تصنيف
الإمام حجة الإسلام الأصولي الفقيه الولي الصالح
أبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي
رحمه الله تعالى
(450-505 هـ)
www.al-razi.net
www.aslein.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فقد سئل الإمام الزاهد أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي رحمه الله
عن بيان معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إنَّ الشيطانَ يجري من أحدكم مجرى الدم)، هل هو ممازجة كالماء بالماء، أم هو مثل الإحاطة بالعود؟
وهل هو مباشرته للقلوب بتخايل من خارج تنقلها القلوب إلى الحواس،
فتثبت فيها، فيكون منها الوسواس، أم يباشر جوهره جوهر القلوب؟
وهل يمكن جمع بين ما رسمته النبوة من هذا الوصف،
ومثله في رأيي الجن لبني آدم في صور الحيوانات، وفي أشكال سواها مختلفة،
كترائي الملائكة عليهم الصلاة والسلام للأنبياء في صور بني آدم، أم صورتهم على تلك الأمثلة فينكشف الغطاء عنها لمن قدر له رؤيتها،
ثم يحدث فيها كثافة جمسانية كما أحدث في الملائكة؟
وهل من سبيل إلى الجمع بين هذا القول من الشرع في الجن والشياطين،
وبين قول الفلاسفة: إنها أمثلة وعبارة عن الأخلاط الأربعة التي في داخل الأجسام لتدبيرها أم لا؟
وما يظهر من المصروعين هل هو كلام الجني الذي يصرعه، أم هو لسان المصروع ببرسام يعتريه من شدة ما يناله منه؟
وكيف إخبارهم بالغوائب التي في القوى، ولم تخرج بعد إلى الفعل؟
والطبيعيون يقولون في ذلك ما تعلمه من ثوران خلط السوداء وغلبته، فيكون منه ذلك ويسمونه بخلط الريح،
وهل بينهما علة جامعة أم لا؟
وكيف المثل الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في إدبار الشيطان عند الأذان وله حصاصٌ،
وهل أريد بذلك المثل كما تقول العرب: مضرط الحجارة، وفلان يحدث من الشدة،
أم يتصور في ذلك الوقت جسم يكون عنه الحصاص، فإن الشيطان بسيطٌ على علمه،
لا يتغذى فكيف يكون منه ما يكون من التغذي؟ وكيف يكون أيضاً الروث والعظم لهم غذاء؟
وقد يكون بالشم، والبسيط لا تصح فيه الحواس المركبة؟ وكيف الحقيقة في البرزخ؟
وهل أهله من قبيل أهل الجنة أم من قبيل أهل النار؟ فليس هناك منزلة تتصور إلا في الجنة والنار.
وإن قيل: إنه الفصل المشترك المعبَّر عنه بالسور الذي له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب،
هل هو صحيح أم هو غيره؟
ومن المستوجب للبرزخ؟ فإن من رجح ميزانه صار إلى الجنة، ومن خفَّ ميزانه صار إلى النار،
ومن استوى ميزانه كان في المشيئة، فهل هو عبارة عن التوقيف إلى أن تنفذ له الكرامة أم غلبته الشقاوة؟
والملائكة هل هم من المنعمين مع بني آدم في الجنة أم في غيرها؟
وهل هم المعبر عنهم بالولدان أم الولدان صنف رابع غير الملائكة،
وبني آدم والجن والحور العين نوع خامس أم كيف هم وما صفتهم؟
وقد أفصح الكتاب أن عرض الجنة كعرض السماء والأرض،
وفي هذا أيضاً ما يحتاج إلى النظر أن يكون السماء لها وعاء وظرف، ويزيد عرضها على عرضها.
وحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم هل هو في أرض الموقف، أم هو في الجنة؟
والذي يظهر من الحديث أن من سبق له الفوز من النار شرب منه في شدائد الموقف قبل الفصل،
وقبل الشفاعة، وهل ماؤه من الجنة أو غيرها؟ ولا يصح أن يكون من غيرها لقوله صلى الله عليه وسلم:
(من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً).
وهل يكون شيء من الجنة في الأرض؟
وهل لجميع الأنبياء عليهم السلام حياضٌ أم هو من خصائص نبينا عليه السلام مع الشفاعة؟
فلينعم الجواب المشروع عن هذه الأسئلة بطريق الاستيفاء مثاباً متطولاً إن شاء الله تعالى.
فقال مجيباً عنها:
أسئلة أكره الخوص فيها والجواب؛ لأسباب عدة، لكن إذا تكررت المراجعة أذكر قانوناً كلياً ينتفع به في هذا النمط، وأقول:
بين المعقول والمنقول تصادم في أوَّل النظر، وظاهر الفكر.
والخائضون فيه تحزبوا إلى مفرِّط بتجريد النظر إلى المنقول،
وإلى مفرِّط بتجريد النظر إلى المعقول، وإلى متوسط طمع في الجمع والتلفيق.
والمتوسطون انقسموا إلى مَنْ جعل المعقول أصلاً، والمنقول تابعاً،
فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه، وإلى من جعل المنقول أصلاً والمعقول تابعاً، فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه،
وإلى من جعل كل واحد أصلاً، ويسعى في التأليف والتوفيق بينهما، فهم إذن خمس فرق:
الفرقة الأولى: هم الذين جردوا النظر إلى المنقول،
وهم الواقفون على المنزل الأول من منازل الطريق، القانعون بما سبق إلى أفهامهم من ظاهر المسموع،
فهؤلاء صدقوا بما جاء به النقل تفصيلاً وتأصيلاً،
وإذا شوفهوا بإظهار تناقض في ظاهر المنقول،
وكلفوا تأويلاً امتنعوا وقالوا: إن الله قادرٌ على كلِّ شيء.
فإذا قيل لهم مثلاً: كيف يرى شخص الشيطان في حالة واحدة في مكانين،
وعلى صورتين مختلفتين؟
قالوا: إن ذلك ليس عجباً في قدرة الله، فإن الله قادر على كل شيء،
وربما لم يتحاشوا أن يقولوا: إن كون الشخص الواحد في مكانين في حالة واحدة مقدور لله تعالى!!
والفرقة الثانية: تباعدوا عن هؤلاء إلى الطرف الأقصى المقابل لهم،
وجرَّدوا النظر إلى المعقول، ولم يكثروا بالنقل.
فإن سمعوا في الشرع ما يوافقهم قبلوه، وإن سمعوا ما يخالف عقولهم زعموا أن ذلك صوَّره الأنبياء،
وأنه يجب عليهم النزول إلى حدِّ العوام، وربما يحتاج أن يذكر الشيء على خلاف ما هو عليه،
فكل ما لم يوافق عقولهم حملوه على هذا المحمل، فهؤلاء غلوا في المعقول حتى كفروا؛
إذ نسبوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الكذب لأجل المصلحة.
ولا خلاف بين الأمة أن من جوَّز ذلك على الأنبياء صلوات الله عليهم يجب حزَّ رقبته.
وأما الأولون فإنهم قصروا طلباً للسلامة من خطر التأويل والبحث، فنزلوا بساحة الجهل،
واطمأنوا بها، إلا أن حال هؤلاء أقرب من حال أولئك.
فإن تخلص هؤلاء عن المضايق بقولهم: إن الله على كل شيء قدير،
ونحن لا نقف على كنه عجائب أمر الله، ومخلص أولئك بأن قالوا:
إن النبي إنما ذكر ما ذكره على خلاف ما علمه للمصلحة، ولا يخفى ما بين المخلصين من الفرق في الخطر والسلامة.
والفرقة الثالثة: جعلوا المعقول أصلاً فطال بحثهم،
وضعف عنايتهم بالمنقول فلم تجتمع عندهم الظواهر المتعارضة المتصادمة في بادئ الرأي، وأول الفكر المخالفة للمعقول،
فلم يقعوا في غمرة الإشكال، لكن ما سمعوه من الظواهر المخالفة للمعقول جحدوه وأنكروه،
وكذبوا راويه، إلا ما يتواتر عندهم كالقرآن، أو ما قرب تأويله من ألفاظ الحديث،
وما شق عليهم تأويله جحدوه حذراً من الإبعاد في التأويل، فرأوا التوقف عن القبول أولى من الإبعاد في التأويل،
ولا يخفى ما في هذا الرأي من الخطر في رد الأحاديث الصحيحة المنقولة عن الثقات الذين بهم وصل الشرع إلينا
.
الفرقة الرابعة: جعلوا المنقول أصلاً، وطالت ممارستهم له،
فاجتمع عندهم الظواهر الكثيرة، وتطرفوا من المعقول ولم يغوصوا فيه،
فظهر لهم التصادم بين المنقول والظواهر في بعض أطراف المعقولات،
ولكن لما لم يكثر خوضهم في المعقول، ولم يغوصوا فيه، لم يتبين عندهم المحالات العقلية؛
لأن المحالات بعضها يدرك بدقيق النظر وطويله الذي ينبني على مقدمات كثيرة متوالية،
ثم انضاف إليه أمر آخر، وهو أن كل ما لم يعلم استحالته حكموا بإمكانه، ولم يعلموا أن الأقسام ثلاثة:
قسم علم استحالته بالدليل.
وقسم علم إمكانه بالدليل.
وقسم لم يعلم استحالته ولا إمكانه.
وهذا القسم الثالث جرتْ عادتهم بالحكم بإمكانه، إذ لم يظهر لهم استحالته، وهذا خطأٌ،
كمن يحكم باستحالته إذا لم يظهر إمكانه، بل من الأقسام ما لم يعلم إمكانه ولا استحالته:
إما لأنه موقف العقل، وليس في القوة البشرية الإحاطة به، وإما لقصور هذا الناظر خاصة،
وعدم عثوره على دليله بنفسه، وفقده لمن ينبهه عليه.
ومثال الأول: مِنْ حسِّ البصر: قصور الحس البصري عن أن يعرف عدد الكواكب أنه زوج أو فرد،
وأن يدرك عظم الكواكب مع بعدها على ما هي عليه.
ومثال الثاني: وهو القصور الخاص: قصور حس بعض الناس عن أن يدرك منازل القمر،
وظهور أربع عشرة منها في كل حال، وخفاء أربع عشرة مقابل درج المنازل في الغروب والشروق
وغير ذلك مما وقف عليه بعض الناس بحس البصر دون بعض،
كذلك يتطرق إلى إدراك العقل مثل هذا النوع من التفاوت.
وهؤلاء لما قلَّ خوضهم في المعقولات لم يكثر عندهم المحالات، فكفوا مؤنة عظيمة في أكثر التأويلات،
إذ لم ينتبهوا للحاجة إلى التأويل، كالذي لم يظهر له أن كون الله بجهة محال
إذا استغنى عن تأويل الفوق والاستواء وكل ما يشير إلى الجهة.
والفرقة الخامسة: وهي الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول،
الجاعلة كل واحدٍ منهما أصلاً مهماً، المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقاً، ومن كذب العقل فقد كذب الشرع،
إذ بالعقل عرف صدق الشرع، ولولا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي، والصادق والكاذب.
وكيف يكذب العقل بالشرع، وما ثبت الشرع إلا بالعقل؟!!