قدرى جاد Admin
عدد الرسائل : 7397 العمر : 66 تاريخ التسجيل : 14/09/2007
| موضوع: الإحيائية الصوفية وتجلياتها المعاصرة ـ د. محمد حلمي عبدالوهاب السبت يناير 02, 2010 6:24 am | |
| لا أحد ينكر على الإطلاق ظاهرة «الإحيائية الصوفية»، تلك التي برزت مؤخرا على الساحة العالمية (تحديدا منذ العقد الأخير من القرن العشرين وبدايات القرن الجاري)، مع الاعتراف بندرة نصيب العالم العربيّ منها وبروزها بشكل أكبر على مستوى كل من: الولايات المتحدة، وأوروبا، وأواسط آسيا وجنوبها بصفة خاصة.
ومما يثير الدهشة في النظر إلى هذه الظاهرة المتنامية بقوة، تعدد تجلياتها في الواقع المعاصر. فإلى جانب الشكل التقليدي للطرق الصوفية بتنظيماتها وتفرعاتها المعروفة، هناك حركات لا تتبع مثل هذا الشكل التنظيمي مطلقا، بل ولا تُعِّدُ نفسها أحيانا صوفية رغم تجذر عامل التصوف فيها. فعلى سبيل المثال، ثمة أشخاص يتبعون مجموعة قراءات لكتابات جلال الدين الرومي في أوروبا وأميركا، أو يتبعون الحركة الاصطفائية للعصر الحديث المتأثرة بالفكر الصوفي والممارسات الصوفية دون أن يكون لهم أدنى انتماء رسمي للصوفية التقليدية ذات الجذور القوية في العقيدة والممارسات الإسلامية. ومع ذلك، يمكن النظر للإحيائية الصوفية المعاصرة على أنها «إسلام مثالي» في الدرجة الأولى. وبحسب بعض المستشرقين الأميركيين، فإن من الاستحالة بمكان أن نؤمن بالإسلام دون الحقائق الأصلية التي يعتنقها المتصوفة بطريقة منتظمة، وعلى رأسها «قيمة الإحسان» الذي يُفهم على أنه الوعي الداخلي الذي لا تقف الأنا في طريقه، أو الخيالات التافهة، أو الانشغالات بالماضي، أو حتى الانشغالات الدنيوية.
وهو أمر تؤكده الوقائع التاريخية، إذ نشأ التصوف الإسلامي مُعبِّراً عن المثل الديني الأعلى وظل في أدواره كلها يُجسِّدُ ذلك المثل مُخالِفاً في ذلك جموع القُرّاء، والفقهاء، وأهل السنة، والمتكلمين، والمتفلسفين مُتعرِّضاً لعداواتهم واضطهاداتهم من غير أن تُخرجه مثل هذه العداوات والاضطهادات عن حدود الحب والتسامح.
ليس غريبا، والحال هذه، أن يُقسِّم ذو النون المصري (ت 246 هـ) علاقات الصوفي بالناس على النحو التالي، فهو «عونٌ للغريب، أبٌ لليتيم، بعلٌ للأرملة، حفيٌ بأهل المسكنة، مرجوٌ لكل كربة، هشاشٌ بشاش، لا يُكدّرهُ شيءٌ وتصفو به كافة الأشياء». وتبعا لذلك، فإن الميراث الذي تركه المتصوفة إنما يتمثل في إسلام حضاري يُدعى إليه بحساسيةٍ شديدةٍ تجاه الثقافات الأخرى ويدعو إلى التعاون بين الأديان في الوقت الذي لا يُهمِلُ فيه الحياة الداخلية والتوجه الروحاني من أجل الانضمام إلى أية حركة سياسية.
وفي الواقع، تمثل الصوفية في آسيا الوسطى اليوم، كما في غيرها من المناطق الآسيوية الأخرى، الجوانبَ الفكريةَ والروحية في الإسلام القادرة على، والراغبة في، أن تتواصل مع مختلف الأديان والأعراف والتقاليد والثقافات المحلية الأخرى. فعلى الرغم من قيام السوفييت باضطهاد المتصوفة هناك طوال ما يقرب من ثمانين عاما، استطاعت الصوفية أن تحافظ على مكانتها حتى بعد زوال الاتحاد السوفييتي.
فقد أدرك العديد من دول هذه المنطقة مؤخرا أهمية استعادة الثقافة الصوفية بالنسبة إلى مجتمعاتها؛ فشهدت أوزبكستان، على سبيل المثال، طفرة في إعادة نشر الكتابات الصوفية كان أبرزها نشر كتاب الشرنافاي المعنون بـ«لغة الطيور»، احد روائع الأدب الصوفي العالمي، وذلك عن طريق ترجمته إلى اللغة الأوزبكية الحديثة العام 2004 بمساهمة من الدولة.
وإلى جانب ذلك، هناك حضور كبير وطاغٍٍ للطريقة النقشبندية في ربوع أواسط آسيا كافة. وآية ذلك، أن أكبر مدرسة دينية هناك يرأسها شخص نقشبندي وكذلك الأمر بالنسبة لرئاسة «اللجنة الحكومية للدراسات الدينية»، كما أن هناك بالقرب من مدينة كوكاند، شيخ يقوم حالياً بتدريس قيم النقشبندية الكلاسيكية.
وبالإضافة إلى إحياء القيم الصوفية التقليدية لأواسط آسيا في المؤسسات التعليمية والنشر، هناك إعادة إحياء للقيم الصوفية من خلال زيارات الأضرحة. ففي مقالة لديفيد تايسون David Tayson بعنوان «الحج إلى الأضرحة في تركمانستان»، يؤكد فيها على أهمية زيارة الأضرحة وارتباطها بهوية تركمانستان القبلية، خاصة أن الصلات الثقافية والتاريخية لهذه الأضرحة كانت قد فُقدت في الغالب تحت الحكم السوفييتي مما أدى إلى خلق فراغ ثقافي كبير.
وفي الواقع، إن أهمية زيارة الأضرحة أمر فريد بالنسبة إلى الهوية التركمانية، فضلا عن كونها تلعب دوراً مهماً، وإن بدرجات متفاوتة، في هوية كل من: الكازخ، والأوزبك، والطاجيك، والأفغان، وإلى درجة ما في الإحياء الثقافي المرتبط بضريح بهاء الدين النقشبندي في مدينة بخارى.
في المحصلة، تكاد تشهد بداية القرن الحالي ما شهدته الفترة ذاتها من نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع الهجريين من ازدهار للحركة الصوفية عندما اكتمل التصوف - كمذهب مُنظم- على الصعيدين النظريّ والعمليّ. بل إنه مرشح بالفعل حالياً لتمثيل دور مهم في المستقبل نتيجة التهديد الذي تشعر به البشرية في كيانها الماديّ والروحيّ بسبب الضغط الذي يمارسه التقدم التقني على النفوس، وبسبب الفجوة التي أحدثها هذا التقدم في التوازنات الاجتماعية وفي الصحة النفسية للأفراد والجماعات.
كاتب من مصر | |
|