| هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ - الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الطيب
عدد الرسائل : 94 تاريخ التسجيل : 14/09/2007
| موضوع: هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ - الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي الجمعة مايو 30, 2008 7:22 pm | |
| نصوص صوفية مناجات صوفية كردية بالعربية هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي اعلم): يا (أنا!) لك أمورٌ تسعةٌ في دنياك ، تعاميتَ عن ماهيتها وعواقبها : أما جسدك فكالثمرة المتزهرة المتزينة صيفاً ، المنكمشة المتفسخة شتاءً . و أما حيوانيتكَ، فانظر إلى جنس الحيوان كيف يسرع فيهم الموتُ والزوالُ . وأما إنسانيتك، فمترددة بين الإنطفاء والإصطفاء والزوال والبقاء . . فاستحفظ على مابقي ، بما من شأنه أن يبقى بذكر الدائم الباقي . وأما حياتك، فكقامتك قصيرة ، معينة الحدود ، لاتقدم ، ولاتأخر. . فلا تتألم ولاتحزن ولاتخف لها ، ولاتحمل عليها مالاطاقة به مما تطاول إليه طول الأمل . وأما وجودك، فليس ملكاً لك ، فله مالك الملك له ، واشفق به منك .. فمداخلتك بغير ما أمرك به . فكما أنها من الفضول وشغل فضولي ، فكثيراً ماتضرّ ، ألا ترى الحرص ومرق النوم كيف يفعلان ويجلبان الخيبة والسهر ! وأما مصائبك ، فلا تمرّ حقيقةً ، لأنها تمر سريعاً ، بل تحلو لأنها تحول . . فتحول وجهكَ من الفناء في الفاني ، إلى البقاء بالباقي . . وأما أنت هنا الآن ، فمسافر، ثم مسافرٌ ، والمسافر لايعلق قلبُه بما لايتعلق به ، ويفارقه بسرعة . فكما ترتحل من هذا المنزل في هذا المسجد البتة ، كذلك تفارق هذه البلدة قطعاً ، أما إلى بطنها ، أو إلى خارجها . . فكما ستفارق بالضرورة ، كذلك تذهب ، بل تخرج وتطرد ( شئتَ ، أم أبيتَ ) من هذه الدنيا الفانية ، فاخرج ، وأنت عزيز، قبل أن تُطردَ ، وأنت ذليلٌ.. و أما وجودك ، فافديه لموجده الذي يشتريه بثمنٍ غالٍ ، فسارع إلى البيع ، بل الفداء ، أما أولاً ، فلأنه يزول مجاناً، وثانياً ، لأنه مالُه ، وإليه يؤول ، و ثالثاً، لأنه إن إعتمدتَ عليه ، سقطتَ في العدم ، لأنه (باب إليه) ، و إذا فتحته بالترك ، وصلتَ إلى الوجود الثابت . . و رابعاً، لأنه إذا تمسّكتَ به ، كان في يدكَ نقطة وجود فقط . و يحيط بك مالا يتناهى من الاعدام الهائلة . . وإذا نفضتَ يدَكَ منه ، إستبدلتَ لمعةً بشمسٍ ، فينقلب محيطُكَ إلى مالا يتناهى من أنوار الوجود . وأما لذائذ الدنيا ، فقسمتك تأتيكَ ، فلا تطشْ في طلبها . ولزوالها سرعة لايليق بالعاقل تعليق القلب بها . وكيف ما كانت عاقبة دنياكَ ، فترك اللذائذ أولى . إذ أما إلى السعادة ، وهي تستلزم تركها ، وأما إلى الشقاوة ، ومن ينتظر الصلب كيف يلتذ ويستعذب مايزيد عذابه من تزيينات آلات الصلب ، وان توهمتَ بالكفر العدم ، العياذ بالله ، فأولى بالترك ، إذ بزوال اللذة ، يحس ذلك العدمُ الهائلُ ألمَه الأليم آناً فآناً في ضمن زوال اللذائذ . وهذا الألم أثقل بمراتبَ من لذة الوصال ، إن كنتَ تشعرُ | |
|
| |
ربيع شوايل مشرف مكتبة الصور
عدد الرسائل : 513 العمر : 45 تاريخ التسجيل : 11/03/2008
| موضوع: من كلمات سيدي بديع الزمان النورسي الأحد يونيو 01, 2008 10:45 am | |
| من كلمات سيدي بديع الزمان النورسي بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الأخ! لقد سألتني بعض النصائح، فها أنذا أسدي إليك بضع حقائق ضمن ثماني حكايات قصيرة، فاستمع إليها مع نفسي التي أراها أحوج ما تكون الى النصيحة، وسأوردها لك بأمثلة عسكرية لكونك جندياً، فلقد خاطبتُ بها نفسي يوماً خطاباً مسهباً، في ثماني (كلمات) أفدتها من ثماني آيات كريمات، اذكرها ألان لنفسي ذكراً مقتضباً، وبلسان العوام، فمن يجد في نفسه الرغبة فليُلق السمع معنا. الكلمة الأولى ((بسم الله)) رأس كل خير وبدء كل أمر ذي بال، فنحن أيضاً نستهل بها. فيا نفسي إعلمي! أن هذه الكلمة الطيبة المباركة كما أنها شعار الإسلام، فهي ذكر جميع الموجودات بألسنة أحوالها. فان كنت راغبة في إدراك مدى ما في ((بسم الله)) من قوة هائلة لا تنفد، ومدى ما فيها من بركة واسعة لا تنضب، فاستمعي الى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة: أن البدوي الذي يتنقل في الصحراء ويسيح فيها لابد له أن ينتمي الى رئيس قبيلة، ويدخل تحت حمايته، كي ينجو من شر الأشقياء، وينجز أشغاله ويتدارك حاجاته، وإلاّ فسيبقى وحده حائراً مضطرباً أمام كثرة من الأعداء، ولا حد لها من الحاجات. وهكذا.. فقد توافق أن قام اثنان بمثل هذه السياحة؛ كان احدهما متواضعاً، والآخر مغروراً، فالمتواضع انتسب الى رئيس، بينما المغرور رفض الانتساب. فتجولا في هذه الصحراء.. فما كان المنتسب يحل في خيمة إلا ويقابل بالاحترام والتقدير بفضل ذلك الاسم وإن لقيه قاطع طريق يقول له: ((إنني أتجول باسم ذلك الرئيس)).. فيتخلى عنه الشقي. أما المغرور فقد لاقى من المصائب والويلات ما لا يكاد يوصف، إذ كان طوال السفرة في خوف دائم ووجل مستمر، وفي تسوّل مستديم، فأذلّ نفسه وأهانها. فيا نفسي المغرورة! إعلمي!.. انك أنت ذلك السائح البدوي. وهذه الدنيا الواسعة هي تلك الصحراء. وان ((فقرك)) و ((عجزك)) لاحد لهما، كما أن أعداءك وحاجاتك لا نهاية لهما. فما دام الأمر هكذا؛ فتقلدي اسم المالك الحقيقي لهذه الصحراء وحاكمها الأبدي، لتنجي من ذُلّ التسول أمام الكائنات، ومهانة الخوف إمام الحادثات. نعم! ان هذه الكلمة الطيبة ((بسم الله)) كنز عظيم لا يفنى أبدا، إذ بها يرتبط((فقرك)) برحمة واسعة مطلقة أوسع من الكائنات، ويتعلق ((عجزك)) بقدرة عظيمة مطلقة تمسك زمام الوجود من الذرات الى المجرات، حتى انه يصبح كل من عجزك وفقرك شفيعين مقبولين لدى القدير الرحيم ذي الجلال. ان الذي يتحرك ويسكن ويصبح ويمسي بهذه الكلمة ((بسم الله)) كمن انخرط في الجندية؛ يتصرف باسم الدولة ولا يخاف أحداً، حيث انه يتكلم باسم القانون وباسم الدولة، فينجز الأعمال ويثبت أمام كل شئ. وقد ذكرنا في البداية: ان جميع الموجودات تذكر بلسان حالها اسم الله، أي إنها تقول: ((بسم الله)).. أهو كذلك؟ نعم! فكما لو رأيت ان أحداً يسوق الناس الى صعيد واحد، ويرغمهم على القيام بأعمال مختلفة، فانك تتيقن ان هذا الشخص لا يمثل نفسه ولا يسوق الناس باسمه وبقوته، وإنما هو جندي يتصرف باسم الدولة، ويستند الى قوة سلطان. فالموجودات أيضا تؤدي وظائفها باسم الله؛ فالبذيرات المتناهية في الصغر تحمل فوق رؤوسها باسم الله أشجارا ضخمة وأثقالا هائلة. أي ان كل شجرة تقول: ((بسم الله)) وتملأ أيديها بثمرات من خزينة الرحمة الإلهية وتقدمها إلينا.. وكل بستان يقول: ((بسم الله)) فيغدو مطبخاً للقدرة الإلهية تنضج فيه أنواع من الأطعمة اللذيذة.. وكل حيوان من الحيوانات ذات البركة والنفع ـ كالإبل والمعزى والبقر ـ يقول: ((بسم الله)) فيصبح ينبوعاً دفاقاً للّبن السائغ، فيقدم إلينا باسم الرزاق ألطف مغذّ وأنظفه.. وجذور كل نبات وعشب تقول ((بسم الله)) وتشق الصخور الصلدة باسم الله وتثقبها بشعيراتها الحريرية الرقيقة فيُسخَّر أمامها باسم الله وباسم الرحمن كل أمر صعب وكل شئ صلد!. نعم، ان انتشار الأغصان في الهواء وحملها للأثمار، وتشعب الجذور في الصخور الصماء، وخزنها للغذاء في ظلمات التراب.. وكذا تحمّل الأوراق الخضراء شدة الحرارة ولفحاتها، وبقاءها طرية ندية.. كل ذلك وغيره صفعة قوية على أفواه الماديين عَبَدة الأسباب، وصرخة مدوية في وجوههم، تقول لهم: ان ما تتباهون به من صلابة وحرارة أيضا لا تعملان بنفسيهما، بل تـؤديان وظائفـهما بأمر آمر واحد، بحيث يجعل تلك العروق الدقيقة الرقيقة كــأنها عصا موســى تشق الصخـور وتمتثـل أمر} فَقُلنا اضـرب بعصاك الحَجَر{ (البقرة:60) ويجعل تلك الأوراق الطرية الندية كأنها أعضاء إبراهيم عليه السلام تقرأ تجاه لفحة الحرارة: } يا نارُ كوني برداً وسلاماً....{ (الأنبياء:69). فما دام كل شئ في الوجود يقول معنىً ((بسم الله)) ويجلب نِعَم الله باسم الله ويقدمّها إلينا، فعلينا ان نقول أيضا ((بسم الله)) ونعطي باسم الله ونأخذ باسم الله. وعلينا أيضا ان نردّ أيدي الغافلين الذين لم يعطوا باسم الله. سؤال: أننا نبدي احتراماً وتوقيراً لمن يكون سبباً لنعمة علينا، فيا ترى ماذا يطلب منا ربنُّا الله صاحب تلك النعم كلها ومالكها الحقيقي؟ الجواب: ان ذلك المنعم الحقيقي يطلب منا ثلاثة أمور ثمناً لتلك النعم الغالية: الأول: الذكر.. الثاني: الشكر.. الثالث: الفكر.. فـ ((بسم الله)) بدءاً هي ذكرٌ، و ((الحمد لله)) ختاماً هي شكرٌ، وما يتوسطهما هو ((فكر)) إي التأمل في هذه النعم البديعة، والإدراك بأنها معجزة قدرة الأحد الصمد وهدايا رحمته الواسعة... فهذا التأمل هو الفكر. ولكن أليس الذي يقبّل أقدام الجندي الخادم الذي يقدّم هدية السلطان يرتكب حماقة فظيعة وبلاهة مشينة؟ أذن فما بال مَن يُثني على الأسباب المادية الجالبة للنعم، ويخصصها بالحب والود، دون المنعم الحقيقي! ألا يكون مقترفاً بلاهة أشد منها ألف مرة؟ فيا نفس!! ان كنت تأبين أن تكوني مثل الأحمق الأبله، فأعطي باسم الله.. وخذي باسم الله.. وابدأي باسم الله.. واعملي باسم الله.. والسـلام. ملاحظة : وضع الاستاذ المؤلف ((المقام الثاني من اللمعة الرابعة عشرة)) عقب هذه الكلمة الأولى ، لمناسبة المقام حبث يضم ستة من أسرار ((بسم الله الرحمن الرحيم)). وسيجده القارئ الكريم في موضعه من كتاب ((اللمعات)) فليراجع . ـ المترجم . [/center]
عدل سابقا من قبل ربيع شوايل في الجمعة يونيو 06, 2008 4:03 pm عدل 2 مرات | |
|
| |
ربيع شوايل مشرف مكتبة الصور
عدد الرسائل : 513 العمر : 45 تاريخ التسجيل : 11/03/2008
| موضوع: رد: هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ - الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي الأحد يونيو 01, 2008 11:12 am | |
| الكلمة الثانية بسم الله الرحمن الرحيم ]الذين يُؤمنون بالغَيب[
ان كنت تريد ان تعرف مدى ما في الأيمان من سعادة ونعمة، ومدى ما فيه من لذة وراحة، فاستمع الى هذه الحكاية القصيرة: خرج رجلان في سياحة ذات يوم، من أجل الاستجمام والتجارة. فمضى احدهما وكان أنانيا شقياً الى جهة، ومضى الآخر وهو رباني سعيد الى جهة ثانية. فالأناني المغرور الذي كان متشائماً لقي بلداً في غاية السوء والشؤم في نظره، جزاءاً وفاقاً على تشاؤمه، حتى انه كان يرى - أينما اتجه - عجزةً مساكين يصرخون ويولولون من ضربات أيدي رجال طغاة قساة ومن أعمالهم المدمّرة. فرأى هذه الحالة المؤلمة الحزينة في كل ما يزوره من أماكن، حتى اتخذت المملكة كلها في نظره شكل دار مأتم عام. فلم يجد لنفسه علاجاً لحاله المؤلم المظلم غير السُكر، فرمى نفسه في نشوته لكيلا يشعر بحاله، إذ صار كل واحد من أهل هذه المملكة يتراءى له عدواً يتربص به، وأجنبيا يتنكر له، فظل في عذاب وجداني مؤلم لما يرى فيما حوله من جنائز مرعبة ويتامى يبكون بكاءاً يائساً مريراً. أمّا الآخر الرجل الربّاني العابد لله، والباحث عن الحق، فقد كان ذا أخلاق حسنة بحيث لقي في رحلته مملكة طيّبة هي في نظره في منتهى الروعة والجمال. فهذا الرجل الصالح يرى في المملكة التي دخلها احتفالات رائعة ومهرجانات بارعة قائمة على قدم وساق. وفي كل طرف سـروراً، وفي كل زاويـة حبـوراً، وفي كل مكان محاريب ذكر. حتى لقد صار يرى كل فرد من أفراد هذه المملكة صديقاً صدوقاً وقريباً حبيباً له. ثم يرى ان المملكة كلها تعلن - في حفل التسريح العام - هتافات الفرح بصيحة مصحوبة بكلمات الشكر والثناء. ويسمع فيهم أيضاً أصوات الجوقة الموسيقية وهي تقدم ألحانها الحماسية مقترنة بالتكبيرات العالية والتهليلات الحارة بسعادة واعتزاز للذين يساقون الى الخدمة والجندية. فبينما كان ذلك الرجل الأول المتشائم منشغلاً بألمه وآلام الناس كلهم.. كان الثاني السعيد المتفائل مسروراً مع سرور الناس كلهم فرحاً مع فرحهم. فضلاً عن انه غنم لنفسه تجارة حسنة مباركة فشكر ربه وحمده. ولدى عودته الى أهله، يلقى ذلك الرجل فيسأل عنه، وعن أخباره، فيعلم كل شئ عن حاله فيقول له: ــ ((يا هذا لقد جننتَ! فان ما في باطنك من الشؤم انعكس على ظاهرك بحيث أصبحتَ تتوهم أن كل ابتسامة صراخ ودموع، وأن كل تسريح وإجازة نهب وسلب. عُد الى رشدك، وطهّر قلبك.. لعل هذا الغشاء النكد ينزاح عن عينيك. وعسى أن تبصر الحقيقة على وجهها الأبلج. فإن صاحب هذه المملكة ومالكها وهو في منتهى درجات العدل والمرحمة والربوبية والاقتدار والتنظيم المبدع والرفق.. وان مملكة بمثل هذه الدرجة من الرقي والسمو مما تريك من آثار بأم عينيك… لا يمكن أن تكون بمثل ما تريه أوهامك من صور)). وبعد ذلك بدأ هذا الشقي يراجع نفسه ويرجع الى صوابه رويداً رويداً، ويفكر بعقله ويقول متندماً: نعم لقد أصابني جنون لكثرة تعاطي الخمر.. ليرضَ الله عنك؛ فلقد أنقذتني من جحيم الشقاء. فيا نفسي! اعلمي ان الرجل الأول هو الكافر أو الفاسق الغافل فهذه الدنيا في نظره بمثابة مأتم عام، وجميع الأحياء أيتام يبكون تألماً من ضــربات الزوال وصفعات الفراق.. أما الإنسان والحيوان فمخلوقات سائبة بلا راع ولا مالك، تتمزق بمخالب الأجل وتعتصر بمعصرته.. وأما الموجودات الضخام ـ كالجبال والبحار ـ فهي في حكم الجنائز الهامدة والنعوش الرهيبة.. وأمثال هذه الأوهام المدهشة المؤلمة الناشئة من كفر الإنسان وضلالته تذيق صاحبها عذاباً معنوياً مريراً. أما الرجل الثاني، فهو المؤمن الذي يعرف خالقه حق المعرفة ويؤمن به، فالدنيا في نظره دار ذكر رحماني، وساحة تعليم وتدريب البشر والحيوان، وميدان ابتلاء واختبار الانس والجان.. أما الوفيات كافة ـ من حيوان وإنسان ـ فهي إعفاء من الوظائف، وإنهاء من الخدمات، فالذين أنهوا وظائف حياتهم، يودّعون هذه الدار الفانية وهم مسرورون معنوياً، حيث أنهم ينقلون الى عالم آخر غير ذي قلق، خال من اوضار المادة واوصاب الزمان والمكان وصروف الدهر وطوارق الحدثان، لينفسح المجال واسعاً لموظفين جدد يأتون للسعي في مهامهم.. أما المواليد كافة ـ من حيوان وإنسان ـ فهي سَوقة تجنيد عسكرية، وتسلُّم سلاح، وتسنّم وظائف وواجبات، فكل كائن إنما هو موظف وجندي مسرور، ومأمور مستقيم راضٍ قانع.. . وأما الأصوات المنبعثة والأصداء المرتدة من إرجاء الدنيا فهي إما ذكر وتسبيح لتسنم الوظائف والشروع فيها، أو شكر وتهليل ايذاناً بالانتهاء منها، أو أنغام صادرة من شوق العمل وفرحته.. فالموجودات كلها ـ في نظر هذا المؤمن ـ خدام مؤنسون، وموظفون أخلاّء، وكتبٌ حلوة لسيده الكريم ومالكه الرحيم.. وهكذا يتجلى من إيمانه كثير جداً من أمثال هذه الحقائق التي هي في غاية اللطف والسمو واللذة والذوق. فالأيمان أذن يضم حقاً بذرة معنوية منشقة من طوبى الجنة.. إما الكفر فانه يخفي بذرة معنوية قد نفثته زقوم جهنم. فالسلامة والأمان أذن لا وجود لهما إلاّ في الإسلام والإيمان. فعلينا ان نردد دائماً: الحمد لله على دين الإسلام وكمال الإيمان..
عدل سابقا من قبل ربيع شوايل في الجمعة يونيو 06, 2008 4:03 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
ربيع شوايل مشرف مكتبة الصور
عدد الرسائل : 513 العمر : 45 تاريخ التسجيل : 11/03/2008
| موضوع: رد: هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ - الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي الجمعة يونيو 06, 2008 4:02 pm | |
| الكلمة الثالثة بسم الله الرحمن الرحيم ] يا أيها الناس اعبدوا..[ (البقرة: 21) ان كنت تريد ان تفهم كيف ان العبادة تجارة عظمى وسعادة كبرى، وان الفسق والسفه خسارة جسيمة وهلاك محقق، فانظر الى هـذه الحكاية التـمثيليـة وانصت اليها: تسلَّم جنديان اثنان ـ ذات يوم ـ أمراً بالذهاب الى مدينة بعيدة، فسافرا معاً، الى أن وصلا مفرق طريقين، فوجدا هناك رجلاً يقول لهما: ـ ان هذا الطريق الايمن، مع عدم وجود الـضرر فيه، يجد المسافرون الذين يسلكونه الراحة والاطمئنان والربح مضموناً بنسبة تسعة من عشرة. أما الطريق الايسر، فمع كونه عديم النفع يتضرر تسعة من عشرة من عابريه. علماً ان كليهما في الطول سواء، مع فرق واحد فقط، هو ان المسافر المتجه نحو الطريق الايسر ـ غير المرتبط بنظامٍ وحكومة ـ يمضي بلا حقيبة متاع ولا سلاح، فيجد في نفسه خفَّة ظاهرة وراحة موهومة. غير أن المسافر المتجه نحو الطريق الايمن ـ المنتظم تحت شرف الجندية ـ مضطر لحمل حقيبة كاملة من مستخلصات غذائية تزن أربع اوقيات وسلاحاً حكومياً يزن اوقيتين يستطيع أن يغلب به كل عدو. وبعد سماع هذين الجنديين كلام ذلك الرجل الدليل، سلك المحظوظ السعيد الطريق الايمن، ومضى في دربه حاملاً على ظهره وكتفه رطلاً من الاثقال الا ان قلبه وروحه قد تخلّصا من آلاف الارطال من ثقل المنَّة والخوف. بينما الرجل الشقي المنكود الذي آثر ترك الجندية ولم يرد الانتظام والالتزام، سلك سبيل الشمال، فمع أن جسمه قد تخلص من ثقل رطل فقد ظل قلبه يرزح تحت آلاف الارطال من المنَّ والاذى، وانسحقت روحه تحت مخاوف لا يحصرها الحد. فمضى في سبيله مستجدياً كل شخص، وجلاً مرتعشاً من كل شئ، خائفاً من كل حادثة، الى أن بلغ المحل المقصود فلاقى هناك جزاء فراره وعصيانه. أما المسافر المتوجه نحو الطريق الايمن ـ ذلك المحب لنظام الجندية والمحافظ على حقيبته وسلاحه ـ فقد سار منطلقاً مرتاح القلب مطمئن الوجدان من دون أن يلتفت الى منَّة أحد أو يطمع فيها أو يخاف من أحد.. الى أن بلغ المدينة المقصودة وهنالك وجد ثوابَه اللائق به كأي جندي شريف أنجز مهمته بالحسنى. فيا أيتها النفس السادرة السارحة! اعلمي أن ذينك المسافرين؛ أحدهما أولئك المستسلمون المطيعون للقانون الإلهي، والآخر هم العصاة المتبعون للاهواء.. وأما ذلك الطريق فهو طريق الحياة الذي يأتي من عالم الارواح ويمر من القبر المؤدي الى عالم الآخرة.. وأما تلك الحقيبة والسلاح فهما العبادة والتقوى، فمهما يكن للعبادة من حمل ثقيل ظاهراً إلا أن لها في معناها راحة وخفة عظيمتين لا توصفان، ذلك لان العابد يقول في صلاته: ] لا إله إلا الله[ أي لا خالق ولا رازق إلاّ هو، النفع والـضر بيده، وانه حكيم لا يعمل عبثاً كما أنه رحيم واسع الرحمة والاحسان. فالمؤمن يعتقد بما يقول لذا يجد في كل شئ باباً ينفتح الى خزائن الرحمة الإلهية، فيطرقه بالدعاء، ويرى أن كل شئ مسخَّر لأمر ربه، فيلتجىء اليه بالتضرع. ويتحصَّن أمام كل مصيبة مستنداً الى التوكل، فيمنحه ايمانه هذا الامان التام والاطمئنان الكامل. نعم! أن منبع الشجاعة ككل الحسنات الحقيقية هو الايمان والعبودية، وأن منبع الجبُن ككل السيئات هو الضلالة والسفاهة. فلو أصبحت الكرة الارضية قنبلة مُدمِّرة وانفجرت، فلربما لا تخيف عابداً لله ذا قلب منوَّر، بل قد ينظر اليها أنها خارقة من خوارق القدرة الصمدانية، ويتملاها باعجاب ومتعة، بينما الفاسق ذو القلب الميت ولو كان فيلسوفاً ـ ممن يُعدّ ذا عقل راجح ـ اذا رأى في الفضاء نجماً مذنباً يعتوره الخوف ويرتعش هلعاً ويتساءل بقلق: ألا يمكن لهذا النجم أن يرتطم بأرضنا؟ فيتردى في وادي الاوهام (لقد ارتعد الامريكان يوماً من نجم مذنب ظهر في السماء حتى هجر الكثيرون مساكنهم أثناء ساعات الليل). نعم! رغم أن حاجات الانسان تمتد الى ما لا نهاية له من الاشياء، فرأس ماله في حُكم المعدوم. ورغم أنه معرَّض الى ما لانهاية له من المصائب فاقتداره كذلك في حكم لا شئ، اذ ان مدى دائرتي رأس ماله واقتداره بقدر ما تصل اليه يده، بينما دوائر آماله ورغائبه وآلامه وبلاياه واسعة سعة مد البصر والخيال. فما أحوج روح البشر العاجزة الـضعيفة الفقيرة الى حقائق العبادة والتوكل، والى التوحيد والاستسلام! وما أعظم ما ينال منها من ربح وسعادة ونعمة! فمن لم يفقد بصره كلياً يرى ذلك ويدركه. اذ من المعلوم أن الطريق غير الـضار يُرجَّح على الطريق الـضار حتى لو كان النفع فيه احتمالاً واحداً من عشرة احتمالات. علماً أن مسألتنا هذه، طريق العبادة، فمع كونه عديم الـضرر، واحتمال نفعه تسعة من عشرة، فانه يعطينا كنزاً للسعادة الابدية، بينما طريق الفسق والسفاهة ـ باعتراف الفاسق نفسه ـ فمع كونه عديم النفع فانه سبب الشقاء والهلاك الابديين، مع يقين للخسران وانعدام الخير بنسبة تسعة من عشرة... وهذا الامر ثابت بشهادة ما لا يحصى من (اهل الاختصاص والاثبات) بدرجة التواتر والاجماع. وهو يقين جازم في ضوء أخبار أهل الذوق والكشف. نحصل من هذا: أن سعادة الدنيا أيضاً ـ كالآخرة ـ هي في العبادة وفي الجندية الخالصة لله. فعلينا اذن أن نردد دائماً: الحمد لله على الطاعة والتوفيق.. وأن نشكره سبحانه وتعالى على أننا مسلمون. | |
|
| |
ربيع شوايل مشرف مكتبة الصور
عدد الرسائل : 513 العمر : 45 تاريخ التسجيل : 11/03/2008
| موضوع: رد: هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ - الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي السبت يونيو 21, 2008 8:27 am | |
| الكلمة الرابعة بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ ((الصلاة عماد الدين))(1) ان كنت تريد ان تعرف أهمية الصلاة وقيمتها، وكم هو يسير نيلها وزهيد كسبها، وان من لا يقيمها ولا يؤدي حقها أبله خاسر.. نعم! ان كنت تريد ان تعرف ذلك كله بيقين تام ـ كحاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعاً ـ فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة: يُرسل حاكمٌ عـظيم ـ ذات يوم ـ إثنين من خَدَمه الى مزرعته الجميلة، بعد أن يمنح كلاً منهما أربعاً وعشرين ليرة ذهبية، ليتمكنا بها من الوصول الى المزرعة التي هي على بُعد شهرين.. ويأمرهما: أنفقا من هذا المبلغ لمصاريف التذاكر ومتطلبات السفر، واقتنيا ما يلزمكما هناك من لوزام السكن والاقامة.. هناك محطة للمسافرين على بُعد يوم واحد، توجد فيها جميع انواع وسائط النقل من سيارة وطائرة وسفينة وقطار.. ولكلٍ ثمنه. يخرج الخادمان بعد تسلمهما الأوامر.. كان أحدهما سعيداً محظوظاً، اذ صرف شيئاً يسيراً مما لديه لحين وصوله المحطة، صرفه في تجارة رابحة يرضى بها سيدُه، فارتفع رأس ماله من الواحد الى الالف. اما الخادم الآخر، فلسوء حظه وسفاهته صرف ثلاثاً وعشرين مما عنده من الليرات الذهبية في اللّهو والقمار، فأضاعها كلها إلا ليرة واحدة منها لحين بلوغه المحطة.. خاطبه صاحبه: ـ يا هذا.. اشتر بهذه الليرة الباقية لديك تذكرة سفر، فلا تضيّعها كذلك، فسيدُنا كريمٌ رحيمٌ، لعلّه يشملك برحمته وينالك عفوه عما بدر منك من تقصير، فيسمحوا لك بركوب الطائرة، ونبلغ معاً محل اقامتنا في يوم واحد. فان لم تفعل ما اقوله لك فستضطر الى مواصلة السير شهرين كاملين في هذه المفازة مشياً على الاقدام، والجوع يفتك بك، والغربة تخيم عليك وانت وحيد شارد في هذه السفرة الطويلة. تُرى لو عاند هذا الشخص، فصرف حتى تلك الليرة الباقية في سبيل شهوة عابرة، وقضاء لذة زائلة، بدلاً من اقتناء تذكرة سفر هي بمثابة مفتاح كنزٍ له. ألا يعني ذلك أنه شقي خاسر، وأبله بليد حقاً.. ألا يُدرك هذا أغبى انسان؟ فيا من لا يؤدي الصلاة! ويا نفسي المتضايقة منها! ان ذلك الحاكم هو ربُّنا وخالقنا جلّ وعلا.. أما ذلكما الخادمان المسافران، فأحدهما هو المتديّن الذي يقيم الصلاة بشوق ويؤديها حق الأداء، والآخر هو الغافل التارك للصلاة.. وأما تلك الليرات الذهبية الاربعة والعشرون فهي الاربع والعشرون ساعة من كل يوم من أيام العمر.. وأما ذلك البستان الخاص فهو الجنة.. وأما تلك المحطة فهي القبر.. وأما تلك السياحة والسفر الطويل فهي رحلة البشر السائرة نحو القبر والماضية الى الحشر والمنطلقة الى دار الخلود. فالسالكون لهذا الطريق الطويل يقطعونه على درجات متفاوتة، كلٌ حسب عمله ومدى تقواه، فقسم من المتقين يقطعون في يوم واحد مسافة ألف سنة كأنهم البرق، وقسم منهم يقطعون في يوم واحد مسافة خمسين ألف سنة كأنهم الخيال. وقد أشار القرآن العظيم الى هذه الحقيقة في آيتين كريمتين.. أما تلك التذكرة فهي الصلاة التي لا تستغرق خمسُ صلوات مع وضوئها اكثر من ساعة! فيا خسارة مَن يصرف ثلاثاً وعشرين من ساعاته على هذه الحياة الدنيا القصيرة ولا يصرف ساعةً واحدة على تلك الحياة الابدية المديدة!. ويا له من ظالم لنفسه مبين! ويا له من احمق ابله! لئن كان دفع نصف ما يملكه المرء ثمناً لقمار اليانصيب ـ الذي يشترك فيه اكثر من الف شخص ـ يعدّ أمراً معقولاً، مع أن احتمال الفوز واحد من ألف، فكيف بالذي يحجم عن بذل واحدٍ من اربعة وعشرين مما يملكه، في سبيل ربح مضمون، ولأجل نيل خزينة أبدية، بأحتمال تسع وتسعين من مائة.. ألا يُعدّ هذا العمل خلافاً للعقل، ومجانباً للحكمة.. ألا يدرك ذلك كلُّ من يعدّ نفسه عاقلاً؟ ان الصلاة بذاتها راحة كبرى للروح والقلب والعقل معاً. فضلاً عن أنها ليست عملاً مرهقاً للجسم. وفوق ذلك فان سائر اعمال المصلي الدنيوية المباحة ستكون له بمثابة عبادة لله، وذلك بالنية الصالحة.. فيستطيع اذن ان يحوّل المصلي جميع رأس مال عمره الى الآخرة، فيكسب عمراً خالداً بعمره الفاني.
| |
|
| |
ربيع شوايل مشرف مكتبة الصور
عدد الرسائل : 513 العمر : 45 تاريخ التسجيل : 11/03/2008
| موضوع: رد: هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ - الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي الخميس يونيو 26, 2008 8:24 am | |
| الكلمة الخامسة بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الله مَعَ الذينَ اتّقوا والذينَ هُمْ مُحْسِنون[ (النحل:128)
اذا أردت أن ترى ان اقامة الصلاة واجتناب الكبائر وظيفة حقيقية تليق بالانسان ونتيجة فطرية ملائمة مع خلقته.. فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة واستمع اليها:
كان في الحرب العالمية الاولى، وفي أحد الأفواج، جنديان اثنان: أحدهما مدرَّب على مهمته مجدّ في واجبه. والآخر جاهل بوظيفته متّبعٌ هواه. كان المتقن واجبه يهتم الاهتمام كله باوامر التدريب وشؤون الجهاد. ولم يكن ليفكر قط بلوازم معاشه وأرزاقه، حيث أنه ادرك يقيناً ان اعاشته ورعاية شؤونه وتزويده بالعتاد بل حتى مداواته اذا تمرض بل حتى وضع اللقمة ــ اذا احتاج الأمر ــ في فمه، انما هو من واجب الدولة. واما واجبه الاساس فهو التدّرب على امور الجهاد ليس إلاّ، مع علمه ان هذا لا يمنع من ان يقوم بشؤون التجهيز وبعض اعمال الإعاشة كالطهي وغسل المواعين، وحتى في هذه الاثناء لو سُئل: ماذا تفعل؟ لقال: إنما اقوم ببعض واجبات الدولة تطوّعاً، ولا يجيب: انني اسعى لأجل كسب لوازم العيش.
اما الجندي الآخر، الجاهل بواجباته فلم يكن ليبالي بالتدريب ولا يهتم بالحرب. فكان يقول: ذلك من واجب الدولة، وما لي أنا؟! فيشغل نفسه بامور معيشته ويلهث وراء الاستزادة منها حتى كان يَدَع الفوج ليزاول البيع والشراء في الاسواق.
قال له صديقه المجدّ ذات يوم:
ـ يا اخي!! إن مهمتك الأصلية هي التدرّب والاستعداد للحرب، وقد جئ بك الى هنا من أجل ذلك؛ فاعتمد على السلطان واطمئن اليه في أمر معاشك، فلن يَدَعَك جائعاً، فذلك واجبُه ووظيفته. ثم إنك عاجز وفقير لن تستطيع أن تدير أمور معيشتك بنفسك، وفوق هذا فنحن في زمن جهاد وفي ساحة حرب عالمية كبرى، أخشى أنهم يعدّونك عاصياً لأوامرهم فينزلون بك عقوبة صارمة.
نعم؛ ان وظيفتين اثنتين تبدوان أمامنا:
احداهما: وظيفة السلطان، وهي قيامه باعاشتنا. ونحن قد نُستخدم مجاناً في انجاز تلك الوظيفة.
واُخراهما: هي وظيفتنا نحن، وهي: التدريب والاستعداد للحرب، والسلطان يقدّم لنا مساعدات وتسهيلات لازمة.
فيا اخي تأمل لو لم يُعِر الجندي المهمِل سمعاً لكلام ذلك المجاهد المدرَّب كم يكون خاسراً ومتعرضاً للأخطار والتهلكة؟!
فيا نفسي الكسول!!
ان تلك الساحة التي تمور موراً بالحرب هي هذه الحياة الدنيا المائجة.. وأمّا ذلك الجيش المقسم الى الافواج فهو الأجيال البشرية.. وأمّا ذلك الفوج نفسه فهو المجتمع المسلم المعاصر.. وأمّا الجنديان الاثنان؛ فأحدهما هو العارف بالله والعامل بالفرائض والمجتنب الكبائر، وهو ذلك المسلم التقي الذي يجاهد نفسه والشيطان خشية الوقوع في الخطايا والذنوب.. وأما الآخر: فهو الفاسق الخاسر الذي يلهث وراء هموم العيش لحد إتهام الرزاق الحقيقي، ولا يبالي في سبيل الحصول على لقمة العيش أن تفوته الفرائض وتتعرض له المعاصي.. وأما تلك التدريبات والتعليمات، فهي العبادة وفي مقدمتها الصلاة.. وأما تلك الحرب فهي مجاهدة الانسان نفسه وهواه، واجتنابه الخطايا ودنايا الأخلاق، ومقاومته شياطين الجن والأنس، إنقاذاً لقلبه وروحه معاً من الهلاك الأبدي والخسران المبين.
وأما تانك الوظيفتان الاثنتان؛ فاحداهما منح الحياة ورعايتها. والاخرى عبادة واهب الحياة ومربيها والسؤال منه والتوكل عليه والأطمئنان اليه.
أجل! ان الذي وهب الحياة؛ وأنشأها صنعةً صمدانية معجزة تتلمع، وجعلها حكمةً ربانية خارقة تتألق، هو الذي يربيـها، وهو وحـده الـذي يرعاها ويديمـها بالرزق.
أوَ تريد الدليل؟!
إن أضعف حيوان وأبلده ليُرزَق بأفضل رزق وأجوده (كالاسماك وديدان الفواكه). وان أعجز مخلوق وأرقه ليأكل أحسن رزق وأطيبه (كالاطفال والصغار).
ولكي تفهم ان وسيلة الرزق الحلال ليست الاقتدار والاختيار، بل هي العجز والـضعف، يكفيك ان تعقد مقارنه بين الأسماك البليدة والثعالب، وبين الصغار الذين لا قوة لهم والوحوش الكاسرة، وبين الاشجار المنتصبة والحيوانات اللاهثة.
فالذي يترك صلاته لأجل هموم العيش مَثَـلُهُ كمثل ذلك الجندي الذي يترك تدريبه وخندقه ويتسوّل متسكعاً في الاسواق. بينما الذي يقيم الصلاة دون ان ينسى نصيبه من الرزق، يبحث عنه في مطبخ رحمة الرزاق الكريم لئلا يكون عالةً على الآخرين فجميل عمله، بل هو رجولة وشهامة، وهو ضرب من العبادة أيضاً.
ثم إن فطرة الانسان وما أودع الله فيه من أجهزة معنوية تدلاّن على أنه مخلوق للعبادة؛ لان ما اُودع فيه من قدرات وما يؤديه من عمل لحياته الدنيا لا تبلغه مرتبة أدنى عصفور ـ الذي يتمتع بالحياة اكثر منه وافضل ـ بينما يكون الانسان سلطان الكائنات وسيد المخلوقات من حيث حياته المعنوية والاخروية بما اودع الله فيه من علم به وافتقار اليه وقيام بعبادته.
فيا نفسي!
إن كنت تجعلين الحياة الدنيا غاية المقصد وافرغت في سبيلها جهدك فسوف تكونين في حكم أصغر عصفور.
اما ان كنت تجعلين الحياة الاخرى غاية المنى وتتخذين هذه الحياة الدنيا وسيلة لها ومزرعة، وسعيتِ لها سعيها.. فسوف تكونين في حكم سيد الاحياء والعبد العزيز لدى خالقه الكريم وستصبحين الـضيف المكرم الفاضل في هذه الدنيا.
فدونك طريقان اثنان، فاختاري أيّما تشائين.
واسألي الرب الرحيم الهداية و التوفيق.
[/b] [/center] | |
|
| |
ربيع شوايل مشرف مكتبة الصور
عدد الرسائل : 513 العمر : 45 تاريخ التسجيل : 11/03/2008
| موضوع: رد: هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ - الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي الأحد يوليو 06, 2008 11:53 am | |
| الكلمة السادسة بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ ]إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفُسَهم وأموالَهم بأنّ لَهم الجنة[ (التوبة:111)
اذا أردت أن تعلم ان بيع النفس والمال الى الله تعالى، والعبودية له، والجندية في سبيله أربح تجارة واشرفها! فانصت الى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:
وضع سلطان ـ ذات يوم ـ لدى اثنين من رعاياه وديعةً وامانةً، لكل منهما مزرعة واسعة، فيها كل ما تتطلبه من مكائن وآلات وأسلحة وحيوانات وغيرها.. وتوافق ان كان الوقت آنذاك وقت حرب طاحنة، لا يقرّ قرار لشئ؛ فإما ان تبدّله الحرب وتغيّره أو تجعله أثراً بعد عين. فأرسل السلطان رحمةً منه وفضلاً أحدَ رجاله المقربين مصحوباً بأمره الكريم ليقول لهما:
((بيعوا لي ما لديكم من أمانتي لأحفظها لكم، فلا تذهب هباء في هذا الوقت العصيب، وسأردّها لكم حالما تضع الحرب أوزارها.. وسأوفي ثمنها لكم غالياً، كأن تلك الامانة ملككم.. وستُشغل تلك المكائن والآلات التي في حوزتكم الآن في معاملي وبأسمي وعهدتي.. وسترتفع اثمانها من الواحد الى الالف، فضلاً عن أن جميع الارباح ستعود اليكم ايضاً.. وسأتعهد عنكم بجميع تكاليفها ومصاريفها، حيث انكم عاجزون فقراء لا تتحملون مصاريف تلك المكائن.. وسأرد لكم جميع ارداتها ومنافعها، علماً اني سأبقيها عندكم لتستفيدوا منها وتتمتعوا بها الى أن يحين وقت أخذها.
فلكم خمس مراتب من الارباح في صفقة واحدة.
وان لم تبيعوها لي فسيزول حتماً كل ما لديكم، حيث ترون أن أحداً لا يستطيع أن يمسك بما عنده.. وستحرمون من تلك الاثمان الغالية.. وستهمل تلك الآلات الدقيقة النفيسة والموازين الحساسة والمعادن الثمينة، وتفقد قيمتها كلياً، وذلك لعدم استعمالها في اعمال راقية.. وستتحملون وحدكم ادارتها وتكاليفها وسترون جزاء خيانتكم للامانة.. فتلك خمس خسائر في صفقة واحدة. وفوق هذا كله ان هذا البيع يعني ان البائع يصبح جندياً حراً أبياً خاصاً بي، يتصرف باسمي ولا يبقى اسيراً عادياً وشخصاً سائباً..)).
أنصت الرجلان ملياً الى هذا الكلام الجميل والامر السلطاني الكريم. فقال العاقل الرزين منهما:
سمعاً وطاعة لأمر السلطان، رضيت بالبيع بكل فخر وشكر.
أما الآخر المغرور المتفرعن الغافل فقد ظن أن مزرعته لا تبيد أبداً، ولا تصيبها تقلبات الدهر واضطرابات الدنيا، فقال:
((لا!.. ومَن السلطان؟ لا ابيع ملكي ولا أفسد نشوتي!)).
ودارت الايام.. فاصبح الرجل الأول في مقام يغبطه الناس جميعاً، اذ اضحى يعيش في بحبوحة قصر السلطان، يتنعم بألطافه ويتقلب على ارائك افضاله. أما الآخر فقد ابتلي شرّ بلاء حتى رثى لحاله الناس كلهم، رغم انهم قالوا: انه يستحقها! اذ هو الذي ورّط نفسه في مرارة العذاب جزاء ما ارتكب من خطأ، فلا دامت له نشوته ولا دام له ملكه.
فيا نفسي المغرورة!
انظري من خلال منظار هذه الحكاية الى وجه الحقيقة الناصعة. فالسلطان هو سلطان الازل والأبد وهو ربك وخالقك. وتلك المزرعة والمكائن والآلات والموازين هي ما تملكينه في الحياة الدنيا من جسم وروح وقلب، وما فيها من سمع وبصر وعقل وخيال، ناي جميع الحواس الظاهرة والباطنة. وأما الرسول الكريم فهو سيدنا محمد e . وأما الأمر السلطاني المحكم فهو القرآن الكريم الذي يعلن هذا البيع والتجارة الرابحة في هذه الآية الكريمة:] إنَّ الله اشترى من المؤمنينَ أنفُسَهم وأموالَهُم بأنَّ لَهم الجنّةَ[ وأما الميدان المضطرب والحرب المدمّرة فهي احوال هذه الدنيا، اذ لا قرار فيها ولا ثبات، كلها تقلبات تلحّ على فكر الانسان بهذا السؤال:
((ان جميع ما نملك لا يستقر ولا يبقى في ايدينا، بل يفنى ويغيب عنّا، أليس هناك من علاج لهذا؟ ألا يمكن ان يحل البقاء بهذا الفناء؟!)).
وبينما الانسان غارق في هذا التفكير، إذا به يسمع صدى القرآن السماوي يدوّي في الآفاق ويقول له بتلك الآية الكريمة: نعم! ان هناك علاجاً لهذا الداء، بل هو علاج لطيف فيه ربح عظيم في خمس مراتب.[/b] [/center] | |
|
| |
ربيع شوايل مشرف مكتبة الصور
عدد الرسائل : 513 العمر : 45 تاريخ التسجيل : 11/03/2008
| موضوع: رد: هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ - الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي الأحد يوليو 06, 2008 12:00 pm | |
| سؤال: وما العلاج؟
الجواب: بيعُ الامانة الى مالكها الحقيقي، في هذا البيع خمس درجات من الربح في صفقة واحدة.
الربح الاول: المال الفاني يجد البقاء، لأن العمر الزائل الذي يوهب للحي القيوم الباقي، ويبذل في سبيله سبحانه، ينقلب عمراً ابدياً باقياً. عندئذٍ تثمر دقائق العمر ثماراً يانعة وازاهير سعادة وضاءة في عالم البقاء مثلما تفنى البذور ظاهراً وتنشق عنها الازهار والسنابل.
الربح الثاني: الثمن هو الجنة.
الربح الثالث: يرتفع ثمن كل عضو وحاسة ويغلو من الواحدة الى الألف.
فمثلاً: العقل عضو وآلة، إن لم تبعه ـ يا اخي ـ لله ولم تستعمله في سبيله، بل جعلته في سبيل الهوى والنفس، فانه يتحول الى عضو مشؤوم مزعج وعاجز، اذ يحمّلك آلام الماضي الحزينة وأهوال المستقبل المخيفة، فينحدر عندئذٍ الى درك آلة ضارة مشؤومة، ألا ترى كيف يهرب الفاسق من واقع حياته وينغمس في اللهو أو السكر انقاذاً لنفسه من ازعاجات عقله؟ ولكن اذا بيع العقل الى الله، واُستُعمل في سبيله ولأجله، فانه يكون مفتاحاً رائعاً بحيث يفتح ما لا يعد من خزائن الرحمة الإلهية وكنوز الحكمة الربانية فاينما ينظر صاحبه وكيفما يفكر يرى الحكمة الإلهية في كل شئ، وكل موجود، وكل حادثة. ويشاهد الرحمة الإلهية متجلية على الوجود كله، فيرقى العقل بهذا الى مرتبة مرشدٍ رباني يهئ صاحبه للسعادة الخالدة.
ومثلاً: العين حاسة، تطل الروح منها على هذا العالم، فان لم تستعملها في سبيل الله، واستعملتها لأجل النفس والهوى، فانها بمشاهدتها بعض المناظر الجميلة المؤقتة الزائلة تصبح في درك الخادمة والسمسارة الدنيئة لإثارة شهوات النفس والهوى. ولكن إن بعتها الى خالقها البصير واستعملتها فيما يرضيه، عندئذٍ تكون العين مطالِعة لكتاب الكون الكبير هذا وقارئة له، ومشاهِدة لمعجزات الصنعة الربانية في الوجود، وكأنها نحلة بين ازاهير الرحمة الإلهية في بستان الارض، فتقطّر من شَهْد العبرة والمعرفة والمحبة نور الشهادة الى القلب المؤمن.
ومثلاً: ان لم تبع حاسة الذوق ـ التي في اللسان ـ الى فاطرها الحكيم، واستعملتها لأجل المعدة والنفس، فحينئذٍ تهوي الى درك بوّاب معمل المعدة واصطبلها، فتهبط قيمتها. ولكن ان بعتَها الى الرزاق الكريم، فانها ترقى الى درجة ناظر ماهر لخزائن الرحمة الإلهية، ومفتش شاكر لمطابخ القدرة الصمدانية.
فيا ايها العقل! أفق، اين الآلة المشؤومة من مفتاح كنوز الكائنات؟
ويا ايتها العين! ابصري جيداً، اين السمسرة الدنيئة من الامعان في المكتبة الإلهية؟
-ويا أيها اللسان! ذق بحلاوة اين بواب المعمل والاصطبل من ناظر خزينة الرحمة الإلهية؟.
فان شئت ـ يا اخي ـ فقس بقية الاعضاء والحواس على هذا، وعندها تفهم ان المؤمن يكسب حقاً خاصية تليق بالجنة، كما ان الكافر يكتسب ماهية توافق جهنم. فما جوزي كل منهما بهذا الجزاء العادل إلاّ لأن المؤمن يستعمل بايمانه أمانة خالقه سبحانه بأسمه وضمن دائرة مرضاته، وان الكافر يخون الأمانة فيستعملها لهواه ولنفسه الأمارة بالسوء.
الربح الرابع: ان الانسان ضعيف بينما مصائبه كثيرة، وهو فقير ولكن حاجته في ازدياد، وعاجز إلاّ أن تكاليف عيشه مرهقة، فإن لم يتوكل هذا الانسان على العلي القدير ولم يستند اليه، وان لم يسلّم الأمر اليه ولم يطمئن به، فسيظل يقاسي في وجدانه آلاماً دائمة، وتخنقه حسراته وكدحه العقيم، فإما يحوله الى مجرم قذر أو سكير عابث.
الربح الخامس: انه من المتفق عليه اجماعاً بين أهل الاختصاص والشهود والذوق والكشف أن العبادات والاذكار والتسبيحات التي تقوم بها الاعضاء عندما تعمل ضمن مرضاته سبحانه تتحول الى ثمار طيبة لذيذة من ثمار الجنة، وتقدّم اليك في وقت انت في أمس الحاجة اليها.
وهكذا.. ففي هذه التجارة ربح عظيم فيه خمس مراتب من الارباح، فان لم تقم بها فستحرم من ارباحها جميعها، فضلاً عن خسرانك خمس خسارات اخرى هي:
الخسارة الاولى: ان ما تحبه من مال وأولاد، وما تعشقه من هوى النفس وما تعجب به من حياة وشباب، سيضيع كله ويزول، مخلفاً آثامه وآلامه مثقل بها ظهرك.
الخسارة الثانية: ستنال عقاب من يخون الأمانة. لأنك باستعمالك اثمن الآلات والاعضاء في أخس الاعمال قد ظلمت نفسك.
الخسارة الثالثة: لقد افتريت وجنيت على الحكمة الإلهية، اذ اسقطت جميع تلك الاجهزة الانسانية الراقية الى دركات الأنعام بل أضل.
الخسارة الرابعة: ستدعو بالويل والثبور دائماً، وستئن من صدمة الفراق والزوال ووطأة تكاليف الحياة التي ارهقت بها كاهلك الـضعيف مع أن فقرك قائم وعجزك دائم.
الخسارة الخامسة: ان هدايا الرحمن الجميلة ـ كالعقل والقلب والعين وما شابهها ـ ما وُهبت لك إلاّ لتهيئك لفتح لبواب السعادة الابدية، فما اعظمها خسارة أن تتحول تلك الهدايا الى صورة مؤلمة تفتح لك ابواب جهنم!.
والآن.. سننظر الى البيع نفسه. أهو ثقيل متعب حقاً بحيث يهرب منه الكثيرون؟.
ـ كلا، ثم كلا.. فلا تعب فيه ولا ثقل ابداً. لأن دائرة الحلال واسعة فسيحة، تكفي للراحة والسعادة والسرور. فلا داعي للولوج في الحرام.
أما ما افترضهَّ الله علينا فهو كذلك خفيف وضئيل، وان العبودية لله بحد ذاتها شرف عظيم اذ هي جندية في سبيله سبحانه وفيها من اللذة وراحة الوجدان ما لا يوصف.
أما الواجب فهو ان تكون ذلك الجندي، فتبدأ باسم الله، وتعمل باسم الله، وتأخذ وتعطي في سبيله ولأجله، وتتحرك وتسكن ضمن دائرة مرضاته وأوامره، وان كان هناك تقصير فدونك باب الاستغفار، فتضرع اليه وقل: اللّهم اغفر لنا خطايانا، واقبلنا في عبادك، واجعلنا امناء على ما أمّنته عندنا الى يوم لقائك ... آمـين. [/b] | |
|
| |
ربيع شوايل مشرف مكتبة الصور
عدد الرسائل : 513 العمر : 45 تاريخ التسجيل : 11/03/2008
| موضوع: رد: هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ - الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي الثلاثاء يوليو 15, 2008 3:43 pm | |
| الكلمة السابعة آمنت بالله وباليوم الاخر
ان كنت ترغب ان تفهم كيف ان الايمان بالله وباليوم الآخر، أثمن مفتاحين يحلاّن لروح البشر طلسم الكون ولغزه، ويفتحان امامها باب السعادة والهناء.. وكيف ان توكّل الانسان على خالقه صابراً، والرجاء من رزّاقه شاكراً، أنفع علاجين ناجعين.. وان الإنصات الى القرآن الكريم، والانقياد لحكمه، وأداء الصلوات وترك الكبائر، اغلى زاد للآخرة، واسطع نور للقبر، وأيسر تذكرة مرور في رحلة الخلود.. أجل! ان كنت تريد ان تفهم هذه الامور كلها فأنصت معي الى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة: وقع جندي ـ في الحرب العالمية ـ في مأزق عصيب ووضع محيّر، اذ أصبح جريحاً بجرحين غائرين في يمينه وفي شماله. وخلفه أسد هصور يوشك ان ينقضّ عليه. وامامه مشنقة تبيد جميع أحبته وتنتظره ايضاً، زد على ذلك كانت امامه رحلة نفي شاقة طويلة رغم وضعه الفظيع المؤلم!.. وبينما كان هذا المسكين المبتلى مستغرقاً في تفكير يائس من واقعه المفجع هذا، اذا برجل خيّرٍ كأنه الخضر عليه السلام يتلألأ وجهه نوراً يظهر عن يمينه ويخاطبه: ـ لا تيأس ولا تقنط. سأعلمك طلسمين اثنين، ان أحسنتَ استعمالهما ينقلب ذلك الأسد فرساً اميناً مسخراً لخدمتك، وتتحول تلك المشنقة ارجوحة مريحة لطيفة تأنس بها.. وسأناولك دواءين اثنين، إن احسنت استعمالهما يصيّران جرحيك المنتنين زهرتين شذّيتين، وسأزودك بتذكرة سفر تستطيع بها ان تقطع مسافة سنة كاملة في يوم واحد كأنك تطير!! وإن لم تصدّق بما اقول فجرّبه مرة، وتيقنّ من صحته وصدقه... فجرَّب الجندي شيئاً منه، فرآه صدقاً وصواباً. نعم، وانا كذلك ـ هذا المسكين سعيد ـ أصدّقه، لانني جربته قليلاً، فرأيته صدقاً وحقاً خالصاً. ثم، على حين غرة رأى رجلاً لعوباً دساساً ـ كأنه الشيطان ـ يأتيه من جهة اليسار مع زينة فاخرة، وصور جذابة، ومُسْكرات مغرية، ووقف قبالته يدعوه: ـ اليّ اليّ أيها الصديق، أقبل لنلْهُ معاً ونستمتع بصور الحسناوات هذه، ونطرب بسماع هذه الألوان من الاغاني ونتلذذ بهذه المأكولات اللذيذة.. ولكن يا هذا! ما هذه التمتمة التي ترددها؟! ـ انه طلسم ولغز! ـ دع عنك هذا الشئ الغامض، فلا تعكّر صفو لذتنا، واُنسَ نشوتنا الحاضرة.. يا هذا... وما ذلك بيدك؟ ـ انه دواء! ـ إرمه بعيداً، انك سالم صحيح ما بك شئ، ونحن في ساعة طرب وانس ومتعة. وما هذه البطاقة ذات العلامات الخمس؟ ـ انها تذكرة سفر، وأمر اداري للتوظيف! ـ مزّقها، فلسنا بحاجة الى سفر في هذا الربيع الزاهي! وهكذا حاول بكل مكر وخديعة ان يقنع الجندي، حتى بدأ ذلك المسكين يركن شيئاً قليلاً الى كلامه. نعم، إن الانسان ينخدع، ولقد خُدعت انا كذلك لمثل هذا الماكر! وفجأة دوّى صوت كالرعد عن يمينه يحذّره: ـ اياك ان تنخدع.. قل لذلك الماكر الخبيث: ان كنت تستطيع قتل الاسد الرابـض خلفي، وان ترفع اعواد المشنقة من امامي، وان تبرأني من جرحيّ الغائرين في يميني وشمالي، وان تحول بيني وبين رحلتي الشاقة الطويلة.. نعم إن كنت تقدر على ايجاد سبيل لكل هذا فهيا أرنيه، وهات ما لديك، ولك بعد ذلك ان تدعوني الى اللهو والطرب، وإلاّ فاسكت ايها الأبله، ليتكلم هذا الرجل السامي ــ الشبيه بالخضر ــ ليقول ما يروم. فيا نفسي الباكية على ما ضحكتْ أيام شبابها. اعلمي! ان ذلك الجندي المسكين المتورط هــو أنــتِ، وهو الانســان.. وان ذلك الاســد هـو الأجـل.. وان اعواد المشنقة تلك هي الموت والزوال والفراق الذي تذوقه كل نفس.. ألا تَرَين كيف يفارقنا كل حبيب اِثر حبيب ويودعنا ليل نهار.. اما الجرحان العميقان، فأحدهما: العجز البشري المزعج الذي لا حدّ له. والآخر: هو الفقر الانساني المؤلم الذي لا نهاية له.. اما ذلك النفي والسفر المديد فهو رحلة الامتحان والابتلاء الطويلة لهذا الانسان، التي تنطلق من عالم الارواح مارةً من رحم الأم ومن الطفولة والصبا ثم من الشيخوخة ومن الدنيا ثم من القبر والبرزخ ومن الحشر والصراط.. واما الطلسمان فهما الايمان بالله وباليوم الآخر. نعم ان الموت بهذا الطلسم القدسي يلبس صورة فرس مسخّر بدلاً عن الاسد، بل يتخذ صورة بُراق يُخرج الانسان المؤمن من سجن الدنيا الى روضة الجنان، الى روضة الرحمن ذي الجلال. ومن هنا كان الكاملون من الناس يحبّون الموت ويطلبونه، حيث رأوا حقيقته. ثم ان سير الزمان ومروره على كل شئ ونفوذ الزوال والفراق والموت والوفاة فيه يتخذ بهذا الطلسم الايماني صورةً وضّاءة حيث تحفِـز الانسان الى رؤية الجِدَّة بتجدد كل شئ، بل يكون مبعث التأمل في الوان مختلفة متنوعة وانواع متباينة لمعجزات إبداع الخالق ذي الجلال وخوارق قدرته، وتجليات رحمته سبحانه ومشاهدتها باستمتاع وبهجة كاملين. بمثل ما يضفي تبدل المرايا العاكسة لألوان نور الشمس، وتغيّر الصور في شاشة السينما من جمال وروعة الى تكون المناظر الجذابة وتشكلها. | |
|
| |
ربيع شوايل مشرف مكتبة الصور
عدد الرسائل : 513 العمر : 45 تاريخ التسجيل : 11/03/2008
| موضوع: رد: هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ - الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي الثلاثاء يوليو 15, 2008 4:08 pm | |
| أما ذانك العلاجان. فاحدهما: التوكل على الله والتحلي بالصبر، اي الاستناد الى قدرة الخالق الكريم والثقة بحكمته سبحانه. ـ أهو كذلك؟ نعم، ان من يعتمد بهوية "عجزه" على سلطان الكون الذي بيده أمر ] كن فيكون[كيف يجزع ويضطرب؟ بل يثبت أمام أشد المصائب، واثقاً بالله ربه، مطمئن البال مرتاح القلب وهو يردد: ] إنّا لله وإنّا اليه راجعون[. نعم، ان العارف بالله يتلذذ من عجزه وخوفه من الله سبحانه. وحقاً ان في الخوف لذة! فلو تمكنّا من الاستفسار من طفل له من العمر سنة واحدة، مفترضين فيه العقل والكلام: ما اطيـب حالاتك وألـذها؟ فربما يكـون جــوابه: هو عندما ألوذ بصدر أمي الحنون بخوفي ورجائي وعجزي.. علماً ان رحمة جميع الوالدات وحنانهن ما هي الاّ لمعةُ تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية الواسعة. ومن هنا وجد الذين كَمُل ايمانُهم لذة تفوق اية لذة كانت في العجز ومخافة الله،حتى انهم تبرأوا الى الله براءة خالصة من حولهم وقوتهم ولاذوا بعجزهم اليه تعالى واستعاذوا به وحده، مقدِّمين هذا العجز والخوف وسيلتين وشفيعين لهم عند البارئ الجليل. أما العلاج الآخر فهو: الدعاء والسؤال ثم القناعة بالعطاء، والشكر عليه والثقة برحمة الرزاق الرحيم. ـ أهو هكذا؟ نعم! ان من كان ضيفاً لدى الذي فَرَش له وجه الارض مائدةً حافلة بالنعم، وجعل الربيع كأنه باقة انيقة من الورود ووضعها بجانب تلك المائدة العامرة بل نثرها عليها، ان مَن كان ضيفاً عند هذا الجواد الكريم جل وعلا كيف يكون الفقر والحاجة لديه مؤلماً وثقيلاً؟. بل يتخذ فقره وفاقته اليه سبحانه صورة مُشهٍّ لتناول النِعم. فيسعى الى الاستزادة من تلك الفاقة كمن يستزيد من شهيته. وهنا يكمن سبب افتخار الكاملين واعتزازهم بالفقر الى الله تعالى.. (واياك ان تظن خلاف ما نقصد بالفقر؛ انه استشعار الانسان بالفقر اليه سبحانه والتضرع اليه وحده والسؤال منه، وليس المقصود اظهار الفقر الى الناس والتذلل لهم والسؤال منهم بالتسول والاستجداء!). أما ذلك المستند أو الأمر الاداري أو البطاقة فهو أداء الفرائض وفي مقدمتها الصلوات الخمس واجتناب الكبائر. ــ أهو هكذا؟ نعم! ان جميع اهل الاختصاص والشهود وجميع اهل الذوق والكشف من العلماء المدققين والاولياء الصالحين متفقون على ان زاد طريق أبد الآباد، وذخيرة تلك الرحلة الطويلة المظلمة ونورها وبُراقها ليس إلاّ امتثال أوامر القرآن الكريم واجتناب نواهيه،والاّ فلا يغني العلم والفلسفة والمهارة والحكمة شيئاً في تلك الرحلة، بل تقف جميعها منطفئة الاضواء عند باب القبر. فيا نفسي الكسول! ما اخف اداء الصلوات الخمس واجتناب الكبائر السبع وما أريحها وأيسرها امام عِظَم فوائدها وثمراتها وضرورتها! ان كنتِ فطنة تفهمين ذلك. ألا قولي لمن يدعوكِ الى الفسق واللهو والسفاهة، والى ذلك الشيطان الخبيث الماكر: لو كانت لديك وسيلة لقتل الموت، ولإزالة الزوال عن الدنيا، ولو كان عندك دواء لرفع العجز والفقر عن البشرية، ووساطة لغلق باب القبر الى الابد، فهاتها اذن وقُلها لأسمع وأطيع.. وإلاّ فاخرس، فان القرآن الكريم يتلو آيات الكائنات في مسجد الكون الكبير هذا. فلننصت اليه، ولنتنّور بنوره، ولنعمل بهديه الحكيم، حتى يكون لساننا رطباً بذكره وتلاوته. نعم! ان الكلام كلامه. فهو الحق، وهو الذي يُظهر الحقيقة وينشر آيات نور الحكمة. اللّهم نوِّر قلوبَنا بنور الإيمان والقرآن. اللهم اَغنِنا بالافتقار اليك ولا تُفقِرنا بالإستغناء عنك، تبرأنا اليك مِن حولنا وقوتنا والتجأنا الى حولك وقوتك فاجعلنا من المتوكلين عليك ولا تكِلْنا الى أنفسنا واحفظنا بحفظك وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات. وصلِّ وسلم على سيّدنا محمد عبدك ونبيك وصفيك وخليلك وجمال ملكك ومليك صنعك وعين عنايتك وشمس هدايتك ولسان محبتك ومثال رحمتك ونور خلقك وشرف موجوداتك وسراج وحدتك في كثرة مخلوقاتك وكاشف طلسم كائناتك ودلاّل سلطنة ربوبيتك ومبلّغ مرضياتك ومعرّف كنوز أسمائك ومعلم عبادك وترجمان آياتك ومرآة جمال ربوبيتك ومدار شهودك واشهادك وحبيبك ورسولك الذي أرسلته رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى ملائكتك المقربين وعلى عبادك الصالحين... آمين .(1)
| |
|
| |
ربيع شوايل مشرف مكتبة الصور
عدد الرسائل : 513 العمر : 45 تاريخ التسجيل : 11/03/2008
| موضوع: رد: هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ - الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي الأربعاء أغسطس 20, 2008 12:27 pm | |
| الكلمة الثامنة بسم الله الرحمن الرحيم ( الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيوم) (البقرة:255) ( اِنّ الدينَ عند الله الاسلام) (آل عمران: 19) اذا اردت ان تفهم ما الدنيا وما دور الروح الانسانية فيها، وما قيمة الدين عند الانسان وكيف أنه لولا الدين الحق لتحولت الدنيا الى سجن رهيب، وأن الشخص الملحد هو أشقى المخلوقات، وأن الذي يحل طلسم العالم ولغزه المحير وينقذ الروح البشرية من الظلمات اِن هو إلا يا الله... لا إله إلا الله.. أجل اذا كنت تريد أن تفهم كل ذلك فانصت الى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة وتفكر فيها ملياً: كان شقيقان في قديم الزمان يذهبان معاً الى سياحة طويلة، فواصلا سيرهما سوية الى أن وصلا الى مفرق طريقين، فرأيا هناك رجلاً وقوراً فسألاه: أيّ الطريقين أفضل؟. فأجابهما: في الطريق اليمين التزام اجباري للقانون والنظام، إلاّ أن في ثنايا ذلك التكليف ثمة أمان وسعادة. أما طريق الشمال ففيه الحرية والتحرر الا أن في ثنايا تلك الحرية تهلكة وشقاء. والآن لكم الخيار في سلوك أيهما. وبعد الاستماع الى هذا الكلام سلك الأخ ذو الطبع الطيب طريق اليمين قائلاً: توكلت على الله. وانطلق راضياً عن طيب نفس باتباع النظام والانتظام. أما الأخ الآخر الغاوي، فقد رجّح طريق الشمال لمجرد هوى التحرر الذي فيه. والآن فلنتابع خيالاً هذا الرجل السائر في طريق ظاهره السهولة والخفة وباطنه من قبله الثقـل والعــناء. فمـا أن عبر الوديـان العمـيقة والمــرتـفعـات العاليـة الوعرة حتى دخل وسط مفازة خالية وصحراء موحشة؛ فسمع صوتاً مخيفاً، ورأى أن أسداً ضخماً غضوباً قد انطلق من الأحراش نحوه؛ ففر منه فراراً وهو يرتعد خوفاً وهلعاً، فصادف بئراً معطلة على عمق ستين ذراعاً فألقى نفسه فيها طلباً للنجاة، وفي أثناء السقوط لقَيت يداه شجرةً فتشبث بها. وكان لهذه الشجرة جذران نبتا على جدار البئر وقد سلّط عليهما فأران، أبيض وأسود. وهما يقضمان ذينك الجذرين بأسنانهما الحادة. فنظر الى الأعلى فرأى الأسد واقفاً كالحارس على فوهة البئر، ونظر الى الأسفل فرأى ثعباناً كبيراً جداً قد رفع رأسه يريد الاقتراب منه وهو على مسافة ثلاثين ذراعاً، وله فم واسع سعة البئر نفسها. ورأى ثمة حشرات مؤذية لاسعة تحيط به. نظر الى أعلى الشجرة فرأى أنها شجرة تين، الا أنها تثمر بصورة خارقة أنواعاً مختلفة وكثيرة من فواكه الأشجار ابتداء من الجوز وانتهاء الى الرمان.لم يكن هذا الرجل ليفهم ـ لسوء ادراكه وحماقته ـ بأن هذا الأمر ليس اعتيادياً، ولا يمكن أن تأتي كل هذه الأشياء مصادفةً ومن دون قصد. ولم يكن يفهم أن في هذه الشؤون العجيبة أسراراً غريبة، وأن هناك وراء كل ذلك من يدبّر هذه الأمور ويسيّرها. فبينما يبكي قلب هذا الرجل وتصرخ روحه ويحار عقله من اوضاعه الاليمة اذا بنفسه الأمارة بالسوء أخذت تلتهم فواكه تلك الشجرة متجاهلة عما حولها وكأن شيئاً لم يحدث؛ سادّة أذنيها عن صرخات القلب وهواتف الروح، خادعة نفسها بنفسها رغم أن قسماً من تلك الفواكه كانت مسمومة ومضرة. وهكذا نرى أن هذا الرجل الشقي قد عومل بمثل ما جاء في الحديث القدسي ((أنا عند ظن عبدي بي))(1) أي: أنا أعامل عبدي مثلما يعرفني هو. فلقد عومل هكذا، وسيعامل مثلها ايضاً، بل لابد أن يرى مثل هذه المعاملة جزاء تلقيه كل ما يشاهده أمراً عادياً بلا قصد ولا حكمة وكأنه الحق بعينه، وذلك لسوء ظنه وبلاهته الخرقاء؛ فصار يتقلب في نار العذاب ولا يستطيع أن يموت لينجو ولا يقدر على العيش الكريم. ونحن بدورنا سنرجع تاركين وراءنا ذلك المشؤوم يتلوى في عذابه؛ لنعرف ما جرى للأخ الآخر من أحوال. فهذا الرجل المبارك ذو العقل الرشيد ما يزال يقطع الطريق دون أن يعاني الضيق كأخيه، ذلك لأنه لا يفكر الا في الأشياء الجميلة ـ لما له من جمال الخُلق ـ ولا يأخذ بعنان الخيال الا بما هو جميل ولطيف، لذا كان يستأنس بنفسه ولا يلاقي الصعوبة والمشقة كأخيه. ذلك لأنه يعرف النظام، ويعمل بمقتضى الولاء والاتباع. فيرى الأمور تسهل له، ويمضي حراً منطلقاً مستظلاً بالأمان والاستقرار. وهكذا مضى حتى وجد بستاناً فيه أزهار جميلة وفواكه لطيفة مع ثمة جثث حيوانات وأشياء منتنة مبعثرة هنا وهناك بسبب اهمال النظافة. كان أخوه الشقي قد دخل ــ من قبل ــ في مثل هذا البستان أيضاً غير أنه انشغل بمشاهدة الجيف الميتة وانعام النظر فيها مما أشعره بالغثيان والدوار. فغادره دون أن يأخذ قسطاً من الراحة لمواصلة السير. أما هذا الأخ فعملاً بقاعدة ((انظر الى الأحسن من كل شي)) فقد أهمل الجيف ولم يلتفت اليها مطلقاً، بل استفاد مما في البستان من الأشياء والفواكه. وبعدما استراح فيه الراحة التامة مضى الى سبيله. ودخل ــ هو أيضاً كأخيه ــ في صحراء عظيمة ومفازة واسعة. وفجأة سمع صوت أسد يهجم عليه فخاف الاّ انه دون خوف أخيه، حيث فكّر بحُسن ظنه وجمال تفكيره قائلاً: لابد أن لهذه الصحراء حاكماً، فهذا الأسد اذن يحتمل أن يكون خادماً أميناً تحت أمرته.. فوجد في ذلك اطمئناناً، غير أنه فرّ كذلك حتى وصل وجهاً لوجه الى بئر معطلة بعمق ستين ذراعاً فألقى نفسه فيها وأمسك ــ كصاحبه ــ بشجرة في منتصف الطريق من البئر.. وبقي معلقاً بها، فرأى حيوانين اثنين يقطعان جذري تلك الشجرة رويداً رويداً.. فنظر الى الأعلى فرأى الأسد، ونظر الى الأسفل فرأى ثعباناً ضخماً، ونظر الى نفسه فوجدها ــ كأخيه تماماً ــ في وضع عجيب غريب. فدهش من الأمر هو كذلك إلا انه دون دهشة أخيه بألف مرة، لما منحه الله من حُسن الخلق وحُسن التفكير والفكر الجميل الذي لا يريه الا الجهة الجميلة من الأشياء. ولهذا السبب فقد فكّر هكذا: أن هذه الأمور العجيبة ذات علاقات مترابطة بعضها ببعض، وأنها لتظهر كأن آمراً واحداً يحركها؛ فلابد اذن أن يكون في هذه الأعمال المحيرة سرّ مغلق وطلسم غير مكشوف. أجل! ان كل هذا يرجع الى أوامر حاكم خفي، فأنا اذن لست وحيداً، بل ان ذلك الحاكم الخفي ينظر اليّ ويرعاني ويختبرني، ولحكمة مقصودة يسوقني الى مكان، ويدعونني اليه. فنشأ لديه من هذا التفكير الجميل والخوف اللذيذ شوقٌ أثار هذا السؤال: مَن يكون يا ترى هذا الذي يجرّبني ويريد أن يعرّفني نفسه؟ ومَن هذا الذي يسوقني في هذا الطريق العجيب الى غاية هادفة؟ ثم نشأ من الشوق الى التعرف محبة صاحب الطلسم، ونمت من تلك المحبة رغبة حل الطلسم، ومن تلك الرغبة انبثقت رغبة اتخاذ وضع جميل وحالة مقبولة لدى صاحب الطلسم حسب ما يحبه ويرضاه. ثم نظر أعلى الشجرة فرأى أنها شجرة تين، غير أن في نهاية أغصانها آلاف الأنواع من الأثمار والفواكه، وعندها ذهب خوفه وزال نهائياً، لأنه علم علماً قاطعاً بأن شجرة التين هذه انما هي فهرس ومعرض، حيث قلد الحاكم الخفي نماذخ ما في بستانه وجناته بشكل معجز عليها وزيّنها بها، اشارةً لما أعدّه من أطعمة ولذائذ لضيوفه.. . | |
|
| |
ربيع شوايل مشرف مكتبة الصور
عدد الرسائل : 513 العمر : 45 تاريخ التسجيل : 11/03/2008
| موضوع: رد: هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ - الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي الأربعاء أغسطس 20, 2008 12:36 pm | |
| .. وإلا فان شجرة واحدة لن تعطي أثمار آلاف الأشجار. فلم يرَ أمامه الاّ الدعاء والتضرع، فألح متوسلاً بانكسار الى أن اُلهم مفتاح الطلسم فهتف قائلاً:((يا حاكم هذه الديار والآفاق! التجئ اليك وأتوسل وأتـضرع، فانا لك خادم، أريد رضاك وأنا أطلبك وأبحث عنك))..فانشق جدار البئر فجأة بعد هذا الدعاء، عن باب يفتح الى بستان فاخر طاهر جميل، وربما انقلب فم ذلك الثعبان الى ذلك الباب واتخذ كل من الأسد والثعبان صورة الخادم وهيأته.. فأخذا يدعوانه الى البستان حتى أن ذلك الأسد تقمص شكل حصان مسخّر بين يديه. فيا نفسي الكسلى! ويا صاحبي في الخيال.. تعالا لنوازن بين أوضاع هذين الأخوين كي نعلم كيف أن الحسنة تجلب الحسنة وأن السيئة تأتي بالسيئة. ان المسافر الشقي الى جهة الشمال معرّض في كل آن أن يلج في فم الثعبان فهو يرتجف خوفاً وهلعاً. بينما هذا السعيد يُدعى الى بستان أنيق بهيج مثمر بفواكه شتى.. وان قلب ذلك الشقي يتمزق في خوف عظيم ورعب أليم بينما هذا السعيد يرى غرائب الأشياء وينظر اليها بعبرة حلوة وخوف لذيذ ومعرفة محبوبة.. وان ذلك الشقي المسكين ليعاني من الوحشة واليأس واليتم عذاباً وأي عذاب! بينما هذا السعيد يتلذذ في الأنس ويترفل في الأمل والشوق.. ثم ان ذلك المنكود يرى نفسه محكوماً عليه ـ كالسجين ـ بهجمات الحشرات المؤذية، بينما هذا السعيد المحظوظ يتمتع متعة ضيف عزيز. وكيف لا وهو ضيف عند مضيّف كريم، فيستأنس مع عجائب خدمه. ثم أن ذلك السئ الحظ ليعجّل عذابه في النار بأكله مأكولات لذيذة الطعم ظاهراً ومسمومة حقيقةً ومعنىً، اذ ان تلك الفواكه ما هي الاّ نماذج، قد اُذن للتذوق منها فحسب ليكون طالباً لحقائقها وأُصولها ويكون شاريها الأصيل وإلاّ فلاسماح للشراهة منها كالحيوان. أما هذا السعيد المحمود فانه يتذوق منها اذ يعي الأمر، مؤخِّراً أكلها وملتذاً بالانتظار.. ثم ان ذلك الشقي يكون قد ظلم نفسه بنفسه؛ جاراً عليها وضعاً مظلماً وأوهاماً ذات ظلمات حتى كأنه في جحيم، بانعدام بصيرته عن حقائق ساطعة كالنهار وأوضاع جميلة باهرة، فلا هو مستحق للشفقة ولا له حق الشكوى، مَثَله في هذا مثل رجل وسط أحبائه في موسم الصيف وفي حديقة جميلة بهيجة في وليمة طيبة للأفراح، فلعدم قناعته بها راح يرتشف كؤوس الخمر ـ أم الخبائث ـ حتى أصبح سكيراً ثملاً؛ فشرع بالصراخ والعويل، وبدأ بالبكاء، ظاناً نفسه أنه في قلب الشتاء القارس، ومتصوراً أنه جائع وعار وسط وحوش مفترسة. فمثلما أن هذا الرجل لا يستحق الشفقة والرأفة، اذ ظلم نفسه بنفسه متوهماً أصدقاءه وحوشاً، محتقراً لهم.. فكذلك هذا المشؤوم. ولكنما ذلك السعيد يبصر الحقيقة، والحقيقة بذاتها جميلة، ومع ادراك جمال الحقيقة فانه يحترم كمال صاحب الحقيقة ويوقّره فيستحق رحمته.فاعلم اذن سراً من أسرار: ( ما أصَابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِن الله وما أصَابَك مِن سَيئةٍ فَمِن نَفسِكَ) (النساء:79) فلو وازنت سائر هذه الفروق وأمثالها لعلمت أن النفس الأمارة للأول قد أحضرت له جهنم معنوية، بينما الآخر قد نال ــ بحسن نيته وحسن ظنه وحسن خصلته وحسن فكره ــ الفيض والسعادة والاحسان العميم. فيا نفسي. ويا أيها الرجل المنصت معي الى هذه الحكاية! اذا كنت تريد أن لا تكون مثل ذلك الأخ المشؤوم وترغب في أن تكون كالأخ السعيد فاستمع الى القرآن الكريم وأرضخ لحكمه واعتصم به واعمل بأحكامه. واذا كنت قد وعيت ما في هذه الأقصوصة التمثيلية من حقائق؛ فانك تستطيع أن تطبق عليها الحقيقة الدينية والدنيوية والانسانية والايمانية كلها. وسأقول لك الأسس، واستخرج بنفسك الدقائق! فالاخوان الاثنان: أحدهما روح المؤمن وقلب الصالح، والآخر روح الكافر وقلب الفاسق.. أما اليمين من تلكما الطريقين فهو طريق القرآن وطريق الايمان وأما الشمال فطريق العصيان والكفران.. وأما ذلك البستان في الطريق فهو الحياة الاجتماعية المؤقتة للمجمتع البشري والحضارة الانسانية التي يوجد فيها الخير والشر والطيب والخبيث والطاهر والقذر معاً. فالعاقل هو مَن يعمل على قاعدة: ((خذ ما صفا.. دع ما كدر)) فيسير مع سلامة القلب واطمئنان الوجدان. وأما تلك الصحراء فهي هذه الدنيا وهذه الارض.. وأما ذلك الأسد فهو الأجل والموت.. وأما تلك البئر فهي جسد الانسان وزمان الحياة. وأما ذلك العمق البالغ ستين ذراعاً فهو اشارة الى العمر الغالب، وهو معدل العمر ستون سنة.. وأما تلك الشجرة فهي مدة العمر ومادة الحياة.. وأما الحيوانان الاثنان، الأسود والابيض فهما الليل والنهار.. وأما ذلك الثعبان فهو فم القبر المفتوح الى طريق البرزخ ورواق الآخرة، الا أن ذلك الفم هو للمؤمن باب يفتح من السجن الى البستان.. وأما تلك الحشرات المضرة فهي المصائب الدنيوية، الا أنها للمؤمن في حكم الايقاظات الإلهية الحلوة والالتفاتات الرحمانية لئلا يغفل.. وأما مطعومات تلك الشجرة فهي النعم الدنيوية التي صنعها ربّ العزة الكريم لكي تكون فهرساً للنعم الأخروية ومذكِّرة بها، بمشابهتها لها، وقد خلقها البارئ الحكيم على هيئة نماذج لدعوة الزبائن الى فواكه الجنة، وان اعطاء تلك الشجرة على وحدتها الفواكه المختلفة المتباينة اشارة الى آية الصمدانية وختم الربوبية الآلهية وطغراء سلطنة الألوهية. ذلك لأن ((صنع كل شئ من شئ واحد)) أي صنع جميع النباتات وأثمارها من تراب واحد، وخلق جميع الحيوانات من ماء واحد، وابداع جميع الأجهزة الحيوانية من طعام بسيط. وكذا ((صنع الشئ الواحد من كل شئ)) كبناء لحم معين وجلد بسيط لذي حياة من مطعومات مختلفة الأجناس.. انما هي الآية الخاصة للذات الأحدية الصمدية والختم المخصوص للسلطان الازلي الابدي وطغراؤه التي لا يمكن تقليدها أبداً. نعم ان خلق شئ من كل شئ وخلق كل شئ من شئ، انما هو خاصية تعود الى خالق كل شئ.. وعلامة مخصوصة للقادر على كل شئ. وأما ذلك الطلسم فهو سر حكمة الخلق الذي يُفتح بسر الايمان. واما ذلك المفتاح فهو ( الله لا إله الا هو الحي القيوم) و ((يا الله)) و ( لاإله إلا الله..) وأما انقلاب فم ذلك الثعبان الى باب البستان فهو رمز الى أن القبر هو سجن الوحشة والنسيان والاهمال والـضيق، فهو كبطن الثعبان لأهل الـضلالة والطغيان. ولكنه لأهل الايمان والقرآن باب مفتوح على مصراعيه من سجن الدنيا الى بستان البقاء، ومن ميدان الامتحان الى روضة الجنان، ومن زحمة الحياة الى رحمة الرحمن.. وأما انقلاب ذلك الأسد المفترس الى حصان مسخر والى خادم مؤنس فهو اشارة الى أن الموت لأهل الـضلال فراق أبدي أليم من جميع الاحبة، وخروج من جنة دنيوية كاذبة الى وحشة سجن انفرادي للقبر، وضياع في تيه سحيق، بينما هو لأهل الهداية وأهل القرآن رحلة الى العالم الآخر، ووسيلة الى ملاقاة الأحبة والأصدقاء القدامى، وواسطة الى دخول الوطن الحقيقي ومنازل السعادة الأبدية، ودعوة كريمة من سجن الدنيا الى بساتين الجنان، وانتظار لأخذ الأجرة للخدمات تفضلاً من الرحمن الرحيم، وتسريح من تكاليف الحياة واجازة من وظيفتها، واعلان الانتهاء من واجبات العبودية وامتحانات التعليم والتعليمات. نحصل من هذا كله:أن كل من يجعل الحياة الفانية مبتغاه فسيكون في جهنم حقيقةً ومعنىً، حتى لو كان يتقلب ظاهراً في بحبوحة النعيم. وان كل من كان متوجهاً الى الحياة الباقية ويسعى لها بجد واخلاص فهو فائز بسعادة الدارين وأهل لهما معاً حتى لو كانت دنياه سيئة وضيقة، الا أنه سيراها حلوة طيبة، وسيراها قاعة انتظار لجنته، فيتحملها ويشكر ربه فيها وهو يخوض غمار الصبر.اللهم اجعلنا من أهل السعادة والسلامة والقرآن والايمان .. آمين. اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه بعدد جميع الحروفات المتشكلة في جميع الكلمات المتمثلة بإذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئ من أول النزول الى آخر الزمان. وارحمنا ووالدينا وارحم المؤمنين والمؤمنات بعددها برحمتك يا أرحم الراحمين آمين .. والحمد لله رب العالمين.
| |
|
| |
| هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ - الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي | |
|