سياحات الشيخ العلوي قبل توليه أمور الطريق
فبقيت بعد ذلك متحيراً لم أدر ما العمل، ولا أين توجد مرضات الله، هل في الإنتقال حسب اللزوم، أم في قطع النظر عن ذلك، والإشتغال بتذكير الفقراء حسب المحتم، إلى أن قضى الله بزيارتي لدار الخلافة فألقى في باطني ذات يوم شيء من الإقباض، ودام علي، فأخذت أتسبب فيما ينشرح به صدري، فظهر لي أن أزور بعض الفقراء خارج البلد بنحو أربعين ميلاً، فأخذت بيدي أحد الطلبة كان في ضيافنا يدعى الشيخ محمد بن قاسم البادسي الفاسي وسرنا على بركة الله، وعندما وصلنا المحل المقصود ظهر لنا لو أننا زرنا بعض الفقراء بمدينة غليزان فكان ذلك، وبعدنا قضينا في زيارتهم نحو اليومين، قال لي رفيقي "لو أننا وصلنا لمدينة الجزائر بما أن لي فيها بعض الأحبة، زيادة على ذلك نباشر بعض المطابع فربما يتيسر طبع المنح القدوسية على المرشد المعين لأنها كانت بأيدينا في ذلك الوقت، فساعفته على ذلك ولم يكن لنا من الفقراء بالجزائر أحد
وعندما وصلنا اشتغل رفيقي بملاقاة صديقه، غير أنه لم يرق في نظره ذلك الإجتماع، وبتلك المناسبة قال لي "إن البلاد التي لم يكن فيها الفقراء فهي خالية بما كان يلقاه مما جبلت عليه الفقراء من الملاطفة وحسن الإقبال، وبعدما باشرنا بعض المطابع ظهر لنا عدم التهيء لذلك الأسباب، فقال لي رفيقي أيضاً "لو أننا ذهبنا إلى مدينة تونس لكان الأمر فيها متيسراً من كل الوجوه وكنت أقوم أنا بتصحيح وبمراجعة الطبعة، وبما هو من ذلك القبيل، فساعفته على ذلك وسرنا من بلد إلى بلد إلى أن دخلنا إلى مدينة تونس وما كنت أعرف بها أحداً من الذاكرين إلا رجلا حاملاً لكتاب الله كفيف البصر، يدعى السيد الحاج العيد كان يمر علينا بمستغانم إذا جاء زائراً لأستاذه بناحية المغرب، وكنت أعرف أيضاً أحد العلماء الأعيان السيد صالح الشريف كنت اجتمعت به في زيارتي الأولى لمدينة تونس بمطبعة أحد الصحفيين، والسيد الحسن بن عثمان مدير جريدة الرشدية وكان سبب اجتماعنا تقديم كتاب لنا يُسمى "مفتاح الشُّهود" للطبع، وقد اعتبر حضرة المُشار إليه هذا الكتاب اعتباراً زائداً، أما الشيخ سيدي صالح فقد وجدته مهاجراً في ذلك الحين وأما من كانت تربطنا بهم وصلة الوطن من المهاجرين بمدينة تونس فجماعة كبيرة، وما قصدت الإجماع بأحد منهم، ولهذا دخلنا إلى تونس على حين غفلة، فاكترينا محلاً للنزول فيه، وألزمتُ نفسي على ألا أخرج حتى يأتي إلينا أحد الذاكرين نخرج معه، كان ذلك بسبب رؤيا رأيتها، جاءت أناس من المنتسبين ودخلوا إلى المحل الذين أنا فيه، ثم أخرجوني إلى محلهم، ولما ذكرت ذلك إلى رفيقي كبر ذلك عليه، وقال لي أنا ما جئت لأقعد بين الجدران" فكان يخرج ليقضي لنا بعض الأمور ويجول في بعض المواطن ثم يرجع،
وبعدما قضينا في ذلك المنزل أربعة أيام دخلت علينا تلك الجماعة التي رأيتها في المنام، وإذا هم أفراد من أتباع الشيخ سيدي الصادق الصحراوي رضي الله عنه، وقد كان توفي قبل ذلك بأشهر، ونسب هذا الشيخ في طريق الله يتصل بالشيخ سيدي محمد ظافر عن أبيه سيدي محمد المدني وهو عن الشيخ سيدي مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عن جميعهم وبعدما استقر الجلوس بتلك الجماعة وتحدثنا مليّاً، وكنت أرى لوائح المحبة تظهر عن سيماهم، وقد طلبوا مني الخروج معهم والذهاب إلى حيث يشاءون، ولم يتركوا جهداً حتى أخرجوني معهم، وأنزلوني بمحل أحد الأصدقاء، وهكذا كنت عندهم مكرماً معززاً، وبالجملة فإني ما رأيت من تلك الجماعة إلا الجميل، جزاهم الله خيرا
وكنت مدة مُكوثي بتونس تتوارد علي أفراد الفقهاء والفضلاء، وكانت تحصل مذاكرات ومفاهمات في عدة نوازل، ومن جملة من عقلت من أسماء الفقهاء الذين اجتمعت بهم حضرة المحدث الشيخ سيدي الأخضر بن الحسين وحضرة الشيخ سيدي صالح القصيبي والمدرس الشيخ السيد احسونة الجزائري وهكذا عدة طلبة منهم مطوعون ومنهم دون ذلك، وقد دخل الطريقة جماعة من القسم الأخير، وقد كان اقترح علي بعض الطلبة أن أجعل لهم درساً في "المرشد المعين" وأبسط لهم كلاماً فيه من طريق الإشارة، فكان ذلك في قول المصنف
وجوده له دليل قاطع حادة كل محدث للصانع
فوقع ذلك موقعاً حسناً عند السامعين، وكان هو السبب في تعلق بعض الطلبة بالطريق، وهكذا قضينا تلك المدة بين الذكر والتذكير، وقد انتفع البعض فالحمد لله بتلك الزيارة أما مسألة طبع "المنح القدوسية" فقد كنا تعاقدنا مع صاحب مطبعة السيد البشير الفورتي بواسطة رفيق كان يُدعى الشيخ سيدي محمد الجعابي وقد كنا نجتمع بهما على أحسن وداد وأتم ملاطفة، وهذا هو الحامل لنا على عقدنا مع تلك المطبعة، مع علمنا أنها كانت في ذلك الحين ضعيفة المواد، وبتلك المناسبة لم يقع تنجيز الكتاب في الوقت المتفق عليه، فألجأتني الضرورة إلى أن أتركه لمن يقوم به ونذهب
وعندئذ قصدت مدينة طرابلس الغرب، لزيارة أبناء عمنا كانوا مهاجرين بها، وكانت سببا في اللحوق بهم حسبما تقدم، فظهر لي أن أغتنم الفرصة في الحلول بذلك القطر، حيث أن رخصة السفر كانت بيدي، وقد تحركت في ذلك الحين داعية الزيارة لبيت الله الحرام وللقبر الشريف على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، ومن سوء الحظ ورد عليّ كتاب من مستغانم في ذلك الحين يخبر أن الحج ممتنع، ويحذرني من الوقوف في تلك السنة بما يعود علي من العقوبة، وعلى كل حال ركبت الباخرة منفرداً إلى مدينة طرابلس، وكان الفصل فصل شتاء بارد، وقد لحقتني بسبب سفري فيه متاعب، وما انشرح صدري إلا يوماً واحداً كنت أتفكر في قوة ذلك الخلق الذين غصت بهم الباخرة من الحربيين وغيرهم، وقلت "هل يوجد بين هؤلاء رجل ذاكر؟" فلم تمر علي مدة حتى وقف على رأسي أحد المسافرين، وأخذ يحدق بنظره إلي ويتفرس، ثم قال لي "أليس أنت الشيخ سيدي أحمد بن عليوة؟"، فقلت له "من أنبأك؟" فقال "كنت أسمع بك، ومنذ حين وأنا أتفرس فيك، وقد ظهر لي الآن أنك أنت ذلك الرجل"، فقلت له "نعم"، ثم انفصلت من ذلك المحل إلى محل آخر وسألته عن إسمه فقال الحاج معتوق وعندما أخذنا في الحديث وجدته من العارفين بالله، فقلت له "هل لك مؤازر في بلدك؟" فقال لي "أنا من مدينة جربة منفرد بهذا الفن" فمرت تلك المسافة على أحسن ما ينبغي إلى أن نزل في مدينة جربة ونزل من معه، فعدت لما كنت عليه من الإنقباض على ما يقتضيه الإنفراد وسفر الشتاء، إلى أن نزلت بمدينة طرابلس فوجدت أبناء العم في انتظاري بالميناء، وكان كل منا يترقب وقوع بصره على أخيه لما لحق الجميع من الأسباب التي قضت بتفريق الشمل
وعندما دخلنا المنزل واستقر بنا الجلوس، وتفاوضنا في شؤون الهجرة وما هو من ذلك القبيل، فأخبروني أنهم في أمان الله من جهة شؤونهم المادية، أما البلاد فقد ظهر في ذلك الحين أنها صالحة للإنتقال، بما أن أهلها أشبه حال بأبناء وطننا لغة وأخلاقاً، وقد كنت سألت في ذلك الحين وأنا بالمنزل عند المغرب أبناء العم هل يعرفون هناك أحداّ من الذاكرين أو من المشايخ العارفين؟ فقيل أنهم لا يعرفون إلا واحدا من المشايخ الأتراك كان يُدعى الشيخ أحمد وهو رئيس في إحدى الدوائر الرسمية ويتوسمون فيه رائحة الصلاح، فقلت لهم "هل يمكن الإجتماع به في الغد؟"، فبينما نحن في ذلك الحديث وإذا بطارق يطرق الباب فخرج أحد ثم رجع قائلاً "هاهو الشيخ واقف عند الباب يستأذن الدخول عندكم" وما كان قبلُ يأتيهم إلى محل سُكناهم، فقلت لهم "أدخلوه"، وإذا هو رجل طويل القامة طويل اللحية متزي بزي الاتراك لباساً وهيئةً فقال "السلام عليكم"، فقلنا "وعليكم السلام ورحمة الله" وعندما أخذ مجلسه قال "إن أحد المغاربة يقول في تجلي الإله ويعني به الششتوري بقوله
محبوبي قد عم الوجود وقد ظهر في بيض وسود
فقلت له "دع كلام المغاربة للمغاربة وايتنا بكلام المشارقة" فقال "إن القائل قال عمّ الوجود فلم يخص غرباً ولا شرقاً" فعلمت إذ ذاك أن الرجل مستغرق في الفن المُشار إليه، فقعد معنا سُويعات في تلك الليلة والرغبة آخذة بمجامعه، فرأيته ينصت بكل جوارحه، ثم استأذننا في الذهاب على شرط أن نزوره غداً في بمحل عمله الرسمي، ومن الغد واصلناه إلى محله، أعني إدارة الواردات البحرية، لأنه كان رئيساً بتلك الإدارة، فتلقانا بمزيد السرور وأمر بتعطيل الأشغال وتسريح الكتاب، مع أنها كانت أشغالاً جمةً ثم انفردنا ناحية وجالت بيننا عدة مُذاكرات في شؤون من علم القوم يطول ذكرها، ومما يحسن ذكره أنه قال لي "إن شئت المُكث ببلادنا فهاهي الزاوية عليك حبس، وما حاذاها من الحوانيت، وأنا أكون خادماً لحضرتكم" وقد كنت أعلم الصدق من جميع مقاله، فوعدته على أن أنتقل إلى هناك، وتجولت في البلد ساعة فوجدت في نفسي ميلاً لذلك الوسط كأنه طبيعي، وفي ذلك اليوم اجتمعت ببعض المهاجرين من أهل تلمسان كانوا نازلين هناك، وقد فقدوا ما بأيديهم، كما كانوا فاقدين المعين أيضاً، وقد حصل لهم من الأنس عند الإجتماع بنا ما أنساهم الشدة التي كانوا فيها، وقد كنا لهم سبباً في محل المبيت وفيما يخصهم في تلك المدة
وفي اليوم الثالث سمعت منادياً ينادي لمن يريد الرحيل إلى الأستانة ويذكر أن الباخرة تلركب إليها بقيمة زهيدة، وأنه يذهب قبالة فتشوقت لزيارة دار الخلافة وظهر لي ما ربما أن أدرك من العلم ما أنا إليه في احتياج، فطلبت أحداً من أبناء عمي أن يذهب معي فوعدني بالذهاب غير أنه امتنع من الركوب لما رآه من هيجان البحر وتلاطم أمواجه، لأنه كان على حال لا يتأتى فيه السفر وكفى أنه فعل ولا تسأل عن ركوبنا وكيف كان حاله، ولما استقررت على ظهر الباخرة أخذت أتخيل وأتذكر بم نا مستعين على هذا السفر؟ فوجدت لا شيء أتأنس به غير الإعتماد على الله
دخلت الأستانة بعدما كابدت من ألم هيجان البحر ما كان يقضي على حياتي، والذي زادني أسفاً أنني لم أجد بالأستانة في ذلك الحين ولا أنيساً يأخذ بيدي، ولقد اضطررت حتى لعبارة التحية لما كنت أجهله من اللغات التركية
وفي ذات يوم كنت أجول طرف البلدة، وإذا برجل صافحني وحياني بلسان عربي مبين، فسألني عن إسمي وعن بلدي فنسبت له، وإذا به هو أحد الفقهاء الجزائريين يتصل نسبه بالنسب الشريف، وكنت يومئذ حريضاً على الزيارة لدار الخلافة فاستعنت به، فكان خير مُعين على الغرض المذكور، غير أني لم أشف غليلي منها لتكوين الحواديث الخلافية التي كانت على وشك الإندلاع، فيما بين الأمة التركية وشبابها الناهض، أو المصلح كما يقولون، وكان من رؤساء هذه الحركة أفراد معدودون أبعدتهم الحكومة عن سُلطانها، فانتشروا في بلاد أوربا وأسسوا الجرائد والمجلات، وتجردوا لانتقاد الحكومة وكشف عوراتها من بين الدول الأجنبية، فوجد المغرضون بتلك الحركة العوجاء نوافذ وأبواباً فتسربوا منها إلى قضاء حاجتهم، فكان من قضاء الله على دار الخلافة أن وقع القبض على مالكها وزج به في السجن، وتمادى الشباب الناهض على عمله دون شعور ولا مبالاة إلى أن بلغوا بغيتهم آخرا، واتضح الصبح لذي عينين من عنوان النهوض والوطنية والإصلاح، ولا أزيدك بسطة، وفي حركة الكماليين ما يُغنينا عن تتبع النوازل فقرة فقرة تيقنت أن ما أريده من المُقام بتلك الديار غير متيسر، لأسباب أهمها ما تفرسته من انقلاب المملكة إلى الجمهورية، ومن الجمهورية إلى الإباحية، فقفلت راجعا إلى الجزائر مكتفياً من الغنيمة بالإياب،
وفعلاً لم يرتح بالي ولم يسكن روعي إلا في اليوم الذي وطئت فيه تراب الجزائر، وحمدت الله على ما كنت أستحسنه بالطبع من عوائد أُمتي، وجمودهم على عقيدة آباءهم وأجدادهم، وتشبثهم بأذيال الصالحين
انتهى ما وجدته مكتوباً بعبارته, وتتميماً للفائدة نذيله بما في علمنا من يوم قُدومه إلى اليوم الذي ختمت فيه أنفاسه الطاهرة يوم السبت 14 جويلية 1934 الموافق للأول من ربيع الثاني 1335 من هجرة نبينا عليه الصلاة و السلام
رجع رضي الله عنه من جولته تلك وكتابه القديم المسمى "المنح القدوسية" قد تم طبعه، وانتشر ذكره عند كثير من الناس أما الأستاذ فمنذ أن استقر به النوى لم يزل معتكفاًُ على تدريس الفقه والعربية، وبث الهداية الإسلامية من بين أبناء الملة ورجالها المؤمنين، وعلى إثر هذا العمل انتشرت نسبته في عدة بلدان، خصوصاً في البوادي حول مدينة غليزان، ومدينة تلمسان، وقد بلغ أمره فيها أن صارت أتباعه تُعد بالمئات، وقد شهد له فيها بكرامات عديدة، وفيوضات ربانية، حتى كان في مجلسه من يصعق من خشية الله، وفيه من يفتح عليه بمجرد نظرة أو عطفة من عطفاته
خلــقه
كان رضي الله عنه طويل القامة، أخمص البطن، نحيف الجسم، أسمر تعلو وجهه الحمرة، أبيض اللحيّة سبطها، كأنّها خيوط من فضّة، سهل الخدين أسيلهما، طويل الأنف شامخه، ضلع الفم، حسن الشارب، لطيف الإطار، مستوي الجبين، فيه أسارير، بارز الحاجبين موفورهما، هذب الأشفار، قويّ العينين أنجلهما، ترى في آماقه صفرة، ضخم الرأس، تبدو عليه مهابة وجلال، حسن البشرة، إذا تحدّث كان خافض الصوت وعاليه إذا أفاض في التذكير نعوم البشرة، شنن الكفين، طويل الأصابع كأنّها عقاص مفتل، حسن الثياب معطرا
أخلاقه
لقد كان رضي الله عنه على جانب عظيم من اليقظة، زيادة على مكانته العلميّة، الأمر الذي كان يدركه منه حتى من لم يجتمع به، إلاّ مجرد وقوفه على بعض كتاباته، أو ما يبلغه من أنبائه، ومن هؤلاء حضرة الأستاذ الشيخ محب الدين الخطيب محرر مجلة الفتح الغراء الّتي نقتبس منها وفي الجزائر شيخ من مشايخ الطرق، على جانب عظيم من الذكاء والنشاط، وهو منها الأستاذ الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي المستغانمي الّذي يعدّ التابعون له بالألوف، وقد أقام العلو يون احتفالهم السنوي، فخطب فيهم الشيخ خطبة نسجلها له على صفحات الفتح لما امتازت به من المزايا
كما ونشرت الشهاب عن هذا الاحتفال، وقد ذكر الأستاذ رضوان الله عليه في خطبته في الاحتفال بعبارات أعربت عن اعترافه بالفضل للطائفة، وما كان من مزاياها الجليلة، في بثّ الأخلاق والنصائح والإرشاد بين أفراد الأمّة على اختلاف طبقاتها
كان رضي الله عنه، ممّن يكظم غيظه، ويعفو عن الناس، ويحسن إليهم، خصوصا إذا جمعته بهم المجامع، لا لضعف منه، ولكن لتمام فضله، وتوافر حلمه، ويوجد أمثلة لذلك الشيء الكثـير
ومن أخلاقه رضي الله عنه، أنّه كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حريصا على جمع كلمة المسلمين، وعلى ما ينهض بهم إلى الله، ويجمع قلوبهم عليه
ومن أخلاقه رضي الله عنه، أنّه كان شجاعا ذا لهجة صادقة وعزيمة قويّة، متوكلا على الله في كلّ أموره، ومن هذه الأمور المقرونة بالثبات الشيء الكثير الكثير والذي كان ينشر في الصحف خاصّة صحيفة لسان الدين وذلك منافحا عن الدين ودعوته إليه والتمسك بالسنّة النبويّة المطهّرة ويعتبر كلّ ذلك غاية في التضحيّة، وبذل الجهد، ليبعث في قلوب العباد روح الطاعة، والتحلّي بالأخلاق الحميدة، والتمتّع بالمروءة حتى يكتب لهم الفوز في الدارين، لا يرجع العبد بخفيّ حنين، أو نقول صفر اليدين خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين / الحج آية / 1 1 وإنّ أقواله المنشورة تنبىء القارىء بصريح لفظه على قوة إيمانه الذي قلت أفراده، وهو ممّن يقلّ وجوده عادة بين جموع الأنام، سنّة الله في خلقه، ولقد كان حليما حكيما منصفا، لا يستنكف أن يرجع إلى حقّ ولو ممن تجاهر بما ينتهي، وتهوّر في مراجعته بما يتضمن الإساءة، من نحو المعاتبة والتهديد، وما هو من ذلك القبيل
ومن أخلاقه رضي الله عنه أنّه كان يصل الرحم، ويطعم الطعام على حبّه مسكينا ويتيما، وذلك ابتغاء مرضاة الله ورسوله، علما بأنّ زاويته الكبرى بمستغانم كانت مفتحة الأبواب على مدار أيام السنة لكلّ وارد من الناس، وفي نهاية الأمر جعل جميع ما يملكه من دور وعقار وأثاث حبسا في سبيل الله على عائلته والمنقطعين بزاويته لقراءة القرآن والعلم الشريف، والفقراء والمساكين، ومن الأولى أن يخلد ثواب هذا العمل عند الله، حيث قال عليه الصلاة والسلام إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاّ من ثلاث صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له رواه الترمذي في سننه، ولقد ترك الأستاذ رحمه الله من الصدقة الجارية، ومن العلم النافع، ومن الأولاد الروحيّين الصالحين، ما يصير الرحمة إن شاء الله تتنزّل على روحه وضريحه الأنور، أشبه شيء بالمطر الغزير جزاء وفاقا والله يرزق مــــن يشاء بغير حساب / البقرة آية / 2 12، والله ذو الفضل العظيم / الحديد آية / 21
ومن أخلاقه رضي الله عنه أنّه كان صادق اللهجة، لا يقول إلاّ صدقا، ولا ينصر إلاّ حقّا معتصما بالله قولا وفعلا، حيث إنّه كان يقول لا شيء عندي أحبّ من المنتسب إلى الله، وإنّي أحترمه وأبجّله، ولكن ما دام يحافظ على حدود الله، أمّا إذا ظهر منه ما يخالف صريح الشرع الشريف، فلا صلة بيني وبينه كائنا ما كان
بساطته وزهده وتواضعه
يقول الدكتور و طبيب الشيخ العلوي, مارسيل كاريه
ومنذ أول لقاء لي معه داخلني شعور بأنّي في حضرة شخصيّة غير عاديّة، كانت الحجرة التي اقتدت إليها مثل غيرها من الحجرات في بيوت المسلمين عارية من الأثاث، ولم يكن بها سوى صندوقين عرفت فيما بعد أنّهما كانا مليئين بالكتب والمخطوطات، وكانت الأرضيّة مغطّاة من أولها لأخرها بالأبسطة والحصر التي يسهل طيّها، وهنالك في ركن من الحجرة جلس الشيخ على مرتبة تغطيها بطانيّة مستندا بظهره إلى بعض المساند معتدلا في جلسته متربّعا وقد أراح يديه على ركبتيه، كان في جلسته ساكنا سكون القديسين طبيعيّا لأبعد الحدود، وأول ما راعني فيه هو ذلك الشبه الكبير بينه وبين التصورات المعتادة للمسيح عليه السلام، فملابسة قريبة الشبه إن لم تكن مطابقة تماما لتلك الملابس التي لا بدّ أنّ المسيح اعتاد أن يرتديها، وذلك الغطاء الرقيق الذي وضعه على رأسه والذي يكتنف وجه منظره بشكل عام كلّ شيء فيه كان يتآمر على توكيد هذا الشبه، وإظهار هذا التطابق، وخطر لي أن المسيح لا بدّ أنّه كان يبدو على هذه الصورة عندما كان يستقبل تلامذته طيلة فترة إقامته مع مارتا وماريه، وأوقفتني الدهشة للحظة حائرا عند عتبة الدار، كما إنّه هو بدوره ثبت بصره على وجهي، ولكن في نظرة تائهة، ثمّ قطع السكون بدعوته لي بالدخول مستخدما نفس كلمات الترحيب المعتادة، وأحضر لي كرسيّا لأجلس عليه، لكنّي رفضته مفضلا الجلوس على أحد المساند، فتبسّم الشيخ في خفية، وشعرت بهذا أنّي قد استحوذت على عطفه ورضاه بهذه اللفتة البسيطةكان رقيق الصوت خفيضه، وكان قليل الكلام، يتحدث في جمل قصيرة، وكان كلّ من حوله يسمعونه في غير ما ضجة، وكانوا رهن كلمة منه أو إشارة، أحسست أنّه كان محوطا بأعمق آيات التبجيل
وازداد لذلك شغفي واهتمامي بالشيخ، أن يوجد مريض لم يفتنه العلاج والتطبيب فهذا أمر نادر حقا، ولكن أن يوجد مريض لا يشعر برغبة ذاتيّة في تحسن حالته، وكلّ ما يريده هو أن يعرف موقفه من المرض ليس إلاّ، فهذا ما يفوق في ندرته أي شيء آخر، وشرعت في فحص مريضي بدقة متناهية بينما هو مستسلم لي برضا بالغ، وكانت ثقته تزداد فيّ كلّما ازددت أنا دقّة وحذرا في فحصه، وقد كان نحيفا للغاية، وبعد أن فرغت من الكشف عليه عاد الشيخ إلى جلسته السابقة على المساند، وتمّ إحضار المزيد من الشاي، ثمّ أوضحت للشيخ أنّه مصاب بنوبة أنفلونزا حادة نسبيا، ولكن ليس هنالك خطر عليه، وأنّ أعضاءه الرئيسيّة تعمل بانتظام، وأنّه يتعين عليّ أن أمر عليه ثانية من باب الحيطة، ثمّ أعقبت مبديا رأيي في أنّ نحافته أمر يدعو إلى الانزعاج مقترحا عليه أن يزيد في كميّة الأكل التي اعتاد تناولها كلّ يوم حيث إنّ غذاءه اليوميّ لم يكن يتعدّى لترا من اللبن، وقليلا من التمر مع موزة أو موزتين، وقليل من الشاي، وأبدى الشيخ ارتياحه لنتيجة فحصي وشكرني بوقار معتذرا عما سببه لي من متاعــب، وأخبرني بأنّه يمكنني زيارته مرّة ثانية في أي وقت شئته، ومتى وجدت ضرورة لذلك، أمّا فيما يتعلق بطعامه فإنّ وجهة نظره في هذا الأمر كانت تختلف عن وجهة نظري
إنّني لم ألمّ بشيء البتة عن الشيخ قبل هذه المرة، وحاولت أن أعرف شيئا من أمر هذا الشخص العجيب، ولكنّ أحدا لم يستطع أن يخبرني شيئا على وجه التخصيص، فالأوروبيون في شمال أفريقيا يجهلون جهلا تامّا تأثير الإسلام في نفوس أهله بدرجة تجعلهم ينظرون إلى كلّ شيخ أو مرابط على أنّه مشعوذ لا وزن له ولا أهميّة، ومع ذلك فقد بدا لي الشيخ بسيطا وطبيعيّا إلى درجة جعلت انطباعاتي الأوليّة عنه لا تزايلني، وذهبت لأعوده أياما متتالية إلى أن بريء من مرضه، وفي كلّ مرّة زرته كنت أجده كسابق عهدي به ساكنا في نفس جلسته، يحتل نفس البقعة، ولم تزايله نظراته الحالمة، ولا تلك الابتسامة الباهتة على شفتيه، ومع كلّ زيارة جديدة كان يزداد ترحيبا بي وثقة في شخصي، وسرعان ما ربطت بيننا أواصر الصداقة حتى أنّني عندما أخبرته أنّ زياراتي له كطبيب لم تعد ضروريّة البتّة فأجابني بأنّه سعد بمعرفتي، وأنّه سيكون من دواعي سروره أن أمرّ عليه من وقت لآخر، ومتى سنحت لي الفرصة بذلك، وبقيت هذه الصداقة حتى وفاة الشيخ عام / 1934م، حيث كنت أذهب إليه، لأنعم بالحديث معه، وشيئا فشيئا أصبحت أنا وزوجتي من المقربين إلى داره وأهل بيته، وبعد فترة جعلونا برفع الكلفة بيننا، وانتهى بهم الأمر إلى اعتبارنا من أفراد العائلة، على أن هذا تمّ بالتدريج وبطريقة لا تكاد تلحظ
ثمّ كيف طبقت شهرة الشيخ كلّ هذه الآفاق؟، فلم تكن هنالك دعاية منظمّة، كما إنّ تلامذة الشيخ لم يحاولوا على الإطلاق تجنيد أشياع جدد له، ومع ذلك يزداد نفوذ الشيخ مع الأيام قوة، ويقبل مريدون من كلّ حدب وصوب يلتمسون الانضمام إلى الطريقة، وأخذ العهد على الشيخ، وذات يوم تفوهت أمام الشيخ بما يعبّر عن دهشتي بكلّ هذا، فأجابني قائلا إنّ كلّ من يأتي إليّ هنا يشغله التفكير في الله , ثمّ أردف معقبا بكلمات حقيقة بالإنجيل , إنّهم يتلمسون طريقهم إلى السلام الباطني , وكثيرا ما كنت أسمع في أثناء حديثي مع الشيخ لفظ السلام الباطني
وأدهشني ما كان عليه الشيخ من اتساع أفق وتسامح، وكنت سمعت من قبل ذلك أنّ جميع المسلمين متعصبون لا يستشعرون إلاّ الازدراء لكلّ أجنبيّ لا يدين بدينهم، وقال الشيخ إنّ الله خصّ ثلاثة رسل بوصيّة هم على التوالي موسى، عيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك/ غافر آية / 78 واستنتج الشيخ من ذلك أنّ الإسلام أكمل العقائد الثلاثة، لأنّ رسالته هي أحدث الرسالات، إلاّ أنّه أضاف قائلا إنّ المسيحيّة واليهوديّة أيضا ديانتان منزلتان
وكان فهمه للإسلام يتميّز بنفس التسامح واتساع الأفق، ولم يكن يصر إلاّ على ما هو جوهريّ منه، وقد اعتاد أن يقول يكفي المسلم الحقّ أن يتمسّك بخمس أن يؤمن بالله، وأن يشهد أنّ محمدا خاتم رسله، وأن يؤدي فروض الصلوات، وأن يؤتي الزكاة، وأن يصوم الشهر، وأن يحج إلى البيت في مكة
إنّه لم يحاول الشيخ أدنى محاولة أن يجعلني اعتنق الإسلام، بل أنّه ظلّ لفترة طويلة غير مكترث بالمرّة بأمر عقيدتي الدينيّة، وقد اعتاد أن يعبّر عن رأيه في هذا الصدد فيقول إنّ من يحتاجني يسعى إليّ، فلم أحاول استمالة الآخرين؟، إنّ هؤلاء لا يكترثون للقضايا الكبرى الجديرة باهتمامهم، بل تراهم ينصرفون عنها