كثيرًا ما نسمع في مجال النقد الأدبي اتهام نص إبداعي بالمباشرة والخطابية، وأن المبدع يلجأ إلى الوعظ في إيصال فكرته إلى المتلقي، وأن عليه أن يقدم الفكرة بشكل رمزي غير مباشر.
يقال هذا: إذا كان النص ملتزما في توجهه بالإسلام وما ينبثق عنه من ضوابط عقدية وفكرية وأخلاقية فيما يسمى الآن أدباً إسلامياً، وكان الناقد ينطلق من الرؤى التجديدية المنبثقة من معين الآداب العربية والإسلامية.
أما إذا كان الناقد ينطلق في نقده من الرؤى الحداثية بأفكارها المستوردة من الغرب، فإنه لايقبل أن يدخل معنا في الحوار منذ البدء، لأن الأدب والنقد في نظره بمنأى عن الدين والأخلاق.
وحديثي يتوجه إلى الفئة الأولى التي نتفق معها بأن الالتزام في الأدب لا يحده بل يمده. ويتواصل مع الفئة الثانية إذا هي أقرت بقاعدة الالتزام، وذلك بأن النص الأدبي لا يطلب منه دائماً أن يكون رمزاً، وغير مباشر، وخيالاً تصويرياً، ومبالغات، وغير ذلك مما يقرره بعض النقاد والدارسين.
فأدب الوعظ فنٌ قائم بذاته، وله مبدعوه الذين اشتهروا به منذ القدم، ويلحق به ما يسمى:" بأدب الحكمة والوصايا" سواء أكان في الشعر أم في النثر.
ولعل تقديم نماذج من أدب الوعظ يبين بعض ما أريد الوصول إليه، من أن هذا الأدب يتمتع بالحيوية والقدرة على التأثير في مجاله، مثل غيره بل أكثر.وأن فيه من تنوع أساليب البيان والمعاني والبديع ما يجعله من عيون الأدب.
وقد عرف تاريخ الكلمة الأدبية التراثية من أصحاب هذا الفن رجلاً كان له حضوره غير العادي في عصره، هو الإمام الحسن البصري، الذي ولد في المدينة سنة إحدى وعشرين للهجرة، وتوفي في البصرة عن ثمان وثمانين سنة.
ونصوصه مبثوثة في كتب العلم والأدب والحِكَم والمواعظ، والتي منها: "كتاب جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبلي، وكتاب:" الزهد" الذي جمع نصوصه وحققها الدكتور محمد عبد الرحيم محمد.
يقول عنه ثابت بن قُرَّة:"لقد كان - أي الحسن- من دراري النجوم علماً وتقوى وزهداً وفصاحة، مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول، وما أعرف له ثانياً، قريباً ولا مدانياً..."(1)
وفيما يأتي أختار بعض النصوص من هذا الكتاب، وأُعلق عليها بما تيسر بإذن الله سبحانه.
حادثوا القلوب.. واقدعوا الأنفس
يقول: الحسن البصري:" حادثوا هذه القلوب بذكر الله فإنها سريعة الدثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنكم إن تطيعوها في كل ما تنزع إليه لا تبقي لكم شيئا"(2).
فقوله: " حادثوا هذه القلوب بذكر الله فإنها سريعة الدثور" تشخيص للقلب، واعتباره إنساناً مستقلاً يحادثه صاحبه، وهي صورة يأنس بها صاحب القلب نفسه عندما يتوجه إلى قلبه وكأنه شخص آخر فيطلب منه أن يتذكر ولا يغفل، ودثور القلب غفلته، ودثور السيف والثوب صدؤه واتساخه. وقوله: " واقدعوا هذه الأنفس..." أي: اكبحوها تشبيه لها بالفرس الجامحة التي يشد لجامها للسيطرة عليها. والتصرف بالتشبيهات من الأساليب البيانية الأدبية المؤثرة في إبلاغ المعنى إلى المتلقي، وحمله على الاستجابة النفسية التي تدفعه إلى العمل.
كِدْتُ أن أكون السواد المُخْتَطف
وللقصة أثر كبير في المتلقي، والعناية بها واضحة في القرآن الكريم، وفي السُّنة النبوية، حتى صار الهدي القرآني والنبوي مقصد الواعظين يستقون من معينهما في الوعظ، وتأثر الكتاب في كل عصر ومصر بذلك. والحسن البصري كثيراً ما يستعين بالقصة للوصول إلى قلب سامعه، وكان له من صدق اللهجة ما جعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يُقِرُّه في مجلسه بمسجد البصرة إذ منع غيره من الوعاظ من مساجد البصرة والكوفة وغيرهما.
يقول الحسن البصري: "كان رجل من المسلمين يبلغه موت أخ من إخوانه فيقول: كدت والله أن أكون أنا السواد المختطف. فيزيده الله بذلك جداً واجتهاداً. فيلبث بذلك ما شاء الله، ثم يبلغه موت أخ من إخوانه فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كدت والله أن أكون أنا السواد المختطف، فيزيده الله بذلك جداً واجتهاداً.
قال الراوي: فردَّدَ الحسن هذا الكلام غير مرة. فوالله مازال كذلك حتى مات موتاً كيساً"(3)، فهذه القصة أقرب إلى ضرب الأمثال منها إلى رواية قصة واقعية، لانعدام العناصر الحقيقية للأحداث من الشخصيات والزمان والمكان، وإسناده الفعل إلى مجهول، وتركيزه على الحدث المجرد والعبرة منه، وهي الاستعداد للموت الذي يأتي فجأة، والتهيؤ له بالعمل الصالح.
ففي القصة يأتي خبر موت (أخ) إلى (رجل) من المسلمين بصيغة النكرة فيتأثر بذلك ويعد نفسه للموت، ويتكرر الحدث بالطريقة نفسها، ليعطي الثمرة نفسها من حصول الموعظة والجد والاجتهاد بالعمل الصالح. ويتدخل الراوي ليوضح لنا أن الرجل من المسلمين كان الحسن البصري نفسه، وكان الأخ الذي يموت هو أي أحد من المسلمين، حتى أفضى به الأمر أن يموت موتاً كيِّساً، أي: حسناً.
وما كان للحسن البصري أن يقول للناس: إنه يعني نفسه بذلك الذي يأخذ العبرة، فيزكي نفسه، فيقع في دائرة المحظور في الوعظ! وهذا أبلغ في الموعظة. والتكرار في القصة عامل آخر من عوامل التأثير بأسلوب الإطناب، يجدد به التأثير في المتلقي ويجعله في دائرة التذكر الدائم.
لا حياة لمن تنادي
ونجد لدى الحسن البصري أسلوب المثال الحقيقي بدلاً من ضرب المثل بالمجهول، فقد "رأى شيخاً في جنازة، فلما فرغ من الدفن، قال له الحسن: ياشيخ، أسألك بربك أتظن أن هذا الميت يود أن يرجع إلى الدنيا فيتزيد من عمله الصالح، ويستغفر الله من ذنوبه السالفة؟ فقال الشيخ: اللهم نعم. فقال الحسن: فما بالنا لا نكون كهذا الميت؟! ثم انصرف وهو يقول: أي موعظة؟! ما أنفعها لو كان بالقلوب حياة! ولكن لا حياة لمن تنادي".(4)، فالحكاية عن الغائب في النص السابق حكاية حاضرة في هذا النص يعتمد الحوار القصير المكثف، ويتخذ من التشبيه التمثيلي بين حالة حاضرة، وحالة ماضية، وحالة مستقبلة أسلوباً، ويدخل أسلوب القسم لتأكيد المعنى واستجماع النفس التي ما تزال تلهو وتغفل، ثم يلجأ إلى أسلوب التهويل( أي موعظة)، والتعجب (ما أنفعها لو كان بالقلوب حياة)، ثم التيئيس الذي يهدف إلى التخويف من حالة الغفلة العامة عند الإنسان(ولكن لا حياة لمن تنادي). والجملة الأخيرة في لحظتها تحمل معنى تشبيه الأحياء بالأموات فيما يظهر لعدم انتفاعهم بالموعظة، والأموات بالأحياء لتمنيهم العودة إلى الحياة لاستدراك ما فات، ولكن هيهات هيهات!!
قيام يفترشون وجوههم
وقد يجعل القصة رواية مباشرة منه –رحمه الله- إذ يقول: " والله لقد أدركت أقواماً، وصَحِبتُ طوائف منهم، ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أَقْبَل، ولا يأسفون على شيء منها أدبر، ولهي كانت أهون في أعينهم من هذا التراب. كان أحدهم يعيش خمسين سنة لم يطو له ثوب قط، ولا نصب له قدر، ولا جعل بينه وبين الأرض شيئاً، ولا أمر في بيته بصنعة طعام قط. فإذا كان الليل فقيام على أطرافهم يفترشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون ربهم في فكاك رقابهم، وكانوا إذا عملوا الحسنة، دأبوا في شكرها، وإذا عملوا السيئة أحزنتهم وسألوا الله أن يغفرها. وإنكم أصبحتم في أجل منقوص، والعمل محفوظ، والموت والله في رقابكم، والنار بين أيديكم، فتوقعوا قضاء الله في كل يوم وليلة".(5)
في هذا النص جملة من الأساليب الأدبية والبلاغية، فقد عمد إلى الرواية المشاهدة للقصة، وذلك أوقع من الخبر المنقول لثقة السامع بصدق المتحدث، وليس الخبر كالمعاينة! وإذ استوثق من تصديقهم لما يخبر أطنب في وصف من يخبر عنهم، ويعظ بحالهم، مستخدماً أسلوب المقابلة القائمة على التضاد في موقفهم من الدنيا، فإذا كان أكثر الناس يفرحون إذا هي أقبلت، ويحزنون إذا هي أدبرت، فإن هؤلاء القوم المشمرون بالجد لا يأبهون بالدنيا في حالي إقبالها وإدبارها.ويشبه الدنيا في هوانها بالتراب، بل هي أهون، وينتقل بعد ذلك من مظاهر الوصف المعنوي إلى مظاهر الوصف الحسي الدال على الحالة المعنوية التي هم فيها، فـ"لم يطو له ثوب" كناية عن عدم التنعم باللباس، "ولا نصب له قدر، ولا أمر في بيته بصنعة طعام" كناية عن عدم التنعم بالطعام، " ولا جعل بينه وبين الأرض شيئا" كناية عن عدم التنعم بالنوم، و"قيام على أطرافهم يفترشون وجوههم" كناية عن التعبد عامة وبالسجود خاصة، و "يناجون ربهم في فكاك رقابهم" كناية عن تذللهم في الدعاء لربهم، وتشبيه لعبودية المخلوق للخالق بعبودية المخلوق للمخلوق في مجتمع كان لعبودية الرق فيه شأن، يعايشه الناس بأنفسهم. ومثل هذه الأساليب التصويرية التي تحفز الخيال بالحسي إلى المعنوي، وتكشف المعنى في أكثر من صورة، تؤثر في مراكز الاستقبال في القلب والعقل تأثيراً محموداً، فإذا لم يحمله على الاقتناع المباشر حمله على التفكير، وإذا لم يدفعه إلى العمل الفوري هيأه للتحرك إلى العمل في مرة قادمة.
هل رأيت فقيهًا بعينيك؟!
ونجد في مواعظ الحسن البصري أساليب علم المعاني تخدم هدفه، في إيصال موعظته لسامعيه، ويحشد في الجملة الواحدة أكثر من أسلوب.
فعن عمران بن القصير قال: "سألت الحسن عن شيء، فقلت: إن الفقهاء يقولون كذا وكذا، فقال: وهل رأيت فقيها بعينيك!؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، المداوم على عبادة ربه "(6).
فالحسن يستنكر على عمران بن القصير قوله:"إن الفقهاء يقولون كذا وكذا" ذلك أن الفقه غير الكلام عند العلماء الربانيين، فصاغ عبارته بأسلوب الاستفهام الإنكاري، الذي يتضمن النفي. ثم يتابع إيضاحه لما استنكره فيعرف الفقيه بأسلوب القصر بإنما و بتعريف المبتدأ والخبر بأل التعريف "إنما الفقيه الزاهد في الدنيا"وأسلوب القصر بأداة واحدة يفيد التوكيد، وبأداتين يفيد زيادة التوكيد، فهو نفى المعنى الشائع للفقيه أولاً ثم أكَّدَ المعنى الذي يريده بأداتين من أساليب القصر، وأضاف للجملة الأولى جملة ثانية بأسلوب الإطناب، لوجود علاقة عموم وخصوص بين الزهد في الدنيا والمداومة على عبادة الله سبحانه، وجاء بكلمة "ربه" ليفيد معنى قرب العابد من المعبود، المتضمن
إشارة الإقرار بالربوبية المستدعية للشكر من المربوب.