فإنها قد تصير غذاء للإنسان، فتخالط منه الدم والخلايا وتدخل في تركيبه وبنائه وتصير جزءاً من خلايا التفكير ومن الأعصاب فيه، فتنتقل إذن لتحيا مجدّداً في صورة أشرف بكثير من صورتها الأولى.
وما كان لها أن تكون كذلك لولا ذلك الاضمحلال الظاهري الذي يُرى في أعين الناس فناءً وعدماً وهو في واقعه وجود جديد وتجلٍّ أبرز من الأول.
إن صورة استعادة الحبة للحياة ليست في واقعها إلا صورة مُقرِّبة لاستعادة الإنسان حياته بعد أن يموت فينتقل إلى وجود ليس الوجود الأول شيئاً بالنسبة إليه،
ومفارقته الحياة الدنيا أمر ضروري ليُسَنْبِل حياة جديدة سالمة من كل منغصات الحياة الأولى.
وبهذا التصور البديع الرائع استطاع النورسي أن يبلغ الغاية من تقرير كون الموت أمراً وجودياً ما دام هذا الموت عبارة عن تفاعلات منضبطة منسقة يَنتُج عنها استعادة الإنسان لوجوده مرة أخرى.
وهذه التفاعلات ليست ولا شك إلا أمراً وجودياً عبّر عنه القرآن الكريم بقوله
: (اَلَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) (الملك:2).
إن تحليل النورسي ذو أهمية بالغة بالنسبة لدارسي العقيدة وللمفسرين على حد سواء،
وأهميته تكمن في ملاحظ عدة: منها أنه استطاع أن يقرب بجلاء ودون تأويلات بعيدة وجودية الموت،
وهذا أمر طالما عسر على كثير ممن تناولوا الموضوع.
وتكمن أهمية التحليل أيضاً في أنه استطاع أن يعطي صورة غيرَ مُرعبة عن الموت،
لأن الموت بهذا ليس فناء ولا اضمحلالاً ولا انسحاباً،
وإنما هو مجرد تحول ونُقلة إلى الأكمل والأشرف.
وتحليل النورسي ينظر إلى قول أبي العلاء المعري:
خلق الناس للفناء فضَلّتْ أمة يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعمال إلى دار شقوة أو رشاد
ولقد كان الخوف من الموت دائماً مرتبطاً بتصوره عدماً وفناء،
فمن ثَم كان الإنسان أسير ذلك الخوف، يراه حرباً على الوجود الإنساني وهدماً لكينونته،
فيكرهه ويتحاشى أسبابه حتى ولو كانت جهاداً من أجل الحق ودفاعاً عن العقيدة ومواجهة للباطل.
إن فلسفة الموت عند النورسي إعلان عن بقاء الإنسان واستمراره واتصال حياته الأخرى بالأولى،
وهي رفض لفلسفة العدم والإلغاء والتشاؤم التي أشاعتها الفلسفات المادية التي حصرت حياة الإنسان في البعد الأول من رحلته، وأَوهَمَته أن الموت نهايته ودماره فتأزم لذلك.
إن تحليل النورسي إلى جانب كل ما سبق مفيد كل الإفادة على أكثر من مستوى؛
فهو مفيد على المستوى العقدي،