منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الطيب

الطيب


عدد الرسائل : 94
تاريخ التسجيل : 14/09/2007

مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش Empty
مُساهمةموضوع: مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش   مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش Emptyالسبت سبتمبر 22, 2007 7:14 am

الدكتور اسماة القفاش .. هو اسامة محمد نصر الدين القفاش .. سكندري المولد .. يقيم حاليا في كرواتيا .. له اهتمام أصيل بالفن السابع والموسيقى والفنون عموما بمنظور أهل الله وسيظهر هذا في هذه الدراسة البديعة وهي جزء من كتاب يحمل نفس العنوان تم نشره عام 1996 ميلادية .

وللدكتور اسامة ( حفظه الله ) صالون خاص باسمه في منتدى النفيس .. وهو كاتب وباحث ومحاضر ... حاصل على دبلوم الدراما من معهد الدراما باستوكهولم 1991 هذا فضلا عن درجتة الجامعية في الطب - جامعة الإسكندرية .. أقدم لكم هذه الدراسة وكلي فخر لأسباب : قيمة الدراسة ، المستوى الأخلاقي الرفيع لصاحب الدراسة ، ثم تشريفه لنا بالعضوية في منتدى المودة . سلمتم لنا جميعا وإليكم الدراسة :
مفاهيم الجمال ..... رؤية إسلامية


تعريف الفن:

الفن لغة كما يخبرنا القاموس المحيط لـ (الفيروزآبادي) هو: "الحال والضرب من الشيء، وجمعه أفنان وفنون، والطَّرْد والمَطْل والعناء والتزيين، وافتنّ أخذ في فنون من القول..." إلخ
أي أن الفن هنا هو الصنف أو الزينة من كل شيء، بل أنت تقول: فنن الناس أي جعلهم فنونًا أي صنَّفهم.

هذا المعنى العام يجعل المعنى الذي تعارف الناس عليه معنى اصطلاحيًا استفيد من أحد معاني الكلمة، وهو التزيين، فصار الفن: هو ذلك الصنف الجميل الذي نصنفه بوصفه عملاً مميزًا مزينًا يتمتع بصفات الجمال والحسن والزخرف.

من هذا المنحى سنجد أن كلمة Art الإنجليزية والفرنسية كذلك تؤدي نفس المعنى العام والاصطلاحي كذلك؛ حيث إن Art كما في Webster Dictionary "قاموس وبستر" تعني الصنعة، ومنها اشتق اسم Artisan أي حرفي أو صانع و Artist أي فنان وصانع كذلك.

التمايز بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية للفن:

الأصل إذن هو أن الفن اسم عام يطلق على كل شيء في الحياة فيه صنعة وحرفة وزينة وتفنن، وتتفق معنا في هذا التعريف وهذه الرؤية الدكتورة لمياء الفاروقي، التي ترى أن إشكالية الفن المتحفي -أي ذلك الذي يعزل في المتاحف والأماكن المغلقة- هي إشكالية غربية في الأساس، وأن الثقافة الإسلامية لا تفرق بين الفنون الجميلة المتحفية والفنون الحرفية -أي تلك التي يقوم بها الحرفيون من أرباب الصنائع المختلفة-.

وفي هذه التفرقة يكمن انفصال أبستمولوجي (معرفي) عميق وهوة معرفية سحيقة. لو تقصينا أصل المشتقات Artisan، Artist سنجد أن كلمة Artisan سابقة في الوجود على كلمة Artist؛ حيث إن الأصل في معنى Art هو ذلك الفن الذي يصنعه الجميع، الفن الحياتي المتاح للجميع وغير المعزول عن أي كائن.

ومن ثم فصانع الفن هذا الذي يقدمه للناس ويعمل على نفعهم وتقديم عمل مفيد لهم، أسبق من ذلك الذي يصنع فنًا خاصًا يقدم لمكان العزل أو المتحف.

الأساس في المتحفية هو العزل، والعزل أساس من الأسس المعرفية للحضارة الغربية: التصنيف ثم العزل، حيث ثمة نوعان من العزل؛ عزل المكروه الآخر عن الأنا المحبوب، هذا العزل الذي يتبدى في العيادة والسجن، ويتجلى في تصنيف البشر كأمم راقية وأخرى بربرية همجية.

وهناك النوع الآخر، وهو عزل الجميع لمحبوب الأنا عن الآخر المكروه البغيض الرذيل، وهو الذي يتموضع في المتحف وفلسفة الحدائق الخاصة بالقصور، فالمتحف هو سجن الجمال، الذي يقصد به إبعاده عن الآخر الدنس الذي لا يقدره، فالتحفة الفنية أيا كان مصدرها تعتبر شيئًا خاصًا لا يجب أن يقع داخل دائرة الآخر الدنيء؛ الذي لا يقدرها ولا يفهمها.

هذه النظرة التصنيفية العزلية تنعكس في مقولة "الفن الجميل" الذي يزين القصور ويُحتفظ به في المتاحف ويُصان عن الاستعمال، وهي الاستقراء المستقيم لرؤية الكون الإغريقية التي قسمت البشر إلى برابرة وآلهة، أي أنا متفوق وآخر متخلف، وهذه النظرة الفنية تجلّت في عصر النهضة وارتبطت بفكرة الفنان/ الصانع/ الخالق؛ أي المعزول عن الإنسان/ العادي/ البسيط، وهي فكرة أيضًا مستعارة من الكلاسيكية الإغريقية؛ حيث يلعب الفنان دورًا محوريًا بوصفه خالقًا ومصورًا مثله مثل الفيلسوف والمفكر.

وإذا كنا نتكلم عن الفن من رؤية إسلامية فلا بد قبل كل شيء أن ننظر في تلك الرؤية ونفحصها قبل أن نحاول البناء عليها دون فحص ولا تمحيص، فنكون كمن يبني على غير أساس ويصعد دون تدبر ويصدق فينا قول الشاعر:

متي يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وآخر يهدم .

كان من الطبيعي أن يبحث مفكرو عصر النهضة عن أصولهم الفكرية والمعرفية في الرؤية الإغريقية كما أسلفنا، وهكذا تمت استعادة المفاهيم الجمالية الخاصة بتلك الحقبة، وصار من الضروري الكلام عن التواصل الكلاسيكي النهضوي واستمرارية الرؤية الإغريقية الرومانية، لأنها تمثل التأسيس المعرفي الذي قامت عليه الحضارة.

وأول ما يسترعي انتباهنا في تلك العودة هو الدور الحياتي الذي كان الفن يلعبه في صدر الإسلام، بمعنى أن الفنان كان في الأساس صاحب مهنة يؤدي وظيفة اجتماعية من خلال إتقانه لحرفته وأدائه لعمله على الوجه الأكمل، فالنحَّاس والنقَّاش والبنَّاء والنجَّار كلهم أصحاب حرف، وهم فنانون يعملون من أجل الحياة لا من أجل المتحف والعزل.

الفن هنا كاللغة إبداع يومي حياتي على حد تعبير تشومسكي في كتابه "اللغة والعقل"، إبداع متاح للجميع بل مفروض على الجميع. في الإتاحة والفرض يكمن الفرق بين الفن في الرؤية الإسلامية والفن في الرؤية الغربية وتكمن القطيعة بينهما.

الإتاحة تجعل بوسع كل فرد أن يصير فنانًا في مجاله، الإتاحة هي قدرة ذاتية داخلية من خواص الجنس البشري، فالإبداع والإتقان ومن ثم الفن كجزء من الحياة متاح للجميع، أما الفرض فيتأتى من فكرة الإتقان في العمل والحض عليها والدعوة لها وفي الحديث: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"، فالجمال صفة من صفات الخالق -سبحانه وتعالى-، وعن أبي أُمامة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله جميل يحب الجمال"، ويقول تعالى: "وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ" (القصص:77).

الفنان هنا هو الصانع، هو الحرفي، هو كل فرد يتقن عمله ويؤديه، في مقابل ذلك جاءت الفكرة النهضوية التي تكرست مع الرومانسية التنويرية، التي ترى الفنان مختلفًا ملهمًا مبدعًا خالقًا، فكرة حلولية تحاول جاهدة أن تجعل البشري إلهيًا من خلال حلول الإله داخل الإنسان/ الفائق.

في التعارض بين الفنان الصانع والفنان الخالق الذي ينبثق من التعارض بين الفن الحياتي المتاح والفن المتحفي المعزول: يكمن الفرق بين رؤية معرفية إمبريالية عزلية تعمل على نفي الآخر وقهره واستلابه، وأخرى اتساعية قبولية تتيح للاختلاف أن يترعرع وينمو ويتدافع الناس لكيلا تهلك الأرض.

ولكل رؤية ثمة نموذج أولي يحدد طبيعة الفن الذي تنتجه.

وعلى العكس مما يذهب إليه كثير من النقاد أن الفن محاكاة للطبيعة أعتقد أن الأمر ليس بهذه السهولة. إن من يرى أن الفن محاكاة للطبيعة ينطلق من رؤية معرفية تعتقد أن الإنسان كان صفحة بيضاء وانطلق ينبهر بما حوله، وهي رؤية تتطابق مع الرؤية الإمبريالية الغربية التي تفترض أن العقل البشري صفحة بيضاء يمكن تشكيلها كما نهوى وكما نحب.

الفنان الذي يحاكي الطبيعة هو شخص بلا ماضٍ ولا هوية ولا تاريخ ولا خبرة مركبة معقدة، باختصار بلا روح ولا نفس.

إذن ماذا يحاكي الفنان في الرؤية الغربية ذات الأصل الإغريقي؟ الفنان في تلك الرؤية يحاكي الإله، إنه يصنع الآلهة على صفة البشر ويضفي عليهم صفات بشرية، في محاولة منه للتشبه بالإله، ما يصنعه الفنان هنا هو تشبه بما صنعه الإله وأنتجه.

إن الفن في الرؤية المعرفية الغربية لم يكن محاكاة للطبيعة بل كان في الأساس محاكاة للإله في محاولة لإعادة خلق الطبيعة. كان تعبيرًا عن رؤية الإنسان كسيّد الكون بلا منازع، ومن ثَم من حقه أن يفعل ما يشاء بما وبمن يشاء.

إن التماثيل الإغريقية الرومانية لا تمثل بشرًا، وإنما ما يجب أن يكون عليه البشر، إنها معيارية Normative مثالية Ideal ، بينما البشر مختلفون متنوعون وكل فرد فذ حتى في صفاته التشريحية. الرؤية الأخرى نموذجها الأولي هو الإنسان، النسق الفني أصله الإنسان، وهدفه الإنسان، ومحوره الإنسان، النموذج الذي ينطلق منه ويعود إليه هو الكائن البشري، سيد الكائنات، خليفة الله في أرضه، ومن ثَم تحاول تلك الرؤية إسعاد الإنسان.. كل إنسان، وإمتاعه وإعطاءه قيمة عليا متجاوزة في كل عمل يستخدمه ويعايشه.

هذا الإنتاج الفني الذي يتمظهر في كل الأشياء الحياتية، ويتجلى في كل الممارسات الإنسانية، هو ما يميز الرؤية المعرفية التي نطلق عليها لفظ الإسلامية.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الطيب

الطيب


عدد الرسائل : 94
تاريخ التسجيل : 14/09/2007

مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش Empty
مُساهمةموضوع: رد: مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش   مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش Emptyالسبت سبتمبر 22, 2007 7:18 am

إشكالات حول "إسلامية" الفن:

ومن ثَم لنا أن ندخل في تحليل الجزء الأخير من السؤال البدهي، ألا وهو صفة الإسلامي فما هي الإسلامية التي يمكنها أن تحدد المنعوت -وهو الفن- وتميزه فتجعله نسقًا قائمًا بذاته منفصلاً عن غيره؟ هل الإسلامية صفة تاريخية، أي تنسحب على فترة تاريخية معينة، وإن كانت كذلك فما هي تلك الفترة؟ هل هي فترة ذروة الحضارة الإسلامية إبداعيًا؟ أو هي فترة الفتوحات الواسعة؟ أم هي بعد ذلك؟
أم هل الإسلامية صفة مكانية، من ثم ترتبط بمكان معين أو حاضرة بعينها؟

وهذا السؤال عن المكانية مثله مثل السؤال عن الزمانية يطرح إشكالية التعددية والتنوع داخل النسق كما سنرى.

أم الإسلامية صفة مرتبطة بالفعلية؛ بمعنى أن ثمة فعلاً يمكن قرنه بهذه الصفة، وفعلاً آخر لا يمكن قرنه بها ولا إضافة هذا النعت له.
أم تُرى الإسلامية صفة تنبع من الفاعلية، أي أنه كلما كان الفاعل مسلمًا كان الفعل إسلاميا والمنتوج إسلاميا كذلك، بغض النظر عن صفاته البنائية وخصائصه المميزة؟
كل هذه التساؤلات باختصار هي تساؤلات عما يجعل الإسلامي إسلاميًا، وهي قديمة قدم الصفة ذاتها وقدم خاصية التفكر والنظر، والاجتهادات في هذا الصدد كثيرة، وكل الإجابات مقبولة وصحيحة.
وهذا التنوع في الإجابة لا يدل على غموض، وإنما على ثراء وتكثيف الصفة في ذاتها بحيث إننا يمكننا أن نتكلم عن إمكانياتها المكانية والزمانية والفعلية والفاعلية والبنائية في آن.

وكمثال على الزمانية سنجد أن معظم من تكلم عن الفن الإسلامي إنما اختاروا الكلام عن حقبة الحضارة الإسلامية في ازدهارها الإبداعي، وضربوا الأمثلة من بقاع متفرقة من سمرقند في الشرق وقرطبة في الغرب، ومن أشبيلية في الشمال حتى تمبوكتو في الجنوب مرورًا بالقاهرة وتبريز وأصفهان وخراسان ورشيد وبانيالوقا وأستانبول وغيرها.

بمعنى أن النقاد الذين اختاروا الزمانية كمحدد رأوا في المكانية والتعددية صفة ثانوية تؤكد خصوصية النسق الذي بنوه.

بينما نجد أن من تعصب للمكانية فتكلم عن الأندلسي والمصري والمغربي والتركي والفارسي بل والسمرقندي والقمي وغير ذلك من صفات مكانية، قد شد عينه وجذب انتباهه التنوع والخصوصية الكامنة في كل مكان؛ فحولت انتباهه عن العناصر العمومية الممتدة عبر المكان وعبر الزمان.

ونجد أن الفعلية تتجلى بالخصوص في فن الخط العربي، حيث المنتج والفعل مرتبط بالإسلام أساسا من خلال ارتباطه باللغة وجماليات الحرف العربي كنسق وحرفة أرسيت دعائمها منذ أقدم العصور الإسلامية، وسنرى هنا أن الفعلية قد جاوزت المكان، فهناك ابن مقلة وإنتاجه من بغداد، وهناك عبد الله هاشم وإنتاجه من إستانبول. وجاوزت الزمان، فها هو هلال العراقي العباسي، وهاكم محمد إبراهيم المصري المعاصر فهي صفة نبعت من المنتج والفعل في ذاته.

أما الفاعلية فهي صفة جديدة لم تكتسب مشروعية بعد، ولا أظنها تكتسبها.

فالقول: إن الفنان المسلم ينتج فنا إسلاميًا هو قول أعرج يفترض أن الإسلام ملة توضع في خانة من خانات بطاقات الهوية، ومن ثم تنسحب منه صفات تضفي على إنتاج وفعل صاحب هذه البطاقة خصوصية ما. إنما الإسلام عقيدة حياة ورؤية معرفية متكاملة ودين بالمعنى الشمولي للكلمة، حيث يتخلل كل جزئية من جزئيات من يعيش في كنفه، ومن ثم قد تكون ملة الصانع أو الحرفي غير الإسلام، ولكن نتاجه الحضاري الجمالي من فن وصنعة هو إسلامي بلا مراء.

كذلك ثمة إشكالية أخرى تجعلنا لا نقبل الفاعلية كأساس تصنيفي، حيث إن الفن في الرؤية الإسلامية المعرفية هو نتاج حياة، من ثم الجميع متاح لهم كما أوضحنا أن يصيروا فنانين بل هو فرض على كل منتج أن يتقن عمله ومن ثم أن يخرج فنا كما أسلفنا.

ومن ثم تنتفي صفة الفنان ذلك المتفرد المبدع الذي لا يدانيه فرد ولا يماثله إنسان. وبالتالي تفقد الفاعلية قوتها، وتتحول الفردية الذاتية إلى فردية تنوعية تعددية تتيح لكل ذات فاعلة أن تبدع في كل مجال تمارسه.

نظن -بعد أن أوجزنا خصائص الصفة من حيث الزمانية والمكانية والفعلية والفاعلية وعرفنا كلا منها- أن الأساس الذي تُبنى عليه صفة الإسلامية هو تلك الرؤية المعرفية التي تشمل كل جوانب الحياة وتستوعب الآخر، بل وتحض على انتمائه داخل المنظومة الحياتية المتكاملة

الفنون السمعية

تقسيم ( ترتيل - موسيقى - غناء) :

تنقسم الفنون السمعية عند مختلف علماء المسلمين سواء السلف منهم أو المعاصرون إلى 3 فروع:

* فرع يتعلق بالصوت الخاص أو ما يسميه الغرب: الموسيقى، وهو بمثابة ترجمة لرؤية معرفية خاصة بكل شعب أو بكل حضارة في شكل طبقات صوتية ومدد إيقاعية متفاوتة.

والفرع الثاني يتعلق بإضافة الصوت البشري من خلال عنصر الأداء والإحساس إلى الطبقات والمدد الإيقاعية المنغمة ليحدث ما تعارف الناس على تسميته بالغناء.

والفرع الثالث هو فرع خاص بالمسلمين، وهو تلاوة القرآن وتجويده، أي أداء الواجب الديني العبادي بصوت حسن مرخم منغم عملاً بالحديث الشريف "زينوا القرآن بأصواتكم" وبالحديث الشريف الآخر "لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن".

وقد قال رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حبب إلي الصوت الحسن فهل في الجنة صوت حسن؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إي والذي نفسي بيده، إن الله تعالى ليوحي إلى شجرة في الجنة أن أسمعي عبادي الذي اشتغلوا بعبادتي عن عزف البرابط والمزامير فترفع صوتًا لم تسمع الخلائق مثله في تسبيح الرب وتقديسه".

الحديث الشريف السابق يوضح أن الصوت الحسن من نعم الله على العباد في الدنيا وفي الآخرة، بل إن من يشتغل عن العزف في الدنيا سيسمع في الآخرة صوتا لم يسمع بمثله في تسبيح الرحمن وتقديسه.
وإشكالية الفنون السمعية عند المسلمين إشكالية محلولة فعلاً مطروحة قولاً، فالغناء والموسيقى فعل حضاري معبّر عن الرؤية المعرفية للأمة، أمر مستمر ولا يحتاج لتدليل أو لبيان، أما اختلاف الفقهاء -وهو رحمة للعباد- فهو اختلاف تفصيلي يربط أحيانا بين السماع واللهو والإعراض عن ذكر الله، ومن ثَم يأتي النهي عنه من خلال باب سد الثغرات ودرء الشبهات.

وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات البينات التي توضح أهمية الصوت الحسن وتأثيره في البشر والجن على حد سواء؛ ففي سورة الجن يقول الله تعالى: "قل أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنَّا سمعنا قرآنًا عجبًا* يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا" (الجن:1-2) كان سماع القرآن هو سبيل الهداية، ويدعو القرآن إلى ترتيل القرآن فيقول تعالى في سورة المزمل: "يا أيها المزمل* قم الليل إلا قليلا* نصفه أو انقص منه قليلا* أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً" (المزمل:1-4).

القرآن الكريم كنسق نموذجي:

فالقرآن الكريم هو النسق النموذجي للفنون السمعية، مثلما هو النموذج الأول الذي يُحتذى دائما في أنواع الفنون الأخرى كافة.
ويرى السهروردي أن السماع الحق هو سماع القرآن؛ حيث يفسر الآية الكريمة "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق" (المائدة:83) بأن هذا هو السماع الحق الذي لا يختلف فيه اثنان من أهل الإيمان، وهو السماع المحكوم لصاحبه بالهداية واللب.

وروي أن عمر -رضي الله عنه- كان ربما مر بآية في ورده فتخنقه العبرة ويسقط ويلزم البيت اليوم واليومين حتى يعاد ويحسب مريضًا، فالسماع يستجلب الرحمة من الله الكريم، والأصل عندنا أن الجمال والحسن يستنطق المرء بالتسبيح، فكيف لو كان الحسن في صوت يرتل القرآن أو يجوده.

القرآن إذن نموذج أوليّ للفنون السمعية ويحتذيه الفنان لو أراد أن يخرج فنًا صوتيًا أو سمعيًا راقيًا يؤثر في القلب ويدعو إلى العبادة، وليس من قبيل المصادفة أن نجد أن أساطين المغنين والموسيقيين قديمًا وحديثًا قد حفظوا القرآن وجوّدوه واستفادوا من ذلك؛ ونذكر على سبيل المثال لا الحصر من العصر الحديث: أم كلثوم سيدة وقيثارة الغناء العربي، والشيوخ أبو العلا محمد، وسيد درويش، وزكريا أحمد، وسيد مكاوي وغيرهم.

إن التمكن من ترتيل وتجويد القرآن يعطي الموسيقيَّ أسرار الموسيقى العربية التي تمثل التعبير الصوتي عن الرؤية المعرفية الخاصة بالأمة، هذا التعبير الذي يتجلى أساسا في صوتيات علوم القرآن.
والموسيقى العربية مثلها مثل أي نوع من أنوع الموسيقى في العالم تمثل هوية خاصة تعكس الخصائص الجوهرية للأمة التي تؤديها. والمسلمون بصفة خاصة نموذجهم الأوليّ الذي تنبع منه كافة الفنون الصوتية الأخرى، مثل الأذان وتراتيل الحج وغيرها هو القرآن.

وما يميز الفنون السمعية عند العرب اقترانها بالفعل الحياتي دائما، فالموسيقى والغناء والحداء والنصيب والنشيد والأذان والترتيل وغير ذلك من أشكال الفنون السمعية هو مظهر من مظاهر الفعل الحياتي للإنسان المسلم.

ويُروى عن الرسول أنه قال لأنجشة وهو يحدو بأمهات المؤمنين بصون حسن: "رفقا بالقوارير". والحداء هو قيادة العير مع التنغيم والتلحين بصوت حسن وفي إيقاع منتظم يشنف الآذان ويطرب القلوب.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الطيب

الطيب


عدد الرسائل : 94
تاريخ التسجيل : 14/09/2007

مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش Empty
مُساهمةموضوع: رد: مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش   مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش Emptyالسبت سبتمبر 22, 2007 7:20 am

الخصائص الإسلامية للفنون السمعية:

والفنون السمعية الإسلامية مثلها مثل الفنون الإسلامية الأخرى تفي بالشروط الأخرى، وتتسم بنفس السمات التي تميز غيرها من الفنون التي وسمناها بسمة الإسلامية، فالفن السمعي الحياتي الذي يؤدي دورًا حياتياً عند المسلمين مرغوب ومطلوب، يقول ابن القيسرواني: إن باب السماع لا يمكن البت فيه، وكل ما نفع المسلمين فهو حلال مباح، ويرى ابن حجر الهيثمي أن السماع ثلاثة أقسام: سماع العوام وهو حرام لأنه رذيلة لا تفيد، وسماع الزهاد وهو مباح لحصول المجاهدة، وسماع العارفين وهو مستحب لحياة قلوبهم، وهنا نراه يربط بين السماع وبين درجات التقوى ومعرفة الله سبحانه، فهو في هذا يسير في نهج أن الحُسن يستنطق اللسان بالتسبيح.

الصفة الأولى وهي صفة الحياتية تتجلى في مظاهر كثيرة، منها: أغاني الحرفيين وأناشيد العاملين والطوائف وأغاني المناسبات، وقد حض الرسول -عليه السلام- على إحياء الأفراح بالأناشيد والأغاني. ولا يتوقف الأمر عند هذا، بل إن الأعياد والمناسبات الدينية كانت لها أغانيها الخاصة وأهازيجها المناسبة، وهكذا لعبت الفنون السمعية دوراً هامًا، وما زالت في حياة الأمة الإسلامية.

والصفة الثانية وهي التركيبية تتجلى أساسا في عملية رؤية المقامات العربية والشرقية بصفة عامة بوصفها سلالم مركبة، فالموسيقى الشرقية ليست وحدات بسيطة وإنما هي وحدات معقدة في ذاتها، والمزاج الشرقي يتوافق مع هذه الوحدات ومع رؤيتها الصوتية للكون التي تخالف في الأساس الرؤية الغربية.

ويرى الفلاسفة المسلمون أن للغناء فضيلة تتجاوز المنطق ويتعذر عليه إظهارها كما يقول أبو حيان التوحيدي، وأن الموسيقى تحرك فضائل النفس وتدعو للفضيلة والحب الإلهي والمناجاة.

والدراسات العربية في مجال الموسيقى وعلم الأصوات كثيرة وعديدة، وكلها تدلنا على أن العرب قد تبحروا في هذا الموضوع ودرسوه دراسة علمية بغرض النفع والانتفاع والاستبصار.
ما نخلص له هو أن الفنون السمعية عند المسلمين مثل غيرها من الفنون تتميز بصفات الحياتية والتركيبية والدعوة للعبادة.

وأن الاستمتاع بما أحل الله مرخص عند كل الفقهاء، وأن تحريم السماع أو الموسيقى إنما هو مرتبط بباب سد الثغرات عند بعض الفقهاء، حيث إن الأصل في الأشياء الإباحة.
وفي هذا الصدد لا بد أن نفهم الإطار الحياتي للعمل الفني الصوتي أو هندسة الصوت كما يسميها الدكتور "إسماعيل راجي الفاروقي" وكيف تنسج الموسيقى مع المناسبة التي تعزف فيها.

وما هو دور الموسيقى الدينية والموسيقى الفلكلورية والموسيقى التقليدية في المناسبات، وكيف تنسجم مع الأداء والمؤدين وتأثيرها في الجمهور الواسع، وكيف تأثرت بهذه الموسيقى شعوب غير عربية، نظراً لأن الإسلام نقل معه التقاليد الجمالية المنتمية للعربية كلغة حضارية.

إن فهم الموسيقى والفنون السمعية لا بد وأن يركز على الثوابت كما يركز على المتغيرات لفهم الكل الموسيقي وليس بعضه.

أحكام السماع:

ولو تكلمنا عن حكم الغناء في صدر الإسلام، سنجد اختلاف مواقف الفقهاء تبعاً لموطنهم، فأهل العراق كانوا أهل غلظة وتشدد يحرمون الغناء، بينما كان أهل الحجاز أهل تحضر ومدنية يبيحونه.
هنا سنجد ربطًا موضوعيًا بين المكان والرؤية المعرفية التي تنعكس في رؤية الحكم الفقهي، وكذلك الزمان، فحين يقول العرب: أهل العراق أهل غلظة وتشدد إنما يعنون الثغور الجديدة التي أنشأها المسلمون في الكوفة وغيرها، بينما أهل الحجاز هم أهل التحضر الذي انطلق إسلاميًا بعد بعثة الرسول -عليه الصلاة والسلام-.

إن الغناء في العصر الجاهلي لم يكن مزدهرًا، فقد كان محصوراً في أراجيز قليلة تُؤدى على وتيرة واحدة بلا هدف والدرجات الصوتية فيه محدودة، وحدث ازدهار الموسيقى مع الحضارة الإسلامية. والعصر العباسي والعصر الفاطمي هما أزهى عصور الحضارة الإسلامية فيما يتعلق بالغناء والفنون السمعية، بل لقد انحدرت الموسيقى مع انهيار الحضارة الإسلامية بعد العصر الفاطمي.

ويمكن تصنيف الفنون السمعية تصنيفًا هرميًا يأتي على قمته الترتيل القرآني باعتباره المعيار والنموذج الأوليّ الذي أدى إلى توحد في سمات البنية العامة للفنون السمعية الإسلامية، ومن ثم انعكس هذا في أنماط الأداء المنتشرة في كافة بلدان الأمة الإسلامية، بل وأثر هذا النمط في البلاد التي تبعد عن هذه الأمة أو التي تخالطها.

ويتضمن هذا التقسيم بُعدًا معرفيًا هامًا هو أثر عقيدة التوحيد من خلال كلام الله في الحياة الصوتية للأمة وكيف يوجهها وجهة عقدية عبادية.
ويقرر السهروردي أن سماع القرآن هو السماع الحق الذي يستجلب الرحمة من الله الكريم ويملأ القلب بالهدى واليقين. ثم يحدثنا عن حكمة الاختلاف في حكم الغناء والسماع. ويسوق رأي الشيخ أبي طالب المكي الذي يرى أن السماع فيه حرام وحلال وشبهة، فمن سمعه بنفس مشاهدة شهوة وهوى فهو حرام، ومن سمعه بمعقوله على صفة مباح من جارية أو زوجة كان شبهة لدخول اللهو فيه، ومن سمعه بقلب يشاهد معاني تدله على الدليل ويشده إلى الجليل فهو مباح. ببساطه يرى الشيخ أبو طالب أن السماع فعل إنساني مركب مثله مثل أي فعل إنساني وفيه كل وجوه الفعل الإنساني، فمتى كان عباديا كان حلالاً ومتى كان شهويًا دنسًا كان حرامًا.

الأساس أن القرآن هو النموذج الأوليّ لكل الفنون السمعية الإسلامية، حيث إن كلام الله نزل بالعربية والقرآن هو الحقيقة المركزية في حياة المسلم.

ويوضح الإمام أبو حامد الغزالي أن السماع فعل إنساني تركيبي ينطبق عليه حكم الفعل الإنساني المركب من حيث إن الغرض هو الذي يحلّه أو يحرّمه.

والقرآن شرع ونموذج للحضارة في آن. إن القرآن يدعو إلى النطق به وترتيله في آيات بينات كثيرة، والقرآن بالنسبة للمسلمين هو صوت الآيات المنطوقة وليس مجرد النص المكتوب كما يفهم الغربيون.
ويقسم أبو القاسم الجنيد السماع على أساس السامعين، ومن ثم يحرمه على العوام ذوي النفوس الدنيئة، وسماع الزهاد المباح لحصول المجاهدة، وسماع العارفين المستحب. ويورد الهيثمي رأيًا يقول فيه: إن المغني مردود الشهادة، وإن الدف حلال والطبول كذلك وباقي آلات الموسيقى حرام.

بينما يرى الشوكاني أن اللهو والمعازف حرام، ويحل ضرب النساء بالدف لاستقبال الغائب. ويقول ابن القيسروني: إنه لا يمكن الإفتاء في هذه المسألة بحظر ولا إباحة، بل ويذهب إلى أن ضرب الدف سنة؛ ويورد أحاديث تؤيد السماع، وأحاديث تدعو إلى إحياء الزفاف ببعض الغناء أو الدف، ولا يذكر روايات تنهى عنه.

ومثله مثل العديد من الفقهاء يرى ابن تيمية السماع في إطاره الحياتي التركيبي، ومن ثم فمنه الحلال، ومنه الحرام، ومنه ما تخالطه الشبهة، ومنه المستحب.

وهذه الأحكام كلها توضح رأينا في أن الفنون السمعية مثلها مثل سائر الفنون الإسلامية أعمال حياتية تركيبية عبادية، ومن ثَم فهي حلال، وإلا دخلت في الشبهات وصارت أحيانًا من المحرمات.

ويؤكد الأستاذ محمد الغزالي على أن الغناء ليس محرمًا ويستدل على ذلك بأقوال ابن حزم التي يدحض فيها بعض الآراء التي تحرم الغناء استنادًا على أحاديث يرى ابن حزم أنها غير صحيحة.

ويقسم الشيخ الغزالي الغناء إلى 7 أصناف غير محرمة لأنها لأغراض حميدة وهي: إلهاب الشوق لزيارة الأماكن المقدسة، وإثارة الحميّة للقتال، ووصف المعارك وتثبيت الرجال، والرثاء، ووصف ساعات الرضا والسرور، والغزل الشريف، ووصف الأمجاد الإلهية.

وخلاصة القول في السماع: هو أنه لم يرد نصّ في الكتاب ولا في السنة في تحريم سماع الغناء أو آلات اللهو ويحتج بما ورد في الصحيح أن الرسول وكبار الصحابة قد سمعوا أصوات الجواري والدفوف بلا نكير وأن الأصل في الأشياء الإباحة، وكل ضار في الدين أو العقل أو النفس أو المال أو العرض فهو من المحرم ولا محرم غير ضار، فمن علم أو ظن أن السماع يجر به لمحرم حرم
عليه .


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الطيب

الطيب


عدد الرسائل : 94
تاريخ التسجيل : 14/09/2007

مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش Empty
مُساهمةموضوع: رد: مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش   مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش Emptyالسبت سبتمبر 22, 2007 7:22 am

الفنون البصرية

أ‌- التعريف

تعتبر الفنون البصرية الإسلامية إشكالية كبرى تثير التساؤلات العديدة سواء تلك المتعلقة بالماهية أم بالهوية أم بالحكمية؟ فما هي تلك الفنون البصرية؟ ولماذا هي إسلامية؟ وما حكمها؟
بادئ ذي بدء حدّدنا أن الإسلام لم يفرق بين الفن والحرفة. وأن الجمال في الإسلام يتخطى الشكل إلى ما وراءه، وان سمت الفن في الإسلام هو أنه فكر وفعل، وبالتالي فهو عمل ثقافي يتميز بالتركيبية، ويتفاعل مع الإنسان في حياته، ويدعوه دائمًا وأبدًا إلى العبادة والتوحيد ومعرفة الخالق. لأنه فعل إنساني ومؤنسن في آن.

وقد صنفنا الفنون تبعًا لتأثيرها في الحواس وانطلاقًا من الآية الكريمة "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا"(الإسراء:36)، حيث نجد الربط بين السمع والبصر وبين الفؤاد أو القلب والعقل أي نفس وروح الإنسان، والعامل المؤثر إنسانيًا، نقول عندما صنفنا الفنون تبعًا لتأثيرها في الحواس وهدفنا بالأساس من هذا التصنيف رؤية هذا الربط والبحث خلف المعنى المعرفي الكامن في النسق الجمالي الذي دعوناه بالفن الإسلامي.

وقد رأينا كيف أن هذا النسق ينظر إلى الفنون البصرية من خلال تأثيرها في العين، وكيف أن الجمال يدعو الإنسان إلى التأمل، ومن ثم يقوده للتفكر في الخلق ومعرفة الخالق.
هذه الرؤية البصرية تشترك فيها كذلك فنون الشرق الأقصى، حيث نجد مثلاً فكرة التأمل في الجمال والإبداع الفني في "حفلة الشاي اليابانية"، الفرق هنا هو في أن التأمل الشرقي تأمل لغرض التأمل. الجمال والتناسق فيه هدف في ذاته، بينما الجمال في الإسلام طريق لهدف هو الجلال ومعرفة الخالق سبحانه.

ومن ثم فإن كل الحسن يبدأ من تأثيره فينا واستنطاقه لنا بالتسبيح. والدعوة للإحسان والإتقان في القرآن واضحة في الآية الكريمة: "ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك"، فالإحسان والإتقان إنما هو إظهار لنعمة الله علينا وابتغاء لمرضاته تعالى.

من ثم فكل صنعة مرئية أنطقتنا بالتسبيح هي فن جمالي بصري، الحديقة الغناء المنسقة التي تدعونا للسير في أرجائها والتمتع بأريجها فن. الكرسي المصنوع من الخشب بحرفة العربسك المتقنة، حيث تتراكب الوحدات متقنة الصنع في توليفة متكررة تحاكي التسبيح وتدفع للتسبيح فن. ومشكاة النحاس والخزف المتقنة الجميلة فن، واللوحة الجميلة فن، والعمارة والبيت فن، كل ما نراه حولنا فن، طالما دعانا للتأمل، وأحسسنا بقيمة الحياتية، ودعانا للتفكير في تركيبيته، وكيف استخرج الصانع من المادة الغفل جوهرها، وبالتالي أبدع لنا جمالها في طريقنا نحو معرفة جلال الله سبحانه.

ب- الخصائص المميزة:

وتتعدد الآراء فيما يتعلق بهوية الفنون البصرية الإسلامية، ولكنْ ثمة إجماع على عناصر عدة تمثل القاسم المشترك الأعظم الذي يظهر في المشكاة كما يظهر في اللوحة الجدارية، مثلما يظهر في عربسك الكرسي، ونقوش وعمارة الدار. من هذه العناصر: التجريد والبعد عن التمثيل، والالتزام بقانون هندسي صارم، والنماذجية، بمعني أن نموذجاً أولياً يلتزم به الفنان المسلم دائمًا، ويجده دائمًا في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، أيضًا الهروب من الفراغ أو الاهتمام بالتكرار وغيرها، وكل عنصر من هذه العناصر يستحق منا وقفة تحليلية لرده للأصول الثلاثة التي حددناها في صفة الإسلامية، ألا وهي الحياتية والتركيبية والدعوة للعبادة.

1 - التجريد:

الصفة التي يجمع الباحثون على أنها من الخصائص المميزة للفنون البصرية الإسلامية هي صفة التجريد. بمعنى أن الكل أجمع على أن التجريد سمة إسلامية، لكنهم لم يتفقوا على سببها:
فالبعض يرى التجريد نتيجة لتحريم تصوير المخلوقات، ومن ثم النزعة إلى التجريد للابتعاد عن شبهة الحرام.
وهذا التفسير أقرب إلى الغائية التبسيطية والتي تنفي التعقيدية والتركيبية عن الفن، فالتصوير التمثيلي حرام إذن، فلنلجأ للتصوير التجريدي. هذا المنطق مخل وتبسيطي، وأزيد فأقول: إنه ينافي صفة الإسلامية لأنه يقبع في الأساس بالرؤية المعرفية الغائية التي تبحث عن علة مبسطة مباشرة لكل معلول، ولا ترى تشابك العلاقات الكونية ولا تعقيدية الثقافة والبنيان الحضاري.

والبعض يرى التجريد وسيلة الفنان المؤمن للتجرد من لباس الخلائق ووصولاً لجلال الخالق -سبحانه وتعالى-، ورغم ما في هذا التفسير من تصوف ظاهري وقبول لسمة الدعوة للعبادة. إلا أنه ينبني كذلك على تصور أن الفنان المبدع الخالق هو الفنان المسلم. وهي إشكالية أوضحنا بالأساس كيف أنها تنتسب للرؤية المعرفية الغربية ذات الأصول الإغريقية، وأن فكرة هذا الفنان المتميز تتعارض تمامًا مع النزعة الحياتية في صفة الإسلامية التي تميز هذا النسق الفني الخاص، رغم هذا فالجزء الخاص بأن نزعة التجريد محاولة لاستكشاف ما وراء الشكل ودعوة للتأمل في جمال صنع الله هي فكرة جيدة وجديرة بالاعتبار، ولكنها لا تكفي لتفسير سمة التجريد التي نراها في مختلف الفنون الإسلامية.

والبعض الثالث يرى أن التجريد نتيجة لتجنب التصوير التمثيلي، بمعنى آخر: البعد عن التمثيل كسمة سلبية هي التي أدت إلى التجريد كصفة إيجابية، وهذا التفسير لا يقدم شيئًا في الواقع، فلماذا سادت سمة البعد عن التمثيل السلبية؟ وهل جاء هذا نتيجة لتحريم التصوير التمثيلي كما أسلفنا؟.

أرى أن أكثر التفسيرات اقترابًا من الرؤية المعرفية التي نتبناها في هذا العمل هو التفسير الذي يرى أن التجريد في الفن الإسلامي هو استمرار لصفة التجريد والابتعاد عن تمثيل المخلوقات السائدة في الفنون السامية وما قبل الإسلام عامة، وفنون النقش والرقش التي وجدت في الجزيرة العربية قبل الإسلام بصفة خاصة.

ولنا أن نتوقف هنا مليًا لنتأمل هذا القول على مستويين؛ المستوى الأول: تاريخي أثري يبحث في أصول التجريد السامية؛ سواء في الفنون التي كانت في جزيرة العرب قبل الإسلام أم في الساميين غير المسلمين الآخرين. والمستوى الثاني: معرفي يتأمل خاصية التجريد في ضوء مفهوم التوحيد الذي أضاء بنوره منطقة الساميين قبل المناطق الأخرى من العالم.
إن الدارس لتاريخ الفنون يعرف أن الفن الفرعوني لم يعمد إلى محاكاة الطبيعة إلا في عصر أخناتون كنوع من شعبوية الفنون (أي تحويلها إلى نزعة شعبية)، الأمر الذي رآه الكثير من الباحثين تأثيرًا أجنبيًا على الفن المصري القديم.

الفكرة الأساسية هنا هي محاولة الفنان المجهول الوصول إلى السمو والقوة من خلال الضخامة، أي تجريد عناصر الشكل في ذاتها والتركيز على عنصر واحد لأجل الوصول إلى الفكرة المتجاوزة، وهي الجلال والخلود، وهي روح الرؤية المعرفية للفرعونية التي كانت تمجد الموت وتقدس العالم الآخر. هذه الرؤية انتقلت كذلك إلى اليهودية، فوجدنا تحريم التصوير كنوع من تحريم محاكاة الرب، وكذلك كنوع من النهي عن تقليد المصريين/ المحبوبين/ المكروهين في آن.

لو انتقلنا إلى اليمن مثلاً لوجدنا التجريد في فنون العمارة ما قبل الإسلامية هناك جليًا ظاهرًا، كذلك في مناطق عسير وأبها والحجاز من شبهه جزيرة العرب، فهذا التجريد يلائم الطبيعة الصحراوية الخشنة والتي تتيح للإنسان الفرصة للتأمل والتجرد.

ما يدعم فرضيتنا من أن التجريد سمة من سمات الفنون السامية هو أن مقاييس التصوير عند مختلف الأمم السامية كانت دائماً خارجة عن الإطار المثالي وتعمد إلى المبالغة والخلط بين الخرافي والواقعي، أي تنزع إلى السريالي لو استعرنا مصطلحًا تصويريًا حديثًا. وهو خطوة في سبيل الحلمي ثم التأملي.

كذلك نجد أن الفنون التصويرية الأولى في العصر الأموي مثل النقوش الجدارية الفسيفسائية على جدران المسجد الأموي أو في قصر عمر في الأردن أو على قبة الصخرة أو في قصر الخير الغربي في سوريا إنما توضح تأثيرًا بالغًا بالسمت البيزنطي، وتصور موضوعات تمثيلية أو رؤى بيزنطية في فن الفسيفساء، ولكن نماذج الفنون الإسلامية في العصور التالية توضح الجانب التجريدي أكثر. بمعنى أن العصر الأموي كان اتصالاً مع الحضارات المحيطة وبالتالي تأثراً بها. ولكن مع استتباب الحضارة الإسلامية حدث نوع من استعادة الأصول وتجاوز الأثر الحضاري، وبالتالي ازداد الجانب التجريدي في الفن.

2 - الالتزام بقانون هندسي صارم:

هذه الصفة تؤكد صفة التركيبية والجانب الثقافي المتجاوز في الفن البصري الإسلامي.
وهي صفة تتخذ نموذجها من القوانين اللغوية الصارمة التي ابتكرها العرب والمسلمون لتقعيد اللغة العربية وصيانتها من الزغل والخلط.
وانعكست هذه القانونية الصارمة في الفنون البصرية مثلما انعكس الوزن والتماثلية الشعرية في الفنون البصرية كما سنرى.

من أمثلة هذه القانونية الترجمة العربية للعضلات المقربة والمبعدة، وهي ترجمة تصورية تراعي فكرة تماثل نصفي الجسد البشري، وتعتبر أن خط المنتصف الوهمي الذي يقسم الجسد البشري هو خط الإناسة، وبالتالي فالعضلات التي تقرب العضو من خط المنتصف هي عضلات إنسية والعضلات التي تبعد العضو عن هذا الخط هي عضلات وحشية. وباقي اسم العضلة يستمد من اتجاه وشكل أليافها، فهنا نجد تأثيراً للتشريح والشكل البشري على اللغة. ونجد تأثير اللغة بقانونيتها ومنطقها على فهم الشكل وبالتالي على النسق الفني.

وسنجد هذه القانونية متجلية في فنون الخط والمنمنات والعربسك والزخارف النحاسية وغيرها، حيث تسود الأشكال الدائرية والمسدسات وغيرها من الأشكال الهندسية كل حسب مكانته ومقامه

3 - النماذجية:

النموذج الأول للفنون الإسلامية جمعاء هو القرآن الكريم والسنة النبوية، فهناك دائما حض على الجمال والإتقان والإحسان في القرآن والسنة، وثمة عنصر إبداعي في العمل الفني الإسلامي دائما يدعو للعبادة مقتفيًا أثر النموذج القرآني، والآيات القرآنية تقدم أمثلة عديدة على التصوير الفني، أمثلة احتذاها الفنان المسلم الصانع سواء في حرفته كالمشكاة مثلاً، أو في معمار المساجد، ويمكننا أن نجد هذه النماذجية على سبيل المثال في المنارة التي تمثل توق المعماري في بناء المسجد إلى الوصول إلى السماء وملاقاة الخالق.
كذلك نجد أن المنزل الإسلامي بصحنه والبهو ومدخله يختار نموذجه من المسجد بوصفه المعمار الأول الذي يهدف إلى مقابلة الخالق وعبادته.

4 - الهروب من الفراغ:

الفنان المسلم حين يتعامل مع مادته الخام يؤمن تمامًا بأنه يستخرج منها مواضع الجمال التي أودعها فيها الله -سبحانه وتعالى-. من ثم فهو يحاول دائمًا أن يظهر هذا الجمال الباطن الموجود في كل ما حوله من أشياء ومخلوقات.

الفراغ بمعنى العدم غير موجود في الإسلام. فالكون مليء بمخلوقات الله التي تسبح بحمده، ويدفعنا تسبيحها الجميل إلى رؤية الجمال فيها مما يستنطق ألسنتنا بالتسبيح بحمد الله.
الفراغ الذي يهدف إلى تجسيد المثال كما نراه في الفن الإغريقي والنحت المعماري لا وجود له، لأن الكون كله مثال للجمال، والتعددية في المخلوقات هي الدليل على وحدة الخالق.
الفراغ الذي تتعامل معه الكتلة الحجرية الإغريقية هو محاولة لمحاكاة الخالق وإنتاج نموذج بمعايير يظن الكائن البشري في عجلته وظلمه لنفسه أنها المثال والنموذج، بينما الفنان المسلم في إدراكه لخلو الكون من الفراغ يستدعي الجمال الموجود في تعددية أشكال المخلوقات وفي الانحرافات والاختلالات عما يعتقد البشر أنه السواء. الهروب من الفراغ عند الفنان المسلم هو هروب من التسوية إلى المساواة، هروب من محاولة فرض معايير السواء والمثالية البشرية على الكون وحيث يظن الإنسان أنه سيد الكون، ولجوء إلى فهم حقيقة الاستخلاف -من حيث كونه مسئولية للإنسان- على الكون، لأنه سيد في الكون وكافة المخلوقات مسخرة له، طالما التزم بأوامر وحدود الرب خالقه.

من ثم فالنموذج الأول عند الفنان المسلم هو الإنسان وحياته وما حوله من كائنات ومخلوقات كلها تسبح بحمد الله. والفن الإسلامي هو نوع من الحمد والتقديس لجلال الله الذي خلق الكون من عدم، ولكنه لم يجعله عدمًا ولا فراغًا.

5 - التكرار:

خاصية التكرار الزخرفية هي تلك الخاصية التركيبية التي تحول الوحدة البسيطة في النسق إلى وحدات أكبر ذات قيمة جمالية أكبر من المجموع الجبري للوحدات. هذه الخاصية نجد نموذجها الأولي في عملية التسبيح والحمد حيث تكرر عبارتا "الحمد لله" و "سبحان الله" فتخلق موسيقى إيمانية خاصة داخل وجدان كل فرد. ولأن الفنان المؤمن يدرك تمامًا أن كل المخلوقات تسبح بحمد الله فعملية التكرار التي تحول الوحدة البسيطة لوحدة مركبة معقدة، عملية عبادية وتركيبية وحياتية تهدف أساسًا لتجاوز الطبيعي البسيط (الوحدة الزخرفية النباتية) أو القانوني البسيط (الوحدة الزخرفية الهندسية) للوصول للثقافي الإنساني المعقد (أي التركيب بغرض الوصول للجمال) وتجاوزه إلى الجلال، من ثم معرفة الخالق سبحانه وهو الهدف الأسمى لكل الأعمال في الإسلام


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الطيب

الطيب


عدد الرسائل : 94
تاريخ التسجيل : 14/09/2007

مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش Empty
مُساهمةموضوع: رد: مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش   مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش Emptyالسبت سبتمبر 22, 2007 7:25 am

الفنون السمعية البصرية

إن لنا فنون حكي وسرد سمعية بصرية تختلف عن فنون الغرب، لأنها نشأت في سياق معرفي مختلف وفى إطار ديني، مرجعيته الأساسية هي الإسلام، وتظهر فيها الخصائص المميزة للفن الإسلامي من حيث الحياتية والتركيبية والعبادية. بل نجد أن نموذجها الأولي هو القصص القرآني ثم سيرة الرسول العطرة -عليه أفضل الصلاة والسلام-.
ونجد جنينياتها في القصص السامي سواء العبراني أو المصري أو الكلداني. وتنضح بأرومة التوحيد ومن ثم تفوح منها قيم المسئولية والرحمة والحب.

وسنحاول فيما يلي أن نقدم نماذج على هذه الفنون السردية السمعية والبصرية ونبحث في أصولها المعرفية ونماذجها الجنينية والأولية.
سنجد أيضًا فنونًا حركية تنتمي إلى سياق الفنون السمعية البصرية تلك مثل: فن الرقص الصوفي، والذكر، والرقص بالإبل والخيل، حيث تتطلب تلك الفنون الموسيقى والمشاركة بين البشر والحيوان في تناغم جميل وإيقاع رائع.
فنون الحكي

أ- المعرفية في القصص القرآني كنموذج أولي:

- التفرق وغياب التحديد الزمني

أول ما سيلفت انتباهنا في القصص القرآني أنها قصص متفرقة وليست قصصاً كاملة مستمرة، في توالٍ زمني، مثلما الأمر في التوراة مثلاً.
على سبيل المثال في سورة البقرة في الآيات 30-39 قصة خلق آدم -عليه السلام- ورفض إبليس السجود لآدم وهبوط آدم للأرض. ثم في الآيات 49-75 طرف من قصة موسى الكليم -عليه السلام- تضم شق البحر وإغراق آل فرعون، وقصة العجل الذي عبده بنو إسرائيل وقصة البقرة. ثم تأتي الآيات 124-135 لتعطينا طرفاً من قصة إبراهيم الخليل -عليه السلام-، وهي قصة بناء البيت العتيق.
ثم تعود الآية (258) لتحكي لنا قصة النمرود الذي قال: أنا أحيي وأميت مع إبراهيم، وقبلئذ تذكر الآيات 246-251 قصة طالوت وبني إسرائيل وحربهم مع جالوت وجنوده، وبعدئذ تذكر الآية 259 قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها.

ثم تعود الآية 260 لتقصَّ طرفًا آخر من قصة إبراهيم الخليل وإحيائه الموتى والطير وهكذا.

القصص القرآني بهذا الشكل يمثل نماذج معرفية نتخذ منها العبرة، ونستخلص منها الرؤية الإيمانية الدائمة، وليست مجرد قصة أو واقعة حدثت، رغم أنها حدث أكيد، إنما هي حقيقة خالدة مستمرة أبد الدهر ونؤمن بحدوثها، ولكن ما يهمنا ليس تحديد زمانها الدقيق أو وقائعها التاريخية المفصلة، ولكن ما وراءها ولماذا ذكرت.

يقول الله تعالى في سورة الأعراف(176): "فاقصص القصص لعلهم يتفكرون" فهذه القصص دعوة للتفكر أي للتحليل والتفصيل والتفكيك. ومن ثَم فهي دعوة للفعل أي الالتزام بالنموذج المعرفي الكامن خلفها، أي بالبناء والتركيب. فهي نموذج للتركيبية الفنية والحياتية، وهي بالقطع عبادة. فليس أفضل من قراءة القرآن وتدبر معانيه عبادة!!

إن الآية الكريمة التي تخبرنا خبر إبراهيم والطير في سورة البقرة (260) حيث يقول تعالى: "وإذ قال إبراهيم ربِّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعيًا واعلم أن الله عزيز حكيم". إنما تقدم لنا نموذجاً معرفياً رائعاً للإيمان من خلال اليقين والبحث الذي يقود إليه، فإبراهيم خليل الله -عليه السلام- يؤمن، ولكنه يريد أن يطمئن قلبه، رأى أنه يقول لنا: إن الشك واضطراب القلب من صفات البشر، وإن رحمة الله الواسعة تسع كل شيء، فالله عزيز حكيم.

هذه التفرقة وعدم الزمنية تفيد تحديدًا عدم تاريخية هذه القصص، فالقصص القرآني حقائق حدثت، ولكنها ليست تاريخًا، ولا يعنينا أن تكون تاريخًا، فالله تعالى يقول: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا تعملون"، وهذه الآية الكريمة تتكرر مرتين، فهي الآية (134) والآية رقم (141) في سورة البقرة، وهذا توكيد لا يدع مجالاً للشك بأن القرآن ليس مجالاً للبحث التاريخي، ولا يهدف إلى إيراد التاريخ، فكل أمة مسئولة عما تعمل ولن تُسأل أمة عما فعلت أمة أخرى.

-التكرار في أكثر من موضع

الجانب الآخر الذي نلاحظه في القصص القرآني هو جانب التكرار، فثمة إعادة للقصة أكثر من مرة. فقصة خلق آدم -عليه السلام- ورفض إبليس السجود له تتكرر في سورة الأعراف الآيات 11-25، وهذه المرة ثمة تفاصيل أكبر وذكر أكثر يؤكد فكرة النموذج المعرفي ويوضح كيف أن ثمة رؤية كامنة في الآيات متكررة ودائمة لا بد أن يستشفها المسلم المؤمن ليعمل بها، أي أن التكرار في ذاته دعوة للتركيبية والحياتية والعبادة، ومن ثم الإتقان.

- الاختلاف بين النص القرآني وتفسيره (صوت الراوي)

الجانب الثالث الذي يسترعي انتباهنا في القصص القرآني هو ما يسمى في علم السرد Narratology صوت الراوي Voice of the Narrator بمعنى أن القرآن كلام الله لا بد وأن نؤمن بكل ما جاء فيه. لكن تفسير القرآن اجتهاد بشري، ومن ثم يختلف فيه البشر كلٌّ على قدر عمله، وكل على قدر معرفته، وكل على قدر اطلاعه على ما أسماه شيخنا الدكتور على جمعة "نفس الأمر" و "الواقع" أي جوهر Nomen وظواهر Phenomena الأشياء. وأحدهما قد يتغير مع الصيرورة التاريخية وازدياد المعرفة البشرية. فالقدسية للقرآن، ولكن التفسير اجتهاد من قام به؛ من أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر الاجتهاد.

وعلى سبيل المثال نجد في قصة أهل الكهف اختلافاً في عددهم وأسمائهم واسم كلبهم وذكر هذا الاختلاف في القرآن في سورة الكهف، حيث قال تعالى: "سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعـدَّتهم ما يعلموهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهرًا ولا تستفت فيهم منهم أحدًا" (سورة الكهف: آية 22).
ويخبرنا كمال الدين الدميري في كتابه "حياة الحيوان الكبرى" كيف اختلف السلف الصالح من العلماء من الصحابة والتابعين والمفسرين في تفسير الآية، وما هي مدينتهم أهي أفسوس أم طرسوس أم غير ذلك، ومدة إقامتهم، واسم كلبهم وغير ذلك، ويبين لنا أيضًا اختلاف صوت الراوي عند كل تفسير وتحيزاته الضمنية الكامنة.

وصوت الراوي المفسر هنا هو ما يسترعي انتباهنا في القصص القرآني، حيث نجد دائما من يربط بين القرآن وبين معرفته التاريخية فيحدث الخلط الذي ذكرنا.
على سبيل المثال يخبرنا "بورخس" في إحدى قصصه عن سؤال سأله "فرح" لصديقه أبي القاسم حول: كم تبعد المدينة عن السور الذي بناه إسكندر ذو القرنين لصد يأجوج ومأجوج. وهنا يتدخل بورخس ويفسر أن ذا القرنين هو الإسكندر المقدوني. هنا قام بورخس تحديدًا باستخدام تحيزاته ومعرفته التاريخية الخاصة لتفسير حدث معيّن، يتضمن استفسارًا حول نص قرآني يقدم قصة. وأعتقد أن لا حرج على بروخس والكاثوليكي، وإنما الحرج هو على المسلم الذي يقع في نفس المأزق وينسى دائماً دور صوت الراوي المفسر، ويعامله على قدم المساواة مع النص، وثمة أمثلة كثيرة على هذا من قبل من يبحثون عن فرعون موسى أو ملك يوسف أو إبراهيم أو من يربط بين سليمان نبي الله والشخصيات التاريخية الأخرى وغير ذلك.

إن مقولة صوت الراوي هنا تضيء لنا أمورًا كثيرة على مستويين:

المستوى الأول هو ما ذكرناه آنفًا من أهمية عدم الخلط بين تحيزاتنا المسبقة وبين النص القرآني. المستوى الثاني هو المستوى المقابل أي ألا نخلط بين النص القرآني وبين المعرفة التاريخية، فعندما نتكلم مثلاً عن ملك إسرائيل سليمان كما ورد ذكره في التوراة وكما نجده في بعض النصوص التاريخية لا يجب أن نغفل دور الراوي. أي لا بد وأن نفرق بين النص القرآني المقدس وبين النصوص الأخرى النسبية القابلة للصدق والكذب والصواب والخطأ.

من كل ما سبق سنجد أن ثمة تأكيداً مستمراً على حقيقة وبنائية ونماذجية القصة القرآنية ونفي لزمنيتها ووقائعيتها القابلة للصدق والكذب.
- التاريخية متعلقة بأسباب النزول فقط

يتبقى جزء أخير؛ فأسباب النزول تاريخية، لكن هذه التاريخية لا تنفي النماذجية البنائية المعرفية الكامنة خلف الآيات في ذاتها، فعلى سبيل المثال في سورة "عبس" ذكر لحادثة ابن أم مكتوم الأعمى مع الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ولكن بعد الحادثة التاريخية ثمة المغزى البنائي الكامن خلفها حيث يقول تعالى: "كلا إنها تذكرة" (عبس:11) أي أن المهم هو التذكر والتفكير.

ب- السيرة والنماذجية عبر التاريخية:

اخترنا قصة الهجرة كنموذج من نماذج السيرة النبوية العطرة؛ مثلاً لو نظرنا في قصة الهجرة من "البداية والنهاية لابن كثير" سنرى كيف اشتملت الكتب التاريخية على السيرة العطرة، وكيف يتم تقديم السيرة في كتاب غير متخصص.

وقصة هجرة الرسول نموذج معرفي رائع؛ بل هي مليئة بالنماذج بدءاً من جرأة وتضحية الإمام على -كرم الله وجهه-، واختيار الرسول لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وأسباب الهجرة وغير ذلك.
وكذلك في الدور العظيم الذي لعبته ذات النطاقين أسماء بنت الصديق أبي بكر، وقصة سراقة البارقي والغار والحمامة والعنكبوت، وكل التفاصيل الدقيقة الموجودة في قصة الهجرة تمثل نماذج لقيم ورؤى معرفية إسلامية كثيرة.

ما نحاول هنا تقديمه هو الجانب السردي لهذه القصة النفيسة، حيث يعمد ابن كثير إلى العنعنات حتى الوصول إلى المصدر الأصلي، فمثلاً في خبر حال أبي بكر يقول: قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدّثه عن جدته أسماء. هذه العنعنات هي بمثابة التوثيق الضروري لتثبيت مصداقية السيرة النبوية، وهي هنا تاريخ ونموذج في آن، ومن ثم الجانب القصصي هنا لا يحتمل الصدق والكذب من باب مصداقية السلسلة التوثيقية الإخبارية وهو فرق كبير في علوم السرد.

من ثم الجانب النماذجي هنا يتأتى من خلال التاريخية ومن خلال تجاوزها أساسًا بحيث إن التاريخية لا تصير عقبة في سبيل نماذجية السيرة العطرة.
ومن أهم الأسباب التي دعتنا لضم السيرة النبوية لفنون الحكي السمعية والبصرية ما سماه الباحث إبراهيم البيومي غانم: ثقافة الوقف، حيث كانت ثمة أوقاف مخصصة لقراءة السيرة النبوية من ابن هشام أو غيره كجزء من استقرار التراث الديني في الثقافة الإسلامية غير الأوقاف؛ أي تظهر الحياتية هنا من خلال الممارسة اليومية المخصصة للتقرب لوجه الله.

ج- القصص الشعبي: ألف ليلة وليلة كنموذج:

أول ما يلفت الانتباه في ألف ليلة وليلة هو عدم وجود مؤلف واحد لها فهي عمل مسبوك محكم يمثل اللاشعور الجماعي للأمة أصدق تمثيل.
هذا العمل الضخم المذهل لا مؤلف له، بل لا يمكن تحديد تاريخ تأليفه بدقة. وثمة إجماع على أنه مؤلف من عدة بلدان، أي لا يمكن تحديد مكان تأليفه كذلك.
تلك التفصيلة الهامة يقابلها تفصيلة داخلية مناظرة، هي أن العمل بأكمله يروى على لسان شخصية واحدة هي الملكة "شهرزاد" بمعنى أن الجهل بشخصية المؤلف/ الفنان القاص يقابله العلم بشخصية الراوي/ الحكواتي الداخلي. وبينما العالم الخارجي عالم ذكور بلا أدنى مجال للشك/ نجد أن العالم الداخلي ينتصر للمرأة ويجعلها تتجاوز محنة قتل النساء بذكائها ومعرفتها المذهلة.

هذه التقابلات الحلمية نتاج لعقل جمعي بلا أدنى شك، لا يعنينا أن نفصل الرموز الكثيرة التي احتواها العمل، ولا أن نفسر معانيها المتعددة القابلة للعديد من التأويلات. ما يعنينا هو الرؤية الإجمالية العامة للعمل. بلا شك: تأثرت أعمال أوروبية كثيرة بهذا العمل الفذ مثل ديكاميرون بوكاشيو وقصص كانتربري لتشوسر، ويمكننا القول: إن الشكل التعددي لقصة داخل قصة قد أثّر في العديد من الكتاب وربما كان بورخس من أكثر من اقتبسوا من ألف ليلة وليلة ونهلوا منها. وفي الأدب العربي الحديث سنجد نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين وغيرهم.

هذا العمل الفذ بدون مؤلف محدد يؤكد صفة الحياتية التي تكلمنا عنها، ويؤكد كذلك نظرة الإسلام للفن من حيث إن العمل النافع للناس أهم وأبقى من الفاعل/ الخالق كما في الفن الغربي. وتتجلى صفة التركيبية في خاصية ثانية من خواص ألف ليلة ألا وهي الدائرية، فالعمل دائري التركيب، حيث القصة تتضمن قصة، والقصة الثانية بها قصة ثالثة.. وهكذا، ثم عودة للقصة الثانية وانتهاء بالقصة الأولى في تعقيد بنائي مذهل. ومثال على هذا "قصة حاسب كريم الدين وملكة الحيات" حيث تقص عليه ملكة الحيات قصة بلوقيا، وداخل قصة بلوقيا قصة جان شاه، وبعدئذ تختم قصة بلوقيا، ثم تختم القصة الأصلية. وناهيك عن هذه التركيبية البنائية فثمة تركيبية عجائبية في التفاصيل المذهلة، حيث الجان والبشر والحيوانات وسائر المخلوقات يتدافعون ويتعايشون في نسق عجائبي مذهل في تركيبته وتعقيده.

ولم يأت اختيارنا لقصة حاسب كريم الدين اعتباطاً، وإنما للروح الإسلامية الفذة التي تشيع فيها وتشع منها، حيث ثمة دعوة دائبة للعبادة، وبشارة بالرسول الكريم محمد -عليه الصلاة والسلام-، وتنقلات مدهشة وغرائبية بقدرة القادر، وإيمان صوفي عميق يلاحظه القارئ وينتقل إليه.

والقصة إجمالاً نموذج مذهل على السمات التي فصلناها حول صفة الإسلامية من حياتية وتركيبية ودعوة للعبادة. وهي كذلك مليئة بالرمزية وبالرموز الجماعية كما أسلفنا.
الخاصية الثالثة في ألف ليلة والتي تتجلى قي قصة "حاسب كريم الدين وملكة الحيات" هي القدرة الفائقة على التواصل مع كافة المستويات، فبينما قد يجد فيها الصوفي والعالم رمزية وثقافة عالية، لن يعدم القارئ العادي المتعة القصصية والسرد اللذيذ الذي يأخذه في عوالم غريبة وينسيه حياته ومتاعبه. وهذه الخاصية التواصلية الفائقة تنبع أساسًا من القدرة الحياتية التي تمتلئ بها القصة، وكذلك من تركيبيتها المذهلة سواء البنائية أو التفصيلية التي أوضحناها فيما سلف


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الطيب

الطيب


عدد الرسائل : 94
تاريخ التسجيل : 14/09/2007

مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش Empty
مُساهمةموضوع: رد: مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش   مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش Emptyالسبت سبتمبر 22, 2007 7:27 am


فنون الحركة

تتضمن الفنون الحركية كما أسلفنا العديد من الفنون مثل فن الرقص الصوفي وفن الرقص بالسيف والخيول وحلقات الذكر وكل هذه الفنون تتصل أساسًا بفكرة حركة الجسم الإيقاعية كنوع من التسبيح بحمد الله -سبحانه وتعالى- في الذكر ورقص الصوفية أو لإظهار العلاقة الحميمة بين الإنسان والحيوان في رقص الخيل والإبل أو في إظهار العلاقة بين الفاعل البشري الصانع ومنتجه وقيمته وهي هنا الشجاعة والإقدام في الرقص بالسيف أو العصي مثلاً. بمعنى أنها كلها تشترك في صفة الإعلاء من قيمة الثقافي المركب من خلال الربط بين الإنسان السيد في الكون وبين العناصر الكونية الأخرى المسخرة له؛ سواء من حيوان أو جماد وكل ذلك يغلفه إطار موسيقيّ إيقاعيّ يناسب الإيقاعات الحركية التي يؤديها الإنسان أو الحيوان في تناغم خلاب.

أ- الرقص الصوفي:

يلعب الرقص عند الدراويش المولوية دورًا هامًا كوسيلة من وسائل التقرب إلى الله -تعالى-، ومن ثَم فهو يفي بصفة العبادة كسمة أولية من سمات الفن الإسلامي. وابتداع رقصتهم المشهورة باسم "السما" مولانا جلال الدين الرومي الشاعر الصوفي الشهير، وتستخدم الموسيقى والدفوف لإعطاء الإيقاع السمعي المصاحب وكل حركات الرقصة ذات معانٍ رمزية مركبة.

ب- الرقص مع الحيوان ورقص السيوف والعصي:

يعتبر الرقص مع الحيوان كالخيل والإبل رمزًا للعلاقة الحميمة التي تربط الإنسان بالمخلوقات الأخرى التي سخرها له الله ليستأنسها، وقد يظهر هذا الشكل في الغرب فيما يسمى بمسابقات الترويض.
أما الرقص بالسيوف والعصي كفن حكي فهو دليل على الشجاعة والإقدام وعلى قدرة الراقص على الانسجام في الجماعة دون إحداث أثر ضار بها رغم استخدام تلك الأدوات القتالية. إنه تمجيد للحياة باستخدام أدوات الدمار

الفنون اللغوية

أ- خصوصية الفنون اللغوية العربية:

السؤال الأساسي الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا نميز الفنون اللغوية تمييزًا خاصًا عن غيرها من الفنون الأخرى؟ ولماذا لا تدخل ضمن تصنيفنا الذي يقسم الفنون تبعًا للتأثير الذي تحدثه في الحواس؟ بمعنى آخر أو بعبارة أخرى -إن شئنا الدقة-: ما الذي يجعل الفنون اللغوية متميزة عن التأثير في الحواس فقط؟ ولماذا تختص العربية بهذه الخاصية إن كانت تختص بها؟
هل ثمة شيء متعلق بكنه العربية ذاتها؟

أتذكر حوارًا دار مع بعض الأصدقاء تركز حول بنية اللسان العربي ومدى إحكامه، وخاصة قبل ظهور الإسلام، وكان السؤال المحوري المطروح في تلك الجلسة هو: كيف تمكّن أولئك البدو المشتتون من إقامة صرح فكري متميز مثل اللغة العربية؟ اللغة التي تعتبر أقدم اللغات الحية وأكثرها إحكامًا. اللغة التي تحدَّت الدهر وبقيت بينما اندثرت ألسنة قوم آخرين سادوا العالم لفترات طويلة كاللاتينية والسنسكريتية. ولفهم هذه الخاصية أي خصوصية اللغة العربية لنتأمل معًا بعضاً من إبداع العرب قبل الإسلام والذي تجلى أساسًا في الشعر فلنتأمل معًا هذا البيت:

من يسأل الله الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب إن هذا البيت الذي يحوي هذا المعنى السامي المتجاوز أو الذي يقارن فيه الشاعر بين التوجه للناس والتوجه إلى الله -سبحانه وتعالى-، من بائية الشاعر الجاهلي عبيد ابن الأبرص الأسدي، ووزنها مجزوء البسيط، ويرى النقاد أن اكثر أبياتها مضطربة الوزن.

وهذا الاضطراب البنائي يدلنا على تأخّر عصر القصيدة، ويؤكد نسبتها الجاهلية ويدحض رأي القائلين بالانتحال. فكيف ينتحل المرء ولا يدقق في الوزن والتفعيلة؟
وتدلنا كتب الأدب والقصص والتاريخ والأخبار والسير أن شعراء العصر الجاهلي كانوا أكثر من أن يحيط بهم حصر. فكل قبيلة بل وكل بطن وفخذ من قبيلة كان لها شعراؤها الذين يلعبون دورًا اجتماعيًا هائلاً ويؤدون دورًا حياتيًا عظيمًا، ألا وهو مفاخرة غيرهم من القبائل والرد عليهم وهجاؤهم والتنويه بمآثر قومه. باختصار: كانوا يلعبون الدور الذي يلعبه الجهاز الإعلامي الحالي.

ولمعرفة أين ذهب هؤلاء وكيف اندثر وانطمس أغلب شعر العرب يقول عمر بن الخطاب: "كان الشعر علم قول (أي رواية شفهية) لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد، وغزو فارس والروم، وأُلهيت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدوّن ولا كتاب مكتوب، فألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم منه أكثره.

* ولنا هنا وقفه في عدة نقاط:

النقطة الأولى أن اللغة العربية إذن كما تبدو في الشعر الجاهلي أول ما وصلنا من إنتاج لها هي لغة محكمة متقدمة راقية.
النقطة الثانية هي أن الأدب الجاهلي قد جاء كله بلغة واحدة عربية. وصاغه بهذه اللغة الواحدة جميع الذين نسب إليهم أنهم قالوه من العرب شماليهم وجنوبيهم، لا فرق بين من أصله قحطاني ومن أصله عدناني. وهذا معناه أن الأدب قبل الإسلام بفترة من الزمن قد استقرّت له لغة خاصة، لغة تعبر عن بيئة خاصة وتبدو فيها ملامح تلك البيئة، ولكنها تطرح أيضا رؤية معرفية عامة موجودة ومتأصلة عند العرب أجمعين. ولفهم هذا فلنتأمل هذا البيت لأعشى قيس البكري حيث يقول:

كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة لا ريث ولا عجل

هذا البيت يصف المرأة السمينة التي تمشي الهوينى ويشبهها بالسحابة، بما يوحي به هذا التشبيه من معانٍ ضمنية ترد لذهن الأعرابي البدوي، حيث ينتظر السحاب ليأتي حاملاً معه المطر والخير. فالتشبيه متضمن لصفة البطء والهوينى. ويحمل في طياته ملامح بيئة بدوية صحراوية.

نجد تلك اللغة الأدبية المتجاوزة عند الشعراء جميعًا، ومن خلالها نرى رؤية خاصة للكون تتكرر باستمرار. يقول طرفة بن العبد:

أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة وما تنقص الأيام والدهر ينفد

ويقول في موضع آخر من القصيدة ذاتها:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تـزود

ويقول عبد يغوث الحارثي اليمني:

جزى الله قومي بالكلاب ملامة مريحهم والآخـرين المـواليا

هذه الرؤية الكونية الخاصة التي تجدها عند العرب قبل الإسلام. والتي تعبر عن بيئتهم الصحراوية وعن تأملهم في الخلق والتي تتجلى في الشعر نسميها الرؤية الإيمانية. تلك الرؤية الإيمانية تمثل مرجعية عامة لشعراء عدة من قبائل متباعدة.

الأصل إذن واحد، ونزعم أنه أصل متجاوز للعلاقات اللغوية، وأنه ينتمي إلى مجموعة المفاهيم الحاكمة التأسيسية قبل اللغوية. ورغم أن ثمة لهجات عربية متباينة بل ولغات متعددة كانت موجودة في الجزيرة، فالواضح أن اللغة الأدبية قد سادت بالرغم من هذه اللهجات واللغات نظرًا لتميزها على كافة مستويات البنية اللغوية، سواء كان هذا التميز على المستوى المعنوي العميق الذي أسلفنا فيه القول، أو على المستوى السطحي في السياق أو التراكيب أو حتى في النطق والعبارات. وهذا التميز هو الذي كفل لها التعبير الأمثل عن هذا الأصل المتجاوز، ومن ثم سيادة اللهجات الأخرى. إن بلاغة الكلام كما عرفها العرب هي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته.

ومن مظاهر البلاغة في العربية سنجد قاعدة التقديم والتأخير، أي جواز تغيير البنية السياقية للكلام دون مراعاة للقواعد النحوية، بل يتلاءم النحو مع البلاغة من خلال الحفاظ على البنية الصوتية الدالة على القاعدة النحوية، رغم تغير الترتيب السياقي. لفهم ما سبق نقول: إنه من المعلوم أنه لا يمكن النطق بالكلام دفعة واحدة، بل لا بد من تقديم بعض الأجزاء وتأخير البعض وليس شيء منها في نفسه أولى بالتقدم من الآخر، لاشتراك جميع الألفاظ (من حيث هي ألفاظ) في درجة الاعتبار فلا بد لتقديم هذا على ذاك من داع يوجبه. هذا الداعي يتراوح بين المعنى المراد إيصاله وبين البلاغة التي يراد فيها تقوية التأثير الذهني للعبارة. ففي سورة التوبة (الآية 31) يقول الله تعالى: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" إن فتح لفظ المسيح للعطف على المفعولية بلاغة لفظية رائعة، حيث يؤخر المعطوف عن المعطوف عليه وهو المفعول به الأحبار، ويفصل بينهما بشبه الجملة "من دون الله"، فيؤدي هذا التأخير إلى فصل معنوي بين الرهبان والأحبار الذين قبلوا دور الأُلوهية والعياذ بالله وبين نبي الله عيسى الذي ألصقت به الصفة وهو منها براء.

باختصار: فهذا الترتيب السياقي قد أضفى معنى جديدًا على الكلام مع الحفاظ على قواعد النحو من خلال النطق السليم للفظ المسيح بالفتح. بمعنى أن البنية السطحية قد أثرت على البنية العميقة تأثيرًا واضحًا وتلك سمة خاصة باللغة العربية أساسا لا تشترك معها فيها لغة أخرى.

النقطة الثالثة أن العربية لغة شديدة الإحكام. وهذا الإحكام يبدأ من جوانبها الصوتية وأشكالها المنفردة وتكامل أبنيتها المورفولوجية والصوتية والسياقية والدلالية.
وهكذا نجد أن ثمة دائمًا جذراً مشتركاً في الكلام العربي وكما أسلفنا فهذا الرابط أو الجذر يتخطى النسق اللغوي بل ويقوم مقام الأصل الوجودي لهذا النسق. وهو بمثابة أساس النسق ودعامته في آن.
هذا الأساس نجده في الشعر الجاهلي أو الإسلامي أو الحديث،

فلنتأمل هذا البيت من قصيدة: يا ليل الصّب متى غده؟ للحصري القيرواني:

صنم للفتنة منتصب أهـواه ولا أتـعـبده

ولنتأمل أيضا شوقي حين يعارضه بقوله: ويقول:

تكاد تجـن به فأقول وأوشك أعبده

ما يلفت النظر أن العبادة ممتنعة في الحالين، حيث يهوى الحصري الصنم ولا يعبده ويهم شوقي بالفعل ولكنه لا يفعل اي يظل الانسان على ايمانه و هو الاصل و الله اعلم.

اسامة القفاش

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
مفاهيم الجمال ... رؤية اسلامية .. للدكتور اسامة القفاش
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الجمال - ان الله جميل يحب الجمال
» لقاء رائع ومميز مع الروبوت صوفيا مع الاعلامي اسامة كمال ( اللقاء كامل )
» مجموعة كتب للدكتور إبراهيم الفقى
» من كتاب للدكتور محمد صبيح
» أفتتاح الموقع الرسمى للدكتور على جمعه

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة السمـــــــاع و الصــــور ::  مكتبة الصور الدينية ::  منتدى الصور العالمية-
انتقل الى: