسمائي في بعض أفرادها المتقابلة ، كما سبق التنبيه إليه .
 
وذلك ( ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد الله بما يدركونه من حقائق العالم ) ، وذلك لأنّ النشأة الدنياوية - لإتمام أمر الصورة وغلبة سلطانها فيها ، وهي إنما تقتضي التمييز وتحكم بالتفرقة بين الأعيان وفاء بما هو مقتضى نشأته - آبية عن ظهور الوحدة الإطلاقية والإجمال الذاتيّ فيها كلّ الإباء .
 
( فمن عمّ إدراكه ) في هذه النشأة سائر مراتب الأشياء ومدارج بطونها ( كان الحقّ فيه أظهر في الحكم ممّن ليس له ذلك العموم ، فلا تحجب بالتفاضل وتقول ) - أي قائلا أنت - ( لا يصحّ كلام من يقول « إنّ الخلق هويّة الحقّ » بعد ما أريتك التفاضل في الأسماء الإلهيّة التي لا تشكّ أنت أنّها هي الحقّ ) عند وقوفك على مواقف خلقيّتك ، وأنّها الممنون بها على الأسماء لإظهارها إيّاها ( ومدلولها المسمّى بها ليس إلا الله ) .
 
لم يقدّم اسم سليمان عليه السّلام على اسم الله تعالى في كتابه
وإذ قد بيّن أمر التفصيل بما هو مقتضى لسانه على ما لا بدّ منه ، أخذ فيما هو بصدده في الفصّ
قائلا : رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّه كيف يقدم سليمان اسمه على اسم الله - كما زعموا - وهو من جملة من أوجدته الرحمة ) المسبوقة باللَّه .
قال رضي الله عنه :  ( فلا بدّ أن يتقدّم « الرحمن الرحيم » ليصحّ استناد المرحوم ) يعني سليمان فإنّك قد عرفت أن المقدّم - ذكرا أو فكرا أو كتابة - من الأسماء لا بدّ وأن يكون أصلا لما يتأخّر ويتفرّع عليه ، حتى يكون على ترتيب نظم الحقائق ، فإنّ المستحقّ للتقديم في كل جمعيّة ومزاج إنّما هو الأمر الكلَّي النافذ الحكم فيما دونه من
الجزئيّات المتفرّعة عنه ، فإنّ رتبة الجزئيّات المتفرّعة إنما هو التأخير ، فلا بدّ من تأخير سليمان . فلو قدّم على الاسمين يكون على غير الترتيب .
فقوله :رضي الله عنه: (هذا عكس الحقائق ، تقديم من يستحقّ التأخير ، وتأخير من يستحقّ التقديم في المواضع الذي يستحقّه) إشارة إليه.
 
بلقيس كانت عالمة حكيمة
ثم أشار إلى وجه نسبة بلقيس إلى سليمان ، والرابطة القاضية بينهما بهذه المراسلة وما يتبعها من الهداية والاهتداء ، بما في بلقيس من تدبير سياسة الملك وتأسيس بنيان السلطنة وإرهاص أمرها بقوله :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن حكمة بلقيس وعلوّ علمها كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب . وما عملت ذلك إلَّا ليعلم أصحابها أنّ لها إيصالات إلى أمور لا يعلمون طريقها وهذا من التدبير الإلهي في الملك . لأنّه إذا جهل طريق الأخبار الواصل للملك خاف أهل الدولة على أنفسهم في تصرّفاتهم ، فلا يتصرّفون إلا في أمر إذا وصل إلى سلطانهم عنهم يأمنون غائلة ذلك التصرّف .
فلو تعيّن لهم « على يدي من تصل الأخبار إلى ملكهم » لصانعوه وأعظموا له الرشا ، حتى يفعلوا ما يريدون ولا يصل ذلك إلى ملكهم .
فكان قولها : “  أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ “  [ 27 / 29 ] ولم تسمّ من ألقاه - سياسة منها ، أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواصّ مدبّريها . وبهذا )
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فصّ حكمة رحمانيّة في كلمة سليمانيّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:19 pm

16 - فصّ حكمة رحمانيّة في كلمة سليمانيّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
16 - فصّ حكمة رحمانيّة في كلمة سليمانيّة
الوجه من المناسبة التي بينها وبين سليمان ( استحقّت التقدم عليهم ) والاختصاص بالمكاتبة إليها . هذه حكمة بلقيس التي هي عالمة الجنّ .
"" أضاف المحقق : في التفاسير أن أم بلقيس كانت جنية راجع مجمع البيان : 7 / 224 ، سورة النمل / 45 . الدر المنثور : 7 / 363 ، عن مجاهد .
وقال ابن العربي في الفتوحات الباب العاشر ومائتان في المكاشف  :
« قالت بلقيس كَأَنَّهُ هُوَ وهو كان لم يكن غيره فطلبنا عين السبب الموجب لجهلها به
حتى قالت : "كَأَنَّهُ هُوَ " فعلمنا إن ذلك حصل لها من وقوفها مع الحركة المعهودة في قطع المسافة البعيدة.
وهذا القول الذي صدر منها يدل عندي أنها لم تكن كما قيل متولدة بين الإنس والجان إذ لو كانت كذلك لما بعد عليها مثل هذا من حيث علمها بأبيها وما تجده في نفسها من القوة على ذلك .أهـ .""
 
فضل الإنس علي الجنّ
قال الشيخ رضي الله عنه :  (أمّا فضل العالم من الصنف الإنساني على العالم من الجنّ بأسرار التصريف وخواصّ الأشياء ، فمعلوم بالقدر الزماني ، فإنّ رجوع الطرف إلى الناظر به أسرع من قيام القائم من مجلسه.)
( لأنّ حركة البصر في الإدراك إلى ما يدركه ) - لكونه من اللطائف البرزخيّة التي إنما غلب عليه التروّح وانقهر التجسّم - ( أسرع من حركة الجسم فيما يتحرّك منه ) لغلبة الكثافة العائقة له في حركته .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنّ الزمان الذي يتحرّك فيه البصر عين الزمان الذي يتعلَّق بمبصره مع بعد المسافة بين الناظر والمنظور . فإنّ زمان فتح البصر زمان تعلَّقه بفلك الكواكب الثابتة ، وزمان رجوع طرفه إليه عين زمان عدم إدراكه).
وذلك لأنّ هذه الحركة ليست للأجسام التي في حيطة الزمان حتى تكون متقدّرة به - تقدّر حركات الأجسام به - بل للقوّة الجسدانيّة التي هي البرزخ بين لطيف الروح وكثيف الجسم ، فإنما تتقدّر بباطن الزمان ، المسمى بلسان الاصطلاح ب « الآن الدائم » و « الدهر » فلا يكون حينئذ للزمان - الذي هو النقوش والأشكال المترتّبة عليه - قدر عند هذه الحركة أصلا .
فعلم أن الزمان هاهنا بمعناه ، وأنّ الآن الذي يتقدّر به هذه الحركة هو باطن الزمان وأصله ، لا جزؤه في الخارج - كما قيل في توجيه هذا الموضع  : فإنّ الزمان لا جزء له في الخارج ، إذ هو متّصل واحد في نفسه ، إنما يفصله الوهم .
""  أضاف الجامع : يقول الشيخ كمال الدين القاشاني عن باطن الزمان :
" باطن الزمان : هو المسمى باصطلاح القوم : الوقت ، وهو الحال المتوسط بين الماضي والمستقبل وله الدوام .
فإن هذا الحال هو الظرف المعنوي الذي هو محل جميع المعلومات التي كانت جميعها متعلقة به وكائنة فيه من الحضرة العلمية ، وكل معلوم كان حاصلا في حصة معنوية منه بجميع توابعه وبه . ويسمى : الآن الدائم ، والحال الدائم المضاف إلى الحضرة العندية المشار إليها بقوله : " ليس عند ربكم صباح ولا مساء " ، ولهذا كان هذا الحال هو باطن الزمان وأصله الذي لا ماضي ولا مستقبل فيه ، بل كل لمحة منه مشتملة على مجموع الأزمنة بحكم المرتبة الأولى ، وكل لحظة منه كالدهور من الزمان المتعارف ، والدهور منه كلمحة من هذا الزمان الظاهر الغالب عليه حكم الماضي والمستقبل .أهـ


يقول الشيخ الأكبر ابن العربي : " علم الزمان هو علم شريف منه يعرف الأزل ... وهذا علم لا يعلمه إلا الأفراد من الرجال ، وهو المعبر عنه : بالدهر الأول ، ودهر الدهور ". أهـ ""
 
كيفية إحضار عرش بلقيس
( والقيام من مقام الإنسان ) لكونه حركة الجسم المتقدّرة بالزمان ( ليس كذلك ، أي ليس له هذه السرعة . فكان آصف بن برخيا أتمّ في العمل من الجنّ ) ضرورة أن عمله غير متخلَّلة بالزمان ، وهو الغاية في تلك الحركة المطلوبة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان عين قول آصف بن برخيا عين الفعل في الزمن الواحد . فرأى في ذلك الزمان بعينه سليمان عليه السّلام عرش بلقيس مستقرّا عنده ) .
وإنما صرّح بالاستقرار ( لئلا يتخيّل أنّه أدركه وهو في مكانه من غير انتقال ، ولم يكن عندنا باتّحاد الزمان انتقال ) ضرورة أن الانتقال لا بدّ له من الزمان ، ليطابق الحركة والزمان والمسافة ، فهو ما كان من قبيل الانتقال ( وإنما كان إعدام وإيجاد من حيث لا يشعر أحد بذلك ) من المحصورين في حيطة القوى الجزئية ، التي إنما يدرك الأمور بإحساسها من الخارج ( إلا من عرفه ) من الداخل .
 
العالم في خلق دائم
( و ) الذي يدل على أنّهم محجوبون عن هذه المرتبة ( هو قوله تعالى : “ بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ “  ) [ 50 / 15 ] .
( ولا يمضى عليهم وقت لا يرون فيه ما هم راؤون له ) حتى يفهموا من الخارج معنى الخلق الجديد . وذلك لأنّه ليس في حيطة الزمان .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا كان هذا كما ذكرناه فكان زمان عدمه - أعني عدم العرش من مكانه - عين وجوده عند سليمان ، من تجديد الخلق مع الأنفاس . ولا علم لأحد بهذا القدر ) من الخارج ، كما سبق بيانه ، ولا من الداخل إلا بالتعريف الإلهي .
وإليه إشارة بقوله : ( بل الإنسان لا يشعر به من نفسه أنّه في كل نفس لا يكون، ثمّ يكون).
وفي إيراد لفظة « ثمّ » هاهنا إيهام معنى التراخي وما يستتبعه من التقدّم والتأخّر الزمانيّين . فلذلك قال رضي الله عنه  : ( ولا تقل : « ثمّ تقتضي المهلة » . فليس ذلك بصحيح وإنما ثم ) في أمثال هذه المواضع ( تقتضي تقدّم الرتبة العليّة ) وذلك فيما لم يكن للزمان دخل .
كقوله تعالى : “ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ “  [ 41 / 11 ] أو يكون للزمان هناك دخل ، ولكن لا ترتيب فيه زمانيّ ، وذلك كما في اللغة ( عند العرب في مواضع مخصوصة ، كقول الشاعر) :( كهزّ الردينيّ   . . ثمّ اضطرب)


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وزمان الهزّ عين زمان اضطراب المهزوز بلا شكّ . وقد جاء ب « ثم » ولا مهلة ، كذلك تجديد الخلق مع الأنفاس ، زمان العدم زمان وجود المثل )
"" أضاف المحقق : شطري بيت لأبي دؤاد جارية بن الحجاج الشاعر الجاهلي ، من قصيدة له يصف فيها الفرس :كهزّ الردينيّ تحت العجاج ...  جرى في الأنابيب ثمّ اضطرب
الرديني : الرمح نسبه إلى امرأة تسمى ردينة . والعجاج : الغبار . والأنابيب : جمع أنبوبة وهي ما بين كل عقدتين من القصب .
يقول : إذا هززت الرمح جرت تلك الهزّة فيه حتّى يضطرب كله ( شرح شواهد المغني للسيوطي : شواهد ثم ، 1 / 358 ) . ""
 
وقد عثر أكثر أهل النظر على هذا الترتيب ، وهو المسمى عندهم بالتقدّم الذاتيّ والطبيعيّ وبذلك تفطَّنوا على تبدّل الأعراض .
وإليه أشار بقوله ( كتجديد الأعراض في دليل الأشاعرة ) فإنّ علومهم لما كانت مأخوذة من الخارج وأمر الأعراض هو الظاهر بالذات هناك دون الجوهر ، لذلك فهموا تجديدها دونه ، وذهبوا إليه .
وعرش بلقيس لما كان من الجواهر المستقرّة ، إنما يعرف من عرّفه الله من الداخل أمر ذلك التجديد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنّ مسألة حضورعرش بلقيس من أشكل المسائل ، إلا عند من عرف ما ذكرناه آنفا في قصّته ، فلم يكن لآصف من الفضل في ذلك إلا حصول التجديد في مجلس سليمان ، فما قطع العرش مسافة ، ولا زويت وطويت له أرض ، ولا خرقها - لمن فهم ما ذكرناه )
من كيفيّة تبديل العرش في صورة التحويل ، من حكيم يعرف طريق تحصيله وميزان تقويمه وتعديله .
 
كان سليمان هبة الله لداود عليهما السّلام
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان ذلك على يدي بعض أصحاب سليمان عليه السّلام ليكون أعظم لسليمان عليه السّلام في نفوس الحاضرين من بلقيس وأصحابها ،وسبب ذلك)
 الظهور من سليمان عليه السّلام بين الأنبياء - يعني ظهور قهرمان تصرّفه في الثقلين ونفوذ حكمه في الملوين . وأن أمر تصريف العالم بيدي أحد من خدّامه .
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كون سليمان هبة الله لداود عليه السّلام من قوله تعالى : “وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ“ [ 38 / 30 ] والهبة عطاء الواهب بطريق الإنعام ).
 أي مبدأ صدوره هبة الجواد المطلق ، وغاية ظهوره هو إنعام منه لخلَّص خواصّه من العبيد ، فهو حينئذ في جلالة القدر
 
لا بدّ وأن يكون بما لا يقابله ولا يعادله شيء من أعمال العباد - تخلَّقا كان ذلك أو تحقّقا - وإليه أشار بقوله : ( لا بطريق الجزاء الوفاق أو الاستحقاق ) وهو أن يكون العبد قد استحقّ ذلك بمحض استعداده لما يستحقّه بنفسه وإنّما لم يكن ذلك :
أما الأول فلأنّه لا بدّ من معادلة الجزاء لما يورثه من الأعمال ، وموافقته له في ميزان ظهور الأحكام والآثار ، وليس من العبيد ما يكون بذلك المنزلة والاعتبار .
 
وأما الثاني فلأنّ استعداد العبد - من حيث هو عبد - إنما يقتضي الأوصاف العدميّة - على ما هو مؤدّى أمر القبول وتنفيذ حكمه - فلا يقتضي التأثير والتصرّف في شيء ، فضلا عن تقلَّد أمر التصريف في الثقلين .
 
( فهو النعمة السابغة ) من الله على العالمين من حيث إفاضة الحقائق على المسترشدين من أمّته وتغذيتهم بها وتربيتهم منها ، ( والحجّة البالغة ) من حيث غلبته بمجرّد البرهان على المستبصرين منهم من ذوي الأنظار وأولي الأفكار ، ( والضربة الدامغة ) من حيث ظهوره بالسيف على العامّة من المنكرين من الثقلين ، فهو الوليّ ، النبيّ ، الرسول الظاهر على العالمين بالفيض والرحمة الظاهرة والباطنة والقهر .
 
ثم هاهنا تلويح :
اعلم أنّ حروف « داود » بعددها وعدد بيناتها « يسأل عطية » ويقتضيها ولذلك تراه قد اختصّ بها بين الأنبياء .
وإذ كان لسليمان - حسبما فيه من الحروف ثلاث جهات - : الولاية ، والنبوّة ، والرسالة . 
يقتضي توجّه هبة الله له وترشيحه لمراقي عزّه إلى أن يبلغ تلك الجهات منتهى كمالها بما لا مزيد عليه .
فترقى في الأول منها إلى أن أصبح نعمة سابغة في إفاضة ما يربي المسترشدين ويغذّيهم . وفي الثانية منها حجّة بالغة للمتردّدين . وفي الثالثة منها ضربة دامغة للمنكرين .  وهذه هي الغاية في المراتب المذكورة .
ولذلك وصف كلا منها بما هو تمامه بكمال الحروف - أعني الغين الذي لا مزيد عليه بينهما ، فإنّ كل كلمة آخرها وتمامها ذلك الحرف يقتضي الكمال والختم في معناها ، على ما لا يخفى لمن تصفّح ذلك وتأمّل .
 
علم داود وسليمان عليهما السّلام وأمة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم
قال رضي الله عنه :  ( وأما علمه ) - وهو الأول من الوجوه الثلاثة الكماليّة – ( فقوله “  فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ “  مع نقيض الحكم ) الصادر من داود عليه السّلام في مسألة الزرع وأكله الماشية ( وكلَّا ) من الأنبياء ( “آتَيْنا حُكْماً “) بحسب ما تقتضيه استعدادات أممهم ("وَعِلْماً “ ) [ 21 / 79 ] هو مبدأ ذلك الحكم .
قال رضي الله عنه :  ( وكان علم داود ) على ما هو مقتضى النص الكريم - وهو قوله : " آتَيْنا" (علما مؤتى، آتاه الله) وحيا كان أو إلهاما ( وعلم سليمان علم الله في المسألة ) على ما هو مقتضى قوله تعالى : "فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ".
 
قال رضي الله عنه :  ( إذ كان الحاكم ) عند تفهيمها إيّاه ( بلا واسطة ، وكان سليمان ) في تلك المسألة ( ترجمان حقّ في مقعد صدق ) وكلّ من الحكمين بما فيهما من التناقض حقّ .
قال رضي الله عنه :  ( كما أنّ المجتهد المصيب لحكم الله ، الذي يحكم به الله في المسئلة لو تولاها بنفسه أو بما يوحى به لرسوله : له أجران ، والمخطئ لهذا الحكم المعين له أجر ، مع كونه علما وحكما ) .
حديث البخارى « إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر » . رواه البخاري ومسلم.
 
( فأعطيت هذه الامّة المحمّديّة ) - لكونهم ورثة الخاتم - ( رتبة سليمان في الحكم ، ورتبة داود ، فما أفضلها من امّة ) .
واعلم أنّ القرابة المستدعية للوراثة لا بدّ وأن تكون بين كل نبي وامّته ، ومن ثمّة ترى في أمر بلقيس وقصّتها سراية الحكمين المتناقضين مع جمعيّتهما ، من أحكام تلك القرابة القاضية بالوراثة .
وإلى ذلك أشار بقوله : ( ولمّا رأت بلقيس عرشها - مع علمها ببعد المسافة واستحالة انتقاله في تلك المدّة - عندها “  قالَتْ كَأَنَّه ُ هُوَ “ [ 27 / 42 ] وصدّقت بما ذكرناه من تجديد الخلق بالأمثال . وهو هو ) في نفس الأمر .
( وصدق الأمر ) في حكمه بالاتّحاد ، كما صدقت بقيس في حكمها بالمغايرة .
أما الثاني فلما ذكر من أمر التجديد .
وأما الأول فظاهر يعرف كل أحد من نفسه ، ( كما أنّك ) لا تشكّ أنّه ( في زمان التجديد عين ما أنت في الزمن الماضي ) .
 
إشارة سليمان عليه السّلام بالتباس أمر الوجود على الناس
هذا بيان علم سليمان ، وأنّه النعمة السابغة على البريّة ، وأما بيان إثباته لذلك العلم ، وأنّه الحجّة البالغة فيه . فإليه أشار بقوله : ( ثمّ إنّه من كمال علم سليمان التنبيه الذي ذكره في الصرح ) أي استحضره فإنّ « الذكر » هو استحضار الشيء ، وهو إمّا بالفعل في القلب ، وإما بالقول في الحسّ ، وهذا يشملهما .
أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلدلالة قوله : ( فـ “ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ“ ) [ 27 / 44 ] وهو البيت العالي المروّق ، الخالص من الشوب ، الصافي من الكدر .
ومنه جاء : « صراحا » أي جهارا ، و « هذا أمر صريح » أي لا تعريض فيه ولا خفاء . وفيه إيماء إلى ما أشار إليه سليمان قولا ، وهو قوله سائلا عنها : “  أَهكَذا عَرْشُكِ “ [ 27 / 42 ] فإن ذلك تنبيه قوليّ غير صريح في المراد ، وهذا فعليّ محسوس صريح فيه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان صرحا أملس ، لا أمت فيه ) ولا اعوجاج ( من زجاج “  فَلَمَّا رَأَتْه ُ حَسِبَتْه ُ لجة “  ماء فـ “ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها “ حتى لا يصيب الماء ثوبها .
فنبّهها بذلك على أنّ عرشها الذي رأته من هذا القبيل ، وهذا غاية الإنصاف فإنّه أعلمها بذلك إصابتها في قولها “  كَأَنَّه ُ هُوَ “ ) ذاهلة عن تلك الإصابة بإدخالها في صرح صريح المحسوسات وإراءتها ما عليه كلمتها من المطابقة للواقع ، والمخالفة لما عليه الأمر في نفسه.
 
( فقالت عند ) ظهور ( ذلك ) الحجّة البالغة والتنبيه الصريح : ( “رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي “) بظلام الجهل وحجاب الكفر فيما كنت عليه قبل (" وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ“ أي إسلام سليمان) ، يعني أنّ المعيّة إنما هو في الإسلام ( “لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ “) [ 27 / 44 ] .
 
مقارنة بين قول بلقيس وفرعون
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما انقادت لسليمان وإنما انقادت لربّ العالمين ، وسليمان من العالمين ، فما تقيّدت في انقيادها ) وإسلامها بتلك المعيّة ، فإنّها قارنت إسلامها بإسلام الرسل ، فلا تتقيّد .
( كما لا تتقيّد الرسل في اعتقادها في الله ، بخلاف فرعون ، فإنّه قال : “رَبِّ مُوسى وَهارُونَ“  [ 7 / 122 ]  وإن كان يلحق بهذا ) التصريح بالرسل في إسلامه وإظهار من هو الواسطة في فوزه بهذه الكرامة شكرا لها .
( الانقياد البلقيسي من وجه ، لكن لا يقوي قوّتها) فإنّه قد قيّد الربّ الذي أسلم له دونها .
 ( فكانت أفقه من فرعون في الانقياد لله ) يعني الربّ المطلق .
ثمّ إنّ الذي ظهر من فرعون على ما ورد به النصّ قوله :
"آمنت بالذي آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ " لا "رَبِّ مُوسى وَهارُونَ “  على ما نقل عنه .
"إشارة إلى قوله تعالى : "وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُه ُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَه ُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّه ُ لا إِله َ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِه ِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ"   [ 10 / 90 ] ."
 
وإن كان الذي آمنت به بنو إسرائيل هو ربّ موسى وهارون ، لا تفاوت بينهما إلا بالإجمال والتفصيل.
فاستشعر بلسان تعبير فرعون مقصوده بتلك العبارة المجملة قائلا : ( وكان فرعون تحت حكم الوقت حيث قال : « آمنت بالذي “  آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ » فخصّص ) الربّ الذي أسلم له بالذي آمنت به بنو إسرائيل (و إنما خصّص لما رأى السحرة )
 
- الذين جعلهم مقابلين لموسى ومناظرين له توهينا لأمره وإهانة له .
وذلك لابتذال السحر بين الناس واختصاص مباشريه بين كل قوم بالخسّة والاحتقار (قالوا في إيمانهم باللَّه “رَبِّ مُوسى وَهارُونَ“) [ 7 / 122 ] .
فمنع فرعون احتشام علوّه في الأرض وغلوّه في الاستكبار أن يتبعهم في ذلك القول استنكافا عن تقليدهم ، وإباء عن الاقتداء بهم في ذلك ، فغيّر العبارة وقال : "آمنت بالذي "  آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ » .
والعجب حال من لم يتفطَّن لهذه اللطيفة المصرّح بها ، وارتكب المجاز في نسبة ذلك القول إلى فرعون .
"" أضاف المحقق :  إشارة إلى ما قاله الكاشاني في شرحه: « وإنما نسب إليه الشيخ الإيمان برب موسى وهارون ، لأن إيمان بني إسرائيل إنما كان برب موسى وهارون ، فأسند إليه مجازا ، وإلا لم يقل فرعون : رب موسى وهارون » . وقد تبعه في ذلك القيصري أيضا . ""
 
قال رضي الله عنه: ( فكان إسلام بلقيس إسلام سليمان ، إذ قالت : " مَعَ سُلَيْمانَ")[ 27 / 44 ].
وعنت بهذه المعيّة المقارنة بسليمان في نفس هذا الانقياد والإذعان بما يستتبعه ، لا المقارنة الزمانيّة و المكانيّة .
وبيّن أن المراد بالمعيّة والمقارنة إذا كان هو المقارنة في الفعل ، يلزم أن يكون المتقارنان متساويين في طريان ما يلزم ذلك الفعل من الأحوال والأوضاع .
وبلقيس إذ  قارنت بسليمان تلك المقارنة ( فتبعته ) في سائر عقائده وأحواله ، ولازمته في مسالكه بجميع أغوارها وأنجادها .


قال رضي الله عنه :  ( فما يمرّ بشيء من العقائد إلا مرّت به معتقدة ، ذلك كما نحن على الصراط المستقيم الذي الربّ عليه ، لكون نواصينا في يده ، ويستحيل مفارقتنا إيّاه ) .
فيجب مقارنتنا له في جميع الأفعال والأقوال وجملة الأحوال .
وبيّن أن المعية من الطرفين وأنّ عين العبد في عدمه الأصلي كما كان ، ( فنحن معه بالتضمين ) مختفيا في ضمنه ، ( وهو معنا بالتصريح ) ظاهرا في مجلاه .
ومن ثمّة ترى في الكلام المنزل السماوي الذي هو المبيّن الكاشف عن الأمر بما هو عليه ظاهرا مفصحا عن ذلك ( فإنّه قال : “وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ “  ) [ 57 / 4 ] مصرّحا بمعيّته لنا ، فهو معنا بهذا النصّ الصريح في المعيّة ( ونحن معه بكونه آخذ بنواصينا ) وهو إنما يدلّ على المعيّة ضمنا ، فإنّ دلالته على المعيّة عقليّة ضمنيّة . إذ الناصية لغة هي : قصاص الشعر .
 
وهي ما ينتهي به الشعر مقدّما كان أو مؤخّرا ، وذلك في عرف أهل الذوق عبارة عن الكثرة الإحاطية التي قد انحشرت في الإنسان وظهر سواد ازدحامها على الدماغ ، فإنّ فيه مدارك الشعور والإشعار ، ومصادر الأفعال الاختيارية التي من جملتها الكلام ، الذي هو منتهى غايات الكثرة المتّصل طرفها بالوحدة ، فإنّه صورة العلم ، وهو ظاهر الوجود كما عرفت .
 
وبيّن أنّ الآخذة بالناصية هو الذي يتحرّك بها وفيها ، فإنّ لكلّ كثرة جهة جمعيّة ، هي الآخذ بأزمّة آثارها وإظهار مطاوي أسرارها ، فإنّ تلك الكثرة هي باطن تلك الجهة من وجه ، وإن كان ظاهرها من آخر ، وهذا هو الوجه الذي نتكلم عليه .
 
ولذلك قال الشيخ رضي الله عنه( فهو تعالى مع نفسه حيثما مشى بنا من صراطه ) فإنّ النفس في عرفهم مشتقّ من النفس المنسوب إلى الرحمن ، وبيّن أنّ تلك الجهة الجمعيّة التي بها يظهر العالم بأجناسه وأنواعه وأشخاصه لا بدّ لها من هيأة وحدانيّة اعتداليّة في كلّ منها ، هي منهج ظهور ذلك النوع وصراط صورته الخاصّة ، بحيث لو تجاوز عنها إلى طرفيها من الإفراط والتفريط لم يمكن ظهورها أصلا .
 
قال رضي الله عنه: ( فما أحد من العالم إلا على صراط مستقيم ، وهو صراط الربّ تعالى ) فإنّه لكل نوع ربّ يحفظ ذلك الهيئة الوحدانيّة على استقامتها .
قال رضي الله عنه: ( وكذا علمت بلقيس من سليمان ) عند إسلامها من دقائق حكمه ، وإذعانها له في لطائف إرشاده وهدايته ، ( فقالت “  لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ “  ) [ 27 / 44 ] مفصحة عن معبودها بأسمائه الإلهيّة والربوبيّة ، وسماته الكيانيّة ، بما يكشف عن المعيّة المذكورة ، لما في الربّ من معنى النسبة التي يلازم طرفيها معا .
ولذلك عمّت ( وما خصّصت عالما من عالم ) فإنّه لو أنّها ما علمت من سليمان تلك المعيّة الإطلاقية ما عمّت ، بل خصّصت كما خصّص بنو إسرائيل .
 
التسخير المختصّ بسليمان عليه السّلام  
ثمّ لما ظهر أمر بالغيّة حجّة سليمان في إسلام بلقيس وإرشاده لها ، إلى أن بلغت مراقي كمالها على ما بيّن ، شرع في تحقيق دامغيّة ضربته على الترتيب المشار إليه أولا
بقوله رضي الله عنه  : ( وأما التسخير الذي اختصّ به سليمان وفضل به على غيره ، وجعله الله من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده : فهو كونه عن أمره ) وقوله وآثار منطوق كلامه وحرفه
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال : “ فَسَخَّرْنا لَه ُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِه ِ “  [ 38 / 36 ] فما هو من كونه تسخيرا ، فإنّ الله يقول في حقّنا كلَّنا من غير تخصيص : “  وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْه) ُ[ 45 / 13 ]
أي من غير تخصيص من الله ، فإن مبدأ ذلك التخصيص إنما هو تراكم التفرقة المشوّشة لتوجّه الهمّة وصلابتها ، الموجبة لنفوذ حكمها في المسخّر لها ، وذلك من جهة العبد .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ذكر تسخير الرياح والنجوم وغير ذلك ، ولكن لا عن أمرنا ، بل عن أمر الله ، فما اختصّ سليمان إن عقلت إلا بالأمر من غير جمعيّة ولا همّة ، بل لمجرّد أمر ) لفظيّ وحرف صوتيّ رقميّ .
وكأنّك لوحت في مطلع الفصّ على ما يطلعك على كيفيّة ذلك ولميّته إجمالا من تلويحات اسم سليمان - فتذكَّر .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما قلنا ذلك لأنّا نعرف أن أجرام العالم تنفعل لهمم النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعيّة ، وقد عاينّا ذلك في هذا الطريق ، فكان من سليمان مجرّد التلفظ بالأمر ) - صرّح بالتلفّظ تبيينا لما ذكر من مبادئ نفوذ كلامه ، وهو محض تلفّظه - ( لمن أراد تسخيره من غير همّة ولا جمعيّة ).
 
 اختصاص سليمان عليه السّلام بالملك في الدنيا ، ولا يعمّ الآخرة
ثمّ إنّ هاهنا إشكالا ، وهو أنّ استجابة دعاء سليمان يقتضي أن لا يكون بعده لأحد مثل ما أعطي له من الملك ، وهذا خلاف ما تقرّر من أمر خاتم الولاية ، وما ثبت أن لكلّ أحد في الآخرة من عوام المؤمنين أضعاف ما في الدنيا من الملك .


فأشار إلى إزاحة مثل هذه الشبهة بقوله :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم - أيّدنا الله وإيّاك بروح منه - أنّ مثل هذا العطاء إذا كان لعبد - أيّ عبد كان - فإنّه لا ينقصه ذلك من ملك آخرته ) فلا يخالف استجابة دعاه ما ادّخر له ولغيره في الآخرة ، فإنّ ذلك لسليمان ولغيره من المؤمنين بحاله ما ينقصه شيء .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا يحسب عليه ، مع كون سليمان طلبه من ربه تعالى ، فيقتضى ذوق الطريق أن يكون قد عجّل له ما ادّخر لغيره ) - يعني لخاتم الولاية .
( ويحاسب به إذا أراده في الآخرة ) ، والذي يدلّ على هذا ما ظهر من طيّ كلامه ، حيث نسب العطاء إلى نفسه ، وما نسب إلى العبد بوجه ، ( فقال الله له : “ هذا عَطاؤُنا “ ولم يقل : لك ولا لغيرك “  فَامْنُنْ “ أي أعط "أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ" ) [ 38 / 39 ]  .
فما نسب إلى العبد إلا الإعطاء أو الإمساك بما لا يحاسب عليه ، ( فعلمنا ) - لا بمجرّد فهم المعاني الوضعيّة ، بل - ( من ذوق الطريق أنّ سؤاله ذلك كان عن أمر ربه ) ولذلك لا يحاسب عليه .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فصّ حكمة رحمانيّة في كلمة سليمانيّة الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:20 pm

16 - فصّ حكمة رحمانيّة في كلمة سليمانيّة الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
16 - فصّ حكمة رحمانيّة في كلمة سليمانيّة
( والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهيّ كان الطالب ، له الأجر التامّ ) ، أي الخالي عن غوائل الحساب والعقاب على طلبه ، فإنّ طلبه ذلك امتثال أمر وعبادة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والباري تعالى إن شاء قضى حاجته فيما طلب منه ، وإن شاء أمسك . فإن العبد قد وفّى ما أوجب الله عليه من امتثال أمره فيما سأل ربّه فيه ) .
حيث قال : “ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[ 40 / 60 ]  . ( فلو سأل ذلك من نفسه ، من غير أمر ربّه له بذلك ، ليحاسب به.)
 
 اللبن صورة العلم
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا سار في جميع ما يسأل فيه الله كما قال لنبيّه محمّد - عليه الصلاة والسّلام - : " قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً "  [ 20 / 114 ] ، فامتثل أمر ربّه ، فكان يطلب الزيادة من العلم )
وينتظر وروده لتغذية فطرته في جميع المراتب والعوالم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حتى كان إذا سيق له لبن يتأوّله علما ، كما تأوّل رؤياه لما رأى في النوم أنّه اتي بقدح لبن ، فشربه وأعطى فضله عمر بن الخطاب . قالوا : فما أوّلته ؟ قال : العلم . وكذلك لما أسري به أتاه الملك بإناء فيه لبن وإناء فيه خمر ، فشرب اللبن .)
 
وأنت عرفت وجه مناسبة اللبن بالعلم سابقا ، لكن له وجه آخر يليق بهذا المقام ، وهو أنّ اللبن أقبل غذاء للاتحاد بالمزاج الكونيّ الجمعيّ ، والخمر أبعدها قبولا للاتّحاد به ، لامتداد زمان التغالب والتقابل بينه وبين ذلك المزاج.
وهو زمان سكره وانقهار سلطان جمعيّته تحت تأثير الخمر ونشأته ، فهو يخالطه ويخامره زمانا إلى أن يقهره المزاج ويغتذي به ، والعلوم والمعارف الإلهيّة متفاوتة بحسب المشارب وقبولها إيّاها ، فإنّ من ذوي الأذواق من لا يفهم التوحيد إلا بنوع من امتزاج الظاهر بالمظهر ومخامرته إيّاه ، ويتوقّف في أمر الاتّحاد غاية التوقّف .
 
وأما المحمّد والمحمّدون ، إذ وردوا عين الإطلاق الذاتيّ وشربوا من زلال قراحه الذي لا يمازجه شوائب السوي ، ولا يخامره كدر الغير ، فهم الذين قد أصابوا ما عليه أصل قابليّة الإنسان ووصلوا إليه ، وإليه أشار بقوله : ( فقال له الملك : « أصبت الفطرة » ) ، إذ الفطرة في ظاهر اللغة من قولهم : فطرت العجين : إذا عجنته فخبزته من وقته .
وفطرة الله للخلق هو إيجاده وإبداعه  على هيأة مترشّحة لفعل من الأفعال ، وهو ما ركز في الناس من المعرفة .
هذا كلامهم ، وعلم منه أن الفطرة تتضمّن ما عليه أصل استعداد الناس أجمع ، من الإجمال الجمعيّ الإطلاقيّ ، دون التفصيل الفرقانيّ الذي اختصّ به .
 
وإليه أشار بقوله : ( أصاب الله بك امّتك ) ولما كان اللبن إشارة إلى هذا النوع من العلم ، أعطى فضله لعمر بين أصحابه ، فإنه طرف عمومه الذي منه يستفيض الامّة .
( فاللبن متى ظهر فهو صورة العلم ) - عينيّة كانت الصورة أو مثاليّة - هذا عبارة لسان الفرق التفصيليّ ، وأما بلسان الجمع القرآنيّ ( فهو العلم ) ، لا غير ، ( تمثّل في صورة اللبن ) ، تنزّلا في مدارج الامتزاج والاختلاط ، ( كجبرئيل تمثّل في صورة بشر سويّ لمريم ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما قال عليه الصلاة والسّلام : « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » نبّه على أنّه كل ما يراه الإنسان في حياته الدنيا إنما هو بمنزلة الرؤيا للنائم ) في أنّه صور يعبّر بها عن الأمور الواقعة ، أو الذي سيقع ، فهو من هذه الحيثيّة ( خيال ، فلا بدّ من تأويله ) .
(إنما الكون خيال ... وهو حق في الحقيقة)
( إنما الكون ) وهو كما عرفت في المقدّمة عبارة عن الأعراض المتشخّصة بها الأشياء في هذا العالم من المحسوسات ، وما يتقوّم بها . ولا شكّ أنّها أمور متحوّلة متغيّرة ، وصور غير مستقرّة كاشفة عن آخر مثلها ، فهو بهذا الوجه : ( خيال ) وإن كان بوجه آخر ( وهو ) من حيث أصله الباقي منه  دون الهلاك ( حقّ في الحقيقة ) .
(والذي يفهم هذا ... حاز أسرار الطريقة)
(والذي يفهم هذا ) أي الكون بوجهيها ، أو طريق تأويل هذه الصور الكونيّة الخياليّة وسبيل تعبيرها ، فإنّ السالك إذا فهم ألسنة إرشاد الكائنات ( حاز أسرار الطريقة ) فاستغنى عن مرشد آخر في صورة شخصيّة معيّنة ، فإنّ الحقّ يرشده في صور الأكوان .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان صلَّى الله عليه وسلَّم إذا قدّم له لبن ، قال : " اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه " لأنه كان يراه صورة العلم ، وقد امر بطلب الزيادة من العلم . وإذا قدم إليه غير اللبن قال : « اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه » ) .
 
السؤال إذا كان عن أمر إلهي لا يحاسب به السائل
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أعطاه الله ما أعطاه بسؤال عن أمر إلهيّ ، فإنّ الله لا يحاسبه به في الدار الآخرة . ومن أعطاه الله ما أعطاه بسؤال عن غير أمر إلهيّ ، فالأمر فيه إلى الله : إن شاء حاسبه به ، وإن شاء لم يحاسبه . وأرجو من الله في العلم خاصّة أنه لا يحاسبه به ، فإنّ أمره لنبيه عليه الصلاة والسّلام بطلب الزيادة من العلم عين أمره لامّته . فإن الله يقول : “  لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ “ [ 33 / 21 ] ، وأيّ أسوة أعظم من هذا التأسّي لمن عقل عن الله ) تعالى واستفاض العلوم من محلَّه خالصة عن شوائب امتزاج الوسائط ؟
 
المقام السليماني
ثم إنّه لما كان طرف التشبيه غالبا على ذوق سليمان - على ما علم في طيّ أوضاعه من التفاته إلى الملك ، وانقياد الأكوان له جملة ، على ما علم منه ومن تلويح اسمه - وبيّن أن مقتضيات أحكام هذا الطرف مما لا يفهمه - فهم قبول - إلا الندر من العلماء ، اولي الأذواق الكاملة والحكم الشاملة .
قال رضي الله عنه : ( لو نبّهنا على المقام السليماني على تمامه ، لرأيت أمرا يهولك الاطلاع عليه ) لاشتمال ذلك على أصول غريبة تنهدم بها قواعد العقائد التي عليها تعويل أهل التحقيق .
 
قال رضي الله عنه :  ( فإنّ أكثر علماء هذه الطريقة جهلوا حالة سليمان ومكانته وليس الأمر كما زعموا ) ، كما نبّه في مطلع الفصّ على بعضه وفي طيّه على آخر حيث قال : مبدأ تسخيره عليه السّلام إنما هو مجرّد التلفّظ بدون ضميمة همّة ولا جمعيّة ، كما بيّن آنفا .
ولهذا البحث تفاصيل يحتاج إلى أصول غريبة وعلوم غير مأنوسة ، لذلك اكتفى عنه بهذا الإجمال.


 تمهيد للفصّ الآتي
ثم اعلم أنّ الوجود الذي هو قهرمان أمر الظهور ومصباح ذلك النور - على ما لا يخفى - له ظاهر يعبّر عنه بالرحمانيّة .
كما أن داود الذي هو سلطان أمر الإظهار بما ورد في حقه من الخلافة المنصوص عليها - كما ستقف على تحقيقه - وتسخير الطير والجبال اللذين هما أشدّ ما في العالم علوّا على الإنسان ، وأكثره عصيانا وإباء للإذعان ، له نتيجة يظهر منها تمام تلك السلطنة ، وهو سليمان.
 
فيكون بين « داود » و « الوجود » خصوص نسبة ، كما بين « سليمان » و « الرحمن » . 
وإليه أشار بقوله : فصّ الحكمة الوجوديّة في الكلمة الداودية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فصّ حكمة وجوديّة في كلمة داودية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:11 am

17 - فصّ حكمة وجوديّة في كلمة داودية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

الجزء الأول
17 - فصّ حكمة وجوديّة في كلمة داودية
ويلوّح على تلك النسبة بيّنات عددهما.
النبوّة والرسالة اختصاص إلهي ، لا كسبي
وبيّن أن مراتب كمال العباد ومدارج ترقّيهم فيه ضربان :
أحدهما : ما يصلح لأن تحصل لهم وراثة من أعمالهم المعدّة لهم في استحصاله ، كاستفاضة المعارف واستعلام الحقائق واستجلاب تطوّرات الأحوال وفنون الأذواق بضرب من الأفكار الصافية والتوجّهات الخالصة عن الشوائب المشوّشة .
وثانيهما : ما لا يصلح لأن يكون من العبد عمل يوازيه ، ويورث ذلك ، لجلالة شأنه عن رتبة العبد بما هو عبد ، واختصاصه بالحق ، كالرسالة والنبوّة التشريعيّة ،
ولما كان من مقتضى الكلمة الداوديّة ومؤدّى كمالاته الخصيصة به أمر الخلافة وكمالها الذي هو الرسالة والنبوّة التشريعيّة ،
صدّر الفصّ بتحقيقها قائلا : ( اعلم أنّه لما كانت النبوّة والرسالة اختصاصا إلهيا ليس فيها شيء من الاكتساب - أعني نبوة التشريع - ) ، وهو وضع الصور الجزئيّة والأحكام التكليفيّة - الكاشفة عن الأمر وتفصيله - على ما هو حقّ الإنباء وكماله .
وقد احترز به عن نبوّة تعريف الحقائق الكليّة وتبيين العلوم الإلهيّة - مما يمكن اكتسابه بوراثة الأعمال الفكرية والمهيّجات الذوقيّة ، كما قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم :
" من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم " أو بقرب نسبة الأنبياء ووراثتهم ذلك منهم ، كما قال: " العلماء ورثة الأنبياء " .
وذلك لأنّه قد يستحصل كليّات الحقائق الأسمائيّة والمعارف الإلهيّة الجمليّة بالفكر وسائر ضروب التوجّهات وفنون التعمّلات ، دون جزئيّات تفاصيل  تلك الحقائق ، على طبق ما في العين من الأشخاص الخارجيّة .
 
فإنّ ذلك من الخصائص الإلهيّة التي إنما يتحقّق بها العبد بطريق الوهب فقط وبيّن أن حكم الأصول الكليّة يسري في الفروع وجزئيّاتها ، فلذلك ( كانت عطاياه لهم من هذا القبيل : مواهب ليست جزاء ) لسوابق أعماله الوارثة لها ( ولا يطلب عليها منهم جزاء ) بلواحق شكره المستجلبة للمزيد عليها.
 
( فإعطاؤه إيّاهم على طريق الإنعام والإفضال ) بدون سوابق مقتضيات ولا لواحقها
( فقال : “  وَوَهَبْنا لَه ُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ “  [ 6 / 84 ] يعني لإبراهيم الخليل ، وقال في أيوب : “  وَوَهَبْنا لَه ُ أَهْلَه ُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ “ [ 38 / 43 ] ، وقال في حقّ موسى : “  وَوَهَبْنا لَه ُ من رَحْمَتِنا أَخاه ُ هارُونَ نَبِيًّا “ [ 19 / 53 ] ، إلى مثل ذلك ) مما حصل لسائر الأنبياء من جلائل النعم ودقائقها بطريق الوهب ، على ما نصّ عليه في كلامه .
وفي هذه الآيات الكريمة ما يكشف عن كمال تحقّق الخليل وبلوغه فيه مبلغ التمام ، حيث أنّ موهوبه ليست فيه نسبة ولا غيبة مما هو مقتضى السلوب والإضافات ، بل محض الوجود - كما اطَّلعت عليه في فصّه ، فتذكَّر .
 
( فالذي تولَّاهم أوّلا ) في كليّة أمرهم - أعني النبوّة التشريعيّة - ( هو الذي تولاهم في عموم أحوالهم ) الجزئيّة ( أو أكثرها ) ، فإنّه يمكن أن يكون بعض تلك الجزئيّات بالكسب ولكن على سبيل الندرة . ويعلم من هذا الكلام وجه امّية الخاتم ، ومعنى قوله : "أنتم أعلم بأمور دنياكم " .
( وليس ) ذلك المتولي أوّلا وثانيا ( إلا اسمه الوهّاب ) .
 
ما آتى الله تعالى داود عليه السّلام من الفضل
(وقال في حق داود : “  وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا “  ) [ 34 / 10 ] . ( فلم يقرن به جزاء يطلبه منه ) بل نسب ذلك إلى نفسه وقال : “ مِنَّا “  ، ( ولا أخبر أنّه أعطاه هذا الذي ذكره جزاء ) بل نصّ على أنّه كان فضلا وعطاء .
( ولما طلبه الشكر على ذلك ) النعمة الجليلة ( بالعمل ) الذي هو مقتضى حكمه ( طلب من آل داود ولم يتعرّض لذكر داود ، ليشكره الآل على ما أنعم به على داود ، فهو في حقّ داود عطاء نعمة وإفضال ، وفي حقّ آله على غير ذلك ، لطلب المعاوضة ) بالأعمال القلبيّة والجوارحيّة ، شكرا لتلك النعمة .
 
وهذا الطلب من آل داود مما عليه داود من الخلافة المطلقة المنصوص عليها .
فإنّه إذا كان يطلب من غيره المستخلفين عليهم الأعمال شكرا على ما أنعم على داود يكون غاية في تعظيم خلافته وجلال قدره ، سيّما إذا طلب ذلك من أهل الخليفة الذين هم مجبولون على التنافس والتباغض ، فإنّ دلالته على جلالة قدر الخليفة أكثر وأظهر .
 
(فقال تعالى : “  اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً “  [ 34 / 13 ] ، فعلم أنّ انتصاب “  شُكْراً “  إمّا على التمييز ، وإمّا على أنّه مفعول لأجله .
 
 شكر الأنبياء
ثمّ إنّ الشكر وإن لم يكن مطلوبا من الأنبياء عليهم السّلام ، ولكن لم يزل يواظبون عليه ، وذلك الشكر هو البالغ في الشكريّة . وإلى ذلك أشار بقوله تعالى : ("وَقَلِيلٌ من عِبادِيَ الشَّكُورُ “) [ 34 / 13 ] .
 
وإليه نبّه بقوله :رضي الله عنه :  ( وإن كانت الأنبياء قد شكروا الله تعالى على ما أنعم به عليهم ووهبهم ، فلم يكن ذلك عن طلب من الله ، بل تبرّعوا بذلك من نفوسهم كما قام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى تورّمت قدماه ، شكرا لما غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، فلما قيل له في ذلك قال  : " أفلا أكون عبدا شكورا "
وقال في نوح : “  إِنَّه ُ كانَ عَبْداً شَكُوراً “  [ 17 / 3 ] ، فالشكور من عباد الله قليل )
وذلك لأن الشكر البالغ إلى كماله التامّ فيه هو أن يكون بلا طلب من المنعم الواهب ، وهو إنما يكون للكمّل من الأنبياء الذين يصل إليهم النعم من ديوان الوهب كما عرفت .
 
خصوصيّة اسم داود
ثم إنّ الخلافة التي تحقّق بها داود إنما تقتضي التصرّف والتأثير في العالم ، وهو إنما يتصور بعد قطعه عن العالم ، ضرورة أنّ المتأثّر ما لم ينفصل عن المؤثّر فيه - انفصال قطع يقابله به - لم يتمكَّن من التصرّف فيه والتسلَّط عليه كلّ التسلَّط .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فأوّل نعمة أنعم الله بها على داود أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتّصال ، فقطعه بذلك عن العالم إخبارا لنا عنه بمجرّد هذا الاسم )
 
فإنّ اسم « داود » يلوح على القطع بعينه بأوّل بيناته ، وذلك لأنّ الأسامي والألقاب المنزلة من سماء الوهب مخبرة عمّا اشتمل عليه المسمى من الخصائص والأوصاف التي له عند العارف بفنون دلالات الحروف ووجوه كشفها وتبيّنها ،
وهذا من خصائص علوم أصحاب الأئمّة الهداة وتلامذتهم - وقد نبّهت عليه في المقدمة - فيكون انتصاب « إخبار » على أنه مفعول له من « قطعه » لا غير.
 
الحروف المتصلة والمنفصلة 
ثمّ إنّ الحروف الكتابيّة التي هي الكاشفة عن الحقائق ، التي تتعلَّق بطرف الولاية والبطون - كما سبق التنبيه عليه - تنقسم بالحصر القطعي إلى ما يتّصل ويتّصل به - وهو حروف الاتّصال ، وأكثر الحروف كذلك - وإلى ما يتّصل ولا يتّصل به ، بل ينقطع به الكلمة وينفصل ، فهو جهة تمامها ، وهو حروف الانفصال .
 
وذلك ستّة يجمعها « روزداذ » وإلى ما لا يتّصل ولا يتّصل به ، وهذا غير ظاهر ولا معدود في الحروف .
لأنّ الظهور يستدعي مظهرا يتّصل به حتّى يتمكَّن من البروز عن سواد الخفاء على بياض الظهور ، فهذا القسم مندمج في سواد الخفاء غير معدود في جملة الحروف .
لأنّ ملاك أمرها إنما هو الإظهار والإبراز - كما عرفت - وهذا هو الهمزة فقط .
 
المناسبات الحرفية في اسمي محمّد وداود عليهما السّلام
ثمّ إنّ المناسب لعالم الامتزاج والاختلاط هو القسم الأوّل ،
كما أنّ الموافق لعظمة الخلافة وحشمة أمرها هو الانفراد والانقطاع عن الرعايا وهو القسم الثاني .
فلذلك سمّي داود الذي قد اختصّ في التنزيل بنصّ منشور الخلافة بحروف هذا القسم ،
( وهي : الدال ، والألف ، والواو ، وسمّي محمّدا صلَّى الله عليه وسلَّم بحروف الاتّصال والانفصال ، فوصله به وفصّله عن العالم ، فجمع له بين الحالتين في اسمه ) .
 
وذلك لأنّ الاسم محل إظهار الشخص بما هو عليه ، ولما كان محمد صلَّى الله عليه وسلَّم خاتم أمر الإظهار وسلطان حكمه - الذي إنما يتحقّق في الكثرة والانفصال مع انطوائه على تمام المعنى الذي يقتضي الوحدة والاتّصال - لا بدّ وأن يكون من الحروف المختصّة به دلالة على وجهيه .
 
إذا عرفت هذا تبيّن لك أنّه لا بدّ من اشتمال اسمه على النوعين من الحروف ، دلالة منه على طرفيه . وسائر الأنبياء وإن كانوا ذا طرفين ولكن ليس لأحد بينهم أمر تمام الإظهار وختمه ، فلا يكون في اسمه الذي هو مبدأ الإظهار دال عليه . فلذلك قال :
" فجمع له بين الحالتين في اسمه " ، ( كما جمع لداود بين الحالتين من طريق المعنى ، ولم يجعل ذلك في اسمه ) .
 
"" أضاف المحقق :
قال الكاشاني : وهو اختصاصه بالجمع بين النبوة والرسالة والخلافة والملك والعلم والحكمة.""
( فكان هذه ) الجمعيّة الاسميّة ( اختصاصا بمحمّد على داود ) لما بينهما من الاشتراك في الظهور بالخلافة والرسالة الإحاطيّة .
ومن ثمّة ترى المشترك بين اسميهما هو « الدال » الدالّ على الدولة والظهور ، ولكن لما كان في المحمد متصلا بميم التمام والكمال يكون دالَّا على جمعيّته الصوريّة والمعنويّة ، فإنّ الاتّصال يستتبع الاتّحاد الذي هو من لوازم المعاني والعلوم .
وإليه أشار بقوله : ( أعني التنبيه عليه ) - أي على الاختصاص المذكور الذي له بين الأنبياء - ( باسمه ، فتمّ له عليه السّلام الأمر من جميع جهاته ) اسما ومسمّى وصورتا ومعنى .
وفي آدم وإن كان الدال فيه مع ميم التمام ، ولكن منفصلا عنه ، غير متّصل به فلا يدلّ إلا على الدولة الصوريّة والجمعيّة الوجوديّة التي له .
( وكذلك في اسمه ) المنصوص عليه اسميّته في التنزيل في قوله تعالى “ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي من بَعْدِي اسْمُه ُ أَحْمَدُ “  [ 61 / 6 ] .
( فهذا من حكمة الله ) المستفادة من الصور المنزلة من عنده ، فإنّ الحكم منها ما يستحصل بالفكر وما يجري مجراه من أنواع التعمّلات والسعي وفنون التسبّبات والكسب . ومنها ما يستفاد من الصور الحرفيّة القرآنيّة ، والدلائل الكشفيّة العيانيّة .
وبيّن أنّ الحكم وإن كان كلها من الله ، ولكن المنتسب منها إليه أوّلا وبالذات هو الثاني .
 
سرّ تسبيح الجبال والطير مع داود عليه السّلام
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ قال في حق داود فيما أعطاه على طريق الإنعام عليه ترجيع الجبال معه التسبيح ، فتسبّح لتسبيحه ليكون له عملها ، وكذلك الطير ) ،
والوجه في تخصيص هذين النوعين بالمتابعة ، هو أنّهما أشدّ أنواع الأكوان ترفّعا على الإنسان ، وعلوّا عليه وإباء لقبول الإذعان له ، لغلوّ القساوة والخفّة فيهما ، وبيّن أن كلا منهما يمنع الانقياد وقبول التصرف .
أمّا الأوّل فلإفراطها في طرف الكثافة العاصية عن القبول.
وأمّا الثاني فلتفريطه في طرف الخفّة وعدم استقراره بين يدي الفاعل عند التأثّر والقبول .
وبيّن أنّ الطرفين مع غلوّ إبائهما وعلوّهما على الإنسان إذا دخلا في انقياده وإسلامه ، فما في أواسطهما - مما يقرّب إلى حدّ الاعتدال - يكون بذاك الانقياد أحرى وأولى .
ضرورة أنّ رقيقة نسبته إلى الإنسان أوثق وأظهر .
ولا يخفى على الواقف بأساليب هذا الكلام من المستبصرين ، أنّ تأويل الجبال والطير هاهنا بالعظام والقوى لا يوافق كمال خلافة داود وانقياد البريّة له وتسلَّطه عليها.
 
ثمّ هذا المعنى وإن كان له وجه في حدّه عند الكلام على الحكم الأنفسيّة ، ولكن لا يوافق هذا السياق ، فإنّه في صدد تسخير الأكوان الآفاقية له ، على ما هو من خصائص خلافته الخاصّة به ، وسيجئ في معنى تليين الحديد ما يؤيّد ذلك .
 
سرّ إعطاء القوّة والحكمة لداود عليه السّلام
ثمّ إنّ مثل هذه الخلافة لا بدّ وأن يكون بالقوّة التي بها يتمكَّن من الظهور سياسة وحكما . والحكمة التي بها تترتّب الأمور على الوضع الأتمّ والنظم الأليق ، والفصاحة التي بها تظهر الأشياء والأحكام فإلى هذه الأمور أشار بقوله : ( وأعطاه القوّة ونعته بها ) في كريم كتابه إظهارا لما أنعم عليه فيها ، كما هو مقتضى كمال أمر الخلافة وتمام إظهارها في قوله : “  وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّه ُ أَوَّابٌ “  [ 38 / 17 ] أيّ القوّة ( وأعطاه “  الْحِكْمَةَ “  ) أي معرفة حقائق الموجودات كلها تحقيقا ( “  وَفَصْلَ الْخِطابِ “  ) [ 38 : 17] أي إظهار ما يفصّل الأشياء ويميّزها حقّ التمييز من الكلام والخطاب اللايق بأمم زمانه .
"" أضاف المحقق :
كلام الشارح تعريض لما أورده الجندي وتبعه الكاشاني فقال : " إن الجبال تحكي بصورها رسوب الأعضاء والتمكن والثبات التي هي مخصوص بالكمل في ظواهرهم ، والطير تحكي بطيرانها حركة القوى الروحانية فيه وفي كل عبد كامل إلى تحصيل مطالبها عند التسبيح الكامل   
ولما كان داود من كمال توجهه وتجرده وانقطاعه إلى اللَّه بالمحبة الذاتية . . .
تبعته ظواهره وبواطنه وجوارحه وقواه كلها ، أظهر اللَّه تعالى سر انخراط أعضائه وقواه الروحانية في التنزيه والتقدس في صور الجبال والطير متمثلة له ...." .
 
وقال القيصري مكملا لكلامهم : " .... ولما كانت الجبال الظاهرة والطير المحشورة مثالا للأعضاء والقوى الروحانية والجسمانية ، وصورا ظاهرة في الخارج لهذه الحقائق التي في العالم الإنساني ... حصل ذلك التأثير الروحاني أيضا في روحانية الجبال والطير ، فسبحن ذلك التسبيح بعينه ..." . أهـ ""
 
ومبدأ فصل الخطاب هو ما أنعم عليه في اسمه بحسب الصورة الخطيّة كما يشعر به عبارته هذه ، كما أنّ مبدأ المعرفة ما فيه بحسب معناه ، كما لا يخفى
 
 اختصاص داود عليه السّلام بالتنصيص على خلافته
وبيّن أنّ هذه الكمالات الوجوديّة المستتبعة لإظهار ما عليه كلمته ، من فنون جلائل الأوصاف كلَّها متفرّعة على خلافته المنصوص عليها في التنزيل فهي مبدؤها وأصلها .
وإليه أشار بقوله : ( ثمّ المنّة الكبرى والمكانة الزلفى التي خصّه الله بها التنصيص على خلافته ، ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه ) من الرسل ( وإن كان فيهم خلفاء ، فقال : “  يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى “  [ 38 / 26 ] أي ما يخطر لك في حكمك من غير وحي مني “  فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله “ أي عن الطريق الذي أوحي بها إلى رسلي ) .
وذلك أنّ لكل عبد طريقين إلى منهج الاستفهام واستعلام الأحكام :
أحدهما طرف قدس العقل ، الذي به يوحى إذا ترقى أمره إلى غايته الكمالية ، كما في الرسل عليهم السلام ، وهو الذي يأتي بالحقّ على مدارج تنزّلاته الوجوديّة ، وترتيبها الأصلي التي منها جاء من عالم المعاني إلى المثال ، إلى الحسّ والآخر طرف هويّته الإطلاقيّة وجمعيّته الكماليّة التي يسمّى بالهوى .
 
وهما في الحقيقة سبيل الله . فإنّ الهوى يلوّح بيّناته على الحقّ  ، ولذلك فسّر سبيل الله بقوله : " أي عن الطريق الذي أوحي بها إلى رسلي " ، تفسير تخصيص .
 
فإنّ الخلافة إنما يتمّ أمرها بالترتيب الحكمي المتقن ، على ما عليه السلام نظام الوجود في مدارج تنزّلانه ، وطريق الوحي هو المعطي لذلك الحكم دون الهوى . فإنّ الغالب في هذا الطريق أمر الإجمال وأذواقه الجماليّة ، وقد اختفى فيه أمر الفرق ونظام أحكامها جملة ، كما يلوّح ذلك من بيناته .
 
( ثمّ تأدّب سبحانه معه ) إعظاما لقدر مرتبته العظمى ، وترشيحا لمزيد حشمته التي ربّى لها
( فقال : إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) [ 38 / 26 ] أي موطن تمام التفصيل الذي من جملته تعرّف أحكام الجزئيّات وخواصّها ،
وهي إنما يستكشف حق الكشف والتبيين من العدد والحساب ، كما عرفت وجه لمّيته في المقدمة - فتذكّر .
(ولم يقل له : " فإن زللت عن سبيلي فلك عذاب شديد " ) .
 
تفاضل آدم وإبراهيم وداود عليهم السّلام في الخلافة
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن قلت : « وآدم ، قد نصّ على خلافته » ؟
قلنا : ما نصّ مثل التنصيص على داود ) على صورة التفويض مخاطبا إيّاه ، آمرا له بالحكم ،
( وإنما قال ) في قضيّة خلافة آدم : (" لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً “  [ 2 / 30 ] ، ولم يقل : « إني جاعل آدم خليفة في الأرض » ولو قال ، لم يكن مثل قوله : “  جَعَلْناكَ خَلِيفَةً “ في حقّ داود ، فإن هذا محقّق ) .
لدلالة النصّ على تفويض الخلافة لداود ، على ما لا يخفى ، ( وذلك ) النصّ الوارد في آدم (ليس كذلك ) ، أمّا أو لا فلأنّه ليس فيه صيغة التفويض أصلا ، بل إنما هو إخبار .
وأمّا ثانيا فلأنّه لا يدلّ بوجه من وجوه الدلالات على أن ذلك - الخليفة التي هو جاعلها - آدم .
 
(وما يدلّ ذكر آدم في القصّة بعد ذلك على أنّه عين ذلك الخليفة الذي نصّ الله عليه ) وبيّن أن مرتبة الكلام من المراتب له الكمال في المجالي الوجوديّة لأنّه مع ظهور الأمر فيه ، مظهر إيّاه ، كاشف عن الخصائص والأوصاف ووجوه التفاصيل التي فيه . ومن ثمّة ترى دلائل خلافة آدم في هذه المرتبة إجماليّة ، لعدم ظهور الخلافة بأحكامها الخصيصة بها فيه مفصّلا ، بل كان فيه مجملا وبالقوّة .
وإلى مثل هذا أشار بقوله : ( فاجعل بالك لإخبارات الحقّ عن عباده إذا أخبر ) فإنّها كاشفة عن المرتبة التي لذلك العبد ، مبيّنة عن مبلغ كماله فيها ، كما في قصّة آدم وإجمال حكم خلافته .
 
قال رضي الله عنه :  (وكذلك في حقّ إبراهيم الخليل : “إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً“) [ 2 / 124 ] فإنّه وإن دلّ على وجوه من الكمال الذي له حيث خاطبه وخصّصه بإمامة الناس والإمام هو المقدّم رتبة وشرفا ، فعلا وقولا ،
ليقتدى به الأمم فالإمامة أخصّ من الخلافة ، وكل خاصّ يستلزم عامّه ، ولكن لما قال « إماما » ( ولم يقل : « خليفة » ) ما دلّ على خصوصية كمال الخلافة فيه وما ظهر ذلك منه ، ( وإن كنّا نعلم ) ضمنا بحسب النظر العقليّ - كما عرفت آنفا .
قال رضي الله عنه :  ( أن الإمامة هنا خلافة ، ولكن ما هي مثلها لو ذكرها بأخصّ أسمائها ، وهي الخلافة ) كما في خلافة داود ، فإنّه ذكرها باسمها الخاصّ بها ، مفوّضا لها إيّاه ، دون خلافة إبراهيم ، وإن كان لذلك أيضا وجوه من الكمال ، قد خلت عنها غيره ،
من جملتها التعبير عن تقدّم إبراهيم فيه بالوجوه المذكورة بالجملة الاسميّة ، الدالَّة على الاستمرار الزماني وبالاسم الفاعل لئلا يتوهّم التجدّد الزماني في جعله إماما ، كما لغيره من الأنبياء ، فهو ذاتي له ، ولذلك ترى الخاتم يقتدي به في الصلاة عليه .
 
قال رضي الله عنه :  ( ثمّ في داود من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم ) في الوجود الكلامي والتنزيل الختمي ، الذي هو منتهى مراتب الإظهار وغاية أمر الكلّ في تطورات الشعور والإشعار ، ( وليس ذلك ) الإظهار ( إلا عن الله ، فقال له : “  فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ “  [ 38 / 26 ] ،
وخلافة آدم قد لا تكون من هذه المرتبة ) .
في أمر الإظهار والتنصيص في التنزيل بالخلافة في الحكم ، الذي هو السلطنة ، فإنّ الخلافة قد تطلق على من يخلف من هو قبله ، فيحتمل أن يكون خلافة آدم من هذا القبيل ،
 
قال رضي الله عنه :  ( فيكون خلافته أن يخلف من كان فيها قبل ذلك ، لا أنّه نائب من الله في خلقه بالحكم الإلهي فيهم . وإن كان الأمر كذلك وقع ) في آدم بحسب الظهور ، فإن ظهور الخلافة فيهما سواء
( ولكن ليس كلامنا إلا في التنصيص عليه والتصريح به ) في التنزيل الختمي العربيّ المبين ، الذي هو أجلى مراتب الإظهار ، وأتمّ أصناف الصور وأجلّ أطوارها .
 
 خليفة الله تعالى ، وخليفة رسول الله صلَّى الله عليه وآله
قال رضي الله عنه :  (وللَّه في الأرض خلائف عن الله ، وهم الرسل . وأمّا الخلافة اليوم فعن الرسول ، لا عن الله) وذلك لأنّ أمر الإظهار مطلقا - إمامة كان أو نبوّة ، أو رسالة أو خلافة - إنما يتمّ دائرة كماله ويختم خزائن ترقّيه بالخاتم الرسول ، فقبل بلوغ أمر الإظهار تلك المرتبة تكون الخلافة عن الله حتى يتمّ كماله ، فإذا بلغ وتمّ فإنّما يتفرّع من الخاتم ذلك ، كما لا يخفى . فالخلفاء بعد محمّد إنما هم عنه لا عن الله .
( فإنّهم لا يحكمون إلا بما شرع لهم الرسول ، لا يخرجون عن ذلك ) .
 
قال رضي الله عنه :  (غير أنّ هاهنا دقيقة ) ذوقيّة إنما يدركها أصحاب الرسول الخاتم برقيقة نسبتهم إليه ، وقرابتهم المورثة لهم عنه ( فلا يعلمها إلا أمثالنا ، وذلك في أخذ ما يحكمون به ، مما هو شرع للرسول صلّى الله عليه وآله . فالخليفة عن الرسول من يأخذ الحكم بالنقل عنه صلّى الله عليه وآله أو بالاجتهاد الذي أصله أيضا منقول عنه عليه السّلام ) .
ولا يخفى على من له ذائقة إدراك اللطائف من موائد الحقائق ، أن الأوضاع الشرعيّة والصور المنزلة الفرقانيّة والقرآنيّة بهيئاتها الجمعيّة الوحدانيّة ، من جملة الصور الشخصيّة التي للخاتم الرسول عليه السّلام ، الباقية على صفحات الأيّام مدى الدهور والأعوام .
 
فتلك الصورة هي محلّ استفاضة خواصّ امّته ، ومجلى هدايتهم ، فهو الطريق الأمم والصراط الأقوم لمن له نسبة القرابة المورثة إلى موطن تحقّق الخاتم ، ومأخذ أحكامه ، فإنّه إذا اجتمع النسبة المعنويّة المورثة مع صورته الختمية لا يمكن أن يكون لذلك عائق عن الوصول .
 
وإلى ذلك أشار بقوله  صلّى الله عليه وآله: « إنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي » .
فمن سلك مسلكه من وارثيه وتصوّر بصورته الباقية ، لا بدّ وأن يصل إلى الحقّ ،
 
ويأخذ الأحكام من معدنه ، ولكن في مادة الخاتم أيضا . فإن الواصل هو الرقيقة الاتحادية الأصليّة ، في صورة شخصيّة الخاتم ، فهم في صورة الخفاء والكمون بين أصحاب الخاتم . وإلى مثل ذلك أشار حيث لم يقل : « منّا »
وقال :رضي الله عنه :  ( وفينا من يأخذه عن الله ، فيكون خليفة عن الله بعين ذلك الحكم ، فتكون المادّة له من حيث كانت المادّة لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ) .
( فهو في الظاهر ) بصورة شخصيّته العنصريّة ( متّبع ، لعدم مخالفته في الحكم ) ، وإن كان في نفسه مستقلّ في أخذه ذلك الحكم ، ( كعيسى إذا نزل فحكم ) ، فإنّه في الظاهر متّبع ، وفي نفس الأمر مستقلّ .
وإذ كان للخاتم مرتبة تمام الإظهار في جميع ما يحقّق به غيره من الكمّل سرى ذلك في سائر الأحكام منه ، فكذا في أمر الاتّباع .
وإليه أشار بقوله : ( وكالنبي في قوله : “  أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه ْ “  ) [ 6 / 90 ] ، فإنّه ظهر أمر الاتّباع والاقتداء في مرتبة الإظهار الكلاميّ المعرب .
 
قال رضي الله عنه :  ( وهو ) - أي الحكم المأخوذ على الاستقلال من الوليّ المتّبع - ( في حقّ ما يعرفه من صورة الأخذ مختصّ ) بالآخذ من وجه و ( موافق ) لشرع النبيّ من آخر ، فالحكم المذكور للوليّ المتّبع ، ( هو فيه بمنزلة ما قرّره النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من شرع من تقدّم من الرسل ، بكونه قرّره ، فاتّبعناه من حيث تقريره ) الذي هو وجه موافقته ، ( لا من حيث أنّه شرع لغيره قبله ) الذي هو وجه الاختصاص .
 
 فضل حكم الرسول على حكم الخليفة
قال رضي الله عنه :  ( وكذلك أخذ الخليفة عن الله ) بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ( عين ما أخذه منه الرسول . فنقول فيه بلسان الكشف : خليفة الله ) - فإنّ الكشف هو المعرب عن وجه الاختصاص ، ليس إلا - ( وبلسان الظاهر : خليفة رسول الله .
 
ولهذا مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وما نصّ بخلافته عنه إلى أحد ولا عيّنه ) بوجه غير التنصيص ، ( لعلمه أنّ في امّته من يأخذ الخلافة عن ربّه ، فيكون خليفة عن الله مع الموافقة في الحكم المشروع ) ، لما تبيّن من لزوم اشتماله على وجهي الاختصاص والموافقة ، ( فلما علم صلَّى الله عليه وسلَّم لم يحجز الأمر ) .
 
قال رضي الله عنه :  (فللَّه خلفاء ) غير الرسل ( في خلقه يأخذون من معدن النبيّ والرسول ما أخذته الرسل عليهم السّلام . ويعرفون فضل المتقدم هناك ، لأن الرسول قابل للزيادة ) إذ لم يتمّ حينئذ أمر الإظهار ، ولم يختم أبواب خزائن النبوّة والرسالة .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فصّ حكمة وجوديّة في كلمة داودية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:12 am

17 - فصّ حكمة وجوديّة في كلمة داودية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

الجزء الثاني
17 - فصّ حكمة وجوديّة في كلمة داودية
قال رضي الله عنه :  ( وهذا الخليفة ) حيث أنّها بعد الخاتم ( ليس بقابل للزيادة ) فإن الأمر بعد ختمه وتمامه لا يقبل الزيادة بوجه ، وإلا فلا يكون ختما .
وهذا جهة فضل المتقدّم التي تعرفها الخليفة أن ما أخذته من الحكم لا يقبل الزيادة ( التي لو كان الرسول قبلها ) .
فبهذا فضل حكم الرسول على حكم الخليفة .
ثمّ إنّ إظهار العلم والحكم وتبيين الحقائق والمعارف من الأوضاع والأحكام المشروعة لما كان من خصائص منصب الوليّ والخليفة ، فهو يوهم أنّه زيادة من الخليفة ، نبّه على دفع مثله بقوله : ( فلا يعطى من العلم والحكم فيما شرّع إلى ما شرّع الرسول خاصّة ، فهو في الظاهر ) عند إظهار تلك الحقائق العلميّة والمعارف الحكميّة ( متّبع غير مخالف ) حيث أن إظهارها وتبيينها من عين ما شرّع الرسول مطابقا إيّاه ، مستنبطا ذلك منه ، ودالَّا هو عليه ( بخلاف الرسل ) .

قال رضي الله عنه :  (ألا ترى عيسى عليه السّلام لما تخيّلت اليهود أنّه لا يزيد على موسى مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرسول ) - زعما منهم أن لعيسى رتبة الخلافة مع موسى لا غير ، ولذلك لم يروه يزيد حكما على حكمه .
قال رضي الله عنه :  (آمنوا به وأقرّوه ، فلما زاد حكما أو نسخ حكما كان قد قرّره موسى ) ورأوا منه ذلك لإظهاره على صحائف الأزمان والأعيان ( لكون عيسى رسولا ) ومقتضى أمر الرسالة إظهار أحكامه المنزّلة عليه .


قال رضي الله عنه :  ( لم يحتملوا ذلك ، لأنّه خالف اعتقادهم فيه . وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه ) - من رسالة عيسى وأنّ إظهاره تلك الأحكام منه من تلك الحيثيّة الشريفة التي قد حصروها في موسى اعتقادا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فطلبت قتله . وكان من قصّته ما أخبرنا الله تعالى في كتابه العزيز عنه وعنهم . فلما كان رسولا قبل الزيادة - إمّا بنقص حكم قد تقرّر ، أو زيادة حكم ) وكلاهما صورة الزيادة .
فإن الزيادة إدخال ما لم يكن معتبرا قبل في درجة الاعتبار ، سواء كان بإضافة أمر وزيادته على السابق ، أو بإسقاط شيء ونقصه عنه ، وإليه أشار بقوله : 

مسألة الاجتهاد
قال رضي الله عنه :  (على أن النقص زيادة حكم بلا شك ، والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب ) ضرورة أنّ بعد ختم الرسالة ، يعني بلوغ أمر الإظهار إلى مرتبة تماميّته وختم خزائن الأحكام والأوضاع الشرعيّة المنبئة عن الحقائق بما هي عليه في نفس الأمر
قال رضي الله عنه :  ( وإنما تنقص أو تزيد على الشرع الذي قد تقرر بالاجتهاد ) المنوط أمره برؤية الأئمّة وآراء العلماء .

وفي ذلك من وجوه السعة وصنوف الاحتمالات ما لا يخفى . فإنّهم مختلفون فيه حسب اختلافهم في مدارج الأذهان والقرائح تارة ، وفي موادّ العلوم والمعتقدات أخرى ، وذلك في الأحكام الخالية عن النصوص الجليّة والسنن البيّنة المؤيّدة بالقرائن ، فإنّ النصوص ما لم تكن كذلك تكون مورد تطرّق الاحتمالات ، فإنّ الألفاظ الدالَّة بتوسّط الأوضاع لا يخلو عن وجوه من الاحتمالات - مثل الحذف والإضمار وصنوف المجاز وغير ذلك .

 وفي عبارة الشيخ حيث قال : ( لا على الشرع الذي شوفه به محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ) إيماء إلى ذلك ، فإن المشافهة تستتبع تلك القرائن ، دون التنصيص .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقد يظهر من الخليفة ما يخالف حديثا ما في الحكم ، فيتخيّل أنّه من الاجتهاد ، وليس كذلك وإنما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي ، ولو ثبت لحكم به ، وإن كان الطريق فيه العدل عن العدل ، فما هو معصوم من الوهم ) الذي هو مبدأ السهو والنسيان .
قال رضي الله عنه :  ( ولا من النقل على المعنى ) الذي هو مثار سائر التبديلات والتحريفات .

( فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم ، وكذلك يقع من عيسى ) حين يزيد في الشرع ما يزيد ، ( فإنّه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرّر ) في زماننا بتقرير المجتهدين من الأئمّة الأربعة وغيرهم .

قال رضي الله عنه :  ( فيبيّن برفعه صورة الحقّ المشروع الذي كان عليه عليه الصلاة والسلام ) فإنّ الذي عليه الحقّ في نفسه من الصور التي اختلفت الأئمّة في زماننا فيها ، إنما هو الواحد منها بلا شكّ ، ( ولا سيّما إذا تعارضت أحكام الأئمّة في النازلة الواحدة ) .
                                                                  
قال رضي الله عنه :  (فتعلم قطعا أنّه لو نزل وحي لنزل بأحد الوجوه ، فذلك هو الحكم الإلهي ، وما عداه - وإن قرّره الحقّ - ) في صور المجتهدين على ما مكَّنهم محمد صلَّى الله عليه وسلم في ذلك حيث قال : « أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم » فهو رحمة للعالمين .

( فهو شرع تقرير ) إنما عمل ذلك ( لرفع الحرج عن هذه الامّة واتّساع الحكم فيها ) فإنّه لو لم يتعلَّق أمر إثبات الأحكام بالاجتهاد ما كان يظهر فيها الوجوه المتكثّرة التي هي صورة سعة الحقّ ، وهي مقتضى الرحمة المجبول عليها محمّد صلَّى الله عليه وسلم .

الخليفة الظاهرة واحدة
ثمّ لما استشعر أن يقال : « إنّ تعارض أحكام الخلفاء والمجتهدين ينافي ما عليه اتّفاقهم عن الأصل الذي ثبت صحته عن النبي عندهم من قتل الثاني من الخليفتين » ،

رفع ذلك بقوله : ( وأمّا قوله صلَّى الله عليه وسلم : « إذا بويع لخليفتين ، فاقتلوا الآخر منهما » ، هذا في الخلافة الظاهرة التي لها السيف ، وإن اتّفقا فلا بدّ من قتل أحدهما ) - وهو الآخر رتبة وزمانا .
(بخلاف الخلافة المعنويّة ، فإنّه لا قتل فيها ) فإنّه لا يزاحم أحدهما الآخر كما في الصورة التي هي موطن التزاحم ومحل الضيق والتصادم .

وإليه أشار بقوله : ( وإنما جاء القتل في الخلافة الظاهرة ) مطلقا ( وإن لم يكن لذلك الخليفة ) الظاهرة التي في الثانية من الرتبة (هذا المقام ، وهو ) مقام أخذ الحكم عن الله .

فإنّ ذلك لا يتعلَّق بالصورة التي هي الحاكمة بالقتل . فبين هذه الخليفة وبين الخليفة الأولى تخالف في رتبة الخلافة ، غير متّحد في النسبة فيها .
فإنّ الأولى أخذه عن الله ، وهو خليفة الله حقيقة والثانية ليست له هذا المقام ( خليفة رسول الله إن عدل ) .

فوجوب القتل فيها - مع تفاوت النسبة المعنويّة - لما في تعدّد ولاة الأمر والخلفاء الصوريّة من الفساد الذي في دليل التمانع ، الوارد في التنزيل السماويّ ، الذي هو أصل سائر الأحكام .

وإليه أشار بقوله : ( فمن حكم الأصل الذي به يحيل وجود إلهين ) جاء مثله ،
وهو قوله تعالى : (" لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا “  [ 21 / 22 ] وإن اتّفقا ) وذلك لأنّه على اتّفاقهما إمّا أن ينفذ حكم كل منهما في الآخر ، فلا يكون واحد منهما إلها ، لنفوذ حكم الآخر فيه .
وإن لم ينفذ أيضا فكذلك ، لعدم القدرة والعجز . وإن نفذ حكم أحدهما دون الآخر فالنافذ الحكم هو الإله ، فلا يكون في الآلهة تعدّد أصلا .

لا يجري حكم في العالم بغير مشيئة الله تعالى
ثم إنّه لما كان الكلام في قتل الخليفة الثانية - وإن عدلت - لذلك قيّد الدليل بقوله : « وإن اتّفقا » تطبيقا لما هو بصدد تبيينه من المدّعى ، وبعد ذلك تعرّض للشقّ الآخر تعميما للدليل بقوله : ( فنحن نعلم أنّهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما ) فقط ،

قال رضي الله عنه :  ( فالنافذ الحكم هو الإله على الحقيقة ، والذي لم ينفذ حكمه ليس بإله . ومن هنا تعلم أن كلّ حكم ينفذ اليوم في العالم أنّه حكم الله وإن خالف الحكم المقرّر في الظاهر - المسمّى شرعا - إذ لا ينفذ حكم إلا لله في نفس الأمر ، لأنّ الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة الإلهية ، لا على حكم الشرع المقرّر ، وإن كان تقريره في المشيئة . ولذلك نفذ تقريره خاصّة ) دون العمل بأحكامه والتزام ما جاء به .


قال رضي الله عنه :  ( فإن المشيئة ليست لها فيه إلا التقرير ) أي إثبات عينه في الخارج ( لا العمل بما جاء به ) .
وكأنك قد اطَّلعت في مطلع الفصّ الآدمي عند الكلام على المشيئة ما يلوّح على هذا الكلام وعلى اشتقاق الشيء منها .
قال رضي الله عنه :  ( فالمشيئة سلطانها عظيم ) حيث أنّه لا شيء إلا ويستقرّ أمره بالمشيّة ، فهي مستقرّ الأشياء في الوجود ( ولهذا جعلها أبو طالب عرش الذات ، لأنها لذاتها تقتضي الحكم ) وتثبت الأمر وتقرّره بالذات ، دون توسّط رسالة نبيّ ولا دلالة أمر تنزيلي .

 
"" أضاف الجامع :
 قال الشيخ رضي الله عنه : 
إن المشيئة عرش الذات ليس لها ... في غيرها نسبة تبدو ولا أثر
وهي الوجود فلا عين تغايرها ... تفنى وتعدم لا تبقي ولا تذر

قال الشيخ رضي الله عنه :  في الفتوحات الباب الثاني عشر وثلاثمائة
"" ليس للإرادة اختيار ولا نطق بها كتاب ولا سنة ولا دل عليها عقل وإنما ذلك للمشيئة فإن شاء كان وإن شاء لم يكن  قال عليه السلام: "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن" .
فعلق النفي والإثبات بالمشيئة وما ورد ما لم يرد لم يكن بل ورد لو أردنا أن يكون كذا لكان كذا فخرج من المفهوم الاختيار فالإرادة تعلق المشيئة بالمراد وهو قوله إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ هذا تعلق المشيئة
وقد ذهب بعض الناس من أهل الطريق أن المشيئة هي عرش الذات وهو أبو طالب أي ملكها أي بالمشيئة ظهر كون الذات ملكا لتعلق الاختيار بها فالاختيار للذات من كونها إلها فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وهو التردد الإلهي
في الخبر الصحيح ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نسمة المؤمن يكره الموت. أهـ
تقول د. سعاد الحكيم :
إن المشيئة هي عرش الذات من حيث أن المتصوفة وخاصة أصحاب وحدة الوجود يرمزون إلى الوجود بالعرش ، فالمشيئة هي النسبة الإلهية التي استوت عليها الذات فأظهرت الوجود بأسره . ""


قال رضي الله عنه :  ( فلا يقع في الوجود شيء ، ولا يرفع خارجا عن المشيئة ، فإن الأمر ) التنزيلي ( الإلهي إذا خولف هنا بالمسمى معصية ، فليس إلا الأمر بالواسطة ) أعني الأمر التنزيلي الذي هو بواسطة النبيّ ، ( لا الأمر التكوينيّ ) الذي لا واسطة فيه .

قال رضي الله عنه :  ( فما خالف الله أحد قطَّ في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة ) التي لا دخل للواسطة فيه ولا لغيرها مما يشوب به صرافة الوحدة ( فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة ، فافهم ) حيث أن منشأ المخالفة إنما هو إدخال الواسطة الحاكمة على ما يترتّب على إيجاد الفعل من العوارض الاعتباريّة التي تعرض الفعل المذكور بالإضافة إلى فاعله المخصوص في الزمان الخاصّ ، كالإباحة والحرمة وغيرهما .

مرجع المعصية والطاعة 
قال رضي الله عنه :  (وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنما يتوجّه على إيجاد عين الفعل ، لا على من ظهر على يديه ، فيستحيل إلا أن يكون ) ذلك الإيجاد بعينه ، ضرورة توجّه الأمر قادرا عليه ومستعليا وحاكما ومستوليا ، ولتضمّن التوجّه المذكور في نفسه هذه المعاني كلَّها عدّاه بـ "على " .
فعلم أنّ متوجّه أمر المشيئة المتحتّم امتثاله إنما هو إيجاد عين الفعل مطلقا .
ولكن لما كان ذلك إنما يتصوّر وجوده في الخارج ، إذا كان في محلّ وزمان يشخّصانه ، وبذلك يصير عرضة للمدح والذمّ والمخالفة والمعصية .

كما ورد في الحديث : " كلّ مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه " ، وإلى ذلك أشار بقوله : ( ولكن في هذا المحلّ الخاصّ فوقتا يسمى به مخالفة لأمر الله . ووقتا يسمّى موافقة وطاعة لأمر الله ) وذلك بحسب ما عيّنه الشارع ، حيث أن المشخّصين المذكورين إذا كان تشخيصهما في الحد الذي عيّنه الشارع يكون محمودا ، وإذا وقع خارجا عنه يكون مذموما . ولذلك قال : ( ويتبعه لسان الحمد والذمّ على حسب ما يكون ) فيه من جهتي الموافقة والمخالفة.

مآل الخلق إلى السعادة
قال رضي الله عنه :  ( ولما كان الأمر في نفسه على ما قرّرناه ) من أنّ الحمد والذمّ والموافقة والمخالفة منشؤها إنما هو المشخّصات الخارجيّة ، وهي نسبة ذلك العين إلى الزمان والمكان المخصوص ، والنسب إنما هي اعتبارات محضة لا حظَّ لها من الوجود ،

فيكون عين الأفعال التي هي متوجّه أمر المشيئة في نفسها مبرّأة عن هذه النسب ، وإن كان في الخارج لا يخلو عن نسبة من تلك النسب ، ( لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة - على اختلاف أنواعها - ) ، فإنّ لكل نسبة خاصيّة وأثرا يترتّب عليها . إمّا في طرف الحمد - ويسمّى بدرجات الجنّة.
أو في جهة الذمّ - ويسمّى بدركات الجحيم ، والكلّ سعادة لشمول الرحمة إيّاه .

قال رضي الله عنه :  ( فعبّر عن هذا المقام بأنّ « الرحمة وسعت كل شيء » ) من متوجّهات أمر المشيئة ، ( وأنّها سبقت الغضب الإلهي ) سبقا ذاتيّا يستلزم العلوّ والاستيلاء ، ( والسابق متقدّم ) في الوجود ونفاذ الأمر ، ( فإذا لحقه هذا الذي حكم عليه المتأخّر ) يعني الغضب المسبوق بالقهر والشقاوة ( حكم عليه المتقدّم ) يعني الرحمة السابقة باللطف والسعادة ، ( فنالته الرحمة إذ لم يكن غيرها سبق ) بالعلو الإحاطي الذي هو أثر التقدّم الذاتي.


 سبقة الرحمة على الغضب
قال رضي الله عنه :  ( فهذا معنى « سبقت رحمته غضبه » لتحكم على من وصل إليها . فإنّها في الغاية وقفت ) ، وهي الحدّ المحيط الذي ما وراءه شيء ، ( والكل سالك إلى الغاية ) ، متوجّه إليها في الحركة الظهوريّة ، ( فلا بدّ من الوصول إليها ، فلا بدّ من الوصول إلى الرحمة ومفارقة الغضب ) الذي له عند فقدان الغاية والحدّ ( فيكون ) الحاكم هو الغاية ،
و ( الحكم لها في كلّ واصل إليها بحسب ما يعطيه حال الواصل إليها ) وإذ كانت أحوال الواصلين متخالفة الأنواع ، تكون سعاداتهم متخالفة بحسبها .

ثمّ إنّه إذ قد انساق الكلام في الحكمة الوجوديّة إلى هذه الجمعيّة الحقيقيّة والتفصيل الجمعيّ ، حان أن ينتقل إلى النظم ويتنقل في مجلس انبساط الذوق ونشوات معارفه المنعشة للروح بلطائف ثمرات الوقت ويوانع الزمان ،

من مقطعات التفصيل ومنظومات الإجمال ، فإنّك قد نبّهت غير مرّة على أنّ النظم يكشف عن وجوه جمال الإجمال ما لا يكشفه غيره من العبارات ،
فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا ....   وإن لم يكن فهم فيأخذه عنّا

بقوله رضي الله عنه  :( فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا ) مشاهدة يقين عينيّ ، فإنّه يفهم من مسطورات صحائف الأكوان ، سيّما في هذه الأوان ، أمر الإجمال على التفصيل الذي حقّقه ، واقتصاره على الفهم تنبيه على أنّ الزمان هذا مما يكفيه مجرّد الفهم ، ولا يحتاج إلى ترقّيه إلى رتبة الذوق ، لأنّ العقل إذا صفى موارد إدراكاته عن شوائب التقليدات وشواكل العقائد من الخياليّات لا يقصر فهمه عن إدراك الحقّ فيه .

قال رضي الله عنه :  ( وإن لم يكن فهم فيأخذه عنّا ) وذلك أيضا بعد تصفية الباطن عن ضروب العقائد التقليديّة الظنيّة ، حتى يكون له قابليّة الأخذ من ذوي الحقائق اليقينيّة .

وفيه استشعار ما ورد في الحديث  : « الناس عالم أو متعلَّم والباقي همج » .

"" أضاف الجامع : 
1 - عن خالد بن معدان، قال: الناس عالم ومتعلم، وما بين ذلك همج لا خير فيه"إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة ابن حجر العسقلاني 
2 - عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: «الناس عالم، ومتعلم، ولا خير، فيما بعد ذلك». رواه الدارامي 
3 - وروي عن علي رضي الله عنه قال: «الناس ثلاث، فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة، والباقي همج رعاع أتباع كل ناعق» جامع البيان للقرطبي ""

وإليه إيماء بقوله : ( فما ثمّ إلا ما ذكرناه   .... فاعتمد عليه وكن بالحال ) التي أنت ( فيه ) في زمانك ، ( كما كنّا ) في زماننا
فمنه إلينا ما تلونا عليكم  ..... ومنّا إليكم ما وهبناكم منّا

قال رضي الله عنه :  ( فمنه إلينا ما تلونا عليكم ) من الصور الكتابيّة والكلاميّة المنزلة التي هي الكاشفة عن كنه التفاصيل ، كما بيّن في ديباجة الكتاب ،

قال رضي الله عنه :  (ومنّا إليكم ما وهبناكم منّا ) من الحقائق والمعارف التي هي لبّ تلك الصور ، وتلك الحقائق هي عين حقيقة الكمّل وفصّ كلمتها ، لا غيرها عند التحقيق . ف : « منّا » الثانية ، بيان ل « ما » على هذا التقدير .
ويحتمل أن يكون صلة للوهب ، والأولى منها ابتدائية .

ولما كانت هذه الحكمة من خزانة الوهب - كما بيّن - وباطن الكلمة الداوديّة وبيّناتها كاشفة عنها ، صرّح بعبارة الوهب تطبيقا لما مهّد سابقا .
وحاصل هذا الكلام أنّ الواصل إليه من المبدء بوساطة النبيّ صلَّى الله عليه وسلم إنما هو الكلام المتلوّ الكاشف عن الكل ، ذوقا لا لغة ووضعا .
وأما المعارف التي أظهرها وباح بإفشائها في عبارات دالَّة عليها وضعا ولغة ، فهي مستنبطة أولا من أصل حقيقتها ، التي هي الكتاب الجامع ،

ولتوافق النسخ وجد الكلام المنزل مطابقا له كما قيل :
يا معدن الأسرار يا كنز الغنى    ..... يا مشرق الأنوار للمتوسّم
يا عين غيب الله يا سرّ الهدى     ..... يا نقطة الخط البديع الأقوم
اقرأ كتابك قد كفى بك شاهدا     ..... يهديك منك علوم ما لم تعلم
وافقه رسوم هياكل قد أنزلت     ..... ينبئك عن سرّ الكتاب المبهم

وفي ترك لام الصلة بين « الوهب » ومفعوله إشعار بما بين الواهب والموهوب له من وجوب المناسبة الاتّصالية ، وعدم تخلَّل الوسائط هنالك.

تأويل تليين الحديد لداود عليه السّلام
ثمّ إنّه من الحكم المختصّة بالكلمة الداوديّة أمر تليين الحديد ، وهو إشارة إلى بلوغ تأثيره لدى الإبلاغ إلى أعصى البريّة للقبول ، وأقواها للإباء عند الدعوة النبويّة ، فإنّ قابليّات الأمم واستعداداتهم متخالفة في ذلك :
فمنهم من ليس له في مقابلة تلك الدعوة إلا القبول والإذعان ، وسائر الأنبياء في تسخيرهم متساوي القوّة لا اختلاف لهم في ذلك .
ومنهم من له قوّة التقابل والتجادل عند دعوتهم متمسّكين بالشبه الناشئة لديهم من الحجج ، والدلائل الدالَّة على عقائدهم التي لهم ، والأنبياء في تربيتهم متفاوتو القوّة ، متخالفون لدى التأثير والتصرّف .

 وهم أيضا على اختلاف طبقاتهم طائفتان : منهم من يمكن أن يليّن شدّة إبائهم ، وهم بمنزلة الحديد في العصيان ، فإنّه يلينهم نار الزجر بالوعد والوعيد ، وإحراق ذلك شوائب شبههم . ومنهم من لا يمكن فيهم ذلك أصلا ، فهم في عدم القبول والامتناع عن التليين كالحجارة أو أشدّ قساوة منها .

ثمّ اعلم أن الأنبياء والمرسلين الذين لهم الخلافة والظهور بالسيف لا بدّ لهم في ذلك من تسخير الطائفة الثانية ، حتى يقابلوا بها أعداءهم الواقعين في تلك الدرجة ، فإنّ الحديد بالحديد يكسر ، وكذلك الحجارة أيضا .

 وإلى ذلك كلَّه أشار بقوله رضي الله عنه  : ( وأما تليين الحديد ، فقلوب قاسية يلينها الزجر والوعيد ، تليين النار الحديد ) وهو إشارة إلى الطائفة الثانية ،
( وإنما الصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة ) ، وهذه إشارة إلى الطائفة الثالثة ،
وإنما كانوا أشدّ قساوة من الحجارة ( فإنّ الحجارة تكسرها وتكلسها النار ) فيفنى صورتها النوعيّة بالكليّة ( ولا يلينها ) مع بقاء تلك الصورة وترتّب آثارها وأوصافها عليها .

ثمّ يشير إلى ما مهّدنا قبل من أنّ الظاهر بالخلافة لا بدّ له من تسخير الطائفة الثانية التي حكمة مظاهرته بهم بقوله رضي الله عنه  : ( وما ألان له الحديد إلا لعمل الدروع الواقية تنبيها من الله . أي لا يتّقى الشيء إلا بنفسه ) ، فإنّ الأنبياء عليهم السّلام ما لم يكونوا متلبّسين ومحفوفين بأقوام أشدّاء على مقاومة الأعداء .

 الذين هم في الشدّة يماثلهم ، لم يمكن لهم أن يظهروا بالخلافة على الأمم .
ولما كانت طوائف الأعداء متخالفين بالنوع في شدّتهم وتمانعهم لقبول الدعوة الحقّة ، والطائفة الثانية إذا استكملوا بقرب الأنبياء وفازوا بقوّة الاقتفاء لهم تقاوموا جميعهم في فنون نكاياتهم وحروبهم .

أشار إلى ذلك بقوله رضي الله عنه  : ( فإنّ الدرع ) - يعني الطائفة الثانية - ( يتّقي به السنان والسيف والسكَّين والنصل ) ، إشارة في تفضيله إلى تنوع طوائف الأعداء وتطوّر حروبهم وتمانعهم ، مع كفاية الطائفة الثانية لقربهم إلى الأنبياء لمقاومة الكل .
وسرّ هذه الحكمة وروحها هو ظهور الوحدة الإجماليّة والإطلاق الذاتيّ في أقصى غايات الكثرة ونهاياتها ،

وعنه أفصح بقوله رضي الله عنه  : ( فاتّقيت الحديد بالحديد ، فجاء الشرع المحمدي ) المعرب المبين ( بـ « أعوذ بك منك » ) حيث أنّه عبّر عن تلك الجهة الجمعيّة الإجماليّة والوحدة الذاتيّة بكاف الخطاب ، الكاشف عن كنه الكل ( فافهم ) فإن كاف الخطاب مع دلالته على الوحدة التنزيهيّة لا يخلو من حيث الخطاب عن الجمعيّة التشبيهيّة .
قال رضي الله عنه :  ( فهذا روح تليين الحديد ، فهو المنتقم ) الذي في عين كونه منتقما وهو ( الرحيم . والله الموفق ) لفهمه وتحقيقه .

تم الفص الداودي
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 18 - فصّ حكمة نفسية في كلمة يونسية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأحد يناير 19, 2020 6:24 pm

18 - فصّ حكمة نفسية في كلمة يونسية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليونسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
18 - فصّ حكمة نفسية في كلمة يونسية
وجه تسمية الفصّ
ووجه اختصاص الكلمة اليونسيّة بالحكمة النفسيّة ما في أصل حقيقة النفس وكنه قابليّتها من أنّها ما لم تتنزّل من معارج أعالي القدس ومطالع أنوار الجبروت إلى محاوي أسافل بحور الجسم وظلمات بطون حيتان الأمزجة ، لم يحصل لها استعداد الترقّي إلى مراقي القرب ونادي الخطاب والمناداة ، حتى فاز في عين تلك الظلمات بالتوحيد التنزيهيّ في حضرة الحضور ، والتسبيح الجمعي في مجلى الخطاب ، إلى أن نفّسه الله تعالى من كربه ونجّاه من تعبه .
 
فعلم أن للكلمة اليونسيّة اختصاصا بمادّة حروف النفس - بفتح الفاء كانت أو بسكونها - فإنّ الجهة الامتيازيّة بين المادّتين إنما هو الفاء والواو ، وذلك تتقاربان لفظا ومخرجا .
وإنما يفترقان رقما بالاتصال الموجب للخفاء ، والانفصال الحاكم بالظهور .


ثمّ إنّك قد عرفت عند الكلام على وجه ترتيب الكتاب ونظم فصوصه على النسق المخصوص أن الكلمة اليونسيّة هي التي تمّت بها السير الكمالي ، الذي في عرض الأرض الاعتدالي الإنساني ، صوب إظهار الأوضاع الكماليّة من الصور الشرعيّة والأحكام المشعرة ،
ولذلك تراها وقد جمعت بين الرسالة إلى مائة ألف أو يزيدون وهي منتهى مراتب الإظهار وبين الاختفاء في غياهب طبقات الظلمات ، فإنّ كل متوجّه إلى طرف ما لم يصل إلى ما يقابله من الطرف الذي يضادّه في تلك الجهة المتوجّه إليها لم يتمّ له ذلك الطرف عند التحقيق.


ومن هاهنا ترى الهويّة المطلقة - التي هي موطن كل كمال وتمام - يسمّى عند القوم بمجمع الأضداد ومعتنق الأطراف .
وبيّن أن منتهى أمر هذا الإظهار المذكور هي الخلافة المترتّبة على الرسالة .
ومن جملة أحكام الخلافة وخصائصها اللازمة لها الغلبة على بني نوعه وقهرهم وقتل الأنفس منهم ، فلذلك بنى الكلام في هذا الفصّ عليه وأطنب في تحقيقه .
 
من يتولَّى حلّ نظام النشأة الإنسانيّة ؟
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أنّ هذه النشأة الإنسانية بكمالها ) - عند بروز ما استجنّ في أرض قابليّتها على مزارع الإظهار ( روحا ونفسا وجسما - خلقها الله على صورته ) الجامعة بين التنزيه الذي هو مدرك الروح ، والتشبيه الذي هو مدرج الجسم ، والجامع بينهما أعني اللطيفة التي هي النفس الناطقة وهي المسمّاة بالقلب في عرفهم الخاصّ .
فإطلاق النفس هاهنا على النفس الناطقة بالعرف العامّ الذي عليه كلمة أهل النظر والحكماء وكثيرا ما يتنزّل في هذا الكتاب على عرفهم ومداركهم ، كما قد اطَّلعت عليه في الفصّ الآدمي .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا يتولَّى حلّ نظامها إلا من خلقها ) ، وذلك التولية ( إمّا بيده )  كما سبق بيانه في حكم المشيئة التي هي بلا واسطة .
""أضاف المحقق :  المؤلف يتعرض لما قاله القيصري : " أو بواسطة أمره ، وهو الملك ، فسمى الملك أمرا لكونه موجودا بالأمر ، كما يسمى عالم الأرواح بالأمر " .""
 
كما قال : “  الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها “  [ 39 / 42 ] ( وليس ) في الحقيقة ( إلا ذلك أو بأمره ) وهو الذي بالواسطة ، أي بواسطة الرسل وأحكامهم المنزلة عليهم .
 
فلا يحتاج إلى أن يجعل « الأمر » بمعنى « الملك » فإنّ أمر الرسل أمره بالواسطة .
وقد حقّق آنفا أنّ الواقع في نفس الأمر لا يخلو عن الأمرين ، والكلّ تحتهما وإن كان عند التحقيق - الذي بالواسطة بيد الله ، كما سبق في بحث المشيئة تحقيقه .
وكان قوله : « وليس إلا ذلك » إشارة إلى هذا المعنى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن تولَّاها بغير أمر الله فقد ظلم نفسه ) من حيث أنه هدم صورته الكاملة ( وتعدّى حدّ الله فيها ) ومن حيث أنه حكم بالكفّ عنه ( وسعى في خراب من أمره الله بعمارته ) وهو إصلاح الصورة وإتمام أمرها . فإنّ سائر الأنبياء إنما وضعوا الأحكام لإتمام تلك الصورة وإحكام نظامها ، فإن سائر تلك الأحكام متعلقة بأفعال هذه الصورة ، والفعل تمام صورة الشخص.
 
 مراد الخالق إبقاء الحياة وتعميرها ، لا هدمها
قال الشيخ رضي الله عنه :  (واعلم أنّ الشفقة على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغيرة في الله ) 
فإنّ الأول مبدؤه وأصله الرحمة . 
والثاني منشؤه القهر والغضب .
فإنّ سائر أوصاف العبد وأفعاله فرع أوصاف الحقّ وظلالها .
وقد عرفت أنّ الرحمة هو السابق حكما وإحاطة ، فهي أحقّ بالرعاية لقربها إلى الذات ، فكذلك ما يتفرّع عليها من أوصاف العبد .
ومما يؤيّد ذلك أن داود لما تمّ له أمر الخلافة والرسالة استقرّ على عرش إيالته و ( أراد داود بنيان بيت المقدس ، فبناه مرارا ، فكلَّما فرغ منه تهدّم . فشكا ذلك إلى الله فأوحى الله إليه : إنّ بيتي هذا ) أي البيت المقدس .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لا يقوم على يدي من سفك الدماء ) وذلك لأنّ سفك الدماء مبدؤه من الغيرة ، التي إنّما تنشأ وتشتقّ من « الغير » ، وهو ينافي التقدّس .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فقال داود : " يا رب ألم يكن ذلك في سبيلك ؟ " . قال : « بلى ، ولكنهم أليسوا بعبادي ؟ » . قال : " يا رب فاجعل بنيانه على يدي من هو منّي " . فأوحى الله إليه : « إن ابنك سليمان يبنيه » . فالغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الإنسانية ، وأنّ إقامتها أولى من هدمها ) .
 
شواهد مراعاة النشأة الإنسانيّة في الشرع
هذا ما في الأمم السالفة ، وفي شريعتنا أيضا ما يؤيّد ذلك ، ( ألا ترى عدوّ الدين ) مع كمال اهتمام واضع الدين بإقامة أحكامه ، وذلك على أنّه منوط برفع العدوّ وقمعه ، ( قد فرض فيهم الجزية والصلح ، إبقاء عليهم ، وقال : " وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى الله " ) [ 8/61].
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا ترى من وجب عليه القصاص ، كيف شرّع لوليّ الدم أخذ الفدية أو العفو ؟ فإن أبى فحينئذ يقتل ألا تراه سبحانه إذا كان أولياء الدم جماعة فرضي واحد بالدية أو عفى - وباقي الأولياء لا يريدون إلا القتل - كيف يراعى من عفى ويرجّح على من لم يعف ، فلا يقتل قصاصا ألا تراه يقول صلَّى الله عليه وسلَّم في صاحب النسعة ) ،
وهي حبل عريض كالحزام ، قيل : إنّها كانت لرجل وجد مقتولا ، فرأى وليّه النسعة في يد رجل ، فأخذ بدم صاحبه فلما قصد قتله
قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : ( « إن قتله كان مثله » ) أي في الظلم ، إذ لا يثبت به القصاص شرعا .
""أخرج ابن ماجة  : « أتى رجل بقاتل وليه إلى رسول الله ، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : اعف . فأبى . فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : خذ أرشك . فأبى . قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : اذهب فاقتله فإنك مثله » . ""
وفيما يثبت أيضا ، فإنّه هدم بنيان الحقّ .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا تراه يقول : “ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها “  [ 42 / 40 ]  فجعل القصاص سيّئة ، أي يسوء ذلك الفعل ، مع كونه مشروعا ؟ “  فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُه ُ عَلَى الله “ لأنّه على صورته ، فمن عفى عنه ولم يقتله فأجره على من هو على صورته لأنّه أحقّ به إذ أنشأه له).
أي الحقّ ما أنشأ هذه النشأة الكاملة العبديّة إلا لنفسه ، فإنّه ما تصوّر إلا به .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما ظهر بالاسم الظاهر إلا بوجوده ، فمن راعاه إنما يراعى الحقّ ) إذ قد تقرّر غير مرّة أن العبد ممحوّ ، والعبودية ممحوّة الأثر .
 
مرجع الذمّ والحمد
ثمّ إنّه لما استشعر أن يقال هاهنا : كيف يصحّ أن يكون ذلك صورة الحقّ ، وهي مذمومة تارة ومحمودة أخرى ؟
نبّه على جوابه بقوله رضي الله عنه  : ( وما يذمّ الإنسان لعينه ، وإنما يذمّ الفعل منه ، وفعله ليس عينه ، وكلامنا في عينه ) أنّه صورة الحق .
فلئن قيل : الفعل له عين أيضا موجودة ، فكيف يصحّ أن يكون مرجع الذمّ - وهو العين من حيث هي - غير مذمومة ؟
قلنا : إنّ عين الفعل من حيث أنّها عين غير مذمومة ، وإنما اكتسبت ذلك من النسبة التي له إلى عين تلك الصورة ،
وأشار إلى هذا الاستكشاف بقوله رضي الله عنه : ( ولا فعل إلا لله ، ومع هذا ذمّ منها ما ذمّ ) أي ذم الفعل من العين واكتسب منها ذلك عند نسبته إليها ( وحمد ما حمد ) وفي بعض النسخ : وحمد منها .
 
ثمّ إنّه يمكن أن يقال : إنّ منشأ الذمّ إذا كان مجرّد نسبة الفعل إلى العين فكيف يكون الفعل منها محمودا تارة ، ومذموما أخرى ؟
فبيّن كيفية ذلك التمييز والتفصيل بقوله : ( ولسان الذمّ على جهة الغرض ) أي لغرض من الذامّ بخصوصه ، لا على جهة العموم وحفظ صورة الجمعيّة ( مذموم عند الله ولا مذموم إلا ما ذمّه الشرع ) الحافظ لتلك الصورة ، فإنّه هو الكاشف عن أحكام الأعيان وأوصافها .
إذ زمام أمر الإظهار إنّما هو بيده ، وهو الذي يتمكَّن عن إظهار بعض الأشياء بالحمد له وإخفاء الآخر بذمّه .
 
المشيئة والتشريع 
وبيان ذلك أنّك قد عرفت أن الأمر المقتضي لإيجاد المكوّنات - عينا كانت أو حكما - له مدرجتان في التنزل : إحداهما ذاتيّة بلا واسطة ، إنّما يتوجّه إلى تحقق الأعيان فقط ، وهو المشيئة ، والذي يتوجه لتحصيله هو الشيء ، وهو لكونه ذاتيّا لا يخالف - كما مرّ بيانه  والأخرى بالواسطة وهي إنما يتوجّه إلى أحكام الأعيان وأوصاف أفعالها وهو التشريع .
والذي يتوجّه لتحصيله هو الشرع .


وهاهنا تلويح كاشف : وهو أن شين « الشكل » الشاخص للمعاني ، إذا ظهر بحروف المدّ - التي هي مبادئ أصول الحروف وموادّ عيونها وذواتها - إنما يصلح لأن يدلّ على أعيان الموجودات فقط ، وهو « الشيء » الحاصل من أمر المشيئة .
 
وإذا ظهر بحروف الإظهار - أعني الراء والعين ، فإنهما لا يجتمعان في كلمة إلا ويدلّ ذلك على الإظهار فإنّهما أصل الرؤية والعيان - وهو الذي يصلح لأن يكشف عن أحكام الأعيان وإظهار أوصافها ، وذلك هو الشرع الحاصل من أمر التشريع .
 
وجه المذموميّة المصلحة الشرعيّة 
ثمّ إن وجه لمّية أمر الإظهار أعني بيان محموديّة بعض الأفعال وخصوصيّتها المقتضية لها ، ومذموميّة الاخرى من جلائل الحكم ودقائقها . فإنّ الكل من حيث أنّه مظهر لأوصاف الحقّ وأسمائه فهو محمود . فإن ذمّه الشرع فلمصلحة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن ذمّ الشرع لحكمة ) دقيقة لا يطَّلع عليها بالقوّة البشريّة ، بل ( يعلمها الله أو من أعلمه الله كما شرع القصاص للمصلحة ، إبقاء لهذا النوع وإرداعا للمتعدّي حدود الله فيه ) توفية لحكمي المقتضي والمانع .
 
والذي يكشف عن تلك المصلحة قوله تعالى : ( “  وَلَكُمْ في الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الأَلْبابِ “  [ 2 / 179 ] “  ، فخصّ الخطاب باولي الألباب تنبيها على أن هذا السرّ إنّما يختصّ به هؤلاء
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهم أهل لبّ الشيء ، الذين عثروا على سرّ النواميس الإلهيّة والحكميّة ) ، فإنّ للبّ مدرجتين : إحداهما خصوصيّة صورة الشيء ذي اللبّ ، مما يتعلَّق بظهور آثاره وخواصّه بين العباد وهي الحكميّة  والأخرى جهة أصله ومعناه ، مما يتعلَّق بحقيقته من النسبة التي لها إلى الأسماء الإلهيّة .
و "الباء " يلوّح إلى هذه المدرجة الأسمائية ، كما عرفت وجه ذلك .
واللام إلى الأولى فإنّها إشارة إلى تمام التفصيل الكتابيّ ، وذلك هو تمام الحكمة .
هذا كلام وقع في البين . والحاصل منه تمهيد مقدّمة كاشفة عن غاية هذه النشأة وطريق تحصيلها برعاية بنيتها تأسّيا بالحكمة الإلهيّة . وهي أن الله تعالى راعى هذه النشأة .
 
لزوم مراعاة إقامة النشأة الإنسانيّة 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا علمت أنّ الله راعى هذه النشأة ) في مراعي الأكوان ( و ) راعى ( إقامتها ) في دار الحدوث والإمكان ( فأنت أولى بمراعاتها ، إذ لك ) في مراقي الكمالات ( بذلك ) النشأة وإقامتها ( السعادة ) العظمى ( فإنّه ما دام الإنسان حيّا ) بهذه النشأة الجمعيّة الإحاطيّة ( يرجى له تحصيل صفة الكمال الذي خلق له ) من شهود الحقّ بجميع أسمائه وعبوديّته لله ( ومن سعى في هدمها فقد سعى في منع وصوله لما خلق له ) من الكمال الذي به يستكمل الكل وهو تمام الظهور والإظهار .
 
ذكر الله غاية الحركة الوجودية 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما أحسن ما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : « ألا انبّئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ؟ : ذكر الله » ) .
فإنّك قد عرفت أنّ الغاية لهذه الحركة الوجوديّة هو الظهور التامّ الذي بآدم ، ثمّ الإظهار الكامل الذي بكلامه ، فهو الخير إذا قيس إلى الإنسان نفسه .
وإذا قيس إلى أفعاله فهو الأفضل . فذكر الله الذي هو غاية الغايات - أعني إظهاره تعالى - هي ثمرة هذه النشأة الإنسانيّة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وذلك لأنّه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانيّة إلا من ذكر الله ، الذكر المطلوب منه ) فإنّ من جملة المراتب الوجوديّة مرتبة الكلام والذكر . فإذا ظهر الحقّ في هذه المرتبة واستتبع لها جميع المراتب الباقية ، بأن يظهر في سائر تلك المراتب مظهرا إيّاها ، ويكون الكل مجلاه من الحسّ والخيال والذكر والفكر والقلب .
 
فإنّ الذاكر له في الكلّ حكم وظهور ، فإذا ظهر بسائر هذه المراتب يكون شخصا كاملا فالذاكر لا بدّ وأن يشاهد المذكور بجميع مداركه ،
( فإنّه تعالى جليس من ذكره ، والجليس مشهود للذاكر . فمتى لم يشاهد الذاكر الحقّ - الذي هو جليسه فليس بذاكر - فإنّ ذكر الله سار في جميع العبد )
 بمراتبه الروحانيّة والنفسانيّة والجسمانيّة ( لأنّ من ذكره بلسانه خاصّة ، فإنّ الحقّ لا يكون في ذلك الوقت إلَّا جليس اللسان خاصّة ) فإنّ صورة المذكور إنما تشخّصت فيه فقط .
( فيراه اللسان من حيث لا يراه الإنسان ) فإنّ لكل قوّة وكلّ شيء سائر القوى فعلية كانت أو انفعاليّة على ما تقرّر في أصولهم .
كما قال شرف الدين ابن الفارض :
يشاهد منّي حسنها كلّ ذرّة  .... بها كلّ طرف جال في كلّ طرفة
وقوله رضي الله عنه   : ( بما هو رأى ) يجوز أن يكون متعلقا ب « لا يراه » أي لا يراه الإنسان بما هو رأى ( وهو البصر ) أو بمعنى أنه لا يرى الإنسان ، مع أن الرائي هو .
ويجوز أن يكون متعلَّقا ب « فيراه » أي فيراه اللسان بما يراه من القوّة الخفيّة التي لا يدرك بالمدارك البشريّة . والثاني أظهر .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فافهم هذا السر في ذكر الغافلين ) فإنه لا يمكن أن يكون في الوجود غافل مطلقا . أي في جميع مراتبه ، فإنّه لا بد لكل شيء من الحضور ، ولو ببعض أجزائه ومراتبه وهو الذاكر منه
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالذاكر من الغافل حاضر بلا شكّ ، والمذكور جليسه فهو يشاهده . والغافل من حيث غفلته ليس بذاكر ، فما هو جليس الغافل ) .
 
ولا يلزم من هذا أنّ الإنسان إذا كان غافلا لا يكون الحقّ جليسه مطلقا ، (فإنّ الإنسان كثير ) إذ قد تقرّر أن تشخّصه وأحديّته أحديّة جميع الكل ، فيكون كثير العين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ما هو أحديّ العين ، والحقّ أحديّ العين ، كثير بالأسماء الإلهيّة ) والأسماء بعضها جزئيّات بعض ( كما أنّ الإنسان كثير بالأجزاء وما يلزم من ذكر جزء منه ذكر جزء آخر . فالحقّ جليس الجزء الذاكر منه ، والآخر متّصف بالغفلة عن الذكر ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا بدّ أنّ يكون في الإنسان جزء يذكر به ) حتّى يبقى صورة شخصيّته به ، فإنّك قد عرفت أنّ قيام الشخص بالمدد الوجوديّ الواصل إليه بوساطة النسبة وهي الحضور من الجزء
( فيكون الحقّ جليس ذلك الجزء ، فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية ) كما في عالم الكبير بما ورد في الصحيح : « لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول : الله ، الله » . رواه  مسلم ومستدرك الحاكم: « لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله » .
وروي بألفاظ أخرى حلية الأولياء و كنز العمال  . فكذلك وجود هذا العالم الإنسانيّ .
 
حقيقة الموت
ثمّ لما استشعر أن يقال : إنّه إذا كان ذكر الجزء كافيا في حفظ صورة شخصيّة  الإنسان ، فكان ينبغي أن لا يطرأ عليه الموت أصلا . ضرورة أن ذكر الجزء منه ضروريّ دائما .
 
نبّه على دفعه بقوله رضي الله عنه  : ( وما يتولى الحقّ هدم هذه النشأة بالمسمى موتا : فليس بإعدام ، وإنما هو تفريق ) .
كما يقوم به الأحديّة الجمعيّة الكليّة التي هي تشخّص الإنسان ، وذلك إنما يتقوّم بالأجزاء عند جمعيّتها .
فعند التفريق لا يمكن قيامه به ( فيأخذه إليه ، وليس المراد ) من التفريق واجتماع المتفرّقات قبل ( إلا أن يأخذه الحقّ إليه “  وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ “  [ 11 / 123 ] فإذا أخذه إليه سوّى له مركبا غير هذا المركب ) من جمعيّة حاصلة من الحقائق التي ( من جنس الدار التي ينتقل إليها ، وهي ) لعدم بقاء قهرمان الكثرة فيه ، و عدم نفاذ حكم التضادّ المستدعي للتفريق - ( دار البقاء ، لوجود الاعتدال ) فإنّه حينئذ يظهر في تلك الدار حكم الوحدة ، والاعتدال صورتها ( فلا يموت أبدا - أي لا تفترق أجزاؤه ) .
 
مآل أهل النار إلى النعيم  
ثمّ إنّه يمكن أن يقال : « إنّ الأمر في الناس وبقاء صورته في تلك النشأة متفاوت : فإنّ السعداء في درجات النعيم . والأشقياء في دركات عذاب الجحيم . فكيف يكون الكلّ مرجعه واحدا ؟ فنبّه على بيانه بقوله :رضي الله عنه   ( وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم ، ولكن في النار ) والنصوص الواردة فيهم بمعنى الخلود إنما يدل على الخلود فيها لا في العذاب ( إذ لا بدّ لصورة النار بعد انتهاء مدّة العقاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها . وهذا نعيمهم ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق ) يعني بعد أن أدّى حقوق وجوه المخالفات والعداوات ، وصنوف المتقابلات ، مما يقتضي اختفاء حكم الاتّحاد الذي هو مقتضى أمر الخلَّة والمحبّة ( نعيم خليل الله حين القي في النار ) .
ثمّ لما استشعر أنّه يمكن أن يقال : « كيف يجعل الخليل مقيسا عليه ، وهو لم يكن معذّبا قط ؟ » تعرّض لدفعه بقوله : ( فإنّه عليه السّلام تعذّب برؤيتها ) النظريّة التي هي منتهى نتائج مقدّمات الكثرة ( وبما تعوّد في علمه ) تقليدا للمشهور المعهود .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وتقرّر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان ، وما علم مراد الله فيها ومنها في حقّه ، فبعد وجوه هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصورة الكونيّة في حقّه ، وهي نار في عيون الناس ) بحسب صورته النوعيّة العينيّة المعاينة ، فإنّها ما تغيّرت عن صورتها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالشيء الواحد يتنوّع في عيون الناظرين ، هكذا هو التجلَّي الإلهي ) فإنّه واحد يختلف ويتنوّع بحسب اختلاف القوابل وتنوّع الاستعدادات .
فمبدأ ذلك الاختلاف والتنوّع إمّا أن يكون قابليّة العبد ، على تقدير أن يكون القابل من الفيض الأقدس - كما عرفت - وإمّا أن يكون الحقّ نفسه ، فإنّه إذا كان القابل من الفيض الأقدس عن ثنويّة المفاض عليه والمفيض ، يكون مؤدّى العبارتين واحدا .
 
ولذلك قال رضي الله عنه  : ( فإن شئت قلت : إنّ الله تجلَّى مثل هذا الأمر ) - أي مثل القابل وعلى شكله ( وإن شئت قلت : إنّ العالم في النظر إليه وفيه مثل الحقّ في التجلَّي ) .
وفي طيّ عبارته هذه نكتة جليلة حكمية : وهي أنّه إذا كان مؤدّى العبارتين واحدا ، فيكون المثل موجودا قطعا ، وليس مثل مثله شيء . 
وإلا لا يكون القابل من الفيض الأقدس ، ولا يكون لتسوية العبارتين وجه ، كما لا يخفى ذلك على الفطن .
 
وإيراد لفظ « المثل » هاهنا لإيماء هذا المعنى وتبيين قوله تعالى : “  لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ “  [ 42 / 11 ] فإنّ المثل محقّق الوجود وليس لمثله وجود .
 
فإنّ التجلي الوجودي المذكور يتمثّل ، ( فيتنوّع في عين الناظر بحسب مزاج الناظر ، أو يتنوّع مزاج الناظر لتنوّع التجلي . وكل هذا جائز سائغ في الحقائق ) ، فإنّه إذا أثبت الفيض والقبول لا بدّ من الثنويّة الاعتباريّة ، لا غير . وهو الذي يسوّغ تسوية العبارتين .
ثمّ إنّ هذا الكلام وقع هاهنا لتمهيد بيان مرجعيّة الكل إليه.
 
فلذلك أفصح عمّا هو المطلوب بقوله : ( ولو أن الميّت أو المقتول - أيّ ميت كان أو أيّ مقتول كان ) سعيدا كان ذلك أو شقيّا - ( إذا مات أو قتل ، لا يرجع إلى الله لم يقض الله بموت أحد ولا شرع قتله . فالكلّ في قبضته ) وتحت حوز إحاطته ، سواء كان بالجمعيّة الحياتيّة ، أو بالتفرقة الفوتيّة - قتليّة أو موتيّة - ( فلا فقدان في حقّه . فشرع القتل وحكم بالموت ) ، بإرسال الأنبياء وإنزال النواميس ، ( لعلمه بأنّ عبده لا يفوته . فهو راجع إليه ) هذا هو الظاهر ذوقا وشهودا .
 
إليه يرجع الأمر كلَّه
( على أنّ ) في الكلام المنزل القرآنيّ ما يدلّ على ذلك المعنى بأبلغ وجه ، دلالة بيّنة غير خفيّة . وذلك في ( قوله : “  وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ “  [ 11 / 123 ]  أي فيه يقع التصرّف ، وهو المتصرّف ) .
فإنّ « الرجوع » لغة هو العود إلى ما كان منه البدء مكانا كان أو فعلا أو قولا ، وبذاته كان رجوعه أو بجزء من أجزائه .
وذلك لأنّه قد أسند الرجوع إلى « الأمر » الدالّ على العموم ، مؤكَّدا بالكل . فمعناه حينئذ أن مبدأ جميع الأشياء ومرجعه هو الحقّ - سواء اعتبر ذات الأشياء أو فعلها أو قولها.
 
هذا ما يدلّ عليه بحسب أصل معناه اللغوي ، وأمّا بحسب العرف الذوقي : فيدلّ على أنّ الهويّة الإطلاقيّة مبدأ الكلّ ومرجعه . ويدلّ ذلك عقلا على أنّ سائر التصرّفات حينئذ إنما يقع فيه ومنه . فهو المتصرّف والمتصرّف فيه .
وإلا يلزم أن يكون الخارج عن تلك الهويّة شيئا ، وهو خلاف ما علم من أصل معناه . وتلك الهويّة لها الإحاطة التامّة ( فما خرج عنه شيء لم يكن عينه .
بل هويّته عين ذلك الشيء . وهو الذي يعطيه الكشف في قوله “  وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ “  [ 11 / 123 ] “  فإنّه في ظاهر اللغة يدلّ على أن هو مرجع الأشياء كلها ومبدؤها .
والذوق الكامل يدلّ على أن ما يكون كذلك يكون هويّته عين تلك الأشياء .

ثمّ إنّ سياق هذا الكلام يقتضي الفحص عن الحكمة الغيبيّة مع ما ذكرنا في وجه نظم الفصوص وترتيبها عند الكلام على تحقيقها فلذلك أخذ في بيانها قائلا : فصّ حكمة غيبيّة في كلمة أيّوبيّة
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فصّ حكمة غيبيّة في كلمة أيّوبيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين يناير 27, 2020 4:25 pm

19 -  فصّ حكمة غيبيّة في كلمة أيّوبيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الأيوبي على مدونة فثتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
19 -  فصّ حكمة غيبيّة في كلمة أيّوبيّة
وجه تسمية الفص
إنّك قد عرفت أنّ هذه الحكمة هي أول ما يظهر من سلسلة التجليّات الجلاليّة المغيّبة للأحكام الامتيازيّة ، المؤلمة لما هو مقتضى النشأة العنصريّة المزاجيّة ، إبرازا لما عليه النسبة الاتحاديّة العلميّة الكماليّة التي إنما يختمها الخاتم المطلق لهذا السير الإظهاري الإرسالي الإنبائي.
وذلك هو الحكمة الغيبيّة فإنّ الغيب هو أوّل ما يطلق عليه مبدئيّة الظهور ، ولذلك نسب هذه الحكمة إلى الغيب .
مناسبة الفص مع أيّوب عليه السّلام
ثمّ إنّ « أيّوب » لما لم يتميّز عن « الغيب » إلَّا بالألف - التي هي باطن الهاء - والواو ، اللتين هما مادّة اسم « هو » ، المعرب عن الغيب طبعا وذاتا - لا وضعا وجعلا فقط - : ناسب تخصيص هذه الحكمة به .
ومن ثمّة ترى تصادم نبال النوائب المضنية وتراكم نصال المصائب المفنية له عن خصوصيّاته الشخصيّة قد أبادت بنيان قواه المشخّصة له ، إلى أن طهّرته عن شوائب الأحكام الامتيازيّة ، وأفنته عن نفسه بالكليّة فعند ذلك امر بركض الرجل - الذي هو أبعد الأعضاء عن مظهريّة الأوصاف السبعة الإلهيّة ،
فهو غيب الأعضاء - نحو الأرض التي هي مظهر الغيب أيضا في الكائنات الآفاقيّة ضرورة اندماج سائر الأوصاف الوجوديّة الإلهيّة فيها ،
حتّى نبع من عين تلك الغيوب ماء حاضر يصلح لرطوبته أن يغتسل به درن الصور الكونيّة الإمكانية ويمحو النقوش الباطلة ، وببرودته تثبت الصور الحقيقيّة الأسمائيّة ، والمعارف العلميّة اليقينيّة ، وبها يسكَّن الحرارة المفنية المفرّقة للصورة الجمعيّة ، المؤذية للمزاج العنصري الشخصيّ ، وبشر به يصلح لأن يكون مادّة للرطوبة الغريزيّة التي هي بمنزلة الدهن لسراج المزاج وبقاء نور حياته فإنّ الحرارة المشتعلة بنور الحياة ما لم يتغذّ بها لم يتمكَّن من ذلك ، كما لم يتمكَّن للسراج أن يشتعل بنور الإراءة ما لم يتغذّ بالدهن .
وقد اومي إلى تلك الحقائق كلَّها بقوله تعالى : “  ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ “.
 
ثمّ إنّك قد عرفت أن الحياة كما تطلق على الحياة الصوريّة الطبيعيّة التي هي مبدأ الظهور من الحيّ بأوصافه الوجودية ، فقد تطلق أيضا على الحياة المعنوية العلمية التي هي مبدأ الإظهار من الحيّ الحقيقي بأوصافه الكماليّة ، كما قال تعالى : “أَوَمن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناه ُ وَجَعَلْنا لَه ُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ “  [ 6 / 122 ] .
وقد ظهر لك من هذا التحقيق الذي اقتبس من مشكاة الآية الكريمة أنّ للماء نسبة اتحاديّة إلى كلي نوعي الحياة ولذلك قال :" وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ " [يونس : 30]
( اعلم أنّ سرّ الحياة سرى في الماء ، فهو أصل العناصر و ) سائر ( الأركان ) فإنّ الكلّ به يتقوّم حقائقهم فلو لم تكن مقدّما في الوجود على الكل لم يمكن وجود شيء أصلا ( ولذلك جعل الله “ وَجَعَلْنَا من الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ “  [ 21 / 30 ] وما ثمّ شيء إلَّا وهو حيّ ) ،
فإنّ مبدأ الظهور المذكور في سائر الأشياء - على ما لا يخفى - هو الحياة ،
 
( فإنّه ما ثمّ شيء إلا وهو حيّ “  يُسَبِّحُ بِحَمْدِه ِ “ [ 17 / 44 ] ولكن لا نفقة تسبيحه إلا بكشف إلهي - ولا يسبّح إلا حيّ ) متكلم ، وهو الكامل في الحياة ، والكل مشترك في تلك الحياة الكاملة . " د. أبو العلا عفيفي : فإنه ما من شيء إلا وهو يسبح بحمد الله . ".
"" أضاف الجامع :
قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب الثالث والأربعون عن كل شيء حي يسبح بحمد ربه: 
فالله يقول "وإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً "
بإمهالكم حيث لم يؤاخذكم سريعا بما رددتم من ذلك "غَفُوراً " ، حيث ستر عنكم تسبيح هؤلاء فلم تفقهوه .
وقال تعالى في حال من مات ممقوتا عند الله "فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والْأَرْضُ" فوصف السماء والأرض بالبكاء على أهل الله ،
ولا يشك مؤمن في كل شيء أنه مسبح ، وكل مسبح حي عقلا ،
وورد أن العصفور يأتي يوم القيامة فيقول يا رب سل هذا لم قتلني عبثا ،
وكذلك من يقطع شجرة لغير منفعة أو ينقل حجرا لغير فائدة تعود على أحد من خلق الله .أهـ ""
( فكلّ شيء حيّ ، وكل شيء الماء أصله ) ، فإنّ الماء هو ظاهر الحياة - على ما سبق الإيماء إليه - كما أنّ الشيء هو ظاهر الماء عقدا ، إذا بسط بيّناتهما فهو أصل سائر الأشياء ( ألا ترى العرش كيف كان على الماء ) ، يعني عرش الحياة ، التي هو مقدّم العروش الخمسة فإنّه صرّح في كتاب
 
عقلة المستوفز : إنّ العرش خمسة عرش الحياة - وهو عرش هو - وعرش الرحمانية ، والعرش العظيم ، والعرش الكريم ، والعرش المجيد فعرش الحياة هو عرش المشيئة ، وهو مستوى الذات ، وهو عرش الهويّة " .
وهاهنا تلويح يدلّ على هذا : وهو أنّ بينات " الحياة " إذا أضيفت إلى عددها تشتمل على اللام ، التي هي ظاهر " ماء " كما أنّ عددها إذا أخذ بحسب العقد فهو " هو " .


فعرش الحياة منها هو الذي على الماء ، لا الجسمانيّ فقط ، المسمى بالعرش الرحماني ، فإنّ ذلك أيضا داخل فيه ، وعرش الحياة محيط بالكلّ ، وهو الذي على الماء ، فإنّ الماء من الطبائع هو الجامع بين الرطوبة التي هي مبدأ قبول الصور ، والبرودة التي هي مبدأ إثبات تلك الصور والحياة هو وجود الصور مع بقائها ، ومبنى أمرهما على الماء ، ( لأنّه منه تكوّن ) إذ الماء أصل كل شيء وامّه - على ما عرفت تحقيقه فلا نعيده - فالكلّ إنما تكوّن منه .


( فطفا عليه ) لأنّه ظهر منه ، والظاهر لا بدّ وأن يكون طافيا على أصله ،
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو يحفظه من تحته ، كما أنّ الإنسان خلقه الله عبدا ، فتكبّر على ربّه وعلا عليه ، فهو سبحانه مع هذا يحفظه من تحته ، بالنظر إلى هذا العبد الجاهل بنفسه ) ،
وهو المنهمك في أحكام التفرقة الكونيّة ، الحائر في ظلمات كثرة الإمكان كما دلّ عليه كلام الخاتم حيث خاطب بالجمع ، ( وهو قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : " لو دلَّيتم بحبل لهبط على الله " ) .
 
"" الحديث : عن أبي هريرة، قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدرون ما هذا؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «هذا العنان هذه روايا الأرض يسوقه الله تبارك وتعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه» ثم قال: «هل تدرون ما فوقكم»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها الرقيع، سقف محفوظ، وموج مكفوف»، ثم قال: «هل تدرون كم بينكم وبينها؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «بينكم وبينها مسيرة خمس مائة سنة». ثم قال: «هل تدرون ما فوق ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن فوق ذلك سماءين، ما بينهما مسيرة خمسمائة عام» حتى عد سبع سماوات، ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض، ثم قال: «هل تدرون ما فوق ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين». ثم قال: «هل تدرون ما الذي تحتكم»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها الأرض». ثم قال: «هل تدرون ما الذي تحت ذلك»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن تحتها أرضا أخرى، بينهما مسيرة خمس مائة سنة» حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمس مائة سنة. ثم قال: «والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله». ثم قرأ {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} [الحديد: 3]. ""
 رواه الترمذي والبيهقي وفي العظمة للآصبهاني والسنة لابن أبي عاصم وتحفة الأحوذي والهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد والجامع الكبير للسيوطي.
 
ظهر جهة الفوق والتحت باللَّه تعالى وباقي الجهات بالإنسان
ثمّ إنّه لما كان لله بحسب أسمائه الحسنى عند التوجّه إلى كمالها مظهران - :
أحدهما عند تمام أمر الظهور ، وهو العالم بأسره وهيأته الجمعيّة الإحاطيّة هو العرش .
وثانيهما عند كمال أمر الإظهار ، وهو آدم بتمامه وهيأته الجمعيّة الإحاطيّة هو الإنسان العبد - أشار إليهما في إثبات نسبة التحت وإضافته إلى الحقّ .
( فأشار ) بكلامه هذا (إلى أنّ نسبة التحت إليه كما نسب الفوقيّة إليه في قوله : “  يَخافُونَ رَبَّهُمْ من فَوْقِهِمْ “ [ 16 / 50 ] “وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِه “ [ 6 / 18 ] فله الفوق والتحت) .
وهما الجهتان الحقيقيّتان اللتان قد حصلتا بظهور الحقّ وأمّا باقي الجهات فلا يظهر إلا بالإنسان ، الذي هو محلّ إظهار الحقّ تماما .
( ولهذا ما ظهرت الجهات الستّ إلا بالإنسان ) الذي هو موطن تمام الظهور والإظهار ( وهو على صورة الرحمن ) الجامع لتمام الأسماء .
 
وكيف لا يكون الأمر على هذا ( و ) قد أفاد الذوق الصحيح أنّه ( لا مطعم إلا الله ) ، أي لا مفيض لما يتغذّى به الشخص في أطواره روحانيّا ذلك أو نفسانيّا أو جسمانياًّ إلا الله ، ( وقد قال في حقّ طائفة : “  وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالإِنْجِيلَ “  ) بإنفاذ أحكامهما وهما الكتابان المنزلان على الرسولين : أحدهما الغالب عليه التنزيه ، والآخر التشبيه .
 
ولما كان فيض الحقّ لا يختص بأن يكون من الرسول أو كتابه ، فإنّ لكل أحد مدرجة خاصّة إلى فيضه العامّ ، لذلك قال - : ( ثم نكَّر وعمّم وقال : “وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ “  - فدخل في قوله : “وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ “  كلّ حكم منزل على لسان رسول أو ملهم )
على غيره من الناس “لأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ “  ، وهو المطعم من الفوقيّة التي نسبت إليه ) عقلا وعقدا من العلو التنزيهي .
(“وَمن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ“  [ 5 / 66 ] وهو المطعم من التحتيّة التي نسبها إلى نفسه ، على لسان رسوله المترجم عنه صلَّى الله عليه وسلَّم “).
المعرب عن الأشياء والمظهر إيّاها على ما هي عليه في نفسها ، وذلك في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : « لهبط على الله » ، وهو طرف التشبيه الحقيقيّ الختميّ ، الذي فيه نهاية التنزيه - كما نبّهت عليه غير مرّة .
ويمكن أن ينزل هذين الطرفين للفيض الوارد من الحقّ إلى طريقي الكسب والوهب ، فإنّ الوهب من جهة فوق الامتنان وعلوّ رحمته تعالى ، والكسب من طرف تحت السؤال ومساعي أرجل جدّ العبد وتعبه .
 
الماء مبدأ نظام الأركان ، وسر الإرجاع إليها في قصة أيوب عليه السّلام
ثمّ إذا تقرّر أنّ الماء الذي عليه العرش هو الذي يحفظه ( ولو لم يكن العرش على الماء ما انحفظ وجوده ، فإنّه بالحياة ينحفظ وجود الحيّ ) على هيأته الشخصيّة المزاجيّة ،
( ألا ترى الحيّ إذا مات - الموت العرفي - تنحلّ أجزاء نظامه وتنعدم قواه عن ذلك النظم الخاصّ ) فإنّ لتلك الأجزاء والقوى نظما في كلّ عالم بما يناسبه ، وحياة يقبله ويوافقه ولذلك قيّد الموت بـ "العرفي " والنظم ب « الخاص » ظهر من هذه المقدّمات أنّ الماء هو مبدأ نظام الأجزاء والأركان والقوى ، التي عليها بناء المزاج الشخصي والهيئة الوحدانيّة الجمعيّة .
 
ولذلك ( قال تعالى لأيّوب عليه السّلام ) حين أشرف مزاجه على الانحلال ، ونظام أمره إلى الاختلال : “ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ“ يعني ماء “بارِدٌ “)  [ 38 / 42 ] .
وكأنّك قد نبّهت على وجه خصوصيّة العبارة في مطلع الفصّ واختصاص ذلك بأيّوب ( لما كان عليه من إفراط حرارة الألم ، فسكَّنه الله ببرد الماء ) وكسره شدّة حرارته ونقصه لها .
 
قال رضي الله عنه :  ( ولهذا كان الطبّ النقص من الزائد ، والزيادة في الناقص ) حتّى يستقرّ في مقام الاعتدال ( والمقصود طلب الاعتدال ، ولا سبيل إليه ) أي إلى الاعتدال الحقيقيّ المطلق ، الذي شهد البراهين بامتناعه واستحالة تكوّنه .
فإنّ المبادر إلى الأفهام مما قال من « أنّ المطلوب من الطبّ زيادة الناقص ونقصان الزائد » : هو أنّ التساوي المطلق والاعتدال الحقيقي هو المطلوب ولا يخفى أنّه لا يصلح لأنّ يكون غاية لحركة حكمية ، لأنّه ممتنع .
فقال : ولا سبيل إلى الاعتدال الحقيقي ، ( إلا أنّه يقاربه ) ، أي المطلوب في الطبّ هو ما يقرب الاعتدال وهو غير ممتنع .
 
لا سبيل إلى الاعتدال الحقيقي وإلا يلزم التعطيل
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإنما قلنا : « ولا سبيل إليه » - أعني الاعتدال - من أجل أنّ الحقائق الحكمية والشهود ) الذوقي ( تعطي التكوين مع الأنفاس على الدوام ، ولا يكون التكوين إلا عن ميل ) من أحد أجزاء ذلك المكوّن فإنّ التكوين إنما يلحق المركَّبات من الطبائع وليس في الوجود إلا ذلك ، كما سبق تحقيقه ، فإنّ الطبائع ما لم يحصل بينها تفاعل وتقاهر لم يتكوّن منها مزاج واحد بالشخص - كما بيّن تحقيقه في الصنائع الحكميّة - وهذا الميل الذي عند التفاعل والتقاهر ( يسمّى في الطبيعة انحرافا ) إذا كان ذلك الميل مبدأ فساد مزاج ( أو تعفينا ) إن كان مبدأ كون ذلك المزاج ، هذا في عالم الطبائع .
وإذ كان الأمر متطابق الأحكام ، لا بدّ وأن يكون في الحضرات الأسمائيّة هذا الميل ، وإليه أشار بقوله : ( وفي حقّ الحقّ إرادة ، وهي ميل إلى المراد الخاصّ ) من مقتضيات الأسماء فإنّ لكلّ منها اقتضاء حكمه الخاصّ به ، وأحديّة جمع الكل قد حكم بإطلاق خزائن الجود المطلق على سائر تلك الأحكام لكنّ الإرادة ما لم تخصّص أحد الأحكام الخاصّة لم يتكوّن .


فعلم أنه ما لم يحصل في هذه الحضرة أيضا ميل إلى مراد خاصّ ( دون غيره ) لم يمكن التكوّن ، ( والاعتدال ) الذي هو مقتضى أحديّة الجمع والإطلاق ( يؤذن بالسواء في الجميع ، وهذا ليس بواقع فلهذا منعنا من حكم الاعتدال ) وظهور ذلك في مظهر كونيّ ، والتفاوت بين المكوّنات هو بحسب مدارج قربه إليه وبعده عنه . ومن هاهنا ترى المقام المحمدي يعبّر عنه ب « أَوْ أَدْنى » فإنّه لا أعدل منه في المكوّنات ، فهو الأقرب على الإطلاق ، كما هو مؤدّى قوله تعالى : “ أَوْ أَدْنى“  [ 53 / 9 ] هذا في المظاهر الكونيّة .
 
تقابل الأسماء تنفي الاعتدال الحقيقي
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقد ورد في العلم الإلهيّ النبويّ اتّصاف الحقّ بالرضا والغضب ، وبالصفات ) المتقابلة جملة ( والرضا مزيل للغضب ، والغضب مزيل للرضا عن المرضيّ عنه ) ، أيّ لا بدّ من إنفاذ أحد الحكمين المتقابلين عند التوجّه إلى المحكوم عليه ، فإنّ الحقّ في نفسه له الإطلاق في سائر هذه الأوصاف ، كما سيشير إليه .
وإذ كان لا بدّ من إنفاذ أحد الحكمين المتقابلين عند ملاحظة المحكوم عليه ، فكيف يتصوّر الاعتدال ،
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والاعتدال أن يتساوى الرضا والغضب ، فما غضب الغاضب على من غضب عليه ، وهو عنه راض فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه ، وهو ميل ) ، وإن كان للحقّ في نفسه سائر المتقابلات مطلقا ، ( وما رضي الراضي عمّن رضي عنه وهو غاضب عليه فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه ، وهو ميل ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( وإنما قلنا هذا ) الكلام هنا - وهو أنّه لا بدّ من إنفاذ حكم أحد المتقابلين - أعني الرضا والغضب - بالنسبة إلى العبد ، ولا يزال العبد تحت أحدهما - ( من أجل من يرى أن أهل النار لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا ) هذا ( في زعمه ، فما لهم حكم الرضا من الله فصحّ المقصود ) من عدم التساوي والاعتدال على زعمهم .
 
هذا إن كان كما قالوا فهو يطابق الظاهر ، ( فإن كان - كما قلنا - مآل أهل النار إلى إزالة الآلام وإن سكنوا النار ) وبقي عندهم صورتها النوعية الناريّة على ما عليه ذوق اولي الألباب من أهل الباطن. ( فذلك رضى ) عنهم ، لأنه زال تألَّمهم منها .


قال الشيخ رضي الله عنه : (فزال الغضب لزوال الآلام ، إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت فمن غضب فقد تأذّى ، فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه إلَّا ليجد الغاضب الراحة بذلك ، فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه ) فلا يزال هذا الميل متحقّقا .
فعلم أنّ هذا الكلام يوافق عقائد أهل الظاهر ويطابق أذواق أهل الباطن .
 
تعالى الحق تعالى في مقامه الإطلاقي عن الرضا والغضب
ثمّ إنّه لما كان سوق كلامه هذا إلى مساقه المذكور مع أهل الظاهر ولأجلهم نزّله إلى مداركهم الجزئيّة ، لأنّ أمثال هذه الأحكام التي قيل للغضب والغاضب من الانتقام والالتذاذ به يختصّ به المظاهر الكونيّة ،
والكلام في صفات الله تعالى على ما هي عليه في نفسها عند أهل التحقيق في مشهدهم الذوقيّ لذلك أشار إلى وجه تحقيق الأمر بما عنده بقوله : ( والحقّ إذا أفردته عن العالم يتعالى علوّا كبيرا عن هذه الصفة ) فإنّك قد عرفت أنّ أحكام هذه الأسماء المتقابلة وظهور تنافيهما وتقابلهما ليس إلا باعتبار المحكوم عليه وملاحظة المظاهر الكونيّة ، وإذا أفردت الحقّ عنها فله الإطلاق في سائر هذه الأسماء والتقدّس بها عنها .
وفي بعض النسخ ( على هذا الحدّ ) ، وأنت عرفت أن الكلام بإطلاقه صحيح ، فلا احتياج إلى هذا القيد إلا لمجرّد تبيين خصوصيّة المحلّ والظاهر أنّه كان من الحاشية فوقع في المتن .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (وإذا كان الحقّ هويّة العالم فما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه ومنه)
فلا يكون الغضب والانتقام إلا له ، (وهو قوله : “وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ“ [ 11 / 123 ] حقيقة وكشفا ) .
وينبغي أن يعلم هاهنا أنّ العلم له مدرجتان في العالم عند إنفاذ حكمه فيه - يعني إظهار المعلوم - إحداهما تبيّنه في نفس العالم وتيقّنه وتحقّقه فيها ، ويلزمه إظهار المعلوم للعالم فقط .


والأخرى هي مبدأ تبيّنه مع ذلك التيقّن وكشفه ، ويلزمه الإظهار للعالم ولمن يقربه في النسبة ممن يفهم عرفه ووجوه تخاطبه .
ثمّ إنّه إذ قد وقع في عبارته ما هو مبدأ لهذين المرتبتين ، حيث قال : « ما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه ومنه » أي متحقّقة فيه ، وظاهرة منه أفصح عنهما في مرتبة العلم والعين ، بجميع الأحوال التابعة لهما ، تبيينا لكليّة حكمته وتعميما لخصائص ذوقه ، فإنّ ذلك هو المستتبع لانتظام قوانين التوحيد وتطبيق لطائف جمال الإجمال منه بدقائق جلائل التفصيل وإلى المرتبتين الأخريين أشار بقوله : (" فَاعْبُدْه ُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه ِ") أي فاعبده تحقّقا ، وتوكَّل عليه كشفا وتبيينا ، حتى تكون العبادة ( حجابا و ) التوكَّل ( سترا ) فقد طابق بهذا التحقيق الإجمال بالتفصيل علما وعينا وحالا .


ظهور الحقّ بظهور العالم
ثمّ إنّه إذا كان العالم هذا - مع أنّ الحقّ عين هويّته - يكون محلا للأحكام المتقابلة ، والكلّ منه وفيه .
 
ولهذا قال : ( وليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، لأنّه على صورة الرحمن أوجده الله ) وهو شامل لجميع الأسماء ، فله أحديّة الجمع الوجوديّة فكلّ شيء على صورته له وجود الحقّ ، وبه ظهوره
ولهذا قال : ( أي ظهر وجوده تعالى بظهور العالم ) فإنّه ظهر بالعالم أحكام سائر الأسماء جمعا وفرادى ( كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعيّة ) فإنّه ما لم توجد هذه الصورة لم تكن لأوصاف الإنسان وأحكامه أثر .
 
ظهور الحقّ بظهور العالم
( فنحن ) بجميع أعيان العالم وأحكامها ( صورته الظاهرة ، وهويّته روح هذه الصورة المدبّرة لها ) ، ولا شكّ أنّ الروح باطن الصورة ( فما كان التدبير ) الذي هو حكم الروح ( إلَّا فيه ، كما لم يكن ) ظهور الأوصاف والأحكام الخارجيّة ( إلَّا منه .
فهو "الأَوَّلُ "  بالمعنى "وَالآخِرُ "  بالصورة ، وهُوَ " الظَّاهِرُ "  بتغيير الأحكام والأحوال "وَالْباطِنُ "  بالتدبير ) .
فعلم أنّ سائر هذه الأحكام التي للعالم إنما هو في الحقّ من حيث الباطن ، ومنه من حيث الظاهر ، (" وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " ) [ 57 / 3 ] في الباطن ، ( فهو " عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ") [ 58 / 6 ] في الظاهر .
فإنّ العلم الصحيح هو أن يكون مبدؤه الذوق القلبي ، أو الشهود الحسّي ، كما أشير إليه في قوله تعالى : “  لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ “  [ 50 / 37 ] .
 
العلم الصحيح هو علم الأذواق
ولذلك قال ( ليعلم عن شهود ، لا عن فكر فكذلك علم الأذواق ، لا عن فكر ، وهو العلم الصحيح ، وما عداه ) - أي ما عدا ما كان عن شهود وذوق
( فحدس وتخمين ) ، فإنّ الحدسيّات والمتواترات والتجربيّات وإن عدّت من اليقينيّات عند أهل النظر ، ولكن لما أمكن فيها تطرّق الشبه من قوّتي الوهم والخيال ما عدّها من العلم وكذلك البرهانيّات إذا استحصلت بمجرّد الفكر العاري عن الذوق جملة ، ولذلك أطلق عليه التخمين ، الذي فيه بقيّة تردّد الظن وتشويشه .
ولذلك قال : ( ليس بعلم أصلا ) ، ولذلك لا تراها لمتعطَّشي بوادي الطلب عند الاستفاضة منها أنّها تشفي غلَّتهم ، ولا لمتخمّصي سني الافتقار أنها تسمنهم أو تغنيهم من جوع وأنت عرفت أنّ الماء صورة العلم ، فهو الذي يزيل ألم العطش الذي من نصب المتعلَّقات المحلَّلة للروح وعذابها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثمّ كان لأيّوب ذلك الماء شرابا لإزالة ألم العطش الذي هو من النصب ) - أي التعب - وهي التعلَّقات الناصبة للشخص في مناصب المتجوّهين وأنصابهم الشاغلة المتعبة ، ( والعذاب ) وهو ما يستعذبون منها من مؤلمات الروح ومكدّرات لطائف صفوه ، وهو (الذي مسّه به الشيطان - أي البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليه .فيكون بإدراكها في محلّ القرب).
 
 الشيطان والبعد
ولما كان الشيطان مبدأ الأحكام العدميّة كلها ، وأصل ذلك هو النسبة التي مبدأ سائر التعيّنات ، فهو النسبة التي هي مبدأ الأوصاف العدميّة .
 
وفي تحليل موادّ « إبليس » ما يدلّ على هذا ومن ثمّة ترى المصنّف عرّفه بالبعد عن الحقائق أن يدرك . فبالبعد أفصح عن النسبة ، وبالباقي عن مبدئيّته للأوصاف العدميّة العامّة ، كالجهل والإباء للإذعان .


فعلم أنّ هذا بيان ماهيّة الشيطان حقيقة ، وليس فيه ارتكاب مجاز كيف وهو في صدد التعريف والإبانة عن حقيقته بما هو عليه ، وأدب هذا المقام يأبى أن يستعمل فيه غير الحقيقة - على ما بيّن في صناعته .


والذي يلوّح على هذا الكلام أنّ البعد إذا أخذ مع بيّناته هو عدد الشيطان ناقصا منه عقدان من العشرة ، الدالَّة على هيأتيه الفرقيّة والعلميّة فتأمّل .


وهاهنا تلويح آخر : وهو أنّ « العين » الذي هو الدالّ على عين الجمع ، إذا ظهر على باء البينونة والبيان والإباء .
التي هي بدؤ التعينات - إذ بها انتشاء النقطة ومنها ظهرت فهو العبد الذي له الإطاعة .
وأمّا إذا ظهر الباء المذكورة على العين ، واختفيت هي تحتها ، فهو البعد الذي منه الإباء ، وهو الشيطان .


ثمّ إنّه لما كان هو البعد عن إدراك الحقائق ، فإنّ المدرك قريب لمن يدركه فإنّ المدرك مشهود ( فكل مشهود قريب من العين ، ولو كان بعيدا بالمسافة ، فإنّ البصر يتّصل به ) على رأي الذاهبين إلى الشعاع .
( من حيث شهوده ولولا ذلك لم يشهده أو يتّصل المشهود بالبصر ) على رأي الذاهبين إلى الانطباع ( كيف كان ، فهو قرب بين البصر والمبصر ) .
فقد علم أنّ الشيطان هو البعد عن هذا القرب ، والبعد من جملة الإضافة ( ولهذا كنّى أيّوب في المسّ ) الذي هو من الإضافات ( فأضافه إلى الشيطان ) الذي هو البعد ، إضافة إسناد ( مع قرب المسّ ) أي مع أنّ المسّ هو القرب فأسند القرب إلى البعد ( فقال : البعد منى قريب بحكمه في ) ، أعني البعد .
ثمّ إنّه يمكن أن يقال : إنّ حكم القريب إنما هو القرب ، كما أن حكم البعيد هو البعد . فكيف جعل حكم القريب هو البعد ؟
فدفع ذلك بقوله : ( وقد علمت أنّ القرب والبعد أمران إضافيّان ، فهما نسبتان لا وجود لهما في العين ) .
 
فلئن قيل : فكيف يكون الشيطان هو البعد ، وله وجود في العين كما لا يخفى ؟
قلنا : إن البعد المطلق - من حيث هو هو - وإن لم يكن له وجود عيني ، ولكن أفراده المشخّصة منه موجودة في الخارج وهو البعد المشخّص في البعيد .
وإلى ذلك أشار بقوله : ( مع ثبوت أحكامهما في البعيد والقريب ) .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فصّ حكمة غيبيّة في كلمة أيّوبيّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين يناير 27, 2020 4:26 pm

19 -  فصّ حكمة غيبيّة في كلمة أيّوبيّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الأيوبي على مدونة فثتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
19 -  فصّ حكمة غيبيّة في كلمة أيّوبيّة
لا مباينة بين صبر العبد ودعائه لكشف الضرّ
ثمّ إنّ هاهنا سرّا عزيزا يدلّ على علوّ ذوق أيوب في العلم باللَّه ، وعلى قرب صاحب هذه الإضافات المتقابلة من الذات وهي أنّ أبين وصف للهويّة الذاتيّة الإطلاقيّة هو جمعيّة الأضداد - كما عرفت غير مرة - وقد أشير في قوله : “  مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ “  [ 38 / 41 ]

إلى تلك الجمعية على ما لا يخفى على الفطن وإليه أشار بقوله : ( واعلم أن سرّ الله في أيّوب الذي جعله عبرة لنا وكتابا مسطورا حاكيا ، يقرؤه هذه الامّة المحمديّة ) ، التي لها جمعيّة كمالات الأمم السالفة ، وقابليّة استفهام جوامع الكلم وتعلَّمها ،

ولذلك قال : ( لتعلم ما فيه ، تلحق بصاحبه ، تشريفا لها ) ، وحسبهم تشريفا وتعظيما أنّ سائر أساطين الأنبياء السالفة وأممهم قد ظهر لهم بالوجود الكلامي كاشفا عن دقائق عرفانهم وإيقانهم ، حاكيا عن كنه تجاربهم ومآل آمالهم ، عبرة لهذه الامّة الشريفة عن جملة ما كانوا عليه في أحوالهم . وذلك الظهور تارة في الصور الكتابيّة مسطورا ، منبّها بها إلى جلائل المعاني بلطائف الإشارات ، وأخرى في الصور الكلاميّة مقروّا ، دالا بها على دقائق الحقائق بخفيّ المناسبات . وإلى هذا كلَّه إشارة في المتن  فلا تغفل.

 الترجي من الله تعالى وأو من الأسباب
ومن جملة تلك الحكم التي هي عبرة المعتبرين ما صدر منه ( فأثنى الله عليه - أعني على أيوب - بالصبر مع دعائه في رفع الضرّ عنه . فعلمنا أنّ العبد إذا دعي الله في كشف الضرّ عنه ، لا يقدح في صبره ) ، بل الكفّ عن ذلك الدعاء - بما فيه من رائحة رعونة الدعوى والتجلَّد وقوّة الاحتمال - ينافي كمال العبوديّة .

ولذلك قال تعالى حين أظهر ما به : ( وأنّه صابر ، وأنّه " إِنّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ "  ، كما قال ) في بيان تحققه بكمال العبوديّة :  ( “ إِنَّه ُ أَوَّابٌ “  أي رجّاء إلى الله ، لا إلى الأسباب ، والحقّ يفعل ) فيما يفعل ( عند ذلك ) الفعل ( بالأسباب ) فهي الآلة ، والفاعل هو الحقّ ( لأنّ العبد ) الكامل في عبوديّته هو الذي ( يستند إليه ) نفسه وسائر الأفعال ، ويسأل عنه سائر ما يستحصل من الأسباب ، لا عنها ،
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إذ الأسباب المزيلة لأمر ما كثيرة ، والمسبّب واحد العين ، فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسبب ذلك الألم أولى من الرجوع إلى سبب خاصّ ، إذ ربما لا يوافق علم الله فيه فيقول : إن الله لم يستجب لي ، وهو ما دعاه ، وإنّما جنح إلى سبب خاصّ لم يقتضه الزمان ولا الوقت )
اللذان هما مدارج تنزّل الصور العلمية إلى العين هذا بيان تحقّقه بكمال العبوديّة وأنّه نعم العبد .


الصبر هو عدم الشكوى إلى غير الله لا إلى الله
وأمّا وجه أن هذا الدعاء لا يقدح في صبره وأنّه صابر ، فقوله : ( فعمل أيّوب بحكمة الله ، إذ كان نبيّا ) عارفا بدقائق الأحوال والمقامات ووجوه كمالها ونقصها ، ( لما علم أنّ الصبر الذي هو حبس النفس عن الشكوى عند الطائفة ) من متصوّفة أهل الظاهر ، ( وليس ذلك بحدّ للصبر عندنا وإنّما حدّه حبس النفس عن الشكوى لغير الله لا إلى الله ).
كما قال صاحب التائيّة :
ولم أحك في حبّيك حالي تبرّما   ... بها لاضطراب ، بل لتنفيس كربتي
ويحسن إظهار التجلد للعدى      .... ويقبح إلَّا العجز عند الأحبّة
ويمنعني شكواي حسن تصبّري  ..... ولو أشك ما بي للأعادي لأشكت
وعقبى اصطباري في هواك حميدة  .... عليك ، ولكن عنك غير حميدة

والذي حمل المتصوّفة على الوقوف في هذا المدحض أنّهم رأوا أن الشكوى تنافي الرضا

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فحجب الطائفة نظرهم في أنّ الشاكي يقدح بالشكوى في الرضا بالقضاء ، وليس كذلك . فإنّ الرضا بالقضاء لا تقدح فيه الشكوى إلى الله ، ولا إلى غيره . وإنما تقدح في الرضا بالمقضي ونحن ما خوطبنا بالرضا بالمقضيّ والضرّ هو المقضيّ ، ما هو عين القضاء) .

حبس النفس عن الشكوى إليه تعالى مقاومة قهره
ثمّ أخذ في تبيين دقائق كشف أيّوب في الشكوى المذكورة وعلوّ ذوقه في ذلك بقوله :

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وعلم أيّوب أنّ في حبس النفس عن الشكوى إلى الله في رفع الضرّ مقاومة القهر الإلهي ) ، وهي مما يأباها العبوديّة إذا كان الشخص له وقوف على مواقف العبوديّة وعلم .

ولذلك قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهو جهل بالشخص إذا ابتلاه الله بما تتألَّم نفسه ، فلا يدعوا الله في إزالة ذلك الأمر المؤلم ) ، فالجهل هذا يمكن أن يحمل على ما يقابل العلم كما عرفت ، ويمكن أن يحمل على فعل في غير موقعه ، فإنّ من جملة معاني الجهل فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل ، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا ، كمن يترك الصلاة متعمّدا ، وعلى ذلك قوله : “  أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ من الْجاهِلِينَ   [ 2 / 67 ] ، فجعل فعل الهزء جهلا .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( بل ينبغي له عند المحقّق أن يتضرّع ويسأل الله في إزالة ذلك عنه ، فإنّ ذلك إزالة عن جناب الله عند العارف صاحب الكشف ) ، فإنّ العبد في صحائف الوجود ممحوّ ، والعبوديّة ممحوّة الأثر عندهم فمرجع اللذة والألم إنما هو الموجود الحقّ ، وذلك غير ممنوع في ظاهر الشرع
(فإنّ الله قد وصف نفسه بأنّه يؤذى، فقال :"إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَه ُ").[ 33 / 57 ]


قال الشيخ رضي الله عنه :  (فأيّ أذى أعظم من أن يبتليك ببلاء عند غفلتك عنه ، أو عن مقام إلهيّ لا تعلمه ، لترجع إليه بالشكوى، فيرفعه عنك ، فيصحّ الافتقار الذي هو حقيقتك ) تصحيحا لنسبة العبوديّة وإقامة لك في مواقف العجز والاستكانة ( فيرتفع عن الحقّ الأذى بسؤالك إيّاه في رفعه عنك إذ أنت صورته الظاهرة )
ولا شكّ أنّ الصورة من الشيء إذا كانت متأذّية يكون الكلّ متأذّيا وإزالة الأذى عنها إزالة عنه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (كما جاع بعض العارفين ، فبكى . فقال له في ذلك من لا ذوق له في هذا الفن معاتبا له . فقال العارف : إنما جوّعني لأبكي ) . وكذلك فيما نحن فيه

قال الشيخ رضي الله عنه : ( يقول : إنما ابتلاني بالضرّ لأسأله في رفعه عنّي ، وذلك لا يقدح في كوني صابرا . فعلمنا أنّ الصبر إنما هو حبس النفس عن الشكوى لغير الله).
ثمّ إنّه يمكن أن يقال هاهنا : إنّ الغير الذي هو معدوم العين عندكم كيف يتصوّر الشكوى له ؟
فأشار إلى جوابه بقوله : ( وأعني بالغير وجها خاصّا من وجوه الله ) عيّنه الشاكي نفسه للشكوى إليه ، تصوّرا منه أنّه السبب في ذلك ، وقد عيّن الحقّ وجها خاصّا من وجوه الله ، وهو المسمّى وجه الهوية ) للدعاء وإزالة الشكوى كما قال : فادعوه مخلصين له الدينفَادْعُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ " .

( فيدعوه من ذلك الوجه في رفع الضرّ - لا من الوجوه الأخر المسماة أسبابا - وليست ) تلك الأسباب ( إلا هو من حيث تفصيل الأمر في نفسه ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالعارف لا يحجبه سؤاله هويّة الحقّ في رفع الضرّ عنه ، عن أن يكون جميع الأسباب عينه من حيثيّة خاصّة ) كل بحسب خصوصيّته في حضرة النسب الأسمائيّة .

(وهذا ) وإن أمكن طروقه لبعض الموقنين من المؤمنين ، ولكن ( لا يلزم طريقته إلا الأدباء من عباد الله ) العارفون بآداب العبوديّة والموفون حقّها والأمناء على أسرار الله من الذين لا يظهرون منها على غير أهله ، كما قيل :
ومستخبر عن سر ليلي رددته ..... بعمياء من ليلي بغير يقين
يقولون خبرنا فأنت أمينها ..... وما أنا إن أخبرتهم بأمين

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن لله أمناء لا يعرفهم إلا الله ، ويعرف بعضهم بعضا ، وقد نصحناك فاعمل ).
( وإيّاه سبحانه فاسأل ).
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 20 - فصّ حكمة جلالية في كلمة يحيوية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:10 am

20 - فصّ حكمة جلالية في كلمة يحيوية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليحيوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
20 - فصّ حكمة جلالية في كلمة يحيوية
وجه تسمية الفصّ
ووجه اختصاص هذه الكلمة بحكمتها هو أنّ من شأن الجلال القهر لما يقال له الغير والسوي ، ونفي ما يشعر بالثنويّة مطلقا ، واثبات الوحدة الإطلاقيّة قطعا على ما هو مقتضى التعيّنات الجلائيّة ، ولذلك يستلزم الأوليّة والخفاء وإذ كان في يحيى أيضا هذه الوحدة حتى لا تغاير بين اسمه وصفته وصورته ومعناه وبه صار مظهرا للأوليّة بأن لم يكن سميّا قبله اختص بحكمته.
 
وأيضا فإنّ في تلويحه الكلامي ما يدلّ على أنّه تمام الصور الإظهاريّة الإشعاريّة التي بها بعث الخاتم الآخر ، فذلك أيضا من أدلَّة أوليّته وجلاله .
وإلى ذلك الاختصاص أشار بقوله :
 
وجه تسمية يحيى عليه السّلام
قال رضي الله عنه :  (هذه الحكمة) الجلاليّة هي (الأولية في الأسماء فإنّ الله سمّاه يحيى) مطابقا لما عليه في المعنى ، متّحدا به وإليه أشار بقوله : (أي يحيى به ذكر زكريّا ، ولم يجعل له من قبل سميّا) ، فبين اسمه العلم ووصفه وفعله اتّحاد في لفظ « يحيى » فإنّه فعله أولا - إذ هو صيغة الفعل - وهو وصفه واسمه والشيخ أدرج الفعل في الصفة
ولذلك قال رضي الله عنه : (فجمع بين حصول الصفة - التي فيمن غبر ممن ترك ولدا يحيى به ذكره - وبين اسمه، بذلك) اللفظ الدالّ على حصول الإحياء بذكره ، (فسمّاه يحيى) ، ففي لفظ « الحصول » تنبيه إلى مرتبة الفعل أيضا .
 
فرق العلوم الاستدلاليّة والذوقيّة
ثمّ إن العلوم أيضا لها ثلاث مراتب :
1 - ذات وهو المعلوم الحاصل في العالم ،
2 - ووصف يثبته وهو الدليل ، فإنّ الأوصاف هي الدليل المثبت للأعيان .
3 - وفعل : وهو ما يترتب عليه من الالتذاذ به ، وهو لم يفارق حصول الصفة التي هو الدليل ، فلذلك عبّره به .
ثمّ العلوم الاستدلاليّة تفارق أوصافها الذوات منها فإنّ الدليل منها علوم أخر غير المدلول مادّة وصورة .
وأمّا العلوم الذوقيّة فمنطوية على دليله ، وهو متّحد بالمعلوم منها ، مندرج فيه .
ولذلك ترى العالم يلتذّ به أكثر مما يلتذّ البرهانيّات ، ومن ثمّة تختصّ باسم « الذوقيات » ( فكان اسمه يحيى ) من حيث اشتماله على وصفه ومعناه ( كالعلم الذوقي ) المندرج فيه وصفه ومعناه ، يعني دليله .
 
 إحياء ذكر زكريّا بيحيي عليه السّلام
وإنما قال رضي الله عنه : « يحيى به ذكر زكريّا » ( فإنّ آدم حيّي ذكره بشيث ، ونوحا حيّي ذكره بسام - وكذلك الأنبياء - ولكن ما جمع الله لأحد قبل يحيى بين الاسم العلم منه )
أي من يحيى ويحتمل أن يرجع إلى « الله » أي الحاصل منه ، والأوّل أظهر ( وبين الصفة إلا لزكريّا ، عناية منه ) حيث جعل اسمه وعلمه ما يظهر به أوصافه ومعناه .
 
ثمّ إن هذه العناية وإن كان في حقّ يحيى بحسب الظاهر ، ولكن لما كان مسؤول زكريّا ، وقد أجيب وأعطي له من خزانة الوهب مراده على أتمّ وجه وأكمل ظهور - كان في حق زكريّا أيضا نعمة وعناية .


قال رضي الله عنه :  ( إذ قال : “  فَهَبْ لِي من لَدُنْكَ وَلِيًّا “  [ 19 / 5 ] فقدّم الحقّ على ذكر ولده - كما قدّمت آسية ذكر الجار على الدار في قولها : “  عِنْدَكَ بَيْتاً في الْجَنَّةِ “ [ 66 / 11 ] فأكرمه الله بأن قضى حاجته وسمّاه بصفته ، حتى يكون اسمه تذكارا لما طلب منه نبيّه زكريّا عليه السّلام ) .
"" أضاف الجامع : قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب الثاني وثلاثمائة: 
وكمال مريم شهد لها بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم
ولآسية امرأة فرعون فأما كمال آسية فلشرف المقام الذي ادعاه فرعون فلم يكن ينبغي لذلك المقام أن يكون العرش الذي يستوي عليه إلا موصوفا بالكمال
فحصل لآسية الكمال بشرف المقام الذي شقي به فرعون ولحق بالخسران المبين وفازت امرأته بالسعادة ولشرف المقام الذي حصل لها به الكمال قالَتْ:" رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً في الْجَنَّةِ "
فما أنطقها إلا قوة المقام بـ "عندك" ،


ولم تطلب مجاورة موسى ولا أحد من المخلوقين ولم يكن ينبغي لها ذلك فإن الحال يغلب عليها فإن الكامل لا يكون تحت الكامل ، فإن التحتية نزول درجة ولما كان كمال مريم بعيسى في نسبته إليها لم تقل ما قالت آسية ،
آسية تقول:" نَجِّنِي من فِرْعَوْنَ وعَمَلِهِ ونَجِّنِي من الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" حتى لا تنتهك حرمة النسبة. ومريم تقول "يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا " وهي بريئة في نفس الأمر عند الله ،
فما قالت ذلك من أجل الله كما قالت آسية "عِنْدَكَ" فقدمته وطلبت جواره والعصمة من أيدي عداته ولكن قالت ذلك مريم حياء من الناس ،
لما علمته من طهارة بيتها وآبائها فخافت من إلحاق العار بهم من أجلها ،
ولما ذكرنا أن العالم كان مستورا في غيب الله وكان ذلك الغيب بمنزلة الظل للشخص
فلو سلخ من الظل جميعه أمر ما لخرج على صورة الظل والظل على صورة ما هو ظل له،
فالخارج من الظل المسلوخ منه على صورة الشخص،
ألا ترى النهار لما سلخ من الليل ظهر نورا فظهرت الأشياء التي كانت مستورة بالليل ظهرت بنور النهار ،
فلم يشبه النهار الليل وأشبه النور في ظهور الأشياء به ، فالليل كان ظل النور والنهار خرج لما سلخ من الليل على صورة النور ،


كذلك العالم في خروجه من الغيب خرج على صورة العالم بالغيب كما قررناه ،
فقد تبين لك من العلم بالله من هذا المقام ما فيه كفاية إن عرفت قدره "فَلا تَكُونَنَّ من الْجاهِلِينَ " .أهـ  ""
ولما كان إظهار الأوصاف الكمالية في الاسم من الصورة التي هي مقتضى أمر النبوّة وحكمها ، أفصح عن ذلك بقوله : « نبيّه زكريّا » تنبيها لذلك .
ثمّ إنّه إنما اختصّ بين الأنبياء بهذه الكرامة ( لأنّه عليه السّلام آثر بقاء ذكر الله في عقبه ) عند استدعائه الولد الذي هو باطن والده ، ( إذ الولد سرّ أبيه ) الظاهر بما في باطنه من الأوصاف الوارث له وهي هاهنا أحكام النبوّة ولذلك ما خصّص زكريّا نفسه بالوارثيّة المذكورة ،
قال رضي الله عنه :  ( فقال : “ يَرِثُنِي وَيَرِثُ من آلِ يَعْقُوبَ “)  [ 19 / 6 ] إفصاحا عن ذلك المقصود ، فإنه إذا كان الوارثون هم الأنبياء ( وليس ثمّ موروث في حق هؤلاء إلا مقام ذكر الله ) ، وهو مقام ولايته ( والدعوة إليه ) ، وهو طرف نبوّته .
 
قال رضي الله عنه :  ( ثمّ ) من جملة ما أكرم الله على يحيى ( أنّه بشّره بما قدّمه ) على الأقران أو بالحياة التي قدّم ذكرها وما يكملها ، أو بشّره بسبب ما قدّم اسم الله على اسمه - وهذا أقرب الوجوه إلى التوجيه ، لكن لا يطابق بيان  ( من سلامه عليه يوم ولد ) أي عند ظهوره من مستجنّ بطون امّهات القوابل واستعداداتها .
 
أيّام الأنبياء
وذلك لأنّ الأنبياء لهم في استحصال كمال النبوّة ثلاث مراتب ، كلّ مرتبة منها يوم من أيّام ذلك النبيّ باعتبار اشتمال ظهور تلك المرتبة على امتداد يكون مبدأ إعلان جملة من تفاصيل الأعيان وأحكامها ، من مبدأ طلوع حكم تلك المرتبة إلى منتهى غروبه وهذا يشمل اليوم الزمانيّ أيضا .
 
فأولاها عند استخراج ما في قوّة قبول ذلك النبيّ وبطون استعداده على صحائف الأكوان ومجالي الفعل والعيان ومن الحكم والحقائق والمصالح على ما عليه الأمر في نفسه ، وكنّى عنها بيوم الولادة . ووجه المناسبة بها ظاهر . 
وثانيها عند ظهور تمام ذلك الكمال واجتلائه عليه بأحديّة جمعيّته عند سكون أمره وانقطاع تلك الحركة الوجوديّة الشوقيّة فيه وبهذه المناسبة عبّر عنه بيوم الموت ، وإليه أشار بقوله : ( “  وَيَوْمَ يَمُوتُ “  ) وأيضا " الموت " يلوح على « التامّ » بمادته. 
وثالثها عند بعثها بأحكام النبوّة وإظهار الصور الشرعيّة والسنن العمليّة التي عليها يحشر الأمم يوم القيامة . ولهذا عبّر عنه بيوم البعث ، وإليه أشار بقوله : ( “  وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا “ ). 
وإذ كان إحياء اسم زكريّا منه مخصوصا بهذه المرتبة ، نبّه إليه  (فجاء بصفة الحياة ، وهي اسمه ) الدالّ على وصفه - أعني إحياء ذكر زكريّا .
 
الوجوه المتعددة في تفسير آية واحدة من القرآن الكريم
ثمّ هاهنا نكتة حكميّة ينبغي أن يقف عليها المتدبّر في الكلام المنزل النبوي ووجوه معانيه وتأويلاته كلّ الوقوف ، وهو أنّ كل معنى لا يمانع الظاهر ولا ينفي ما يستفاد منه بحسب أصل معنى العربيّة مما يفهم منه العامة ويستكشفونه عن كتب التفاسير ، بل يعمّه ويشمل غيره من وجوه بطون الكتاب ، المنطوية على الحقائق ،
على ما أشير إليه في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : "  إنّ للقرآن ظهرا وبطنا وحدّا ومطَّلعا " قاله الغزالى في الإحياء و اخرجه ابن حبان .
 
فذلك هو المعتبر المعوّل عليه عند المحقّقين ، كما في الأيّام الثلاثة ، على ما اطَّلعت عليه .
وذلك لأن سائر المعاني مراد الله تعالى ، فإنّ المعنى أمر واحد يتنزّل ويترقّى بحسب مدارك الأمم ومدارج أذواقهم وأذهانهم عند التوجّه إلى الكلام ، وإذ كان القرآن جوامع الكلم كلَّها ، لا بدّ وأن يكون مطابقا لسائر المذاهب والآراء وجملة الأذواق والأذهان ، وعند التحقيق لا تنافي بين شيء من ذلك ، فلا تغفل عن النكتة .
 
مقايسة بين عيسى ويحيى عليهما السّلام
وحاصل هذه البشارة أنّه جاء بصفة الحياة على وجه يتضمّن إجابة دعاء زكريّا ، وذلك في علمه الذي بمثابة العلم في الاظهار .
قال رضي الله عنه :  ( وأعلم بسلامه عليه ) في الأيام الثلاثة ، ( وكلامه صدق فهو مقطوع به وإن كان قول الروح : “  السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا “  [ 19 / 33 ] أكمل في الاتّحاد ) ، لأنّه اتّحاد في مادّة التكلَّم التي لا يشوبه غيبة ولا تعدّد ، فهو التنزيه في غاية التشبيه ولكن هذا لسان الولاية لا النبوّة حيث أنّه مصرّح بالاتّحاد الإطلاقي .
وإليه أشار حيث أسند القول إلى الروح ، لا إلى عيسى .
وأيضا فإنّ الروح هو المكنّى عنه بكناية التكلَّم مطلقا ، فلهذا الكلام أكمليّة في طور الولاية والبطون ، ( فهذا أكمل في الاتّحاد ) الذي يتكلَّم به لسان النبوّة ( والاعتقاد ) .
 
أما في الاتّحاد : فلأنّه وإن اشتملت عبارته على ضمير الغائب ، ولكنّه كناية عن يحيى ، وهو مشهود حاضر ، فله الدلالة على الاتّحاد الكمالي ، مع قيامه بشرائط مقامه الذي يتكلَّم فيه ، فإنّه لسان النبوّة وينبغي أن يتكلَّم به بما لا يأبى مدارك أهل الحجاب عنه .
 
وأما في الاعتقاد : فلأنّه أدفع للاحتمالات الواهية المرخية لعقود الاعتقادات ( وأرفع للتأويلات ) المشوّشة للمتردّدين من أهل الحجاب ، الذين معهم كلام الأنبياء ظاهرا ( فإنّ الذي انخرقت فيه العادة في حقّ عيسى إنما هو النطق ) فقط ، وذلك إنما يستلزم تمكَّن عقله وتكمّل آلات النطق الإنسانية وتماميته ،
قال رضي الله عنه :  ( فقد تمكَّن عقله وتكمّل في ذلك الزمان الذي أنطقه الله فيه ، ولا يلزم للمتمكَّن من النطق - على أيّ حالة كان - الصدق فيما به ينطق ) لزوما عقليّا برهانيّا خاليا عن قرائن الأحوال وخصائص المواد ( بخلاف المشهود له ) وقد نبّهت آنفا على وجه هذه العبارة ، من أنّ الضمير وإن كان ضمير غائب ، فإنّ مؤدّاه مشهود حاضر ( كيحيى ) .
 
قال رضي الله عنه :  ( فسلام الحق على يحيى من هذا الوجه أرفع للالتباس ) الذي لأهل الحجاب ، فسلام الحق ( الواقع في العناية الإلهية به ) - فيما فيه من أطوار النبوّة وإحكام أحكامها ( من سلام عيسى على نفسه ، وإن كانت قرائن الأحوال ) الخارجة عن دلالة الألفاظ ( تدلّ على قربه من الله في ذلك وصدقه إذ نطق في معرض الدلالة على براءة امّه في المهد ، فهو أحد الشاهدين )
في الوجود الكلامي الذي هو طرف العلم والشهود ، وهو تولَّد الكلام من امّ الفم التي هي مادّة نتيجة التكلم بدون أب العقل وبلوغ إدراكه .
 
قال رضي الله عنه :  ( والشاهد الآخر ) في الوجود الخارجي الذي هو طرف العين والوجود (هزّ الجذع اليابس ، فسقط رطبا جنياًّ من غير فحل ولا تذكير ، كما ولدت مريم عيسى من غير فحل ولا ذكر ولا جماع عرفي معتاد ) ، فإنّك قد عرفت أنّ في تلك القضية ما هو أصل الجماع وحقيقته .
 
"" أضاف الجامع قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب الثمانون وأربعمائة : 
وقد بينا عالم الأمر والخلق ما هو وهو الوجه الخاص الذي في عالم الخلق وما عثر عليه أحد من أهل النظر في العلم الإلهي إلا أهل الله ذوقا
ولما كان للصبي حدثان هذا القرب وهو قرب التكوين والسماع ولم يحل بينه وبين إدراك قربه من الله حائل لبعده عن عالم الأركان في خلقه
فلم يكن عن أب عنصري ولكن كان روح الله وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ فلم يكن ثم ما يغيبه عمن صدر عنه
فقال مخبرا عن ما شاهده من الحال فحكم في مهده على مرأى من قومه الذين افتروا في حقه على أمه مريم فبرأها الله بنطقه وبحنين جذع النخلة إليه إذ أكثر الشرع في الحكومة بشاهدين عدلين ولا أعدل من هذين
فقال إِنِّي عَبْدُ الله فحكم على نفسه بالعبودية لله وما قال ابن فلان لأنه لم يكن
ثم وإنما كان حق تجلى في صورة روح جبريل لما في القضية من الجبر الذي حكم في الطبيعة بهذا التكوين الخاص الغير معتاد
آتانِيَ الْكِتابَ فحصل له إنجيله قبل بعثه فكان على بينة من ربه
فحكم بأنه مالك كتابه الإلهي وجَعَلَنِي نَبِيًّا
فحكم بأن النبوة بالجعل لأن الله يقول في أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ
فهو في الصورة بالجعل لئلا يتخيل أن ذلك بالذات بل هو اختصاص إلهي وجَعَلَنِي مُبارَكاً أي خصني بزيادة لم تحصل لغيري
وتلك الزيادة ختمه للولاية ونزوله في آخر الزمان وحكمه بشرع محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم
حتى يكون يوم القيامة ممن يرى ربه الرؤية المحمدية في الصورة المحمدية
أينما كنت من دنيا وآخرة فإنه ذو حشرين يحشر في صف الرسل ويحشر معنا في أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أهـ. ""
 
المستفاد من تكلم عيسى عليه السّلام في المهد
وإذ كان لكلامه هذا دقّة تأبى نفوس أكثر الناس عنه ، مثّله بمثال يكشف وجه دقّته ، وهو قوله :
 
قال رضي الله عنه :  ( لو قال نبيّ : « آيتي ومعجزتي أن ينطق هذا الحائط » فنطق الحائط وقال في نطقه : « تكذب ، ما أنت رسول الله » لصحّت الآية وثبت بها أنّه رسول الله ، ولم يلتفت إلى ما نطق به الحائط ) فإن الآية هو نفس التكلم ، لا الكلام بمؤدّاه .
وكذلك أمر نطق عيسى ، ( فلما دخل هذا الاحتمال في كلام عيسى بإشارة امّه إليه - وهو في المهد - فموضع الدلالة أنّه عبد الله من أجل ما قيل فيه ) من قبل المنكرين : ( أنّه ابن الله ، وفرغت الدلالة بمجرّد النطق ) فإنّه كاف في براءة امّه كما سبق بيانه ، لا يحتاج إلى أمر زائد.
 
قال رضي الله عنه :  ( وإنّه عبد الله عند الطائفة الأخرى القائلة بالنبوّة ) لعيسى ( وبقي ما زاد ) على عبوديّته لله وبراءة امّه - وهو أنّه قد آتاه الله الكتاب وجعله نبيّا وجعله مباركا حيث كان - ( في حكم الاحتمال في النظر العقلي ،حتى ظهر في المستقبل ) .
بعد ظهور الخاتم وتصديقه إيّاه بكتابه المنزل عليه ( صدقه في جميع ما أخبر به في المهد ) ولذلك ما ظهر أمر نبوّة عيسى إلا بعد رفعه واختفائه ،
فإنّه في زمان عيسى ما آمن به إلا شرذمة قليلة ، وما تمكَّن من إبلاغ ما بعث لأجله إلا بعد بعث الخاتم وإبلاغ كتابه الكامل على امّته ،
فحينئذ استعدّوا لتصديق الروح بتمام ما أخبر به في المهد فلذلك تنزل الروح بعد الخاتم ويتمّ أمره الذي خلق له وبعث به ومن ثمّة قال : ( فتحقّق ما أشرنا إليه ).
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 21 - فصّ حكمة مالكيّة في كلمة زكرياويّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:11 am

21 - فصّ حكمة مالكيّة في كلمة زكرياويّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص الزكرياوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
21 - فصّ حكمة مالكيّة في كلمة زكرياويّة                الجزء الأول
وجه تسمية الفصّ
ووجه اختصاص هذه الكلمة بحكمتها هو أنّ « المالك » له معنى الشدّة .
كما يقال : « ملكت العجين » إذا شدّد عجنه . فله معنى شدّة الامتزاج .
وله معنى الوسط أيضا كما قيل ومِلْك الطريق: وسطه، قال يصف ناقة :
أقامت على ملك الطريق فملكه  ..... لها ، ولمنكوب المطايا جوانبه
أي في وسط الطريق .
 
وإذ قد كان لزكريّا شدّة قوّة المزاج لوقوعه في وسط طريق الاعتدال - ولذلك تراه قد قاوم تصادم البليّات بدون تبرّم ولا إظهار اضطراب وتشكّ ومن هاهنا تراه ما انقطع له عند بلوغ الكبر مادّة التوالد كما هو المعهود من أمزجة بني نوعه .
 
هذا ما له من القوّة بحسب ظاهر مزاجه وله أيضا قوّة بحسب باطن ذلك المزاج - يعني الهمّة - وهي أنّه قد همّ بحصول ولد يحيى به ذكره مع يأس بالغ كان له من تحصيله ، بوهن آلات التناسل منه ومن زوجته حيث قال “  أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ من الْكِبَرِ عِتِيًّا “  [ 19 / 8 ] ،
وأنّه قد وهب له يحيى ، حيث أنّ اسمه ينطوي على وصفه المطلوب إظهاره - كما قد اطَّلعت على ذلك  .
وأيضا قد عرفت في الفصّ اللوطي الذي هو رابع الثانية أنّ حكمته ملكيّة لما فيه من الشدّة التي يأوي إليها من قومه ،
وإذ كان ذلك القوّة لزكريّا بين أفراد قومه من ابنه يحيى ، تفرّد في ثالث الثالثة الختميّة بالمالكيّة كما لا يخفى على اللبيب وجهه .
 
المناسبات الحرفية في اسم زكريا ومالك
ثمّ إنّ هاهنا تلويحات : وهي أنّ حاصل فضل عدد « زكريا » يوافق ذلك من مالك في أصل العقود ، وفي عدد « زكريا » أيضا مادّة حروف " الرحمة " أكثرها بالفعل والباقي بالقوّة .
 
ومن كمال هذه النسبة أنه ظهر أمر رحمته الوجوديّة في مرتبة الكلام ، الذي هو مادّة « المالك » ، ولذلك خصّ بين الأنبياء بالمذكوريّة فإنّ صاحب الوجود الكلامي هو المذكور الذي ظهر اسمه في هذه المرتبة - لا الذاكر - حيث قال تعالى : “  ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَه ُ زَكَرِيَّا  [19 : 1 ]   . ولذلك أخذ في تحقيق معنى الرحمة قائلا :
 
سعة الرحمة وشمولها للكل
قال الشيخ رضي الله : ( اعلم أنّ رحمة الله وسعت كل شيء : وجودا ) - وهو ظهور ذاته وعينه في مراتب الوجود - ( وحكما ) وهو ظهوره واعتباره في حضرة الغيب بالفيض الأقدس قبل الوجود ، وبعده أيضا عند طريان الأحكام الكونيّة ، فإنّ الكلّ داخل في رحمة الله تعالى .
 
فالرحمة هي العامّة التي لا شيء يشذّ عنها . وما توهّم بحسب مفهومه أنّه مقابل لها - يعني الغضب - فهو أيضا داخل فيها ، ضرورة أنّه مشمول للوجود الذي هو من الرحمة .
 
قال الشيخ رضي الله : ( وأنّ وجود الغضب من رحمة الله بالغضب ، فسبقت رحمته غضبه ) سبقا ذاتيّا إحاطيّا ( أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه ) ، فإنّ الرحمة أقرب نسبة إلى الهويّة المطلقة من سائر الأسماء ، لعموم نسبتها وتمام إحاطتها والذي يدلّ على ذلك هو ما أشار إليه بقوله رضي الله عنه   : ( ولمّا كان لكل عين وجود يطلبه من الله ، لذلك عمّت رحمته كلّ عين ) ، أي لما كان وجود العين مطلوبا من الله ومسئولا عنه ، والضرورة حاكمة بأنّ المطلوب من الجواد المطلق موهوب على كل حال ، عمّت رحمة الله كلّ الأعيان .
 
ثمّ إنّه يمكن أن يقال هاهنا : إنّ طلب العين وجوده ، قبل وجوده وحصوله ، والطلب وصف لا بدّ وأن يكون لمحلَّه حظَّ من الوجود ؟
 
فأزال ذلك بقوله : ( فإنّه ) أي فإنّ كلّ عين ( برحمته التي رحمه ) الله ( بها ) - في الفيض الأقدس والتجلَّي الغيبيّ الذاتي - حصل له حظَّ من الرحمة بها ( قبل رغبته في وجود عينه ، فأوجدها ) بالفيض المقدّس في التجلَّي العيني
فقبول العين لرغبته التجلي وطلبه ، من حكم الرحمة التي بالفيض الأقدس ( فلذلك قلنا : إنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ) .
 
ثمّ إنّه قد أدرج في طيّ هذه العبارة نكتة ، وهي أنّ الضمائر التي لكل عين قد ذكَّرها ما كان منها قبل قوله : « فاوجدها » اعتبارا بلفظ الكلّ ، وتنبيها بذلك على أنّ الأعيان في الفيض الأقدس غير متميّزة عمّا فيه من التجلي الغيبي الذي هو بمنزلة كله ، بل الأعيان هناك عين الكلّ وأما في الفيض المقدس  فقد حصل للعين امتياز ، كما بيّن وجهه في موضعه .
 
ولذلك أنّث الضمير في " أوجدها " . فلا تغفل عن دقائق إشاراته في لطائف عباراته .
 
ثمّ إنّك إذا عرفت هذا ظهر لك أنّ من جعل قوله « قبل رغبته » ظرفا بمعنى « سابق رغبته » ، فهو في طرف من مقصود الكتاب ، كما أنّ من جعله فعلا راجعا فاعله إلى « الله » في آخر منه .
 
الأسماء في الفيض الأقدس
ثمّ إنّه لما ذكر أنّ سبق الرحمة إنما هو لقرب نسبته إلى الحقّ ، وذلك لشمول إحاطتها وكمال سعتها ، أخذ يحقّق مراتب سعة الرحمة وموادّها بقوله :
قال الشيخ رضي الله : ( والأسماء الإلهية من الأشياء ) التي شملتها الرحمة ( وهي ) من حيث أنّها مشمولة للرحمة والوجود ( ترجع إلى عين واحدة ) كما سبق تحقيقه من أنّ الأسماء من حيث خصوصيّاتها الامتيازيّة نسب لا وجود لها ، ومن حيث أنّها راجعة إلى عين واحدة لها الوجود . فتلك العين الواحدة مبدأ وجود الأسماء .
 
قال الشيخ رضي الله : ( فأول ما وسعت رحمة الله شيئيّة تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة ) فهي الراحمة ، وهي المرحومة . وهذه مرتبة الفيض الأقدس ، الذي لا ثنويّة فيه بين الفائض والمفاض .
وفي هذه الحضرة ظهرت أعيان سائر الأسماء والحقائق ، لا وجودها وشيئيّتها والأعيان في هذه الحضرة هي المسمّاة بالشؤون الذاتيّة اصطلاحا ومعناه بلسان الإشارة التلويحية أنّ شيئيّتها عين عينيّتها فيها .
 
 مراحل انتشار الأسماء والأعيان  
قال رضي الله عنه :  ( فأوّل شيء وسعته الرحمة نفسها ) ، ونفس الرحمة هي المسمّاة بالنفس الرحماني عند فتح فاء التفصيل ونصبه شفتيه وفاه لجمع الكلمات الوجوديّة  والفرق فيها في الثاني من الحضرتين .
 
قال الشيخ رضي الله : ( ثمّ الشيئيّة المشار إليها ) بالشيء المطلق ، وهو التجلَّي الثاني النفسيّ في الحضرة الواحدية . وهاهنا تتميّز الأعيان عن الوجودات ، ويقال لها الأعيان الثابتة .
 
قال الشيخ رضي الله : ( ثمّ شيئيّة كل موجود ) في العوالم والمراتب الإمكانية التي غلبت الكثرة وحكمها حتّى ( يوجد إلى ما لا يتناهى ، دنيا وآخرة ) ، صورة ومعنى ( و ) الصورة ( جوهرا وعرضا ، و ) الجوهر ( مركَّبا وبسيطا ) فلا تخصيص لوصف ولا وضع أصلا ، ( ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم كلَّه وسعته الرحمة الإلهيّة وجودا ) في العوالم ، فتكون الرحمة سابقة على الغضب .
 
الأثر للمعدوم ، لا للموجود
ثمّ إنّه قد ظهر لك من تحقيقه هذا أنّ الوجود أثر طلب الأعيان الثابتة في العدم ، إذ طلبها للوجود إنما يكون عند خلوّها عنه ضرورة ، وإلا لزم طلب الحاضر وتحصيل الحاصل فقال مفصحا عن أنّه مجرّد الاستبعاد الناشئ عن عدم حكم الجمعيّة القلبيّة الإنسانيّة وعزلها عند استكشاف الحقائق عن صدد الاعتبار والاعتداد :
 
قال الشيخ رضي الله : (وقد ذكرنا في الفتوحات أنّ الأثر لا يكون إلا للمعدوم لا للموجود ) ، فإنّ التوجّه نحو الأثر إنما يتصور عند فقد المتوجّه ما يستحصل بذلك الأثر ، فذلك المتوجه إمّا أصل القابليّة الأولى ، الفاقدة سائر الأسماء ، الخالية عن الكلّ حتى الرحمة والوجود ، فإنّها الطالبة إيّاها ، المستجلبة لها ، المؤثّرة فيها فذلك الأثر للمعدوم ، لا للموجود .


""أضاف الجامع :
قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب التاسع والخمسون وخمسمائة : 
لأن الأمور إنما هي بغاياتها ولها وجدت ،
قال عز وجل وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ،
فاعتبر الغاية وإن تأخرت في الوجود مثل طالب الاستظلال بالسقف فحركته الغاية إلى ابتدائها، فما وقعت العبادة إلا بعد الخلق ، فالغاية هي التي أبرزتهم إلى الوجود
فهي المبتدأ وإن تأخرت في الوجود فما تأخرت بالأثر فإن الحكم والأثر لها
ولذلك قلنا إن الأثر أبدا في الموجود إنما هو للمعدوم والغاية معدومة ولهذا يصح من الطالب طلبها
لأن الموجود غير مراد فالغاية المعدومة هي التي أثرت الإيجاد أو هي سبب في أن أوجد الحق ما أوجده مما لم يكن له وجود عيني قبل هذا الأثر السببي،
ويسمونه بعض العلماء العلة وبعضهم يسميه الحكمة وبعد أن عرف المعنى فلا مشاحة في الإطلاق ومن ذلك الجهر والهمس لفظ النفس
الأمر في العقل وفي النفس   ..... مقرر في الجهر والهمس
فكل ما يشهده ناظري   ..... أدركه بالعقل والحس
وأشهد المعنى الذي ساقه   ..... ولست من ذلك في ليس  ""
 
وأمّا حقيقة الحقائق عند تطوّرها في أطوار المراتب الاستيداعيّة منها والاستقراريّة ، فذلك الأثر قال الشيخ رضي الله : ( وإن كان للموجود ) ولكن إذ كان التوجّه له نحو الأثر إنما ينبعث عند عثوره بفقد المستحصل به ، الحاصل منه ، يكون الحكم والقهرمان في هذه الصورة أيضا للمعدوم وإليه أشار بقوله : ( فبحكم المعدوم ) .
 
وهذا يناسب ما تسمع الحكماء يقولون : « إنّ الغاية علَّة عليّة الفاعل » وهي حينئذ معدومة ، وإن كان ذوو النظر منهم يعكسون القضيّة ويحكمون جزما بأنّ الأثر إنما يكون للموجود ، والمعدوم لا أثر له ويجعلون هذا الحكم مبادئ مسائلهم ومباني أصولهم ومقاصدهم .
 
ولذلك قال الشيخ رضي الله : (وهو علم غريب ) - فإنّه بعيد عن مدارك العقل الذي ما جاوز عما هو خاصّة مرتبته ، ولا تلطَّف من هذا الامتزاج الجمعي بعض التلطَّف ، ولا تقلَّب بهذه التقلَّبات البرزخيّة القلبيّة بعض التقلب –
قال رضي الله عنه :  ( ومسألة نادرة ) فإنّ أكثر المسائل في عرف تخاطب هذا المصطلح مبنى براهينها على الاستدلال بوجود الأثر على وجود المؤثّر ، والجزم بوجود المعلول عند العثور على وجود علَّته وهذه المسئلة نادرة بين تلك المسائل ، حيث أنّ مبنى حكمها على عكس ما عليه مباني البراهين اليقينيّة الكاشفة عن الأحكام أنفسها .
 
فلئن قيل : لو اعتبر اصطلاح التخاطب في استعمال المسألة لا يصحّ أصلا ، فإن المسألة في عرف التخاطب بين أرباب هذه الصناعة هو ما برهن عليه ، ولا برهان على هذا الحكم ، فكيف يكون مسألة ، حتّى يقال : إنّها نادرة ؟
 
قلنا : كأنّ الغرض في استعمال لفظ « المسألة » هاهنا التنبيه على أنّها مما يمكن أن يبرهن عليها لذوي القرائح اللطيفة ،
والخواطر الفارغة الخفيفة وذلك أنّه لو اعتبر حيثيّة التأثير في المؤثّر لا يمكن أن يكون بذلك الاعتبار موجودا عند المتفطَّن الذي لا يقصر أمر الحكم في الحقائق على ما هو مجرّد العقل وفيما سبق لك هاهنا من كلام الحكماء دلالة بيّنة على حقيقة الأمر ،
فإنّ الغاية إذا كانت علَّة لعليّة الفاعل والسبب المحرّك له نحو تحصيل المعلول وإيجاده في مرتبة تكون الغاية معدومة فيها ، كانت العلَّة الفاعلية فيها معدومة ، وإن
 
كان لها حظَّ من الوجود في مرتبة أخرى ولكن الكلام في أنّ الأثر - حيثما كان - إنما هو للمعدوم فيه وهذا البرهان إنما هو لمن جمع بين سائر القوى الإدراكيّة التي في الجمعيّة القلبيّة الإنسانيّة ، غير عاذل ولا معطَّل لشيء فيها ، كما هو دأب المترهّبين من المتصوّفة والمتفلسفة.
 
العقل والخيال والوهم
ثم إنّ هاهنا نكتة حكميّة لا بدّ من الوقوف عليها ، وهي أنّ مقتضى نشأة العقل ومؤدّى مداركه وحكمه إنما هو التنزّه والتجرّد عن القيود المشخّصة مطلقا - صوريّة كثيفة ظلمانيّة كانت ، أو معنويّة لطيفة غير ظلمانيّة - فلا يكون مسرح أنظاره إلا الكليّات من المعاني المجرّدة عن الموادّ الهيولانيّة الظلمانيّة ،
والقيود المشخّصة الإمكانيّة ، والخيال - بما في حيطة حكمه من سدنة القوى الحسّية - يقابل العقل في مداركه فإنّه إنما يدرك الصور الجزئيّة المشخّصة ، المحفوفة بالغواشي الإمكانية والمواد الهيولانيّة
وأمّا الوهم فهو البرزخ الجامع بينهما ، فإنّه إنما يدرك المعاني المجرّدة عن الكثائف الهيولانيّة التي بها يتصوّر المعاني ، ولكن محفوفة بالمشخّصات المعنويّة فهو الجامع بين المدارك الجزئيّة الصوريّة التي هي مناط أمر التشبيه ، وبين المعاني الكليّة التي هي مظاهر حكم التنزيه .
ومن هاهنا تراه مبدأ أمر الوجد ومنشأ ظهور الشوق . وكأنّا قد أشرنا في كتاب المناظرات إلى مزيد بحث لذلك البحث ، فمن أراد الوقوف عليه فليطالع ثمة .
 
مدرك أصحاب الأوهام
وإلى مغزى هذه النكتة أشار بقوله : ( ولا يعلم تحقيقها إلا أصحاب الأوهام ) الذين لم يقتصروا في هذه الجمعيّة الكماليّة الإنسانيّة على حكم العقل الصرف ، بل مزّجوه بما هو مقتضى هذا الاعتدال ، وقلَّبوا حكم العقل بالتقلَّبات القلبيّة ، ومدرك القلب هو المسمى بالذوق .
 
وإليه أشار بقوله : ( فذلك بالذوق عندهم ) الناشئ من إدراك المعاني الجزئيّة في المراتب ، لا بالفكر المستحصل من تعقّل الكلَّيات المجرّدة عن الموادّ جملة .
 
قال الشيخ رضي الله : ( وأمّا من لا يؤثّر الوهم فيه فهو بعيد عن هذه المسألة ) فإنّ من الناس من سلَّط في محكمة علومه وإدراكاته العقل ، وعزل الوهم عنها ، وذلك إنما يتمّ له بفنون التعمّلات الشاقّة ، والرياضات المتعبة له فوق الطاقة فإنّه خلاف مقتضى هذه النشأة القلبيّة الإنسانيّة ، إذ الوهم في هذه النشأة له سلطان عظيم وقهرمان قوىّ على العقل ، ولذلك ترى العقل واقفا بما له من المقدّمات البيّنة الإنتاج عندما توقّف الوهم ، كما في صورة جماديّة الموتى وعدم الخوف من الجماد .
 
وذلك لأنّ حكم الجزئيّات في الوجود الخارجي وسائر المراتب الظهوريّة غالب على حكم الكليّات . حيث أنّها موطن ظهور الجزئيّات ، ونفاذ أحكامها .
والوهم هو الحاكم الفصل بين القوى المدركة للجزئيّات ، فإنّه المتدبّر في لطائف المعاني منها ، دون كثائف الصور ومن ثمة ترى مقاليد أحكام طرف التشبيه بيده - كما سيبيّن تحقيقه في الفصّ الآتي :-
ثمّ إنّ هذه المسألة أصلها من تأثير حكم المرتبة التي هي معدومة في نفسها .
وبيّن أن مبادئ التأثير من تلك المراتب إنما هي معاني جزئيّة مستحصلة من النسب العدميّة ، والوهم هو الذي يفهم ذلك الحكم بين المشاعر ، فمن لم يكن للوهم سلطان وتأثير في باطنه يكون بعيدا عن إدراك هذه المسألة .
 
مناقشة ما قاله بعض الشارحين
وإذا عرفت هذا ظهر لك أنّ من أوّل « الوهم » هاهنا بـ « الهمة المؤثّرة في الأشياء » بعيد عن إدراك هذا الموضع ، وكأنّه إنما حمله على ذلك ما سمعه من بعض أرباب النظر ومترهّبيهم - : « إنّ الوهم والخيال هما المانعان عن إدراك الحقائق ، فيجب عزلهما عن الحكم » وقصدهم في ذلك إنما هو تحقيق الحقائق التنزيهيّة ،
"" أضاف المحقق :
إشارة إلى ما قاله الكاشاني: « أي الذين يؤثرون الأشياء بالوهم فيوجدونها » . ""
 
فإنّ العلوم عندهم مقصورة عليها - ذاهلا عمّا مهّد الشيخ من الأصول النافية لذلك ، وعمّا سيحقّقه في الفصّ الإلياسي من أنّ التشبيه في عين التنزيه إنما يفهمه الوهم ، كما أن التنزيه في عين التشبيه إنما يدركه العقل .
 
ثمّ إذ قد انساق الكلام في بحث الرحمة إلى أنّ الأعيان والأكوان الجزئيّة الظاهرة في المراتب هي المؤثّرة في الرحمة الوجوديّة السارية فيها ، المكتسبة منها أحكامها . عبّر عن ذلك نظما ، مفصحا بقوله :
قال الشيخ رضي الله : ( فرحمة الله في الأكوان سارية ) ... بكمال لطفها وبكون ألطف ما في المراتب والعوالم من الذوات والأعيان ، فلذلك قال فيها « سارية » إشعارا لمعنى السري الذي هو السير بالليل لخفائه وبطونه .
قال الشيخ رضي الله : ( وفي الذوات وفي الأعيان جارية ) فإنّ الجريان إنما يقال لما له قوام وكثافة ما وظهور . ثم إنّ نسبة السراية والجريان في الجزئيّات المذكورة إنما هي مدرك الوهم الذي هو مؤسّس قواعد الشهود ، دون الفكر ،
 
ولذلك قال رضي الله عنه  : ( مكانة الرحمة المثلى إذا علمت .... من الشهود مع الأفكار ، عالية )
أي مكانة الرحمة وإن علمت مع الأفكار ، فهي عالية عنها لأن مدارك الأفكار والأنظار مقصورة على المجرّدات من الغواشي المشخّصة الخارجية واللواحق المعيّنة ، أعني الكليّات المنزهّة جملة عن الموادّ وما يتبعها .
ونبّه بلفظ « المعيّة » هاهنا إلى أنّ الأفكار أيضا من الأكوان التي سرت فيها الرحمة ، فيكون معها ، فالرحمة إذا علمت يكون معها الأفكار ، لا بها ومنها .
 
ذكر الرحمة شيئا عين إيجادها
ثمّ إنّه إذا ظهر أنّ الرحمة هي التي بسريانها وجريانها وجدت الأكوان والأعيان ( فكلّ من ذكرته الرحمة ) بنفسها ، المسمّى بالنفس الرحماني ( فقد سعد ) فإنّ السعادة هي معاونة الأمور الإلهيّة للإنسان على نيل الخير ، والوجود منبع الخيرات ( وما ثمّ الا من ذكرته الرحمة ) فإنّ ذكر الرحمة عبارة عن ظهور الكلمات الوجوديّة بالنفس الرحماني، وما لم يظهر به فهو معدوم .
قال الشيخ رضي الله : ( وذكر الرحمة الأشياء عين إيجادها إيّاها ) فإنّ ذكر الرحمة من قبيل إضافة المصدر إلى فاعله ،
 
قال رضي الله عنه :  ( فكل موجود مرحوم ولا تحجب - يا وليّ - عن إدراك ما قلناه بما تراه من أصحاب البلاء ، وما تؤمن به من آلام الآخرة التي لا تفترّ عمن قامت به )
ولا تسكن وذلك لأنّ ما تدفعه المقدّمات اليقينيّة كالمحسوسات أو ما يجري مجراها من العقائد الراسخة بفنون المؤيّدات وصنوف الشواهد والبيّنات
لا بدّ وأن يحتجب بذلك اللبيب الطالب عن التفطَّن له ، يعني أرباب الذكاء ، ممن له نسبة أكيدة بأهل الحقّ وإليه أشار بقوله : « يا وليّ » ، فإنّ من دونه في الفهم والنسبة لا تقف في مقام الحجاب والتردّد أصلا ، بل ينبو عن ذلك ويتنفّر - فرار الحمر من القسورة - إذ هي الغلبة ، وأهل الحجاب القويّ والتعيّن الغالب يتنفّرون من تلك الغلبة التي بها ينكسر تعيّنهم ، ويفرّون فرار الحمر من قسورة الأسد أو الصائد .
 
الحقّ المخلوق أول مرحوم
ثمّ إنّه أخذ في بيان ما يكشف به حجاب التدافع المذكور بقوله :
قال الشيخ رضي الله : ( واعلم أوّلا أنّ الرحمة إنما هي في الإيجاد عامّة ) بناء على ما مهّد في مطلع الفصّ من أنّ الرحمة لها الإحاطة بالوجود ، ( فبالرحمة بالآلام أوجد الآلام . ثم إنّ الرحمة ) عند انبساطها المسمّى بالإيجاد ( لها الأثر بوجهين : أثر بالذات ) في أنفس الأشياء وذواتها ،
( وهو إيجادها كل عين موجودة ، ولا تنظر ) الرحمة عند تأثيرها بهذا الأثر إلى ما يزيد على نفس الأعيان والذوات فلا تنظر ضرورة حينئذ ( إلى غرض ، ولا إلى عدم غرض ) بالنسبة إلى الموجد ،
قال الشيخ رضي الله : ( ولا إلى ملائم ، ولا إلى غير ملائم ) بالنسبة إلى الموجود ، فإنّها نسب خارجة عن الذوات والأعيان ، وهي غير منظور ولا ملتفت إليها في هذه الأثر ( فإنّها ناظرة في عين كل موجود قبل وجوده ) عند إفضاء حكم الرحمة إليه - على ما عرفت تحقيقه - ( بل تنظره في عين ثبوته ) ، ولا تغفل عمّا نبّهت هناك في وجه تذكير الضمير وتغليب حكم الكل على العين .
 
قال الشيخ رضي الله : ( ولهذا رأت الحقّ المخلوق في الاعتقادات ) ، يعني الصور المجعولة لكلّ أحد في متخيّلته ، على أنّه الحقّ ، مأخوذة إمّا من الدلائل النظريّة معقّدة بها ، أو من المستحسنات التقليديّة مستوثقة منها فهذه صور الحقّ رأتها الرحمة في هذه الحضرة ( عينا ثابتة في العيون الثابتة ، فرحمته ) ، أي الرحمة عند رؤيتها الحقّ المخلوق في العيون الاعتقاديّة ، رحمه الحقّ ( بنفسها بالإيجاد ) ، أي إيجاد الأعيان فإنّ الأعيان بوجودها يظهر الحقّ المخلوق . فهو المرحوم هاهنا كما أنّه الراحم .
قال الشيخ رضي الله : (ولذلك قلنا إنّ الحقّ المخلوق في الاعتقادات أوّل شيء مرحوم ) باعتبار أنّه الغاية وهي الأوّل في مرحوميّته ، وإن كان بعد أسباب بحسب الوجود فهو الأوّل والآخر
وإليه أشار بقوله : ( بعد رحمتها بنفسها في تعلَّقها بإيجاد المرحومين ) .
ثمّ ليعلم أنّ المصنّف قد أدرج في عبارته هذه دقيقة منطوية على جلائل الحكم ، وهي أنّ الأوّل إنما يكون أكمل إذا ظهر فيه أنّه الآخر من حيث أنّه باطن .
وتلك الأوّلية إنما يتصف بها الكامل إذا كان غاية لذي غاية مفضية إليها ، كما في الحقّ المخلوق وهذا من الحكم الجليلة لهذا الأثر الذاتي من الرحمة والتنزّل الجمليّ منها ، فإنّه به صار أوّلا باطنا ، آخرا ، ظاهرا - فلا تغفل .
 
يختلف سؤال أعيان أهل الحجاب وأهل الكشف
فهذا أوّل الآثار من الرحمة عند انبساطها بنفسها ( ولها أثر آخر بالسؤال )
من تلك الأعيان ، فتتفاوت مقترحاتهم بحسب نيّاتهم ومقتضياتهم عند إفصاح ألسنة استعداداتهم وأحوالهم وأقوالهم ، ( فيسأل المحجوبون من الحقّ أن يرحمهم ) من حيث صورته المخلوقة لهم ( في اعتقادهم ) .
و « الحقّ » في لسان الاصطلاح من الأسماء العامّة التي تشمل مراتب الوجود - إلهيّة وكيانيّة - فإنّ الشيخ قال في مصطلحاته :
" الحقّ ما أوجب على العبد من جانب الله ، وما أوجب الحق على نفسه "  . " وما أوجبه "
فيصدق على الصورة المخلوقة التي هي مسؤول المحجوبين .
 
""أضاف الجامع :
قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب الخامس والسبعون ومائتان : 
فالرجوع الإلهي الأول رجوع عناية وتفضل والرجوع الثاني الذي أنتجه رجوعهم إليه
سبحانه في قوله من تقرب إلى شبرا تقربت منه ذراعا  ............
فالرجوع الإلهي الثاني يتضمن أمرين رجوع الاستحقاق منه بمنزلة الجسد
ورجوع المنة منه بمنزلة الروح للجسد الذي به حياته
فإنه وإن كان الاستحقاق بما أوجبه الحق على نفسه فإن الحقيقة تعطي أن لا يستحق العبد شيئا على سيده فمن منته سبحانه على عبد إن أوجب له على نفسه ليأنس العبد بما أوجبه الحق عليه من طاعته ليسارع بأداء ما وجب عليه
فإذا حصل العبد في هذا المقام فليس وراءه مرمى لرام
ويعلم أن الله قد أراد أن ينقله من عالم شهادته إلى عالم غيبه ليكون له غيبه شهادة في موطن آخر غير هذا الموطن له حكم آخر
وهو الموطن الذي تكون فيه المظاهر الإلهية وهو أوسع المواطن
فلهذا عبر عن هذا المنزل بالأجل المسمى لأنه أجل البعث إليه من عالم الشهادة المقيد بالصورة التي لا تقبل التحول في الصور لكن تقبل التغيير وهو زوال عينها بغيرها ، لذلك الغيب الذي كانت به فيدبر الروح الغيبي صورة ذلك الغير
فلهذا قلنا يقبل التغيير ولا يقبل التحويل فإن الحقائق لا تتبدل . أهـ ""
 
قال الشيخ رضي الله : ( وأهل الكشف ) إذ تحققوا أنّ ذواتهم أثر سريان الرحمة الذاتيّة ما عيّنوا للمسئول منه وجها ، فهم ( يسألون رحمة الله ) مطلقا ، لا من اسم خاصّ ( أن تقوم بهم ) وإذ كان القائم بهم والحاكم على نشأتهم الخاصّة إنما هي الرحمة الإلهية ،
قال الشيخ رضي الله : ( فيسألونها باسم الله ) لا بأنفسهم ، ولا بشيء من الأسماء الجزئية فهم لا يزالون تالين بسائر الألسنة : « بسم الله الرحمن الرحيم » ، داعين سائلين به الرحمة المقوّمة لهم ، القائمة بهم ( فيقولون : يا الله ارحمنا ) .
 
الرحمة هي الحاكمة
ثمّ إنّ المبادر من عبارته حيث قال : « أن يقوم بهم » أنّ الرحمة قائمة بالعين ، والعين مقوّمة لها ، والحكم إنما هو للرحمة ،
فصرّح بذلك قائلا : ( ولا يرحمهم إلا قيام الرحمة بهم ، فلها الحكم ، لأنّ الحكم إنما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحل )
وكما بيّن ذلك في الفصّ الآدمي ، أنّ الحياة هي الحاكمة على الحيّ كما ترى في أنّ السلطنة هي الحاكمة على السلطان ، وأنّ الوزارة هي الحاكمة على الوزير ، وكذا سائر المراتب والمناصب هي الحاكمة على من قامت به .
 
العلم الذوقي أنهى مراتب الرحمة
فعلم أنّ ذلك المعنى هو الحاكم ( فهو الراحم ) ، أي المعنى القائم بالمحل هو الراحم ( على الحقيقة . فلا يرحم الله عباده المعتنى بهم إلا بالرحمة ) القائمة بالأعيان أنفسها ، ومن جملة صورها الوجود أو العلم والمراد بهذه الرحمة هو العلم ، فلذلك خصّ العباد المعتنين بهم .
 
وقال أيضا : ( فإذا قامت بهم وجدوا حكمها ذوقا ) وهذا أنهى مراتب الرحمة ، أعني العلم الذوقيّ الذي هو عبارة عن وجدان العارف رحمة الله القائمة به ، المقوّمة إيّاه بما هو الأوّل والآخر .
 
فقد بيّن بهذا الكلام أمر الرحمة وتفصيل جزئيّاتها من المبدء الذي هو قبول القابل وسؤاله بألسنة الاستعدادات ، إلى المنتهى الذي هو العلم الذوقيّ .
ويصدق على سائر المراتب أنّه ذكر الرحمة ، فإنّ المراتب الوجوديّة منها ذكر النفس الرحماني ، والشهوديّة منها ذكر النفس الإنساني ، والرحمة تشملها
 
وإليه أشار بقوله : ( فمن ذكرته الرحمة فقد رحم ) ، فالمذكور هو اسم المفعول ، ( واسم الفاعل هو الرحيم الراحم ) وقد علم أنّ غاية ما استقرّ عليه أمر أهل الكشف في الأثر السؤالي من الرحمة ، هو وجدان حكم الرحمة ، كما أنّ غاية أمر المحجوبين فيه أن يرحمهم الحقّ المخلوق في اعتقادهم .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:12 am

21 - فصّ حكمة مالكيّة في كلمة زكرياويّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة


 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي  



الفص الزكرياوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
21 - فصّ حكمة مالكيّة في كلمة زكرياويّة                 الجزء الثاني
الأحوال وأنها لا موجودة ولا معدومة
فظهر أنّ حظَّ أهل الكشف من الرحمة وأثرها أوفى وكعبهم أعلى ، فإنّ حظَّهم من حكم الرحمة ( والحكم لا يتصف بالخلق ، لأنه أمر توجبه المعاني لذواتها ) ، والخلق إنما يقال لمن تنزّل المبدء فيه بصورة الأثر والفعل . فتكون له مرتبة أخرى في الوجود أظهر وأنزل .
 
والحكم ليس كذلك فإنّه مقتضى المعاني لذواتها ، فلا تنزل فيه أصلا ، فإنّه في الرتبة الأولى السابقة على الوجود ، فإنّه من الأحوال .
قال رضي الله عنه :  (فالأحوال لا موجودة ولا معدومة أي لا عين لها في الوجود لأنّها نسبة ) والنسبة لا عين لها في الوجود ، ( ولا معدومة ) أيضا لأنّ لها حظَّا من الوجود باعتبار الظهور الذي لها ( في الحكم ) ، فإنّ الأحوال وإن لم تكن لها عين في الوجود - مثل العلم والحياة - إلا أنّ لها ظهورا في الحكم ( لأن الذي قام به العلم يسمى عالما ) ، فحكم العالم موجود - يعني العلم
 
 قال رضي الله عنه :  ( و ) العالم ( هو الحال ) ليست لها عين في الوجود ، لأن العين الموجودة هاهنا واحدة ، وهي العالم ( فعالم : ذات موصوفة بالعلم ) ، وكونها عالما ( ما هو عين الذات ، ولا عين العلم ، وما ثم الأعلم وذات قام بها هذا العلم وكونه ) - أي كون الذي قام به العلم –
( عالما ، حال لهذه الذات باتّصافها بهذا المعنى ) ، وهو العلم .
 
"" أضاف الجامع :
قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب الثاني والسبعون وثلاثمائة: 
فعلى الحقيقة لا أثر لموجود في موجود وإنما الأثر للمعدوم في الموجود وفي المعدوم
لأن الأثر للنسب كله وليست النسب إلا أمورا عدمية يظهر ذلك بالبديهة في أحكام المراتب
 كمرتبة السلطنة ومرتبة السوقية في النوع الإنساني مثلا فيحكم السلطان في السوقة بما تريد رتبة السلطانة وليس للسلطنة وجود عيني
وإذا كان الحكم للمراتب فالأعيان التي من حقيقتها أن لا تكون على صورة طبيعية جسمية في نفسها إذا ظهرت لمن ظهرت له في صورة طبيعية جسدية في عالم التمثيل كالملك يتمثل بَشَراً سَوِيًّا وكالتجلي الإلهي في الصور .أهـ  ""
 
وفي عبارته هذه إشعار بسبب تسمية الحال حالا ، إذ بها تتحول الذوات .
قال رضي الله عنه :  ( فحدثت نسبة العلم إليه ) أي إلى الذي قام به بسبب الاتّصاف بالمعنى العلمي الذي هو مبدأ هذه النسبة . وإنما جعل هذين الضميرين للذي قام به دون الذات - مع قربها ،
لأنّ أصل الكلام في مطلق الحال ، وتشخيص هذه الذات وهذا المعنى للتمثيل فقط ، على ما هو الظاهر من عبارته ( فهو المسمّى عالما ) .
فعلم أنّ العالم له حظَّ من الوجود باعتبار العلم الذي هو حكمه .
 
الحقّ تعالى عين الرحمة
قال رضي الله عنه :  ( والرحمة على الحقيقة نسبة من الراحم ) وإن كان بحسب الظاهر الراحم من الرحمة ، وهي مبدؤه كما سبق في بيان العلم والعالم .
( و ) تلك الرحمة ( هي الموجبة للحكم ) ظاهرا وحقيقة ، ( فهي الراحمة ) أي الموجبة لقيام الرحمة بالذات وتسميتها بالراحم ( والذي أوجدها ) من الرحمة ( في المرحوم ما أوجدها ليرحمه بها ) من حيث أنه مرحوم ، ( وإنما أوجدها ليرحم بها من قامت به )
 
تلك الرحمة على ما بيّن ذلك في العلم : أنّه سبب حدوث نسبة العلم إلى من قام به - فيكون إيجاد المرحوم وغايته ليس ليرحم المرحوم من حيث أنّه مرحوم ، بل لثبوت الرحمة لمن قامت به الرحمة ، يعني الحقّ ، ( وهو سبحانه ليس بمحل للحوادث ، فليس بمحل لإيجاد الرحمة فيه ) من جهة إيجاد المرحوم ( وهو الراحم ولا يكون الراحم راحما إلا بقيام الرحمة به فثبت أنّه عين الرحمة ) وإلا لم يكن هو الراحم .
 
صفات الحقّ تعالى عين ذاته
قال رضي الله عنه :  ( ومن لم يذق هذا الأمر ) بذائقة حصّته الخاصّة به من الرحمة الوجوديّة ( ولا كان له فيه قدم ) في المسالك العلميّة من تلك الرحمة حتّى يفهم ما هو الحقّ في الأسماء والأوصاف - من أنّ الرحمة وسائر الأوصاف الوجوديّة لو لم يكن عين الراحم والموصوف بها يلزم أن يكون الموصوف محل تجدد الحوادث .
 
 قال رضي الله عنه :  ( ما اجترأ أن يقول : إنّه عين الرحمة أو عين الصفة ) مطلقا - على ما ذهب إليه الحكماء والمعتزلة والشيعة بين المليّين ،
( فقال : ما هو عين الصفة ولا غيرها ) يعني الأشعري ( فصفات الحق عنده لا هي هو ، ولا هي غيره ، لأنّه لا يقدر على نفيها ) لشهادة بديهة العقل بخلافه ، ( ولا يقدر أن يجعلها عينه ) لأنّه يخالف أكثر أصوله ، ( فعدل إلى هذه العبارة ، وهي ) عبارة ( حسنة ) لأنّها تطابق الأحكام الظاهرة وتناسب أوضاعها ، والحسن هي التناسب .
 
قال رضي الله عنه :  ( وغيرها ) من العبارات الكاشفة عن ذلك ( أحقّ بالأمر منها ) على ما بيّن آنفا ( وأرفع للإشكال ) فإن في تلك العبارة إشكالات عند التحقيق ، على ما يعلم من تصفّح كلامهم ، وهي إنما يزيد إجمالا في اللفظ ، والتحقيق ما سبق ( وهو القول بنفي أعيان الصفات ، وجودا قائما بذات الموصوف . وإنما هي نسب وإضافات بين الموصوف بها وبين أعيانها المعقولة ) ، التي هي مبدأ تمايز الأسماء وتخالفها عند تباين أحكامها وتضادّها .
 
تختلف كيفية سعة الرحمة لكل اسم
ثمّ إنّه ( وإن كانت الرحمة جامعة ) لسائر تلك النسب والإضافات ، ( فإنّها بالنسبة إلى كل اسم إلهيّ مختلفة ) فإنّ رحمة المعزّ غير المذلّ والضارّ غير النافع ، مغايرة بالحقيقة ، لتضادّ ما يترتّب عليها من الأحكام والآثار ( فلهذا يسأل سبحانه ) بلسان الاستعداد ( أن يرحم ) الأعيان ( بكل اسم إلهيّ ، فرحمه الله ) على ما عبّر عنه لسان الخاتم الناطق بالقول الثابت للاستعدادات بقوله تعالى : “  رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ “ ، والتعبير عن الرحمة بصيغة الماضي إشارة إلى ما مهّد من شمول الرحمة لسؤال القابل وأحكامه ، فلها تقدّم ذاتي على السؤال وإن تأخّر عنه وجودا وحكما .
 
قال رضي الله عنه :  ( والكناية ) المعبّرة بياء التكلَّم ( هي التي وسعت كل شيء ) بناء على ما تقرّر من أنّ الرحمة عين الراحم .
 
"" أضاف المحقق :
قال القيصري: " الكناية هي ضمير المتكلم في قوله : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ ) [ 7 / 156 ] والمخاطب في قوله : ( رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ) [ 40 / 7 ] ، أي رحمة الله ، والذات التي الكناية تدل عليها هي التي وسعت كل شيء ، إذ رحمته عين ذاته" . ""
 
والذي يلوحك على تحقيقه دلالة الياء على النسبة الجامعة لمختلفات المنتسبات في نفس نسبته وإضافته ، وهو لا ينسب إلى شيء .
ومن ثمة قال :
الذات والأسماء ، واختلاف الرحمة بالنسبة إلى كلّ اسم
قال رضي الله عنه :  ( ثم ) إنّ الرحمة ( لها شعب كثيرة تتعدّد بتعدّد الأسماء الإلهيّة ) وتتخصّص بخصائصها ، ( فما تعمّ بالنسبة إلى ذلك الاسم الخاصّ الإلهيّ ) الذي به تتخصّص ، سواء كان ظاهر الاندراج في حيطة الرحمة كما ( في قول السائل : " يا ربّ ارحم " ، وغير ذلك من الأسماء )
الخفيّة الاندراج ( حتّى المنتقم له أن يقول : « يا منتقم ارحمني » ، وذلك لأنّ هذه الأسماء تدلّ على الذات  المسمّاة ، وتدلّ بحقائقها على معان مختلفة ، فيدعو بها في الرحمة من حيث دلالتها على الذات المسماة بذلك الاسم )
 
لا من حيث دلالتها على الأسماء المتقابلة وخصوصياتها الامتيازيّة . فالرحمة المدعوّ بها في كل اسم دالَّة على الذات باعتبار خصوصيّة ذلك الاسم ، ( لا بما يعطيه مدلول ذلك الاسم ) فقط بدون دلالتها على الذات ،
فإنّه هو ( الذي ينفصل به عن غيره ويتميّز ) وهذه الحيثيّة لإشعارها بالغير لا تصلح لأن تكون دالَّة على الذات ، ( فإنّه لا يتميّز عن غيره ، وهو عنده دليل الذات ) ، أي من حيث التميّز ، وعند كونه مميّزا لا يصلح للدلالة .
 
منشأ التفرقة بين الأسماء
وهذا منشأ التفرقة بين الأسماء الإلهيّة التي عيّنها الشارع لأن يدعو بها الحقّ ، وبين الأسماء الكيانيّة التي لا رخصة فيها لذلك من الشارع ، على أن الكلّ أسماء الحقّ ، فإنّ الدالّ منها على الخصوصيّة الامتيازيّة إنما يدلّ على نفسه الممتازة عن الغير ، ( وإنما يتميّز بنفسه عن غيره لذاته ) ، فإنّ التمييز والتفرقة ذاتي الاسم ،
( إذ المصطلح عليه بأيّ لفظ كان ) - عربيّا معرّبا أو غيره - ( حقيقة متميّزة بذاتها عن غيرها ، وإن كان الكلّ قد سيق ) في نفس الأمر بدون اعتبار من الوضع والاصطلاح ( ليدل على عين واحدة مسماة ، فلا خلاف في أنّ لكل اسم ليس للآخر . فكذلك أيضا ينبغي أن يعتبر كما تعتبر دلالتها على الذات المسماة ) .
 
والحاصل أنّ الألفاظ لها في نفسها دلالة على الذات المسماة ، وعلى الخصوصيّة الامتيازيّة ، فإذا اعتبر لها هذان المعنيان فهي أسماء الحقّ ، وإن كان باعتبار الوضع والاصطلاح وجعل الجاعل ليست له إلا الدلالة على الخصوصيّة فقط .
 
كلّ اسم مسمّى بجميع الأسماء
ثمّ إنّه إذا كان لكل اسم في نفسه - بدون اعتبار الخارج من الوضع والجعل - له دلالة على الذات المسمّاة ، يكون له جهة جمعيّة الأسماء كلَّها ( ولهذا قال أبو القاسم بن قسي ) صاحب كتاب خلع النعلين ( في الأسماء الإلهية : « إنّ كلّ اسم على انفراده مسمّى بجميع الأسماء الإلهيّة كلَّها ، إذا قدّمته بالذكر نعتّه بجميع الأسماء » ) ، أي إذا خصّصته بالذكر - ذكرا وجوديّا ، أو لفظيّا ، أو رقميّا ، أو قلبيّا - لا بدّ وأن يستتبعه النعت بسائر الأسماء .
 
قال رضي الله عنه :  ( وذلك لدلالتها على عين واحدة ) أي لدلالة الأسماء كلَّها على عين هي واحدة بالوحدة الإطلاقية الجمعيّة ( وإن تكثّرت الأسماء عليها ) أي على العين الواحدة فإنّ كل اسم بخصوصه له دلالة عليها ( وإن اختلفت حقائقها ) - أي حقائق تلك الأسماء .
 
تقسيم الرحمة بالوجوبيّة والامتنانيّة
قال رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّ الرحمة ) لها تقسيم آخر باعتبار وصولها إلى المرحومين ونيلهم منها ، فإنّها ( تنال على طريقين : طريق الوجوب ) أي اللزوم المترتّب على ما يقتضيه اقتضاء ضروريّا ، كما نصّ عليه الشارع في القرآن الختمي ( وهو قوله : “  فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ “  ) [ 7 / 156 ] ،
فإنّه يدلّ على أنّ الرحمة قد أوجبها على نفسه للعالمين ، الذين يجعلون أنفسهم وقاية للحقّ في الذمّ ، والحقّ وقاية لهم في الحمد - كما سبق بيانه –
وللعالمين الذين ينمون بجوارحهم الظاهرة والباطنة عند ازدياد الأعمال منها والأفعال والأقوال ، فإنّه يزيد بها مرتبة أخرى من الوجود على شخصه ، أو الذين يعلَّمون الطالبين ذلك وأصل الزكاة : النموّ ، يقال : زكى الزرع : إذا حصل له نموّ .
وإليه أشار بقوله : ( وما قيدهم به من الصفات العملية والعلمية ) .
قال رضي الله عنه :  (والطريق الآخر الذي تنال به هذه الرحمة طريق الامتنان الإلهيّ الذي لا يقترن به عمل ) ولا يوازيه من العبد فعل أصلا ، كالوجود وما قبله من مراتب الرحمة . وإليه إشارة من القرآن الختمي ( وهو قوله : « وسعت رحمتي كل شيء » ) ، هذا لسان الإجمال الشامل لمراتب الرحمة إجمالا ، وفيه ما يدلّ عليها تفصيلا ،
 
قال رضي الله عنه :  ( ومنه قيل : “ لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ “  ) على هذه النشأة ( "من ذَنْبِكَ وَ"  ) وهو ما يتأخّر عن رتبة الاعتبار من الأوصاف الحدثانيّة والأحكام الإمكانيّة ، فإنّ أذناب القوم أراذلهم ، وذنب الدابة : هو ما يتأخّر من أعضائه عن درجة الاعتبار ورتبة الاحتياج ( " وَما تَأَخَّرَ ") [ 48 / 2 ] منها ،
 
فإنّ الفتح المبين الذي تفرّد به الخاتم يستتبع هذه الرحمة الامتنانيّة التي لا يوازيها عمل من العبد ، وهو الستر لما تقدّم من نشأته هذه من أحكام الإمكان . وما تأخّر عنها منها وإخفائهما في صحائف الظهور وإسقاطهما عن درجة التأثير .
 
ويمكن أن يجعل هذه الآية إشارة إلى قسمي الرحمة ، فإنّ « ما تقدّم » إشارة إلى الرحمة الامتنانيّة المتقدّمة على الأعمال ،
كما أنّ " ما تأخّر " إشارة إلى الوجوبيّة المترتّبة المتأخّرة عن الأعمال ،
والذنب حينئذ عبارة عن أحكامه صلَّى الله عليه وسلَّم المتمّمة التي بها تمام الأوضاع النبويّة المشعرة ، كما أنّ الذنب تمام الأعضاء ، كذلك إنّ المراد بالغفران في هذا اللسان هو الإظهار الذي يلزمه ضرورة .
ولكن التوجيه الأوّل أوفق بسياق كلامه ، وإن كان الثاني أعلى .
 
قال رضي الله عنه :  ( ومنها قوله : « اعمل ما شئت فقد غفرت لك » ) وذلك لأنّ الغفر أصله إلباس الشيء ما يصونه عن الدنس .
ومنه قيل : « أغفر ثوبك في الوعاء ، واصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ » .
وبيّن أن أوضاع محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وشرائعه - لأنّه خاتم النبوّة - لا بدّ وأن يكون هو التامّ الكامل من مراتب الرحمة وصورها الصائنة للكائنات عن دنس النقص والبوار ، وذنب العيب والعوار .
 
ومن هاهنا ترى الحديث القدسي يفصح عن أنّ العبد المذكور المخاطب مغفور ، ولو عمل من الذنب ما عمل .
وتمام تحقيق ذلك ما أورده الشيخ في الفتوحات ، فإنّه قال فيها : " إنّه ثبت في الأخبار الإلهيّة وصحّ أنّ العبد يذنب الذنب ويعلم أنّ له ربّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، ثم يذنب الذنب فيعلم أنّ له ربّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، فيقول الله في ثالث مرّة أو رابع مرّة : اعمل ما شئت فقد غفرت لك " إلى هنا كلامه .
 
""أضاف الجامع :
قال الشيخ رضي الله عنه  في الفتوحات الباب الرابع والسبعون في التوبة :
ومما يؤيد ما ذكرناه من أن التوبة اعتراف ودعاء لا عزم على أنه لا يعود
ما ثبت في الأخبار الإلهية وصح أن العبد بذنب الذنب ويعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب
ولم يزد على هذا مثل صورة آدم سواء ثم يذنب الذنب فيعلم إن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب فيقول الله له في ثالث مرة أو رابع مرة اعمل ما شئت فقد غفرت لك
وهذا مشروع أن الله قد رفع في حق من هذه صفته المؤاخذة بالذنب على من يرى أن الخطاب على غير من ليس بهذه الصفة منسحب
وأما ظاهر الحديث فإن الله قد أباح له ما قد كان حجر عليه لأجل هذه الصفة كما أحل الميتة للمضطر وقد كانت محرمة على هذا الشخص قبل أن تقوم به صفة الاضطرار
ثم إنه قد بينا أن من عباد الله من يطلعه الله على ما يقع منه في المستأنف
فكيف يعزم على أن لا يعود فيما يعلم بالقطع أنه يعود
ولم يرد شرع نقف عنده أن من حد التوبة المشروعة العزم في المستأنف
فلم تبق التوبة إلا ما قررناه في حديث آدم عليه السلام
ثم يؤيد ذلك قوله تعالى ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ
يعني في الحالتين ما هم أنتم ينظر إليه قوله وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى
وقوله فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكِنَّ الله قَتَلَهُمْ
وقوله ما قَطَعْتُمْ من لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ الله . أهـ ""
 
فقد ظهر من هذا الخبر الإلهي أنّ سبب انطلاق ذلك العبد المذكور عن مؤاخذة التكاليف هو علمه بأنّ له ربّا يغفر الذنب ، والعلم من جزئيّات الرحمة الامتنانية ، والأولياء المحمديّون أصحاب السبق في ذلك الميدان ،
 
وإليه أشار بقوله : ( فاعلم ذلك ) فإنّه لبّ معنى الرحمة وأصله .
وعلم من هذا الكلام أنّ الرحمة الامتنانيّة هي الفاتحة لغيب الوجود والخاتمة لكمال إظهاره .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فصّ حكمة إيناسيّة في كلمة إلياسية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:13 am

22 - فصّ حكمة إيناسيّة في كلمة إلياسية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص إلياسية على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
22 - فصّ حكمة إيناسيّة في كلمة إلياسية                  الجزء الأول
تسمية الفصّ
اعلم أنّ من الصور الكماليّة الإنسانيّة أن يرتبط بين القوى الجسمانيّة من الشخص وبين الروحانيّة منه برقائق اعتداله النوعي ، ووثائق امتزاجه الطبيعي ثمّ إنّه لا يزال تشتدّ قوّة ذلك الارتباط والالتيام عند ترشيحه بلطائف الأغذية التجريديّة القدسيّة ،
وتربيته بفنون الحقائق التنزيهيّة العلميّة ، إلى أن يبلغ رتبة التلازم والتجاذب فإذا أخذ القوى الجسمانيّة منه في الضعف ، وتمايل أركان مزاجه إلى طرفيه الخارجين عن الاعتدال ، لا بدّ وأن يجذبه الروحاني منه ويستجلب سائر وجوه تلك القوى وأعيانها إلى عالمه ، ضرورة ظهور قهرمان أمر الروح حينئذ وانقهار غيره تحته .
 
فعلم أنّه لا بدّ وأن يكون بين الكمّل منه ضرب من هذا الكمال ، ولذلك ترى في كل نسق من النسقات الثلاث الكماليّة التي اشتمل عليها نظم الفصوص واحدا :
كإدريس ، فإنّه في الرابع من الأوّل وعيسى ، فإنّه في السادس من الثاني وإلياس ، وهو أيضا في الرابع من الثالث وبه تمّ هذه الصورة الكماليّة في النبوّة .
 
وكأنّك قد عرفت في المقدّمة عند التلويحات الكاشفة عن حكم حرف السين أنّه يرتبط الظاهر منه بالباطن ربط انطباق واتّحاد ولذلك ترى مبنى موادّ الكلمات الثلاث عليه .
 
تلويحات حرفية في إلياس وإيناس
ثمّ إنّك إذا عرفت هذا فهمت منه وجهين من المناسبة بين الكلمة الإلياسيّة والحكمة الإيناسيّة : وجها حكميّا معنويّا ، وآخر لوحيّا حرفيّا :
أمّا الأوّل : فلأن الإيناس ضد الإيحاش ، ولغير هذه الكلمة وحشة من المفارقة والمباينة التي بين الروح وجسده ، وبها تمّت هذه الصورة الكماليّة ولذلك جمعت بين الكلمتين في النبوّة .
وأمّا الثاني : فلأنّك قد عرفت أن « ياسين » له مزيد اختصاص بين الحروف بهذا الكمال - ولذلك ورد : « إنّه قلب القرآن » - ومادّة هذه الكلمة هي « يس » مصدّرا بالألف واللام الكاشفتين عن التعريف والإظهار ، على ما هو مقتضى منصب النبوّة كما أنّ « الإيناس » من جملة صور قلبه عند تمام انبساطه .
على أنّ فضل عدد بيّنات إيناس كاشف عن حرفي البقاء ، الذين هما مؤدّى عدد إلياس ، فتأمّل .
 
إلياس هو إدريس
ثمّ إنّه قد صدّر هذه الحكمة بقصّة كاشفة عن أمر بعث هذه الكلمة مرّتين رمزا وإيماء ، فلا تغفل عن دقائق إشاراته في طيّ لطائف عباراته حيث قال : ( إلياس هو إدريس ، كان نبيّا قبل نوح ) عندما كان ألسنة الإظهار والإنباء من الرسل كاشفة عن محض التنزيه ، كما عرفت أمره .
 
ثمّ إنّه لما كان في شخص الكلمة الإدريسيّة مبدأ الجمعيّة الإطلاقيّة باشتماله على « يس » ، ظهر في مزاجه الارتباط القوىّ ، فأبقاه ( ورفعه الله مكانا عليّا ، وهو في قلب الأفلاك ساكن ) لانطوائه على قلب القرآن ، وهو صورة جمعيّة الكل، (و) ذلك (هو فلك الشمس) التي هي مبدأ أمر الإظهار .
 
بعث إلياس إلى بعلبك
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم بعث إلى قرية بعلبك ) ، بعثا ثانيا لإتمام ما بعث له من التنزيه الحقيقي الذي في عين التشبيه فإنّه بعث إلى القرية التي هي عبارة عن المجتمع لغة بين صنم صورة نقش المعاني وبين سلطانها الذي هو الوهم ، ( و ) إليه أشار بقوله : ( « بعل » : اسم صنم ) ، فإنّ البعل كناية عن الصورة الجزئيّة التي هي زوج المعنى الكلَّي وبعله ،
( و « بك » : سلطان تلك القرية ) التي هي المجتمع من الصورة والمعنى والبرزخ الجامع بينهما وهو الوهم ( وكان هذا الصنم المسمّى بعلا ) - وهي الجزئيات المعروضة للصورة - ( مخصوصا بالملك ) ، فإنه لا حكم لشيء من القوى غير الوهم عليها وبين « بعل » و « إلياس » نسبة اتحاديّة في تلويح العدد ، فلذلك بعث إليه .
 
كان إلياس عقلا بلا شهوة
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان إلياس - الذي هو إدريس - ) أي عندما كان مسمّى بإدريس ( قد مثّل له انفلاق الجبل ) - أي جبل جبلَّته وتعيّنه - ( المسمّى لبنان ، من اللبانة - وهي الحاجة - ) فإنّه إنما تستحصل الأغراض والحوائج منه وبه ( عن فرس من نار ) ، أي مركب يطوى عليه المسالك بالتفرّس ، وهو النظر والتثبّت في الأمور ،
كما ورد : « اتّقوا فراسة المؤمن » فهي القوّة النظريّة وأمّا كونه من النار لأنّه يتنوّر به ما يمرّ به من المراحل ، فيظهر ولأنّه أيضا مبدأ تفرقة الأشياء وتمييزها ، ( وجميع آلاته من نار ) وهي القوى الإدراكية التي بدونها لا يصلح للركوب ، ( فلما رآه ) مهيّأ للركوب ، مشدودا بالآلات ( ركب عليه ) طاويا به مسالكه المعهودة من الحقائق التنزيهيّة الكليّة والعلوم المجرّدة عن الموادّ ،
( فسقطت عنه الشهوة ) التي إنما نشأت من إدراك الجزئيّات ، عند انتهاج طرقها وأطرافها ، ( فكان عقلا بلا شهوة ) ، أي ما يشتهيه مطلقا سواء كان في صورة الجذب أو الدفع ، فيشمل الشهوة والغضب .
 
 المعرفة الكاملة هي الجمع بين التشبيه والتنزيه 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلم يبق له تعلَّق بما تتعلَّق به الأغراض النفسيّة ، وكان الحقّ فيه منزّها ) عن الموادّ الجزئيّة والكثائف الأرضيّة السفليّة ، ( وكان ) لقصره النظر على لطائف سماء التنزيه وكليّات حقائق التقديس ( على النصف من المعرفة باللَّه ، فإنّ العقل إذا تجرّد لنفسه ) معرّى عن الآلات والجوارح المتمّمة لأمره ، المكمّلة لآثاره ، ( من حيث أخذه العلوم عن نظره ) الخاصّ به ، ( كانت معرفة باللَّه على التنزيه ) فقط - وهي المعرفة الحاصلة من كلَّيات الحقائق بالنظر والاستدلال - ( لا على التشبيه ) المستحصل من اللطائف الجزئية بالذوق والوجدان ، ( وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي ) الكاشف عن وجهه بما عليه في نفسه ( كملت معرفته باللَّه ، فنزّه في موضع ، وشبّه في موضع ) .
وإذ كان تكميل معرفته بالبعثين فصّل في الموضعين ، وأيضا جمع بين التفصيل المصدّر به ، والإجمال المستردف له ، وفاء بمقتضى حكم نبوّته المقدّم فيه أمر التفصيل حيث قال : ( ورأى سريان الحقّ بالوجود في الصور الطبيعيّة ) ، بل ( والعنصريّة ) أيضا والصور كلها إمّا طبيعيّة أو عنصريّة ،
 
فلذلك قال : ( وما بقيت له صورة إلا ويرى الحقّ عينها ) ، فلا يرى في الوجود صورة ومعنى ، ظاهرا وباطنا ، أوّلا وآخرا ، إلا الحقّ .
 
خاصيّة الوهم بين المشاعر
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهذه هي المعرفة التامّة الكاملة التي جاءت بها الشرايع ) الختميّة ( المنزلة من عند الله - وحكمت بهذه المعرفة الأوهام كلها ) ، وذلك لما عرفت من أن الوهم بين المشاعر البشريّة هو البرزخ الجامع بين المعاني الكلَّيّة والصور الجزئيّة ، فهو الذي يتمكَّن من إدراك المعنى المنزّه عن هذه الصورة فيها وعينها ،
فإنّ إدراك الحقّ المنزّه في الصورة عينها إنما يمكن لما له مدرجتان من الإدراك ، مدرجة الإطلاق والتنزيه وهو طرف المعاني وكليّة أحكامها ، ومدرجة القيود المشخّصة وهو طرف الصورة وجزئيّة أحكامها .
 
وهذان المدرجتان للوهم فقط بين المشاعر البشريّة ، ( ولذلك كانت الأوهام أقوى سلطانا في هذه النشأة من العقول ) مع علوّ قدرها وقوّة أمرها لقربها من المبدء وغلبة أحكام الوجود فيها .
 
الوهم هو السلطان الأعظم في الصورة الإنسانيّة
وأما بيان قوّة سلطان الوهم عليها إنّا : ( لأن العاقل لو بلغ ما بلغ في عقله لم يخل عن حكم الوهم عليه ، والقصور فيما عقل ) بإثارة الشبه المشوّشة له عن الاطمئنان بما حكم به العقل والسكون به .
 
وأما البيان اللمّي : فهو أنّ مقاليد أزمّة التحريك والتسكين في المملكة الإنسانية ظاهرا وباطنا إنما هو بيد الوهم وسدنته ، فإنّ سائر عمّال القوى المحركة - المنبثّة في الأعصاب والعضل والرباطات - ما لم يبلغهم حكم من الوهم لا يتحرّكون عن أمر ، ولا يسكنون بتّة ، ( فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الكاملة الإنسانيّة ) .
 
ويمكن أن يجعل هذا إشارة إلى تأويل ما رمز فيه من القصّة المصدّر بها ، فإنّ قرية جمعيّة هذه النشأة التي فيها صنم الصورة الكاملة الإنسانيّة - الملوّح إليه في كلامه ظاهرا سلطانها - إنما هو الوهم وذلك الصنم قد اختصّ به على ما بيّن في طيّ عبارته هذه .
 
الآيات الناظرة بحكم الوهم
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وبه جاءت الشرايع المنزلة ) أي بحكم الوهم ومقتضاه أنزلت الآيات الكاشفة عن التشبيه ، كقوله تعالى : “  وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى “  [ 8 / 17 ] وقوله : “  لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ “  [ 42 / 11 ] - وغيره من الآيات .
( فشبّهت ونزّهت : شبّهت في التنزيه بالوهم ) ، إذ من شأن الوهم أن يعيّن المعاني الكلَّيّة المنزّهة عن الموادّ المشخّصة ويشخّصها ،
ثمّ يجري عليها أحكام الجزئيّات والأشخاص كما أنّ من شأن العقل أن ينتزع من الأشخاص الماديّة موادّهم المشخّصة ، وحذف عنهم موجبات التشخّص بإجراء أحكام الكليّات المنزّهة عن الموادّ عليها ولذلك قال : ( ونزّهت في التشبيه بالعقل ) .
 
الكلي والجزئي
ثمّ إذ قد كان الأمر في الوجود بين كلَّين :
كلّ منزّه عن الموادّ المشخّصة التي يلبسه إيّاها الوهم ، وبها يدركه ، وهو المسمّى بالكلي في عرف النظر .
وكلّ متلبّس بالموادّ المشخّصة ينتزعها عنه العقل ، وبها يتعقّله ، وهو الذي يسمّى بالجزئي عندهم .
وذلك لما تقرّر في المقدّمة أنّ الإطلاق له صورتان : مؤدّى إحداهما التنزيه ، ومؤدّى الأخرى التشبيه وإذ كان ظاهر الإطلاق هو الكليّة الإحاطيّة ، فهي صورته .
ولذلك قال : ( فارتبط الكلّ بالكلّ ) ارتباط الكلَّي بجزئيه - وهو الكلّ - والكلّ بجزئه وهو الكلَّي ويلازم أحدهما الآخر ، تلازم حكم العقل حكم الوهم ( فلم يمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ، ولا تشبيه عن تنزيه ) .
 
التنزيه في عين التشبيه في القرآن الكريم
أما الأول فكما ( قال تعالى : "لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " فإنّه ظاهر في التنزيه ، حيث نفى عن كلّ شيء أن يماثل مثله ، فضلا عن أن يكون مثله .
ولذلك قال : ( فنزّه ) .
وإذ قد توجّه النفي إلى مثل المثل - الذي هو مدلول كاف التشبيه - يكون المثل مثبتا في أصل دلالة الآية ، وقوله : ( فشبّه ) إشارة إليه .


فعلم أن التنزيه والآيات الدالَّة عليه لا يخلو عن تشبيه ، وكذلك التشبيه والآيات الدالَّة عليه لا يخلو عن التنزيه ، كما في قوله تعالى : ( "وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ "  ) ، فإنّ ظاهره أن صاحب السمع والبصر هو الحقّ ، وهو محض التشبيه ولذلك قال : ( فشبّه ) بحسب الدلالة التي له في أصل معناه اللغوي .


ونزّه أيضا بحسب الدلالة التي له أيضا ، وذلك بحسب خاصيّة التركيب لدى التخاطب ، وهو ما يفيد الحصر من وضع صورة تركيبه - على ما بيّن في صنعة الأدب - وما قال : « فنزّه » اكتفاء بما مهّد أنّ كل تشبيه لا يخلو عن تنزيه ، وتنبيها أيضا على أنّ دلالته على التنزيه ليست غير دلالته على محض التشبيه ، فإنّ تنزيهه يحصر السمع والبصر فيه ، وهو عين التشبيه الكاشف عن محض التنزيه .


ولذلك قال رضي الله عنه  : (وهي أعظم آية تنزيه نزلت، ومع ذلك لم يخل عن تشبيه بالكاف) ، فإنّ أصل معنى الكاف - لغة - هو التشبيه .
هذا ما انزل لبيان تعريف الحقّ نفسه ، من القرآن الذي هو كلام الله المنزل على عبده ، يعني الخاتم ، ( فهو أعلم العلماء بنفسه ، وما عبّر عن نفسه إلَّا بما ذكرناه ) . قصور المنزّهين من أهل النظر عن التنزيه الحقيقي  ثمّ إنّه بعد ما أظهر معنى التنزيه الحقيقي وبيّن حقيقته ، نبّه على قصور التنزيه الرسمي الذي هو مدرك العقول الخالية عن آثار الجمعيّة القلبيّة الإنسانيّة ،
 
وإليه أشار بقوله : ( ثمّ قال : “  سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ “)  [ 37 / 180 ] ، والعامّة من ذوي العقول النظريّة ، وأهل الكثرة الإمكانيّة ، على ما هو مدلول ضمير الجمع في “  يَصِفُونَ “ والمفهوم منه ذوقا ولغة ، ( وما يصفونه إلا بما تعطيه عقولهم فنزّه نفسه عن تنزيههم ) ، وهو التنزيه الذي يقابل التشبيه ، وهو المقيّد المحدّد ( إذ حدّدوه بذلك التنزيه ، وذلك لقصور العقل عن إدراك مثل هذا ) ، لغلبة التجرّد على نشأته القدسيّة العلية ، على ما عليه الملأ الأعلى .
 
ما جاء في الشرائع مما تحكم به الأوهام
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ جاءت الشرايع كلَّها بما تحكم به الأوهام ) ، لما لها من الإدراكات البرزخيّة الجمعيّة القلبيّة التي بها تفرّد الإنسان ، ومنها يستحصل كمالاته الخصيصة به ( فلم تخل ) الشرايع ( الحقّ ) عند إظهاره للأمم ( عن صفة يظهر فيها ) من الأوصاف الوجوديّة والمعاني الجزئيّة التي هي مدارك الأوهام ، كالاستواء على العرش ، والاختصاص بالفوقيّة ، وإثبات بعض الجوارح كاليد وغيره من القوى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (كذا قالت ) الشرايع ( وبذا جاءت ) الرسل من عند الله ( فعملت الأمم على ذلك ) من الاعتقاد بتلك المعاني تقليدا لهم ، ولأنّ التقليد في العقائد القلبيّة التي يعقدها المقلَّد تابعا للمقلَّد له فيه إنما هو من قبيل الأعمال ، لا العلوم ، قال : « فعملت » ، دون : « علمت » مع أنّه من المعلومات ، تنبيها لهذه الدقيقة ( فأعطاها الحقّ التجلَّي ، فلحقت بالرسل وراثة ) للقرابة التي هي للأمم بحسب نيّاتهم وهممهم ، من الصورة التي عليها عقد بواطنهم ، وبها تصوّرت عقولهم ( فنطقت بما نطقت به رسل الله ) من الكلمة الجامعة بين التشبيه والتنزيه ، صورة ومعنى .
 
وجهي التفسير في الآية الكريمة : الله أعلم . . .
فلذلك ترى في كلامه هذا وجهين من الصورة : إحداهما كاشفة عن التنزيه ، والأخرى عن التشبيه فإن قوله تعالى : ( “  الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَه " رسالاته ) فيه الوجهان المذكوران ( فـ “  الله أَعْلَمُ “  موجّه ) بالوجهين :
(له وجه بالخبريّة إلى “  رُسُلُ الله “ ) وذلك أن توقف على قولهم “  لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ “  [ 6 / 124 ] أي هذا الرسول .
فتمّ هنا كلام القوم ، وابتدأ بقوله : " رُسُلُ الله الله "  ، بمعنى أنّ رسل الله هم الله ، وهو طرف التشبيه ووجهه الكاشف عنه ، و "  أَعْلَمُ "  حينئذ خبر مبتدأ محذوف ، أي "هو أعلم حيث يجعل رسالاته " .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وله وجه بالابتداء إلى « أعلم حيث يجعل رسالاته » ) وهذا الوجه هو الكاشف عن التنزيه ظاهرا ، فإنّه تضمّن التشبيه أيضا ، كما أن الأوّل متضمّن للتنزيه على ما يخفى ، إلَّا أنّ الغرض اشتمال هذه الصورة الكلاميّة للوجهين .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكلا الوجهين حقيقة فيه ) ، أي لا تفاوت بينهما بحسب التقدّم والتأخّر والوضوح والخفاء على ما هو المبادر إلى الأذهان العامّة من العلماء الرسميّة التي عندهم لا محتمل للوجه الأوّل أصلا ،
 
وذلك لما لهم من الحجب التقليدية والاعتقادات الاعتياديّة التي قد استحصلوها من آبائهم وراثة ومن مشايخهم واستاذيهم تعلَّما وكسبا ، فلا يمكن لهم الترقّي عنها أصلا ، ولذلك ترى الكمّل من الأنبياء لا يظهرون لهم من ذلك شيئا ، مع أنهم مبعوثون للإظهار ، ومأمورون بالإشاعة والإبلاغ وإلى ذلك أشار بقوله :
 
كلَّموا الناس على قدر عقولهم
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلذلك قلنا بالتشبيه في التنزيه ، وبالتنزيه في التشبيه وبعد أن تقرّر ) أمر إظهاره ( هذا ) على الطالب المسترشد والمتفطَّن المهتدي ( فنرخي الستور ونسدل الحجب على عين المنتقد ) الذي ينقد بنظره العقليّ فرائد الحقائق والمعارف ، ويذهب إليها ، كما هو سبيل سائر المتكلَّمين والحكماء ، وهو صاحب التنزيه ، لا حظَّ له في التشبيه أصلا ( والمعتقد ) الذي يعتقد ظاهر ما انزل من الكتاب بلا تأويل فيه ولا تدبّر وتفتيش عنه ، كما قيل : « الاستواء معلوم ، والكيفيّة مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة » وهو المشبّه الصرف الذي لا حظَّ له في التنزيه أصلا .
 
فلا بدّ للمحقق أن يمكَّنهما فيما هم عليه بإرخاء الستور والحجب ، ( وإن كانا من بعض صور ما تجلَّى فيها الحقّ ، ولكن أمرنا بالستر ) وأن لا يظهر للناس إلا ما هو على قدر عقولهم وطبق عقائدهم ، وذلك ( ليظهر تفاضل استعداد الصور ) ويتمّ به أمر ظهور تفاصيل أحكام الأسماء بجزئيّاتها على ما هو مبتغى ألسنة استعداداتهم .
 
التجلي بحكم استعداد محله
( و ) يظهر ( أن المتجلَّي في صورة بحكم استعداد تلك الصورة ، فينسب ) المتجلَّى له ، أو على صيغة المجهول وهو أظهر وفي بعض النسخ أيضا : " فإنّ المتجلي " ، وذلك غير بعيد عن الصواب .
 
( إليه ) أي إلى المتجلَّي ( ما تعطيه ) تلك الصورة ( حقيقتها ولوازمها ) أي ينسب المجلى إلى المتجلَّي ما يعطيه عين ذلك المجلى من التنزيه والتشبيه ولوازمه - من الظهور والستر والمعرفة والنكر كذا وغير ذلك - كل ذلك تحقيقا لقضيّة الظهور والإظهار ، وتفصيل أحكام الجزئيّات وإعطاء حكم الكثرة حقّها .
 
رؤية الحقّ في النوم والاختلاف في تعبيره
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا بدّ من ذلك ، مثل من يرى الحقّ في النوم ، ولا ينكر هذا ) لسعة عالم المثال ، وظهور كل ما يمكن أن يتخيّل فيه عند كلّ أحد ( وأنّه لا شك الحقّ عينه ) ، فإنّه عين سائر المراتب من الحضرات والعوالم ، ( فيتبعه ) الحقّ ( لوازم تلك الصورة ) ، أي أعراضها الخارجة عن ذاتها - كالوضع والمقدار واللون المعيّن مما يلزم تلك الصورة - ( وحقائقها ) أي ذاتيّاتها التي يتقوّم بها الصورة ( التي تجلَّى فيها ) الحقّ ( في النوم ثمّ بعد ذلك ) عند الانتباه في النشأة الجمعيّة وانقهار حكم الخيال والمثال ( يعبر ) أصله من العبر ، وهو تجاوز من حال إلى حال ، ومنه اشتق عبرة العين والعبارة ، وإليه أشار بقوله :
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (أي يجاوز عنها إلى أمر آخر يقتضي التنزيه ) عقلا ، إن كان المعبّر من أرباب العقول والأنظار ، ( فإن كان الذي يعبرها ذا كشف أو إيمان فلا يجوز عنها إلى تنزيه فقط ) فإنّ أحدهما صاحب القلب .
والآخر من ألقى إليه السمع وهو شهيد وهما إنما يحكمان بالتنزيه الذي في التشبيه - لا بالذي يقابله ، وهو المعبّر عنه بـ « فقط » - ( بل يعطيها حقا من التنزيه ومما ظهرت فيه ) من الأوصاف التي هي مبدأ التشبيه إذ قد عرفت أنّ الحقّ عين هذه الصورة المثاليّة في عالمها .
 
التعبير والعبارة
وأما في عالم اليقظة والانتباه الذي هو موطن التحقيق ، فهو العبارة التي يعبّر بها عن تلك الصورة ، وإليه أشار بقوله : ( فاللَّه على التحقيق عبارة ) يعبّر بها سائر الصور التي رأى بها الراؤون في مداركهم .
فإنّ الوجود الكلامي هو الذي تفرّد به الحقّ من العين الموجود ، واختصّ به من بين الصور الخارجيّة تحقيقا ، على ما نطقت به الشرايع وجاءت به الرسل وإلَّا فسائر الأطوار من الوجود وجميع المراتب الاستيداعيّة منها والاستقراريّة للحقّ فيها جهة وللعالم فيها أخرى ، كما سيحقّق أمره آنفا .
ثمّ إنّ العبارة التي قد اختصّت بالحقّ لها صورة ظاهرة ، وهي الحروف التي هي مختزن الحقائق الإلهيّة ، كما نبّهت على بعض ما اشتمل عليه الحروف « الله » ، ولها معنى خفيّ ، وهو العبور عمّا يدرك ، ويحيط به المدارك كما نبّه عليه في تعبير الرؤيا ، وإليه أشار بقوله : ( لمن فهم الإشارة ) ، فإنّ الإشارة هي المعنى الخفيّ .
 
المؤثر هو الله تعالى ، والمؤثر فيه العالم
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وروح هذه الحكمة وفصّها ، أنّ الأمر ينقسم إلى مؤثر ومؤثر فيه ، ولهما عبارتان ) كاشفتان عن خصوصيّتيهما الامتيازيّة ، أي يعبّر بهما إلى ما هو لبّه ومغزاه ( فالمؤثّر بكلّ وجه ) سواء كان بالتبعيّة أو الاستقلال ، تامّا في التأثير أو غير تامّ ، ( وعلى كل حال ) من أحوال الوجود - موجودا كان في الخارج أو في الذهن ، حقيقيّا أو اعتباريا ( وفي كل حضرة ) من الحضرات الإلهية والعوالم الكيانيّة : ( هو الله ) ، فإنّك قد عرفت أنّه العبارة الكاشفة عن الخصوصيّة الخاصّة به دون غيرها من الوجوه والأحوال والحضرات .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (والمؤثّر فيه بكل وجه وعلى كل حال وفي كل حضرة هو العالم ) ، أي هو العبارة الكاشفة عن خصوصيّة العالميّة ، لا غير ذلك من الوجوه والأحوال التي للعوالم .


( فإذا ورد ) لك من عالم الأعيان والحقائق شيء ( فألحق كلّ شيء بأصله الذي يناسبه فإنّ الوارد ) الذي يحدث ظهوره ( أبدا لا بدّ وأن يكون فرعا عن أصل ) وجزئيّا لكليّ ، مما يحيط به مما هو فيه بالقوّة . فيخرج عنه بالفعل كالفاعل والقابل مثلا فإنّه لا بدّ لكلّ وارد أن يكون تحت أحدهما ، فرعا عنه سواء كان الوارد من الحقائق الإلهيّة أو الكيانيّة ،
 
( كما كانت المحبّة الإلهيّة ) في قرب النوافل إنما ظهرت (عن النوافل من العبد ، فهذا أثر )  يعني المحبّة الإلهيّة ( بين مؤثّر ) هو العبد بقوّة النوافل ، ( ومؤثّر فيه ) هو الحقّ ولذلك ( كان الحقّ سمع العبد وبصره وقواه عن هذه المحبّة ) إلحاقا بأصله ، فإنّ قوى العبد هو المؤثّر بالتزام النوافل في الحقّ ، حتّى يخرج الأثر - وهي المحبّة - من القوّة إلى الفعل ، فإذا الحق كلّ شيء بأصله يكون قوى العبد هو الحقّ ، والمحبّة الإلهيّة هنا أثر من العبد .
 
 أقسام الناس في فهم المعارف   
ثمّ إنّ هذا الكلام لبعده عن مدارك العامّة وأذواقهم مهّد مقدّمة لبيانه ، قد فصّل فيها مراتب الناس في فهم ذلك الأصل ، تنزّلا إلى مداركهم ،
وقال : ( فهذا أثر محقّق لا تقدر على إنكاره ، لثبوته شرعا ) لوروده بطرق صحيحة من الحقّ بلسان الخاتم ، ( إن كنت مؤمنا ) حقّا ، لا تقليدا مبدؤه الرعونة وقبول الناس .
( وأمّا العقل السليم ) - عمّا يعوقه عن كماله - ( فهو إمّا صاحب تجلّ إلهيّ ) إذا وفّق لما قدّر لأصل استعداده من إدراك الحقائق كلَّها ، على ما هي عليه ، فهو ( في مجلى طبيعيّ ، فيعرف ما قلناه ، وإما مؤمن مسلم ) يلقى السمع لصاحب التجلَّى والبيان ، فهو ( يؤمن به ، كما ورد في الصحيح ) فما بقي إلَّا صاحب النظر والاستدلال ، فإنّه غير مؤمن بإلقاء السمع إلى صاحب التجلَّي ، ولا بالغ عقله إلى كماله الطبيعي.
 
 ( و ) حينئذ ( لا بدّ من سلطان الوهم أن يحكم على العاقل الباحث ) ضرورة نفاذ أمره في هذه النشأة وعدم انقهاره أصلا ، فيكون تحت حكمه (فيما جاء به الحق في هذه الصورة لأنّه مؤمن بها ) .
 
هذا على تقدير أن يكون الباحث من حكماء الإسلام والمتكلَّمين من الملَّيين ، فأمّا إذا لم يكن منهم - كالفلاسفة الذين قصروا طريق الاستفاضة على النظر المجرّد والبحث البحت - فإليه أشار بقوله : ( وأمّا غير المؤمن فيحكم على الوهم بالوهم ) فإنّهم يوصون أولا بتسخير قوّتي الوهم والخيال وعزلهم عمّا في تصرّفهما من مدارك الجزئيّات مطلقا - صوريّة ومعنويّة - حتى يصفو لهم حكم صرافة العقل في الكليّات المنزّهة عما يشوب به قدس التنزيه ويميل إلى هذا المشرب أكثر المنتمين إلى التحقيق والمنتسبين إلى التصوّف ، حتى أنّ بعض شارحي هذا الكتاب يستشمّ المتفطَّن من كلامه رائحة ذلك الميل ، ومن ثمّة تراه يستهجن مدركات الوهم كل الاستهجان.
 
 الغرض من الحكايات القرآنيّة تقرير أحوال الإنسان
وكأنّك قد اطَّلعت في طيّ هذه التعليقات أنّ ما في القرآن الكريم مما يفهم منه العامة أنّه حكاية الأمم السالفة في الأزمنة الماضية ، إنما هو تقرير أحوال الأمم الحاضرة في كلّ زمان ، على ما عبّر عن ذلك ألسنة استعداداتهم ويعبر من الأزل إلى الأبد ما هو أساطير الأوّلين ،
على ما زعم الجاحدون للتنزيل وجلالة قدره من أرباب الزيغ والطغيان - ومن ذلك حكاية تخصيص آدم بمنصب الخلافة ، واغتباط الملإ الأعلى له في ذلك وادّعاؤهم أنّهم المستحقون لها بتقديسهم وتسبيحهم ،
وأنّ آدم بما فيه من قوّتي الوهم والخيال والشهوة والغضب ، بعيد عن نيل مثل تلك المنقبة الكريمة ، وتعيير الحق عزّ شانه لهم في ذلك الدعوى بأنّ آدم بجمعيّته التي اختص بها من احتياز القوى - التي هي مبدأ الشعور والإشعار لطرف التشبيه من الحقّ - يعلم من الأسماء الكاشفة للحقّ ما لا يعلمون ، وهي الأسماء الوجوديّة المبيّنة للحقائق التشبيهيّة التي بها يتمّ أمر التنزيه .
 
التشابه الفكري بين الملائكة وأهل النظر
فإنّ تلك القصّة بعينها هي التي بين الحكماء من أهل النظر والاستدلال وبين أرباب الأذواق من اولي الألباب ، فإنّهم هم الذين يستفتحون مدارك القوى البشريّة والجمعيّة الآدميّة ، ويستحقّون ما يستحصل من تلك القوى - التي رئيسهم الوهم - بأنّها لا يمكن لها تسبيح الحقّ ،
فإنّها مبدأ الإفساد وإهراق الدماء ، فيعزلون تلك القوى عن درجة الاعتداد بمداركها والاعتبار بأحكامها ويحصرون أمر ذلك الاعتداد والاعتبار في العقل المجرّد الذي يسبّح الحقّ ويقدّسه ، ذاهلين عن قصور عقلهم المجرّد عن أداء التنزيه حقّه ، وأنّهم هم المفسدون في عزل تلك القوى ، ولكن لا يشعرون منزلتهم .
 
تسلَّط الوهم على أصحاب النظر
ومن آيات قصورهم في رتبة الشعور والعلم أنّهم يحكمون على الوهم وسدنته بالوهم ، ويعزلونه بأمره ، ذاهلين عنه وعن أنّه هو الحاكم ، يعزل نفسه بما لا يشعر به صاحب النظر الفكريّ ، ضرورة أنّ الوهم من المعاني الجزئيّة التي إنما يدركها الوهم فصاحب النظر انما يدركه ويعزله به ، ( فيتخيّل بنظره الفكري أنّه قد أحال على الله ما أعطاه ذلك التجلَّي في الرؤيا ) مما لا يناسب تنزيه العقل المجرّد له من الصور الجسدانيّة والمثل الجسمانيّة التي استحال عنده بنظره الفكري أن يكون لله .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والوهم في ذلك ) التخيّل ( لا يفارقه من حيث لا يشعر به ) ، فإنّه هو السلطان الحاكم في هذه النشأة - كما عرفت آنفا - ولكن لاتّحادّه بالكلّ - لما تقرّر من أنّ السلطان هو الهيئة الجمعيّة الكلَّيّة - لا يشعر به ( لغفلته عن نفسه ) ، فإنّه يحسب أنّ الوهم أمر غيره ، وعرض يفارقه ، فهو بعد في سنة الغفلة ورقاد الذهول ، إذا مات عن نظره الفكريّ انتبه من نومه ، وتيقّظ ليومه فلا تغفل عن دقائق هذه الإشارات فإنّه من جلائل الحقائق .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فصّ حكمة إيناسيّة في كلمة إلياسية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:14 am

22 - فصّ حكمة إيناسيّة في كلمة إلياسية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص إلياسية على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
22 - فصّ حكمة إيناسيّة في كلمة إلياسية                  الجزء الثاني
المؤثّر والمتأثّر في الداعي والمجيب
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن ذلك ) - أي مما ورد لك مما لا بدّ فيه من إلحاق كلّ شيء من أحكامه المتكثّرة المتفرّعة بأصله ، الذي يتفرّع عنه ولكن الحكم مع أحديّة العين حتى يتحقّق معناه - ( قوله تعالى : “  ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ") [ 40 / 60 ]
فإنّ الدعاء يخالف الإجابة حكما ، فلذلك نسب الدعاء إلى العبد المتأثّر بحسب أصله ، والإجابة إلى الحقّ المؤثّر .
 
هذا ما يدل على ذلك إجمالا ، والذي يدلّ على ذلك تفصيلا ما ( قال تعالى : “  وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ “  ) [ 2 / 186 ] ،
فإنّ أحكام المتأثّر العبد والمؤثّر الحقّ قد فصّل في هذه الآية تفصيلا ، حيث عيّن مقام بعد العبد السائل بإثبات الواسطة ، وقرب المجيب الحقّ بقوله : “  قَرِيبٌ “ ، وأشار إلى أحديّة فعل الحقّ المؤثّر بقوله : “  أُجِيبُ “  ، وإلى أنّ اختلافه بحسب الصور والأحكام المتكثّرة إنّما هو من جهة العبد المتأثّر بقوله : “  دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ “ ، حيث عبّر ما يتعلَّق بالعبد من السؤال والدعاء بصيغ ثلاثة متكثّرة - من المصدر والصفة والفعل .
 
وفيه إشارة أيضا إلى ما للعبد من الألسنة التي له عند الدعاء :
أحدها لسان الاستعداد المشار إليه بصيغة المصدر .
والثاني لسان الحال ، المعبّر عنه بصيغة الوصف .
والثالث لسان الفعل والقول المدلول فيه بصيغة الفعل .
وإذ قد تختلف قبلة الدعاء في موطن الفعل لتشابه الصور والأشكال هنالك دون غيره ، فتنحرف حينئذ عن سمت إطلاقه ، خصّصه بقوله : “  إِذا دَعانِ “ .
 
ثمّ إنّه لا بدّ من اختلاف الصور هناك ، ( إذ لا يكون مجيبا إلا إذا كان من يدعوه ) ووجد الداعي مستقلا بحسب الصورة ( وإن كان عين الداعي عين المجيب ، فلا خلاف في اختلاف الصور ) فإنّ العين متّحدة ، فلو لم تكن الصورة منها تتكثّر وتختلف ، لا يمكن ورود المتقابلين لها ، ( فهاتان صورتان بلا شكّ ) .
 
ثمّ إنّك قد عرفت مما سبق لك آنفا أنّ للهويّة المطلقة كليّتين إحاطيّتين بحسب مشعري الوهم والعقل ، الذي هما مناط أمر التنزيه والتشبيه ، وأنّ الذين هو مدرك الوهم منهما هو المسمّى بالكلّ - في عرف النظر ، والذي هو مدرك العقل يسمّى بالكلَّي - في عرفهم وقد أشار إليهما بقوله : " فارتبط الكلّ بالكلّ " ، فهاتان هما الصورتان اللتان قد أشار إليهما بصورة التمثيل .
 
فالأوّل من الكلَّين - أعني مدرك الوهم ومناط حكم التشبيه - هو الذي دلّ عليه قوله : ( وتلك الصور كلَّها كالأعضاء لزيد ، فمعلوم أنّ زيدا حقيقة واحدة شخصيّة ، وأنّ يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه، فهو الكثير الواحد الكثير بالصور ، الواحد بالعين ).
 
والثاني من الكلَّين الذي هو مدرك العقل ومناط حكم التنزيه ، وهو الذي أشار إليه بقوله : ( وكالإنسان : واحد بالعين بلا شكّ ) وحدة نوعيّة ، ( ولا شكّ أن عمرا ما هو زيد ولا خالد ولا جعفر ، وأنّ أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودا ، وإن كان واحدا بالعين ، فهو كثير بالصور والأشخاص) .
فقد علم بهذا التصوير والتمثيل أنّ العين الواحدة قد تظهر في الصور الكثيرة ، سواء كان في تنزيه العقل أو تشبيه الوهم .
 
مثال آخر لرؤية الواحد كثيرا
ثم إنّ هذا التقرير إنما يفيد للمستبصرين بطريق النظر والاستدلال ، وأما أهل الإيمان العقدي فلا نفع لهم فيه أصلا ، ولذلك قال منبّها لهم : ( وقد علمت قطعا إن كنت مؤمنا حقّا ) ، بما روي في الصحاح من ثقات الرواة عن الحضرة الختميّة ، الكاشفة عن الأمر بما هو عليه ( أنّ الحقّ عينه يتجلَّى يوم القيامة في صورة ، فيعرف ، ثمّ يتحوّل في صورة فينكر ، ثمّ يتحوّل عنها في صورة فيعرف).
( وهو هو المتجلَّي - ليس غيره - في كلّ صورة ومعلوم أنّ هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى ، فكان العين الواحدة قامت مقام المرآة ) في إراءة الصور المتخالفة في القبول والرد عند توجّه المعتقد إليها.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقده في الله ) المأنوسة إليها ، المشغولة بها ، لقوّة الرقائق الارتباطية التي بين تلك الصورة ومعتقدها ، حيث حكمت بتصويره إيّاها ، وجعلها قبلة قبوله بين الصور : ( عرفه وأقرّ به وإذا اتّفق أن يرى فيها معتقد غيره ) من الصور المتمثّلة بها : ( أنكره كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره ، فالمرآة عين واحدة والصور كثيرة في عين الرائي ) لا في العين الواحدة ، فإنّها منزّهة عن الصور كلَّها ( وليس في المرآة صورة منها جملة واحدة ) فإنّها بمنزلة العين الواحدة التي هي القابليّة الأولى ، وهي من الفيض الأقدس عن الثنويّة مطلقا .
 
أثر المرآة في الرؤية
ثمّ إنّك قد عرفت أن مبدأ التعيّنات إنما هو القابل ، ومن ثمة قال : ( مع كون المرآة لها أثر في الصور بوجه ) وهو حيثيّة كونها بمنزلة القابل الطالب بلسان الاستعداد أحكام التعيّنات ووجوه التخصيصات ، ( وما لها أثر بوجه ) وهو من حيث أنّها بمنزلة العين الواحدة التي قد اندمجت فيها تلك الأحكام ، وتلاشت وجوه ظهورها .
 
مبدأ الاختلاف في الخصوصيّات
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالأثر الذي لها كونها تردّ الصور متغيّرة الشكل - من الصغر والكبر ، والطول والعرض ) ، فإنّها بمنزلة مبادئ الاختلاف الأسمائيّة والشؤون الذاتيّة وإنما تختلف الأسماء بالحيطة والشمول ، والاندراج والكليّة ، وهي التي بمنزلتها الصغر والكبر والطول والعرض ، فإنّها مقادير إنما تتخالف بها الأشياء ، تخالفا عرضيّا نسبيّا لا ذاتيا حقيقيّا .
 
( فلها أثر في المقادير ) التي هي مبدأ الخصوصيّات وهذا يناسب ما تسمعه من الصدر الأول من الحكماء الفيثاغوريين - أرباب التعاليم – حيث ذهبوا إلى أن العدد أصل الماهيّات ، وما تراه قد عوّل عليه أهل التحقيق من تلامذة الأئمّة المهتدين ، نقلا عنهم ، حيث ذهبوا إلى أنّ استخراج الخواصّ من الأشياء إنما يعلم من العدد المستخرج من أسمائها وهذا من أصول ما ذهب إليه السيد سلام الله على آبائه الكرام وعليه ، على ما أومى إليه في المقدمة .
 
فعلم أنّ مبدأ خصوصيّات الأشياء وتمايزها إنما هو القابليّة الأولى المتمثّلة هاهنا بالمرآة ، ( وذلك ) الأحكام الخصيصة بكل منها تفصيلا ( راجع إليها ) .
 
ثمّ إنّك قد عرفت أنّ تلك القابليّة إنما هو من الفيض الأقدس ، الذي لا مجال للثنويّة فيه أصلا فوجّه ذلك المعنى في المثال المذكور بقوله ( وإنما كانت هذه التغيّرات منها لاختلاف مقادير المرائي ) ، أي تلك الآثار والخواصّ ليست من الأفعال المباينة للمرائي والقابليّات الخارجة عنها ، بل القوابل إنما هي قوالب تلك الخصوصيّات ،
وهي صورة ظهورها ومثال ظلَّها وعكسها .
ثمّ إنّ التجليّات كما أنّ منها ما هو أسمائيّ وهي متخالفة الأحكام ، فمنها ما هو ذاتيّ أحدىّ العين والحكم ، والمثال يجب أن يطابق سائر أفراد الممثّل وجميع جزئيّاته ، فأشار إلى تصوير الأسمائيّ منها والذاتيّ مفصلا فالذاتيّ الذي هو أحديّ العين والحكم هو المعبّر عنه بقوله
 
التجلَّي الذاتي والأسمائي
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فانظر في المثال مرآة واحدة من هذه المرائي ) عند تمثّل الصورة بنظرك الواحد بالعين والشخص ، ( لا بنظر الجماعة ) ، فإنّه لا مجال للتعدّد في هذا التجلَّي أصلا ، - فلذلك قال : ( وهو بنظرك من حيث كونه ذاتا ) ، أي المرآة هاهنا ليس إلَّا نظرك نفسك ، من حيث الوحدة العينيّة - التي لا مجال للمغائرة ولا للكثرة فيها أصلا ، فهو الظاهر ، وهو المظهر ( فهو غنيّ عن العالمين ) هذا أمره من حيث الذات .
 
( و ) أما ( من حيث الأسماء الإلهيّة فذلك الوقت ) والزمان الجامع لشتات المقولات التي كانت كل واحدة منها مظهر اسم من الأسماء الإلهيّة ، فذلك الزمان الجامع ( يكون كالمرائي فأي اسم إلهي نظرت فيه نفسك أو من نظر ، فإنما يظهر في الناظر حقيقة ذلك الاسم ) ، فالناظر هاهنا هو الذي في المثال المذكور بمنزلة المرآة ، التي يظهر فيها مثال الشخص عند التعاكس ، وهي معدومة بنفسها ، لا حظَّ لها من الوجود ، والموجود بالحقيقة هو ذلك الاسم ولذلك قال : "حقيقة ذلك الاسم " .
 
( فهكذا هو الأمر ) من أنّ الناظر نفسها معدومة العين والأثر كما ظهر في المثال ( إن فهمت ، فلا تجزع ) من هذا العدم ( ولا تخف ) من نسبة البوار والهلاك إلى نفسك ، ( فإنّ الله يحبّ الشجاعة ولو على قتل حيّة ، وليست الحيّة سوى نفسك ) .
 
ثمّ إنّ في العبارة الختميّة - هذه - لطائف قد نبّه إليها إيماء منها أن النفس بقتلها لا تموت في حدّها الذاتي وفي عبارة « الحيّة » دلالة على ذلك وإليه أشار بقوله : ( والحيّة حيّة لنفسها بالصورة والحقيقة ) .
 
النفس معدومة غير قابلة للعدم
ومنها أنّها إذا كانت النفس حيّة بذاتها فلا تقبل بالقتل سوى فساد الصورة الحسيّة وإسقاط النسبة الوهميّة ، وبيّن أنّهما ليسا من حقيقتها القائمة الدائمة في شيء ، وذلك هو مبدأ محبّة الله تعالى له وإلى ذلك أشار بقوله : ( والشيء لا يقتل عن نفسه ، وإن فسدت الصورة في الحسّ ، فإنّ الحدّ ) العقليّ ( يضبطها ) بذاتيّاتها ، ضبطا جامعا لأفرادها ، مانعا عن غيرها ، (والخيال لا يزيلها) عن الصورة الجسدانيّة التي عليها ، ( وإذا كان الأمر على هذا فهذا هو الأمان على الذوات ) من الجزع عن فنائها حيث مهّد « فلا تجزع » ، ( والعزّة والمنعة ) من تطرّق النقص إليها ، فلا خوف عليهم حيث مهّد « ولا تخف » ( فإنّك لا تقدر على فساد الحدود ) الذاتيّة التي للحقائق .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأي عزّة أعظم من هذه العزّة ؟ ) التي لا يمكن أن يحوم حول حمى حدوده الذاتيّة تطرّق نقص ولا فساد ، ولكن لما فسدت الصورة الحسيّة التي هي مبادئ حكم الخيال ، بالقتل الذي هو مبدأ ثوران أمر الوهم وسلطانه ، حكم الوهم تابعا للمتخيّلة بذلك القتل ، (فتخيّل بالوهم أنّك قتلت) .
 
أيّ وهم حكمه باطل
وهذا الوهم الذي يتبع المتخيّلة في أحكامها هو الذي يذمّه الحكماء المحققون وينسبون أحكامه إلى الفساد ، حيث يشيرون إلى الأحكام الفاسدة بأنّها أوهام ، وصار ذلك مزلَّة أقدام المتأخّرين منهم ، وحسبوا أن الوهم مطلقا حكمه باطل وليس كذلك ، فإنّ الوهم المستقلّ بالحكم أو الذي يتبع العقل في حكمه ، فهو من أساطين حكَّام هذه النشأة عند اقتناص الحقائق الذوقيّة ،
ولذلك قال : ( وبالعقل والوهم لم تزل الصورة موجودة في الحدّ ) ، أي الحدّ الكلَّي الكاشف عن الحقيقة ، لا يزال الوهم يتصوّر فيه أشخاصها وجزئيّاتها فصورة الشخص التي غابت بالقتل عن الحسّ وحكمت المتخيّلة - عند استتباعها الواهمة - بفسادها تبعا للحسّ ، لا زالت موجودة فإنّ مقوّمات حقيقته وذاتيّات حدّه غير قابلة للفساد أصلا ، والعوارض المشخّصة لها إنما هي لوازم غير ممكنة الانفكاك عنها .
 
وما رميت إذ رميت
فعلم من تشبيب هذه المقدّمات أنّ نفس العبد حيّة في ذاتها ، على ما أشير إليه في العبارة الختميّة ، ولها تأثير في ذاتها ، ولكن لا من حيث أنّها عبد وإن قتلت وأسقطت عنها الإضافات من الأفعال والصفات ، ( والدليل على ذلك ) عقلا وذوقا ما أشير إليه آنفا ونقلا قوله تعالى : ( “  وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى “  والعين ما أدركت ) عند مشاهدة ذلك الفعل وصدوره من الفاعل ( إلَّا الصورة المحمديّة ، التي ثبت لها الرمي في  الحسّ ) ، ولا شكّ أنّ الصورة الحسيّة من كل شيء هي الفاسدة بذاتها ، لأنّها صورة كونيّة ظليّة ، وإن كانت في الحقيقة هي المشتملة على الصورة الحيّة بذاتها ، وهي التي باعتبار التأثير منها ونسبة الفعل إليها حقّ - كما سبق بيانه .
 
ولذلك قال : ( وهي التي نفى الله الرمي عنها أولا ) ، يعني باعتبار الصورة الأولى ، ( ثم أثبته لها وسطا ) ، يعني باعتبار الصورة الحقيقيّة التي هي البرزخ الجامع بين العبديّة والحقيّة ، الواقعة في وسط الاعتدال ولذلك وقعت في العبارة القرآنيّة وسطا بين نفي التأثير عن الصورة المحمديّة وبين استدراك إثباته لله تعالى فيها ، كما قال :  
 
الرامي هو الله في الصورة المحمّديّة   
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ عاد بالاستدراك أنّ الله هو الرامي في صورة محمديّة ) وفي خصوصيّة عبارته هاهنا بقوله : « ثم عاد » إشعار بدقيقة من جلائل الحكم ، وهي أنّ المعاد الحقيقيّ والمراد الغائيّ إنما هو الظهور بصورة الأثر ، والبروز بكسوة الغلبة بالفعل والقهر ، والكلام والخبر فهي إشارة إلى ختم الولاية ، كما أنّ الأولين - يعني النفي والإثبات - إشارة إلى ختم النبوّة.
 
( ولا بدّ من الإيمان بهذا ) ، يعني أنّ التأثير مطلقا بدءا وإعادة للحقّ ، ولكن في صورة محمديّة ( فانظر إلى هذا المؤثّر ) كيف تنزل متدرّجا في إظهار كماله صورة ومعنى ، من آدم في مدارج الأنبياء ( حتى أنزل الحقّ في صورة محمّديّة ) خاتميّة مظهرة لأمر الكمال بالتعبير عن تمام الكلام ، وكاشفه له عن تمام المرام ، حيث أبان ( وأخبر الحقّ نفسه عباده بذلك ، فما قال أحد منّا ذلك ، بل هو قال عن نفسه - وخبره صدق والإيمان به واجب ، سواء أدركت علم ما قال أو لم تدركه ) ،
 
فإنّ الفائزين بنيل الكمال الإنساني - كما مرّ غير مرّة - قد انحصر أمرهم في طائفتين : وهما العالمون أصحاب القلوب ، أو المؤمنون أرباب إلقاء السمع : ( فإمّا عالم ، وإمّا مسلم مؤمن ) .
 
الفرق بين حكم النظر والذوق في مسألة العلة والمعلول
ثمّ إنّه استشعر أن يقال هاهنا : إنّ أصحاب العقول - الذين يستحصلون المعارف والحقائق بالنظر والفكر - لا يتمّ هذا الكلام عندهم ولا يستقيم هذا الحصر في الطائفتين لديهم ، فأشار إلى دفع مقالهم بقوله : ( ومما يدلَّك على ضعف النظر العقلي من حيث فكره ) - لا مطلقا ، فإنّه الذي يدركه العقل عند بلوغه رتبة ذوق الرجال ، وما قصر عنه أفهام الواقفين في مواقف بدايات المدارك البشريّة - من أطفال أهل الطلب وطفيليّ طريق نوال كمالهم - حكم العقل من حيث فكره فيما نحن بصدده ،
 
وهو ( كون العقل يحكم على العلَّة أنّها لا تكون معلولة لمن هي علَّة له هذا حكم العقل ) من حيث نظره الفكريّ على ما هو الظاهر عند المسترشدين بطريق النظر ، ( لا خفاء به ) عندهم بناء على الأصل المبرهن : "إنّ القابل لا يكون فاعلا " .
( وما في علم التجلَّي إلَّا هذا ) الذي حقّق أمره لك ، ( وهو أنّ العلَّة ) التي هي مبدأ التأثير ( تكون معلولة ) متأثّرة ( لمن هي علة له ) ، كفعل الحقّ في الصورة المحمّديّة ، فإنّه علَّة لها مع أنّ الصورة المحمّديّة في التجلَّي علَّة للفعل الحقّ ، وهو الرمي .
 
تقريب حكم العقل والذوق في مسألة العلة والمعلول
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والذي حكم به العقل ) في هذه المسألة - من أنّ الفاعل من حيث أنّه فاعل لا يمكن أن يكون قابلا بتلك الحيثية - ( صحيح ) ولكن ( مع التحرير ) يعني إذا حرّر ما هو محلّ النزاع حقّ التحرير فإنّه ما لم يحرّر ويبيّن المبحث ( في النظر ) والبحث لا يتمّ تقريب الطرفين فيه ، ولا يتميّز الصحيح عن الفاسد منه على ما بيّن في صناعته .
( و ) العقل الفكريّ ( غايته في ذلك ) البحث ( أن يقول ) في توجيه ما رآه مخالفا لمقتضى النظر والفكر ، وتطبيقه على قانون البحث وميزانه
 
( إذا “ رأى الأمر على خلاف ما أعطاه الدليل النظري ) عند بلوغه رتبة الكمال البشري والذوق القلبي : ( إنّ العين بعد أن ثبت أنّها واحدة في هذا الكثير ) من التعيّنات الصورية ( فمن حيث هي علة في صورة من هذه الصور ) التي هي مجلى العين في منصّات معرس الإظهار - كما تقرّر أمره آنفا - ( لمعلول ما ، فلا تكون معلولة لمعلولها ) بتلك الصورة بعينها ( في حال كونها علَّة بل ينتقل الحكم ) بالعلَّية والمعلوليّة وسائر المتقابلات والمتخالفات على تلك العين الواحدة ( بانتقالها في ) تلك ( الصور ) التعيينيّة ، حتّى يجتمع الحكمان على الصورة الواحدة بحيثيّة واحدة ، ( فتكون معلولة لمعلولها ، فيصير معلولها علَّة لها ) .
( هذا غايته ) أي غاية العقل عند بلوغه مرتبة الإحاطة القلبيّة ، والسعة الإنسانيّة التي يلزمه أمر كمال الإدراك والإظهار ، وتمام مرتبة الشعور والإشعار
 
وإليه أشار بقوله : ( إذا كان قد رأى الأمر على ما هو عليه ، ولم يقف مع نظره الفكري ) الذي للعقل في مواقف نقصه عند عدم بلوغه رتبة الكمال المقدّر له ، فإنّ النظر الفكري يحيل أن يكون لواحد أحكام متنافية ، فإنّ تنافي اللوازم من أبين ما يستدلّ به على تباين الملزومات وتكثّر أعيان ماهيّاتها .
 
هذا ما لم يبلغ أشدّه ولم تحصل له رتبة الإحاطة القلبيّة وسعتها الإطلاقيّة التي تمحو آثار التفرقة ، وتزيل ضيق التباين والتكثّر .
ثمّ إنّ التفرقة لها مراتب متفاوتة الأحكام في الجلاء والخفاء ، أبينها ظهورا لحكم التفرقة وضيق أمرها هو التقابل ، فأقسام المتقابلات هي أشدّ المضايق المتمانعة الأحكام ، وأجلاها في ذلك هو الفاعل والمنفعل ، ضرورة ظهور أمر تمانع أحكامهما وتنافي لوازمهما على صحائف الأكوان الخارجيّة ومجالي الألوان الحسّية ، وهذا هو المعبّر عنه بالعليّة والمعلوليّة ،
 
ولذلك قال رضي الله عنه : ( وإذا كان الأمر في العليّة ) التي هي أجلى المضايق المتباينة وأقواها حكما للتمانع ( بهذه المثابة ) - حيث حكم العقل بما وصل إليه من الوحدة الذاتيّة وحياطة القلبيّة وسعتها : أنّ العين الواحدة يصلح لأن تكون موردة لحكمي العلَّية والمعلوليّة ، والفاعليّة والقابليّة - ( فما ظنّك باتّساع النظر العقلي في غير هذا المضيق ) ، الذي ليس بهذه الشدّة من الضيق .
وذلك عند طلوع تلك الوحدة على العقل بأنوارها الإطلاقيّة وتجليّاتها الإحاطيّة الماحية لظلام أحكام التعيّنات الفارقة ، وهي مرتبة كمال العقل وبلوغه ، فما دونها من العقول في مواقف النقص ومقام القصور .
 
قال رضي الله عنه : ( فلا أعقل من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ) لبلوغ عقولهم مرتبة كمالها ( وقد جاؤوا بما جاؤوا به في الخبر ) المنزل ( عن الجناب الإلهيّ ) ، الكاشف عن الحكم الحقّة ، ( فأثبتوا ما أثبته العقل ) من الحكم الطبيعيّة والعمليّة أكثرها ، ومن الإلهيّة ، الأحكام التنزيهيّة منها فقط ( وزادوا ما لا يستقلّ العقل بإدراكه ) مجرّدا عن الوهم من الأحكام التشبيهيّة وحكمها اللازمة لها ( وما يحيله العقل رأسا ) ، سواء كان مستقلا بنفسه أو مع غيره ، كاتّصاف العين الواحدة بالأحكام المتنافية من حضرة تعانق الأطراف ومجمع الأضداد ، ( ويقرّ به في التجلَّي ) لظهوره بما لا يمكن أن يتطرّق إليه شبهة من بين يديه ولا من خلفه .
 
حكم عبد الربّ وعبد النظر
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا خلا بعد التجلَّي بنفسه ، حار فيما رآه ) مما يخالف نظره الفكري وعقله النظري ، ( فإن كان عبد ربّ ) بتصحيح نسبة العبوديّة إليه عند استفاضة ما يغتذي به ظاهرا وباطنا ، عبادة وعبودة ، ( رد العقل إليه ) ، بما زاد في دائرة إدراكه من السعة القلبية التي عرفت أمرها آنفا ، ( وإن كان عبد نظر ) بتصحيح نسبته إليه عند استفاضة ما يقويه ويغتذي به ( ردّ ) عقله ( الحقّ إلى حكمه ) ، أي حكم النظر الفكري ، الغالب على مشاعره ومداركه أمر التفرقة التعيّنيّة ، ذاهلا عن الوحدة العينيّة ، بعيدا عنها .
 
العارف مجهول في الدنيا
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا ) الردّ والتحيّر ( لا يكون إلا ما دام في هذه النشأة الدنياويّة ) محاطا لأحكامها ، ( محجوبا عن نشأته الاخرويّة في الدنيا ) لغلبة الأحكام الدنيوية على مداركهم من الصور الحسّية والمثاليّة ، وانقهار أحكام الاخرويّات فيهم من المعارف المعنويّة والحقائق الإطلاقيّة ، وهذا إنما هو للمحجوبين في الدنيا ، المحاطين لحكمها ، دون العارفين الذين لا ينحجبون عن أحد المتقابلين بالآخر ،
ولا يحاطون لحكم أصلا ( فإنّ العارفين يظهرون هنا كأنّهم في الصور الدنياويّة ، لما يجري عليهم من أحكامها ) التعينيّة الفارقة ، ( والله تعالى قد حوّلهم في بواطنهم في النشأة الاخرويّة ) ، تحويل تقلَّبات قلبيّة إطلاقيّة ،
 
( لا بدّ ) للعارف ( من ذلك ) ، حتى يكون عارفا ( فهم بالصورة مجهولون ) لاشتراكهم مع العامّة فيها قولا وفعلا ، ولا يظهرون من آثار العرفان شيئا ، كما قال ابن الفارض :
سقتني حميا الحب راحة مقلتي ... وكأسي محيا من عن الحسن جلت
فأوهمت صحبي أن شرب شرابهم ... به سر سري في انتشائي بنظرة
وبالحدق استغنيت عن قدحي، ومن ... شمائلها، لا من شمولي، نشوتي
ففي حان سكري حان شكري لفتية ... بهم تم لي كتم الهوى مع شهرتي
 
فهم في قباب العزة والخفاء في الدنيا على أهلها ( إلا لمن كشف الله عن بصيرته ) المدركة للحقائق ، النافذة في البواطن ، غير الواقفة في مواقف الحسّ والخيال على ما هو موطن إدراك العامّة من أهل الرسوم وأرباب العادات ( فأدرك ) الصور ببواطنها ، وميّزها حقّ التمييز .
 
العارف شاهد بعين الآخرة في دنياه
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما من عارف باللَّه من حيث التجلَّي الإلهيّ ) - لا من حيث النظر العقلي والعقائد التقليديّة ( إلا وهو على النشأة الآخرة قد حشر في دنياه ) أي أظهر عليه مواطنها الحسابيّة ومواقفها الميزانيّة الخطابيّة ، وأخرج له صورة الجمعيّة الكليّة الكتابيّة ، بما انطوت عليه من خيره وشره ، وتميّز بينهما في ميزان العدل ، فإنّ الحشر إخراج الجماعة عن مقرّهم ( ونشر من قبره ) ، أي بسط صورة تلك الجمعيّة من مقرّ خفائه ومكامن صنوف حجبه الجسمانيّة
 
والطبيعيّة والعاديّة ، على صحائف الإظهار ومجالي الشعور والإشعار ، برقوم الانبساط والانتشار .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو يرى ما لا يرون ) حسّا ( ويشهد ما لا يشهدون ) ذوقا وعقلا ، ( عناية من الله ببعض عباده في ذلك ) الكمال الخاصّ ، موطن تعانق الأطراف ، الظاهر به النهايات والغايات ومن ثمّة يرى ظهور كل من المتقابلين في مقابله كالآخرة في الدنيا ، والخفاء في الصورة الظاهرة ، والعروج في صورة النزول كما يشير إليه بقوله :
 
سلوك من أراد الحكمة الإلياسيّة 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أراد العثور على هذه الحكمة الإلياسية الإدريسية ) التي إنما يتحقّق بهما كلّ من استحكمت فيه رقائق الجمعيّة المزاجيّة فيه ، واستعدّ بذلك للعروج في مدارج تنزّلات المزاج  من الاستيداعيّة منه والاستقراريّة والترقّي إلى المعراج الذاتي والوحدة الحقيقيّة ، ولذلك يتمكَّن من الجمع بين المنزلتين والفوز بخصائص الزمانين في سلسلتين
.
وصاحب هذه الحكمة هو ( التي أنشأه الله نشأتين ) بقوّة الرقيقة الاتحاديّة التي له بين الباطن منه والظاهر .
 
وفي ظاهر عبارته ما يدلّ على هذا ، حيث أنّث الموصول للحكمة ، وذكَّر الضمير لصاحبها لكمال الاتّحاد بينهما ، فإنّ صاحب هذه الحكمة أنشئ أوّلا في السلسلة الآدميّة التي بها يؤسّس مادّة الأوضاع التشريعيّة الدينيّة ، التي إنّما تمّت قواعد بنيانها بنوح ، كما يكشف عن ذلك تلويحه مع بيّناته
وإليه أشار بقوله : ( وكان نبيّا قبل نوح ) لتحقّقه بالدراية الحكميّة العلميّة ، كما يكشف عنه اسمه التي سمّي به فيها - يعني إدريس - وقيل : هو المسمّى بهرمس الهرامسة ، واضع قوانين الحكمة وممهّد ترتيبها وتدوينها ، ( ثمّ رفع ) بميامن تلك العلوم وكمال رقيقته الاتحاديّة التي بها ، ( ونزل ) بقوّة تلك الرقيقة الاتحاديّة الامتزاجيّة ( رسولا بعد ذلك ) في السلسلة التي ختم فيها أمر الرسالة ، ولذلك سمّي فيها بـ « إلياس » أي معرّف قلب القرآن ومظهره ( فجمع الله له ) في رفعه ونزوله أولا وآخرا ( بين المنزلتين ) نبوّة ورسالة .
 
 النزول إلى الحيوانيّة
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلينزل ) ذلك المريد الذي أراد العروج على هذا المعراج الذاتي والوحدة الإطلاقيّة ، منحدرا يرتقي ( عن حكم عقله إلى شهوته ويكون حيوانا مطلقا ) ، فإنّ العقل وإن كان موطن العلم والحكم بما هو مقتضى التنزّه والتقدّس ، ولكن لوقوعه في مقابلة الإطلاق الحقيقيّ والعين الواحدة بالوحدة الذاتيّة قد قوي فيه قهرمان التقيّد والتعيّن ، وظهر سلطان التفرقة العالميّة والامتياز الخلقيّ العبديّ ولذلك تراه وقد قيل في قطر من أقطار عالمه : “  أَنَا خَيْرٌ “  ، وفي آخر منها “  نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ “  .
 
ومن ثمّة إذا تنزّل عن حكمه المفرّق إلى الحيوان المطلق الذي هو أصل بنيته ومادّة جمعيّته يظهر له من أمر الجمع الإطلاقيّ ما يتبيّن لديه كليّات الأمور وجزئيّاتها على ما هي عليه ، ( حتّى يكشف ما يكشفه كلّ دابّة ) ممّا هو في غيب العقل ومداركه الفارقة ، من الأمور الظاهرة لدى الحيوانات المطلقة ، المخفّفة عن أعباء أحمال العقل وتكاليفه - يعني ( ما عدا الثقلين - فحينئذ يعلم أنّه قد تحقّق بحيوانيّته ) .
 
علامة النزول إلى الحيوانيّة
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلامته علامتان : الواحدة هذا الكشف ) الكاشف عن موطن الجمع ، والعين الواحدة الإطلاقيّة ، فلا ينحجب صاحبه بأحد العالمين عن الآخر، ( فيرى من يعذّب في قبره ومن ينعّم ) ، ولا بأحد المتقابلين عمّا يقابله ( فيرى الميت حيّا ، والصامت متكلَّما ، والقاعد ماشيا.
( والعلامة الثانية الخرس ) الذي هو مقتضى الحيوان بإطلاقه ، ( بحيث أنه لو أراد أن ينطق بما رآه لم يقدر فحينئذ يتحقق بحيوانيّته ) .
(وكان لنا تلميذ قد حصل له هذا الكشف ، غير أنّه لم يحفظ عليه الخرس فلم يتحقّق بحيوانيّته ولما أقامني الله في هذا المقام تحقّقت بحيوانيّتي - تحقّقا كليّا - فكنت أرى وأريد النطق بما أشاهده ، فلا أستطيع فكنت لا افرّق بيني وبين الخرس الذين لا يتكلمون ) .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فصّ حكمة إيناسيّة في كلمة إلياسية الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:15 am

22 - فصّ حكمة إيناسيّة في كلمة إلياسية الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص إلياسية على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
22 - فصّ حكمة إيناسيّة في كلمة إلياسية                  الجزء الثالث
العقل البالغ
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا تحقّق بما ذكرناه ) من الإطلاق الحقيقيّ الجامع بين الوحدة العينيّة والكثرة التعينيّة عند تحقّقه بالحيوانيّة الكليّة تحقّقا كليّا ، خالصا عن تقيّدات الموادّ وتشخّصات الأفراد .

فلذلك ( انتقل إلى أن يكون عقلا مجرّدا ) عن مشخّصاته الفارقة ( في غير مادة طبيعية ) ، فإنّها هي مبدأ التفرقة والتكثّر ، وهذا العقل هو البالغ رتبة استوائه القلبي - كما أشير إليه غير مرّة - والعالم حقائق الأمور بما هي عليه بأصولها وفروعها وخصائصها وأعراضها ( فيشهد أمورا ) في ذلك الموطن العلمي الإطلاقي


( هي أصول لما يظهر في الصور الطبيعيّة فيعلم من أين ظهر هذا الحكم في صورة الطبيعة ) يعني ظهور شخص واحد في صورتين ، كظهور إدريس في صورة إلياس ، مع بقاء الأول بحاله ، بدون نسخ ولا فسخ على ما هو مدرك العامّة في ذلك .

فإنّك قد عرفت حيث حقّق الارتباط بين الكلَّين أنّ طريان الكثرة للواحد لا يزيله عن أمر الوحدة وما يعوقه عنها ، بل يقوّيه ويكمله .

ومن جملة ما ظهر من هذه الأصول أمر العقل ومدركه في الصور الطبيعيّة ، حيث قصر نظر العقل فيها على طرق التنزيه ، ولا يتمكَّن من إدراك طرف التشبيه أصلا ، ما دام في صورته الطبيعيّة ، والوهم على عكس ذلك - ( علما ذوقيّا ) فإنّ العقل حينئذ في مقرّ إطلاقه الجمعي ، لا مجال لتفرقة الدليل والمدلول هناك أصلا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن كوشف ) مع العلم بهذه الكثرة وخصائص الكثير ( على أنّ الطبيعة ) التي هي مبدأ تلك الكثرة ( عين نفس الرحمن ) - وهي العين الواحدة في الصور الكثيرة - ( فقد أوتي خيرا كثيرا ) ، ضرورة أنّ نفس الرحمن هو الوجود الذي هو الخير ، فإذا شوهد ذلك في الكثير فقد أوتي خيرا كثيرا .

وظهر من كلامه هذا أنّ الحكمة - التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا - إنما هو التحقّق بالوحدة الحقّيّة مع الكثرة الكونيّة ، مرتبطا أحدهما بالآخر ، على ما لا يخفى للمتأمّل في حروفها الكاشفة عنها ( وإن اقتصر معه على ما ذكرنا ) من التحقّق بأصول تلك الصور ، ومبادئ تلك الخصائص ، دون الوجه  الجمعيّ الإحاطيّ النفسي الرحمانيّ ، ( فهذا القدر يكفيه من المعرفة الحاكمة على عقله ) بالقصور ما دام في صورته الطبيعيّة .

لا يعرف حقّ الأمر غير العارفين
وفي هذا القيد استشعار أنّ طائفة أهل النظر من الفلاسفة والمتكلمين الذين قد حكم عليهم عقولهم ، ليسوا من المعرفة في شيء وهذه الطائفة لمّا علمت قصور مدارك العقل وعجزه عرفت أمر العقل بما هو عليه ( فيلحق بالعارفين ، ويعرف عند ذلك ) التحقّق بمبادئ الأفعال ، وارتباط كل أصل بفروعه المتشعبة عنه ( ذوقا ) يعني قوله تعالى : - ("فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ الله قَتَلَهُمْ“).

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما قتلهم ) لدى المدارك الحسّية ( إلا الحديد والضارب الذي خلف هذه الصور ) منحجبا بها عن تلك المدارك ، منكشفا لدى العقل الصافي مشرب شعوره عن شوائب العادات والتقليدات الواهية ، ورسومها الخالية ( فبالمجموع وقع ) هذا ( القتل والرمي ) .

وإنما خصّ هذان الفعلان في تحقيق الأمر من عالم الأفعال لكمال ظهورهما وتوجّه المدارك نحوهما بجوامع قصدها ، ولأنّهما أيضا من الكليّات التي تترتّب عليها أمور وأحكام جزئيّة فإذا نظر العارف فيهما عند صدورهما من المجموع ، وتميّز بين الأصول والفروع ( فيشاهد الأمور بأصولها وصورها ، فيكون تامّا ).

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن شهد النفس ) الرحمانيّ - الذي هو أصل الأصول - ( كان مع التمام كاملا ) فإنّك قد عرفت فيما سلف أنّ الكمال باحتياز غايات الأمور وحدودها ، وهو الحقّ في صورة النفس الرحماني الذي تتّحد به الكلمات الوجوديّة كلَّها ، اتّحاد الكلمات اللفظيّة بالنفس الإنسانيّ ( فلا يرى إلَّا الله عين ما يرى ، فيرى الرائي عين المرئي ) ،
وهذا هو احتياز الغايات فإنّ الرؤية التي هي غاية الحركة الوجوديّة قد اتّحدت بها غاية الظهور ، يعني المرئي - وغاية الإظهار - يعني الرائي - فانحازت برؤية الغايات .

( وهذا القدر يكفي ) للبيب المتفطَّن في تحقيق أمر الكمال ، ( والله الموفّق والهادي ) له إلى إدراكه وتحقّقه .

تم الفص الإلياسي
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 23 - فصّ حكمة إحسانيّة في كلمة لقمانيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس مارس 12, 2020 2:38 am

23 - فصّ حكمة إحسانيّة في كلمة لقمانيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص اللقماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
23 - فصّ حكمة إحسانيّة في كلمة لقمانيّة  
( الإحسان ) لغة يقال على وجهين : أحدهما الإنعام على الغير ، والثاني إحسان في فعله ، وذلك إذا علم علما حسنا أو عمل عملا حسنا وعلى هذا قول أمير المؤمنين : « الناس أبناء ما يحسنون » أي منسوبون إلى ما يعلمونه ويعملونه من الأفعال المعجبة لهم ، وقوله تعالى : “  الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه ُ “ [ 32 / 17 ].
 
وتحقيقا : على إظهار الحسن ، يعني ما فيه النسبة الكماليّة التي هي مبدأ الحياة والحمد ، فإنّ الإحسان له تلويح بيّن على السين والحاء باسميهما والأوّل كاشف عن تمام النسبة ،
والثاني على كمال إظهارها كما مرّ تحقيقه فهو أوثق نسبة بين الحقّ والعبد وأظهرها ،
كما قال تعالى :" وَمن يُسْلِمْ وَجْهَه ُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى "  [ 31 / 22 ] .
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم : « الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ».رواه البخاري ومسلم وأين ماجه وغيرهم.


 فإنّه قد اعتبر في مفهومه النسبة بأبلغ وجه ، كما هو مؤدّى عبارته الختميّة ، حيث صرّح بالتشبيه الذي هو النسبة الكماليّة بين أمرين ، الجامعة لوجوه المناسبات بالرؤية التي هي أبين نسبة بين الحقّ والعبد ، ثمّ كرّر المنتسبين ثلاث مرّات إبانة لأمر تلك النسبة في صورة تمام الإظهار .
 
تسمية الفصّ
ثمّ إنّه لغلبة سلطان هذه النسبة على الكلمة اللقمانيّة تراه - عند إبلاغه نبأه الكمالي وإظهاره حكمه الحسنة - مخاطبا لابنه خطاب شفقة وعطوفة ، وبيّن أن الخطاب هو أقرب النسب بين الرسول والمرسل إليه ، كما أنّ الابن الذي هو المخاطب فيه مختصّ بأوثق النسب ، مؤدّى في صيغة تصغير الإشفاق ، الدالّ على كمال تلك النسبة ،
وبيّن أنّ النسبة كماله الأتمّ في الوثاقة وقوّة الربط أن يؤول أمرها إلى الاتّحاد بين منتسبيها بغلبة وجوه الجمع على ما به الامتياز كالاغتذاء مثلا ، فإنّه إنما يتحقّق عند جعل الغذاء جزء للمغتذي متّحدا به في صورته الشخصيّة التي بها أصبح واحدا كلَّا .
 
ومن ثمّة صدّر هذا الفصّ اللقمانيّ بتحقيق تلك النسبة الغذائيّة بين الحقّ والخلق لما بينهما من النسبة الظاهرة لفظا ، ولما عرفت من قرب تأدّيها للكشف عن الوجوه الجماليّة التي هو بصدده هنا .
 
وأيضا في الصورة النظميّة من النسبة الوثيقة الجمعيّة ما ليس في النثر ، فهو اللائق بتحقيق أمرها ، كما هو مؤدّى الكلمة اللقمانيّة فقال :
( إذا شاء الإله يريد رزقا ....  له ، فالكون أجمعه غذاء )
مفصحا عن مبدأ تلك النسبة من حضرة الأسماء ، يعني المشيئة والإرادة اللتين بهما يتحقّق الشيء والمراد ، وما يدور به أمر ظهوره من الأحكام والخصائص فالمشيئة لها تقدّم - كما سبق في المقدّمة .
 
ثمّ إنّك قد عرفت أنّ نسبة القرب بين الخلق والحقّ تارة في صورة الفرض القطعي ، وهو أن يتوجّه المشيئة والإرادة نحو الكون الدائر في دائرة إحاطته وجمعيّته ، إلى أن يغتذي به الحقّ ، فهذا إشارة إليه وأخرى في صورة النفل الزائد ، وهو أن يتوجّها نحو رزاقيّة الحقّ إيّاه ، ليغتذي به الخلق ،
وإليه أشار بقوله :( وإن شاء الإله يريد رزقا  .... لنا، فهو الغذاء كما يشاء )
أيّ يكون المشيئة متوجّهة إليه ، فهو الشيء .
ثمّ بعد تحقيق أمر النسبة بين الحقّ والخلق يريد إبانة ما بين مبدأيهما من النسبة - يعني المشيئة والإرادة - بوجهي جمّيتهما وافتراقهما ، فإلى الأولى منهما أشار بقوله :
 
مشيئة الحقّ إرادته
( مشيئته إرادته ) ، أي هما متّحدان عند نسبتهما إلى الهويّة الذاتيّة ، ولكن للمشيئة تقدّم على الإرادة تقدّم إحاطة وشمول ، كما نبّهت عليه في المقدّمة عند الكلام في ترتيب الأسماء وإنّ المشيئة هي توجّه الذات نحو حقيقة الشيء وعينه ، اسما كان أو وصفا أو عينا ، والإرادة تعلَّقها بتخصيص أحد الجائزين من الممكن ، فتكون الإرادة مما يتعلَّق به المشيئة ،
وإليه أشار بقوله : ( فقولوا . بها ) أي بالإرادة ، فإنّ التغاير بينهما اعتباريّ إنما يظهر حكمه في القول والعقل فقط ، دون العين ( قد شاءها ، فهي المشاء ) بفتح الميم ، اسم مفعول من المشيئة على غير القياس هذا جهة جمعيّتهما ، وأما جهة الفرق ،
 
فقد أشار إليه بقوله :( يريد زيادة ويريد نقصا  .... وليس مشاءه إلَّا المشاء )
أي متعلق الإرادة قابل للزيادة والنقص ، حيث أنّها تعلَّق الذات بتخصيص أحد الجائزين من طرفي الممكن ، دون المشيئة ، فإنّ متعلَّقها ذات الشيء ، وهي بحالها فـ « المشاء » هاهنا مصدر ميمي ، ولو جعل الأول مصدرا والثاني اسم مفعول ، له معنى .
 
( فهذا الفرق بينهما ، فحقّق ....  ومن وجه ، فعينهما سواء )
لأنّه لا تمايز بينهما في العين كما عرفت .
 
اختصاص لقمان بالإحسان
ثمّ إنّه يريد أن يبيّن وجه اختصاص الكلمة المذكورة بالحكمة الإحسانيّة التي هي إظهار ما هو حسن - أي ذو نسب كماليّة - بقوله : ( قال الله تعالى : "وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ " [لقمان :12 ] . " وَمن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً " [البقرة : 269]  )
 وفي هذين اللفظين من الإشعار بالنسبة الكماليّة المذكورة ما لا يخفى ، فلذلك صرّح بالمقصود في قوله : ( فلقمان بالنصّ هو ذو الخير الكثير ، بشهادة الله تعالى له بذلك )
إبانة لما هو بصدده من إثبات النسبة الكماليّة المذكورة للقمان وقد أدرج في طيّ عبارته هذه مفهومات ذات نسب شهادة بذلك .
ثمّ إنّ الإظهار المذكور قد يكون بصورة النطق والإفصاح ، وقد يكون بصورة الإشارة والسكوت على ما هو مقتضى كل حكمة، بما لها من الموطن والزمان كما قال "ابن الفارض":
ولولا حجاب الكون قلت وإنما ....    قيامي بأحكام المظاهر مسكتي
وقيل : " وما كل ما أملت عيون الضبي يروى "
 
الآتي بكل شيء هو الله تعالى
فأخذ في تبيين القسمين بقوله :
قال الشيخ رضي الله عنه : (والحكمة قد تكون متلفّظا بها ، ومسكوتا عنها مثل قول لقمان لابنه)
فيما هو بصدده من أمر التغذية ، وجعل الغذاء فيها متّحدا بالمغتذي وأنّ الآتي به من مستجنّ البطون إلى مجالي الشهادة هو الله تعالى مظهرا إيّاه ، منطوقا به :
(" يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ ") أي مقدارا يقدّر به الكميّة العدديّة من موزونات الأشياء ، فهو أصغر المقادير من الصورة المشخّصة الحبيّة من جنس الخردل الذي هو أصغر الحبوب المقتاتة وأبعدها نسبة إلى الاتّصال الغذائي لغلبة المزاج الدوائي عليه ، المانع عنه من التقطيع الذي يستتبع تنفيذ الكيموسات اللزجة .
ويقال من اللغة : « خردلت اللحم » أي قطعته قطعا فإذا كان هذا المقدار من حبّة من هذا الجنس البعيد عن الاتّصال الغذائي والامتزاج الوحداني ، ويكون في أبعد المواضع للتناول ( "فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ ") هي أصلب المركَّبات وأشدّها منعا لاستخراج ما فيها يعني المادّيات المزاجيّة المانعة لخروج ما فيه ، ("أَوْ في السَّماواتِ") من البسائط العلى ، يعني المجرّدات المنزّهة عن الموادّ التي هي أبعد منها ، ("أَوْ في الأَرْضِ ") وهي أرض القابليّة الأصلية التي تنزل منها المتحرّك نحو الظهور إلى السماء - وكأنّك قد نبّهت عليها فله زيادة البعد، ("يَأْتِ بِهَا الله ") [ 31 / 16 ] 
 للامتزاج الجمعي والاتّصال الوحدانيّ الغذائيّ فكيف بما دونه والآتي المحرّك له هو الله .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (فهذه حكمة منطوق بها ، وهي أن جعل الله هو الآتي بها ) بناء على الأصل الممهّد أنّ المؤثريّة وما يتفرّع عليها مرجعها إلى الحقّ عند تفصيل الأحكام وتمييز الطرفين من الحقّ والعبد ، فذلك هو الذي يصلح لأن يثبت على صحائف الإعلان ، ويقرّر في منابر البيان ، ولذلك نطق به : ( وقرّر الله ذلك في كتابه ، ولم يردّ هذا القول على قائله ) لا عقلا ولا شرعا.
 
الحكمة التي أشار لقمان رمزا
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأما الحكمة المسكوت عنها ، وعلمت بقرينة الحال ) التي إنما يفهمها من يصلح لأن يكشف له عن وجوه جمال الإجمال : ( فكونه سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبّة ، فما ذكره ) في ظاهر منطوقه ، ( ولا قال لابنه ) عند تعليمه إيّاه رعاية لأدب الإرشاد والتسليك في علوم الحقائق ، وتنبيها لمن هو بصدده من الأولياء المحمديّين ، الذين يرثون علوم الأنبياء أجمع ، حيث صرّح بنسبة التأثير إلى الحقّ ، وسكت عن التأثّر ونسبته إلى أحد - يعني المغتذي .
 
فإنّه صرح بالغذاء الفرضي العلمي ومواضعه ، وأنّ الحقّ هو الآتي به ، دون المأتي إليه فإنّه ما قال : ( " يأت بها الله إليك " ولا " إلى غيرك " فأرسل الإتيان ) من حيث متعلَّقه المتأثّر منه ( عامّا ) غير معيّن ، ( وجعل المؤتى به ) متوسّطا بين الآتي المصرّح به معيّنا ، وبين المأتيّ إليه ، المسكوت عنه مطلقا ، حيث عيّن مكانه
 
بأن قال : ( "في السَّماواتِ " إن كان "أَوْ في الأَرْضِ"، تنبيها ) إلى أنّ تعيين الآتي ليس تعيين تفرقة يكون في جهة  العلو فقط ، بل تعيين جمعي إحاطيّ ، (لينظر الناظر في قوله: "وَهُوَ الله في السَّماواتِ وَ في الأَرْضِ") [ 6 / 3 ] فتجده مطابقا لذلك.
 
الحقّ تعالى عين كلّ معلوم
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فنبّه لقمان بما تكلَّم به ) في تعميم الغذاء الفرضيّ ومقداره العدديّ ومكانه الجمعيّ الإحاطيّ ، وأن الآتي به هو الله ( وبما سكت عنه ) في عدم تعيين المأتيّ إليه ( أنّ الحقّ عين كلّ معلوم ) ، فإنّ المعلوم هو الذي يشمل المراتب المذكورة كلَّها ، من المأتيّ به الفرضي ، بعموم أحواله ، والآتي به بذلك العموم والمأتيّ إليه من غير تعيين ، دون الشيء الذي يساوي الوجود الخارجي الإمكاني على رأي أو يعمّه والثابت منه على آخر أو يرادف الوجود العارض المعلول فإنّه على كل تقدير يختصّ بالإمكانيات ويخرج عنه الامتناعيّات الفرضيّة والواجب .
 
وأما « المعلوم » فيشمل الكلّ (لأنّ المعلوم أعمّ من الشيء ، فهو أنكر النكرات) إطلاقا ، وأشمل المفهومات حيطة وكفى بذلك شهادة على كمال إطلاقه وحيطته ما فيه من التعانق - بين المعرفة والنكرة ، فإنّ المعلوم مع أنّه أبين الأشياء أنكر النكرات .
 
التنزيه مع التشبيه
ثمّ إنّ إثبات هذه المفهومات الإطلاقيّة الواحدة بالوحدة ، النافية للنسب والتعيّنات وصور الإضافات والخصوصيّات جملة للحق ، إنما يدلّ على طرف التنزيه منه فقط ، دون التشبيه المتمّم له .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثمّ تمّم الحكمة ) بإيراد ما يدلّ على التشبيه منه ( واستوفاها ) بكمالها الجمعي من طرفي الظهور والإظهار والشعور الإشعار بقوله : "إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ" (لتكون النشأة) اللقمانيّة عند التعبير عن حكمتها (كاملة فيها فقال : "إِنَّ الله لَطِيفٌ ") لكمال سرايته في المراتب ، صوريّة كانت أو معنويّة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن لطافته ) في الصورة ولطفه المعنوي ( أنّه في الشيء المسمّى كذا ) صورة ( المحدود بكذا ) معنى ( عين ذلك الشيء ، حتى يقال فيه ) أي في ذلك المسمى المحدود ( إلا ما يدلّ عليه اسمه ) إجمالا وتفصيلا إذ المسمّى الصوري إنما يقال فيه ما يدلّ عليه ( بالتواطؤ ) إجمالا ، والمحدود المعنوي إنما يقال فيه ما يدلّ عليه بالتفصيل ، ( والاصطلاح ) ، فإنّ الأسامي والحدود إنما تتخالف بالتواطؤ والاصطلاح ، كما فيما نحن بصدده من الغذاء والمغتذي ، ومكامن الغذاء وأماكنه
( فيقال : هذا سماء وأرض وصخرة و ) يقال : ( شجرة ) وهي ما في الصخرة ( و ) يقال : ( حيوان وملك ) في المغتذي ( و ) يقال : ( رزق وطعام ) في الغذاء .
  
الاتحاد بالعين والاختلاف بالعوارض
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والعين واحدة من كل شيء ) هذا في المسمى بالتواطؤ إجمالا ، وهو الذي يختلف فيه الناس بحسب تباين الأقاليم وألسنتهم ، وذلك لظهوره بما يفرض لوجه التخالف وأما في المحدود بالاصطلاح تفصيلا ، المختلف فيه الناس بحسب تباعد الأزمنة ومقتضياتها ،
فهو المشار إليه بقوله : ( وفيه كما يقول الأشاعرة : إنّ العالم كلَّه متماثل بالجوهر ، فهو جوهر واحد ) بالنوع على زعمها ، ( فهو عين قولنا : « العين واحدة » ) إنما يختلف بمجرّد الاصطلاح .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثمّ قالت: « ويختلف بالأعراض ». وهو قولنا : وتختلف وتتكثر بالصور والنسب حتّى تتميّز) بحسبها ، فتكون موردا للأحكام المتقابلة الموهمة للتفرقة في العين والجوهر ( فيقال : هذا ليس هذا من حيث صورته ) في عرف التحقيق ( أو عرضه ) في عرف التكلَّم ( أو مزاجه ) في عرف الحكمة ( كيف شئت فقل ) فإنّ المؤدّى في الكل واحد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهذا ) الواحد المشخّص بتلك الصور والأعراض ( عين هذا ) الآخر المشخّص بها ( من حيث جوهره ، ولهذا يؤخذ عين الجوهر في حد كل صورة ) كما يقال في تعريفها : « إنّها المتقوّم بالمحلّ » وهو الجوهر . هذا في عرف التحقيق وفي عرف الحكمة يقال لها : المزاج . وإليه أشار بقوله : ( ومزاج ) .
كما يقال : هو الكيفيّة الوحدانيّة الحاصلة من تفاعل الكيفيّات .
والكيفيّة هي عرض غير قابل للقسمة والنسبة ، والعرض هو الموجود في موضوع ، وهو الجوهر وما تعرض للعرض الذي هو عرف المتكلَّم ، اكتفاء بالمزاج، فإنّه عرض كما عرفت.
 
ثمّ إذا تقرّر أنّ الجوهر عين هذه الصور ، المعبّر عنها بوجوه من العبارات المتخالفة حسب اختلاف الاصطلاحات والاعتبارات ،
قال الشيخ رضي الله عنه : (فنقول نحن :"إنّه ليس سوى الحقّ"، ويظنّ المتكلَّم أنّ مسمّى الجوهر وإن كان حقّا) ثابتا عنده ، مطابقا لما هو الواقع في نفسه (ما هو عين الحقّ الذي يطلقه أهل الكشف والتجلَّي) على مشهودهم ، فإنّهم يطلقونه عن الجوهريّة أيضا ( وهذا حكمة كونه لطيفا ) حيث أنّه سرى في المعلوم من كلّ صورة ومعنى بما يتنوّع به ويتشخّص منه ، حتى يعطيه اسمه وحده وهو الذي من آيات أنّه هو هو ، كما بيّن أمره في صناعة الميزان .
هذا ما له من التشبيه والسريان بحسب العين الوجودي .
 
التشبيه في الصفة
وأما العلميّ الشهوديّ منه ، فإليه أشار بقوله : (ثمّ نعت فقال: خبيرا، أي عالما عن اختبار) فإنّ من العلوم الذي يتّصف بها الحقّ هو العلم بالجزئيّات بعد الاختبار ، وعقيب الإظهار المترتّب على الاستتار ، المنساق أمر تمامه إلى الإخبار على ما دلّ عليه النصّ القرآني (وهو قوله : “ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ “) [ 47 / 31 ] ، فإنّ الخبر لغة هو معرفة الأشياء بطريق الخبر والبيان .
وقيل : هو المعرفة ببواطن الأشياء
.
وحيث أنّ الكلام الكامل هو الجامع بين المعنيين بصدقهما عليه فإنّه هو البيان المنبئ عن البواطن كنهها ، بصورتيه الرقميّ واللفظيّ ، وكسوتيه القطعيّ والمزجيّ يكون من امّهات ما يتحصّل به الخبر ، ويتوصّل منه العالم إلى أن يكون خبيرا وبيّن أن مدركه هو السمع ، كما أنّ مدرك غيره من تلك الأمهات هو باقي القوى والجوارح .
وإليه أشار بقوله :
 
علم الأذواق
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهذا هو علم الأذواق ) المستفاد بهذه القوى والجوارح من مبادئها المدركة بها ، ( فجعل الحقّ نفسه - مع علمه بما هو الأمر عليه - مستفيدا علما ، ولا نقدر على إنكار ما نصّ الحقّ عليه في حقّ نفسه ) فإنّه مما يستنكره أهل الظاهر كل الإنكار وفي هذه العبارة لطيفة إجمالا كما فيما سبق ، حيث حكى عن المتكلمين أنّهم مقرّون فعلا بلسان الإنكار .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ففرّق تعالى ما بين علم الذوق ) هذا ( والعلم المطلق ) كما قال : "وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " [ 57 / 3 ] فأطلق . وقال :"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ " فقيّد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (فعلم الذوق مقيّد بالقوى ، وقد قال عن نفسه : أنّه عين قوى عبده في قوله: «كنت سمعه» وهو قوّة من قوى العبد ، «وبصره» وهو قوّة من قوى العبد ) وجزء من أجزاء باطنه ، ( « ولسانه » وهو عضو من أعضاء العبد ) وجزء من أجزاء ظاهره ، ( « ورجله ويده » ) وهما البرزخ بينهما
 
( فما اقتصر في التعريف على القوى فحسب ، حتى ذكر الأعضاء ، وليس العبد بغير لهذه  الأعضاء والقوى فعين مسمّى العبد هو الحقّ ، لا عين العبد هو السيّد )
أي المجموع من تلك القوى والأعضاء التي هي مسمّى العبد ، الذي هو من المفهومات الإضافيّة ، فإنّه إنّما يعقل بالقياس إلى سيّده عين الحقّ الواحد بدون هذه الإضافة ، فإنّ أحد المتضايفين من حيث هو كذلك لا يمكن أن يكون المتضائف الآخر من حيث هو الآخر .
"" أضاف المحقق :
قال القيصري: أي العين الواحدة التي لحقتها العبوديّة وصارت مسماة بالعبد، هو الحق مجردة عن العبودية وليس عين العبد مع صفة العبودية عين السيد مع صفة السيادة.أهـ شرح القيصري.""
 
الوحدة للعين والتميز للنسب
قال رضي الله عنه :  ( فإنّ النسب متميّزة لذواتها ) فإنّها مبدأ تميّزات الأسماء والأعيان ، فهي المتميّزة بذاتها ، المتميّز بها غيره ، وما بالذات من الشيء لا يزول عنه أصلا هذا في نفس النسبة لا في منتسبيها ، فإنّه لا تمايز فيها بالذات ، بل ( وليس المنسوب إليه متميّزا ) في نفسه ، فإنّ الأب عينه هو الابن لآخر .
 
فلو كان المنسوب إليه متميّزا بعينه لم يمكن ذلك وقد علم أنّ العين لا تمايز فيها أصلا ، ولا تمايز إلَّا في النسب التعينية ، ( فإنّه ليس ثمّ سوى عينه في جميع النسب ) المتخالفة ، كالواحد مثلا في العدد ، فإنّ النسب العارضة إيّاه في صور مراتبه وتعيّناته ، هي التي عيّنته بالتعيّنات وسمّته بالأسامي ، لأنّه ليس ثمّ سوى عينه في جميع النسب ( فهو عين واحدة ، ذات نسب وإضافات وصفات ) .
 
وملخّص هذا الكلام : 
أنّ الخبير إنما هو باعتبار العلم المستفاد من قوى العبد ، من حيث أنّ الحقّ عينه ، فهو منتهى التشبيه باعتبار الشعور والشهود ، كما أنّ « اللطيف » منتهاه باعتبار العين والوجود .
(فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهيّين « لطيفا خبيرا » سمّي بهما الله تعالى ) .
 
نكتة حكميّة
ثمّ إنّ هاهنا نكتة حكميّة لها كثير دخل في استكشاف هذا الموضع ، وهي أنّ الصورة مطلقا - حيثما ظهرت - إنما يتمّ أحكامها ويظهر قهرمانها إذا دخل في حيطة خاتمها ، وختم عليها بنقشها الخاصّ به ، أعني خاتم النبوّة - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله - وكذلك المعاني بالنسبة إلى خاتم الولاية .
 
ثمّ إنّ الكلام الظاهر بصورة العينيّة المظهرة للمعاني الغيبيّة - إنما يتكمّل أركانه ويتم أمره إذا وسم بأحد الختمين ، واشتمل بما يدلّ على إحدى الجمعيّتين ، يعني الظهور الوجوديّ العينيّ والإظهار الشهوديّ العلميّ ك « الكون » فإنّه صاحب أزمّة الجمعيّة في الأوّل ، و « القول » فإنّه صاحبها في الثاني .
 
ولذلك ترى فواتح الآيات القرآنيّة وخواتمها مشحونة بهما ومن ثمّة قال : ( فلو جعل ذلك في الكون - وهو الوجود - فقال : « كان » لكان أتم في الحكمة وأبلغ ) .
 
ثمّ إنّه يمكن أن يقال عذرا من لقمان :
إنّه إنما يكون أتمّ إذا لم يكن ذلك منه على طريق التعليم ، فإنّه يجب في أمثال ذلك مراعاة أمر المتعلَّم وسهولة فهمه وعسى أن يكون تكميل الحكمة لا يجمعه وكان قوله في تعليمه ابنه إشارة إلى هذا الوجه ( فحكى الله قول لقمان على المعنى ) فإنّه إنما أدّى ذلك المعنى بصورة يقتضيها زمانه واممه فيه ، من العربي المعرب عن الأمر ، إعراب كشف وتبيين ، فإنّه ما أرسل رسول إلَّا بلسان قومه ، حتى يتمكَّن من أمر البلاغ ويتفصّى من مقتضى حكم الرسالة .
فهذه حكاية مؤدّى كلامه ( كما قال : لم يزد عليه شيئا ، وإن كان قوله ) في القرآن الكريم : ( “  إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ “  [ 31 / 16 ] من قول الله ) فإنّه العربي المبين الذي قبل الخاتم ما كان أن يظهر ( فلما علم الله من لقمان أنّه لو نطق متمّما لتمّم بهذا ) خاليا عمّا يدلّ على تلك الجمعيّة الختميّة .
 
الذرة أصغر المقادير وزنا
( وأما قوله : "إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ ") فهو أدنى ما يصلح لأن يكون غذاء - كمًّا وكيفا ، كما نبّهت عليه - وذلك ( لمن هي له غذاء ) ممن يناسبه قدرا وطبيعة
( وليس إلا الذرّة المذكورة في قوله تعالى : “  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه ُ . وَمن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ُ “  [ 99 / 8 - 7 ] فهي أصغر متغذّ ، والحبّة من الخردل أصغر غذاء ) ، ولما كان الغالب على الكلمة اللقمانيّة أمر الحكمة الكاشفة عن خصوصيّات الأشياء ومقاديرها ، وبيّن أنّ الحدود من كلّ شيء هي مداخل استعلامها وفيها أبواب استكشافها واستفهامها ،
 
وأحد الحدود هو نهاية الكثرة الكليّة وكبرها ، والآخر هو غاية القلَّة الجزئيّة وصغرها ، ثمّ أنّ العبد من حيث أنّه محصور جزئي إنما يقرب إليه الحدّ الثاني منهما : فتبيّن أن الكبير الكثير لا يعلم حتى يتقدّر حدّه بالصغير القليل ، فلذلك عيّن أصغر الأشياء في الغذاء والمغتذي إبانة لطريق معرفة الكلّ من كلّ شيء .
 
وهذا مما يؤيّد ما عليه المحقّقون من أنّ أصل الحقائق وخصوصيّاتها هو العدد وإنما يستعلم تلك الخصوصيّات من الفحص عمّا يختصّ به من الرتبة المقداريّة العدديّة وبيّن أنّه لا يعلم ذلك إلَّا بعد معرفة الأصغر مطلقا ويقدّر الكلّ من كلّ شيء به ، ولذلك جاء بالأصغر .
 
(ولو كان ثمّ أصغر لجاء به ، كما جاء بقوله تعالى : “  إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً “  ثمّ لما علم أنّه ثمّ ما هو أصغر من البعوضة قال : “ فَما فَوْقَها “  يعني في الصغر وهذا قول الله ، والتي في الزلزلة قول الله أيضا )
 حيث عيّن المقدار المعين في الذرّة ( فاعلم ذلك فنحن نعلم أنّ الله تعالى ما اقتصر على وزن الذرّة وثمّ ما هو أصغر منها ، فإنّه جاء بذلك على المبالغة ) هذا على الظاهر من القول وأمّا حقائقه بحسب خصوصيّات الحروف والأعداد فلا يحتمل إظهاره كلّ وقت ، إلى أن يطلع من أفق البيان فضل الكمال الختمي وزيادة علمه على مقتضى الوعد الموعود
وإليه أشار بقوله : ( والله أعلم ) .
ثمّ إنّ أمر التلطيف والتصغير الذين يستتبعان حكم السريان قد غلب على هذه الحكمة ، حتى ظهر في المرتبة الكلامية عند الخطاب إلى ابنه ( و ) إليه
 
أشار بقوله : ( أمّا تصغير اسم ابنه فتصغير رحمة ) وعطوفة ولطف ، ( ولهذا وصّاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك ) .
 
الشرك ظلم عظيم
( وأمّا حكمة وصيّته في نهيه إيّاه أن « لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ » ) وبيّن أنّ الظلم إنما يتحقّق بين ظالم ومظلوم ، والظالم هاهنا المشرك ( والمظلوم المقام ) الذي يقع فيه الشرك ( حيث نعته بالانقسام ) والثنويّة ، وهو وضع الشيء في غير موضعه ، فإنّ العين الواحدة لا انقسام فيها ، ( و ) ذلك المقام ( هو عين واحدة ) فإنّ لكل ذي اعتقاد مقاما محمودا عنده ، ومنزلة كريمة محتوية على جملة من الصفات الكماليّة ومحامدها ، يتصوّر بها الإله في عقيدته ، ويتميّز بها عند متخيّلته .


ثمّ إذا رأى ذلك المقام أنّه يقبل الانقسام والثنويّة بالنظر إلى من يقوم به ذلك المقام في خياله ، والصورة المشخّص بها فيه ، لا بدّ وأن يتوهم لذهوله عن العين الواحدة بالذات - أنّ الثنويّة الصوريّة فيها ، فإنّه لا شيء أعلى من ذلك المقام عنده ، فيشرك بتلك الصورة الثانية ، 
لما تصوّرها في ذلك المقام ، ولا شرك عند التحقيق ، ( فإنّه لا يشرك معه إلا عينه ) الواحدة بالذات التي لا تتخالف بتوارد الصور ، 
ولا تتكثر بتعدّد الوجوه والنسب ، فحيث تصوّر فيها النسبة المكثّرة لها صار صاحب جهل ، 
فإنّه ما فرّق بين الواحد والكثير وحيث توهّم أنّ تلك الكثرة والتفرقة كثرة مقابل مشارك في مقام معاند له فيه ، بلغ غايته ،
ولذلك قال : ( وهذا غايته الجهل ) وهو الظلم العظيم .



اعتقاد الشرك ناشئ من الجهل
( وسبب ذلك ) الوصيّة والحكمة ( أنّ الشخص الذي لا معرفة له بالأمر على ما هو عليه )  يعني الصور المتخالفة جنسا ونوعا وشخصا  ( ولا بحقيقة الشيء ) الواحدة بالوحدة الحقيقيّة ( إذا اختلفت عليه الصور ) التعيّنية ( في العين الواحدة ، وهو لا يعرف أنّ ذلك الاختلاف في عين واحدة يجعل الصورة مشاركة للأخرى في ذلك المقام ) المحمود والمنزلة المعبودة لديه
( فجعل لكل صورة جزءا من ذلك المقام ) فتكون الصورة متشاركة في أمر المحموديّة والمعبوديّة وبيّن أنّ الشركة إمّا بالتجزية والتقسيم ، بأن يكون لكل من المتشاركين حصة من المتشارك فيه ، أو بالإشاعة والبدل ، بأن يكون المتشارك فيه مشاعا لهما ، وهما يحكمان فيه على سبيل البدل ولا سبيل إلى شيء منهما عند التحقيق .

 
أمّا الأوّل : فلأنّه مبيّن ( ومعلوم في الشريك ) بذلك المعنى ( أنّ الأمر الذي يخصّه مما وقعت فيه المشاركة ) كالجزء المفروض بالنسبة إلى المقام ( ليس ) ذلك الأمر الذي يخصّ أحد الشريكين ( عين الآخر الذي شاركه ) من الجزء الباقي ، ( إذ هو للآخر ) من الشريكين وخصائصه فإنّ لكل من الشريكين خصائص متمايزة على هذا التقدير ( فاذن ما ثمّ شريك على الحقيقة ، فإنّ كل واحد على حظَّه مما قيل فيه أنّ بينهما مشاركة ) .
وأمّا الثاني فلأنّ مبناه على تحقّق الإشاعة ( وسبب ذلك ) الوهم ( الشركة المشاعة )  

المتوهّمة لديهم ، وذلك غير متحقّق ( فإن كانت ) الشركة ( مشاعة ) فالإشاعة غير زائلة ولا باطلة ، ولكن التالي باطل ( فانّ التصريف من أحدهما ) دون تعيين أبدا ( يزيل الإشاعة ) .
ومرجع هذا أيضا إلى ما مرّ من أنّ تخالف الصورتين من المتعينتين لا يقدح في وحدة العين ، فإنّ العين فيهما واحدة .

وفي قوله تعالى : ("قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ") إشارة إلى تينك الصورتين ، كما أنّ قوله : "أَيًّا ما تَدْعُوا " إشارة إلى تلك العين الواحدة الجامعة بينهما ، ولذلك كنّى عنه بالهويّة الجامعة للأسماء الحسنى كلها بقوله : "فَلَه ُ الأَسْماءُ الْحُسْنى ".
والذي يلوّح على هذا أنّ “  أَيًّا ما “ لفظا هو باطن الاسمين ، وبيّناتهما بحذف المكرّر .

ثمّ إنّ أمر مسألة الشركة حسبما حقّق أمره إنما يؤول إلى الشركة المشاعة وبيّن أنّ الأمر في المقام المحمود منحصر فيما يعتقده أرباب العقائد التقليديّة ، من الصور العقليّة أو الخياليّة المتبطَّنة .

وفيما يظهر لدى المشاعر الحسّية من الصور العينيّة الخارجيّة التي هي ظاهر الوجود والرحمة.
و « الله » إشارة إلى صورة جمعيّة الأوّل من المقامين ، كما أنّ " الرحمن" إشارة إلى الثاني منهما .

والذي يلوّح على هذا أنّ الخمسة التي هي مظهر وجود الحقّ فيهما على ما قال :
أقول  وروح القدس ينفث في نفسي بأنّ وجود الحق في العدد الخمس وهو الحرف الآخر فيهما قد ظهر في " الرحمن " زوجا بالأزواج فإنّ ما في طيّه من الحروف كلَّها أزواج .
وقد ظهر في الله فردا بالأفراد .
ولذلك قال : ( هذا روح المسألة ) إذ بتلك الآية يتقوّم أمر استكشاف الشركة على ما لا يخفى للفطن ، بعد تطلَّعه لما مهّدنا له فيها .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 24 - فصّ حكمة إماميّة في كلمة هارونيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس مارس 12, 2020 2:39 am

24 - فصّ حكمة إماميّة في كلمة هارونيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص الهاروني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
24 - فصّ حكمة إماميّة في كلمة هارونيّة
تسمية الفصّ
ووجه اختصاص هذه الكلمة بحكمتها هو أنّ هارون قد غلب عليه الرحمة المشتقة منها الرحم ، على ما ورد في الحديث أنّه : « لما خلق الرحم ، قال : أنا الرحمن وأنت الرحم ، شققت اسمك من اسمي ، فمن وصلك وصلته ومن قطعك بتتّه » . رواه أحمد و أبو داود
 
الإمام والإمامة
ومن ثمّة ظهر عليه عند الإنباء عن محمّد نشأته نسبة الأمومة ، حيث قال : “  يَا بْنَ أُمَّ “ [20 : 94 ].
والإمام عبارة عن « الامّ » بتكرار الإضافة اللازمة لمثله ، ولذلك صار مع نبوّته وخلافته عن الحقّ خليفة أخيه ، فله الخلافة الكاملة ، والإمامة هي كمال الخلافة ، فإنّها تستتبع إطاعة الأمم خالصة عن القهر والغلبة والظهور بالسيف والسفاك .
ولذلك قال تعالى لخليله : “  إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً “  [ البقرة : 124 ]  .
فالإمامة عند التحقيق هي النسبة الجمعيّة الوجوديّة الحبّية ، الموجبة لانقياد الأمم طوعا ورغبة.
 
ومما يلوّحك على هذا أنّ لفظ « الإمام » عبارة عن باطن لام الجمع وبيّناته مكرّرا ، كما أنّ الكلمة « الهارونيّة » عبارة عن الهاء التنبيهيّة الدالَّة على الحاضر ظاهرة بالنور وقلبه الذي هو ظاهر الوجود المنبسط على الكائنات ، المعبّر عنه بالرحمة ،
وذلك إذا اعتبر انبساطها على الجهات من الكائنات يعبّر عنها بالرحموت .
 
كان هارون من حضرة الرحموت
ولذلك قال رضي الله عنه  : ( اعلم أنّ وجود هارون كان من حضرة الرحموت ، بقوله “  وَوَهَبْنا لَه ُ من رَحْمَتِنا “ يعني موسى “ أَخاه ُ هارُونَ نَبِيًّا “  [ مريم : 53 ] وكانت نبوّته من حضرة الرحموت ) ، فإنّ النبوّة صورة كمال الوجود وغاية تطوّراته الإظهارية فإذا كان وجود هارون من حضرة الرحموت ، يكون ما يتفرّع عليه منها ، ضرورة وإذ كان الغالب على موسى أمر الغلبة القهريّة والغضب التسلَّطي ، وكان الغالب على هارون الرقّة والشفقة مما هو مقتضى الرحمة التي عليها جبلَّته ، سأل الله تعالى بقوله : “  وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً من أَهْلِي . هارُونَ أَخِي . اشْدُدْ به أَزْرِي . وَأَشْرِكْه ُ في أَمْرِي “  [ طه / 31 - 29 ] ،
ليعتدل مزاج صورته النبويّة ، ويناسب به لأمزجة العامّة ، تيسيرا بما هو بصدده من البلاغة والرسالة .
وإنما قال : “  اشْدُدْ به أَزْرِي . وَأَشْرِكْه ُ في أَمْرِي “ [طه : 31-32] ، ( فإنّه أكبر من موسى سنّا ، وكان موسى أكبر منه نبوّة ) .
 
ظهور آثار الرحمة من هارون
(ولما كانت نبوّة هارون من حضرة الرحموت لذلك قال لأخيه موسى :“  ابْنَ أُمَّ “ فناداه بامّه ) عندما يريد الإبانة عن مجمع تفرقتهما ، ( لا بأبيه ) على أنّ أمر الجمعيّة بينهما في الأب أحكم امتزاجا واقترانا ، ( إذ كانت الرحمة للامّ - لا للأب - أوفر في الحكم ) وظهور الأثر المترتّب عليها من الرقّة والعطوفة ،
قال رضي الله عنه  : ( ولولا تلك الرحمة ) الوافرة الحكم ، الظاهرة الأثر منها ( ما صبرت على مباشرة التربية ) والتزام مقاساتها ، مع قصور القوّة فيها وضعف مزاجها بالنسبة إلى الأب .


قال رضي الله عنه  : ( ثمّ قال ) عندما رأي موسى تفرقة امّته في أيّام خلافة هارون وغيبته  عنهم فتحرّك منه الغضب وغلب عليه : (" لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ")[ طه : 94 ]  .
 
فإنّهما منشأ التفرقة من الشخص وبيّن أنّ ترشيح أمر التفرقة وتنفيذ أحكامها من مقتضى الرحمة ، والمؤاخذة على ما هو مقتضى أصل الطبيعة مما يشمت به أعداءه من المخالفين له في تلك الاقتضاء ، فلذلك قال : (و" فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْداءَ " ) [ الأعراف : 150] .
 
غضب موسى وما كتب في الألواح
قال رضي الله عنه  : ( فهذا كلَّه نفس من أنفاس الرحمة ، وسبب ذلك ) الغضب وظهوره عليه ( عدم التثبّت في النظر فيما كان في يديه ) من مبدأي قوّته وفعله ( من الألواح ) التفصيلية الثابتة فيها كل شيء ، ( التي ألقاها من يديه ) عند ثوران الغضب وشدّة حدّته ( فلو نظر فيها نظر تثبّت لوجد فيها الهدى والرحمة. )
قال رضي الله عنه  : مما عليه موسى وأخوه فلذلك لما سكت عنه الغضب أخذ الألواح فما وقعت عينه مما كتب فيها إلا على الهدى والرحمة ، فقال : " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنا في رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ."
قال رضي الله عنه  : ( فالهدى بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه ، مما هو هارون بريء منه والرحمة بأخيه ، وكان لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه مع كبره ) وشيخوخته ( وأنّه أسنّ منه وكان ذلك ) القول ، أو ظهور ما ظهر في بني إسرائيل ( من هارون شفقة على موسى ) حيث ما ظهر من ذلك القول منه مع إهانته إيّاه ما يدلّ على تغيّره وتأثّره منها ، استنكافا وغيرة نفسانيّة ،
 
قال رضي الله عنه  : ( لأنّ نبوّة هارون من رحمة الله ، فلا يصدر منه إلا مثل هذا ) فإنّ التفرقة الظاهرة في امّته عند خلافة هارون من أثر تلك الرحمة والرقّة .
 
عذر هارون
قال رضي الله عنه  : ( ثمّ قال هارون لموسى " إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ "  فتجعلني سببا في تفريقهم ، فإنّ عبادة العجل فرّقت بينهم ، فكان منهم من عبده اتّباعا للسامري وتقليدا له ، ومنهم من توقّف عن عبادته حتّى يرجع موسى إليهم ، فيسألونه في ذلك ) .
تفريق أمم كلّ زمان عند تصوير سامر الخيال لهم عجل العاجل من التجوّهات والتموّلات ، فإنّه قد استحصل من حليّ القوم ، ( فخشي هارون ) الذي هويّته النور ، الذي هو ظاهر الوجود والرحمة ( أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه ) نفسه ، لا إلى الرحمة التي هي أصل جبلَّته .
 
"" أضاف المحقق :
قال القيصري: « واعلم أن هذا الكلام وإن كان حقا من حيث الولاية والباطن ، لكن لا يصح من حيث النبوة والظاهر ؛ فإن النبي يجب عليه إنكار العبادة للأرباب الجزئية ، كما يجب عليه إرشاد الأمة إلى الحق المطلق ، لذلك أنكر جميع الأنبياء عبادة الأصنام وإن كانت مظاهر للهوية الإلهية ، فإنكار هارون عبادة العجل من حيث كونه نبيا حق ، إلا أن تكون محمولا على أن موسي عليه السلام علم بالكشف أنه ذهل عن شهوده الحق الظاهر في صورة العجل ، فأراد أن ينبهه على ذلك وهو عين التربية والإرشاد منه ". أهـ ""
 
قال رضي الله عنه  : ( وكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل ) وأنّ التفرقة التي نشأت من عبادته لا يقدح في الجمعيّة الإلهيّة ( لعلمه بأنّ الله قد قضى أن لا يعبد إلا إيّاه ، وما حكم الله بشيء إلَّا وقع فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتّساعه ) ، لضيق مشربه عن أن يقبل تلك التفرقة الكونيّة عين الجمعيّة الوجوديّة الإلهيّة وعدم ظرافته لها .
 
العارف يرى الحقّ في كلّ شيء
وهذا مما لا بدّ للعارف منه ( فإنّ العارف من يرى الحقّ في كلّ شيء ) وذلك لمن لا يتميّز في ذوقه ظاهر الوجود عن مظهره ، تميّز الظل عن النور ، قائلا بالمتقابلين وإذ كان موسى قد خلع نعلي المتقابلين عند طيّه طوى التوحيد ، لا تميّز عنده أصلا ، كما قال صاحب هذا المقام فيه :
لا ترم في شمسها ظلّ السوي  .... فهي شمس وهي ظل وهي فيء
وإليه أشار بقوله : ( بل يراه عين كل شيء ) .
 
موسى وهارون
قال رضي الله عنه  : ( وكان موسى ) عند إهانته وتشدّده مما يوهم غلبة الغضب النفساني ( يربّي هارون تربية علم ) لا مرتبة ومنصب ، فإنّ موسى لغلبة أحكام الباطن على كلمته أعلم من هارون لغلبة حكم الظاهر عليه .
أمّا الأول فيعلم من التلويح العقدي .
وأما الثاني فلما عرفت ما في اسم هارون من الدلالة على الظاهر فلموسى أن يربّي هارون تربية علم ( وإن كان أصغر منه سنّا ، ولذلك لما قال له هارون ما قال ) من خشيته أن ينسب التفرقة إليه معتذرا به - قبل منه .
  
موسى والسامري
و ( رجع إلى السامري فقال له : " فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ " )  والخطب لغة هو الأمر العظيم ، الذي يكثر فيه التخاطب وفيه لطيفة منبّهة على ما يستتبع فعله من الخبط - ( يعني فيما صنعت من عدو لك ) عن معنى أحديّة الجمع بعمومه ( إلى صورة العجل على الاختصاص وصنعك هذا الشبح ) المبهج للناظر في صورة عجل العاجل من الأحوال ( من حليّ القوم ) ومزيّنات ظواهرهم وحاليّاتهم المتحوّلة السريعة الزوال ، ( حتى أخذت بقلوبهم ) .
 
عبادة المال
فإنّ البواطن لها ارتباط وثيق واتّصال قريب بالظاهر ولذلك ترى قلوب بني إسرائيل قد انجذبت إلى هذا العجل ، ( من أجل أموالهم ) التي يميل إليها قلوبهم بقوّة ذلك الارتباط ( فإن عيسى يقول لبني إسرائيل : يا بني إسرائيل قلب كل انسان حيث ماله ) - مما يميل إليه بحسب نسبته ، سواء كان من ظاهر الأمور ، كالمال العرفي وما يستحصل به ، أو باطنه كالعلوم والأحوال القلبيّة ومقاماتها - ( فاجعلوا أموالكم في السماء ) وطرف العلو ، كالعلوم الحقيقيّة والأحوال القلبيّة ، ( تكن قلوبكم في السماء ) .
 
قال رضي الله عنه  : ( وما سمّي المال ) العرفي ( مالا إلَّا لكونه تميل القلوب إليه بالعبادة ،
فهو المقصود الأعظم ) ، حيث جعل صاحبه نفسه التي هي أعظم شيء عنده عبده ، وهو أعظم من نفسه النفيسة بجعله معبودها ومقصودها وهو ( المعظَّم في ) سائر ( القلوب ، لما فيها من الافتقار إليها ) في نيل المستلذّات واستحصال الأقوات .
 
 تلويحات في حرف اللام
ثمّ إن هاهنا تلويحا يكشف عن جملة من الحقائق ، وهو أنّ "ألم " الذي هو المعرب عن الكتاب - كما عرفت وجه جمعيّته وبيانه - له صورة واحدة بالشخص بين الحروف ، وهو اللام الذي إذا ظهر به كاف كنه الكل يصير "كلاما " يعرب عن كافّة الأشياء - صوريّة كانت أو معنويّة - ويظهر الجميع بما لا مزيد عليه فيه ، فهو مالك أزمّة الإظهار هذا إذا ظهر شخص اللام ببيّناته مختفيا فيها ، فإذا ظهر شخصه بها يصير « مالا » يستحصل به الأشياء أنفسها ، فإذا ظهر به الكاف يصير « كمالا » به يزيد الأمر ظهورا وإظهارا .
 
وإذا ظهر بالكاف يصير « مالكا » يغلب على الكلّ ، غلبة تصرّف يظهر له سلطانه ومنه يعرف وجه انجذاب القلوب بالمال ، كما يعرف وجه أنّ الكمال عزيز محبوب لذاته ، وأن المالك كذلك له العزّة والمحبّة ولكن قهرا وبالواسطة .
فتأمّل فيه يظهر لك غير ذلك من الوجوه الحقيقيّة .
 
حرق العجل ونسفه
قال رضي الله عنه  : ( وليس للصور بقاء ) كما تقرّر سابقا ، وقد ظهر ذلك حتى عثر عليه بعض أهل النظر من المتكلمين ، كما أشار إليه ، ( و ) حينئذ ( لا بدّ من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه فغلبت عليه الغيرة ) حيث أنّ تلك الصورة بالنسبة إلى جمعيّته الكماليّة جزء محاط تحت حيطة كماله الإنساني ، ( فحرّقه ثمّ نسف رماد تلك الصورة في اليمّ ) - يعني محيط الإطلاقي الجمعي - ( نسفا ) اقتلع به أثره يقال : نسف الريح الشيء : اقتلعته وأزالته .
 
وفي الآية : " ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّه ُ في الْيَمِّ نَسْفاً " [طه : 97]، أي نطرحه فيه طرح النسافة ، وهي ما يثور من غبار الأرض .
( و ) لذلك لما غرق في محيط الجمع الإطلاقي ( قال له : "انْظُرْ إِلى إِلهِكَ "  [ طه / 97 ] فسماه « إلها » بطريق التنبيه للتعليم ) ، لا التهكَّم للتعيير ، كما هو مبلغ أفهام العامة .
 
وفيه تلويح : حيث أنّ العجل من الحلي الذي هو المال ، وهو اللام الظاهر ببيّناته ، فطرح ذلك في اليمّ بعد حرقه وتفتّت أجزائه ، وهو باطن ميم الجمع الإطلاقي وبيّناته .
ثمّ إنّ ذلك لأنّه ( لما علم أنّه ) يعني العجل الذي جعلوه معبودا ، من ( بعض المجالي الإلهيّة ) وأجزاء المجلى الكليّ الإنسانيّ .
 
فلذلك قال الشيخ رضي الله عنه : ( لأحرقنّه فإنّ حيوانيّة الإنسان ) بقوّة قهرمان الجمعيّة وسلطانها ( لها التصرّف في حيوانيّة الحيوان ) فمن حيث الجمعيّة الإلهيّة ينقاد الكل لتصرّفه ، وإليه أشار بقوله : ( لكون الله سخّرها للإنسان ) .
 
التسخير والمسخّر
هذا على تقدير دخوله في الجمعيّة الحيوانيّة ( لا سيّما و ) العجل المجعول ( أصله ليس من حيوان ، فكان أعظم في التسخير ) لكونه أنزل وأقلّ جمعية منه ( لأنّ غير الحيوان ما له إرادة ) تكون مبدأ لأفعاله الخاصّة الاختياريّة ، ( بل هو بحكم من يتصرّف فيه من غير إباء ) لأنّ قابليّته غير مشوبة بغرض خاصّ واختيار يتوجّه إليه ، ( وأما الحيوان فهو ذو إرادة وغرض ) تحرّكه تلك الإرادة نحو ذلك الغرض ،
قال رضي الله عنه  : ( فقد يقع منه الإباء ) إذا لم يوافق جهة غرضه جهة يوجّه المتصرّف فيه نحوها ( في بعض ) أنحاء ( التصريف ، فإنّ كان فيه قوّة إظهار ذلك ) في مقابلته ( ظهر منه الجموح لما يريده منه ) ذلك ( الإنسان ) المتصرّف ، ( وإن لم يكن له هذه القوّة ) التي بها يقدر على المقابلة ( أو يصادف ) غرض الإنسان المتصرّف ( غرض الحيوان ) في بعض أنحاء الطرق ( انقاد مذلَّلا لما يريده منه ) المتصرّف ، لأنّه واقع في طريق غرضه ( كما ينقاد ) الإنسان ( مثله لأمر ما رفعه الله به عليه ) ، فذلك الانقياد ليس طبيعيّا ، بل لما رفعه الله به ( من أجل المال الذي يرجوه منه ، المعبّر عنه في بعض الأحوال ) - عند استجماع ما اعتبر من الشروط الشرعي - ( بالأجرة ) .
 
وقد نصّ على ذلك ( في قوله : ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضا سخريا ) ، والسخريّ هو الذي يقهر أن يتسخّر بإرادته .
" قوله تعالى : ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) سورة الزخرف )"
 
وإذ قد ظهر أنّ المال الذي به التسخير إنما هو لنيل مقتضيات القوى الطبيعية واللذّات الجسمانيّة مما يختص به الحيوان - دون الإدراكات الكماليّة الإنسانيّة ، فإنّه هو العائق لتلك الإدراكات أن تبلغ كمالها ، فضلا عن أن تكون معدّا لنيلها - ( فما يسخّر له من هو مثله ) في الإنسانيّة ( إلا من حيوانيّته ، لا من إنسانيّته ، فإنّ المثلين ضدّان ) ، هذا في المسخّر المشترك الذي يتوجّه نحو اللذات الجسمانيّة السافلة .
 
وأما المسخّر المتعالي الذي يتوجّه نحو معالي الأمور ، فهو مقتضى الكمال الإنساني ، فإنّه يحب العلو ويقتضيه بحسب نشأته الذاتية ، ( فيسخّره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيّته ) المجبولة على أن يتسخّر له من في السماوات ومن في الأرض جميعا ،
ولذلك ذهب الشيخ إلى أنّ معنى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : "آخر ما يخرج من رؤوس الصدّيقين حبّ الجاه " يطلع منها ويبرز ، فإنّه مقتضى أصل جبلَّته .
 
ومن ثمة ترى الدهاة من أئمّة المسلمين في صدر الإسلام قد ارتكب في نيل الرفعة والعلوّ كل صعب وذلول ، واستوقف كل مقدام منهم نفسه في تلك المهالك قائلا : مكانك ، تحمدي، أو تستريحي فجعل القتل في مقابلة نيل ذلك المبتغى فوزا واستراحة .
 
 قال رضي الله عنه  : ( ويتسخّر له ذلك الآخر ، إمّا خوفا أو طمعا ) من مبدأ الغضب والشهوة الحيوانيّتين فهو أيضا : ( من حيوانيّته لا من إنسانيّته ، فما تسخّر له من هو مثله ) من حيث هو مثله .
 
قال رضي الله عنه  : ( ألا ترى ما بين البهائم من التحريش ) ، وهو العداوة التي بينها ، كما هو المشاهد من الكلاب والثيران ، وكل ذي قوّة منها مع بني نوعه ، دون غيره مما سواه ، ( لأنها أمثال فالمثلان ضدان ) لما تقرّر أنّ ما به الاشتراك هو محلّ التنازع ، فكلَّما كان أكثر ، كان التنازع أشدّ ، كما بين أهل ضيعة وصناعة وقرابة .
 
وفيه تلويح حكميّ جمعيّ ، حيث أنّ الجامع هو الفارق ، فلا تغفل عنه.
ولذلك ( قال : " وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ " ) فإنّ المسخّر
 
ليس مع المسخّر له في درجة ، وإن كان معه في الحدّ والزمان والمكان والفعل ( فما هو معه في درجته ) ، فتلك الأمور الجامعة مع أنّها أوصاف حقيقيّة ونسب ذاتيّة ما أثرت تأثير نسبة الدرجة التي هي اعتبارية محضة .
وفيه أيضا نكتة جمعيّة ، حيث أنّ الأثر إنما هو الأعدام وما يقربها .
( فوقع التسخير من أجل الدرجات ) .
 
التسخير على قسمين
قال رضي الله عنه  : (والتسخير على قسمين : تسخير مراد للمسخّر - اسم فاعل - قاهر في تسخيره لهذا الشخص المسخّر ) على سبيل القصد والاختيار فمبدأ ذلك التسخير منه إمّا أن يكون المال ، ( كتسخير السيّد لعبده ، وإن كان مثله في الإنسانيّة ، و ) ، إمّا أن يكون الجاه ( كتسخير السلطان لرعاياه ، وإن كانوا أمثالا له يسخّرهم بالدرجة ) نفسها .
 
قال رضي الله عنه  : ( والقسم الآخر ) أي الذي ليس مرادا للمسخّر - اسم الفاعل – ( تسخير بالحال ) ، من غير قصد منه واختيار ، ( كتسخير الرعايا للملك القائم بأمرهم في الذبّ عنهم وحمايتهم وقتال من عاداهم وحفظه أموالهم وأنفسهم عليهم وهذا كلَّه تسخير بالحال من الرعايا يسخّرون بذلك ملوكهم ).
ثمّ إن مبدأ هذا التسخير عند الفحص عنه إنما هو مرتبة السلطنة ، فإنّها هي التي تقهر السلطان على ارتكاب ما التزم من المشاقّ ، لا الرعايا ولذلك
 
قال رضي الله عنه  : : ( ويسمّى على الحقيقة تسخير المرتبة ، فالمرتبة حكمت عليه بذلك ، فمن الملوك من سعى لنفسه ) ذاهلا عمّا حكم عليه المرتبة من تسخيره لرعاياه ( ومنهم من عرف الأمر فعلم أنّه في المرتبة ) مقهور تحت حكمها ( في تسخير رعاياه ، فعلم قدرهم وحقّهم ، فآجره الله على ذلك ، أجر العلماء بالأمر ) أي الظاهر من الأمور كالأفعال وأحكامها ، على ما نبّهت عليه في صدر الكتاب ، عند تحقيق معنى الأمر ، فإنّهم إذا علموا الأمر ( على ما هو عليه ) لا بدّ وأن يحكم عليهم تلك المرتبة بإظهار تلك الأحكام وإثباتها وتفهيمها للعامّة ، حتى يتلقّوها بالقبول ( وأجر مثل هذا يكون على الله في كون الله في شؤون عباده ) كالسلطان في شؤون رعاياه .
 
قال رضي الله عنه  : ( فالعالم كلَّه يسخّر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه اسم إنّه مسخّر ) ، بناء على الأصل الممهّد من أنّ أسماء الحقّ ما يدلّ على التأثير مما يتبع أحكام الوجوب الذاتي ، إلا أنّه لما كان باعتبار هويّته الإطلاقيّة ربّا للعالمين كان
 
مسخّرا بالحال للعالم تعالى عن ذلك . ولذلك قال : ( قال تعالى : " كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ "  ) [ 55 / 29 ] ، وما قال : « الله في شأن » ، ولا غيره من الأسماء المختصّة به .
 
حكمة عدم تنفيذ هارون ما أنفذه موسى في العجل
ثمّ إنّ موسى له تسخير سلطنة النبوّة على بني إسرائيل ، كما أنّه هو المسخّر بالحال تحت قيامه بأمرهم وحفظه صورة جمعيّتهم . ولذلك لما رجع وفرغ من إنفاذ حكم ذلك التسخير ، أخذ في إنفاذ حكم التسخّر بالتشدّد على خليفته هارون وحرق العجل ، وقلع آثاره في العين .
على ما وقع في خلافة هارون ما كان منكرا في نظر كمال موسى كلّ الإنكار ، بل كان معذورا فيه كما سبق .
 
قال رضي الله عنه  : ( فكان عدم قوّة إرداع هارون بالفعل أن ينفّذ ) ذلك الإرداع ( في أصحاب العجل بالتسليط على العجل ) وإفنائه ( كما سلَّط موسى عليه ، حكمة من الله ظاهرة في الوجود ) - وأنت عرفت ما لهارون من النسبة الارتباطيّة والرقيقة الاتحاديّة إلى ظاهر الوجود حتى تصوّر في أيام خلافته صورة المعبود في العجل العاجل
 
قال رضي الله عنه  : ( ليعبد في كلّ صورة ، وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك ) عند إنفاذ حكم موسى عليها ، ولكن بعد أن عبدوه ، ( فما ذهبت إلا بعد ما تلبّست عند عابدها بالالوهيّة )
 
هو المعبود في كلّ صورة
قال رضي الله عنه  : ( ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلَّا وعبد . إمّا عبادة تألَّه ، وإمّا عبادة تسخير ) وبيّن أن ظهور الأعيان بأنواعها إنما هو لإظهار أحكامها وإنفاذ قهرمانها ، وذلك بأن يكون معبودا لهذا النوع الكمالي ، مطاعا أحكامها بالنسبة إليه ، ولو في شخص واحد منهم ( فلا بد من ذلك لمن عقل ) أنّ الغاية من الحركة الوجوديّة لا بدّ وأن يترتب على أعيان الوجود ،
 
قال رضي الله عنه  : ( وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبّس بالرفعة عند العابد ) في الخارج ، ( والظهور بالدرجة ) الكماليّة العزيزة ( في قلبه ، ولذلك تسمّى الحقّ ) نفسه ( لنا بـ " رَفِيعُ الدَّرَجاتِ “  [ 40 / 15 ] ، ولم يقل : « رفيع الدرجة » فكثّر الدرجات في عين واحدة ) بالوحدة الحقيقيّة ، التي لا وجه للتكثّر فيها أصلا ، لما في المعبودين من التخالف في وجوه عبودتهم ، وذلك هو المستلزم لتباعد جهات العباد في قبلة عبادتهم ووجهة طاعتهم .
 
وكل ذلك حق " وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها "  ( فإنّه قضى أن لا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهيّا عبد فيها ) وتلك المجالي متفاوتة بحسب العلوّ والإحاطة تسخيرا وتألَّها . "قال تعالى :وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[ الإسراء : 23 ]"
 
أعظم مجلى عبد الحقّ فيه الهوى
( وأعظم مجلى عبد فيه ) تسخيرا ( وأعلاه ) تألها ( الهوى ، كما قال :"أَفَرَأَيْتَ من اتَّخَذَ إِلهَه ُ هَواه ُ "  ) [ 45 / 23 ] ، حيث أطلق عليه اسم « الإله » ،
( فهو أعظم معبود ، فإنّه لا يعبد شيء إلَّا به ، ولا يعبد هو إلَّا بذاته ) ، وذلك لأنّ الهوى عبارة عن الميل الطبيعي نحو مستلذّات الطبيعة ،
 
من استيفاء حكم الشهوة والغضب وما يندرج فيهما ، مما يترتّب ذلك عليه ، كحبّ المال والجاه وغيرهما وبيّن أنّ كل من يعبد شيئا ويخضعه ويطيعه إنما يعمل ذلك لتصوّر توقّف شيء من ذلك عليه وطمعه منه فذلك الميل هو الباعث على تلك العبادات في صورها المتخالفة ، بحسب تخالف المعبودين ،
 
فالمعبود لا يعبد إلَّا به ، وهو المعبود لذاته في صور عبادات العابدين ، طمعا في الجنّة ، أو خوفا من النار آجلا وعاجلا ، في استحصال الجاه والمال ، وارتكاب ما به يوجدان من الأعمال الشاقّة والأفعال المزعجة مدى الأعوام والدهور بدون تعب ولا نصب .
 
وهاهنا تلويح : وهو أنّ « هو » الذي هو موطن الإطلاق ومعدن القابليّات التي تنجذب نحو مقتضياتها القلوب بقوالبها ، إذا فتح هاء هويّته المضمومة بإشباع واو البطون ، ظاهرا بألف الإلف والمحبّة ، غالبا عليه بفتحة فتح أبواب الظهور هو « هوا » ومن ثمة تراه في أحد أوضاعه دالَّا على مبدأ تمام الجمعيّة الإحاطيّة ظهورا وإظهارا .
 
أمّا الأوّل : فلأنّ الهواء - الممدود - هو مادة الروح الحيواني ، الذي به تتقوّم اللطيفة الإنسانيّة الكماليّة .
وأما الثاني : فلأنّه هو المطيّة لفرسان ميدان البيان ، والمجلى لعرائس مخدّرات البنان ، وهما صورتا الكلام الكلامي ، والكتاب الإنزاليّ ، كما نبّهت عليه غير مرّة .
هذا على وضع آخر غير ما نحن فيه ، وعلى هذا الوضع أيضا له الإحاطة باعتبار أنّه الحركة والميل الإرادي الحبّي الذي هو أصل سائر الحركات والسبب للكل عينا وعقلا ،
 
ولذلك قال : ( وفيه أقول ) نظما محلَّفا به باعتبار أنّه هو اسم « هو » الظاهر بفتح هويّات أعيانه بقوله :( وحقّ الهوى أنّ الهوى سبب الهوى ) يعني بحقّ الاقتضاء الذاتي ، المعبّر عنه في بعض العبارات بالعشق ، وهو الذي عبّر عنه بالهوى ، إنّ الهوى الذي هو الميل الطبيعي المعبّر عنه بالحركة الحبّية السارية في سائر الموجودات هو سبب هذا الميل الجزئي الإرادي ، الذي للناس ، به يتوجهون نحو معبودهم ، ويولَّون قبلة مقصودهم ، فهو أصل سائر الميول والحركات ظاهرا وباطنا . بل أصل الكلّ ميلا كان أو صاحبه ،
 
ولذلك قال :( ولولا الهوى في القلب ) أي الميل الكلَّي والحركة الوجوديّة الأصلية ( ما عبد الهوى ) بالحركات الجزئيّة الكونيّة فالمعبود في الكلّ إنما هو الحق ، وكذلك العابد على ما هو المعلوم من الآية الكريمة القائلة : " وَأَضَلَّه ُ الله عَلى عِلْمٍ "  [ 45 / 23 ] .
وإليه أشار بقوله : ( ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله ، كيف تمم في حقّ من عبد هواه واتخذه إلها ) حيث ما أخرجه في تلك الضلالة عن أن يكون عن علم
 
( فقال :" وَأَضَلَّه ُ الله عَلى عِلْمٍ "  [ 45 / 23 ] والضلالة : الحيرة ) على ما هو مقتضى تعدّد وجهة المتّخذين هواهم إلها ، لتكثّر صور هويّات متعلَّقات أهويتهم ، فإنّ تعدّد جهات المقصد وتخالفها مما يوجب التحيّر ضرورة ، ولكن لما عرف إيصال الكلّ إجمالا ، يكون ذلك على علم .
لا يعبد معبود إلا بالهوى
( و ) وجه تفصيل ( ذلك ) التتميم ( أنّه لما رأى هذا العابد ما عبد إلَّا هواه بانقياده لطاعته فيما يأمره به في عبادة من عبده من الأشخاص ) - التي هي متعلَّقات أهوية العباد ، عينيّة ذلك ، أو عقليّة ، وهميّة أو خياليّة فإنّه يشمل سائر العبادات من العبد - ( حتّى أنّ عبادته لله كانت عن هوى أيضا ، لأنّه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدّس ) من حيث هو عن تطرّق الأهوية
 
قال رضي الله عنه  : ( هوى ) من عند نفسه - ( وهو الإرادة ) المنبعثة عمّا يسوق همّته إليه ، من الملاذّ الجسمانيّة ، أو الأحوال الوجدانيّة ، أو المدارك الروحانيّة – ( لما اختار ما عند الله ) من تلك المقاصد المتعالية بحسب علوّ الهمم ( ولا آثره على غيره ) .
 
معنى : أضله الله على علم

هذا إذا كان المعبود له صورة اعتقاديّة ذهنيّة ( وكذلك كلّ من عبد صورة ما من صور العالم ) وأصنامه - ماليّة كانت أو جاهيّة - ( واتّخذها إلها ، ما اتّخذها إلَّا بالهوى فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه ثم رأى المعبودات ) التي هي متعلَّقات الهوى ( تتنوّع في العابدين ) بحسب تخالف حقائقها وتدافع بعضها البعض ،
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 24 - فصّ حكمة إماميّة في كلمة هارونيّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة   شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس مارس 12, 2020 2:40 am

24 - فصّ حكمة إماميّة في كلمة هارونيّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص الهاروني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
24 - فصّ حكمة إماميّة في كلمة هارونيّة

قال رضي الله عنه  : ( فكلّ عابد أمرا ما يكفّر من يعبد سواه ، والذي عنده أدنى تنبّه ) - وهو الذي ينخرط في جملة من يدخل في التخاطب بالكلام المنزل السماوي ، فإنّ من دونه ليس بداخل في ذلك التخاطب أصلا ، فهو الذي يقصد بقوله تعالى : " وَأَضَلَّه ُ الله "    ولذلك ( يحار لاتّحاد الهوى ) عند اعتبار نسبة الهوى إلى متعلَّقاتها ، فإنّ الكلّ فيه متّحد ، فأمّا عند قطع النظر من تلك المتعلَّقات فله الأحديّة الذاتيّة ،

ولذلك قال مضربا عنه بقوله : ( بل لأحديّة الهوى ، فإنّه عين واحدة في كل عابد ، فأضلَّه الله ) من حيث تلك المتعلَّقات عند تخالف جهات التوجّه مما يوجب تحيّر المتوجّهين ، ولذلك قال : ( أيّ حيرة ) .

ثم إنّ هذا إذا اعتبر الهوى من حيث المتعلَّقات التي هي مبدأ الاتّحاد وهو الموجب للضلال والحيرة . فأمّا عند قطع النظر عنها وظهور الهوى بأحديّة عينه لديه فهو ( على علم ) فلكلّ عابد باعتبار هذين الوجهين من معبوده علم في حيرة وحيرة على علم ، فهذا وجه تتميم العلم وتعميمه - فلا تغفل .

قال رضي الله عنه  : (فإنّ كلّ عابد ما عبد إلَّا هواه ، ولا استعبده إلا هواه ، سواء صادف الأمر المشروع ) من الصور الاعتقاديّة والشعائر الشرعيّة ، ( أو لم يصادف ) ذلك ، كالمقتضيات الطبيعيّة والرسوم العاديّة ( والعارف المكمّل من رأى كلّ معبود ) - مشروعا كان أو غير مشروع - ( مجلى للحقّ يعبد فيه ، ولذلك سموه كلَّهم إلها مع اسمه الخاصّ بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك هذا اسم الشخصيّة فيه ) ، فإنّ كل ذي مرتبة من الأشخاص كما أنّ له أسماء بحسب شخصيّته ، لا بدّ وأن يكون له آخر بحسب مرتبته ، كالقاضي والسلطان والحاكم .

قال رضي الله عنه  : ( والالوهة ) أيضا ( مرتبة ) لذلك الشخص من الشجر والحجر والإنسان ( يتخيّل العابد له أنّها مرتبة معبوده ) على الإطلاق ، ( وهي على الحقيقة ) غير ذلك ، فإنّه ( مجلى للحقّ لبصر هذا العابد ) الخاصّ ، ( المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختصّ ) من بين المجالي الغير المحدودة التي للمعبود الواحد الحقيقي ، فإنّه من حيث تلك المجالي المتكثّرة الكونيّة لا يصلح لأن يعبد .

 

قول الجاهل والعارف في المعبود
( ولهذا قال بعض من عرف ) الأمر من حيث حقيقته العالمة بالذات من غير ظهور ذلك العرفان منه - ولذلك قال : - ( مقالة جهالة ) حيث ما عرف مؤدّى قوله : ( " ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى ") [ 39 / 3 ] ، فإنّ له دلالة بيّنة على أنّ هذه المجالي الكثيرة المعبودة لهم غير معبودة لذاتها ، بل إنما يعبدونها تقرّبا إلى المعبود بالذات ، وهو الله الواحد الحقّ إلا أنّهم جهلوا مقالتهم ، فإنّهم في مقالتهم ذلك ما اعتبروا التعيّنات الكونيّة معبودات ، كما ظهر من أحكامهم العينيّة ( مع تسميتهم إيّاهم آلهة ، حتّى قالوا ) عندما ظهر عليهم سلطان الإطلاق الجمعيّ الختميّ ، وأثبت الواحد الحق في عين تلك التعيّنات المتكثّرة : ( " أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ " ) .

 
قال رضي الله عنه  : ( فما أنكروه ) لعلمهم في حقيقتهم الأصليّة به ، ( بل تعجّبوا من ذلك ) لغرابته بالنسبة إلى مأنوسات عقائدهم ومألوفات تقليداتهم بآبائهم ، ( فإنّهم وقفوا مع كثرة الصور ) التعيّنية ( ونسبة الالوهة لها ، فجاء الرسول ودعاهم إلى إله واحد ، يعرف ولا يشهد ) - على صيغة المبنيّ للمفعول -  فإنّ الإله من حيث الوحدة الحقيقيّة معلومة غير مشهودة بالبصر ،

فحينئذ قوله : ( بشهادتهم ) متعلق بالواحد ، أي دعاهم الرسول إلى الإله الواحد الحقّ بشهادتهم ( أنّهم أثبتوه عندهم واعتقدوه ) ، أي أثبتوا ذلك الواحد واعتقدوه ( في قولهم : " ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى ").
ويمكن أن يقرء « يشهد » على المبنيّ لفاعله ، وهو ضمير الرسول ،

وقوله :"بشهادتهم " أي لا يشهدوا الرسول بشهادتهم ذلك لعدم مطابقة علمهم فقوله : ( لعلمهم ) متعلَّق بـ « لا يشهد » حينئذ وعلى التقدير الأوّل متعلَّق بـ "اعتقدوه " أي اعتقدوا ذلك الواحد لعلمهم ( بأنّ تلك الصورة حجارة ولذلك قامت الحجّة عليهم ) عند الامتحان والاختبار عن مبلغ علمهم ( بقوله : "قُلْ سَمُّوهُمْ “  [ 13 / 33 ] ، فما يسمّونهم إلَّا بما يعلمون ) لأنّ الكلام صورة العلم ، وذلك ( أنّ تلك الأسماء لهم حقيقة ) عندهم ، وليس لهم غير تلك الحقيقة .


قال رضي الله عنه  : ( وأما العارفون بالأمر ) وهم المكمّلون ، الذين يرون الكلّ مجالي الواحد الحقّ ولكن لا يظهرون إلا ما يقتضي الوقت الظاهر بصور الأنبياء والرسل إظهاره ، لأنّهم عرفوا الأمر ( على ما هو عليه ، فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور ) ، مع رؤيتهم أنّها من مجالي الحقّ ( لأنّ مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت ) فيما يظهرون به من الصورة الكلاميّة ( بحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم ) وهم مغلوبون تحت ذلك الحكم ، محاطون به ، وذلك الحكم هو ( الذي به سمّوا مؤمنين ، فهم عبّاد الوقت ) وذلك هو المجلى الجمعيّ الذي له الإحاطة بالكلّ .

والمتّصف بتلك العبادة هو المتّقي ، كما يدلّ عليه تلويحه ، فإن التقوى هو الظهور بحكم الوقت ، والحاكم من الشيء هو باطنه - كما عرفت مرارا - فلذلك ترى باطن الوقت ظاهر التقوى .
ولذلك ينكرون غيرهم من العابدين ،


قال رضي الله عنه  : ( مع علمهم بأنّهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها ، وإنما عبدوا الله فيها بحكم سلطان التجلَّي ) الظاهر حكمه عليهم ،
وهو ( الذي عرفوه منهم ، وجهله المنكر الذي لا علم له بما تجلَّى ) ، أو له علم ( و ) لكن ( يستره ) ، وهو ( العارف المكمّل ) الظاهر بحكم الوقت (من نبيّ ورسول ووارث عنهم ).

قال رضي الله عنه  : (فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصورة ، كما انتزح عنها رسول الوقت ) الحاكم بمقتضاه ، العارف به ، ( اتّباعا للرسول ، طمعا في محبّة الله إيّاهم ) ،
فإنّ المحبّة التي هي أصل الحركة الوجوديّة التي منها تحصّلت الأنواع وتكوّنت الأشخاص ، متعلَّقها هو الكمّل من الرسل ،
فمن تبعهم من تلك الأشخاص واندرج تحت كليّة أمرهم وإحاطتهم ، نال تلك المرتبة وفاز بمحبّة الله إيّاه ، ومن استقلّ بحكم شخصيّة الجزئيّة بعد عنها ضرورة فمن اعتكف سدّة المحبّة وقرع بابها لا بدّ له من المتابعة حتى يفتح عليه ذلك الباب .

ولذلك ترى المتابعة واقعة بين المحبّتين ، كما أشار إليه ( بقوله : " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ".)

والمتابعة هاهنا هو الانتزاح والبعد عن تلك المجالي المشهودة الظاهرة ، حفظا لعزّة المعبود وجلاله ، ووفاء بخلوص العبوديّة وانكساره ( فدعا إلى إله يصمد إليه ) ويقصد عند الافتقار والاحتياج ، ( ويعلم ) بمثل هذه الصفات بوجه ( من حيث الجملة ، ولا يشهد ) لأنّ المشهود - كان من كان - ليس له ابّهة الغالب في عزه وعظمته .


وإنّك قد عرفت أنّ الكيفيّات والانفعالات وما يجري مجراها - مما يختصّ به الكثائف - لا يناسب المعبود الإله ، وهو لا يتّصف به في لسان الظاهر ،
ولذلك قال : ( " لا تُدْرِكُه ُ الأَبْصارُ “  [ 6 / 103 ] ، بل "هُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ "  للطفه وسريانه في أعيان الأشياء ) وبيّن أن الساري في الشيء لا يقبل قوّة الإبصار ، فإنّها إنما يتعاكس أشعّتها أو يتمثّل انطباعها في كثيف غير نافذ ولا سار في بطون آخر - كما عرفت أمره في المقدمة.

قال رضي الله عنه  : (فـ " لا تُدْرِكُه ُ الأَبْصارُ "  [ 6 / 103 ] كما أنّها لا تدرك أرواحها المدبّرة أشباحها وصورها الظاهرة ) يعني الحيوانيّ والنفسانيّ والطبيعيّ فإنّ قوّة البصر لا يدرك شيئا منها مع ظهور آثارها وأفعالها ( فهو " اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ") ، فاللطف إشارة إلى كماله في الظهور ، والخبرة إلى كماله في الإظهار ( و ) ذلك لأنّ ( الخبرة ذوق ، والذوق تجلّ ، والتجلَّي في الصور ) ، فإنّ التجلي إنما هو الظهور فلا بدّ له من المظهر ،


قال رضي الله عنه  : ( فلا بدّ منها ) - يعني الصور ، فإنّها مظاهر التجلَّي - ( ولا بدّ منه ، فلا بد أن يعبد من رآه ) في تلك الصور والمظاهر ( بهواه ) أي بحكمه وقهرمانه ، فإنّ الهواء هو الرقيقة بين تلك الصور والمجالي ، وبين من يهيم بها ممن رآه فيها .

ولكن لما كان إظهار هذا لا يوافق كمال العبوديّة وجلال عزّة المعبود - كما عرفت آنفا - طوى عن الإفصاح به ، فالأمر فيه موكول إلى الفهم والفطانة ،

وأشار إليه بقوله : ( إن فهمت ) .
( وَعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ ) مطلقا ، سواء ساق إليه الشرع ، أو قاد إليه الهوى .

.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:26 pm

25 - فصّ حكمة علوية في كلمة موسوية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
25 - فصّ حكمة علوية في كلمة موسوية
وجه تسمية الفصّ
اعلم أنّ علوّ الرتبة في الوجود والتفوّق على البريّة في أمر الإنباء والإظهار إنما يتصوّر لمن اختصّ بين الكمّل بالتحقّق بما هو الأنزل رتبة والأسفل ظهورا ودرجة ، كما أنّ الأوّلية فيه إنما يتصوّر لمن تفرّد بالآخريّة والختميّة وبيّن أنّ الأنزل رتبة والأسفل درجة في الظهور إنما هو الكلام كما بيّن أمره والمختصّ بتحقّقه بين الأنبياء الذين هم أساطين بنيان الإظهار والإشعار هو موسى .
ولذلك قد ورد في التنزيل : "وَكَلَّمَ الله مُوسى تَكْلِيماً "  [ 4 / 164 ] ، فإنّه يدلّ مع تحقّقه بالكلام ، على اختصاصه بمزيد من التكثير فيه ، على ما هو مقتضى تلك المرتبة ومن ثمّة تراه قد ورد في الآثار الختميّة : « إنّه تعالى كتب التوراة بيده ، كما أنّه خلق آدم بيده » ، فهو في أمر الإظهار بمنزلة آدم في الظهور ، وإنّه قد اختصّ بين الأنبياء بتكثّر الامّة .
 
وإذا عرفت هذا فقد ظهر لك وجه اختصاص حكمته بالعلوّ ، ومن هاهنا ترى من قابله في سباق ميدان الظهور إنما ركب مطيّة العلوّ والتفرّد بادّعائه ، وهو قد غلبه بذلك حيثما نصّ على اختصاصه له في صورة الخطاب الذي هو أرفع المنازل وأعلاها لدى التكلَّم بقوله تعالى : " إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلى ".   
وأيضا فإنّ في تلويح الكلمة الموسويّة ما يدلّ على اختصاصه بالحكمة العلويّة عند حذف المكرّر منها ، كما أنّ مادّته هي مادّة السموّ والسماء .
ثم إنّ من آيات علوّ الرتبة الإحاطة والحكم على من دونه بالغلبة والقهر ، ولذلك تراه عند سطوع تباشير ظهوره قد قتل أبناء امّته في ورود مقدمه في هذه المرتبة الكماليّة ، إمدادا لقوّة جمعيّته وقربانا له ، وإليه أشار بقوله :
 
حكمة قتل الأبناء من أجل موسى
(حكمة قتل الأبناء من أجل موسى ، لتعود إليه بالإمداد حياة كلّ من قتل من أجله ) وتحقيق هذا الكلام يحتاج إلى تذكَّر مقدمة حكميّة هي أنّ التعيّن الذي هو عبارة عن العوارض المميّزة لأفراد الحقيقة النوعيّة الواحدة بالذات ، تميّزا عرضيا كونيّا على ضربين :
أحدهما ما يتميّز به الشخص عند نفسه ممّا تصوّر به قلبه ، وهو صورة
باطنه المسماة بالهمة - وقد وقفت في صدر الكتاب عليه .
والآخر ما يتميّز به عند بني نوعه ممّا يظهر به عندهم من الأعراض الخارجيّة وهو صورة ظاهره المسمّاة بالهويّة وبيّن أن الأول منهما إنما يظهر في الشخص عند تمييزه وبلوغه كمال الاستواء ، فلا يكون للطفل قبل تمييزه منه شيء .
 
فإذا عرفت هذا تبيّن لك أنّه ليس لتلك الأبناء المقتولين من ذينك التعيّنين شيء مما يعود إليهم .
أما الأول فلما عرفت .
وأما الثاني فلأنهم متعيّنون عند بني نوعه بالتعيّن الموسوي ، متّفقين فيه عندهم ، ( لأنّه قتل على أنّه موسى ) ، وهو في نفسه كذلك ، فإنّه إذ لم يكن لهم تعيّن يظهرون به وقد يكمل استعدادهم له ، فإنما يتكوّنون بالتعيّن الكلَّي الغالب الذي له القهرمان في ذلك الزمان على ما هو غير مستبعد ولا خفيّ عند الذكيّ ، الخالص ذائقة فهمه عن شوائب التقليد وتعصّبه ، وإليه أشار بقوله :" إمداد موسى بحياة جميع من قتل من أجله "
 
قال رضي الله عنه  : ( وما ثمّ جهل ، فلا بدّ أن تعود حياته ) ، أي حياة من قتل من شخص الإنسان ، بناء على ما مرّ من أنّ في النوع - من الكليّات المتبطَّنة فيه ،
المتقوّمة هو بها - أحكاما وآثارا يظهر بها أفراده ، كالحياة من الحيوان في أفراد الإنسان ، فلا بدّ من عود الحياة "على موسى - أعني حياة المقتول من أجله "ضرورة أنه متكوّن بتعيّنه ( وهي حياة طاهرة على الفطرة لم تدنّسها الأغراض النفسيّة ، بل هي على فطرة " بَلى " ) الدالَّة على كمال قابليّته لتربيته الربّ المظهر ،
 
قال رضي الله عنه  : ( فكان موسى مجموع حياة من قتل على أنّه هو ، فكلّ ما كان مهيّأ لذلك المقتول مما كان استعداد روحه له ) مما اشتمل على حقيقته النوعيّة من الحياة والعلم ، اللذين هما أحكام جنسه وفصله ( كان في موسى عليه السّلام ) ، فهو يستمدّ من همم أشخاص الامّة ، كما أنّ محمّدا صلَّى الله عليه وسلَّم يمدّ الهمم - على ما عرفت - ويطلعك عليه ما في القرآن الكريم من قوله تعالى حكاية عن موسى :
 
" رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي " [ 20 / 25 ] وخطابا لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم : " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ " [ 94 / 1 ] فإنّ الصدر هو طرف ظاهريّة القلب ، وهو صورته المعبّر عنها بالهمّة - كما عرفت .
 
ولذلك قال رضي الله عنه  : ( وهذا اختصاص إلهيّ بموسى لم يكن لأحد من قبله ، فإنّ حكم موسى كثيرة ، وأنا إن شاء الله أسرد منها في هذا الباب على قدر ما يقع به الأمر الإلهي في خاطري ، فكان هذا أوّل ما شوفهت به في هذا الباب ) وهذا من غلبة حكم النبوّة في حكم موسى ، حيث شوفه بها كلاما .
 
قال رضي الله عنه  : (فما ولد موسى إلَّا وهو مجموع أرواح كثيرة جمع قوى فعّالة ، لأنّ الصغير يفعل في الكبير ) بما عرفت غير مرّة أنّ التّأثير إنما هو من طرف البطون والصغير قريب العهد به ( ألا ترى الطفل يفعل في الكبير بالخاصيّة ، فينزل الكبير من رياسته إليه ، فيلاعبه ويزقزق له ) ويرقصه ( ويظهر له بعقله ، فهو تحت تسخيره وهو لا يشعر ، ثم شغله بتربيته وحمايته وتفقّد مصالحه وتأنيسه ، حتى لا يضيق صدره ) .
 
قال رضي الله عنه  : ( هذا كله من فعل الصغير بالكبير ، وذلك لقوّة المقام ) والمقام والمرتبة هو المؤثّر لبطونه وعدميّته ، وإنما قوى مقامه على الكبير ( فإنّ الصغير حديث عهد بربّه لأنّه حديث التكوين ، والكبير أبعد ) .
 
القريب من الحقّ تعالى يسخّر البعيد
ثمّ إنّه كما أنّ القرب الزماني من المبدء الحقّ يوجب قوّة التسخير من القريب به على البعيد بذلك البعد - كما في المثال المذكور - فكذلك القرب بحسب قلَّة الوسائط وكثرة وجوه المناسبات - من اللطافة والنزاهة في الجملة - فإنّه أيضا يوجب تسخير القريب به على البعيد ، كما بين الملإ الأعلى والحقّ ، وإليه أشار بقوله : ( فمن كان من الله أقرب سخّر من كان من الله أبعد ، كخواصّ الملك ، للقرب منه يسخّرون الأبعدين ) .
 
ثمّ إنّ من جهات القرب إلى الحقّ تصحيح نسبة العبوديّة وتخليص رقيقتها عن شوائب التعمّلات الاختياريّة والأحكام الجعليّة ، وإنفاذ أحكامها ومقتضياتها ، من كمال الإذعان وتمام الانقياد والتبرّي عمّا هو مشوب بضرب من الإباء والاستقلال كما للجمادات ،
وإليه أشار بقوله  رضي الله عنه : ( كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يبرز بنفسه للمطر إذا نزل ، ويكشف رأسه له حتى يصيب منه ، ويقول : « إنّه حديث عهد بربه » ) أحمد المسند ومستدرك الحاكم و حلية الأولياء .
وهو العهد الذي بينه وبين العباد في ميثاق " أَلَسْتُ " [ 7 / 172 ] بأن لا يشوب رقيقة العبوديّة بما يخالطها ، وقد التزموا ذلك بقولهم : " بلى " .
 
معرفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم باللَّه
قال رضي الله عنه  : (فانظر إلى هذه المعرفة باللَّه من هذا النبيّ : ما أجلَّها وما أعلاها وما أوضحها ) .
أمّا وجه جلالة هذه المعرفة فهو أنّه مع ختمه سائر الصفات الكماليّة التي للعبد وعلوّ شأنه على البريّة كلَّها ، قد اتّضع للجماد الذي هو أنزل البريّة وأخسّها وهذا صورة تماميّة الجلالة معرفة وعلما ، فإنّه إنما يتمّ كلّ شيء في مقابله عند العارف به ،
وإلى هذا الوجه أشار بقوله  رضي الله عنه : ( فقد سخّر للمطر أفضل البشر لقربه من ربّه ) في مدارج العبوديّة والبعد العبدي ، الذي هو المسلك الذاتيّ للممكنات ، والطريق الأصليّ للكائنات .
وأمّا وجه علوّها فهو أنّه فهم من وجه عبوديّته هذه لسان الرسالة حيث اتّخذه رسولا ( فكان مثل الرسول الذي ينزل بالوحي عليه ، فيدعوه بالحال ) التي عليها ( بذاته ) ، فإنّ الممكن له الافتقار والعبوديّة بذاته .


وأمّا وجه وضوحها : فهو أنّه أجاب دعوته وسمع رسالته سماع امتثال وطاعة ، واستقبل بلاغة استقبال شوق وخضوع ، ( فيبرز إليه ليصيب منه ما أتاه به من ربّه ) من الحياة والعلم ، اللذين هما إمام أئمّة الأسماء والحقائق ، وبهما تنفجر عيون مزارع الظهور والإظهار فإنّ للماء دلالة عليهما صورة ومثالا - كما عرفت .
قال رضي الله عنه  : ( فلو لا ما حصلت له منه الفائدة له منه الفائدة الإلهيّة ) من لطائف العلوم والمعارف ، ( بما أصاب منه ) على رأسه المنكشف له - الذي هو جمجمة جميع المدارك والمشاعر ، ( ما برز بنفسه إليه ) مستقبلا إيّاه ، استقبال رسول كريم .
( فهذه رسالة ماء جعل الله منه ) كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ "  حياة صوريّة طبيعيّة ، ومعنويّة علميّة ، على ما هو من خصائص الختمين ( فافهم ) .
هذا حكمة قتل أولاد بني إسرائيل من جهة موسى .
 
حكمة إلقاء موسى في التابوت ورميه في اليمّ
قال رضي الله عنه  : ( وأمّا حكمة إلقائه في التابوت ورميه في اليمّ : فالتابوت ناسوته ) من حيث الحصر والإحاطة ، ( واليمّ ما حصل له من العلم ) ، فإنّ له نسبة إلى العلم حكمة وتلويحا .
أمّا الأول فلاشتماله على الماء الذي هو صورة العلم ولكمال سعته وإحاطته .
وأمّا الثاني فلأنّه بيّنات ميمي « العلم » ولامه الظاهر بهما عين عينه عيانا ولذلك جعله إشارة إلى العلم الخاصّ المستحصل من العين ببيّنات أشكالها المنتجة لضروب الحقائق ، وهو العلم الحاصل للنفس  ( بواسطة الجسم ، مما أعطته القوّة النظريّة الفكريّة ) من الحقائق التنزيهيّة ( والقوى
 
الحسّية والخياليّة ) من اللطائف التشبيهيّة كما وقفت عليه .
وأيضا اليمّ : صورة طرفي الجسم وبيّناتهما ، فلذلك جعله إشارة إلى العلم الحاصل من الجسم بتلك القوى ، ضرورة أنّ تلك القوى هي
قال رضي الله عنه  : ( التي لا يكون شيء منها ولا من أمثالها لهذه النفس الإنسانيّة إلَّا بوجود هذا الجسم العنصري ) الكثيف وذلك لأنّ القوى المذكورة إنما هي هيئات برزخيّة ، مستحصلة من تعاكس النور المجرّد اللطيف عن الجسم الهيولانيّ الكثيف ، كما عرفت تحقيقه في المقدّمة .
 
اثر ارتباط النفس مع الجسم في ترقّيها
فالنفس ما لم تحصل له علاقة التصرّف والتدبير في الجسم ، لا يمكن لها وجود قوّة من تلك القوى ولا أمثالها ، مما يستحصل به إدراك المحسوسات من العوارض الجسمانيّة والأشباح الهيولانيّة والمثاليّة والمعاني الجزئيّة ،
قال رضي الله عنه  : ( فلما حصلت النفس في هذا الجسم وأمرت بالتصرّف فيه ، جعل الله له هذه القوى آلات يتوصّل بها إلى ما أراده الله منها ) ، من المدارك الجمعيّة الكماليّة الحاصلة من تعاكس النور المجرّد عن الجسم ، مكتسبا منه جمعيّته البرزخيّة متدرّجا في تلك الجمعيّة إلى أن يصل إلى القلب ،
برزخ البرازخ وهو الذي أراده الله من النفس عند تفويض التصرّف إليها ( في تدبير هذا التابوت ) يعني الوعاء الثابت الذي يصلح لأن يودع فيه الجسد عند سكونه عن حركة الحياة واضطرابها ، وصلوحه لأن يستكنّ في القبر ، الذي هو صورة القرب .
 
تأويل التابوت بالمزاج الإنساني
هذا بحسب العرف واللغة مطلقا ، فإنّه هاهنا في قوله تعالى : "أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيه ِ سَكِينَةٌ من رَبِّكُمْ " .
 كناية عن المزاج الإنساني الذي يصلح لأن يظهر فيه الوحدة الاعتداليّة القلبيّة الساكنة المطمئنّة عن الميول الانحرافيّة الأطرافيّة التي هي محل قرب الحقّ وسكينة كمال الربّ وظهوره ،


ولذلك قال  رضي الله عنه  : ( الذي فيه سكينة الربّ ، فرمى به في اليمّ ) العلمي المحيط بالكل ، ( ليحصل بهذه القوى ) قوّة مسلطة قادرة ( على فنون العلم ) ذوقيّة وبرهانيّة ، بديهيّة وكسبيّة ، كتابيّة وكلاميّة ، رقميّة ولفظيّة ، تشبيهيّة وتنزيهيّة فإنّ هذه الفنون من العلوم انما يستحصل إذا القى موسى النفس إلى تابوت الناسوت والقى في يمّ مداركه الجسمانيّة .


ثمّ إنّه من جملة ما علم من هذه الحكمة الجهة الارتباطيّة التي بين الروح والجسد الجسمانيّ ، وإليه أشار بقوله رضي الله عنه  : ( فأعلمه الله بذلك ) التابوت ( أنّه وإن كان الروح المدبر له هو الملك ) في مدينة جمعيّته الإنسانيّة ، ( فإنّه لا يدبّره ) - أي لا يدبّر هذا الجسم الموسويّ الكماليّ تدبيرا يوصله إلى غايته النوعيّة وكماله الحقيقيّ الذي هو صلوحه لأن يكون سكينة للربّ ( إلَّا به ) ، باعتبار استجماع هذا الجسم المنوّر بتدبير الملك صنوفا من القوى والجوارح ، بها تقتنص شوارد الحقائق عن شواهق علوّ إطلاقها .


وقد استقصينا الكلام في أمر تلك المملكة وتبيين أشغالها ووجوه عمّالها ، وتفاوت درجاتهم عند تدبير الوصول إلى كمالها في المناظرات الخمس ، من أراد ذلك فليطالع ثمّة .


قال رضي الله عنه  : (فأصحبه هذه القوى الكائنة في هذا الناسوت ، الذي عبّر عنه ) عند استشعار التدبير الربطي منه ( بالتابوت من باب الإشارات ) التلويحيّة من الصور الحرفية - وهي أنّ « التابوت » خصوصيّته الفارقة له عن "الناسوت" إنما هو التاء والباء ، اللذان يلوّحان على التدبير الربطي - ( والحكم ) الذوقيّة من النسب المعنوية وهي أنّ الربط بين التابوت وما فيه من الجسد الميّت إلى حيث يتحرّك بتحريكه اليمّ ويسكن بتسكينه إيّاه ، وهي غاية قوّة الجهة الارتباطية .
 
فعلم أنّ تدبير الروح الذي عليه ملاك أمر الكمال الوجوديّ إنما هو بالجسم ، ومبنى الكل على الجهة الارتباطيّة والنسبة الامتزاجيّة التي بين بين .
 
كيفيّة تدبير العالم
قال رضي الله عنه  : ( كذلك تدبير الحقّ العالم ، ما دبّره إلا به ) نفسه ( أو بصورته ) الوجوديّة التي هذه الأشكال والصور الكونيّة من ظلالها ( فما دبّره إلَّا به ) نفسه كتدبير بعض أجزاء العالم بالبعض وتوقّفه عليه ، ( كتوقّف الولد على إيجاد الوالد ) فإنّ تدبير وجود الولد إنما هو بالوالد وإيجاده إيّاه مع تباين ذاتيهما وضعف القوّة الارتباطيّة .
 
قال رضي الله عنه  : (والمسبّبات على أسبابها ) ، فإنّ تدبير السرير - مثلا - في العالم إنما هو بالنجّار وتخيّله صورته وغايته المترتّبة عليه ، المشوّقة له إلى تحريكه نحو ترتيب المادّة والصورة منه ، وهذا الارتباط أقوى من الأول ، ولكنه إنما يحتاج إلى عدم المانع ووجود المقتضي ، وهو المعبّر عنه بالشرط ، ولذلك قال بعده : ( والمشروطات على شروطها ) فإنّه تدبّر بها ويترتّب عليها وجود المسبّبات ضرورة .
 
هذا كلَّه في المركَّبات الامتزاجيّة الزمانيّة ، وأمّا في المجرّدات والعقليّات وما بعدها من الحقائق الجلائيّة كتدبير المعلولات بعللها التامّة فإليه أشار بقوله : ( والمعلولات على عللها ) هذا الارتباط مع تباين الوجودين في الخارج وأما فيما لا تغاير بين وجودي المرتبطين في الخارج فلا شكّ في قوّة الجهة الارتباطيّة هناك ، فلذلك تراه موصلا - لمن تحقّق بأحدهما - إلى الآخر.


وهما قسمان :
أحدهما ما اشتمل على نسبة مستقلة ،
والآخر ما لا نسبة فيه أيضا والأول هو المشار إليه بقوله : ( والمدلولات على أدلَّتها ) ، فإنّه انما يدبّر في تحصيل المدلول بدليله ، والقوّة الارتباطيّة بينهما وصلت إلى مرتبة الاتّحاد ، فإنّ الأدلة تحمل على مدلولاتها بـ هو هو ، ولكن ذلك الاتّحاد في الخارج فقط ، وأمّا في العقل فبينهما تغاير ، ضرورة أنّ الدليل سابق فيه ، وهو الذي توصل المتحقّق به إلى المدلول .
 
هذا فيما فيه نسبة ، وأمّا ما لا نسبة فيه وهو الغاية في سلسلة الربط الاتّحادي التدبيري فإليه أشار بقوله : ( والمحقّقات بحقائقها ) كالأشخاص المحقّقة الخارجيّة ، فإنّه إنما يدبّر تحصيلها بحقائقها النوعيّة التي هي عينها خارجا وعقلا ، ظاهرا وباطنا فلا تغفل عن تدرّج هذه القوّة الارتباطيّة إلى الوحدة الجمعيّة العينيّة وما نبّهت عليه في المقدّمة أنّ العالم مشتمل على أفراد وأعيان متفرّقة ،
وعلى نسب جمعيّة بينها ولذلك قال : ( وكلّ ذلك من العالم و ) الارتباط الوحداني منه بين الأفراد ( هو تدبير الحقّ فيه ، فما دبّره إلا به ) .
 
العالم تجلي الأسماء الحسنى وصفات الحقّ العلى
قال رضي الله عنه  : ( وأمّا قولنا : « أو بصورته » أعني بصورة العالم ) إشارة إليه بلسان التفصيل كما عبّر عنه أولا بلسان الإجمال ، وذلك لأنّه قد اطَّلعت مما وقفت عليه آنفا أن للعالم صورة كونيّة هي عبارة عن كثرة نسبيّة .
وذلك أعيانها المفردة الظاهرة حسّا - وصورة وجوديّة هي عبارة عن وحدة نسبيّة ، وذلك هي النسب الجمعيّة المتبطَّنة فيه ، الظاهرة أحكامها وآثارها في الإنسان .
 
وتلك النسب في الحقيقة هي أسماء الحق وأوصافه ، كالحياة والعلم والقدرة والإرادة وغيرها ، وهي التي فيه مستند الأفعال والآثار والأحكام وبيّن أنّ إطلاق صورة العالم على المعنى الثاني منهما غريب في مدارك العامّة من المسترشدين ،
فلذلك خصّه بالذكر قائلا : ( فأعني به الأسماء الحسنى ) .
 
ثمّ إنّه كما أنّ للعالم ظاهرا محسوسا وباطنا معقولا ، لا بدّ وأن يكون للصورة منه ما يطابق الطرفين جميعا ، فلذلك قال : ( والصفات العلى ) إشارة إلى ما يطابق طرف الباطن منها ، كما أنّ الأول إشارة إلى ما يطابق طرف الصورة وفي عبارته إشارة غير خفيّة إلى الطرفين ، حيث وصفهما بالحسنى والعلى فإنّ الحسن مقتضى الظاهر ، كما أن العلوّ مقتضى الباطن .
 
ثمّ إنّه يريد أن يبيّن ما به يتحقّق وجوديّة هذه الصورة منهما ، وكونها وحدة نسبيّة فقال : ( التي تسمّى الحقّ بها ) اسما حسنا ( واتّصف بها ) صفة عليّا .
وقوله رضي الله عنه  : ( فما وصل إلينا من اسم يسمّى به إلَّا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه ) بطرفيه ( في العالم ) إشارة إلى بيان كونه صورة وذلك أنّ المعنيّ من معنى الشيء هو طرف خفائه واندماج أحكامه وآثاره ، وما يقرب إلى العدم منه .
 
وبيّن أنّ الصورة الكونيّة بهذه النسبة أولى من الوجوديّ ، فإنّ معنى الأسماء حقيقة هو الأعيان الكونيّة ، وإن كان بحسب مداركنا إذا قسنا إلى الترتيب الواقع فيها ظهر الأمر على عكس ذلك ولكن الكلام هاهنا إنما هو بحسب الأمر نفسه لا بحسب المدارك والمجالي ، فإنّها نسب تتخالف بالاعتبار .
قال رضي الله عنه  : ( فما دبّر العالم ) في لسان التفصيل ( أيضا إلا بصورة العالم ) .
 
آدم هو الجامع بين الصورتين
ثمّ إنّ مجموع الصورتين بأحديّة جمع الصور إنما هو صورة الحقّ ، وآدم هو الجامع بينهما


 ( ولذلك قال في خلق آدم الذي هو البرنامج ) - معرّب " برنامه " بالفارسية . وفي بعض النسخ : « هو الأنمونامج » ، معرّب " نموذ نامه " .
وعلى التقديرين هو العنوان الجامع لما في صحيفة الكتاب من السلام والأوصاف والأحكام - فإنّ آدم أيضا هو ( الجامع لنعوت الحضرة الإلهيّة التي هي الذات والصفات والأفعال : " إن الله خلق آدم على صورته"). رواه البخاري و مسلم وابن حبان و أحمد في المسند  و البيهقي وغيرهم .
 
فإنّ في اسم « آدم » ما يلوح على المراتب الثلاث التي للحضرة الإلهيّة فإنّ « الألف » إشارة إلى الذات ، و « الدال » الدالَّة على الأسماء إشارة إلى الصفات ، لأنّها مبدأ الاسم ، دالَّة عليه و " الميم " المتمّم للكل إشارة إلى الأفعال كما أن في اسم « الله » ما يلوّح على تفصيل الحضرة الإلهيّة وتكرار اللام الدالّ على الصفات في هذا السياق يلوّح إلى ما للصفات من النسبة إلى الذات ، وهي التي تصير بها أسماء الحقّ وإلى الأفعال والآثار التي باعتبارها تصير عينا .
 
آدم جامع الأسماء الإلهيّة
قال رضي الله عنه  : ( وليست صورته سوى الحضرة الإلهيّة ) الظاهرة بها آدم ، فهو مثله - وليس كمثله شيء .
( فأوجد في هذا المختصر الشريف ) الممتزج به صور التفاصيل امتزاجا تنعكس به نسبة بعضها إلى البعض ، به يأنس الكلّ ضرورة أنّ الاختصار
 
يوجب قرب الأجزاء ، والقرب يستلزم الأنس ، فحيثيّة الاختصار فيه هو مبدأ تسميته بالإنسان ،
ولذلك وصفه بقوله رضي الله عنه  : (الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهيّة ) ، التي هي الصورة الوجوديّة للعالم ( وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل ) بعضها عن البعض ، فإنّها أعيان مفردة متمايزة بالذات كثيرة ، وهي الصورة الكونيّة للعالم ، فللإنسان الصورة الكاملة الجامعة بين الجمع الوجوديّ والتفرقة الكونيّة .
 
آدم روح العالم والعالم مسخّر له
قال رضي الله عنه  : ( وجعله ) باعتبار تلك الجمعيّة والكمال ( روحا للعالم ) ، مقوّما لأعيانه المتفرّقة المنفصلة بالذات ، بأن صيّر ذلك الكثير شخصا واحدا ، تقويم الروح الحيواني جسده .
( فسخّر له العلو ) وهو طرف اللطائف الروحانية والمجرّدات ( والسفل ) وهو طرف الكثائف الجسمانيّة والمتعلَّقات بالموادّ الهيولانيّة ، ( لكمال الصورة ) الجامعة بين الكيانيّة من الصور والإلهيّة منها وبهذا الكمال يطلق عليه المثليّة .


قال رضي الله عنه  : ( فكما أنّه ليس شيء من العالم إلا وهو يسبح الله بحمده ) بما يعطيه حقيقة ذاته ، ( كذلك ليس شيء في العالم إلَّا وهو سخّر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته ، فقال ) مفصحا عن ذينك الطرفين : ( " وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْه ُ "   فكلّ ما في العالم تحت تسخير الإنسان علم ذلك من علمه ، وهو الإنسان الكامل ) لأنّه ظاهر بصورته الكماليّة الكلاميّة الإظهاريّة ( وجهل ذلك من جهله ، وهو الإنسان الحيوان ) لاندماج ذلك الكمال في المادّة الحيوانيّة الظهوريّة فقط .
 
عود إلى بيان حكمة إلقاء موسى في اليمّ
ثمّ إنّه يمكن أن يقال : إذا كان ظلمات بحر الحيوان مما يوجب خفاء تلك الصورة الكماليّة الإظهاريّة والجهل بمقتضاها ، فكيف يتصوّر أن يجعل اليمّ إشارة إلى العلم الحاصل بواسطة الجسم ، كما أشار إليه
فاستشعر لما يندفع به ذلك بقوله رضي الله عنه  : ( فكانت صورة إلقاء موسى في التابوت وإلقاء التابوت في اليمّ صورة هلاك ) ، كما هو الظاهر من التابوت وإلقائه في اليمّ ، ( وفي الباطن كانت ) الصورة المذكورة ( له نجاة من القتل ) فكذلك يمّ الإدراكات الجسمانيّة وإلقاء موسى إليه بعد إلقائه في التابوت من القوى الجسمانيّة الحاصرة له ، وإن كان في الظاهر صورة هلاكه في ظلمات الجهالة ، ولكن في الباطن له نجاة منها .
 
الإحياء بالعلم
قال رضي الله عنه  : ( فحيّي ) بماء هذا اليمّ ( كما يحيي النفوس بالعلم من موت الجهل ، كما قال : " أَوَمن كانَ مَيْتاً " يعني بالجهل " فَأَحْيَيْناه ُ " يعني بالعلم ) هذا في العلم الظاهر للعالم باعتبار ظهوره له ، وأما باعتبار إظهاره للغير ،
 
فإليه أشار بقوله رضي الله عنه  : ( " وَجَعَلْنا لَه ُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ " ) أي يسلك فيهم وبهم مسلك السداد ، ( وهو الهدى " كَمَنْ مَثَلُه ُ في الظُّلُماتِ " ) أي ظلمات الموادّ الهيولانيّة (وهي الضلال " لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها "  أي لا يهتدي أبدا ) ولا يترقّى من مهاوي تلك المدارك الجسمانيّة إلى الحقائق الجمعيّة الكماليّة ،
كما عرفت ( فإنّ الأمر في نفسه ) - صعودا كان أو هبوطا - ( لا غاية له يوقف عندها ) وينقطع بها السلوك ويتمّ الوصول .
 
الهدى عبارة عن الاهتداء إلى الحيرة
قال رضي الله عنه  : ( فالهدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة ، فيعلم أنّ الأمر حيرة ) وذلك لأنّ النقائض والأضداد متعانقة في الوحدة الحقيقيّة والهويّة الإطلاقيّة ، وتقابل الأحكام مما يوجب الحيرة ضرورة .
هذا من جهة المسلك . وعلم أنّه ليس فيه ما ينقطع به السلوك ، وكذلك من جهة السالك لا يمكن له أن يقعد عن السلوك ، فإنّ الأمر حيرة كما عرفت .
قال رضي الله عنه  : (والحيرة قلق وحركة ، والحركة حياة ، فلا سكون ، فلا موت - ووجود فلا عدم ) .
( وكذلك في الماء الذي ) بحسب الظاهر سبب خراب الأرض وهدم صورة جمعيّتها ، فإنّه ( به حياة الأرض و ) به ( حركتها ) كما كشف عنها ( قوله : فـ " اهْتَزَّتْ" )  .
( و ) به ( حملها - قوله : " وَرَبَتْ " ) ( و ) به ( ولادتها "وَأَنْبَتَتْ من كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ " أي أنّها ما ولدت إلا من يشبهها ، أي طبيعيّا مثلها )
فالزوج عبارة عن الولد هاهنا ، فإنّه زوج والده بحسب المماثلة الطبيعيّة ، وصورة بسطه على ما دلّ عليه بهيج .
 
الزوجية تلزم الوجود
قال رضي الله عنه  : ( وكانت الزوجيّة التي هي الشفعيّة لها بما تولَّد منها وظهر عنها ، كذلك وجود الحقّ كانت الكثرة له وتعداد الأسماء أنّه كذا وكذا بما ظهر عنه من العالم ) ظهور الزوج عن النابت له ، وهو ( الذي يطلب بنشأته ) الحاملة لسائر القوابل ( حقائق الأسماء الإلهيّة ) التي هي أولاد القوابل وأزواجها ، طلب اهتزاز وانبساط وربى ، ( فنبت به ، وبخالقه أحديّة الكثرة ) أي نبت بالعالم وبخالقه شجرة أحديّة الكثرة العدديّة التي هي ذات ثمار كريمة ونعم جسيمة ومن ذلك جلائل العلوم وفنون الحقائق التي ظهرت من الحروف المتعدّدة وأعدادها .
 
فقد ظهر من هذا أنّ الشفعيّة والزوجيّة التي هي أحديّة الكثرة تلزم وجود الحقّ بما ظهر عنه .
قال رضي الله عنه  : ( وقد كان ) قبل هذا الطلب ( أحديّ العين من حيث ذاته ) فنبت أحديّ العين ، أحديّ كثرة نبات الواحد العددي سائر المراتب العدديّة المتكثّرة .
هذا مثاله في العقل ، وأمّا ما في الخارج منه فهو المشار إليه بقوله : ( كالجوهر الهيولانيّ ، أحديّ العين من حيث ذاته ، كثير بالصور الظاهرة فيه ، التي ) ذلك الجوهر الهيولانيّ ( هو حامل لها بذاته ) ، فإنّه من حيث أحديّة عينه محيط بالصور الكثيرة ، إحاطة الحامل بالجنين .
 
ومن هاهنا ترى كلمة المشّاءين وغيرهم من الحكماء متّفقة على أنّ وحدة الهيولى شخصيّة لا غير ، ( كذلك الحقّ بما ظهر منه من صور التجلَّي ، فكان مجلى صور العالم مع الأحديّة المعقولة ) كما أنّ الجوهر الهيولاني مع أحديّة عينه مجلى سائر صوره النوعيّة وتنوّعاته الطبيعيّة ، التي أرض قابليته أنبتت بها من كلّ زوج بهيج .
 
قال رضي الله عنه  : (فانظر ما أحسن هذا التعليم الإلهي الذي خصّ الله بالاطلاع عليه من شاء من عباده ) من أمر التولَّد والتوالد الواقع بين الوالد وزوجه ، ومن أمر تعانق الأطراف الموجب للحيرة كالنجاة من القتل في صورة الهلاك ، والاهتداء في صورة الضلال ، والعلم في الحيرة ، وتربية الأرض وإنباتها في صورة الهدم وتخريبها ، وأحديّة العين في كونه مجلى للكثير .
 
كلّ ذلك قد استشعر من الآيات الدالَّة عليه ، دلالة غير خفيّة على الخواصّ من عباده من الورثة الختميّة الواقفين على مطلع الآيات وغاياتها وفي عبارته ما يشعر به .
 
تسمية موسى وحضانة آل فرعون له
ثمّ إنّه تنشعب من هذا الأصل تربية آل فرعون موسى : ( و ) لذلك ( لما وجده آل فرعون ) يعني القوى الطبيعيّة الهيولانيّة ( في اليمّ عند الشجرة ) ، وهي الجمعيّة الحيوانيّة بأصولها وفروعها وشعبها وأغصانها وثمرتها ، وهي الإنسان ( سماه فرعون : موسى ) فإنّ من شأن المقابل أن يسمّى
 
مقابله الآخر بما عنده من وجوه النسبة ، كالابن ، فإنّه الذي سمّى الأب أبا ، كما قيل : « فبضدها تتبيّن الأشياء » .
قال رضي الله عنه  : ( و « المو » هو الماء بالقبطيّة ، و « السا » هو الشجرة فسماه بما وجده عنده ) من الماء الذي هو صورة العلم والنطق ، والشجرة التي هي صورة الجمعيّة الحيوانيّة ( فإنّ التابوت ) - يعني الناسوت ، باعتبار تدبير الظاهر بين بين ، تدبيرا وحدانيّ الحكم ، تامّ الأثر - ( وقف عند الشجرة في اليمّ ) لا يتجاوز عن تلك الجمعيّة مزاجا ، وقوف تنزّل الوحدة الجنسيّة لذي الطبيعة الحيوانيّة طبعا .
 
تأويل فرعون وموسى
وإذا كان فرعون صورة شخصيّة تلك الطبيعة من حيث حيوانيّتها الجنسيّة فإنّه هو الإنسان الحيوان كما أنّ موسى صورة شخصيّة تلك الطبيعة أيضا ، ولكن من حيث بلوغها ونوعيّتها الكماليّة ، فلذلك قابله ( فأراد قتله ) وإبادة ما له من البنيان الجمعيّ الكمالي المتوجّه إلى إبادة فرعون ( فقالت امرأته ) وهي التي تحت فرعون الطبيعة الهيولانيّة الفرقيّة العينيّة ، من الجمعيّة المتبطَّنة فيها ، الحاكمة عليه بالصوت النطقي ، وذلك عين حقيقتها الذاتيّة - كما ستقف عليه –

ولذلك قال رضي الله عنه : ( وكانت منطقة بالنطق الإلهي ) الذي به نطق كلّ شيء ( فيما قالت لفرعون ، إذ كان الله خلقها للكمال ) ولهذا أنطقه بالكلام الذي هو صورة " الكمال ".
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:35 pm

25 - فصّ حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
25 - فصّ حكمة علوية في كلمة موسوية
الجنس والفصل
ثمّ إنّه لا بدّ من الإفصاح هاهنا عن تتميم هذا المساق والإبانة عن الجهات الارتباطيّة التي بها يتكلَّم لسانه هذا في وجوه تأويله ، وذلك بأن يفهم من فرعون صورة حصّة المادّة الجنسيّة من الحيوان ، فإنّه المسمّي ما تحته ،
كما أشار إليه في تسمية موسى وامرأته التي تحته هي صورة حصّة طبيعة الفصل الذي للحيوان ، فإنّها خلقت لكمال هذه المادّة وتحصيلها مواسية لها ومساوية إيّاها ، كما أنّ مريم ابنة عمران صورة فصل الإنسان ، فإنّها ولدت من الحيوان الذي هو صورة عمران العالم ، كما ولدت منها كلمة الله عيسى ، الذي هو صورة تمام المراد .
وهاتان المرأتان في الصدر الأول هما الكاملتان باعتبار مبدئيّتهما للشعور والإشعار ، ومصدريّتهما للظهور والإظهار .


وأما وجه المناسبة : فهو أنّ الفصل مصدر حمل النوع وفصاله ، كما أنّ الجنس مبدأ تلك المادّة التي بها حمل الفصل وفصاله .
فلئن قيل : إنّ الجنس متوغَّل في بطون إبهامه وغيب غمومه ، وكذلك الفصل من حيث أنّه كلَّي ، وبيّن أنّ هذه القصص التنزيليّة إنما هي حكاية أشخاص عينيّة خارجيّة ، فكيف يتصوّر تنزيلها على الكلَّيات وتأويلها بها ؟ .
قلنا : كانّك قد اطَّلعت مما مهّدنا في الفصّ الآدمي أنّ لكل من تلك الكلَّيات من حيث طبيعتها حقيقة نوعيّة واحدة بالذات في مرتبته ، سواء
كان ذلك جنسا أو نوعا ذاتيّين ، أو عرضا وخاصّا خارجيّين بالقياس إلى الأفراد المفروضة لدى البحث - كما بيّن وجه تحقيقه في الصناعة الباحثة عنه - وتلك الحقيقة هي التي يتحصّل بها لأشخاص التي لها ، متعيّنة في الخارج ، فإنّه إذا تأمّلت في الجوهر - مثلا - صادفته عند تحصّل حقيقته النوعيّة في مرتبته التي قد علت على جملة الممكنات قد تعيّن في الخارج بصور اشخاص الملإ الأعلى ، أهل التقديس والتسبيح ، فإنّ العلويات - على تفاوت درجاتهم - أفراد حقيقته النوعيّة ، وهم الذين قابلوا آدم في الخلافة الإلهيّة.


خاصيّة الإنسان وأقسامه
ثمّ إنّه إذا تقرر هذا ، فاعلم أنّه قد ظهر لك غير مرّة أنّ الإنسان من حيث هو قابل لظهور أحكام سائر الكلَّيات بأجناسها المترتّبة ، ومصدر نفوذ آثارها ، فإنّ الإنسان صورة عين الكلّ ، فمن أفراده من ظهر بأحكام العوالي وغلب عليه آثارها الخاصّة بها ، وهم الواقفون في مواقف التسبيح والتقديس - كما وقفت عليه - ومنهم من غلب عليه أحكام الأواسط والأسافل ،
وبه قابل من غلب عليه أمر الاعتدال الإنساني والحكم الجمعيّ المضادّ لسائر الخصوصيّات من الكمّل ، الظاهرين في كلّ زمان بحسبه كفرعون فإنّه لغلبة حكم الطغيان - الذي هو مقتضى الطبيعة الحيوان ،

آخر تنزّلات تلك السلسلة - قابله موسى في أمر العبوديّة التي هي مقتضى العدالة الإنسانيّة وكذلك لكل نبيّ مقابل في مرتبته من تلك السلسلة به يظهر ، " وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ "
وتفصيل الكلام في مثل هذا المرام يقتضي مجالا آخر - يسّرنا الله لذلك .


ثمّ هاهنا نكتة إجماليّة لا يبعد أن يدرج فيه ويومي إليه ، :
وهي أنّ الأول في كل ترتيب ونظام له حكم العلوّ والشرف فيه ، كما أنّ الآخر منه له حكم الجمعيّة والكمال فالمستعدّ للظهور في كلّ نظام هو الأول منه والآخر ، وما بينهما ظهوره بحسب القرب من أحدهما والتشابه به ،
ففيما نحن فيه من السلسلة الإنبائيّة الإظهاريّة له هذا السبيل ، ومن هاهنا ترى ورود قصّة آدم وموسى في التنزيل القرآني أكثر من سائر القصص .

ثمّ إنّه لا يخفى على الواقفين بأساليب اولي الذوق ، من مستكشفي رموز التنزيل ولطائف التأويل ، أنّ تنزيل فرعون على هذا المعنى أعلى وأحكم تطبيقا من النفس الأمّارة التي هي بعض تنزّلات النفس الناطقة بعينها ، المسمّاة بالروح ، الظاهرة بالتابوت ، الذي هو الناسوت الموسوي - على ما صرّح به الشيخ .

"" أضاف المحقق :
تعريض لقول القاشاني: " على تأويل التابوت بالبدن الإنساني وموسى بالروح يأول فرعون بالنفس الأمارة والشجر بالقوة العلوية " . ""
أما الأول : فلأنّ هذه الصورة للنفس إنما هي من أحكام تلك الحصّة وآثارها الظاهرة وعينها ، فهذا المعنى أيضا مما يندرج فيما نزّلنا عليه فله العلوّ .
وأمّا الثاني : فلأنّ ما نزل عليه فرعون مما أشرنا إليه حقيقة مستقلَّة في الأثر لها سدنة خاصة وأهالي ممتازة في الوجود والأثر ، منها ما هو أقرب من الكلّ يمتزج به تحته امتزاج حمل  ويتولَّد من ذلك الامتزاج آخر من جنسه ، فهو الصالح لأن يكون مرآته إذ الآثار الإدراكيّة التي هي مبدأ الكمال ومصدر الإذعان والإيمان منها ،
كما دلّ عليه الآيات الكاشفة عنها ، وبيّن أنّ الأصول إنما يتمّ عند تطبيقها بسائر الفروع وأحكامها ، سيّما فيما نزل عليه الحقائق التنزيليّة .

ثمّ هاهنا نكتة تؤيّد ذلك التطبيق وتقرره :
 وهي أنّه قد ثبت في الميزان العقليّ أنّ الفصل له نسبتان إلى الجنس :
إحداهما تقويم أمره وتحصيل حقيقته بالامتزاج الحملي ، وهي نسبة الزوجيّة
والأخرى تقسيم تلك الحقيقة بعد الحمل والفصال إلى ما يتولَّد من ذلك الامتزاج الحملي ، وهو المعبّر عنها بنسبة البنت
وقد عرفت أيضا أنّ الخاتم صورة كماليّة الكلّ ، وشخص جمعيّة الجميع وعينه ، فجمع فيه النسبتان ضرورة .
وإلى ذلك كلَّه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم : " كملت من النساء أربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة ، وفاطمة " .

ويمكن استخراج كثير من الحقائق الجليلة عنه بهذا التطبيق فلا تغفل عنه .
ثمّ إنّ هذا على حدّ ما ذهب إليه الشيخ في سياقه هاهنا ، ويمكن تنزيل كلّ من هذه الكلمات على غير ذلك مما ينطوي عليه وعلى غيره علوا من الأصول المنبئة بحسب المؤيّدات الحكميّة والبيّنات التلويحيّة ، مما قضى الزمان به ، إن قادنا التوفيق الإلهي نتعرّض بجملة منها في مجال غير هذا إن شاء الله تعالى .

ثمّ إنّه قد علم في طيّ هذه النكت وجه قوله : ( كما قال عليه السّلام عنها حيث شهد لها ولمريم بنت عمران بالكمال الذي هو للذكران ) .
فإنّهم طرف ظهور الحقّ - على ما بيّن تحقيقه في الفصّ الأول - على ما دلّ عليه لفظ « الذكران » ، وهن طرف خفائه وستره على ما لا يخفى وقد عرفت وجه اختصاص هاتين المرأتين بالكمال بلسان هذا السياق ، فلا نعيده .


تأويل قول آسية
قال رضي الله عنه  : (فقالت لفرعون في حق موسى : إنه " قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ " فيه قرّت عينها بالكمال الذي حصل لها ، كما قلنا ) وهذا من مؤيّدات ذلك التأويل فإنّ « الكمال » هو « الكلام » تلويحا وتحقيقا ، كما عرفت غير مرّة وهو إنّما حصل لفصل الحيوان الذي هو مبدأ سائر الإدراكات بوحدانيّة الناسوت ، فهو قرّة عين له ، كما أنّه قرّة عين للحيوان ، فإنّه مبدأ إذعانه ، وكسر شكيمة عصيانه الذي هو مقتضى ذاته .


إيمان فرعون
وإليه أشار بقوله : ( وكان قرّة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله ) فإنّه حصل له الإيمان من الوهب الإلهي ، وأصل ما هو عليه إنّما هو الإباء والعصيان ،
وذلك الوهب إنّما فاز به عند إعداده المحلّ يعني ( عند الغرق ) في بحر الوحدة الإطلاقية ، باقتفائه آثار موسى ومتابعته إيّاه في الخوض فيما خاض
قال رضي الله عنه  : ( فقبضه طاهرا ) من حدث الشرك بمتابعته موسى ، ( مطهّرا ، ليس فيه شيء من الخبث ) يعني خبث الإباء والعصيان .

قال رضي الله عنه  : ( لأنّه قبضه عند إيمانه ) وإذعانه لموسى بالتزام المتابعة فدخل في الإيمان قولا وفعلا ( قبل أن يكتسب شيئا من الآثام ، و « الإسلام يجبّ ما قبله » )

""أضاف الجامع :
( الإسلام يجبّ ما قبله حقيقة وقاعدة راسخة أجمعت عليها الأمة والأئمة ، وهي متواترة في جل كتب تفاسير القرآن وكتب شراح الحديث وكتب الفقة .)
ووردت بحديث : (قد عفوت عنك، وقد أحسن الله بك حيث هداك للإسلام، والإسلام يجب ما كان قبله) . قاله لهبار بن الأسود أسلم بعد فتح مكة . أوره جمع الجوامع للسيوطي و كنز العمال للمتقي الهندي
وشاهد لها حديث :  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب، كمن لا ذنب له» رواه ابن ماجة والطبراني والبيهقي وابي نعيم في حلية الأولياء وغيرهم .
 ،وفي رواية أخرى : (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب، كمن لا ذنب له»   ثم تلا "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين")  . ""

وذلك أنه عبارة عن الدخول في الوحدة الوجوديّة الجمعيّة الكماليّة الظاهرة في كل زمان بصورة الرسول المبعوث فيه على لسان قومه ، والإذعان فيه لأحكامه ومقتضياته ، فيجبّ حينئذ حكم التفرقة العدميّة التي لذلك الشخص قبل دخوله في هذه الوحدة الوجوديّة جبّ سائر الأحكام العدميّة التي قبل هذه النشأة بالدخول فيها.
ثمّ إنّ هذا الكلام مما تفرّد به الشيخ المؤلَّف بين أئمة الإسلام ، وبذلك سار مضغة للقاصرين عن فهمه من أهل الظاهر جميعا ، وشنعة عند الذاهلين من فرق المعطَّلين كلهم ،
فتعرّض أولا لما يصلح لأن يكون حجّة للمسترشدين عليهم من النصوص التنزيليّة ،
وثانيا لما يمكن أن يدفع به ما يستدلَّون منه على عدم الاعتداد بإيمانه ذلك على قواعدهم .
فإلى الأول أشار بقوله : ( وجعله آية على عنايته سبحانه ) على ما نصّ عليه بقوله :

"فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً " فإنّه إنّما يكون آية لو كان من أهل النجاة مقبول الإيمان ، ليدلّ على أنّه عناية الحقّ غير متعلَّقة بطاعة العبد وعصيانه ، فإنّ ذلك ( لمن يشاء ، حتى لا ييأس أحد من رحمة الله ، فإنّه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون ) وفي هذا الحصر دلالة على عدم دخول فرعون فيهم ، فإنّه ما ييأس من رحمة الله ، ( فلو كان فرعون ممن ييأس ما بادر إلى الإيمان ) .

فعلم إن إيمانه هذا ليس إيمان الغرغرة عند اليأس - على ما ذهب إليه الظاهريون - كما يتّفق للكافرين عند ظهور أحكام الدار الآخرة عليهم ، بعد تعطيل قواهم الحسيّة ، فإنّ ذلك عند اليأس ، وهو الذي لا يعتبر شرعا وأمّا فرعون فهو على ثقة من النجاة بإيمانه ، لما رأى طريقا واضحا في البحر يختصّ بالمؤمنين من بني إسرائيل ممّن تابع موسى ، وبيّن أنّ التجربة إذا شوهدت مكرّرة مما يفيد اليقين ، فهو على يقين من نجاته ، فضلا عن أنّه ييأس منها .

قال رضي الله عنه  : ( فكان موسى كما قالت امرأة فرعون فيه ) منطقا بالنطق الإلهي  :(إنّه " قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ " ، " عَسى أَنْ يَنْفَعَنا "  وكذلك وقع ، فإنّ الله نفعهما به ، وإن كانا ما شعرا بأنّه النبيّ الذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون وهلاك آله ) .

ردّ موسى إلى امّه
( ولما عصمه الله من فرعون ) وإجراء أحكامه الخاصّة به عليه ، من الانقهار تحت ظلمته الطبيعيّة وإبادة ما عليه جبلَّة موسى من الأنوار الكماليّة العلميّة ( " أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى " ) التي ألقاه في التابوت ، فألقاه في اليمّ - ( " فارِغاً "  من الهمّ ) مطلقا ، عن الهويّات المقيّدة له من ( الذي كان قد أصابها ) قبل ، فما تقيّد بشيء ممّا كان مقيّدا به قبل تلك العصمة ، فتأكَّد بهذه الفراغة والإطلاق الباطني رقيقة النسبة بينها وبين ابنها .

وقد عرفت أنّ امّ موسى هي عبارة في سياقه هذا عن الصورة الفصليّة التي بحملها وفصالها تتحقّق الحقيقة الكليميّة ، وذلك مبدأ صنوف الكمالات العلميّة ومولد جملة اللطائف الإدراكيّة ، فمن أفراد تلك الحقيقة الكماليّة من اغتذى عند الرضاع بغير ما أرضعته امّه التي منها فصاله ، وذلك من جهة تقيّد قابليّته وعدم فراغ امّه فممّا اختصّ به موسى فراغها وإطلاقها الذي به كملت النسبة بينها وبين ابنها .

قال رضي الله عنه  : ( ثمّ إنّ الله حرّم عليه المراضع حتى أقبل على ثدي أمّه ، فأرضعته ، ليكمّل الله لها سرورها به ) وانبساطها منه ، حتى يظهر به سائر الحقائق العلميّة من المعارف الإلهيّة .

 
الشرائع
قال رضي الله عنه  : ( كذلك علم الشرايع ) الكاشفة عن أصل الأمر كلَّه ، فإنّه يبيّن أحكام أفعال الإنسان الذي هو الآخر في تنزّلات الوجود ونهايتها ، وقد عرفت مرارا أنّ الأول هو الآخر عينا ، والنهاية هو البداية حكما ، ( كما قال : " لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً " ) أي طريقا نشأ منكم (" وَمِنْهاجاً " أي من تلك الطريقة جاء ) الكل ، ( فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الذي جاء منه )


الكل ، يعني القابليّة الأولى التي هي الامّ ، ومنها يغتذي الجميع وبها يقوم أمرهم ( فهو غذاؤه ، كما أنّ فرع الشجرة لا يتغذّى إلا من أصله ) ، وهو مزاج واحد لا اختلاف فيه أصلا ، فالاختلاف إنّما ظهر بالمغتذي عند تفنّن مقتضياته وتشعّب جهات وجهته وطرق نباته ، ( فما كان حراما في شرع يكون حلالا في شرع آخر يعني في الصورة ) التي هي ثمرة شجرة الظهور ، وأنهى ما يتفرّع على الأصل من فنون مراتبه وصنوف تنوّعاته .

وبيّن أن الأحكام الشرعيّة لا تظهر لها صورة محسوسة إلَّا في مرتبة الكلام ، فقال مفصحا عنه : ( أعني قولي يكون حلالا ) والفعل الذي هو معروض الحلَّية التي ظهرت بهذا القول في زمانه ، غير ما هو معروض الحرمة فيما قبله منه ، كحرمة الجمع بين الأختين مثلا في شرعنا فإنّ تزويجهما في الشرائع المتقدمة كان حلالا، والأختان في تلك الشرائع غير الأختين في شريعتنا .

وبيّن أنّ الفعل - أعني التزويج - وإن كان واحدا في الصورتين صدقا ومفهوما ، ( و ) لكن ( في نفس الأمر ما هو عين ما مضى ، لأنّ الأمر خلق جديد فلا تكرار ) في الوجود أصلا ، كما سبق بيانه .


فعلم بذلك أنّ الغذاء له الوحدة الأصليّة ، وإن اختلفت الصور من المغتذي بحسب اختلاف الأزمنة وتباين مقتضياتها ، فإن نشوء كلّ أحد إنّما يتصوّر أن يكون مما حضر في وقته ، فلا يغتذي إلا من طرّيات لحوم زمانه ، ولا يحتظي إلا بيوانع أثمار أوانه ، وأما الاغتذاء من الأصل والارتضاع من امّ الولادة فليس حدّ كلّ أحد ( فلهذا نبّهناك ) على اختصاص موسى بذلك .


الأمّ من أرضعت ، لا من ولدت
قال رضي الله عنه  : ( وكنّى عن هذا ) الاختصاص ( في حق موسى بتحريم المراضع ، فامّه ) التي فرغ فؤادها له ( على الحقيقة من أرضعته ، لا من ولَّدته ، فإنّ امّ الولادة حملته على جهة الأمانة ، فتكوّن فيها ) بدون جعل منها ( وتغذّى بدم طمثها من غير إرادة لها في ذلك ، حتى لا يكون لها عليه امتنان ، فإنّه ما تغذّى إلا بما لو لم يتغذّ به ولم يخرج عنها ذلك الدم لأهلكها وأمرضها فللجنين المنّة على امّه بكونه تغذّى بذلك الدم ، فوقاها بنفسه من الضرر الذي كانت تجده ، لو امتسك ذلك الدم عندها ولا يخرج ولا يتغذّى بها جنينها والمرضعة ليست كذلك ، فإنّها قصدت برضاعته حياته وإبقاءه ) .

تأويل الإيلاد والرضاع
ثمّ إنّ هاتين المدرجتين من الامّ في تربية الولد ، يمكن تطبيقها على ما نزلت عليه وأولت به من الحصّة الكماليّة المذكورة ، التي عبّر عن باطنها بالعلم ، وعن ظاهرها بالنطق ،
وذلك في الإنسان هي خصوصيّته المنفرد هو بها وذلك أنّ لها مرتبتين في تربية الحقيقة النوعيّة المتولَّدة عنها ، إحداهما عند حملها في بطون العقل إيّاه بتقويم مفهومه الحدّي العقلي وسائر ما يلزمه من النسب الاعتباريّة

التي لا تزال في بطون العقل مقصورا بها ، وبيّن أنّ ذلك التقويم والتصوير من فضلات تلك الحصّة الكماليّة ، حيث أنّها لو لم تصدق على الجنين العقلي وتتّحد بها لأهلكت تلك الطبيعة وبطلت عن وحدتها الوجوديّة ،
وذلك التقويم والاغتذاء إنما هو في العقل من غير اختيار لتلك الحصّة فيه ، فإنّ ذلك قبل ظهورها في العين ،
والأخرى عند فصالها في الأفراد الخارجيّة التي لذلك النوع ، بتكميل تلك الحصّة في عينها إيّاها ، وإظهار آثارها الكماليّة فيها من العلم الذي هو الحياة الحقيقة والبقاء السرمدي ، كما أشار إليه في تربية المرضعة .

ثمّ إنّ الارتضاع من هذه الحصّة الكماليّة التي هي خصوصيّة هذا النوع وهو عبارة عن الاغتذاء بلبن العلم الجمعيّ القلبىّ ، الذي هو مؤدّى النطق الإنساني قلَّما يهتدي إليه الأولاد من أفراده ، ضرورة أنّ ذلك مما تفرّد به واحد بعد واحد من الكمّل فإنّ العامّة من أفراد هذا النوع يرتضعون بغير زوجة هذا النوع التي هي امّ الولادة لهم ،

فإنّهم إنّما يغتذون في مهد قبولهم باللذات الجسمانيّة وما يترتّب عليها في مداركهم الجزئيّة في طائفة ، وباللذات الروحانيّة وما يترتّب عليها في مداركهم الكليّة في أخرى وبيّن أنّ ذينك الغذائين لا يستفاضان من امّ ولادتهم - أعني النطق الإنساني والعلم الجمعي - بل من امّهات أخر أجنبيّات .

قال رضي الله عنه  : ( فجعل الله ذلك ) الرضاع ( لموسى في امّ ولادته ، فلم يكن لامرأة عليه فضل إلَّا لامّ ولادته ، لتقرّ عينها أيضا ) - كما قرّت عين فرعون وامرأته  

 

( بتربيته ) هذا عند ظهور آثارها به في العين ، ( وتشاهد انتشاه في حجرها ) ، أي عند عروجه في مراقي أمر الإظهار أيضا يشاهد امّه أنّه في طيّ تربيتها وحجر اصطناعها ، فتنبسط به ( " وَلا تَحْزَنَ " ) ومن ثمة اختصّ بكمال الصورة الكليميّة ، ( ونجّاه الله من غمّ التابوت ) المادّة الجسميّة ، ( فخرق ظلمة الطبيعة بما أعطاه الله ) عند فوزه برتبة الكمال الكليمي ( من العلم الإلهي وإن لم يخرج عنها ) بحسب تعيّنه الجسديّ .
فنبّه بهذا أنّ العروج في معراج الكمالات إنما هو بالعلم والخلاص من ظلمات المراتب الطبيعيّة الكونيّة لا يتحقّق إلَّا به .

 
قتل القبطي وتأويله
قال رضي الله عنه  : ( وفتّنه فتونا - أي اختبره في مواطن كثيرة ) ظلمانيّة عند مقابلة فرعون ، ونورانيّة عند مصاحبة خضر ، ( ليتحقّق في نفسه صبره على ما ابتلاه الله به فأوّل ما ابتلاه الله به قتله القبطيّ بما ألهمه الله ووفّقه له ووقى شرّه ) عند النهوض بمقابلته ، والقبط على طبق ما ذكر من التأويل كناية عن الشركة التطبيقيّة التي من قبل المادّة الجنسيّة .

وفي بعض النسخ : « ووفّقه له في سرّه » - ( وإن لم يعلم له بذلك ) الإلهام والتوفيق ، ( ولكن ) يظهر أثره عنده ، وهو أنّه ( لا يجد في نفسه اكتراثا بقتله ، مع كونه ما توقّف حتى يأتيه أمر ربّه بذلك ) الفعل ، كما هو دأب النبوّة .
وذلك كلَّه ( لأنّ النبي معصوم الباطن ) في نفسه ( من حيث لا يشعر حتى ينبّأ أي يخبر بذلك ولهذا أراه الخضر ) عندما قصد تنبيهه على ما ذهل عنه من العلوم المخزونة فيه .


قال رضي الله عنه  : ( قتل الغلام ، فأنكر عليه قتله ولم يتذكَّر قتله القبطيّ ، فقال له الخضر : " ما فَعَلْتُه ُ عَنْ أَمْرِي " ، ينبّهه على مرتبته قبل أن ينبّأ : إنّه كان معصوم الحركة في نفس الأمر وإن لم يشعر بذلك ) وإنّه ما فعل ذلك عن أمره .
وقدّم هذا التنبيه لعظم شأنه وظهور آثاره على موسى ، وكمال نبوّته واختباره به ، وإلَّا فالمقدّم وجودا وذكرا أمر السفينة .

 
تأويل خرق السفينة
قال رضي الله عنه  : ( وأراه أيضا خرق السفينة ، التي ظاهرها هلك وباطنها نجاة من يد الغاصب ) الذي يتصرّف فيما لغيره أن يتصرّف فيه ويفسده عن مزاجه المتوجّه نحو غايته المقصودة منه ، ( جعل له ذلك في مقابلة التابوت الذي كان في اليمّ مطبقا عليه ) فإنّ إلقاء الشخص في التابوت المطبق عليه ( ظاهره هلاك وباطنه نجاة ، وإنّما فعلت به امّه ذلك خوفا من يد الغاصب) .
أي القوّة الحيوانيّة المتفرّعة عن أصل الحيّ ، الطاغية عليه ، وهي التي عبّر عن مبدئها باسم ( فرعون ) لما يدلّ عليه مادّة كلمته من الفرع الفرقي الرفيع والعرف الظاهر الكوني ، ظاهرة بالواو والنون ، الذين من أبين دلائل التفرقة والكون ، ولذلك تراها في لغة العرب ، المعرب علامة الجمع .


الجنس السافل أجمع للكثرة 
ثمّ هاهنا نكتة حكمية لها كثير دخل فيما نحن بصدده ، وهي أنّ سلطان التفرقة إنّما استقرّت على سرير خلافته في الجنس السافل وطبيعته ، فإنّ غيره من الأجناس وإن كان أعم مفهوما وأشمل أفرادا ،
ولكن تخالف حقائق الأفراد وتباين أحكامها المتباعدة عن ربط الوحدة فيه أشدّ تضادا وأظهر حكما وبيّن أنّ ذلك التخالف والتبائن هو مرقى ظهور التفرقة الإمكانيّة ، ومستوى حكم الكثرة الكونيّة فالجنس السافل أجمع لوجوه الكثرة والأحكام الكونيّة من الكل ، ولذلك ترى حقيقته منطوية على حقائق العوالي كلها.
فإذا عرفت هذا وجدت المطابقة الطبيعيّة بين ذلك الاسم وهذا المعنى بما لا مزيد عليه .


مقتضى الكلمة الموسوية طرف العلو
ثمّ إنّه إنّما وقع التطبيق في القصّة الموسويّة بلسان أهل النظر ، وظهرت الكلمات المنزلة فيها بصور أصول الحكمة النظريّة كما عرفت لأنّ مقتضى الكلمة الكاملة الموسويّة طرف الظهور والعلو من كل مسلك وموطن ،
ومن ثمّة تراه قد طلب في موطن الشعور ومرتبة الظهور الرؤية التي هي أجلى المحسوسات وأعلاها قدرا في أمر الظهور ،
وفي موطن الإشعار ومرتبة الإظهار فاز برتبة الكليميّة التي أنهى غايات كماله ، وذروة شاهق جلاله ، وفي موطن الإنباء ومرتبة الرسالة بإنزال كتاب التوراة المشحونة بالقصص والأحكام ، المشتمل صورتها التلويحية على مادّة الرؤية ، محفوفة بتاء التفصيل والتبيين .

فكذلك في أمر تبيين الحقائق ، فإنّه ظهر فيه بما هو أبين أطرافه ، وهو مدرك القوّة النظريّة العقليّة التي تشترك فيها العامّة من أهل الظاهر ، ولذلك سلك فرعون عند مناظرته إيّاه وسؤاله عنه حقيقة الحقّ مسلكهم في إيراد " مطلب ما " في مطلع استكشافه - كما ستقف عليه - وكان اللسان المتداول والعلم المتناول بينهم في زمانهم هو الحكمة بهذه الصورة " وَما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِه ِ " .

كل حكم ولازم لا بد له من صورتين عدميّة ووجوديّة
ثم إنّ كل حكم ولازم ظهر - في أيّ مرتبة كانت لا بدّ له من الصورتين :
إحداهما عدميّة كونيّة من نفس المرتبة التي هي الظاهرة منها ،
وأخرى وجوديّة من أصل حقيقتها وكذلك ما هو مبدأ فعل امّ موسى به ، له فيها صورة ظاهرة عدميّة ، وهي الخوف من يد الغاصب ( أن يذبحه صبرا ، وهي تنظر إليه ) أي بمحضر منها ، فإنّ هذه الصورة هي أشدّ ما يكون تأثيرا في الامّ ونكاية لها ، والذبح صبرا هو أن يحبس ذو روح لأن يرمى عليه لقتله .

وفيه إشارة إلى ما بين تلك المادّة وبين اللطيفة الإنسانيّة من البعد الرتبي وقصدها بتوجيه سهام القوى واقتضاءاتها المتفرّقة المفرّقة نحوها ، وهي المهلكة لها عن صورتها الجمعيّة الكماليّة اللطيفة ، من غير ضعف ونقصان للقابل ، بل بقهر من الفاعل ، وهو المعبّر عنه بالذبح .

وإلى الصورة الأخرى الوجوديّة التي للمبدإ أشار بقوله : ( مع الوحي الذي ألهمها الله به من حيث لا تشعر ) ، فإنّه طرف خفاء ذلك المبدء ، ( فوجدت ) من حيث هذه الصورة الوجوديّة الأصليّة التي لها ( في نفسها أنّها ترضعه فإذا خافت عليه ) من حيث سريان الصورة الأخرى فيها ( ألقته في اليمّ ) ، يعني طرف المدارك المتفرقة الجسمانيّة ، ليغيب عن نظرها فيخفّ نكايته عليها ( لأنّ في المثل : « عين لا ترى ، قلب لا يفجع » ) أي لا توجع ، من أفجعته المصيبة :  إذا أوجعته .

قال رضي الله عنه  : ( فلم تخف عليه خوف مشاهدة عين ) هذا عند النظر وقبله ، ( ولا حزنت عليه ) بعد ذلك ( حزن رؤية بصر ) ولتقدم الخوف على الحزن في الوجود والرتبة - جارحة ومدركا - تقدّم الأصل على فرعه خصّ كلا منهما بمحله المرتّب ذلك الترتيب .

ثم إنّه من مقتضى غلبة الصورة الوجوديّة على باطنها ظهر عليها ( وغلب على ظنّها أنّ الله ربما ردّه إليها بحسن ظنها به ، فعاشت بهذا الظن في نفسها والرجاء ) الذي من أثر ذلك المبدء الوجودي ( يقابل الخوف واليأس ) الذي هو مبدأ الحزن ، مقابلة الرسول فرعون والقبط وغلب حكم هذا الرجاء حتى ظهر أمره في الكلام .

قال رضي الله عنه  : ( فقالت حين ألهمت لذلك : لعل هذا هو الرسول الذي يهلك فرعون والقبط على يده ، فعاشت وسرّت بهذا التوهم والظنّ )
اللذين هما مبدأ الحزن والخوف العدميين ، الحاصلين بالنظر إلى المظهر الكوني ، ولذلك قال : ( بالنظر إليها ) .


وأمّا من حيث الأمر الوجودي ( فهو علم في نفس الأمر ) ، وهذا كلَّه ظهر من الامّ التي هي الخصوصيّة الكماليّة التي للنوع الحقيقيّ الكماليّ وقد عرفت أنّ تلك الخصوصيّة هي أحديّة الجمعيّة ، فيصلح لأن يكون مولدا للكل كما نبّه إليه .

 
الحركة الحبّية
قال رضي الله عنه  : ( ثمّ إنّه ) سرت خصوصيّات الامّ في ولدها وخلفها الحقّ ، ولذلك ( لما وقع عليه الطلب خرج فارّا خوفا في الظاهر ، وكان في المعنى حبّا في النجاة ، فإنّ الحركة أبدا إنّما هي حبّية ، ويحجب الناظر فيها بأسباب أخر ) عدميّة قريبة إلى الصورة الكونيّة ، لكونه محجوبا بها ،

قال رضي الله عنه  : ( وليست ) الأسباب في الحقيقة ( تلك ) الأمور ، ( وذلك لأنّ الأصل ) في سائر الحركات ( حركة العالم من العدم الذي كان ساكنا فيه ) إلى العدم الإضافي الذي له بالقياس إلى كونه عالما ، وهو المسمّى بالثبوت ، فإنّه ينتقل عين العالم منه ( إلى الوجود ، ولذلك يقال : إنّ الأمر حركة عن سكون فكانت الحركة - التي هي وجود العالم - حركة حبّ ) يعني الحياة والبقاء ، كما يلوّح عليهما بحرفيه .


قال رضي الله عنه  : (وقد نبّه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على ذلك بقوله : « كنت كنزا لم أعرف ، فأحببت أن اعرف » ) أي أظهر ، ( فلو لا هذه المحبّة ما ظهر العالم في عينه ، فحركته من العدم إلى الوجود حركة حبّ الموجد لذلك ) .



هذا بلسان الإجمال ، وأما لسان التفصيل : فأشار إليه بقوله رضي الله عنه  : ( ولأنّ العالم أيضا يحبّ شهود نفسه وجودا ، كما شهدها ثبوتا ) في الحضرات الجلائيّة ( فكانت بكلّ وجه حركته من العدم الثبوتيّ إلى الوجود حركة حبّ من جانب الحقّ و ) من ( جانبه فإنّ الكمال محبوب لذاته ) وساير ما ينسب إليه المحبّة فلاشتماله على الكمال كالحسن - مثلا - فإنّه كمال النسبة الاعتداليّة التي هي ظلّ الوحدة ، وكذلك كلّ ما يميل إليه القلب من المستلذّات الجسمانيّة فإنّه كمال تلك القوة المدركة لتلك اللذة فإنّ الكمال هو الظهور على نفسه بصورته الكلَّية العلميّة والجزئيّة الحسيّة .

علمه تعالى مبدأ وجود الخلق
قال رضي الله عنه  : ( وعلمه تعالى بنفسه من حيث هو غنيّ عن العالمين ، هو ) الظهور الكمالي الذي ( له ) لذاته ، وهو الذي يقال له الكمال الذاتي وبيّن أنّ الكمال الإلهي أعمّ من الذاتي والأسمائي ، إذ له الكمال على الإطلاق .

فإلى الأسمائيّ منه أشار بقوله : ( وما بقي ) له ( الإتمام مرتبة العلم بالعلم الحادث الذي يكون من هذه الأعيان ، أعيان العالم ) الظاهرة بصورة الآثار من كلّ اسم ، كالعلم مثلا ، فإنّه ظاهر بصورة الكلام الذي هو أثره ، والحياة فإنّها ظاهرة بصورة الحسّ والحركة الإراديّة التي هي أثرها وكذا في سائر الأسماء .


وكأنّك قد عرفت أنّه كما أنّ في الأعيان آثارا من الأسماء - كما بيّن - كذلك في الأسماء آثارا من الأعيان ، وهي اتّصافها بالحدوث وذلك لأنّ الأعيان


قال رضي الله عنه  : (إذا وجدت ) حكمت على علمها بالحدوث ، ( فتظهر صورة الكمال بالعلم المحدث والقديم ، فتكمل مرتبة العلم بالوجهين ) وكذا غيره من الأسماء ( وكذلك تكمل مراتب الوجود ) وإذ كان الوجود أصل الكلّ فمرتبة كل اسم هي مرتبة الوجود ، نبّه إلى تلك الدقيقة بصيغة الجمع .

قال رضي الله عنه  : ( فإنّ الوجود منه أزليّ ، وغير أزليّ وهو الحادث : فالأزلي وجود الحقّ لنفسه ) وعليه يطلق الكمال الذاتي ، ويلزمه الغناء المطلق من حيث علمه بنفسه فإنّه به مستغن عن العالم .

 

قال رضي الله عنه  : ( وغير الأزلي وجود الحقّ بصور العالم الثابت ) في المراتب الجلائيّة ، القديم بذلك الوجه إلَّا أنّ العالم بذلك الوجه له الخفاء من حيثيّة العالم ، ولذلك ما كانت أعيانه ظاهرة بصورها لنفسها ولا بعضها للبعض ، فإنّه إنما يتحقّق له ذلك في الوجود الذي له بحقّ الوهب من حضرة الجود ، ويستقلّ كل من تلك الأعيان به ظهورا وإظهارا فتحدث النسب الإدراكية التي بعضها للبعض .

وإليه أشار بقوله : ( فيسمّى حدوثا ، لأنّه ظهر بعضه لبعضه ) في أعيان العالم ، ( فظهر لنفسه ) من حيث تلك الأعيان ( بصور العالم ) ، كما ظهر لها بصورته ، ( فكمل الوجود ) بصورتيه وظهوريه .

قال رضي الله عنه  : ( فكانت حركة العالم حبّية للكمال ) الأسمائي الذي هو عبارة عن ظهور الأعيان بعضها للبعض ، ولنفسها جملة وفرادى ، وتفرقة وجمعا ( فافهم ) بل الحركة مطلقا سواء كان للعالم أو للحضرات كلها حبّية .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: