مشكلة الحضارة الحديثة، وضعوا الفرد المسلم والعربي وجهاً لوجه أمام مسؤوليته"(9).
أجل، كان الشرق متخلفاً والغرب متقدماً. لكن هذا الغرب في رؤية إقبال "زاخر بالحركة مجرد من المبادئ الخلقية الأصلية، فقير بالحب والإيمان. سخر الطبيعة لأغراضه، ولكنه أخفق في محو البؤس الإنساني"(10). لذلك رغب إقبال في أن يجمع الشرق بين الحب والعقل. ولكن، هل هذا ممكن دون تهيئة فكرية لمواجهة حديد الغرب ورصاصه ولؤمه ودخانه(11)؟ لابد من العشق إذن. ما العشق؟ إنه الطاقة التي تحطم القيود. فإذا عشقت مقصداً تمنيته فإن غيره لا يرضيك ولا يقنعك(12). عليك أن تعد العدة من أجل تحقيق هذا المقصد. لكن حرب العدو الخارجي لا يقل شأناً عن حرب العدو الكامن في نفس كل إنسان. بل إن حرب التشتت والهوى والنزعات الفاسدة في نفس الفرد ينتج عنها توحد النفوس وسيادة النظام، مما يجعل التغلب على العدو الخارجي سهلاً. ويحق للمرء هنا القول إن جوهر فلسفة إقبال الثورة كان قادراً على خدمة الوطن العربي لو التفتت الأدبيات العربية إلى هذا المزج بين اهتمامات العرب وحالهم وطبيعة الفلسفة الثورية لإقبال. لو وضحت الأدبيات العربية أن العرب مطالبون بالتخلي عن الحسد والتشتت والتفرقة، والعودة إلى أساس حضارتهم الأخلاقي، لجعلهم ذلك وحده قلباً واحداً قادراً على مقارعة المستعمر الذي احتل بلادهم وجعل عزيز قومهم ذليلاً.
خاطب إقبال العرب خاصة، والمسلمين عامة قائلاً لهم: "إنكم الآن تجتازون أدق مرحلة، وتمرون بأصعب دور في حياتكم السياسية. فعليكم أن تحتفظوا بالارتباط الشامل والاتحاد القويم في العزائم والجهود، وفي الوسائل والغايات. إنني لا أستطيع أن أخفي عنكم شعوري بأنكم في سبيل تدارك هذه الحال الخطرة لابد من أن تناضلوا في كفاح الحرية. ولا سبيل إلى محاولة أخيرة لكسب سياسي إلا حيث تكون العزائم عزماً واحداً، والقلوب المتباعدة قلباً واحداً. وأن تتركز مشاعركم حول مطلب لا تختلفون عليه. إنكم تستطيعون ذلك، وبالقوة إن شاء الله، يوم تتحررون من القيود النفسية، وحين تضعون أعمالكم الفردية والاجتماعية في ميزان ما تنشدونه من الأهداف العالية والمثل الرفيعة"(13). هذا الخطاب الواضح المحدد الذي يشير إلى جهاد النفس ومسؤولية الإنسان وعشقه حرية شعبه وأمته لم يترجم إلى اللغة العربية في أثناء خضوع الوطن العربي للاستعمار الغربي، وإنما ترجم في أخريات عام 1985. وكأن الأدبيات العربية في أيام الاستعمار غافلة عن هذا التفكير الإقبالي في حال الأمة العربية، وارتباطه الوثيق بما عانى منه العرب أفراداً وجماعات على المستويات النفسية والاجتماعية والسياسية. ويخيّل إليّ أن إقبالاً لمس عزوف العرب عما خاطبهم به، فقال عام 1925، أو نحو ذلك: "ولكن العرب لا يعرفون شيئاً عن نغماتي الشجية". يريد من ذلك صدى المعرفة الحقيقية لشعره عند العرب كما نص صديقة الوفي أبو النصر أحمد الحسيني الهندي(14).
أما شعر محمد إقبال فكان المعبر عن فلسفته. غير أن الأدبيات العربية لم تشر إلى شيء يتعلق بالمراحل التي قطعها شعره، وهي مراحل تتفاوت قوة وضعفاً. وقارئ هذه الأبيات يخيل إليه أن شعر الدكتور إقبال واحد ما دام الكتاب يستشهدون به دون تفريق وتوضيح. وقد نص السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي قبل ثلاث سنوات من وفاة إقبال على أن الشعر الذي كتبه صديقه إقبال مرّ بثلاث مراحل:
أ-مرحلة الطلبة وتنتهي هذه المرحلة عام 1905. يمتاز شعره فيها بسعة الخيال وابتكار المعاني، لكنه مجرد من دقة الفكر والتعمق. يجد القارئ فيه روح الحب ونشدان الجمال والترحيب بالعشق، لكنه في النهاية تعبير عن مرحلة الأمل بشيء غير معلوم. فإقبال في هذه المرحلة يتوق إلى المجهول الذي لم يتضح في فكره بعد.
ب-المرحلة الثانية هي مرحلة الزمن الذي عاش فيه في أوربة بين 1905-1908 وهذه المرحلة أقل إنتاجاً، وأكثر إبرازاً لأثر مشاهداته في أوربة. غير أن روح الحب وطلب الجمال والترحيب بالعشق تبقى متجلية في شعر هذه المرحلة. وقد أضيف إليها بدء علو أفكاره واتساعها، حتى أن اللغة الأردية التي كان ينظم بها شعره- وهي لغة حديثة آنذاك- ضاقت عنه فمال إلى النظم بالفارسية.
ج-المرحلة الثالثة هي المرحلة التي تلت عودته من أوربة، أي بعد عام 1908 ففي هذه المرحلة حلّت السكينة والطمأنينة في روح الشاعر محل التوقان والاضطراب، كما خف سلطان المحبة والجمال وحل محله توق إلى الحكمة والكمال، وقد جادت قريحة الشاعر في هذه المرحلة فأصدر سبعة دواوين شعرية. كما تمكن من إبراز معالم فلسفته في شعره وإيصالها إلى العالم أجمع. وكانت الأدبيات العربية مطالبة بإبراز هذه المرحلة وتوضيحها لأنها أكثر التصاقاً بهموم العرب وتوجهاً إليهم. ذلك أن شعر إقبال في هذه المرحلة عبّر عن روح المسلم الشرقي الثائر ذي الحماسة الواضحة، في حين تساجلت في عشره روح المحبة والجمال والعشق في المرحلتين الأولى والثانية. إنه القائل في هذه المرحلة يخاطب العرب:
كل شعب قام يبني نهضة وأرى بنيانكم منقسما
في قديم الدهر كنتم أمة لهف نفسي كيف صرتم أمما
وقد نصت سمر العطار على أن إقبالاً "نصير الحرية في كل مكان، ينشد البعث لأمم الأرض قاطبة. وشعره سجل حافل بالأحداث التاريخية والسياسية. فلقد واجه موسوليني برأيه في قوة وحزم، وبسط له مغزى الحكم الديكتاتوري. وحذر العالم من مكائد اليهود وأحابيلهم، ودحض مزاعمهم حينما كانوا يدّعون ملكية فلسطين"(15) إلا أن الأدبيات العربية عزفت عن تقديم شعره إلى القارئ العربي على هذا النحو من التطور، وآثرت الحديث العام عن هذا الشعر.
وقبل ذلك كله آثرت غالبية الأدبيات العربية تقديم شعر إقبال منثوراً. وما كان نثر الشعر محل اهتمام القارئ العربي. إذ جرت العادة لدى غالبية المترجمين على تقديم الشعر الأجنبي منثوراً بعد خلعه من ثوبه الفني(16). والشعر –كما هو معروف- عصي على الترجمة، يؤثر في القارئ بلغته، فإذا نقل إلى لغة أخرى فقد معظم أثره. وقد لاحظ المرء في أثناء قراءة شعر إقبال أن هناك من سرد معنى الأبيات الشعرية، وأن هناك آخرين غامروا بنظمها حسب وزن من الأوزان العربية. ولعل أقدم المغامرين هو الدكتور عبد الوهاب عزام الذي ترجم كثيراً من شعر إقبال ونشره في مجلة الرسالة(17)، كما نشر ثلاثة من دواوينه(18). حتى أن صادق آئينه وند عدّ إقبالاً واحداً "من كبار شعراء الفارسية المعدودين". وأضاف أنه "نجم من نجوم سماء العرفان اللامعة الذين نادوا بالمعرفة والحرية والنضال والجهاد، وحددوا أهداف الأمة الإسلامية ودفعوا الشعوب للحركة، مثل مولوي وحافظ وعراقي والحلاج وسعدني، ممن قوّموا النفس الإنسانية عن طريق وتحديد ذاتها وإمكاناتها وأهدافها الوجودية وحدائها إلى مقامها المحمود في الدنيا والآخـــرة"(19). أما أوزان الشعر التي نظم فيها إقبال مثل "مثنوي" و "قصيدة" و "رباعي" و "قطعة" و "مسدس" فلم تتح للقارئ العربي فرصة الاطلاع عليها، مما حرمه من أداة التعبير التي استخدمها إقبال وبزّ فيها أقرانه.
ولا تنتهي القضية هنا، ذلك أن إغفال التطور الشعري المواكب للتطور الفكري عند إقبال جرّ معه إغفال عرض الشعر المعبر عن الفلسفة الثورية للرجل، والاهتمام بالشعر المعبر عن العشق وروح المحبة وطلب الجمال(20). أي أن المترجمين العرب اهتموا بترجمة شعر المرحلتين الأولى والثانية بأكثر من اهتمامهم بشعر المرحلة الثالثة المواكبة لرسالة إقبال وضوحاً وعمقاً. فقصيدة "فلسطين" التي دعا فيها العرب إلى "الوقوف صفاً واحداً من أجل إحباط مؤامرات الصهيونية العالمية، ودحض الافتراءات اليهودية وتفنيد عزائم الصهيونيين وأفكارهم الإجرامية"(21) صدرت في ديوانه "بال جبريل" الصادر عام 1935. وقد ترجم الدكتور عزام الديوان إلى اللغة العربية بعد عامين(1937)، ولكن أحداً من العرب لم ينبه عليها فلم يكتب لها الذيوع والانتشار. كما عرض عبد المعين الملوحي ما يعتقد المرء أنه آخر التطورات الفكرية عند إقبال. أقصد قصيدته "لينين أمام الله"(22). وهذه القصيدة –كما يقول الملوحي- "لم تكن تبدلاً في اتجاه تفكيره كما قالت مجلة الثورة الأفريقية، ولكنها على الأكثر كانت تعميقاً لهذا التفكير. بل إن هذه القصيدة لم تكن القطعة الأولى والأخيرة التي يفضح فيها مساوئ الرأسمالية، ويدل على مواضع الشر في الحضارة الغربية، ولكنها كانت أكثر دلالة على إدراكه لهذه المساوئ، وأكثر إلحاحاً على ضرورة هدم الوضع الاجتماعي المتعفن لبناء مجتمع إنساني شريف وحديث"(23). لقد فرح أستاذنا الملوحي بهذه القصيدة حين قرأها في مجلة الثورة الأفريقية وترجمها ونشرها غير كاملة، وأعلن آسفاً أنها لم تصله كاملة(24)، على الرغم من أنها إحدى قصائد ديوان "بال جبريل" أيضاً، وقد ترجمها الدكتور عبد الوهاب عزام كاملة إلى اللغة العربية عام 1937 حين ترجم الديوان المذكور.