توضأ بماء الغيب
توضأ بماء الغيب للشيخ الأكبر
من كتابه "إيقاظ الهمم في شرح الحكم"
قال رحمه الله تعالى ورضي عنه في كتابه العجيب "إيقاظ الهمم في شرح الحكم" في شرح قول سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه: (كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته ... الحكمة):
قلت: الحضرة مقدسة منزهة مرفعة لا يدخلها إلا المطهرون فحرام على القلب الجنب أن يدخل مسجداً الحضرة وجنابة القلب غفلته عن ربه قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} أي لا تقربوا صلاة الحضرة وأنتم سكارى بحب الدنيا وشهود السوي حتى تتيقظوا وتتدبروا ما تقولون في حضرة الملك ولا جنباً من جماع الغفلة وشهود السوى حتى تتطهروا بماء الغيب الذي أشار إليه الحاتمي رضي الله عنه كما في الطبقات الشعرانية في ترجمة أبي المواهب بقوله:
تَوَضَّأ بِماءِ الغَيْبِ إنْ كُنْتَ ذا سِرٍّ .. وإلا تَيَمَّم بالصَعيدِ أو الصَخْرِ
وَقَدِّمْ إماماً كُنْتَ أنْتَ إمامَهُ ..... وَصَلِّ صَلاة الظُهْْرِ في أوَّلِ العَصْرِ
فَهذي صَلاةُ العارِفِيْنَ بِرَبِّهِم ..... فَإنْ كُنْتَ مِنْهُمْ فانْضَحِ البَرَّ بالبَحْرِ
يعني تطهر من شهود نفسك بماء الغيبة عنها بشهود ربك أو تطهر من شهود الحس بشهود المعنى أو تطهر من شهود عالم الشهادة بماء شهود عالم الغيب أو تطهر من شهود السوى بماء العلم بالله فإنه بغيب عنك كل ما سواه وإذا تطهرت من شهود السوى تطهرت من العيوب كلها وإلى ذلك أشار الششتري رضي الله عنه بقوله:
طهر العين بالمدامع سكباً *** من شهود السوي تزل كل علة
وهذا الماء الذي هو ماء الغيب هو النازل من صفاء بحار الجبروت إلى حياض رياض الملكوت. فتغرقه سحائب الرحمة، وتثيره رياح الهداية فتسوقه إلى أرض النفوس الطيبة، فتملأ منه أودية القلوب المنورة وخلجان الأرواح المطهرة. وإليه الإشارة بقوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فأحتمل السيل زبداً رابياً.. الآية}؛ شبه الحق تعالى العلم النافع بالمطر النازل من السماء. فكما أن المطر تعمر منه الأودية والغدران وتجري منه العيون والأنهار، كل على قدر سعته، وكبره، كذلك العلم النافع نزل من سماء عالم الغيب إلى أرض عالم الشهادة، فسالت به أودية القلوب كل على قدر طاقته وحسب استعداده. وكما أن المطر يطهر الأرض من الأوساخ، وهو معنى قوله تعالى: {فأحتمل السيل زبداً رابياً}؛ أي مرتفعاً على وجه الماء، كذلك العلم النافع يطهر النفوس من الأدناس والقلوب من الأغيار والأرواح من الأكدار والأسرار من لوث الأنوار، وهذا الماء هو الذي أشار إليه بقوله: (توضأ بماء الغيب أن كنت ذا سر)، أي: كنت صاحب سر، والشهود شهود الوحدة ونفي الكثرة، أو شهود العظمة بالعظمة. ومن لم يتحقق بهذا فلا يمكنه التطهير بماء الغيب بالكلية، لفقده ذلك الماء أو لعدم قدرته عليه، فينتقل للتيمم الذي هو رخصة للضعفاء، وطهارة المرضى. وإلى ذلك أشار بقوله (وإلا تيمم بالصعيد أو بالصخر)، أي: وإن لم تقدر على الطهارة الأصلية وهي الغيبة عن السوى لمرض قلبك مع عدم صدقك، فأنتقل للطهارة الفرعية التي هي العبادة الظاهرية، أو تقول وإن لم تقدر على الطهارة الحقيقية التي هي الطهارة الباطنية، فأنتقل للطهارة المجازية التي هي الطهارة الظاهرية. أو تقول وإن لم تقدر على طهارة المقربين فأنتقل لطهارة أهل اليمين. أو تقول وإن لم تقدر على طهارة أهل المحبة فأنتقل لطهارة أهل الخدمة (قوم أقامهم الله لخدمته وقوم اختصهم بمحبته كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً).
فطهارة أهل المحبة الفكرة والنظرة وطهارة أهل الخدمة بالمجاهدة والمكابدة بين عبادة ظاهرة كصلاة وصيام وذكر وتلاوة وتعليم وغير ذلك وبين عبادة خفية كخوف ورجاء وزهد وصبر وورع ورضى وتسليم ورحمة وشفقة وغير ذلك مما لا يظهر للعيان وهذا هو تصوف أهل الظاهر وأما تصوف أهل الباطن فهو الغيبة عن الأكوان بشهود المكون أو الغيبة عن الخلق بشهود الملك الحق وهو الذي عبر عنه الناظم بماء الغيب. فكل من لم يدرك تصوف أهل الباطن فهو من أهل التيمم. فإن كان مشغولاً بالعمل الظاهر كالصلاة والصيام ونحوهما فهو كالمتيمم بالصعيد لظهورها كظهور أثر التراب على الجوارح. وإن كان مشغولاً بالعبادة الخفية كالزهد والورع ونحوهما فهو كالمتيمم بالصخر لعدم ظهورها في الغالب كعدم ظهور أثر الصخر. ولما أمرك بالغيبة عن السوى خاف عليك إنكار الواسطة وإسقاط الحكمة فتقع في الزندقة فقال: (وقدم إماماً كنت أنت إمامه) والمراد بالإمام هو النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان على قدمه ممن جمع بين الحقيقة والشريعة. فأمرك بإتباع الشريعة المحمدية في حال غيبتك عن السوى فيكون ظاهرك سلوكاً وباطنك جذباً ظاهرك مع الحكمة وباطنك مع القدرة. ولا بد أن تقتدي بإمام كامل سلك الطريقة على يد شيخ كامل يعلمك كيفية العمل بالشريعة ويدلك على الحقيقة. وإلا بقيت مريضاً على الدوام تستعمل طهارة المرضى على الدوام. وأنظر قول القرافي رضي الله عنه لما سقط على شيخ التربية قال: "تيممت بالصعيد زماناً والآن سقطت على الماء". إذ لا تجد ماء الغيب ولا تقدر على استعماله إلا بصحبة أهل هذا الماء الذين شربوه وسكروا به ثم صحوا من سكرتهم وسلكوا من جذبتهم فتملكهم زمام أمرك وتنقاد إليهم بكليتك. بعد أن أطلعك الله على خصوصيتهم، وكشف لك عن أسرارهم. فشهدت لهم روحك بالتقديم وسرك بالتعظيم فتقدمهم أمامك بعد إن كنت أنت أمامهم وهم يطلبونك للحضرة. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس إلى الله وهم فارون أمامه، فلما عرفوا الحق قدموه أمامهم. وهذا معنى قوله (كنت أنت إمامه) وقوله (وصل صلاة الفجر في أول العصر) وفي بعض النسخ وصل صلاة (الظهر في أول العصر) أي اجمع ظهر الشريعة لعصر الحقيقة. وفي أكثر النسخ (وصل صلاة الفجر في أول العصر) أي: ارجع إلى البقاء بعد كمال الفناء، أو إلى السلوك بعد الجذب. إذ الغالب على المريد أن يتقدمه السلوك ثم يأتيه الجذب فأوله سلوك، وآخره جذب كما أن أول النهار صلاة الفجر، وآخره صلاة العصر. أي: ارجع إلى صلاة الفجر التي كانت في أول نهارك فصلها في آخر نهارك فأرجع إلى السلوك الذي كان في أول أمرك فأجعله في آخر أمرك. وهو معنى قولهم: "منتهى الكمال مبدأ الشرائع"، وقالوا أيضا: "نهاية السالكين بداية المجذوبين، ونهاية المجذوبين بداية السالكين"، وقالوا أيضا: "علامة النهاية الرجوع إلى البداية". وسيأتي الكلام على هذا في محله إن شاء الله.
وقوله (فهذي صلاة العارفين بربهم) لأنهم تطهروا الطهارة الأصلية وصلوا الصلاة الدائمة قال الله تعالى، {الذين هم على صلاتهم دائمون}. فالعوام حد صلاتهم أوقاتهم والعارفون في الصلاة على الدوام. قيل لبعضهم: هل للقلوب صلاة؟ فقال نعم؛ إذا سجد لا يرفع رأسه أبداً. أي: إذا سجدت الروح لهيبة الجلال والجمال، لا ترفع رأسها أبداً. وإليه أشار الششتري بقوله:
فأسجد لهيبة الجلال عند التداني *** ولتقرأ آية الكمال سبع المثاني
وقوله (فإن كنت منهم فأنضح البر بالبحر) أي: فإن كنت من العارفين المحققين فانضح بر شريعتك ببحر حقيقتك، بحيث ترش على شريعتك من بحر حقيقتك حتى تغمرها وتغطيها فتصير الشريعة عين الحقيقة، والحقيقة عين الشريعة، حتى يصير عملك كله بالله.
والله تعالى أعلم وبالله التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم