الباب الثاني عشر في معرفة دورة فلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .كتاب الفتوحات المكية في معرفة أسرار المالكية والملكية المجلد الأول
الشيخ الأكبر محيي الدين أبو عبد الله محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي قدس الله روحه
الباب الثاني عشر في معرفة دورة فلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
(بسم الله الرحمن الرحيم)
وهي دورة السيادة وأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقه الله تعالى
إلا بأبي من كان ملكا وسيدا ..... وآدم بين الماء والطين واقف
فذاك الرسول الأبطحي محمد ..... له في العلى مجد تليد وطارف
أتى بزمان السعد في آخر المدى ..... وكانت له في كل عصر مواقف
أتى لانكسار الدهر يجبر صدعه ..... فأثنت عليه ألسن وعوارف
إذا رام أمرا لا يكون خلافه ..... وليس لذاك الأمر في الكون صارف
[وجود روح محمد في عالم الغيب]اعلم أيدك الله أنه لما خلق الله الأرواح المحصورة المدبرة للأجسام بالزمان عند وجود حركة الفلك لتعيين المدة المعلومة عند الله وكان عند أول خلق الزمان بحركته خلق الروح المدبرة روح محمد صلى الله عليه وسلم ثم صدرت الأرواح عند الحركات فكان لها وجود في عالم الغيب دون عالم الشهادة وأعلمه الله بنبوته وبشره بها وآدم لم يكن إلا كما قال بين الماء والطين وانتهى الزمان بالاسم الباطن في حق محمد صلى الله عليه وسلم إلى وجود جسمه وارتباط الروح به انتقل حكم الزمان في جريانه إلى الاسم الظاهر فظهر محمد صلى الله عليه وسلم بذاته جسما وروحا فكان الحكم له باطنا أولا في جميع ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء والرسل سلام الله عليهم أجمعين ثم صار الحكم له ظاهرا فنسخ كل شرع أبرزه الاسم الباطن بحكم الاسم الظاهر لبيان اختلاف حكم الاسمين وإن كان المشرع واحدا وهو صاحب الشرع فإنه قال كنت نبيا وما قال كنت إنسانا ولا كنت موجودا وليست النبوة إلا بالشرع المقرر عليه من عند الله فأخبر أنه صاحب النبوة قبل وجود الأنبياء الذين هم نوابه في هذه الدنيا كما قررناه فيما تقدم من أبواب هذا الكتاب[استدارة الزمان]فكانت استدارته انتهاء دورته بالاسم الباطن وابتداء دورة أخرى بالاسم الظاهر فقال استدار كهيئته يوم خلقه الله في نسبة الحكم لنا ظاهرا كما كان في الدورة الأولى منسوبا إلينا باطنا أي إلى محمد وفي الظاهر منسوبا إلى من نسب إليه من شرع إبراهيم وموسى وعيسى وجميع الأنبياء والرسل[الأنبياء الحرم والأشهر الحرم]وفي الأنبياء من الزمان أربعة حرم هود وصالح وشعيب سلام الله عليهم ومحمد صلى الله عليه وسلم وعينها من الزمان ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر ولما كانت العرب تنسأ في الشهور فترد المحرم منها حلالا والحلال منها حراما وجاء محمد صلى الله عليه وسلم فرد الزمان إلى أصله الذي حكم الله به عند خلقه فعين الحرم من الشهور على حد ما خلقها الله عليه فلهذا قال في اللسان الظاهر إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقه الله كذلك استدار الزمان فأظهر محمدا صلى الله عليه وسلم كما ذكرناه جسما وروحا بالاسم الظاهر حسا فنسخ من شرعه المتقدم ما أراد الله أن ينسخ منه وأبقى ما أراد الله أن يبقى منه وذلك من الأحكام خاصة لا من الأصول[ظهور محمد في دورة الميزان]ولما كان ظهوره بالميزان وهو العدل في الكون وهو معتدل لأن طبعه الحرارة والرطوبة كان من حكم الآخرة فإن حركة الميزان متصلة بالآخرة إلى دخول الجنة والنار ولهذا كان العلم في هذه الأمة أكثر مما كان في الأوائل وأعطى محمد صلى الله عليه وسلم علم الأولين والآخرين لأن حقيقة الميزان تعطي ذلك وكان الكشف أسرع في هذه الأمة مما كان في غيرها لغلبة البرد واليبس على سائر الأمم قبلنا وإن كانوا أذكياء وعلماء فآحاد منهم معينون بخلاف ما هم الناس اليوم عليه ألا ترى هذه الأمة قد ترجمت جميع علوم الأمم ولو لم يكن المترجم عالما بالمعنى الذي دل عليه لفظ المتكلم به لما صح أن يكون هذا مترجما ولا كان ينطلق على ذلك اسم الترجمة فقد علمت هذه الأمة علم من تقدم واختصت بعلوم لم تكن للمتقدمين ولهذاأشار صلى الله عليه وسلم بقوله فعلمت علم الأولين وهم الذين تقدموه ثم قال والآخرينوهو علم ما لم يكن عند المتقدمين وهو ما تعلمه أمته من بعده إلى يوم القيامة فقد أخبر أن عندنا علوما لم تكن قبل فهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم لنا وهو الصادق بذلك[السيادة المحمدية في العلم والحكم]فقد ثبتت له صلى الله عليه وسلم السيادة في العلم في الدنيا وثبتت له أيضا السيادة في الحكم حيثقال لو كان موسى حيا ما وسعه إلا إن يتبعنيويبين ذلك عند نزول عيسى عليه السلام وحكمه فينا بالقرآن فصحت له السيادة في الدنيا بكل وجه ومعنى ثم أثبت السيادة له على سائر الناس يوم القيامة بفتحه باب الشفاعة ولا يكون ذلك لنبي يوم القيامة إلا له صلى الله عليه وسلم فقد شفع صلى الله عليه وسلم في الرسل والأنبياء أن تشفع نعم وفي الملائكة فاذن الله تعالى عند شفاعته في ذلك لجميع من له شفاعة من ملك ورسول ونبي ومؤمن أن يشفع فهو صلى الله عليه وسلم أول شافع بإذن الله وارحم الراحمين آخر شافع يوم القيامة فيشفع الرحيم عند المنتقم أن يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط فيخرجهم المنعم المتفضل وأي شرف أعظم من دائرة تدار يكون آخرها أرحم الراحمين وآخر الدائرة متصل بأولها فأي شرف أعظم من شرف محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان ابتداء هذه الدائرة حيث اتصل بها آخرها لكما لها فبه سبحانه ابتدأت الأشياء وبه كملت وما أعظم شرف المؤمن حيث تلت شفاعته بشفاعة أرحم الراحمين فالمؤمن بين الله وبين الأنبياء فإن العلم في حق المخلوق وإن كان له الشرف التام الذي لا تجهل مكانته ولكن لا يعطي السعادة في القرب الإلهي إلا بالإيمان فنور الايمان في المخلوق أشرف من نور العلم الذي لا إيمان معه فإذا كان الايمان يحصل عنه العلم فنور ذلك العلم المولد من نور الايمان أعلى وبه يمتاز على المؤمن الذي ليس بعالم فيرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين درجات على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم ويزيد العلم باللهفإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه أنتم أعلم بمصالح دنياكم[الامتيازات المحمدية من وحي أمر السماوات السبع]فلا فلك أوسع من فلك محمد صلى الله عليه وسلم فإن له الإحاطة وهي لمن خصه الله بها من أمته بحكم التبعية فلنا الإحاطة بسائر الأمم ولذلك كنا شهداء على الناس فأعطاه الله من وحي أمر السموات ما لم يعط غيره في طالع مولده فمن الأمر المخصوص بالسماء الأولى من هناك لم يبدل حرف من القرآن ولا كلمة ولو ألقى الشيطان في تلاوته ما ليس منها بنقص أو زيادة لنسخ الله ذلك وهذا عصمة ومن ذلك الثبات ما نسخت شريعته بغيرها بل ثبتت محفوظة واستقرت بكل عين ملحوظة ولذلك تستشهد بها كل طائفة ومن الأمر المخصوص بالسماء الثانية من هناك أيضا خص بعلم الأولين والآخرين والتؤدة والرحمة والرفق وكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً وما أظهر في وقت غلظة على أحد إلا عن أمر إلهي حين قيل له جاهِدِ الْكُفَّارَ والْمُنافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ فأمر به لما لم يقتض طبعه ذلك وإن كان بشرا يغضب لنفسه ويرضى لنفسه فقد قدم لذلك دواءنا فما يكون في ذلك الغضب رحمة من حيث لا يشعر بها في حال الغضب فكان يدل بغضبه مثل دالته برضاه وذلك لأسرار عرفناها ويعرفها أهل الله منا فصحت له السيادة على العالم من هذا الباب فإن غير أمته قيل فيهم يُحَرِّفُونَهُ من بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وهُمْ يَعْلَمُونَ فأضلهم الله على علم وتولى الله فينا حفظ ذكره فقال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ لأنه سمع العبد وبصره ولسانه ويده واستحفظ كتابه غير هذه الأمة فحرفوه ومن الأمر المخصوص من وحي السماء الثالثة من هناك أيضا السيف الذي بعثه به والخلافة واختص بقتال الملائكة معه منها أيضا فإن ملائكة هذه السماء قاتلت معه يوم بدر ومن هذه السماء أيضا بعث من قوم ليس لهم همة إلا في قرى الأضياف ونحر الجزر والحروب الدائمة وسفك الدماء وبهذا يتمدحون ويمدحون قيل في بعضهمضروب بنصل السيف سوق سمانها ..... إذا عدموا زادا فإنك عاقر
«و قال الآخر منهم يمدح قومه»لا يبعدن قومي الذين همو ..... سم العداة وآفة الجزر
النازلون بكل معترك ..... والطيبون معاقد الأزر
فمدحهم بالكرم والشجاعة والعفة يقول عنترة بن شداد في حفظ الجار في أهلهوأغض طرفي ما بدت لي جارتي ..... حتى يواري جارتي مأواها
ولا خفاء عند كل أحد بفضل العرب على العجم بالكرم والحماسة والوفاء وإن كان في العجم كرماء وشجعان ولكن آحاد كما إن في العرب جبناء وبخلاء ولكن أحاد وإنما الكلام في الغالب لا في النادر وهذا ما لا ينكره أحد فهذا مما أوحى الله في هذه السماء فهذا كله من الأمر الذي يتنزل بين السماء والأرض لمن فهم ولو ذكرنا على التفصيل ما في كل سماء من الأمر الذي أوحى الله سبحانه فيها لأبرزنا من ذلك عجائب ربما كان ينكرها بعض من ينظر في ذلك العلم من طريق الرصد والتسيير من أهل التعاليم ويحار المنصف منهم فيه إذا سمعه ومن الوحي المأمور به في السماء الرابعة نسخه بشريعته جميع الشرائع وظهور دينه على جميع الأديان عند كل رسول ممن تقدمه وفي كل كتاب منزل فلم يبق لدين من الأديان حكم عند الله إلا ما قرر منه فبتقريره ثبت فهو من شرعه وعموم رسالته وإن كان بقي من ذلك حكم فليس هو من حكم الله إلا في أهل الجزية خاصة وإنما قلنا ليس هو حكم الله لأنه سماه باطلا فهو على من اتبعه لا له فهذا أعني بظهور دينه على جميع الأديان كما قال النابغة في مدحهأ لم تر أن الله أعطاك سورة ..... ترى كل ملك دونها يتذبذب
بأنك شمس والملوك كواكب ..... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وهذه منزلة محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلة ما جاء به من الشرع من الأنبياء وشرائعهم سلام الله عليهم أجمعين فإن أنوار الكواكب اندرجت في نور الشمس فالنهار لنا والليل وحده لأهل الكتب إذا أعطوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهُمْ صاغِرُونَ وقد بسطنا في التنزلات الموصلية من أمر كل سماء ما إذا وقفت عليه عرفت بعض ما في ذلك ومن الوحي المأمور به في السماء الخامسة من هناك المختص بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه ما ورد قط عن نبي من الأنبياء أنه حبب إليه النساء إلا محمد صلى الله عليه وسلم وإن كانوا قد رزقوا منهن كثيرا كسليمان عليه السلام وغيره ولكن كلامنا في كونه حبب إليه وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان نبيا وآدم بين الماء والطين كما قررناه وعلى الوجه الذي شرحناه فكان منقطعا إلى ربه لا ينظر معه إلى كون من الأكوان لشغله بالله عنه فإن النبي مشغول بالتلقي من الله ومراعاة الأدب فلا يتفرغ إلى شيء دونه فحبب الله إليه النساء فأحبهن عناية من الله بهن فكان صلى الله عليه وسلم بحبهن بكون الله حببهن إليه خرج مسلم في صحيحه في أبواب الايمان أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلمإني أحب أن يكون نعلي حسنا وثوبي حسنافقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله جميل يحب الجمالومن هذه السماء حب الطيب وكان من سنته النكاح لا التبتل وجعل النكاح عبادة للسر الإلهي الذي أودع فيه وليس إلا في النساء وذلك ظهور الأعيان للثلاثة الأحكام التي تقدم ذكرها في الإنتاج عن المقدمتين والرابط الذي جعله علة الإنتاج فهذا الفضل وما شاكله مما اختص به محمد صلى الله عليه وسلم وزاد فيه بنكاح الهبة كما جعل في أمته فيما يبين لها من النكاح لمن لا شيء له من الأعواض بما يحفظه من القرآن خاصة لا أنه يعلمها وهذا وإن لم يقو قوة الهبة ففيه اتساع للامة وليس في الوسع استيفاء ما أوحى الله من الأمر في كل سماء ومن الأمر الموحى في السماء السادسة إعجاز القرآن والذي أعطيه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم من هذه السماء تنزل إليه ولم يعط ذلك نبي قبله وقد قال أعطيت ستا لم يعطهن نبي قبلي وكل ذلك أوحي في السموات من قوله وأَوْحى في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها فجعل في كل سماء ما يصلح تنفيذه في الأرض في هذا الخلق فكان من ذلك أن بعث وحده إلى الناس كافة فعمت رسالته وهذا مما أوحى الله به في السماء الرابعة ونصر بالرعب وهو مما أوحى الله به في السماء الثالثة من هناك ومنها ما حلل الله له من الغنائم وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا من السماء الثانية من هناك أوتيت جوامع الكلم من أمر وحي السماء السادسة ومن أمر هذه السماء ما خصه الله به من إعطائه إياه مفاتيح خزائن الأرض ومن الوحي المأمور به في السماء السابعة من هناك وهي السماء الدنيا التي تلينا كون الله خصه بصورة الكمال فكملت به الشرائع وكان خاتم النبيين ولم يكن ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم فبهذا وأمثاله انفرد بالسيادة الجامعة للسيادات كلها والشرف المحيط الأعم صلى الله عليه وسلم فهذا قد نبهنا على ما حصل له في مولده من بعض ما أوحى الله به في كل سماء من أمره[الميزان والزمان]وقوله الزمان ولم يقل الدهر ولا غيره ينبه على وجود الميزان فإنه ما خرج عن الحروف التي في الميزان بذكر الزمان وجعل ياء الميزان مما يلي الزاي وخفف الزاي وعددها في الزمان إشعارا بأن في هذه الزاي حرفا مدغما فكان أول وجود الزمان في الميزان للعدل الروحاني وفي الاسم الباطن لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله كنت نبيا وآدم بين الماء والطين ثم استدار بعد انقضاء دورة الزمان التي هي ثمانية وسبعون ألف سنة ثم ابتدأت دورة أخرى من الزمان بالاسم الظاهر فظهر فيها جسم محمد صلى الله عليه وسلم وظهرت شريعته على التعيين والتصريح لا بالكناية واتصل الحكم بالآخرة فقال تعالى ونَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ وقيل لنا وأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ولا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ وقال تعالى والسَّماءَ رَفَعَها ووَضَعَ الْمِيزانَ فبالميزان أَوْحى في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وبه قدر في الأرض أقواتها ونصبه الحق في العالم في كل شيء فميزان معنوي وميزان حسي لا يخطئ أبدا فدخل الميزان في الكلام وفي جميع الصنائع المحسوسة وكذلك في المعاني إذ كان أصل وجود الأجسام والأجرام وما تحمله من المعاني عند حكم الميزان وكان وجود الميزان وما فوق الزمان عن الوزن الإلهي الذي يطلبه الاسم الحكيم ويظهره الحكم العدل لا إله إلا هو وعن الميزان ظهر العقرب وما أوحى الله فيه من الأمر الإلهي والقوس والجدي والدلو والحوت والحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة[انتهاء الدورة الزمانية إلى الميزان]وانتهت الدورة الزمانية إلى الميزان لتكرار الدور فظهر محمد صلى الله عليه وسلم وكان له في كل جزء من أجزاء الزمان حكم اجتمع فيه بظهوره صلى الله عليه وسلم وهذه الأسماء أسماء ملائكة خلقهم الله وهم الاثنا عشر ملكا وجعل لهم الله مراتب في الفلك المحيط وجعل بيد كل ملك ما شاء أن يجعله مما يبرزه فيمن هو دونهم إلى الأرض حكمة فكانت روحانية محمد صلى الله عليه وسلم تكتسب عند كل حركة من الزمان أخلاقا بحسب ما أودع الله في تلك الحركات من الأمور الإلهية فما زالت تكتسب هذه الصفات الروحانية قبل وجود تركيبها إلى أن ظهرت صورة جسمه في عالم الدنيا بما جبله الله عليه من الأخلاق المحمودة فقيل فيه وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فكان ذا خلق لم يكن ذا تخلق ولما كانت الأخلاق تختلف أحكامها باختلاف المحل الذي ينبغي أن يقابل بها احتاج صاحب الخلق إلى علم يكون عليه حتى يصرف في ذلك المحل الخلق الذي يليق به عن أمر الله فيكون قربة إلى الله فلذلك تنزلت الشرائع لتبين للناس محال أحكام الأخلاق التي جبل الإنسان عليها فقال الله في مثل ذلك ولا تقل لهما أف لوجود التأفيف في خلقه فأبان عن المحل الذي لا ينبغي أن يظهر فيه حكم هذا الخلق ثم بين المحل الذي ينبغي أن يظهر فيه هذا الخلق فقال أُفٍّ لَكُمْ ولِما تَعْبُدُونَ من دُونِ الله وقال تعالى فَلا تَخافُوهُمْ فأبان عن المحل الذي ينبغي أن لا يظهر فيه خلق الخوف ثم قال لهم خافُونِ فأبان لهم حيث ينبغي أن يظهر حكم هذه الصفة وكذلك الحسد والحرص وجميع ما في هذه النشأة الطبيعية الظاهر حكم روحانيتها فيها قد أبان الله لنا حيث نظهرها وحيث نمنعها فإنه من المحال إزالتها عن هذه النشأة إلا بزوالها لأنها عينها والشيء لا يفارق نفسهقال صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين وقال زادك الله حرصا ولا تعدوإنما قلنا الظاهر حكم روحانيتها فيها تحرزنا بذلك من أجل أهل الكشف والعلماء الراسخين في العلم من المحققين العالمين فإن المسمى بالجماد والنبات عندنا لهم أرواح بطنت عن إدراك غير أهل الكشف إياها في العادة لا يحس بها مثل ما يحسها من الحيوان فالكل عند أهل الكشف حيوان ناطق بل حي ناطق غير إن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير بالصورة ووقع التفاضل بين الخلائق في المزاج فإنه لا بد في كل ممتزج من مزاج خاص لا يكون إلا له به يتميز عن غيره كما يجتمع مع غيره في أمر فلا يكون عين ما يقع به الافتراق والتميز عين ما يقع به الاشتراك وعدم التميز فاعلم ذلك وتحققه[العالم كله حي عالم ناطق]قال تعالى وإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وشيء نكرة ولا يسبح إلا حي عاقل عالم بمسبحه وقد ورد أن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب ويابس والشرائع والنبوات من هذا القبيل مشحونة ونحن زدنا مع الايمان بالأخبار الكشف فقد سمعنا الأحجار تذكر الله رؤية عين بلسان نطق تسمعه آذاننا منها وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله مما ليس يدركه كل إنسان فكل جنس من خلق الله أمة من الأمم فطرهم الله على عبادة تخصهم أوحى بها إليهم في نفوسهم فرسولهم من ذواتهم إعلام من الله بإلهام خاص جبلهم عليه كعلم بعض الحيوانات بأشياء يقصر عن إدراكها المهندس النحر يرو علمهم على الإطلاق بمنافعهم فيما يتناولونه من الحشائش والمأكل وتجنب ما يضرهم من ذلك كل ذلك في فطرتهم كذلك المسمى جمادا ونباتا أخذ الله بأبصارنا وأسماعنا عماهم عليه من النطق ولا تقوم الساعة حتى تكلم الرجل فخذه بما فعله أهله جعل الجهلاء من الحكماء هذا إذا صح إيمانهم به من باب العلم بالاختلاج يريدون به علم الزجر وإن كان علم الزجر علما صحيحا في نفس الأمر وأنه من أسرار الله ولكن ليس هو مقصود الشارع في هذا الكلام فكان له صلى الله عليه وسلم الكشف الأتم فيرى ما لا نرى ولقد نبه عليه السلام على أمر عمل عليه أهل الله فوجدوه صحيحاقوله لو لا تزييد في حديثكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمعفخص برتبة الكمال في جميع أموره ومنها الكمال في العبودية فكان عبدا صرفا لم يقم بذاته ربانية على أحد وهي التي أوجبت له السيادة وهي الدليل على شرفه على الدوام وقد قالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانهولنا منه ميراث وافر وهو أمر يختص بباطن الإنسان وقوله وقد يظهر خلاف ذلك بأفعاله مع تحققه بالمقام فيلتبس على من لا معرفة له بالأحوال فقد بينا في هذا الباب ما مست الحاجة إليه. والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ