الباب الثالث في تنزيه الحق تعالى عما في طي الكلمات. كتاب الفتوحات المكية في معرفة أسرار المالكية والملكية المجلد الأول
الشيخ الأكبر محيي الدين أبو عبد الله محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي قدس الله روحه
«الباب الثالث في تنزيه الحق تعالى عما في طي الكلمات»
التي أطلقها عليه سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من التشبيه والتجسيم تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا»نظم في نظر العبد إلى ربه ..... في قدس الأيد وتنزيهه
وعلوه عن أدوات أتت ..... تلحق بالكيف وتشبيهه
دلالة تحكم قطعا على ..... منزلة العبد وتنويهه
وصحة العلم وإثباته ..... وطرح بدعي وتمويهه
[جميع المعلومات حملها العقل الأول]اعلم أيدك الله أن جميع المعلومات علوها وسفلها حاملها العقل الذي يأخذ عن الله تعالى بغير واسطة فلم يخف عنه شيء من علم الكون الأعلى والأسفل .ومن وهبه وجوده تكون معرفة النفس الأشياء ومن تجليه إليها ونوره وفيضه الأقدس .فالعقل مستفيد من الحق تعالى مفيد للنفس والنفس مستفيدة من العقل وعنها يكون الفعل وهذا سار في جميع ما تعلق به علم العقل بالأشياء التي هي دونه .وإنما قيدنا بالتي هي دونه من أجل ما ذكرناه من الإفادة وتحفظ في نظرك من قوله تعالى حَتَّى نَعْلَمَ وهو العالم فاعرف السبب.[العالم المهيم]واعلم أن العالم المهيم لا يستفيد من العقل الأول شيئا وليس له على المهيمين سلطان بل هم وإياه في مرتبة واحدة كالأفراد منا الخارجين عن حكم القطب .وإن كان القطب واحدا من الأفراد لكن خصص العقل بالإفادة كما خصص القطب من بين الأفراد بالتولية.[علم تجريد التوحيد]وهو سار في جميع ما تعلق به علم العقل إلا علم تجريد التوحيد خاصة فإنه يخالف سائر المعلومات من جميع الوجوه إذ لا مناسبة بين الله تعالى وبين خلقه البتة.وإن أطلقت المناسبة يوما ما عليه كما أطلقها الإمام أبو حامد الغزالي في كتبه وغيره فبضرب من التكلف ومرمى بعيد عن الحقائق وإلا فأي نسبة بين المحدث والقديم .أم كيف يشبه من لا يقبل المثل من يقبل المثل هذا محال .كما قال أبو العباس بن العريف الصنهاجى في محاسن المجالس التي تعزى إليه ليس بينه وبين العباد نسب إلا العناية ولا سبب إلا الحكم ولا وقت غير الأزل وما بقي فعمى وتلبيس وفي رواية فعلم بدل من قوله فعمي .فانظر ما أحسن هذا الكلام وما أتم هذه المعرفة بالله وما أقدس هذه المشاهدة نفعه الله بما قال.[عجز العقل عن معرفة الله]فالعلم بالله عزيز عن إدراك العقل والنفس إلا من حيث إنه موجود تعالى وتقدس وكل ما يتلفظ به في حق المخلوقات أو يتوهم في المركبات وغيرها فالله سبحانه في نظر العقل السليم من حيث فكره وعصمته بخلاف ذلك لا يجوز عليه ذلك التوهم ولا يجري عليه ذلك اللفظ عقلا .من الوجه الذي تقبله المخلوقات فإن أطلق عليه فعلى وجه التقريب على الأفهام لثبوت الوجود عند السامع لا لثبوت الحقيقة التي هو الحق عليها فإن الله تعالى يقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .ولكن يجب علينا شرعا من أجل قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الله يقول اعلم من إخباري الموافق لنظرك ليصح لك الايمان علما كما صح لك العلم من غير إيمان الذي هو قبل التعريف .فأمره فمن أجل هذا الأمر على نظر بعض الناس ورأيه فيه نظرنا من أين نتوصل إلى معرفته فنظرنا على حكم الإنصاف وما أعطاه العقل الكامل بعد جده واجتهاده الممكن منه فلم نصل إلى المعرفة به سبحانه إلا بالعجز عن معرفته .لأنا طلبنا أن نعرفه كما نطلب معرفة الأشياء كلها من جهة الحقيقة التي هي المعلومات عليها فلما عرفنا إن ثم موجودا ليس له مثل ولا يتصور في الذهن ولا يدرك فكيف يضبطه العقل هذا ما لا يجوز .مع ثبوت العلم بوجوده فنحن نعلم أنه موجود واحد في ألوهته وهذا هو العلم الذي طلب منا غير عالمين بحقيقة ذاته التي يعرف سبحانه نفسه عليها .وهو العلم بعدم العلم الذي طلب منا لما كان تعالى لا يشبه شيئا من المخلوقات في نظر العقل ولا يشبهه شيء منها كان الواجب علينا أولا لما قيل لنا فاعلموا أنه لا إله إلا الله إن نعلم ما العلم وقد علمنا فقد علمنا ما يجب علينا من علم العلم أولا .انتهى الجزء الثامن والحمد لله(بسم الله الرحمن الرحيم)
[أمهات المطالب العلمية]
فلنقل إنه لما كانت أمهات المطالب أربعة وهي هل وما وكيف ولم .
فهل ولم مطلبان روحانيان بسيطان يصحبهما ما هو فهل ولم هما الأصلان الصحيحان للبسائط .لأن في ما هو ضرب من التركيب خاصة وليس في هذه المطالب الأربعة مطلب ينبغي أن يسأل به عن الله تعالى من جهة ما تعطيه الحقيقة .إذ لا يصح أن يعرف من علم التوحيد إلا نفي ما يوجد فيما سواه سبحانه ولهذا قال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وسُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ.[العلم بالسلب هو العلم بالله]فالعلم بالسلب هو العلم بالله سبحانه كما لم يجز أن نقول في الأرواح كيف وتقدست عن ذلك لأن حقائقها تخالف هذه العبارة .كذلك ما ينطلق على الأرواح من الأدوات التي بها يسأل عنها لا يجوز أن يطلق على الله تعالى .ولا ينبغي للمحقق الموحد الذي يحترم حضرة مبدعه ومخترعه أن يطلق عليه هذه الألفاظ فاذن لا يعلم بهذه المطالب أبدا«وصل» [المدرك بذاته والمدرك بفعله واللامدرك أصلا]ثم إنا نظرنا أيضا في جميع ما سوى الحق تعالى فوجدناه على قسمين :
قسم يدرك بذاته وهو المحسوس والكثيف .
وقسم يدرك بفعله وهو المعقول واللطيف .
فارتفع المعقول عن المحسوس بهذه المنزلة وهي التنزه أن تدرك بذاته وإنما يدرك بفعله .ولما كانت هذه أوصاف المخلوقين تقدس الحق تعالى عن أن يدرك بذاته كالمحسوس أو بفعله كاللطيف أو المعقول لأنه سبحانه ليس بينه وبين خلقه مناسبة أصلا .لأن ذاته غير مدركة لنا فتشبه المحسوس ولا فعلها كفعل اللطيف فيشبه اللطيف لأن فعل الحق تعالى إبداع الشيء لا من شيء .واللطيف الروحاني فعل الشيء من الأشياء فأي مناسبة بينهما .فإذا امتنعت المشابهة في الفعل فأحرى أن تمتنع المشابهة في الذات .وإن شئت أن تحقق شيئا من هذا الفصل فانظر إلى مفعول هذا الفعل على حسب أصناف المفعولات مثل المفعول الصناعي كالقميص والكرسي .فوجدناه لا يعرف صانعه إلا أنه يدل بنفسه على وجود صانعه وعلى علمه بصنعته .وكذلك المفعول التكويني الذي هو الفلك والكواكب لا يعرفون مكونهم ولا المركب لهم وهو النفس الكلية المحيطة بهم .وكذلك المفعول الطبيعي كالموالد من المعادن والنبات والحيوان الذين يفعلون طبيعة من المفعول التكويني ليس لهم وقوف على الفاعل لهم الذي هو الفلك والكواكب .فليس العلم بالأفلاك ما تراه من جرمها وما يدركه الحس منها وأين جرم الشمس في نفسها منها في عين الرائي لها منا .وإنما العلم بالأفلاك من جهة روحها ومعناها الذي أوجده الله تعالى لها عن النفس الكلية المحيطة التي سبب الأفلاك وما فيها وكذلك المفعول الانبعاثي الذي هو النفس الكلية المنبعثة من العقل انبعاث الصورة الدحيية من الحقيقة الجبرئيلية .فإنها لا تعرف الذي انبعثت عنه أصلا لأنها تحت حيطته وهو المحيط بها لأنها خاطر من خواطره فكيف تعلم ما هو فوقها وما ليس فيها منه إلا ما فيها فلا تعلم منه إلا ما هي عليه .فنفسها علمت لا سببهما وكذلك المفعول الإبداعي الذي هو الحقيقة المحمدية عندنا والعقل الأول عند غيرنا وهو القلم الأعلى الذي أبدعه الله تعالى من غير شيء هو أعجز وامنع عن إدراك فاعله من كل مفعول تقدم ذكره .إذ بين كل مفعول وفاعله مما تقدم ذكره ضرب من ضروب المناسبة والمشاكلة فلا بد أن يعلم منه قدر ما بينهما من المناسبة إما من جهة الجوهرية أو غير ذلك .ولا مناسبة بين المبدع الأول والحق تعالى فهو أعجز عن معرفته بفاعله من غيره من مفعولي الأسباب إذ قد عجز المفعول الذي يشبه سببه الفاعل له من وجوه عن إدراكه والعلم به .فافهم هذا وتحققه فإنه نافع جدا في باب التوحيد والعجز عن تعلق العلم المحدث بالله تعالى«وصل» [القوى الخمس ومدركاتها الحقيقية]يؤيد ما ذكرناه أن الإنسان إنما يدرك المعلومات كلها بإحدى القوي الخمس القوة الحسية وهي على خمس: الشم والطعم واللمس والسمع والبصر فالبصر يدرك الألوان والمتلونات والأشخاص على حد معلوم من القرب والبعد فالذي يدرك منه على ميل غير الذي يدرك منه على ميلين والذي يدرك منه على عشرين باعا غير الذي يدرك منه على ميل والذي يدرك منه ويده في يده يقابله غير الذي يدرك منه على عشرين باعا .فالذي يدرك منه على ميلين شخص لا يدري هل هو إنسان أو شجرة وعلى ميل يعرف أنه إنسان وعلى عشرين باعا أنه أبيض أو أسود وعلى المقابلة أنه أزرق أو أكحل .وهكذا سائر الحواس في مدركاتها من القرب والبعد والباري سبحانه ليس بمحسوس أي ليس بمدرك بالحس عندنا في وقت طلبنا المعرفة به فلم نعلمه من طريق الحس .وأما القوة الخيالية فإنها لا تضبط إلا ما أعطاها الحس إما على صورة ما أعطاها وإما على صورة ما أعطاه الفكر من حمله بعض المحسوسات على بعض.وإلى هنا انتهت طريقة أهل الفكر في معرفة الحق فهو لسانهم ليس لساننا وإن كان حقا ولكن ننسبه إليهم فإنه نقل عنهم فلم تبرح هذه القوة كيفما كان إدراكها عن الحس البتة وقد بطل تعلق الحس بالله عندنا فقد بطل تعلق الخيال به .وأما القوة المفكرة فلا يفكر الإنسان أبدا إلا في أشياء موجودة عنده تلقاها من جهة الحواس وأوائل العقل ومن الفكر فيها في خزانة الخيال يحصل له علم بأمر آخر بينه وبين هذه الأشياء التي فكر فيها مناسبة ولا مناسبة بين الله وبين خلقه .فاذن لا يصح العلم به من جهة الفكر ولهذا منعت العلماء من الفكر في ذات الله تعالى .وأما القوة العقلية فلا يصح أن يدركه العقل فإن العقل لا يقبل إلا ما علمه بديهة أو ما أعطاه الفكر وقد بطل إدراك الفكر له فقد بطل إدراك العقل له من طريق الفكر .ولكن مما هو عقل إنما حده أن يعقل ويضبط ما حصل عنده فقد يهبه الحق المعرفة به فيعقلها لأنه عقل لا من طريق الفكر هذا ما لا نمنعه فإن هذه المعرفة التي يهبها الحق تعالى لمن شاء من عباده لا يستقل العقل بإدراكها ولكن يقبلها فلا يقوم عليها دليل ولا برهان لأنها وراء طور مدارك العقل. ثم هذه الأوصاف الذاتية لا تمكن العبارة عنها لأنها خارجة عن التمثيل والقياس فإنه ليس كمثله شيء فكل عقل لم يكشف له من هذه المعرفة شيء يسأل عقلا آخر قد كشف له منها ليس في قوة ذلك العقل المسئول العبارة عنها ولا تمكن ولذلك .قال الصديق العجز عن درك الإدراك إدراك ولهذا الكلام مرتبتان فافهم :
فمن طلب الله بعقله من طريق فكره ونظره فهو تائه وإنما حسبه التهيؤ لقبول ما يهبه الله من ذلك فافهم .
وأما القوة الذاكرة فلا سبيل أن تدرك العلم بالله فإنها إنما تذكر ما كان العقل قبل علمه ثم غفل أو نسي وهو لم يعلمه فلا سبيل للقوة الذاكرة إليه وانحصرت مدارك الإنسان بما هو إنسان وما تعطيه ذاته وله فيه كسب .وما بقي إلا تهيؤ العقل لقبول ما يهبه الحق من معرفته جل وتعالى فلا يعرف أبدا من جهة الدليل إلا معرفة الوجود وأنه الواحد المعبود لا غير .فإن الإنسان المدرك لا يتمكن له أن يدرك شيئا أبدا إلا ومثله موجود فيه .ولو لا ذلك ما أدركه البتة ولا عرفه فإذا لم يعرف شيئا إلا وفيه مثل ذلك الشيء المعروف .فما عرف إلا ما يشبهه ويشاكله والباري تعالى لا يشبه شيئا ولا في شيء مثله فلا يعرف أبدا.[الأشياء الطبيعية لا تقبل الغذاء إلا من مشاكلها]ومما يؤيد ما ذكرناه أن الأشياء الطبيعية لا تقبل الغذاء إلا من مشاكلها فأما ما لا يشاكلها فلا تقبل الغذاء منه قطعا مثال ذلك.أن الموالد من المعادن والنبات والحيوان مركبة من الطبائع الأربع والموالد لا تقبل الغذاء إلا منها وذلك لأن فيها نصيبا منها .ولو رام أحد من الخلق على أن يجعل غذاء جسمه المركب من هذه الطبائع من شيء كائن عن غير هذه الطبائع أو ما تركب عنها لم يستطع .فكما لا يمكن لشيء من الأجسام الطبيعية أن تقبل غذاء إلا من شيء هو من الطبائع التي هي منها كذلك لا يمكن لأحد أن يعلم شيئا ليس فيه مثله البتة .ألا ترى النفس لا تقبل من العقل إلا ما تشاركه فيه وتشاكله وما لم تشاركه فيه لا تعلمه منه أبدا .وليس من الله في أحد شيء ولا يجوز ذلك عليه بوجه من الوجوه فلا يعرفه أحد من نفسه وفكرهقال رسول الله صلى الله وسلم : إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتمفأخبر عليه السلام بأن العقل لم يدركه بفكره ولا بعين بصيرته كما لم يدركه البصر وهذا هو الذي أشرنا إليه فيما تقدم من بابنا. فلله الحمد على ما ألهم وأن علمنا ما لم نكن نعلم وكان فضل الله عظيما[التنزيه ونفي المماثلة والتشبيه]هكذا فليكن التنزيه ونفي المماثلة والتشبيه وما ضل من ضل من المشبهة إلا بالتأويل وحمل ما وردت به الآيات والأخبار على ما يسبق منها إلى الأفهام من غير نظر فيما يجب الله تعالى من التنزيه فقادهم ذلك إلى الجهل المحض والكفر الصراح .ولو طلبوا السلامة وتركوا الأخبار والآيات على ما جاءت من غير عدول منهم فيها إلى شيء البتة ويكلون علم ذلك إلى الله تعالى ولرسوله ويقولون لا ندري.وكان يكفيهم قول الله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .فمتى جاءهم حديث فيه تشبيه فقد أشبه الله شيئا وهو قد نفى الشبه عن نفسه سبحانه فما بقي إلا أن ذلك الخبر له وجه من وجوه التنزيه يعرفه الله تعالى.وجيء به لفهم العربي الذي نزل القرآن بلسانه وما تجد لفظة في خبر ولا آية جملة واحدة تكون نصا في التشبيه أبدا وإنما تجدها عند العرب تحتمل وجوها منها ما يؤدي إلى التشبيه ومنها ما يؤدي إلى التنزيه .فحمل المتأول ذلك اللفظ على الوجه الذي يؤدي إلى التشبيه جور منه على ذلك اللفظ إذ لم يوف حقه بما يعطيه وضعه في اللسان وتعد على الله تعالى .حيث حمل عليه سبحانه ما لا يليق بالله تعالى .ونحن نورد إن شاء الله تعالى بعض أحاديث وردت في التشبيه وإنها ليست بنص فيه فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ.[التشبيه والتجسيم في ألفاظ السنة]فمن ذلك قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع اللهنظر العقل بما يقتضيه الوضع من الحقيقة والمجاز الجارحة تستحيل على الله تعالى الإصبع لفظ مشترك يطلق على الجارحة ويطلق على النعمة قال الراعيضعيف العصا بادي العروق ترى له ..... عليها إذا ما أمحل الناس أصبعايقول ترى له عليها أثرا حسنا من النعمة بحسن النظر عليها تقول العرب ما أحسن أصبع فلان على ما له أي أثره فيه تريد به نمو ما له لحسن تصرفه فيه أسرع التقليب ما قلبته الأصابع لصغر حجمها وكمال القدرة فيها .فحركتها أسرع من حركة اليد وغيره ولما كان تقليب الله قلوب العباد أسرع شيء أفصح صلى الله عليه وسلم للعرب في دعائه بما تعقل ولأن التقليب لا يكون إلا باليد عندنا فلذلك جعل التقليب بالأصابع لأن الأصابع من اليد في اليد والسرعة في الأصابع أمكنفكان عليه السلام يقول في دعائه يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينكوتقليب الله تعالى القلوب هو ما يخلق فيها من الهم بالحسن والهم بالسوء فلما كان الإنسان يحس بترادف الخواطر المتعارضة عليه في قلبه الذي هو عبارة عن تقليب الحق القلب وهذا لا يقدر الإنسان يدفع علمه عن نفسه لذلككان عليه السلام يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وفي هذا الحديث إن إحدى أزواجه قالت له أوتخاف يا رسول الله
فقال صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع اللهيشير صلى الله عليه وسلم إلى سرعة التقليب من الايمان إلى الكفر وما تحتهما
قال تعالى فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها وهذا الإلهام هو التقليب والأصابع للسرعة .والاثنينية لها خاطر الحسن وخاطر القبيح فإذا فهم من الأصابع ما ذكرته وفهمت منه الجارحة وفهمت منه النعمة والأثر الحسن فبأي وجه تلحقه بالجارحة وهذه الوجوه المنزهة تطلبه.فأما نسكت ونكل علم ذلك إلى الله تعالى وإلى من عرفه الحق ذلك من رسول مرسل أو ولي ملهم بشرط نفي الجارحة ولا بد .وإما إن أدركنا فضول وغلب علينا إلا أن نرد بذلك على بدعي مجسم مشبه .فليس بفضول بل يجب على العالم عند ذلك تبيين ما في ذلك اللفظ من وجوه التنزيه حتى يدحض به حجة المجسم المخذول تاب الله علينا وعليه ورزقه الإسلام فإن تكلمنا على تلك الكلمة التي توهم التشبيه ولا بد فالعدول بشرحها إلى الوجه الذي يليق بالله سبحانه أولى هذا حظ العقل في الوضع(نفث روح في روع) [حظ القلب من الإصبعين]الإصبعان سر الكمال الذاتي الذي إذا انكشف إلى الأبصار يوم القيامة يأخذ الإنسان أباه إذا كان كافرا ويرمي به في النار ولا يجد لذلك ألما ولا عليه شفقة.بسر هذين الإصبعين المتحد معناهما المثنى لفظهما خلقت الجنة والنار وظهر اسم المنور والمظلم والمنعم والمنتقم .فلا تتخيلهما اثنين من عشرة ولا بد من الإشارة إلى هذا السر في هذا الباب في كلتا يديه يمين وهذه معرفة الكشف.فإن لأهل الجنة نعيمين نعيما بالجنة ونعيما بعذاب أهل النار في النار . وكذلك أهل النار لهم عذابان .وكلا الفريقين يرون الله رؤية الأسماء كما كانوا في الدنيا سواء وفي القبضتين اللتين جاءتا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حق الحق سر ما أشرنا إليه ومعناه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ القبضة واليمين قال تعالى والْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ ... والسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ .نظر العقل بما يقتضيه الوضع أنه منع أولا سبحانه أن يقدر قدره لما يسبق إلى العقول الضعيفة من التشبيه والتجسيم عند ورود الآيات والأخبار التي تعطي من وجه ما من وجوهها ذلك .ثم قال بعد هذا التنزيه الذي لا يعقله إلا العالمون والْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ عرفنا من وضع اللسان العربي أن يقال فلان في قبضتي يريد أنه تحت حكمي وإن كان ليس في يدي منه شيء البتة ولكن أمري فيه ماض وحكمي عليه قاض مثل حكمي على ما ملكته يدي حسا وقبضت عليه .وكذلك أقول مالي في قبضتي أي في ملكي وإني متمكن في التصرف فيه أي لا يمنع نفسه مني فإذا صرفته ففي وقت تصرفي فيه كان أمكن لي أن أقول هو في قبضتي لتصرفي فيه وإن كان عبيدي هم المتصرفون فيه عن إذني .فلما استحالت الجارحة على الله تعالى عدل العقل إلى روح القبضة ومعناها وفائدتها وهو ملك ما قبضت عليه في الحال وإن لم يكن لها أعني للقابض فيما قبض عليه شيء ولكن هو في ملك القبضة قطعا .فهكذا العالم في قبضة الحق تعالى والأرض في الدار الآخرة تعيين بعض الأملاك كما نقول خادمي في قبضتي وإن كان خادمي من جملة من في قبضتي فإنما ذكرته اختصاصا لوقوع نازلة ما .واليمين عندنا محل التصريف المطلق القوي فإن اليسار لا يقوي قوة اليمين فكنى باليمين عن التمكن من الطي فهي إشارة إلى تمكن القدرة من الفعل فوصل إلى أفهام العرب بألفاظ تعرفها وتسرع بالتلقي لها قال الشاعرإذا ما راية رفعت لمجد ..... تلقاها عرابة باليمينوليس للمجد راية محسوسة فلا تتلقاها جارحة يمين فكأنه يقول لو ظهر للمجد راية محسوسة لما كان محلها أو حاملها إلا يمين عرابة الأوسي أي صفة المجد به قائمة وفيه كاملة. فلم تزل العرب تطلق ألفاظ الجوارح على ما لا يقبل الجارحة لاشتراك بينهما من طريق المعنى(نفث روح في روع) [حظ القلب من اليمين واليسار]إذا تجلى الحق لسر عبد ملكه جميع الأسرار وألحقه بالأحرار وكان له التصرف الذاتي من جهة اليمين .فإن شرف الشمال بغيره وشرف اليمين بذاته .ثم أنزل شرف اليمين بالخطاب وشرف الشمال بالتجلي شرف الإنسان بمعرفته بحقيقته واطلاعه عليها وهو اليسار وكلتا يديه من حيث هو شمال كما إن كلتي يدي الحق يمين .ارجع إلى معنى الاتحاد كلتا يدي العبد يمين ارجع إلى التوحيد إحدى يديه يمين والأخرى شمال فتارة أكون في الجمع وجمع الجمع وتارة أكون في الفرق وفي فرق الفرق على حكم التجلي والوارديوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ..... وإن لقيت معديا فعدنانيومن ذلك التعجب والضحك والفرح والغضب التعجب إنما يقع من موجود لا يعلم ذلك المتعجب منه ثم يعلمه فيتعجب منه ويلحق به الضحك وهذا محال على الله تعالى .فإنه ما خرج شيء عن علمه فمتى وقع في الوجود شيء يمكن التعجب منه عندنا حمل ذلك التعجب والضحك على من لا يجوز عليه التعجب ولا الضحك لأن الأمر الواقع متعجب منه عندنا كالشاب ليست له صبوة .فهذا أمر يتعجب منه فحل عند الله تعالى محل ما يتعجب منه عندنا وقد يخرج الضحك والفرح إلى القبول والرضي فإن من فعلت له فعلا أظهر لك من أجله الضحك والفرح.فقد قبل ذلك الفعل ورضي به فضحكه وفرحه تعالى قبوله ورضاه عنا .كما إن غضبه تعالى منزه عن غليان دم القلب طلبا للانتصار لأنه سبحانه يتقدس عن الجسمية والعرض .فذلك قد يرجع إلى أن يفعل فعل من غضب ممن يجوز عليه الغضب وهو انتقامه سبحانه من الجبارين والمخالفين لأمره والمتعدين حدوده .قال تعالى وغضب عليه أي جازاه جزاء المغضوب عليه فالمجازي يكون غاضبا فظهور الفعل أطلق الاسم(التبشش)من باب الفرح ورد في الخبر أن الله يتبشبش للرجل يوطئ المساجد للصلاة والذكر
الحديث لما حجب العالم بالأكوان واشتغلوا بغير الله عن الله فصاروا بهذا الفعل في حال غيبة عن الله .فلما وردوا عليه سبحانه بنوع من أنواع الحضور أسدل إليهم سبحانه في قلوبهم من لذة نعيم محاضرته ومناجاته ومشاهدته ما تحبب بها إلى قلوبهمفإن النبي عليه السلام يقول حبوا الله لما يغذوكم به من نعمهفكنى بالتبشبش عن هذا الفعل منه لأنه إظهار سرور بقدومكم عليه.فإنه من يسر بقدومك عليه فعلامة سروره إظهار البر بجانبك والتحبب وإرسال ما عنده من نعم عليك فلما ظهرت هذه الأشياء من الله إلى العبيد النازلين به سماه تبششا.(النسيان)قال الله تعالى فَنَسِيَهُمْ الباري تعالى لا يجوز عليه النسيان ولكنه تعالى لما عذبهم عذاب الأبد ولم تنلهم رحمته تعالى صاروا كأنهم منسيون عنده وهو كأنه ناس لهم .أي هذا فعل الناسي ومن لا يتذكر ما هم فيه من أليم العذاب وذلك لأنهم في حياتهم الدنيا نَسُوا الله فجازاهم بفعلهم .ففعلهم أعاده عليهم للمناسبة وقد يكون نسيهم أخرهم نسوا الله أي أخروا أمر الله فلم يعملوا به أخرهم الله في النار حين أخرج منها من أدخله فيها من غيرهم ويقرب من هذا الباب اتصاف الحق بالمكر والاستهزاء والسخرية. قال تعالى سَخِرَ الله مِنْهُمْ وقال ومَكَرَ الله وقال الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ(النفس)قال صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمنوقوله عليه السلام: إني لأجد نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمنوهذا كله من التنفيس كأنه يقول لا تسبوا الريح فإنها مما ينفس بها الرحمن عن عباده.وقال عليه السلام نصرت بالصباوكذلك يقول إني لأجد نفس أي تنفيس الرحمن عني للكرب الذي كان فيه من تكذيب قومه إياه وردهم أمر الله من قبل اليمن .فكان الأنصار نفس الله بهم عن نبيه صلى الله عليه وسلم ما كان أكربه من المكذبين .فإن الله تعالى منزه عن النفس الذي هو الهواء الخارج من المتنفس تعالى الله عما نسب إليه الظالمون من ذلك علوا كبيرا.(الصورة)تطلق على الأمر وعلى المعلوم عند الناس وعلى غير ذلك ورد في الحديث إضافة الصورة إلى الله في الصحيح وغيرهمثل حديث عكرمة قال عليه السلام رأيت ربي في صورة شابالحديث هذا حال من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في كلام العرب معلوم متعارف وكذلكقوله عليه السلام: إن الله خلق آدم على صورتهاعلم أن المثلية الواردة في القرآن لغوية لا عقلية لأن المثلية العقلية تستحيل على الله تعالى .زيد الأسد شدة زيد زهير شعرا إذا وصفت موجودا بصفة أو صفتين ثم وصفت غيره بتلك الصفة وإن كان بينهما تباين من جهة حقائق أخر ولكنهما مشتركان في روح تلك الصفة ومعناها .فكل واحد منهما على صورة الآخر في تلك الصفة خاصة فافهم وتنبه .وانظر كونك دليلا عليه سبحانه وهل وصفته بصفة كمال إلا منك فتفطن فإذا دخلت من باب التعرية عن المناظرة سلبت النقائص التي تجوز عليك عنه وإن كانت لم تقم قط به .ولكن المجسم والمشبه لما أضافها إليه سلبت أنت تلك الإضافة ولو لم يتوهم هذا لما فعلت شيئا من هذا السلب .فاعلم وإن كان للصورة هنا مداخل كثيرة أضربنا عن ذكرها رغبة فيما قصدناه في هذا الكتاب من حذف التطويل.والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.(الذراع)ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ضرس الكافر في النار مثل أحد وكثافة جلده أربعون ذراعا بذراع الجبارهذه إضافة تشريف مقدار جعله الله تعالى أضافه إليه كما تقول هذا الشيء كذا وكذا ذراعا بذراع الملك تريد الذراع الأكبر الذي جعله الملك .وإن كان مثلا ذراع الملك الذي هو الجارحة مثل أذرع الناس والذراع الذي جعله مقدارا يزيد على ذراع الجارحة بنصفه أو ثلثه .فليس هو إذن ذراعه على حقيقته وإنما هو مقدار نصبه ثم أضيف إلى جاعله فاعلم والجبار في اللسان الملك العظيم وهكذا(القدم)يضع الجبار فيها قدمه القدم الجارحة ويقال لفلان في هذا الأمر قدم أي ثبوت والقدم جماعة من الخلق فتكون القدم إضافة وقد يكون الجبار ملكا وتكون هذه القدم لهذا الملك إذ الجارحة تستحيل على الله تعالى وجل(و الاستواء)أيضا ينطلق على الاستقرار والقصود والاستيلاء والاستقرار من صفات الأجسام .فلا يجوز على الله تعالى إلا إذا كان على وجه الثبوت والقصد هو الإرادة وهي من صفات الكمال قال ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ .أي قصد واسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استولىقد استوى بشر على العراق ..... من غير سيف ودم مهراقوالأخبار والآيات كثيرة منها صحيح وسقيم وما منها خبر إلا وله وجه من وجوه التنزيه .وإن أردت أن يقرب ذلك عليك فاعمد إلى اللفظة التي توهم التشبيه وخذ فائدتها وروحها أو ما يكون عنها فاجعله في حق الحق تفز بدرجة التنزيه .حين حاز غيرك درك التشبيه فهكذا فافعل وطهر ثوبك .ويكفي هذا القدر من هذه الأخبار فقد طال البابنفث الروح الأقدس في الروع الأنفس [المعنى الرمزى لالفاظ التشبيه بلسان الشرع]بما تقدم من الألفاظ لما تعجب المتعجب ممن خرج على صورته وخالفه في سريرته ففرح بوجوده وضحك من شهوده وغضب لتوليه وتبشبش لتدليه ونسي ظاهره وتنفس فأطلق مواخره وثبت على ملكه وتحكم بالتقدير على ملكه .فكان ما أراد وإلى الله المعاد فهذه أرواح مجردة تنظرها أشباح مسندة فإذا بلغ الميقات وانقضت الأوقات ومارت السماء وكورت الشمس وبدلت الأرض وانكدرت النجوم وانتقلت الأمور وظهرت الآخرة وحشر الإنسان وغيره في الحافرة .حينئذ تحمد الأشباح وتتنسم الأرواح ويتجلى الفتاح ويتقد المصباح وتشعشع الراح ويظهر الود الصراح ويزول الإلحاح ويرفرف الجناح ويكون الابتناء بالضراح من أول الليل إلى الإصباح. فما أسناها من منزله وما أشهاها إلى النفوس من حالة مكملة متعنا الله بها..