لو كنتُ واحداً من الذين وضعوا كتاباً رائعاً قرأه معظمُنا في شبابه وكان تحت عنوان ( اللهُ يتجلّى في عصر العلم )، لوضعت ُالمشاعر والأحاسيسَ وتشابكاتها المعقدة مع الذاكرة والعقل والجَمال والطباع كواحدة من معجزات خالق الكون جلّ شأنه.
جهاز استقبال تم صُنعه بعناية ربّانية ويعمل بكفاءة عشرين ضعفا من مليارات الخلايا التي يتركب منها ذلك الجسد المعجزة والذي نفخ الله تعالى فيه من روحه وطلب من الملائكة أن يسجدوا له، ولكن تقديرا لهذا العمل البديع رغم اصرار كثيرين من نسل آدم أن يكونوا في أسفل السافلين.
يجتهد كثيرون من المسلمين في تفريغ كل مَوَاطن الجَمال داخل النفس، بل وارجاع أسباب هذا الهدم إلى أوامر الله، عز وجل، وتأتي الموسيقى والغناء في مقدمة الأعداء لأعداء الجَمال!
تراثٌ للانسانية على مدى مئات السنين، يشترك فيه البشر ولو تخاصموا وتقاتلوا وتذابحوا بينهم فإن الموسيقى والغناء قادرة على التسلل جهرا أو خفية، وهي لا تحمل شِعارا دينيا أو طائفيا أو معاديا، وترحل بدون حدود، وتبقى آمنة وادعةً في أرَقّ مَوَاطن عمق النفس البشرية تحاول أن تستميل الطباع إلى السلام، فتفشل أحيانا وتنجح في أحايين كثيرة.
تستدر دمعتين تنزلقان على الوجه فلا تعرف لهما سبباً، ولا تَدُلّ على ضعف لكن نقاء جهاز عصبي يستطيع أن يتعرف على أعمال جدية ومبدعة تضيف إلى تراث الانسانية ما يزيده ثراءً.
المرة الأولى التي استمعتُ فيها إلى المطربة اليونانية فيكي لياندروس كانت في أوائل السبعينيات عندما غنت ضد الحكم العسكري الديكتاتوري ( دَعّ شعبي يمر ) فأحسست أنها صرخة في وجه كل طغاة الأرض وأحذية العسكر، وعندما زرتُ أثينا بعدها بأكثر من عشرين عاما بحثت عن تلك الأغنية فلم أجدها، وقال لي رجل يوناني متقدم في العمر بأنَّ تلك الأغنية كانت أحد أسباب الثورة والتمرد ضد الحكم الديكتاتوري.
تراثٌ يحتضنك أينما كنتَ، ويعرف طريقه إلى جهاز استقبالك العاطفي، وقد يستأذنك أو يدخل عُنوة حتى لو كان بينك وبين موطنه الأصلي بُعْدُ المشرقين.
لازلت أحتفظ بمجموعة من أغنيات تيريزا تنج الصينية ولا أفهم كلمة واحدة منها لكنني تأثرت وقتها بصوتها الرخيم الرائع، وأول أمس أعطاني صديق ألماني مجموعةً من أغاني مطربة فنلندية تغني باللغة السويدية فتقرع جنبات النفس كأنها تغني لمستمعها بصفة شخصية في مكان منعزل لا يعرفه غيرهما.
مَنْ يستطيع أن يقول بأن هناك جنسية وجواز سفر وتأشيرة دخول أي مكان في العالم لكونسرتو بيانو الخامس لبيتهوفن أو الفصول الأربعة لفيفالدي أو العالم الجديد لدفورجاك أو بير جينت للنرويجي ادفارد جريج؟
عندما أصغي السمعَ لأغنية ( الاسكندرية ) لجورج موستاكي وهو يحكي عن طفولته في تلك المدينة الكوزموبوليتانية التي كان ثلثُ سكانها في أوائل القرن الماضي من اليونان وايطاليا وفرنسا أشعر بحنين جارف لمسقط رأسي وأراها لا تختلف عن الاسكندرية بصوت الشيخ إمام أو كلود فرانسوا أو وصفها بقلم إدوارد الخراط أو كاميرا يوسف شاهين.
المرة الأولى التي استمعتُ فيها إلى ( حديث الروح ) للشاعر الباكستاني المجدد محمد إقبال كنت في العشرين من عمري ، وغنتها أم كلثوم وحَلّقَ لحنُ السنباطي في السماء قبل أن يهبط علينا بتلك الكلمات الرائعة ( أمسيتُ في الماضي أعيش كأنما .. قطع الزمان طريق أمسي عن غد .. ) .
وتستطيع هذه الأغنية أن تفعل مثل الروائح التي تظل حاضرة في الذاكرة، وكلما اقتربت من الأنف رائحةٌ مثلها استدعت كل المكان والزمان والأشخاص والألوان والأحباب وكل ما أحاط بنا في تلك اللحظة التي فتح الوجدان خلالها أوسع أبوابه لذلك النغم.
فتحملني الأغنية معها في ( المعَدّية ) من بورسعيد إلى بورفؤاد حينما استمعت إليها أول مرة منذ أربعين عاما أو أقل.
والنغم ليس مرتبطا بالضرورة كما يروّج خصومه بفسق وفجور ولهو، لكنه لغة العواطف كما تدخل الثقافة إلى العقل فإن الموسيقى والغناء تلمس الروح دون أن يعرف صاحبها عن كنهها شيئا.
تنقلني ( أهل الهوى ) و ( سهران لوحدي ) دون غيرهما لأدق تفاصيل فترة طويلة من طفولتي ومقتبل شبابي، وعندما كنت أطل من منزلنا فتناديني جارتي في البيت المجاور قُبيل الفجر قائلة إن أباها يريدني أن اصطحبه إلى صلاة الفجر.
كان والدها الشيخ علي حلمي إمام مسجد البوصيري، وكان رحمه الله، كفيفاً، فأسير معه، وأستمع إليه، ويُصَحّح لغتي، وأقرأ له بين ألفينة والأخرى. ينتهي من صلاة الفجر، ونعود أدراجنا على مَهَلٍ وهو يتأبط ذراعي، وتهب نسمةٌ رقيقة تحمل معها ملوحة الميناء الشرقي في الأنفوشي فتُنعش الوجهَ وتقاومها رغبةٌ في النوم ساعتين قبل الذهاب إلى المدرسة.
كنوز البشرية التي أبدعتها معجزة ذلك السر الرهيب الذي أودعه الخالق الرحمن الرحيم فسميناها مشاعر وعواطف ووجدان وفؤاد وقلب، لكنها تتجمع كلها عند مصب الحب في أنظف وأطهر وأرق مكان داخل النفس الانسانية.
من الذي يحاول تفريغ النفس وإفقارها والقاءَ كنوز احتفظتْ بها في عالم النسيان بحجة أنها أوامر إلهية وأن الموسيقى حرام، وأن الصوت عورة، وأن الدين مناهض للابداع الجمالي الذي يمثله النغم؟
هل يقف المسلم يوم لا ينفع مال ولا بنون أمام رب العزة فيسأله العزيز الوهاب عن ذنوبه عندما استمع إلى ( وطني حبيبي الوطن الأكبر ) و( النهر الخالد) و ( زهرة المدائن ) و ( وهمسة حائرة ) و ( كونسرتو بيانو رقم واحد لتشايكوفسكي ) و ( السيمفونية الأربعين لموتسارت) و عزف منفرد على العود لأيوب طارش وأمستردام للبلجيكي جاك بريل وليه يا بنفسج لصالح عبد الحيّ؟
ما هو وجه التعارض والتناقض والتضاد في أن تقرأ آيات من كتاب الله ثم تستمع بعدها إلى عبد الحليم حافظ أو لطفي بوشناق أو ميري ماتيو أو إديت بياف أو عبد الله الرويشيد أو صباح فخري ؟
هل ستُحْسَب عليك في ميزان سيئاتك تلك اللحظات الروحية المؤثرة التي تحمل معها ( حَبْلَ السُرّة ) بعدما ظننت أنه فَصَلَك عن والدتك، فتستمع إلى ( ست الحبايب ) تغنيها فايزة أحمد، وتبتسم لك أمُك ولو كانت على مبعدة ألف ميل أو حتى في قبرها الطاهر( أنام وتسهري، وتباتي تفكري، وتصحي من الآذان وتقومي تشقري)، ثم تكتشف فجأة أن صوت المرأة عورة، وأن الموسيقى حرام، وأن الغناء هو صوت الشيطان!
منقول ... من أحد المنتديات