قراءة في فلسفة ابن سبعين
تصنيف العلوم لبناء علم التحقيق ونقد الكلام
طارق هاشم خميس الدليمي / بغداد
لو أردنا أن نلقي نظرة بسيطة على الحركة الفكرية في الأندلس قبيل عصر ابن سبعين لوجدنا أن عهد الموحدين الذي نشأ ابن سبعين في نهاياته،يعد من أكثر عهود الاستقرار الفكري بالنسبة إلى الفلسفة .
فقد كان من نتاج ذلك العصر فلاسفة كبار امتلأت بهم الدنيا من أمثال ابن باجة(ت 522 هـ ) وابن طفيل(ت 571 هـ ) وابن رشد(ت 595 هـ ) وتوزعوا في مذاهبهم بين ارسطيين واشراقيين ،ومما لا يقبل الشك فقد اطلع ابن سبعين على فكر هؤلاء العمالقة ،ولم يعرفهم فحسب، بل عرف من خلالهم فكر اليونان، لأنهم كانوا يحملونه على سبيل التأثير والشرح .وبما إن الرجل كان مسلم الديانة فكان لا بد له من الإطلاع على الفقه الإسلامي ،وان اشتغاله بالفلسفة جعله على احتكاك وان كان غير ودي مع الفقهاء .وكل فيلسوف ،اطلع شاء أم أبى على كل ما جاءت به الفرق الكلامية التي انظوت تحت راية الإسلام تذب عنه ضد هجمات الفرق الكلامية من الديانات الأخرى.وإذا أردنا أن نصنفه فنقول انه كان صوفيا ،وهذه أربعة من العلوم اخترقها ابن سبعين ،ومن الطبيعي أن يكون له موقف من كل علم من هذه العلوم ،فقد هاجم الفلسفة ،لأن الفلاسفة يقلدون ـ حسب زعمه ـ أرسطو تقليدا أعمى ،وهاجم بعنف الفارابي وابن سينا أو من اسماهم بالمشارقة ،وكان له موقف من الفقه والكلام والتصوف منطلقا من موقفه القائل بالوحدة المطلقة ،والتي ينبغي على القائل بها أن يصل إلى رتبة (المحقق) أو أن يكون ملما بعلم التحقيق،وبعبارة أخرى فان الوحدة المطلقة عند ابن سبعين تكون هي موضوع علم التحقيق ،ذلك العلم الذي يحوي صاحبه كل الكمالات الوجودية والذوقية .ولا يصل المحقق إلى هذه الدرجة إلا بعد سلوك طريق شاق وطويل يسميه ابن سبعين بالسفر ،والمحقق بعد فوزه من هذه السفرة بعلم الوحدة المطلقة يكون حاله أكمل الأحوال وأعلاها .وعلم الوحدة المطلقة عند ابن سبعين وهو نفسه علم التحقيق هو وحده العلم الإلهي ،وبما انه كان قد اطلع على سائر القوانين الشرعية والفلسفية والأدبية، فقد حصرها في خمسة علوم أو مذاهب وصف اربعا منها بـ (الناقصة) وهي علوم الفقه والكلام والفلسفة والتصوف ،وواحد فقط عده كاملا وهو المذهب الذي يسميه ابن سبعين بمذهب التحقيق .لقد قام ابن سبعين بتوجيه النقد إلى هذه العلوم في كتابه الشهير (بد العارف) وسنقوم باستخراج الأحكام التي أطلقها وهو ينتقد هذه العلوم ،في محاولته لتثبيت علمه الوحيد وهو علم التحقيق .أما عن الدافع الذي دفعنا إلى ذلك هو الهجوم العنيف الذي لمسناه منه عندما انتقد هذه العلوم حتى ظننا انه سيبطلها جميعا ،أو لاحظنا انه ربما عدها من قبيل اللغو ،غير أننا تبيننا بعد ذلك إن هدفه كان التنبيه على بعض النقص في تلك العلوم قياسا بعلم التحقيق، بل ويؤكد أن هذه العلوم لا بد منها للمسترشدين أو الباحثين عن علم التحقيق،كما تبين لنا ونحن نخوض في هذا الموضوع انه قد ألم بكل هذه العلوم التي انتقدها ،إلماما يجعله على أعلى درجات العلم بها ،فكان فقيها كبيرا وفيلسوفا بارعا ومتكلما نابغا وصوفيا ذوقيا عرفانيا ممتازا، وهذا يدل على موسوعية الرجل ورجــاحة عقله وسعة علمه .
نشأة ابن سبعين
أجمعت المصادر التي بحثنا فيها عن سنة مولد بن سبعين على انه ولد في عام (614 هـ )من أسرة عريقة ومن أبوين كان يشار اليهما ،وان اسمه عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد ،وان أباه قد تولى أمر المدينة على نحو ما يستفاد من قول ابن الخطيب في الاحاطة وهذا نصه : " كان ابن سبعين من أبناء الاصالة في بلده ،وولي أبوه بها خطة المدينة وبيت نبيه " .ويروى إن جدوده كان "يشار إليهم ويعول في الرياسة والحسب والتعيين عليهم "ومن هنا يتبين لنا إن ابن سبعين ينتمي إلى أسرة نبيلة كان لها شان بالأندلس ،وهذا يفسر لنا كم كان ابن سبعين معتدا بنفسه لنشأته في مثل هذه الأسرة ،ويقول ابن الخطيب في ذلك"نشأ ترفا مبجلا في ظل جاه وعز ونعمة لم تفارق معها نفسه البأو (أي الفخر)" .ويحدثنا من قام بالترجمة لابن سبعين بأنه كان في طور نشأته بالأندلس جادا في حياته بعيدا عن اللهو والترف ،تاركا للرياسة الدنيوية التي وجدها في أسرته ،ويبدو كذلك انه صاحب الفضل الأول في تكوين شخصيته العلمية ،والى هذا يشير تلميذه يحيى بن احمد قائلا : " انظر في بدايته وحفظ الله له في صغره ،وضبطه له من اللهو واللعب ،وإخراجه من اللذة الطبيعية التي هي في جملة البشرية ،وتركه للرياسة العرضية المعول عليها عند العالم مع كونه وجدها في آبائه ،وهي الآن في أخوته ..وانقطاعه إلى الحق انقطاعا صحيحا تعلم تخصيصه وخرقه للعادة ،ثم انظر في تأييده وفتحه من الصغر وتأليف كتاب " بد العارف " وهو ابن خمس عشرة سنة ،وفي جلالة هذا الكتاب ،وكونه يحتوي على جميع الصنائع العلمية والعملية ،وجميع الأمور السنية ،تجده خارقا للعادة ،وفي نشأته ببلاد الأندلس ولم يعلم له كثرة نظر ،وظهوره فيها بالعلوم التي لم تسمع قط ، تعلم انه خارق للعادة .هذا بالنسبة إلى الطور الأول من حياة ابن سبعين ،أما عن الطور الثاني من حياته والذي بدأ بارتحاله من مرسية نحو 640 هـ إلى بعض بلاد الأندلس ثم شمالي أفريقيا ومصر وينتهي بدخوله إلى مكة سنة 652 هـ ،فقد اختلف المؤرخون في سبب خروجه من الأندلس فأولئك الذين هم خصومه يقولون انه نفي من المغرب بسبب كلمة كفر صدرت عنه وهي قوله " لقد تحجر ابن آمنة واسعا بقوله لا نبي من بعدي " ويرون فيها انه كان ينكر النبوة ،ويعد أنها شيء كسبي . وهناك من يرى في هذا الكلام كثيرا من التجني على ابن سبعين الذي كان يعظم النبوة ،ويؤمن بالنبي "وقال بعضهم عند إيراده جملة من رسائله ،أنها تشتمل على ما يشهد له بتعظيم النبوة وإيثار الورع. أما في الجانب الآخر وأعني به أنصار ابن سبعين،فإنهم يرون في هجرته،احد مفاخره ،ودليلا على كونه وارثا مخصصا فيقول تلميذه يحيى ابن احمد:"وانظر في خروجه عن الأهل والوطن الذي قرنه الحق مع قتل الإنسان نفسه .تعلم تخصيصه وخرقه للعادة .
أما المنصف من الآراء فقد رجحت هجرة ابن سبعين من الأندلس إلى هجوم الفقهاء عليه وخوفه منهم "فقد كان الاندلسيون يضيقون بكل نظر فلسفي حر ،وهم قد أحرقوا من قبل كتب الغزالي حينما وفدت إلى الأندلس مع اعتدالها وكلنا يعرف أخبار قتل الكثير من الصوفية المتفلسفين الذين لقوا نهاية شنيعة مثل ابن قسي وابن برجان وابن العريف وغيرهم .أما في خبر وفاته فيذكر ابن الخطيب في الاحاطة انه توفي في يوم الخميس التاسع من شوال سنة 669 هـ .ويتفق معه في ذلك الغبريني ويذكر ابن كثير وفاته في الثامن والعشرين من شوال من السنة نفسها أما عن الكيفية التي مات عليها فقد أُختُلف فيها هي الأخرى ،فيقول صاحب فوات الوفيات في رواية غير مؤكدة عن انتحار ابن سبعين بأن قطع شرايين يده حتى تصفى دمه. وكان أن فتحت هذه الرواية الباب أمام خصوم ابن سبعين للنيل منه ،فهي إن صحت فذلك دليل على كفره ولا شك في ذلك ،وهناك رواية أقرب إلى التصديق ،مفادها عداوة بين ابن سبعين ووزير ملك اليمن الذي كان (حشويا) وكان يتحدث عن كراهية هذا الوزير له وليس ببعيد أن يكون هذا الوزير قد اثر في ملك اليمن وأحنقه على ابن سبعين فدبرا معا من يدس له السم للتخلص منه .ومن المعاصرين من يلوح بانتحاره بدعوى " انتهى من أذواقه إلى الفناء عن نفسه والاستغراق في ربه والاتحاد به" .بينما يرى آخر " ابن سبعين هذه الشخصية الغريبة الشائقة بأقوالها وأفعالها ،وبخاصة فعلها النهائي الحاسم الذي قضت به على حياتها ،فكانت فعلة وجودية من الطراز الأول ،لا بد أن تكون قد قامت على أسس وجودية ونعني بذلك انتحاره بقطعه احد شرايين يده .أما بالنسبة لموقفنا من روايات موت ابن سبعين فقد راجعنا كتب التاريخ الموثوقة والمؤرخين الثقاة من قبيل ابن الخطيب وابن كثير وابن تغري بردي والتنبكي وابن العماد والغبريني وغيرهم ،فلم نجد ما يفيد إن وفاة الرجل كانت غير طبيعية ،وهذا يؤدي بنا إلى القول بناء على هؤلاء الثقاة انه مات ميتة طبيعية،وقد حصل بسبب تناقض روايات مــوته علــى شهرة كبيرة .
ابن سبعين يصنف العلوم
قام ابن سبعين في البداية باستعراض هذه العلوم التي انتقدها في ما بعد ،ومن الغريب انه يؤكد أن لكل علم من هذه العلوم دورا في عملية التحصيل المعرفي وانه لا يذمها ذما مطلقا حسب زعمه ،ولكنه يعد علم التحقيق أو ما يصل إليه المقرب أفضل العلوم . فمن أسباب كمال علم الفقه ،هي معرفة لسان العرب ومعرفة اللغة العربية وحفظ الكتاب والسنة ومعرفة تاريخ الآيات والأحاديث والعلم بالناسخ والمنسوخ والنظر في المحكم والمتشابه وغير ذلك مما هو متعلق بعلوم الكتاب والسنة ،والعلم عند الفقيه كما يعرفه ابن سبعين هو : "معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد ومعنى العلم عنده "الفقيه" ما يفهم منه خطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم ،وينظر ذلك من كلام العرب والسلف الصالح "ومن أسباب الكمال عند المتكلم الأشعري بحسب ابن سبعين فهي سلامة العقل والفطرة ،والاجتهاد الكلي ،والبحث المسدد ،والمعلم الخبير الناصح ويؤكد أيضا:"إن السبيل إلى معرفة الأشياء عند الأشعري والدلالة على معرفتها من أربعة أوجه :أولها ما يعلم بالحواس ،ثم بالبديهة وهو علم الضرورة عنده ،ثم بالخبر ثم بالدليل " .ومن أسباب كمال الفلسفة فهي في تحصيل المطالب الأصلية ،والعلوم المنطقية ،مثل كتاب ايساغوجي والمقولات العشر وباري ارمنياس وانالوطيقي ...الخ ..وسعادة المولد ،وحسن المعلم ،وما أشبه ذلك ،وما يلحقها من التجرد والرياضة،والفيلسوف كثير السلاح قليل النطاح ،طويل العدة قصير المدة والنجدة ..أما أسباب كمال التصوف "فالصوفي يأخذ مقدماته من الفقيه في الأعمال الشرعية ،ومن المتكلم الأشعري في الاعتقاد ،ويركب على ذلك التوجه والمشاهدة والتوكل والتسليم والتفويض والرضا وهذا النوع الأول ،والصوفي يرى سبب الكمال التخلي عن غير الله ،والتحلي بصفات الله ،والتجلي ثمرة ذلك كله ,هذا النوع الثاني ، والصوفي يرى سبب الكمال الصدق والإخلاص ،واستصحاب الحال ،وثبوت القدم ،والتجرد المحض ،والتخلق الكلي" .هذا بالنسبة إلى العلوم التي ينتقدها ابن سبعين ،أما عن العلم الذي يحث على الأخذ بمجامعه وهو علم التحقيق ، فإن أسباب كماله عند ابن سبعين هي غير أسباب كماله عند غيره فهي عنده لا تخرج عن إسقاط الاثنينية من الوجود والنظر إلى كل شيء في ضوء الوحدة " أسباب الكمال عند المحقق ....زمان حائل ،ومكان آفل ،ومضاف زائل ،وطالب نائل ،وخبير خبره ذات مخبره ،وعليم علمه عين معلومه ،وحصر ممتد ،وقضية تجدد ،وفرع هو ذات أصله،ونوع لا عموم لجنسه "وذلك إن الوحدة المطلقة كما يراها ابن سبعين لا مجال فيها للقول بالزمان والمكان والإضافة ،والفرق بين الطالب والمطلوب والخبير والمخبر والعليم والمعلوم والوجود المنحصر والوجود الممتد والفرع والأصل ،والنوع والجنس إلى غير ذلك مما يلزم عن مذهبه في الوحدة المطلقة تنتفي فيه جميع الإضافات والنسب نفيا مطلقاً ، لذلك فان الكامل المحقق لا ينظر إلى كمالات غيره ممن هم في رتبة أدنى من رتبته،بل الكمال عنه على حد تعبيره هو في إهمال ذلك الكمال الذي هو لغيره وتركه لأنه من قبيل الحشو،إذ الكمال الذي للمحقق هو الكمال الذي لا يتصور فيه الزيادة ولا النقصان،ولا كذلك الشأن في الكمال الذي يكون في الإضافة إلى مذهب أو إلى رجل ،فالكمال في الحقيقة واحد بالنظر إلى ماهية الإنسان وان كان كثيرا بالنظر إلى لواحقه وكونه.فالمحقق أو المقرب عند ابن سبعين هو "كهف الكمالات ، وكنه الامكانات " لذلك فإن "المقرب لا يذكر مع احد من هؤلاء الفقهاء والاشعرية والفلاسفة والصوفية بوجه ،ولا يقع بينهم وبينه مقاربة ،لأن المقاربة لا تقع إلا في الأنواع المتفقة بالحدود المختلفة بالكيف ، والمحقق خارج عما ذكرناه