التأويل بين الشرعيتين المعرفة واللامعرفة عند ابن عربي
مختار لزعر / جامعة مستغانم
إنّ خير ما نبتدئ به هذه المداخلة التي تصب في عمق الجانب التأويلي وهو يتوسط بين ما وسمناه بـ : المعرفة واللامعرفة، تلكم الإشارة القيمة التي أشار إليها ابن حزم الأندلسي (ت 456 هـ) وهي تصب - في اعتقادنا - في لب ما ينبني عليه مبدأ المثاقفة من مبدأ التحاور والعطاء الفكري والخلقي على السّواء، بل أبعد من ذلك أنّ الحقائق لا يتحقق فهمها وإدراكها إدراكا يقينيا إلا بشدة البحث والمطالعة على كل الأخبار القديمة والحديثة حتى يتسنى الفهم الحقيقي لأي مفهوم تريد الذات الإنسانية فهمه وإدراك غوره العميق. يقول ابن حزم الأندلسي في هذا الصدد ما بيانُه : "إنّ الوقوف على الحقائق لا يكون إلا بشدّة البحث. وشدّة البحث لا تكون إلا بكثرة المطالعة لجميع الآراء والأقوال والنظر في طبائع الأشياء وسماع حجة كل محتج والنظر فيها وتفتيشها، والإشراف على الديانات، والآراء، والنحل، والمذاهب، والاختيارات، واختلاف النّاس. ولا بدّ له من الإطلاع على القرآن ومعانيه. ولا بدّ مع ذلك من مطالعة الأخبار القديمة والحديثة، والإشراف على أقسام البلاد، ومعرفة الهيئة، والوقوف على اللّغة"(1).
وإذا كان الأمر كذلك - والحال هذه - فإنّ أغلى ميزة يمتاز بها التراث الصوفي هو ذلكم الجانب الباطني للأشياء ما علمت منها الذات الإنسانية - المتعاملة مع هذا الرصيد المعرفي - وما لم تعلمه ؛ تلكم المعاني التي راحت الذات المتصوفة تنفرد بها وهي تصبو نحو اللامتناهي أو اللامعرفة أو اللاعقل أي المطلق، وهي إذ تقوم بهذه الطريقة لعلمها اليقيني بأنّ الخالق عزّ وجل قد بثّ في الذات الإنسانية مجموعة من النواميس الفطرية والوجودية لكي تتحلى بالجانب الإطلاقي وهي تريد التعرف على وجودها من جميع الجوانب. ولما كان الأمر كذلك فإننا سنشير ولو من بعيد إلى جانب واحد فقط والمتعلق بالجانب التأويلي وهو يتوسط بين الشرعيتين (المعرفة - واللامعرفة) ؛ هذه الشرعية التصوفية التي استطاعت أو تكوّن لنفسها رصيدا معرفيا أهلها سلفا لأن تقتحم عالم النصوص من الجانب الباطني قاصدة في سيرها هذا أن تعامل النصوص معاملة تختلف عن سابقيها. ولكن للأسف معاملة لم تعط للطرف الآخر المتلقي للحدث نفسه أيّ قدر من الاهتمام والعناية سواء ما تعلق الأمر بالجانب الوجودي كوجود مستقل بذاته، أم الجانب المعرفي، اللهم إلا إذا كان هذا الآخر المتلقي ينتمي إلى هذا الرصيد الصوفي ؛ فإنه يحصل ذلكم التلاقي والانسجام بين الباث والمتلقي معا.
وتجدر الملاحظة إلى أنّ دور العملية التأويلية إنّما يتمركز أساسا في ذلكم التساؤل عن واقع حركية النص في علاقته بالمتلقي. بعبارة أخرى هل يمكن للذات الإنسانية أن تصل في لحظة ما إلى قصدية موضوعية تاريخية لواقع حركية النص ؟ أم أنّ عملية فهم النص - على حدّ تعبير نصر حامد أبو زيد - هي جزء لا يستقل عن موقع المفسّر والموضح ؟(2)هذا هو أهم تساؤل وجيه يقوم عليه واقع الجانب التأويلي ؛ الأمر الذي يجعلنا ندرك إدراكا يقينيا لا يشوبه شك ولا يرتابه ارتياب بأنّ هذا التساؤل التأويلي موجود وكائن في واقع تراثنا العربي الزاخر على اختلاف سياقاته الداخلية والخارجية. إنه كائن منذ بداية ظهور ما يسمى بالتفسير (المأثور - الرأي) ؛ فالمعتزلة يقولون هل يمكن للذات الإنسانية أن تفهم وتدرك القصد الإلهي وهي تتعامل مع واقع الخطاب القرآني المطلق بدون أن تكون لهذه الذات الأخيرة معطيات عقلية اعتزالية مسبقة عن جانبيين اثنين : العدل والتوحيد ؟ ومن ثمة إذا أخذت الذات الإنسانية النص القرآني وراحت تصدقه بأنه من الذات القدسية دون أن تكون لديها معرفة عقلية سابقة بالمفهوم الحقيقي للصدق الربّاني ما الذي يمنع في اعتقاد الذات الاعتزالية أن يكون هذا النص كاذبا ؟ أو إنّ العلاقة الكائنة بين المعنى داخل واقع حركية النص وتلكم المعرفة المسبقة اللازمة لاستكشاف هذا المعنى سؤال كائن في واقع تراثنا العربي الإسلامي(3). والأمر لا يقف عند هذه الفئة الاعتزالية فحسب وإنما يبتعد ليصل إلى معناه الأعمق والأوفر عند المتصوفة ؛ على أساس أنّ القارئ للتراث الصوفي قراءة لغوية مطلقة متأنية تنطلق من عالمها الإطلاقي الفطري الوجودي يدرك لا محالة إنه وهو يقرأ للذات الصوفية فإنه وكأنه يقرأ لهايدجر الألماني أو جدامير والعكس أيضا صحيح ونحن نقرأ لهايدجر وجدامير في تعاملهما مع اللغة وربطها بحركية الوجود المطلق فكأننا نقرأ لابن عربي ومن تبعه من المتصوفة.
لاشك أنّ سند هذه المعاني والحقائق المعرفية المشار إليها آنفا وبشكل وجيز، إنّما منشأها ومنبعها واحد فلسفي وفي الوقت نفسه ديني بمفهومه الواسع الشاسع؛ذلك أنّ هذا الإنسان بمفهومه المطلق عندما نجد الذات القدسية تتحدث عنه سواء في واقع الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية، أم في النص القرآني بشكل خاص ؛ فإنما تتحدث عنه باعتباره كائنا حيا مدعو لأن يحيا ضمن المنظور الأوسع لمفهوم المطلق للذات القدسية ؛ إذ إنّ الإنسان في حقيقة الأمر مرتبط ارتباطا وثيقا بالرؤية، وصاحب الرعاية المطلقة عندما يقترح عليه هذه الرؤية فإنما يقترحها عليه لكي ينمّي مسئوليته المنوطة به وذلك في علاقته مع المطلق، وهذا من شأنه أن يكون سببا في إلغاء كثير من التبعية العمياء المتداولة والسائدة بالنسبة للعلاقات الإنسانية في ما بينها. إنّ في ذلك - بدون شك - إعلاء كبيرا وشاملا لهذه الذات الإنسانية في هذا الوجود لكي تمارس حريتها الشاملة، حين تتعامل مع أي نظام سواء أكان لغويا مكتوبا نصا، أم منطوقا، وذلك من خلال المنظور الأوسع الذي اكتسبته لحظة احتكاكها مع المطلق.
ونحن إذ نريد التحدث عن التراث الصوفي فإننا نقصد شخصية بارزة من الشخصيات المتصوفة التي استطاعت أن تنفرد برصيد لغوي لا يستهان بها بحال من الأحوال وهو إذ يمثل غالبية المتصوفة في اعتمادهم على نفس المنهج أو الطريقة وهم يتعاملون مع واقع النصوص على اختلاف أنواعها وأشكالها. ومن ثم سنشير فقط إلى تلكم الإشارات التي توقف عندها ابن عربي في تعامله مع اللغة من منظور تأويلي تخريجي. إنّه ذلكم التساؤل الوجيه المنصب أساسا على واقع حركية الوجود المطلق بعبارة أخرى هل الوجود المطلق هو وجود موضوعي مستقل في الخارج ؟ أم الوجود المطلق واقع إطلاقي خيالي يشترك فيه كل من : الذات القدسية والذات الإنسانية ؟ تماما ما توقف عنده العالم الألماني هايدجر حين كان يتساءل في كثير من السياقات هل الوجود له استقلال موضوعي خارج الذات المدركة أم خارج المعرفي(4).
إنه بدون شك تلكم الشرعية التصوفية (التأويل) المنصبة أساسا على ما يمكن تسميته بالعقل التأويلي الذي لا يرضى لذاتيته الكينونية والوجودية والمعرفية إلا السير وفق تلكم النواميس الوجودية المطلقة فيتحلى بما يتحلى به من أسرار وأبعاد عميقة ؛ الأمر الذي يؤهله سلفا لأن يقتحم عالم المعرفة ابتداء من ذاتيته كعقل مستقل في حدّ ذاته وانتهاء إلى تلكم العلاقة الكائنة بين الذات الإنسانية والوجود المطلق. ونحن إذ نقول بهذه الحقيقة فإننا على وعي عميق بأنّ مفهوم التأويل ليس حكرا على تلكم الذوات التي ظلت حينا من الدّهر تنظر إلى واقع النصوص على اختلاف نمطيتها الداخلية والخارجية وذلك على اختلاف نحلها ومذاهبها ؛ الشيء الذي جعل في الأيام المستقبلية أن تكونت عدة رؤى منهجية من نفسية لغوية (Schleiermacher)، وظاهراتية (Idmonde Husserl)، ووجودية (Martin Heidegger)، ومنهج - حقيقة (Hans Georg Cadamer) وهلم جرّا.
إنها شرعية التأويل التصوفي التي همها الوحيد هي ذلكم النمط الكينوني الإنساني داخل العالم على حد اعتقاد هايدجر الألماني، ومن ثمة فلا ضير في أن نشير باختصار شديد إلى أهم المحطات التي توقف عندها ابن عربي الصوفي وهو يتناول مفهوم التأويل في علاقته باللغة والوجود محاولين التقاط بعض من النصوص التي تصب في عمق العملية التأويلية التي راحت تتوسط في المخيال الصوفي تارة من واقع المعرفة أي التقييد وتارة أخرى من واقع اللامعرفة أي عالم الإطلاق ؛ وهي إذ تصنع مثل هذا الصنيع إلا لعلمها بأنها تتعامل مع المطلق في اللفظ والمعنى.
يرى ابن عربي (ت 638 هـ) في كثير من السياقات وهو يتعامل مع واقع الخطاب القرآني المطلق بأنّ الوحي إنما يتجدد ويتنوع تبعا لتنوع العارفين بأسرار حركية الوجود على مستوييه الداخلي والخارجي ؛ الأمر الذي جعل من واقع هذا الوحي الإطلاقي المتجدد والمتغير- في حق الذات المتلقية - دلاليا وجوديا بأنه ينصاع لهذا النوع التجدّدي في صور متعددة من المعاني والأبعاد العميقة على الرغم من أنّ النص القرآني واحد في ذاتيته المطلقة، وذلك من حيث هو دلالة صريحة على الحدث الكلامي الربّاني الوجودي على جميع مستوياته التي تناولها يوم تحدث مع الذات الإنسانية، ومن ثمة فالقرآن في نظر ابن عربي "متنوع ينطبع عند النازل عليه في قلبه بصورة ما نزل عليه، فتعيّر على المنزل عليه الحال لتغيّر الآيات، والكلام من حيث ما هو كلام واحد لا يقبل التغير"(5).
ثم إنه إذا كانت العملية التأويلية تعني في ما تعنيه تلكم العلاقة الحميمة بين واقع حركية النص مع المفسّر أو المبيّن ؛ فإننا نجد واقع الخطاب القرآني - على حدّ اعتقاد ابن عربي الصوفي - نفسه يتنوع بتنوع القارئين له بل يتنوع واقع معنى النص بتنوع أحوال القارئ المتلقي الواحد. بعبارة أخرى إنّ العلاقة بين القارئ المستقبل للحدث الكلامي الربّاني وواقع المقروء في حدّ ذاته هي علاقة جدلية يتبادلان فيها التأثير والتأثر. يقول ابن عربي في هذا المقام ما نصّه : "ألا ترى العالم الفهم المراقب يتلو المحفوظ عنده من القرآن فيجد في كل تلاوة معنى لم يجده في التلاوة الأولى، والحروف المتلوة هي بعينها ما زاد فيها شيء ولا نقص وإنما الموطن والحال تجدد، ولا بدّ من تجدّده ؛ فإنّ زمان التلاوة الأولى ما هو زمان التلاوة الثانية"(6). إنها بدون شك تلكم العلاقة الجدلية الأزلية القائمة بين القارئ حركية النص والتي تقوم أساسا على تنوع واقع النص من جهة، وتنوع أحوال ذاتية القارئ المتلقي من جهة أخرى.
ولكي يواكبنا القارئ المتخصص ممّا نريد التوقف عنده بشيء من التحليل والبيان في شأن قضية بُعد مفهوم المثاقفة من زاوية تصوفية التي راحت في الغالب الأعم تعطي للذات الإنسانية بُعدا وجوديا - معرفيا يسير جنبا إلى جنب مع حركية الواقع المطلق ؛ وهي تريد فرض وجودها على الطرف الآخر مهما كان المقام الذي يحتله في وجوده المعرفي والخلقي على السّواء؛لا بأس أن نجعل ذلك في شكل نقاط نراها تصب في عمق المثاقفة التي جعلناها تنصب أساسا في عمق عنوان هذه المداخلة وهي على النحو التالي :
يخرج ابن عربي كلمة القرآن الكريم عن معناها المتداول والمتعارف محاولا أن يربط بين واقع النص القرآني وبين حركية الوجود المطلق بصفة عامة، وهو ما راح يسميه في كثير من المقامات بالكتابة الوجودية وأحيانا بالخيال الوجودي. داخل هذا الإطار يمكننا أن نستشف تلكم النقلة الإيبستمولوجية التي استطاعت أن تحوّل مفهوم اللغة من مستواه الاجتماعي إلى مستوى أكثر شمولا وهو المستوى الأنطلوجي. ثم إنّه إذا كانت لغة التواصل الاجتماعي تفرز مفهوما خاصا عن الجانب التأويلي ؛ فإنّ اللغة الوجودية ستؤسس مفهوما جديدا عن واقع التأويل وهو ما يسميه ابن عربي ومن تبعه من المتصوفة بالكشف الصوفي وهو ما يقارب إلى حد بعيد مفهوم الهيرمنوطيقا أو التأويلية (7).