بسم الله الرحمن الرحيم
ويقول رضي الله عنه : ستر أنوار السرائر بكثائف الظواهر إجلالا لها أن تبتذل بوجود الإظهار وان ينادى عليها بلسان الاشتهار.
قلت (والكلام لابن عجيبة) : أنوار السرائر هي العلوم اللدنية والمعارف الربانية ويجمعها علم الربوبية الذي يجب كتمه عن غير اهله ومن أباحه أبيح دمه وهو الذي قتل بسببه الحلاج ، وكثائف الظواهر هي البشرية الظاهرة ، أو تقول أنوار السرائر هي الحرية الباطنية وكثائف الظواهر هي العبودية الظاهرية ، أو تقول أنوار السرائر هي علم القدرة الباطنية وكثائف الظواهر هي علم الحكمة الظاهرة فأنوار السرائر معان لطيفة رقيقة سترها الله تعالى بالكثائف الظاهرة ولذلك وقع الإنكار على أهلها قديما وحديثا حتى قال الكفار مالهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق وقالوا ما هذا إلا بشر مثلكم ووقوع الانكار على اولياء الله سنة ماضية وحكمة ذلك إجلال وتعظيم لها أن تبتذل وتظهر بوجود الإظهار وأن ينادى عليها بلسان الاشتهار فلا يبقى لها سر ولاعز ولهذا طلب الأولياء بالخمول واستعمال الخراب والتلبيس ، قال الششتري :
إذا رأيت الوجود ***قد لاح في ذاتك
هودس ولازم الجحود ***ذاتك صفاتك
واضرب بترسك ال ***عقود وألق عصاتك
والتهودس التحمق والترس مايستر به الانسان مواقع النبل ، والمراد بالعقود العلائق والشواغل أي اضرب بسيف عزمك علائقك وعوائقك ، وإلقاء العصي كناية عن طرح كل ما يستند اليه أو يعتمد عليه من أصحاب أو أحباب أو أسباب أو حول أو قوة أو غير ذلك مما يقع الركون اليه، ويحتمل ان يكون يريد بأنوار السرائر معاني الصفات السارية في الذات وبكثائف الظواهر المحسوسات الظاهرة فلا ظهور للصفات الا بالذوات الحسية ولا قيام للذوات الا بالصفات فستر الله سبحانه صفاته الأزلية اللطيفة بظهور الذوات البشرية الكثيفة صونا لسر الربوبية أن يبتذل بالإظهار أو ينادى عليه بلسان الاشتهار.
والحاصل أن الاشياء كلها قائمة بين ذات وصفات ، بين حس ومعنى ، بين قدرة وحكمة ، فستر الحق سبحانه معاني أسرار الذات اللطيفة بظهور الذوات الكثيفة وستر المعنى اللطيف بالحس الكثيف وستر القدرة بالحكمة والكل من الله والى الله ولا موجود سواه ، وهذه الكثائف الظاهرة هي أردية وقمص للمعاني اللطيفة ، أم تقول هي رداء الصون الذي نشر على الكون ، فإذا انهتك الرداء او قطع بقي المعنى سالما ، فالتصرفات القهرية إنما تجر الأردية والستور دون المعانى والنور فالحق منزه ومقدس ان يلحقه ما يلحق العبد ، فلنكف عن طلب المزيد والعجز عن الإدراك من وصف العبيد ، وقد مثلوا أيضا كمون المعاني اللطيفة في الاشباح الكثيفة بالحبوب اليابسة في الأغصان الرطبة فهي كامنة مستترة فاذا نزل المطر اخضرت الأشجار وأخرجت الثمار التي كانت كامنة فيها والى هذا المعنى أشار ابن البناء في مباحثه الاصلية حيث قال :
وهي من النفوس في كمون *** كما يكون الحب في الغصون
حتى إذا أرعدت الرعود *** وانسكب الماء ولان العود
وجال في أغصانها الرياح***فعندها يرتقب اللقاح
وبالله التوفيق.