الكتابة الصوفية واحتجاب المعنى
قراءة نقدية في ديوان مجمع الأهواء للشاعر أحمد العمراوي
بقلم الأستاذ علي أيت أوشان
" أما العالم في نفسه فليس إلا خيالا وحلما يجب تأويله لفهم حقيقته "
ابن عربي، فصوص الحكم , ص 27
الشعر والمعنى
في الشعر سر لا يدركه إلا الشعراء لذ اعتبر الصوفية الشاعر مصنوعا على عين الله.....جسمه في الأرض وقلبه في السماء يتسقط أخبار العالم العلوي الذي يمده بوضمات إلهية بها يكون شعره نارا تهجم على الأفئدة بغير حجاب .
والشاعر مؤتلف مع ذاته، بعيد عن تعقيدات الحياة .." وفطرة ...وجوهرة قبل الصياغة ..وهو طفل كبير، أمه الحقيقية, وكعبته آمل خضر يشده إليها حنين روحاني غامض .. وهو مكبل بتناقضات المادة والروح ..همه التعبير عما يحس به، وغايته إرضاء نزعة النفس فيه ..وهو معيار الحقيقة، ونجم يضيء ويهدي السائرين إلى الاتجاه الصحيح، والصراط الذي مده الله لعباده الذين اصطفى
وما علم الشعر الذي يدعون إليه إلا صفات لن تنال من الشعر إلا ما يظهره، أما سره فلن يستجيب للعلم لأنه لا يستقر على حال، وبذلك فإن العلوم تنتهي عند عتبة الشعر لأنها علوم لا تدرك أن الشعر مجالسة، وذكر وتذكر،حيث الجليس لا يستأذن ولا يستجير وإنما يرى كيف يعيد الشاعر تشكيل الكلمات والأشياء : نارا ونورا، هما ووهما، ائتلافا واختلافا .فمن دخل حضرة الشعر بالعلم عاد من حيث أتى، ومن قصده للمجالسة خرج الشعر إليه وأدخله حضرته التي يمحي فيها العلم ويحترق العلماء بنار الشعر، وهي نار محرقة ولكنها في الوقت نفسه نور، يقول هيدجر :" إن الإنارة لا تقتصر على إضاءة الكائن، وإنما هي قبل ذلك تجمعه وتؤمنه في الكينونة ...إن الآلهة والبشر لا يستضيئون فحسب بنور معين ..إن النور يغمر ماهيتهم لأنهم مستنيرون أي مجموعون في حدث الإنارة . ولهذا السبب فهم لا يحجبون أبدا بل يكشفون " وبذلك فإن في الشعر سرا لا تراه ولو كان هذا السر مكشوفا ما طلب الشعر إلى الآن وما كان له عباد يستعظمونه
بهذا الفهم للشعر تندرج تجربة الشاعر المغربي أحمد العمراوي في ديوانه " مجمع الأهواء " خاصة في النصوص الشعرية الآتية : شطحة - ريح الضوء - مجمع الأهواء - أنا الآخر....وغيرها من النصوص؟ وهي نصوص تمتح في جزء كبير منها من المتخيل الصوفي الإسلامي خاصة عند ابن عربي والنفري والبوني وجلال الدين الرومي والقشيري وغيرهم جاعلا بذلك من الشعر مقام إشارة حيث لا يدرك المعنى إلا بالتماهي والمجاهدة والمكاشفة والمحو والتقلب، فهو لا يأتيك وإنما ترحل إليه، وعندما أقول إنه يمتح من التجربة الصوفية فهذا لا يعني أنه يشحن النصوص الشعرية بالمعتقدات الدينية بل إننا ننظر إلى هذه التجربة على مستوى الكتابة الشعرية بوصفها تعكس رؤية غنية وتولد أسئلة تكشف عن العالم الخفي للإنسان واللغة والوجود دون أن تتقيد بمعايير محددة أو تخضع لنظرية جمالية ما .
ونسعى من خلال هذه المقاربة النقدية إلى الوقوف على الحضور الصوفي في العديد من نصوص ديوان "مجمع الأهواء " ليس بمعناه الديني التقليدي، وإنما باعتباره تجربة جمالية في الكتابة تسعى إليه توسيع حدود الشعر دون أن تقيده لأن هذه النصوص تجليات تتعذر الإحاطة بها واستنفاذها لذا فما نقدمه من قراءة نعتبره إضاءة نحاول من خلالها الإنصات إلي هذه النصوص عبر البحث والكشف والسفر في الحب والرؤيا الشطح والمعمار النصي
الحب والمكان
في الحب لذة لا لذة قبلها ولا بعدها لذلك اقترن الحب بالقلب لأنه يتقلب مع أحوال المحبيين ولا يسمى الحب حبا إلا إذا أسكر صاحبه عن كل شيء إلا عن محبوبه، والمحبة كما يقول ابن عربي مقامها شريف، وهي أصل الوجود،(3) وترتبط بالقبول والرضى ورفع الكلفة، قال ابن عربي ( ترجمان الأشواق وذخائره الأعلاق)
أدين بدبن الحب أنى توجهت ركائبه فالدين ديني وإيماني.
والمحبة عند العلماء بها والمتكلمين فيها من الأمور التي لا تحد، فيعرفها من قامت به ومن كانت صفته، ولا يعرف ما هي، ولا يفكر وجودها، ومن حد الحب ما عرفه، ومن لم يذقه شربا ما عرفه، ومن قال رويت منه ما عرفه، والحب درجات ومراتب : إلهي وروحاني وطبيعي، ولمقام المحبة أربعة ألقاب : الهوى والحب والود والعشق. وقد ارتبط ديوان الشاعر أحمد العمراوي بالأهواء بدءا بعنوان الديوان : " مجمع الأهواء " حيث يحيل لفظ المجمع على المكان والملتقى أي مكان التقاء الأهواء والجمع بينهما حتى لا تتفرق وفي ذلك رغبة للقبض على هذا المقام خاصة وأنه مقام عظيم فهو يشكل أول خطوة للوصول إلى اليقين أي حضرة الجمال المطلق ومنه مجمع البحرين، أي ملتقاهما في قوله تعالى " إذ قال موسى لفتاة لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين " أي ملتقاهما، ويكون المجمع اسما للناس وللموضع الذي يجتمعون فيه ( 4) وقد ربطه الشاعر بالأهواء أي بالميل والعشق والقلب جاعلا منه مأوى الجمع وفي ذلك دعوة إلى المجاهدة والمكاشفة وإشارة إلى ما يقذف في القلب من حب وعشق ومعرفة ( 5 ) ، فإذا أحب العبد جعل قلبه لا عقله مجمع أهواء، فيكون بذلك جامعا لأول مرتبة من مراتب الحب (الهوى ) حيث لا تتفرق أهواؤه، وإنما يجمعها لتصبح معبرة عن حاله، فالهوى هو سقوط الحب في المحب، ويختلف الناس في هذا المقام بحسب تباين أحوالهم ودرجة هواهم، فقد رأى بعضهم مجنون بني عامر في هذا المقام، فقال ما فعل الله تعالى بك ؟ فقال : غفر لي وجعلني حجة المحبين .
ويستهل الشاعر أحمد العمراوي نص « مجمع الأهواء» (ص 52 - 58 ) ببيتين شعريين للشاعر محمد الكتاني :
تفردت بي عيني بمهمه مهمه فما تم غيري ظاهـر في أنيتي
أنا كل كل الكل طلسم طلسم بذاتي خلت ذاتي بكاسات خمرتي
وكأن هذا النص يهيئنا لدخول مغامرة القراءة والتأويل من باب التخيل والحب والسكر : فالقلب سراديب / والجسد يحترق / والغموض يلف / والتاريخ الشخصي يلغى / والظل يتناسل / والطريق أعوزها السير....
ولا يجد إلا التساؤل: ( ص 54 )
هل افتراش الأرض بحدآت تتصايح
أم أترك الريح تهد أشلاء العالم ؟
هل أرتمي حجرا مدرعا بد موع أم أرفع شهقة العراف ؟
والركون إلى الظل، وهو: ظل يتناسل ويأخذ شكل النبوة والحب يقول الشاعر : (ص55)
ظل يتناسل في ظلال
يأخذ شكل النبوة والحب
أواه حبي
دخولي تناثر على موج مقوس
طريقي أعوزها السير
كما أنه ظل يتداخل مع الحرية والجسد والمكان (ص56)
ظل يأخذ شكل الحرية،
جسد كنود أحرقه اشتهاؤه.
هل بالإذلال يحب الحب ؟
ظل سانح يهئ المراكب
يقد مها قربانا للسان الدين
فاس ،
ظل يبتعد عن موضوعه
ولود تطل من نافدتها على الله
إنه سقوط في حب المكان ( فاس ) فهي: " مجمع الأهواء "، حب يحير ويتلف ويعمي عن كل شئ إلا عن حبها، فالأهواء هنا تعلو بعلو " فاس " وتتلد بها لأنها مكان الابتلاء إن اختيار الشاعر نص " مجمع الأهواء " عنوانا للديوان غرضه الارتباط بالحب الأسمى الذي لا يتغير أي حب المكان. والذي أوقد نار الشعر في قلب الشاعر ولزمه حتى أصبح صفة من صفاته، ومتى ارتبط الشعر بالحب فإنه لا يتعلق بأي شيء إلا بالحيرة والدهشة والتجلي، لذا فإن لحظة كتابة الشعر هي لحظة انخطاف . والمكان الذي يرتبط به الشاعر هو المكان الذي يمارس فيه - على حد تعبير باشلار - أحلام اليقظة لأنه يشكل خياله، لذا فهو لا يستخدم في بعده الهندسي وإنما كحلم لا يتنهي، إنه مكان الألفة الذي يبعث في الشاعر إحساسا ذاتيا لذا يقدمه بصور متفرقة ومختلفة وفي الحالتين معا فإنه ينجذب إليه، لذا فإن المكان في هذا النص - فاس - ليس شيئا عاديا أو صورة مقحمة في النص، وإنما المكان كما يقول الشاعر، ص 56
ظل يبتعد عن موضوعه
الرؤيا ورمزية الحرف
الرؤيا انتقال من ظاهر الأشياء إلى باطنها، وهي جزء من النبوة، ولا تكون إلا في حال النوم، والرؤيا متى حصلت فهي صادقة، وإنما المعبر عنها هو الذي يحار في تأويلها، وينسب الشعر إلى الرؤيا لأنها مكان التجليات، ففي هذا المقام تأخذ المعاني صورها كما يقول ابن عربي. وتتفاعل نصوص ديوان " مجمع الأهواء " مع الواقع المرئي وتحوله إلى رؤيا شعرية جامعة، والرؤيا هنا سفر دائم في الذات، وهذا ما يعطي للغة مجالا أوسع للاتصال الحميمي بالأشياء عبر الإشارة والرمز والإيحاد . يقول الشاعر : (ص 11 و12)
ريح تروض خمر مسائي
ببرزخ حرف
بأسماء أخرى تهيمن:
ألف #8592; لذات
نون #8592; لنفس
سين #8592; لطير
هاء #8592; لنبت
تتكدس في العقل روح نبي
طوى ظلمه السوط
وقلب أوراقه
إنها رؤيا صوفية تحفر في الدلالات الرمزية للحروف لتكشف عن معانيها الخفية وعيا من الشاعر أن الحروف مراتب ودرجات ولها أدبا خاصا لا بد من الوقوف عنده لأنها تمكن من معرفة العلم والعالم والمعلوم، فالحروف كما أشار الشاعر ببرزخ، والبرزخ عند الصوفية هو عالم المعقولات أو المعاني، وهو أبدي لأنه خيال الخيال، وبذلك يتبين أن الحروف ستار علينا أن نخرقها لنرى ما وراءها لأنها أول المخلوقات ويتعمق البعد الرمزي للحروف حين يستلهم الشاعر أحمد العمراوي رؤية ابن عربي العميقة للحروف وعلاقتها بأصل الوجود . يقول الشاعر: ( ص 23 )
من الحروف الرطب واليابس
ومنها الحار والبارد
والحروف أمم لها أنبياؤها
الرؤيا جزء من النبوة
والرائي نبي
ويقول ابن عربي ::.. فلما أوجد هذه الصور التي هي الماء والنار والهواء والأرض وجعلها سبحانه يستحيل بعضها إلى بعض فيعود النار هواء والهواء نارا كما تقلب التاء طاء والسين صادا لأن الفلك الذي وجدت عنه الأمهات الأول عنها وجدت هذه الحروف وبذلك فإنه يضع القارئ أمام لغة مبتكرة ومتجددة تمكنه من التواصل مع أسرار الحروف والوقوف عند أبعادها، وهذا أمر لن يتحقق إلا بالمجاهدة ليدرك القارئ ما أدركه الشاعر بالرؤيا ثم يعمق الشاعر رمزية الحروف حين يقف خاصة عند حرف " النون " ليحفر في الحركة العميقة التي تكمن وراء هذا الحرف / السر، فهو عتبة تقود إلى معاني حفية حيث يشكل نظاما إشاريا خاصا وفيضا من المعاني ( 53 )
نــون :
زمردة تستعصي
خروج يستعصي
[ وأنت أيتها الاشارة
وصلك بوح يزهو
ليل عرش على أحشائي
نــون :
فيض جلاء
نكاح ساري
مشكاة في ظلمة / نور في ظلمة
والوجد يقلق.
ظل يبوح
إنه بهذا الحفر في دلالات الحروف يستلهم التجربة الصوفية التي ترى في فك رمزية اللغة كشفا لسر الوجود والإنسان، ذلك أن لكل حرف معنى ظاهر ومعنى باطن، والمعنى الباطن يجهله أهل الظاهر لأنه لا يدرك إلا بالكشف وفي هذا السياق يقول ابن عربي : " إن الحروف أمة من الأمم مخاطبون ومكلفون، وفيهم رسل من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف .( 7 ).وعالم الحروف أفصح العالم لسانا وأوضحه بيانا .. يقول الشاعر ( ص11):
ألف #8592; لذات
نون #8592; لنفس
سين #8592; لطير
هاء #8592; لنبت
إن المراهنة على رمزية هذه الحروف هو رغبة في تجدد الدلالة وولادة معاني أخرى، فالحروف هنا ليس لها معنى جاهز ومتداول كما هو الحال في اللغة العادية، لأنها تكشف عن شيء آخر مختلف عن المعهود، فالألف تحيل على الذات، والنون على النفس، والسين على الطير، والهاء على النبت، وبذلك فإنها تتقاطع مع الدلالات الرمزية الكبرى التي حددها الصوفية لهذه الحروف : فالألف : تفعل في الخلق بإذنه . والنون : قسم الله وهي من عالم الملك والجبروت والسين استواء على عرش الوجود، والهاء : نسيج فمن الهو ومرورا بالهو وانتهاء بالهو لا نجد سوى الهاء ( 8 )
إن الشاعر أحمد العمراوي بهذا الانفتاح على التجربة الصوفية والسفر في رمزية الحروف يوسع جمالية اللغة ويخلصها من غربتها ويعطيها مجالا أوسع لتكشف عن أشياء جديدة وبذلك فإنه اختار أن يراهن على المغايرة والاختلاف وتكسير منطق العقل . يقول الشاعر ( ص 23 )
العقل جحيم
يؤله بوصلة الجسد