مراتب المرشدين عند ظهور حضرة الرسول الأعظم
يمكن تقسيم مراتب المرشدين في زمن ظهور حضرة الرسول الأعظم إلى مرتبتين رئيسيتين :
أولاً : مرتبة المرشد الأعظمالمرشد الأعظم : هو من يكون مأذوناً من الله تعالى بالدعوة ، يقول تعالى (وَداعِياً إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنيراً )(3) ، وحقيقة هذا الإذن هي مد الله تعالى للمرشد بالقوة الروحية التي تعينه في مهمة الإرشاد ، والآية الكريمة تشير إلى ذلك ، فالمرشد المأذون ليس داعياً إلى الله فقط ، وإنما هو في نفسه سراجاً منيراً ، أي : ممداً لمن يرشده بالهمة والقوة الروحية التي تنور لبصيرته الطريق وتدفعه للسير فيه وتعينه على الاستمرار فيه والثبات عليه .. وكان هذا المرشد هو حضرة الرسول الأعظم . وبهذه القوة الروحية استطاع حضرته أن يحول قلوب رجال كانت أقسى من الصخر الصوان إلى أرق من الحرير الناعم ..
إن مرتبة الإرشاد العظمى هي مرتبة الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في كل زمن ، وهذه المرتبة قد نص عليها القرآن الكريم في قوله تعالى (ادْعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ )(4) ، فكان حضرة الرسول الأعظم هو المرشد الأعظم للناس في زمن ظهوره ، وكان يرشدهم بما يناسب كلٌ منهم بالحكمة والموعظة الحسنة .. ولكن ما هي الحكمة ؟
إنها القوة الروحية التي نزلت مع حضرته والتي تمثلت بالمعجزات المحمدية والإفاضات النورانية التي كانت تطهر القلب وتزكي النفس فتنقل الإنسان من عالم إلى عالم في اقل من طرف العين ..
ولقد امتلأ التأريخ الإسلامي بأخبار الذين أخذوا طريق الحق وآمنوا بالله ورسوله بعد رؤية أحد الخوارق الكثيرة بين يديه الكريمتين .
كما وحفل بأخبار الذين تطهرت دواخلهم وصفت قلوبهم وزكت نفوسهم على أثر لمسة من حضرته أو نظرة أو مكاشفة على ما في السر أو دعوة أو غيرها من خواصه الروحية . لقد كان مرشداً روحياً وليس مبلغاً بلسانه فقط ، وإلى هذا أشار القرآن الكريم في قوله تعالى (هُوَ الَّذي بَعَثَ في الْأُمِّيّينَ رَسولاً مِنْهُمْ يَتْلو عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ )(5) .
وأما الإرشاد بالموعظة الحسنة فلم تعهد ولن تعهد الدنيا من دعا بقوة الكلمة وأثر في قلوب سامعيه بواسطتها كما فعل حضرة الرسول الأعظم ، فكان من ثمارها الإفاضات الضخمة التي تجلت في السنة النبوية المطهرة .
لقد أشارت الآية الكريمة على أن الداعي إلى الله بإذنه هو من يملك القوة الروحيه ، ولهذا نصت على ضرورة الدعوة بها مقرونة بالموعظة ، فلم يقل الحق تعالى : ادع بالحكمة أو الموعظة بل قال : بالحكمة والموعظة أي بهما معاً . وهذه ميزة خاصة في الإرشاد ما ينالها إلا قليل .
ثانياً : مرتبة المرشد العاديلقد كان حضرة الرسول الأعظم يأمر المسلمين الأوائل من الصحابة الكرام بالإرشاد ، ليبلغوا رسالته إلى الناس ، وكان يختص بعضهم ببعض المهام كل على حسب إمكاناته .
فمنهم من أرسله ليرشد قبيلته ، كالصحابي الجليل أبو ذر الغفاري t الذي كان لا يفتأ يجهر بالدعوة إلى الله فيوجعه الكفار ضرباً حتى يفقد وعيه ، ولم يوقفه شيء إلا أن أرسله حضرة الرسول إلى قبيلته غفار التي كانت من أشرس قبائل العرب في السلب والنهب والسطو على القوافل ، فكان أن وفقه الله وهدى على يديه قبيلته وقبيلة اسلم المجاورة لهم والتي كانت لا تقل عن قبيلة غفار في القتل والنهب . ومن الصحابة المرشدين من أرسله إلى غير دياره ، كالصحابي مصعب بن عمير الذي الذي اشتهر بأنه أول سفير في الإسلام ،حيث بعثه حضرته إلى المدينة ، فكان أن وفق في إرشاده في السنة الأولى إلى عدد من رؤساء العشائر اختار منهم أثنى عشر مسلماً قدموا إلى مكة وبايعوا حضرة الرسول الأعظم سراً في العقبة ، فكانت تلك أول بيعة في الإسلام ، وبعد إتمام البيعة سما حضرة الرسول أولئك المبايعين بالنقباء ، وأعطاهم جميعاً الإذن بالإرشاد إلى طريق الحق والهدى ، فكان أن قدموا من قابل في اثنين وسبعين فارساً من فرسان المدينة وبايعوا بيعة العقبة الثانية ، وأعطوا الأذن بالإرشاد جميعهم . ومن الصحابة من اقتصر في إرشاده على نفسه وعلى أهل بيته ، كالصحابي عمار بن ياسر . ولكن ما حقيقة هذه المرتبة في الإرشاد ؟ لقد كان الإرشاد في بداية الدعوة الإسلامية متوجهاً بشكل رئيس إلى أمرين : الأول : التوحيد ، ونبذ الشرك . ومفتاح ذلك ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . الثاني : إطاعة الله ورسوله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قولاً وفعلاً . وعلى هذا فقد كانت للمرشدين واجبين : الأول : الإرشاد إلى الدخول في الإسلام . الثاني : تعليم الذين يسلمون أمور الدين . وهذا النوع من الإرشاد كان مقتصراً على التبليغ بالموعظة الحسنة ، أي بالكلمة لا بالمعجزة من قبل المرشد . بمعنى أن دور المرشد في هذه المرتبة هو دور النقل فقط دون القدرة على التأثير الروحي في المدعو إلى الإسلام أو الإيمان ، وأما في حالة حدوث خارقة أو تأثير في المدعو إلى الإسلام بين يدي المرشد العادي ، فإن هذا يرجع في حقيقة الأمر إلى قوة المرشد الأعظم الذي يمد المرشد العادي بالقوة الروحية حال الإرشاد ليس إلا . إن حقيقة التأثير النوراني لحضرة الرسول الأعظم في الأشياء قد يظهرها على يد من يشاء من المسلمين مرشداً كان أم لم يكن ، والشواهد على ذلك كثيرة : منها ما أخرجه أحمد بن حنبل عن وكيع عن أبيه قال : كنت مع رسول الله ونزلنا بأرض فيها شجر كثير ، فقال لي :اذهب إلى تلك الشجرتين فقل لهما : إن رسول الله يأمركما أن تجتمعا فذهبت إلى تلك الشجرتين فقلت : أنا رسول رسول الله وهو يأمركما أن تجتمعا ، فاجتمعتا ... [ثم] قال :قل لهما تفترقان فقلت لهما فتفرقا (6) .
ومنها ما روي عن ابن بريدة عن أبيه قال : جاء أعرابي إلى النبي فقال : يا رسول الله قد أسلمت فأرني شيئاً ازدد به يقيناً ،
فقال :ما الذي تريد ؟
قال : ادع تلك الشجرة أن تأتيك .
قال : اذهب فادعها .
فأتاها الأعرابي ، فقال : أجيبي رسول الله .
قال : فمالت على جانب من جوانبها فقطعت عروقها ، ثم مالت على الجانب الآخر فقطعت عروقها ، حتى أتت النبي ، فقالت : السلام عليك يا رسول الله .
فقال الأعرابي : حسبي ، حسبي .
فقال لها النبي :ارجعي فرجعت فجلست على عروقها وفروعها .
فقال الأعرابي : ائذن لي يا رسول الله أن أُقَبِّلَ رأسك ورجليك ، ففعل ، ثم قال : ائذن لي أن أسجد لك .
قال:لا يسجد أحد لأحد ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة ان تسجد لزوجها(7) .
فما حصل في الحديثين الشريفين هو أن حضرة الرسول الأعظم لم يأمر الشجرة بالحركة وإنما أعطي الأذن الوقتي لأحد المسلمين ليقوم بذلك ، وكما مد رسول الله الرجلين بقربه ، فهو يمد المرشدين عند الحاجة لهذا المدد مهما كانت المسافة بينهما ، إذ أن القوة الروحية لا تمنعها الحواجز المادية ولا المسافات الكونية ولقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة هذه القوة المحمدية الفاعلة والمؤثرة بالله في النفوس والأشياء في أكثر من مناسبة ، منها قوله تعالى (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمى ) <8> فحضرته بالله يفعل ويؤثر ويمد ، ومن كان الله مصدر همته وقوته ، فلا محال يقف أمامه لقوله تعالى ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقولَ لَهُ كُنْ فَيَكونُ)(9) . إذاً المرشد العادي ليس مصدر همة أو قوة روحية ، وإنما آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر بيده أو لسانه أو قلبه فقط على حسب إمكاناته وقوة إيمانه .
وعلى هذا كان جميع الصحابة الكرام باستثناء الوارث الروحي للحضرة المحمدية المطهرة سيدنا الإمام علي بن أبي طالب الذي ناب عن رسول الله في مهمة الإرشاد العظمى .
***************************************************************************
الهوامش :
[1] - الشورى : 52 .
[2] - الشعراء : 214 .
[3] - الأحزاب : 46 .
[4] - النحل : 125
[5] - الجمعة : 2
[6] - المستدرك الحاكم ج4ص190 رقم 7326 .
[7] - الشيخ ابو نعيم الاصبهاني – دلائل النبوة – ص 332 .
[8] - الأنفال : 17 .
[9] - البقرة : 117
********************************************************************
المصادر:
السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسني - موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان - ج9- مادة (ر ش د).