منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 7:35 am

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

مقدمة الشارح النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

مقدمة الشارح النابلسى جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص

الحمد لله الذي بذاته ثبتت الأعيان , وبصفاته تفصلت الأكوان و بأفعاله ظهر التغير و تبينت الزيادة والنقصان، ثم بأسمائه برزت حقيقة الإنسان، وبأحكامه تمیزت الشقاوة من السعادة والسخط من الرضوان .
والصلاة والسلام على مجمل هذا التفصيل وتفصيل هذا المجمل.
ذاتي السر وصفاتي القلب وأفعالي النفس وأسمائي العقل وأحكامي الجسم الكامل المكمل.
وعلى كل من آل إليه واتحد به في انعطافة عليه ومن صحبه بالتميز بينه وبينه ليمتع بالنظر إليه عينه، والتابعين لهم بإحسان إلى آخر الزمان.
أما بعد:
فيقول أسير الذنوب وإناء النقائص والعيوب عبد الغني النابلسي، الحنفي مذهبا القادري مشربا، خادم نعال السادات والمنتصب لنصرة فقراء الطريق أرباب السيادات، أخذ الله بيده وأمده بمدده .
هذا شرح مختصر وضعته على كتاب "فصوص الحكم" الذي صنفه بحر المعارف الإلهية وترجمان العلوم الربانية الشيخ الأكبر والقطب الأفخر الشيخ محيي الدين ابن العربي الطائي الأندلسي قدس الله سره وأعلى في حضرة القرب مقره.
لما رأيت شروحه مغلقة العبارات صعبة الإشارات لا تبرد من كيد القاصرين غلة، ولا تشفي لأهل البداية علة .
حتى لا يكاد ينتفع بها غير أهل الأذواق من السادات الأجلة، فأردت أن أوضح مشكله وأفصل مجمله بأظهر ما تيسر لي من الكلام وعلى حسب الفتح والإلهام.
وسميته «جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص».
وبالله المستعان وعليه التكلان وهو حسبي ونعم الوكيل .
"والله يقول الحق وهو يهدي السبيل" آية 4 سورة الأحزاب.
اعلم أن العلوم ثلاثة :
علم القول
وعلم الفهم
وعلم الشهود.
فعلم القول للمقلدين القاصرين، وعلم الفهم للناظرين المستدلين، وعلم الشهود للعارفين الذائقين.
وقد انقسم الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالشرائع والأحكام إلى ثلاثة أقسام:
إيمان المقلدين :
وهو بالقول فقط مع طمأنينة قلوبهم إليه من غير فهم.
وقد اعتبره الشارع وسماه إيمانا حيث قال : "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا" آية 136 سورة البقرة .
وقال لنبيه عليه السلام: "قل هو الله أحد " آية 1 سورة الإخلاص إلى آخر السورة. ونحو ذلك .
وإيمان المستدلين:
وهو بالفهم مع القول فقط .
وقد دعا الله تعالى إليه حيث قال : "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" آية 101 سورة يونس.
وقال : "أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا " آية 48 سورة النحل إلى غير ذلك.
وأصحاب هذين القسمين من الإيمان أبحاثهم عند علمائهم، وقد صنفنا في إيمانهم كتبا مختصرة ومطولة، وليس هذا الكتاب موضع بيان ذلك.
وأما القسم الثالث : فهو إيمان العارفين :
وهو بالشهود فقط بعد القول والفهم كما قال الله تعالى:"  شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)سورة آل عمران.
ومن عظيم أسرار هذه الآية أن الشهادة ذكرت فيها مرة وأسندت إلى ثلاثة حقائق : الله والملائكة وأولو العلم، فدل أن الشهادة واحدة أسندت إلى الله أولا ، ثم تنزلت إلى الملك، ثم إلى صاحب العلم.
فهي في الله فعل، وفي الملك وصاحب العلم تفويض.
وبالتفويض يقع الشهود فإن الله لا ينسب إليك شهادته إلا إذا فوضت إليه.
وإذا فوضت إليه محقك من عينك، فكان هو الشاهد والمشهود، في هذا المقام يقول بعض العارفين : ما عرف الله إلا الله .
واعلم أن هذا الكتاب الجليل الذي هو «فصوص الحكم» إنما هو في إيمان أهل الشهود فقط.
لا إيمان أهل الأقوال أو أهل الاستدلال
فلا يفهم إلا من ترقت همته عن حضيض القول والفهم .
وقد انخرق له حجاب الوهم وإلا فمن كان إيمانه مجرد لقلقة اللسان أو محض تصورات الأذهان فبعيد عليه فهم هذه الحقائق وشهود هذه الدقائق .
ولا شك أن أقسام الإيمان الثلاثة ترجع إلى قسم واحد وهو ما ورد عن الله تعالى. قاله المقلدون بأفواههم وتصوره المستدلون بأذهانهم وشهده العارفون بأسرارهم.
فهو في المقلد قول.
وفي المستدل تصور.
وفي العارف شهود.
بمنزلة من قال بلسانه نار، ومن تصور النار في ذهنه ومن أدرك حرارتها ببدنه، فالقائل يستند في قوله إلى غيره حاكي عنه.
والمتصور يستند في تصوره إلى ذهنه حاكية عنه.
والمشاهد يستند في شهوده إلى حقيقة ما شاهد حاكيا عنه.
فمعلم الأول آخر مثله
ومعلم الثاني فكره وذهنه.
ومعلم الثالث ربه .
كما قال بعض العارفين :
"أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت".
وشتان بين من ينطق عن غيره، أو عن فكره وبين من ينطق عن ربه، فالحق الذي يجب الإيمان به واحد، ولكن يختلف باختلاف الظهورات.
فظهوره في أصحاب الأقوال غير ظهوره في أصحاب الاستدلال غير ظهوره في أصحاب شهود الأحوال.
أرأيت إلى ما ذكرناه من النار، فإنها في لسان القائل على صورة غير صورتها في ذهن المنصور، غير صورتها في شهود من أحس بحرارتها، وهي حقيقة واحدة.
لم تتكرر ولكن ظهرت في كل موطن بحسب استعداده.
فإن اللسان لا استعداد فيه إلا للأقوال.
والذهن لا استعداد فيه إلا للتصور في الخيال.
وشهود الحس قد استعد لإدراك حقيقة الحال، ولا أتم من الظهور الشهودي، لأنه هو المقصود.
وأما الظهوران الأولان فإنما قصد منها حصوله، فهما مقصودان بالغير وهو مقصود بالذات.
وكذلك حقيقة الإيمان بالحق لها ظهور في لسان المقلدين، غیر ظهورها في تصور المستدلين الناظرين، غير ظهورها في شهود العارفين المحققين.
ولهذا اختلفت العبارات وتنوعت الإشارات وتكلمت كل طائفة بما عندها والكل مصیبون ولكلهم درجات عند ربهم "ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات" آية 32 سورة الزخرف.
ومعلوم أنه لا أتم من ظهور الحق تعالى الظهور الشهودي، ودونه الظهور الاستدلالي النظري الفكري، ودونه الظهور القولي التقليدي.
وهذا الكتاب الذي هو «فصوص الحكم» في بيان الظهور الشهودي.
فبالضرورة يجهله أصحاب الظهور القولي، وأصحاب الظهور الاستدلالي.
وينكرون منه ما يفهمونه على حسب ما هم فيه من القول والتصور.
وذلك لأن أصحاب كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة مرتبطون بحالتهم التي هم فيها يعتقدونها ويعبدون الله بها ويذمون ما عداها ويحافظون عليها لعدم علمهم من الله تعالى غيرها.
فلو تركوها تركوا مقدار ما علموه من الله تعالى وهو كفر.
فإذا أرادوا أن يفهموا ما هو فوق حالتهم التي هم عليها بغير تفهیم من الله تعالى، نزلت تلك الحالة العالية إلى حالتهم
السالفة، فأبطلت حالتهم التي هم فيها يدينون الله تعالى.
فلا يسعهم إلا إنكارها والتبري منها إذ لم تنزل إليهم على حسب ما هي عليه في نفسها بالنسبة إلى تحقق أصحابها بها.
وبيان ذلك أن ما نطق به المقلد من الحق واطمأن إليه قلبه من غير فهم هو مقدار ما علمه من الله تعالى، فهو محتفظ عليه يدين الله تعالی به .
فلو تكلم عنده صاحب الدليل الفكري بما يجده في تصوره من تنزيه الحق تعالى الذي هو مقدار ما علمه من الله تعالى ويدين الله تعالى به ويحتفظ عليه رأى ذلك المقلد أن الذي عند صاحب النظر والاستدلال من الحق تعالى غير الذي عنده.
فربما يذعن له ويطلب منه الوصول إلى درجته إن ظهر له كمالها ظهورة تقليدية ، وإن ظهر له نقصها ذمها وأنكرها عليه واحتفظ على ما عنده من التقليد المحض.
وكذلك صاحب الشهود إذا تكلم بما يجده في بصيرته من الحق تعالى عند صاحب التقليد أو صاحب النظر والاستدلال وجدا عنده ما ليس عندهما من الحق تعالى، فإن ظهر لهما كمال حالته إذعانا وتسليما وتوفيقا من الله تعالى.
طلبا حالته وسعيا في بلوغها وإن لم يظهر لهما ذلك احتفظا على مقدار ما علماه من الحق تعالى وأعرضا عنه مدحا وذما واشتغلا بأنفسهما إن كان فيهما بعض توفيق إلهي.
وإن خذلهما الله تعالى أنزلا حالته إلى ما هما فيه من القول والاستدلال، فظهرت حالته في قول المقلد مقالة كفر.
وفي ذهن المتصور الناظر زيغ وضلالا فأنكرا عليه حالته وما علما أن ما أنكراه منه مما فهما من حالته هو ينكره أيضا ويتبرأ منه.
غير أنهما لم يفهما حالته على ما هي عليه كما يفهمها هو.
فاضطر الأمر إلى ترجمان يكون عالما باللسانين واقفا على مقاصد الفريقين ليعتذر عن هذا الفريق لهذا الفريق وبالعكس.
فإن الذي أنكره علماء الرسوم على علماء الحقائق هو بعينه لو ظهر العلماء الحقائق من أنفسهم لأنكروه.
والذي اعترفت به علماء الحقائق وجهلوا فيه علماء الرسوم لو ظهر بعينه لعلماء الرسوم لآمنوا به وأذعنوا له من غير شك ولا تردد وكيف وهو ما تقوله علماء الرسوم بعينه.
ولكنه مفهوم بالفهم الرباني مؤيدة بالتوفيق الصمدانی والإلهام الرحماني.
وأرجو بعون الله تعالى أن أكون أنا ذلك الترجمان المذكور لهذا الكتاب الذي هو كتاب فصوص الحكم عناية وتوفيقة من الرب الغفور.
وحيث تمت المقدمة فلنشرع في المقصود بمعونة الرب المعبود.
فنقول وعلى الله القبول : قال الشيخ محيي الدين بن العربي قدس الله روحه ونور ضريحه :

.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 3:48 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 10:06 pm

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الثاني

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية

الكامل صلى اللّه عليه وسلم الذي قيل فيه "ولَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" [ الأحزاب : 21 ] (فاتخذه) ، أي ربك تعالى : ("وَكِيلًا") [ المزمل : 9 ] يتصرف عنك في جميع أمورك ظاهرا وباطنا .
قال رضي الله عنه :  (فالوكيل هو المتصرف) دون الموكل (ولا سيما) ، أي خصوصا (وقد سمع) ، أي أبو السعود المذكور (اللّه) تعالى يقول :  ("وَأَنْفِقُوا")  يا أيها الناس ("مِمَّا")، أي من الأمر الذي ("جَعَلَكُمْ") اللّه تعالى ("مُسْتَخْلَفِين") َبصيغة اسم المفعول عنه تعالى ("فِيهِ") [ الحديد : 7 ] من جميع الأمور والأحوال في الظاهر والباطن .
قال رضي الله عنه :  (فعلم) الشيخ (أبو السعود) المذكور والعارفون كلهم رضي اللّه عنهم (أن الأمر الذي بيده) ، أي يد كل واحد منهم (ليس) ملكا (له و)علم (أنه مستخلف فيه) ، أي استخلفه فيه الحق تعالى الذي هو صاحبه ومالكه (ثم قال له) ، أي لذلك الإنسان الحق تعالى (هذا الأمر الذي استخلفتك) ، أي جعلتك خليفة عني (فيه وملكتك إياه) وجعلتك بحيث يمكنك أن تظهر به في الدنيا بهمة نفسك (اجعلني واتخذني وكيلا) عنك (فيه) ولا تتصرف فيه أنت واتركني أتصرف فيه وحدي عنك (فامتثل) الشيخ أبو السعود رضي اللّه عنه أمر اللّه تعالى له ولأمثاله بذلك ("فَاتَّخِذْهُ")، أي الحق تعالى ("وَكِيلًا") [ المزمل : 9 ] عنه في جميع أموره ولم يتصرف في أمر من الأمور أصلا لأجل ذلك من كمال معرفته باللّه تعالى .
وقد أشار الشيخ المصنف قدس اللّه سره في « الفتوحات المكية » أن هذا الشيخ أبو السعود المذكور تلميذ العارف الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي اللّه عنه ، ولكنه أكمل من شيخه الشيخ عبد القادر الكيلاني لتركه التصرف بعد ملكه له ولم يتركه شيخه الشيخ عبد القادر الكيلاني وتصرف في العلم قدس اللّه سرهما .
(فكيف يبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر) الإلهي المذكور (همة) في قلبه (يتصرف بها) في كون من الأكوان (والهمة) القلبية من العارف باللّه تعالى لا تفعل ، أي لا تؤثر في شيء أصلا (إلا بالجمعية في) قلب العارف والتصميم بالتوجه من غير تردد أصلا (التي لا متسع) ، أي لا قدرة (لصاحبها) ، أي تلك الجمعية (إلى) إرادة (غير ما اجتمع) بقلبه (عليه) من الأمر الذي يريد كونه (وهذه المعرفة) المذكورة (تفرقه عن هذه الجمعية) فلا جمعية فلا تأثير بالهمة لهذا السبب (فيظهر العارف) باللّه تعالى (التام) ، أي الكامل (المعرفة بغاية العجز والضعف) عن انفعال الأشياء لهمته .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال بعض الأبدال للشّيخ عبد الرزّاق قل للشّيخ أبي مدين بعد السّلام عليه :  يا أبا مدين لم لا يعتاص علينا شيء وأنت تعتاص عليك الأشياء ونحن نرغب في مقامك وأنت لا ترغب في مقامنا ؟
وكذلك كان مع كون أبي مدين - رضي اللّه عنه - كان عنده ذلك المقام وغيره ، ونحن أتمّ في مقام العجز والضّعف منه .
ومع هذا قال له هذا البدل ما قال وهذا من ذلك القبيل أيضا .
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذا المقام عن أمر اللّه له بذلك « ما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتّبع إلّا ما يوحى إليّ » فالرّسول بحكم ما يوحى إليه ما عنده غير ذلك .
فإن أوحي إليه بالتّصرّف فيه بجزم تصرّف وإن منع امتنع ، وإن خيّر اختار ترك التّصرّف ، إلّا أن يكون ناقص المعرفة . )
 
قال رضي الله عنه : (قال بعض الأبدال) من أهل اللّه تعالى (للشيخ عبد الرزاق رضي اللّه عنه) تلميذ أبي مدين (قل للشيخ أبي مدين) رضي اللّه عنه (بعد السلام عليه : يا أبا مدين لم لا يعتاص) ، أي يصعب (علينا معشر الأبدال شيء نريده من الأكوان وأنت تعتاص) ، أي تصعب (عليك الأشياء) فلا تكاد تنفعل عن همتك وينفعل عن همتنا كل شيء ؟
ومع ذلك (نحن نرغب في) حصول (مقامك) الذي أنت فيه (وأنت لا ترغب في) نيل (مقامنا ) الذي نحن فيه وكان الشيخ أبو مدين رضي اللّه عنه قطب ذلك الزمان وصاحب الدائرة الكبرى في ذلك الوقت والأوان والجواب عن ذلك ما  سبق ذكره من الوجهين المتقدمين ونحوهما.
قال رضي الله عنه : (وكذلك كان) الأمر (مع كون أبي مدين رضي اللّه عنه كان عنده ذلك المقام) الذي للأبدال من أهل اللّه تعالى (وغيره) أيضا من المقامات وقال المصنف رضي اللّه تعالى عنه لأنه في مقام الفردية (ونحن أتم) ، أي أكمل (في مقام الضعف والعجز) عن كل شيء (منه) ، أي من الشيخ أبي مدين رضي اللّه عنه (ومع هذا) الضعف والعجز الذي فيه أقل من ضعفنا وعجزنا (قال له هذا البدل) المذكور بواسطة الشيخ عبد الرزاق (ما قال) فكيف قولنا في حقنا فهو بالأولى .
(وهذا) الأمر المذكور عن أبي مدين (من ذلك القبيل أيضا) ، أي هو مما يجاب به عن عدم تأثير الهمة من العارف الكامل .
(وقال) نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم في هذا المقام الذي يعجز فيه العارف الكامل عن تأثير همته في كل شيء (عن أمر اللّه) تعالى (له بذلك) القول قل (ما أدري ما يفعل بي) ، أي يفعل اللّه تعالى بقدرته ما يشاء (ولا) ما يفعل ما يشاء (بكم) وهذا أمر من عدم تأثير همته ومن تحققه بمقام العجز لكمال معرفته باللّه تعالى (إن) ، أي ما (اتبع) في جميع أحوالي (إلا ما) ، أي الذي (يوحى) ، أي يوحيه اللّه تعالى (إليّ) بواسطة الملك أو بدون ذلك (فالرسول) صلى اللّه عليه وسلم قائم في جميع أموره ظاهرا وباطنا (بحكم ما يوحى إليه به) من كل ما يريده اللّه تعالى (ما عنده غير ذلك) ، أي مجرد التبعية دون الاستقلال في شيء أصلا .
قال رضي الله عنه : (فإن أوحي إليه) من قبل الحق تعالى (بالتصرف) في أمر من الأمور (بجزم) من غير تخيير ولا إحالة على مشيئة (تصرف) في ذلك الأمر الذي أمر به لا يمكنه مخالفة أمر اللّه تعالى بكمال اتباعه صلى اللّه عليه وسلم وانقياده لإرادة ربه (وإن منع) عليه السلام ، أي منعه ربه عن مفارقة أمر امتنع عن ذلك الكمال التبعية أيضا فيه (وإن خيّر) ، أي خيره اللّه تعالى بين التصرف وعدمه كما ورد أن ملك الجبال أتاه فخيره عن أمر اللّه تعالى بين أن يطبق الأخشبين الجبلين في مكة على أهلها حين لم يؤمنوا وآذوه صلى اللّه عليه وسلم فأبى عليه السلام (اختار ترك التصرف) في شيء عن أمر نفسه ، وأوكل كل الأمور كلها إلى اللّه تعالى يتصرف فيها كيف يشاء.
وقال : وأفوّض أمري إلى اللّه إن اللّه بصير بالعباد إلا أن يكون ذلك العارف (ناقص المعرفة) باللّه تعالى فيكون من أهل غلبة الأحوال لا من أهل الرسوخ في المقامات فيغلب عليه حاله فيتحكم في العالم بهمته ، ويسلط جمعيته التامة من غير فرق على كل ما يريد ، فتنفعل له الأشياء .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال أبو السّعود لأصحابه المؤمنين به إنّ اللّه أعطاني التّصرّف منذ خمس عشرة سنة وتركناه تظرّفا هذا لسان ادلال .
وأمّا نحن فما تركناه تظرّفا - وهو تركه إيثارا - وإنّما تركناه لكمال المعرفة ، فإنّ المعرفة لا تقتضيه بحكم الاختيار . فمتى تصرّف العارف بالهمّة في العالم فعن أمر إلهيّ وجبر لا باختيار ، ولا نشكّ أنّ مقام الرّسالة يطلب التّصرّف لقبول الرّسالة الّتي جاء بها ، فيظهر عليه ما يصدّقه عند أمّته وقومه ليظهر دين اللّه . )

(قال) الشيخ (أبو السعود) بن الشبلي المتقدم ذكره رضي اللّه عنه (لأصحابه) ، أي تلامذته (المؤمنين به) ، أي المصدقين بشرف مقامه دون المنكرين عليه ، فإنه يزيدهم إنكارا بصدقه لهم في مقاله . قال تعالى :"وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ" [ آل عمران : 73 ] ، (إن اللّه أعطاني التصرف) في كل ما أريد من الأكوان (منذ خمسة عشر سنة) ، أي خيرني في التصرف والامتناع منه إذ لو كان مأمورا بالتصرف أو ممنوعا منه بلا تخيير ما ساغ له المخالفة بمقتضى مقام المتابعة ومع ذلك تركناه ، أي التصرف ، أي اختار تركه (تظرفا) ، أي طلبا للحالة الحسنة الظريفة عند كل أحد وهي أن لا يظهر بقهر النفوس وإذلال الرجال (هذا) القول منه رضي اللّه عنه (لسان إدلال) على اللّه تعالى ، لأنه مقتضى حال المحبوبية للحق تعالى .
(وأما نحن) وهو قول المصنف الشيخ الأكبر رضي اللّه عنه (فما تركناه) ، أي التصرف بعد أن خيرنا الحق تعالى فيه بمقتضى إيصالنا إليه (تظرفا) كما تركه الشيخ أبو السعود المذكور (وهو) ، أي معنى تركه تظرفا تركه إيثارا ، أي تقديما للحق تعالى على نفسه لأنه أحق به حيث لا يليق بسواه ، لهذا تقبله النفوس منه تعالى لحسنه منه ،ولا تقبله من غيره سبحانه لعدم حسنه من الغير.
(وإنما تركناه)، أي التصرف لكمال المعرفة باللّه تعالى (فإن المعرفة) الكاملة (لا تقتضيه) ، أي التصرف (بحكم الاختيار) ، والإرادة النفسانية إذا خير فيه العارف من غير جزم (فمتى تصرف العارف بالهمة في العالم) ، أي المخلوقات ، ورأينا ذلك منه مع كمال المعرفة الإلهية فيه (فعن أمر إلهي له) بذلك التصرف (وجبر) ، أي إلزام عليه به من جهة الحق تعالى (لا باختيار) وإرادة نفسانية منه بذلك أصلا ، لأن كمال المعرفة باللّه تعالى لا يعطي غير كمال المتابعة والانقياد للّه تعالى في الظاهر والباطن .
(ولا نشك) ، أي نقول قطعا من غير تردد (أن مقام الرسالة) النبوية (يطلب التصرف) في المرسل إليهم من الآية (لقبول الرسالة ) منه عن اللّه تعالى (التي جاء بها) إليهم (فيظهر عليه ما يصدق عند أمته وقومه) ، من خوارق العادات والتأثير بالهمة في إظهار الآيات والمعجزات (ليظهر) بذلك (دين اللّه) تعالى الحق عند المنكرين له المكذبين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والولي ليس كذلك ، ومع هذا فلا يطلبه الرّسول في الظّاهر لأنّ للرّسول الشّفقة على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجّة عليهم ، فإنّ في ذلك هلاكهم فيبقي عليهم .
وقد علم الرّسول أيضا أنّ الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة فمنهم من يؤمن عند ذلك ومنهم من يعرفه ويجحده ولا يظهر التّصديق به ظلما وعلوا وحسدا ومنهم من يلحق ذلك بالسّحر والإيهام . فلمّا رأت الرّسل ذلك وأنّه لا يؤمن إلّا من أنار اللّه قلبه بنور الإيمان ، ومتى لم ينظر الشّخص بذلك النّور المسمّى إيمانا فلا ينفع في حقّه الأمر المعجز
فقصرت الهمم عن طلب الأمور المعجزة لما لم يعمّ أثرها في النّاظرين ولا في قلوبهم.  كما قال في حقّ أكمل الرّسل وأعلم الخلق وأصدقهم في الحالإِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [ القصص : 56 ] ولو كان للهمّة أثر ولا بد ، لم يكن أحد أكمل من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا أعلى وأقوى همّة منه ، وما أثّرت في إسلام أبي طالب عمّه ، وفيه نزلت الآية الّتي ذكرناها .
ولذلك قال في الرّسول إنّه ما عليه إلّا البلاغ ، وقال تعالى :لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [ البقرة : 272 ].
وزاد في سورة القصص : وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [ القصص  : 56] أي بالّذين أعطوه العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة فأثبت أنّ العلم تابع للمعلوم .)
قال رضي الله عنه :  (والولي) الكامل المعرفة باللّه تعالى (ليس كذلك) ، أي مقام ولايته لا يقتضي ذلك لتقرر الدين وظهور حجة اللّه تعالى به على الناس (ومع هذا) المذكور (فلا يطلبه) ، أي التصرف (الرسول) صلى اللّه عليه وسلم (في الظاهر) إلا عن أمر إلهي يقتضي منه ذلك كقوله تعالى في حق موسى عليه السلام :"وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ" [ البقرة : 60 ] الآية.
وقوله تعالى :" وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ" ( 117 ) [ الأعراف : 117 ] ، وقال تعالى :" وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً" [ طه : 77 ] ، وهكذا كل الأنبياء عليهم السلام في ظهورهم بالآيات والمعجزات ، إما عن أمر في الظاهر أو في الباطن (لأن للرسول) كمال الشفقة والرأفة (على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجة ) ، أي حجة اللّه تعالى (عليهم ، فإن ذلك هلاكهم) سريعا (فيبقى عليهم) من بعض الالتباس لينفذ تقرير اللّه تعالى بالتكذيب عن شائبة عذر منهم ، فيخف الغضب الإلهي المتوجه على المكذبين .
قال رضي الله عنه :  (وقد علم الرسول) عليه السلام (أيضا أن الأمر المعجز إذا ظهر) على يده (للجماعة) من أمته لا يجتمعون كلهم على الإيمان والتصديق بمقتضى ذلك ، ولكن تختلف أحوالهم (فمنهم من يؤمن) بالحق حيث ظهر (عند ذلك) ويصدق به (ومنهم من يعرفه) ، أي الحق (ويجحده ) ، أي ينكره (ولا يظهر التصديق به ظلما) منه للحق ولأهله (وعلوا).
أي تكبرا على الحق أن يقبله من غيره وحسدا من نفسه لمن ظهر الحق على يده ومنهم من يلحق ذلك الأمر المعجز حيث ظهر بالسحر والإيهام ، أي الشعبذة والزخرفة الباطلة عنادا مع الحق وكفرا به .
قال رضي الله عنه :  (فلما رأت الرسل) عليهم السلام (ذلك) الاختلاف الذي يقع من أممهم عند ظهور الأمر المعجز على يدهم (وأنه لا يؤمن) بالحق عند ظهوره (إلا من أنار اللّه) تعالى (قلبه بنور الإيمان) الذي يقع فيه فيتسع لكل ما جاء به ذلك الرسول (ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمى إيمانا) ولم يتسع به صدره بل ضاق وانحصر بحكم الطبع والعادة (فلا ينفع في حقه) ذلك (الأمر المعجز) من الرسول الذي أتى بذلك .
قال رضي الله عنه :  (فقصرت) بسبب ذلك (الهمم) من الرسل عليهم السلام (عن طلب الأمور المعجزة) الخارقة للعادة من اللّه تعالى على صدقهم لما علموا (أنه لما لم يعم أثرها في) تحصيل الإيمان (الناظرين) إليها كلهم في ظواهرهم ولا في قلوبهم بل خص البعض دون البعض (كما قال) اللّه تعالى (في حق أكمل الرسل) كلهم عليهم السلام (وأعلم الخلق) باللّه تعالى (وأصدقهم) ، أي الخلق في الحال محمد رسولنا صلى اللّه عليه وسلم ("إِنَّكَ") يا محمد ("لا تَهْدِي") إلى دين اللّه تعالى ("مَنْ أَحْبَبْتَ") من الناس والأقارب والأجانب ، ولو جئت بالأمور الخارقة للعادة ("وَلكِنَّ اللَّهَ") سبحانه وتعالى هو الذي ("يَهْدِي") إلى دينه الحق والصراط المستقيم ("مَنْ يَشاءُ") [ القصص : 56 ] من عباده . وهذه الهداية بمعنى الإيصال لا الدلالة فإنه صلى اللّه عليه وسلم دل من أحبه ومن لم يحبه بحكم قوله تعالى : "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" [ الشورى: 52 ].   أي تدل "عليه" والموصل إلى ذلك هو اللّه تعالى .
قال رضي الله عنه :  (ولو كان للهمة) القلبية (أثر) فيما يريد صاحبها (ولا بد) ، أي بطريق اللزوم (لم يكن أحد أكمل) فيها من رسوله (صلى اللّه عليه وسلم ولا) أحد (أعلى والأقوى همة) قلبية (منه عليه السلام) ومع ذلك (ما أثرت) همته صلى اللّه عليه وسلم (في) حصول (إسلام أبي طالب عمّه) أخ أبيه عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم حين دخل عليه في مرض موته وقال له : يا عماه قل لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ، فامتنع ، فأدنى إليه أذنه وقال له : قلها ولو في أذني ، فأبى ومات على دين الأشياخ من قريش وفيه ، أي في أمر أبي طالب نزلت هذه الآية التي ذكرناها وهي قوله تعالى :" إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ " [ القصص : 56 ] .
ولذلك ، أي لأجل ما ذكر قال اللّه تعالى في حق الرسول أنه ما عليه إلا البلاغ ، أي إيصال الحق إلى الناس لا قبولهم له كما قال تعالى : " وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ" [ النور : 54 ] .
قال رضي الله عنه :  (وقال) تعالى : (" لَيْسَ عَلَيْكَ") يا أيها الرسول ("هُداهُمْ") ، أي هدايتهم (" وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ" [ البقرة : 272 ] وزاد) اللّه تعالى في آية :" إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ " في سورة القصص قوله تعالى : (" وَهُو") َ، أي اللّه تعالى ("أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" أي) [ القصص : 56 ] .
أعلم (بالذين أعطوه العلم بهدايتهم) من الأزل حين كشف عنهم بعلمه القديم وهم (في حال عدمهم) الأصلي (بأعيانهم) متعلق بأعطوه ، أي حقائقهم (الثابتة) غير المنفية بلا وجود فأثبت سبحانه بمقتضى هذه الآية (أن العلم) الإلهي الكاشف في الأزل عن كل شيء (تابع للمعلوم) المكشوف عنه على حسب ما هو عليه ذلك المعلوم في عينه الثابتة في العدم من دون وجود .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ظهر بتلك الصّورة في حال وجوده ، وقد علم اللّه ذلك منه أنّه هكذا يكون ، فلذلك قال :وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فلمّا قال مثل هذا قال أيضا :ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ لأنّ قولي على حدّ علمي في خلقيوَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ ق : 29 ] أي ما قدّرت عليهم الكفر الّذي يشقيهم ثمّ طلبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به ، بل ما عاملناهم إلّا بحسب ما علمناهم ، وما علمناهم إلّا بما أعطونا من نفوسهم ممّا هم عليه ، فإن كان ظلما فهم الظّالمون . ولذلك قال : وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ  يَظْلِمُونَ [الأعراف : 160 ] فما ظلمهم اللّه ، كذلك ما قلنا لهم إلّا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم ؛ وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ، ولا نقول كذا ، فما قلنا إلّا ما علمنا أنّا نقول فلنا القول منّا . ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السّماع منهم .
فالكلّ منّا ومنهم  .... والأخذ عنّا وعنهم
إن لا يكونوا منا  ..... فنحن لا شك منهم
فتحقّق يا وليّ هذه الحكمة الملكيّة من الكلمة اللّوطيّة فإنّها لباب المعرفة .
فقد بان لك السّرّ  ..... وقد اتّضح الأمر
وقد أدرج في الشّفع  .... الّذي قيل هو الوتر )


قال رضي الله عنه :  (فمن كان) في الأزل (مؤمنا في) حال (ثبوت عينه) ، أي حقيقته ثبوتا هو ضد النفي لا بمعنى الوجود (و) في (حال عدمه) الأصلي (ظهر) ذلك الثابت (بتلك الصورة) التي هي الإيمان (في حال وجوده) المستفاد من تجلي الحق تعالى عليه في حضرة سمعه وبصره (وقد علم اللّه) تعالى (ذلك) الوصف الذي هو ثابت فيه (منه في) الأزل (أنه هكذا) ، أي على الوصف المذكور (يكون) ، أي يوجد ، وكذلك من كان في الأزل كافرا أو فاسقا أو جاهلا أو مبتدعا وغير ذلك في حال ثبوت عينه ، يعلم اللّه تعالى منه ذلك فلا يوجد إلا كذلك .
قال رضي الله عنه :  (فلذلك) ، أي لأجل ما ذكر (قال) تعالى : (" وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" [ القصص : 56 ]
فلما قال) سبحانه مثل هذا المقول المذكور قال تعالى أيضا "ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ" [ ق : 29 ] ، أي عندي (لأن قولي) حق (على حد علمي) ، أي تابع لعلمي (في خلقي) فلا أقول إلا ما أعلم ، ولا أعلم إلا ما الأمر عليه ثابت في نفسه ، ويستحيل غير ذلك ("وَما أَنَا بِظَلَّامٍ") ، أي منسوب إلى الظلم .
كما يقال لحام وسمان منسوبان إلى اللحم والسّمن ، لا أنه صيغة مبالغة حتى يلزم منه محذور بأن المنفي المبالغة في الظلم لا مطلق الظلم ، فيقتضي ثبوت شيء من الظلم له تعالى : ("لِلْعَبِيدِ أي ما قدرت) في الأزل (عليهم) ، أي على بعض العبيد (الكفر الذي يشقيهم) بمخالفتم أمري قال رضي الله عنه :  (ثم طالبتهم) في الدنيا (بما ليس في وسعهم) أي طاقتهم وقدرتهم أن يأتوا به من الإيمان والطاعة (بل ما عاملناهم) في الأزل حين قدّرنا عليهم الشقاوة في الدنيا حين كلفناهم بعد أن خلقناهم إلا بحسب ما علمناهم عليه من الأوصاف في حال ثبوتهم في عدمهم الأصلي (وما علمناهم) كذلك في الأزل (إلا بما أعطونا من نفوسهم) ، وأحوالها في ظواهرهم وبواطنهم (مما هم عليه) في عالم الثبوت غير الوجود وغير المنفي ويسمى عالم الإمكان ، كما أن الوجود يسمى عالم الوجود ، والنفي يسمى عالم الاستحالة .
(فإن كان) فيما قدرنا عليهم من الأزل ثم أوجدناه فيهم من أحوالهم (ظلما) بسبب عدم تأثيرهم في شيء منه أصلا (فهم الظالمون) والأحق أنهم هم الذين يوصفون بهذا الوصف القبيح الذي هو الظلم لأنه لم يكن في علمنا إلا تبعا لما هو في أحوالهم الثابتة أزلا في عالم الإمكان ، واللّه تعالى منزه عن القبائح أزلا وأبدا .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 10:07 pm

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الثالث

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية

قال رضي الله عنه :  (ولذلك قال) سبحانه ("وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ") [ البقرة : 57 ] من أصل ثبوت أعيانهم كذلك كما ذكرنا (فما ظلمهم اللّه) تعالى ، لأنه أعطاهم خلقهم ، فأوجدهم على طبق ما هم عليه ، فله المنة عليهم والفضل بتشريفهم بحلة الوجود ، التي أعارها لهم على حسب ما أوجدهم أيضا قابلين له منها ، هذا من حيث وجودهم بأحوالهم التي هم عليها ، وأما من حيث الحكم عليهم بالأحكام الشرعية أمرا ونهيا ، فقد أشار إليه بقوله :
قال رضي الله عنه :  (كذلك ما قلنا لهم) من حيث التكاليف الشرعية (إلا ما أعطته ذاتنا) الإلهية الأزلية (أن نقول لهم) مما نحن عليه من الكمال الذاتي والجمال الذاتي .
فمن تبع أحكامه كمل وجمل على حسب استعداده ، فجذبناه إلينا لظهور بعض أوصافنا فيه بمقتضى استعداده .
بل جذبنا أو صافنا التي اتصف بلوائحها فانجذب معها إلينا ، ومن أعرض عن متابعة أحكامنا انقطع عنا (وذاتنا) الكمالية الجمالية المذكورة معلومة لنا ، أي مكشوفة عنها بعلمنا الأزلي (بما هي عليه أن نقول) لهم (كذا) من الأحكام ولا نقول كذا فالعلم الإلهي كاشف عن ذات اللّه تعالى وعن قولها أيضا .
قال رضي الله عنه :  (فما قلنا) لهم من الأحكام (إلا ما علمنا) منا (أنا نقول) لهم (فلنا القول) المنزل بالأحكام الشرعية في الأمر والنهي حاصل (منا) ، أي من حيث كمالنا وجمالنا وما يخالف ذلك (ولهم الامتثال وعدم الامتثال) بمقتضى ما هم عليه في أحوال أعيانهم الثابتة في عدمها الأصلي (مع السماع) لقولنا الحق وهو وصول الأحكام إليهم وإطلاعهم عليها لا قبل ذلك ، فإنه لا مؤاخذة كما قال سبحانه : " وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" [ الإسراء : 15 ] ، فإن الرسول يبلغهم الأحكام فيحصل السماع فتقوم الحجة عليهم (منهم) ، أي حامل ذلك الامتثال وعدمه والسماع من جهتهم .
[ شعر ]
فالكل منا ومنهم ... والأخذ عنا وعنهم
إن لا يكونون منا ... فنحن لا شك منهم
(فالكل) ، أي أعيانهم وأحوالهم وأحكامهم التي هم مكلفون بها (منا) أصلها  وهي الأحكام (ومنهم) أصلها وهي الأعيان والأحوال (والأخذ) ، أي تناول ذلك الكل المذكور (عنا) للأحكام (وعنهم) للأعيان والأحوال .
(إن لا يكونوا) ، أي إذا لم يكونوا من حيث أعيانهم وأحوالهم الثابتة (منا) بمقتضى حكم التجلي الذاتي من حضرة الأحدية في حضرة الواحدية التي هي حضرة الصفات والأسماء الإلهية حتى ثبتت فيها تلك الأعيان والأحوال .
(فنحن) من حيث حضرة الصفات والأسماء الإلهية التي تعينت من الذات الأحدية بسبب قيام الأعيان والأحوال الثابتة بها في أنفسها حال عدمها الأصلي (لا شك) أننا من الوجه المذكور (منهم) ، أي من تلك الأعيان والأحوال الثابتة ، وهو معنى قول تلميذ المصنف الشيخ صدر الدين القونوي رضي اللّه عنهما في كتابه النفحات في مبشرته التي رأى فيها شيخه رضي اللّه عنه.
آثار الأسماء من الأحكام والأحكام من الأحوال ، والأحوال تتعين من الذات بحسب الاستعداد أمر لا يعلل بشيء سواه ، يريد بآثار الأسماء الوجود المفاض على الأعيان الثابتة ، فإنه من أحكام الأحوال الإلهية التي هي الصفات والأسماء ، والأحوال الإلهية متعينة من الذات الإلهية بحسب الاستعداد الذي تقتضيه الأعيان الثابتة ، والاستعداد لا يعلل بعلة .

(فتحقق يا ولي) ، أي صديقي (هذه الحكمة الملكية من الحكمة اللوطية) المنسوبة إلى لوط عليه السلام فإنها من لباب ، أي خالص المعرفة باللّه تعالى
[ شعر ]
فقد بان لك السر ...  وقد اتضح الأمر
وقد أدرج في الشفع ... الذي قيل هو الوتر
(فقد بان) ، أي انكشف (لك) يا أيها السالك (السر) الإلهي الذي قام به كل شيء في الحس والعقل (وقد اتضح) لك (الأمر) الإلهي أيضا ، وهو عين السر من جهة عمومه ، وافترق السر عنه بقيد الخفاء ، فقيوم العالم من جهة بطونه سر ومطلقا أمر .
(وقد أدرج) ، أي اختفى فلم يتبين وتداخل فلم يتميز ولا يتداخل في نفس الأمر ولكن من قبيل قوله تعالى : "وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ( 20 )"  [البروج : 20 ] .
وقوله :" أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ" [ الرعد : 33 ] ونحو ذلك (في الشفع) وهو العبد المركب من عين ثابتة ووجود مفاض عليها (الذي قيل) .
أي قال صاحب الشرع بأن من جملة أسمائه أنه (هو الوتر) وهو الحق تعالى صاحب الذات والصفات والأفعال ، فكان المجموع عبدا كاملا لاندراج الغيب فيه واندراجه في الغيب .
فهو شهادة ذلك الغيب ، وذلك الغيب غيب في هذه الشهادة ، التي هي شهادته وما ظهرت هذه الشهادة إلا من ذلك الغيب وهو عالم الغيب والشهادة ستكتب شهادتهم والكاتب لها الغيب " كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ " [ الأنعام : 54 ].
والرحمة عين الشهادة وقوله : ويسألون أي يسألهم الكاتب عما كتب وهو قوله : " كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً " [ الإسراء : 14 ].
وما أعظم هذه الحكمة ! وما أشمل هذه الرحمة !
وقد أنشدني بعض الإخوان قول بعض المحققين من أولي العرفان :
سبحان من أظهر ناسوته  ..... سرسنا لا هوية الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا  ..... في صورة الآكل والشارب
"" أضاف المحقق :
هما بيتان من ثلاثة أبيات نسبت لشهيد العشق الإلهي الشيخ الحسين بن منصور الحلاج المولود سنة 244 هـ والمتوفى سنة 309 هـ والبيت الثالث هو :
حتى لقد عاينه خلقه  .... كلحظة الحاجب بالحاجب ""
وربما يقع الكتاب في غير أهله ممن احترق بنيران جهله .
فيقال له : افهم القيوميّة في الغيب والشيئية الهالكة في الشهادة ، واعلم أن الرب رب والعبد عبد ، وليس في الكلام ما يفيد الإشكال ، غير أنك قاصر الإدراك عن معرفة الرجال .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس نوفمبر 21, 2019 2:10 am

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الثاني

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية

الكامل صلى اللّه عليه وسلم الذي قيل فيه "ولَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" [ الأحزاب : 21 ] (فاتخذه) ، أي ربك تعالى : ("وَكِيلًا") [ المزمل : 9 ] يتصرف عنك في جميع أمورك ظاهرا وباطنا .
قال رضي الله عنه :  (فالوكيل هو المتصرف) دون الموكل (ولا سيما) ، أي خصوصا (وقد سمع) ، أي أبو السعود المذكور (اللّه) تعالى يقول :  ("وَأَنْفِقُوا")  يا أيها الناس ("مِمَّا")، أي من الأمر الذي ("جَعَلَكُمْ") اللّه تعالى ("مُسْتَخْلَفِين") َبصيغة اسم المفعول عنه تعالى ("فِيهِ") [ الحديد : 7 ] من جميع الأمور والأحوال في الظاهر والباطن .
قال رضي الله عنه :  (فعلم) الشيخ (أبو السعود) المذكور والعارفون كلهم رضي اللّه عنهم (أن الأمر الذي بيده) ، أي يد كل واحد منهم (ليس) ملكا (له و)علم (أنه مستخلف فيه) ، أي استخلفه فيه الحق تعالى الذي هو صاحبه ومالكه (ثم قال له) ، أي لذلك الإنسان الحق تعالى (هذا الأمر الذي استخلفتك) ، أي جعلتك خليفة عني (فيه وملكتك إياه) وجعلتك بحيث يمكنك أن تظهر به في الدنيا بهمة نفسك (اجعلني واتخذني وكيلا) عنك (فيه) ولا تتصرف فيه أنت واتركني أتصرف فيه وحدي عنك (فامتثل) الشيخ أبو السعود رضي اللّه عنه أمر اللّه تعالى له ولأمثاله بذلك ("فَاتَّخِذْهُ")، أي الحق تعالى ("وَكِيلًا") [ المزمل : 9 ] عنه في جميع أموره ولم يتصرف في أمر من الأمور أصلا لأجل ذلك من كمال معرفته باللّه تعالى .
وقد أشار الشيخ المصنف قدس اللّه سره في « الفتوحات المكية » أن هذا الشيخ أبو السعود المذكور تلميذ العارف الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي اللّه عنه ، ولكنه أكمل من شيخه الشيخ عبد القادر الكيلاني لتركه التصرف بعد ملكه له ولم يتركه شيخه الشيخ عبد القادر الكيلاني وتصرف في العلم قدس اللّه سرهما .
(فكيف يبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر) الإلهي المذكور (همة) في قلبه (يتصرف بها) في كون من الأكوان (والهمة) القلبية من العارف باللّه تعالى لا تفعل ، أي لا تؤثر في شيء أصلا (إلا بالجمعية في) قلب العارف والتصميم بالتوجه من غير تردد أصلا (التي لا متسع) ، أي لا قدرة (لصاحبها) ، أي تلك الجمعية (إلى) إرادة (غير ما اجتمع) بقلبه (عليه) من الأمر الذي يريد كونه (وهذه المعرفة) المذكورة (تفرقه عن هذه الجمعية) فلا جمعية فلا تأثير بالهمة لهذا السبب (فيظهر العارف) باللّه تعالى (التام) ، أي الكامل (المعرفة بغاية العجز والضعف) عن انفعال الأشياء لهمته .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال بعض الأبدال للشّيخ عبد الرزّاق قل للشّيخ أبي مدين بعد السّلام عليه :  يا أبا مدين لم لا يعتاص علينا شيء وأنت تعتاص عليك الأشياء ونحن نرغب في مقامك وأنت لا ترغب في مقامنا ؟
وكذلك كان مع كون أبي مدين - رضي اللّه عنه - كان عنده ذلك المقام وغيره ، ونحن أتمّ في مقام العجز والضّعف منه .
ومع هذا قال له هذا البدل ما قال وهذا من ذلك القبيل أيضا .
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذا المقام عن أمر اللّه له بذلك « ما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتّبع إلّا ما يوحى إليّ » فالرّسول بحكم ما يوحى إليه ما عنده غير ذلك .
فإن أوحي إليه بالتّصرّف فيه بجزم تصرّف وإن منع امتنع ، وإن خيّر اختار ترك التّصرّف ، إلّا أن يكون ناقص المعرفة . )
 
قال رضي الله عنه : (قال بعض الأبدال) من أهل اللّه تعالى (للشيخ عبد الرزاق رضي اللّه عنه) تلميذ أبي مدين (قل للشيخ أبي مدين) رضي اللّه عنه (بعد السلام عليه : يا أبا مدين لم لا يعتاص) ، أي يصعب (علينا معشر الأبدال شيء نريده من الأكوان وأنت تعتاص) ، أي تصعب (عليك الأشياء) فلا تكاد تنفعل عن همتك وينفعل عن همتنا كل شيء ؟
ومع ذلك (نحن نرغب في) حصول (مقامك) الذي أنت فيه (وأنت لا ترغب في) نيل (مقامنا ) الذي نحن فيه وكان الشيخ أبو مدين رضي اللّه عنه قطب ذلك الزمان وصاحب الدائرة الكبرى في ذلك الوقت والأوان والجواب عن ذلك ما  سبق ذكره من الوجهين المتقدمين ونحوهما.
قال رضي الله عنه : (وكذلك كان) الأمر (مع كون أبي مدين رضي اللّه عنه كان عنده ذلك المقام) الذي للأبدال من أهل اللّه تعالى (وغيره) أيضا من المقامات وقال المصنف رضي اللّه تعالى عنه لأنه في مقام الفردية (ونحن أتم) ، أي أكمل (في مقام الضعف والعجز) عن كل شيء (منه) ، أي من الشيخ أبي مدين رضي اللّه عنه (ومع هذا) الضعف والعجز الذي فيه أقل من ضعفنا وعجزنا (قال له هذا البدل) المذكور بواسطة الشيخ عبد الرزاق (ما قال) فكيف قولنا في حقنا فهو بالأولى .
(وهذا) الأمر المذكور عن أبي مدين (من ذلك القبيل أيضا) ، أي هو مما يجاب به عن عدم تأثير الهمة من العارف الكامل .
(وقال) نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم في هذا المقام الذي يعجز فيه العارف الكامل عن تأثير همته في كل شيء (عن أمر اللّه) تعالى (له بذلك) القول قل (ما أدري ما يفعل بي) ، أي يفعل اللّه تعالى بقدرته ما يشاء (ولا) ما يفعل ما يشاء (بكم) وهذا أمر من عدم تأثير همته ومن تحققه بمقام العجز لكمال معرفته باللّه تعالى (إن) ، أي ما (اتبع) في جميع أحوالي (إلا ما) ، أي الذي (يوحى) ، أي يوحيه اللّه تعالى (إليّ) بواسطة الملك أو بدون ذلك (فالرسول) صلى اللّه عليه وسلم قائم في جميع أموره ظاهرا وباطنا (بحكم ما يوحى إليه به) من كل ما يريده اللّه تعالى (ما عنده غير ذلك) ، أي مجرد التبعية دون الاستقلال في شيء أصلا .
قال رضي الله عنه : (فإن أوحي إليه) من قبل الحق تعالى (بالتصرف) في أمر من الأمور (بجزم) من غير تخيير ولا إحالة على مشيئة (تصرف) في ذلك الأمر الذي أمر به لا يمكنه مخالفة أمر اللّه تعالى بكمال اتباعه صلى اللّه عليه وسلم وانقياده لإرادة ربه (وإن منع) عليه السلام ، أي منعه ربه عن مفارقة أمر امتنع عن ذلك الكمال التبعية أيضا فيه (وإن خيّر) ، أي خيره اللّه تعالى بين التصرف وعدمه كما ورد أن ملك الجبال أتاه فخيره عن أمر اللّه تعالى بين أن يطبق الأخشبين الجبلين في مكة على أهلها حين لم يؤمنوا وآذوه صلى اللّه عليه وسلم فأبى عليه السلام (اختار ترك التصرف) في شيء عن أمر نفسه ، وأوكل كل الأمور كلها إلى اللّه تعالى يتصرف فيها كيف يشاء.
وقال : وأفوّض أمري إلى اللّه إن اللّه بصير بالعباد إلا أن يكون ذلك العارف (ناقص المعرفة) باللّه تعالى فيكون من أهل غلبة الأحوال لا من أهل الرسوخ في المقامات فيغلب عليه حاله فيتحكم في العالم بهمته ، ويسلط جمعيته التامة من غير فرق على كل ما يريد ، فتنفعل له الأشياء .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال أبو السّعود لأصحابه المؤمنين به إنّ اللّه أعطاني التّصرّف منذ خمس عشرة سنة وتركناه تظرّفا هذا لسان ادلال .
وأمّا نحن فما تركناه تظرّفا - وهو تركه إيثارا - وإنّما تركناه لكمال المعرفة ، فإنّ المعرفة لا تقتضيه بحكم الاختيار . فمتى تصرّف العارف بالهمّة في العالم فعن أمر إلهيّ وجبر لا باختيار ، ولا نشكّ أنّ مقام الرّسالة يطلب التّصرّف لقبول الرّسالة الّتي جاء بها ، فيظهر عليه ما يصدّقه عند أمّته وقومه ليظهر دين اللّه . )

(قال) الشيخ (أبو السعود) بن الشبلي المتقدم ذكره رضي اللّه عنه (لأصحابه) ، أي تلامذته (المؤمنين به) ، أي المصدقين بشرف مقامه دون المنكرين عليه ، فإنه يزيدهم إنكارا بصدقه لهم في مقاله . قال تعالى :"وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ" [ آل عمران : 73 ] ، (إن اللّه أعطاني التصرف) في كل ما أريد من الأكوان (منذ خمسة عشر سنة) ، أي خيرني في التصرف والامتناع منه إذ لو كان مأمورا بالتصرف أو ممنوعا منه بلا تخيير ما ساغ له المخالفة بمقتضى مقام المتابعة ومع ذلك تركناه ، أي التصرف ، أي اختار تركه (تظرفا) ، أي طلبا للحالة الحسنة الظريفة عند كل أحد وهي أن لا يظهر بقهر النفوس وإذلال الرجال (هذا) القول منه رضي اللّه عنه (لسان إدلال) على اللّه تعالى ، لأنه مقتضى حال المحبوبية للحق تعالى .
(وأما نحن) وهو قول المصنف الشيخ الأكبر رضي اللّه عنه (فما تركناه) ، أي التصرف بعد أن خيرنا الحق تعالى فيه بمقتضى إيصالنا إليه (تظرفا) كما تركه الشيخ أبو السعود المذكور (وهو) ، أي معنى تركه تظرفا تركه إيثارا ، أي تقديما للحق تعالى على نفسه لأنه أحق به حيث لا يليق بسواه ، لهذا تقبله النفوس منه تعالى لحسنه منه ،ولا تقبله من غيره سبحانه لعدم حسنه من الغير.
(وإنما تركناه)، أي التصرف لكمال المعرفة باللّه تعالى (فإن المعرفة) الكاملة (لا تقتضيه) ، أي التصرف (بحكم الاختيار) ، والإرادة النفسانية إذا خير فيه العارف من غير جزم (فمتى تصرف العارف بالهمة في العالم) ، أي المخلوقات ، ورأينا ذلك منه مع كمال المعرفة الإلهية فيه (فعن أمر إلهي له) بذلك التصرف (وجبر) ، أي إلزام عليه به من جهة الحق تعالى (لا باختيار) وإرادة نفسانية منه بذلك أصلا ، لأن كمال المعرفة باللّه تعالى لا يعطي غير كمال المتابعة والانقياد للّه تعالى في الظاهر والباطن .
(ولا نشك) ، أي نقول قطعا من غير تردد (أن مقام الرسالة) النبوية (يطلب التصرف) في المرسل إليهم من الآية (لقبول الرسالة ) منه عن اللّه تعالى (التي جاء بها) إليهم (فيظهر عليه ما يصدق عند أمته وقومه) ، من خوارق العادات والتأثير بالهمة في إظهار الآيات والمعجزات (ليظهر) بذلك (دين اللّه) تعالى الحق عند المنكرين له المكذبين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والولي ليس كذلك ، ومع هذا فلا يطلبه الرّسول في الظّاهر لأنّ للرّسول الشّفقة على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجّة عليهم ، فإنّ في ذلك هلاكهم فيبقي عليهم .
وقد علم الرّسول أيضا أنّ الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة فمنهم من يؤمن عند ذلك ومنهم من يعرفه ويجحده ولا يظهر التّصديق به ظلما وعلوا وحسدا ومنهم من يلحق ذلك بالسّحر والإيهام . فلمّا رأت الرّسل ذلك وأنّه لا يؤمن إلّا من أنار اللّه قلبه بنور الإيمان ، ومتى لم ينظر الشّخص بذلك النّور المسمّى إيمانا فلا ينفع في حقّه الأمر المعجز
فقصرت الهمم عن طلب الأمور المعجزة لما لم يعمّ أثرها في النّاظرين ولا في قلوبهم.  كما قال في حقّ أكمل الرّسل وأعلم الخلق وأصدقهم في الحالإِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [ القصص : 56 ] ولو كان للهمّة أثر ولا بد ، لم يكن أحد أكمل من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا أعلى وأقوى همّة منه ، وما أثّرت في إسلام أبي طالب عمّه ، وفيه نزلت الآية الّتي ذكرناها .
ولذلك قال في الرّسول إنّه ما عليه إلّا البلاغ ، وقال تعالى :لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [ البقرة : 272 ].
وزاد في سورة القصص : وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [ القصص  : 56] أي بالّذين أعطوه العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة فأثبت أنّ العلم تابع للمعلوم .)
قال رضي الله عنه :  (والولي) الكامل المعرفة باللّه تعالى (ليس كذلك) ، أي مقام ولايته لا يقتضي ذلك لتقرر الدين وظهور حجة اللّه تعالى به على الناس (ومع هذا) المذكور (فلا يطلبه) ، أي التصرف (الرسول) صلى اللّه عليه وسلم (في الظاهر) إلا عن أمر إلهي يقتضي منه ذلك كقوله تعالى في حق موسى عليه السلام :"وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ" [ البقرة : 60 ] الآية.
وقوله تعالى :" وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ" ( 117 ) [ الأعراف : 117 ] ، وقال تعالى :" وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً" [ طه : 77 ] ، وهكذا كل الأنبياء عليهم السلام في ظهورهم بالآيات والمعجزات ، إما عن أمر في الظاهر أو في الباطن (لأن للرسول) كمال الشفقة والرأفة (على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجة ) ، أي حجة اللّه تعالى (عليهم ، فإن ذلك هلاكهم) سريعا (فيبقى عليهم) من بعض الالتباس لينفذ تقرير اللّه تعالى بالتكذيب عن شائبة عذر منهم ، فيخف الغضب الإلهي المتوجه على المكذبين .
قال رضي الله عنه :  (وقد علم الرسول) عليه السلام (أيضا أن الأمر المعجز إذا ظهر) على يده (للجماعة) من أمته لا يجتمعون كلهم على الإيمان والتصديق بمقتضى ذلك ، ولكن تختلف أحوالهم (فمنهم من يؤمن) بالحق حيث ظهر (عند ذلك) ويصدق به (ومنهم من يعرفه) ، أي الحق (ويجحده ) ، أي ينكره (ولا يظهر التصديق به ظلما) منه للحق ولأهله (وعلوا).
أي تكبرا على الحق أن يقبله من غيره وحسدا من نفسه لمن ظهر الحق على يده ومنهم من يلحق ذلك الأمر المعجز حيث ظهر بالسحر والإيهام ، أي الشعبذة والزخرفة الباطلة عنادا مع الحق وكفرا به .
قال رضي الله عنه :  (فلما رأت الرسل) عليهم السلام (ذلك) الاختلاف الذي يقع من أممهم عند ظهور الأمر المعجز على يدهم (وأنه لا يؤمن) بالحق عند ظهوره (إلا من أنار اللّه) تعالى (قلبه بنور الإيمان) الذي يقع فيه فيتسع لكل ما جاء به ذلك الرسول (ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمى إيمانا) ولم يتسع به صدره بل ضاق وانحصر بحكم الطبع والعادة (فلا ينفع في حقه) ذلك (الأمر المعجز) من الرسول الذي أتى بذلك .
قال رضي الله عنه :  (فقصرت) بسبب ذلك (الهمم) من الرسل عليهم السلام (عن طلب الأمور المعجزة) الخارقة للعادة من اللّه تعالى على صدقهم لما علموا (أنه لما لم يعم أثرها في) تحصيل الإيمان (الناظرين) إليها كلهم في ظواهرهم ولا في قلوبهم بل خص البعض دون البعض (كما قال) اللّه تعالى (في حق أكمل الرسل) كلهم عليهم السلام (وأعلم الخلق) باللّه تعالى (وأصدقهم) ، أي الخلق في الحال محمد رسولنا صلى اللّه عليه وسلم ("إِنَّكَ") يا محمد ("لا تَهْدِي") إلى دين اللّه تعالى ("مَنْ أَحْبَبْتَ") من الناس والأقارب والأجانب ، ولو جئت بالأمور الخارقة للعادة ("وَلكِنَّ اللَّهَ") سبحانه وتعالى هو الذي ("يَهْدِي") إلى دينه الحق والصراط المستقيم ("مَنْ يَشاءُ") [ القصص : 56 ] من عباده . وهذه الهداية بمعنى الإيصال لا الدلالة فإنه صلى اللّه عليه وسلم دل من أحبه ومن لم يحبه بحكم قوله تعالى : "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" [ الشورى: 52 ].   أي تدل "عليه" والموصل إلى ذلك هو اللّه تعالى .
قال رضي الله عنه :  (ولو كان للهمة) القلبية (أثر) فيما يريد صاحبها (ولا بد) ، أي بطريق اللزوم (لم يكن أحد أكمل) فيها من رسوله (صلى اللّه عليه وسلم ولا) أحد (أعلى والأقوى همة) قلبية (منه عليه السلام) ومع ذلك (ما أثرت) همته صلى اللّه عليه وسلم (في) حصول (إسلام أبي طالب عمّه) أخ أبيه عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم حين دخل عليه في مرض موته وقال له : يا عماه قل لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ، فامتنع ، فأدنى إليه أذنه وقال له : قلها ولو في أذني ، فأبى ومات على دين الأشياخ من قريش وفيه ، أي في أمر أبي طالب نزلت هذه الآية التي ذكرناها وهي قوله تعالى :" إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ " [ القصص : 56 ] .
ولذلك ، أي لأجل ما ذكر قال اللّه تعالى في حق الرسول أنه ما عليه إلا البلاغ ، أي إيصال الحق إلى الناس لا قبولهم له كما قال تعالى : " وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ" [ النور : 54 ] .
قال رضي الله عنه :  (وقال) تعالى : (" لَيْسَ عَلَيْكَ") يا أيها الرسول ("هُداهُمْ") ، أي هدايتهم (" وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ" [ البقرة : 272 ] وزاد) اللّه تعالى في آية :" إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ " في سورة القصص قوله تعالى : (" وَهُو") َ، أي اللّه تعالى ("أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" أي) [ القصص : 56 ] .
أعلم (بالذين أعطوه العلم بهدايتهم) من الأزل حين كشف عنهم بعلمه القديم وهم (في حال عدمهم) الأصلي (بأعيانهم) متعلق بأعطوه ، أي حقائقهم (الثابتة) غير المنفية بلا وجود فأثبت سبحانه بمقتضى هذه الآية (أن العلم) الإلهي الكاشف في الأزل عن كل شيء (تابع للمعلوم) المكشوف عنه على حسب ما هو عليه ذلك المعلوم في عينه الثابتة في العدم من دون وجود .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ظهر بتلك الصّورة في حال وجوده ، وقد علم اللّه ذلك منه أنّه هكذا يكون ، فلذلك قال :وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فلمّا قال مثل هذا قال أيضا :ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ لأنّ قولي على حدّ علمي في خلقيوَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ ق : 29 ] أي ما قدّرت عليهم الكفر الّذي يشقيهم ثمّ طلبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به ، بل ما عاملناهم إلّا بحسب ما علمناهم ، وما علمناهم إلّا بما أعطونا من نفوسهم ممّا هم عليه ، فإن كان ظلما فهم الظّالمون . ولذلك قال : وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ  يَظْلِمُونَ [الأعراف : 160 ] فما ظلمهم اللّه ، كذلك ما قلنا لهم إلّا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم ؛ وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ، ولا نقول كذا ، فما قلنا إلّا ما علمنا أنّا نقول فلنا القول منّا . ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السّماع منهم .
فالكلّ منّا ومنهم  .... والأخذ عنّا وعنهم
إن لا يكونوا منا  ..... فنحن لا شك منهم
فتحقّق يا وليّ هذه الحكمة الملكيّة من الكلمة اللّوطيّة فإنّها لباب المعرفة .
فقد بان لك السّرّ  ..... وقد اتّضح الأمر
وقد أدرج في الشّفع  .... الّذي قيل هو الوتر )


قال رضي الله عنه :  (فمن كان) في الأزل (مؤمنا في) حال (ثبوت عينه) ، أي حقيقته ثبوتا هو ضد النفي لا بمعنى الوجود (و) في (حال عدمه) الأصلي (ظهر) ذلك الثابت (بتلك الصورة) التي هي الإيمان (في حال وجوده) المستفاد من تجلي الحق تعالى عليه في حضرة سمعه وبصره (وقد علم اللّه) تعالى (ذلك) الوصف الذي هو ثابت فيه (منه في) الأزل (أنه هكذا) ، أي على الوصف المذكور (يكون) ، أي يوجد ، وكذلك من كان في الأزل كافرا أو فاسقا أو جاهلا أو مبتدعا وغير ذلك في حال ثبوت عينه ، يعلم اللّه تعالى منه ذلك فلا يوجد إلا كذلك .
قال رضي الله عنه :  (فلذلك) ، أي لأجل ما ذكر (قال) تعالى : (" وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" [ القصص : 56 ]
فلما قال) سبحانه مثل هذا المقول المذكور قال تعالى أيضا "ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ" [ ق : 29 ] ، أي عندي (لأن قولي) حق (على حد علمي) ، أي تابع لعلمي (في خلقي) فلا أقول إلا ما أعلم ، ولا أعلم إلا ما الأمر عليه ثابت في نفسه ، ويستحيل غير ذلك ("وَما أَنَا بِظَلَّامٍ") ، أي منسوب إلى الظلم .
كما يقال لحام وسمان منسوبان إلى اللحم والسّمن ، لا أنه صيغة مبالغة حتى يلزم منه محذور بأن المنفي المبالغة في الظلم لا مطلق الظلم ، فيقتضي ثبوت شيء من الظلم له تعالى : ("لِلْعَبِيدِ أي ما قدرت) في الأزل (عليهم) ، أي على بعض العبيد (الكفر الذي يشقيهم) بمخالفتم أمري قال رضي الله عنه :  (ثم طالبتهم) في الدنيا (بما ليس في وسعهم) أي طاقتهم وقدرتهم أن يأتوا به من الإيمان والطاعة (بل ما عاملناهم) في الأزل حين قدّرنا عليهم الشقاوة في الدنيا حين كلفناهم بعد أن خلقناهم إلا بحسب ما علمناهم عليه من الأوصاف في حال ثبوتهم في عدمهم الأصلي (وما علمناهم) كذلك في الأزل (إلا بما أعطونا من نفوسهم) ، وأحوالها في ظواهرهم وبواطنهم (مما هم عليه) في عالم الثبوت غير الوجود وغير المنفي ويسمى عالم الإمكان ، كما أن الوجود يسمى عالم الوجود ، والنفي يسمى عالم الاستحالة .
(فإن كان) فيما قدرنا عليهم من الأزل ثم أوجدناه فيهم من أحوالهم (ظلما) بسبب عدم تأثيرهم في شيء منه أصلا (فهم الظالمون) والأحق أنهم هم الذين يوصفون بهذا الوصف القبيح الذي هو الظلم لأنه لم يكن في علمنا إلا تبعا لما هو في أحوالهم الثابتة أزلا في عالم الإمكان ، واللّه تعالى منزه عن القبائح أزلا وأبدا .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس نوفمبر 21, 2019 2:11 am

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الثالث

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية

قال رضي الله عنه :  (ولذلك قال) سبحانه ("وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ") [ البقرة : 57 ] من أصل ثبوت أعيانهم كذلك كما ذكرنا (فما ظلمهم اللّه) تعالى ، لأنه أعطاهم خلقهم ، فأوجدهم على طبق ما هم عليه ، فله المنة عليهم والفضل بتشريفهم بحلة الوجود ، التي أعارها لهم على حسب ما أوجدهم أيضا قابلين له منها ، هذا من حيث وجودهم بأحوالهم التي هم عليها ، وأما من حيث الحكم عليهم بالأحكام الشرعية أمرا ونهيا ، فقد أشار إليه بقوله :
قال رضي الله عنه :  (كذلك ما قلنا لهم) من حيث التكاليف الشرعية (إلا ما أعطته ذاتنا) الإلهية الأزلية (أن نقول لهم) مما نحن عليه من الكمال الذاتي والجمال الذاتي .
فمن تبع أحكامه كمل وجمل على حسب استعداده ، فجذبناه إلينا لظهور بعض أوصافنا فيه بمقتضى استعداده .
بل جذبنا أو صافنا التي اتصف بلوائحها فانجذب معها إلينا ، ومن أعرض عن متابعة أحكامنا انقطع عنا (وذاتنا) الكمالية الجمالية المذكورة معلومة لنا ، أي مكشوفة عنها بعلمنا الأزلي (بما هي عليه أن نقول) لهم (كذا) من الأحكام ولا نقول كذا فالعلم الإلهي كاشف عن ذات اللّه تعالى وعن قولها أيضا .
قال رضي الله عنه :  (فما قلنا) لهم من الأحكام (إلا ما علمنا) منا (أنا نقول) لهم (فلنا القول) المنزل بالأحكام الشرعية في الأمر والنهي حاصل (منا) ، أي من حيث كمالنا وجمالنا وما يخالف ذلك (ولهم الامتثال وعدم الامتثال) بمقتضى ما هم عليه في أحوال أعيانهم الثابتة في عدمها الأصلي (مع السماع) لقولنا الحق وهو وصول الأحكام إليهم وإطلاعهم عليها لا قبل ذلك ، فإنه لا مؤاخذة كما قال سبحانه : " وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" [ الإسراء : 15 ] ، فإن الرسول يبلغهم الأحكام فيحصل السماع فتقوم الحجة عليهم (منهم) ، أي حامل ذلك الامتثال وعدمه والسماع من جهتهم .
[ شعر ]
فالكل منا ومنهم ... والأخذ عنا وعنهم
إن لا يكونون منا ... فنحن لا شك منهم
(فالكل) ، أي أعيانهم وأحوالهم وأحكامهم التي هم مكلفون بها (منا) أصلها  وهي الأحكام (ومنهم) أصلها وهي الأعيان والأحوال (والأخذ) ، أي تناول ذلك الكل المذكور (عنا) للأحكام (وعنهم) للأعيان والأحوال .
(إن لا يكونوا) ، أي إذا لم يكونوا من حيث أعيانهم وأحوالهم الثابتة (منا) بمقتضى حكم التجلي الذاتي من حضرة الأحدية في حضرة الواحدية التي هي حضرة الصفات والأسماء الإلهية حتى ثبتت فيها تلك الأعيان والأحوال .
(فنحن) من حيث حضرة الصفات والأسماء الإلهية التي تعينت من الذات الأحدية بسبب قيام الأعيان والأحوال الثابتة بها في أنفسها حال عدمها الأصلي (لا شك) أننا من الوجه المذكور (منهم) ، أي من تلك الأعيان والأحوال الثابتة ، وهو معنى قول تلميذ المصنف الشيخ صدر الدين القونوي رضي اللّه عنهما في كتابه النفحات في مبشرته التي رأى فيها شيخه رضي اللّه عنه.
آثار الأسماء من الأحكام والأحكام من الأحوال ، والأحوال تتعين من الذات بحسب الاستعداد أمر لا يعلل بشيء سواه ، يريد بآثار الأسماء الوجود المفاض على الأعيان الثابتة ، فإنه من أحكام الأحوال الإلهية التي هي الصفات والأسماء ، والأحوال الإلهية متعينة من الذات الإلهية بحسب الاستعداد الذي تقتضيه الأعيان الثابتة ، والاستعداد لا يعلل بعلة .

(فتحقق يا ولي) ، أي صديقي (هذه الحكمة الملكية من الحكمة اللوطية) المنسوبة إلى لوط عليه السلام فإنها من لباب ، أي خالص المعرفة باللّه تعالى
[ شعر ]
فقد بان لك السر ...  وقد اتضح الأمر
وقد أدرج في الشفع ... الذي قيل هو الوتر
(فقد بان) ، أي انكشف (لك) يا أيها السالك (السر) الإلهي الذي قام به كل شيء في الحس والعقل (وقد اتضح) لك (الأمر) الإلهي أيضا ، وهو عين السر من جهة عمومه ، وافترق السر عنه بقيد الخفاء ، فقيوم العالم من جهة بطونه سر ومطلقا أمر .
(وقد أدرج) ، أي اختفى فلم يتبين وتداخل فلم يتميز ولا يتداخل في نفس الأمر ولكن من قبيل قوله تعالى : "وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ( 20 )"  [البروج : 20 ] .
وقوله :" أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ" [ الرعد : 33 ] ونحو ذلك (في الشفع) وهو العبد المركب من عين ثابتة ووجود مفاض عليها (الذي قيل) .
أي قال صاحب الشرع بأن من جملة أسمائه أنه (هو الوتر) وهو الحق تعالى صاحب الذات والصفات والأفعال ، فكان المجموع عبدا كاملا لاندراج الغيب فيه واندراجه في الغيب .
فهو شهادة ذلك الغيب ، وذلك الغيب غيب في هذه الشهادة ، التي هي شهادته وما ظهرت هذه الشهادة إلا من ذلك الغيب وهو عالم الغيب والشهادة ستكتب شهادتهم والكاتب لها الغيب " كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ " [ الأنعام : 54 ].
والرحمة عين الشهادة وقوله : ويسألون أي يسألهم الكاتب عما كتب وهو قوله : " كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً " [ الإسراء : 14 ].
وما أعظم هذه الحكمة ! وما أشمل هذه الرحمة !
وقد أنشدني بعض الإخوان قول بعض المحققين من أولي العرفان :
سبحان من أظهر ناسوته  ..... سرسنا لا هوية الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا  ..... في صورة الآكل والشارب
"" أضاف المحقق :
هما بيتان من ثلاثة أبيات نسبت لشهيد العشق الإلهي الشيخ الحسين بن منصور الحلاج المولود سنة 244 هـ والمتوفى سنة 309 هـ والبيت الثالث هو :
حتى لقد عاينه خلقه  .... كلحظة الحاجب بالحاجب ""
وربما يقع الكتاب في غير أهله ممن احترق بنيران جهله .
فيقال له : افهم القيوميّة في الغيب والشيئية الهالكة في الشهادة ، واعلم أن الرب رب والعبد عبد ، وليس في الكلام ما يفيد الإشكال ، غير أنك قاصر الإدراك عن معرفة الرجال .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس نوفمبر 21, 2019 2:12 am

14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية
هذا فص الحكمة العزيرية ، ذكره بعد حكمة لوط عليه السلام ، لأنه يذكر فيه تحقيق معنى القضاء والقدر ، المبين ذلك على ما مر في حكمة لوط عليه السلام ، من كون العلم تابعا للمعلوم ،ويذكر فيه بيان مراتب الرسل عليهم السلام من حيث هم رسل تتميما لما ذكر في حكمة لوط عليه السلام.
(فص حكمة قدرية) بفتح الدال نسبة إلى القدر (في كلمة عزيرية .)
إنما اختصت حكمة العزير عليه السلام بكونها قدرية ، لأن معراجه كان في مسألة سئلها في القدر ، فرفعه اللّه تعالى بها من حضيض الحياة الدنيوية الوهمية إلى حضرة الحياة الأبدية الحقيقة ، واخترق به سبع طباق النفوس البشرية على براق الرقيقة الروحانية ، ثم أرجعه عالم المحنة وقرار الفتنة لإنفاد بقية ما في خزائنه من الأقدار الإلهية والأسرار الربانية .

 قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أنّ القضاء حكم اللّه في الأشياء ، وحكم اللّه في الأشياء على حدّ علمه بها وفيها ، وعلم اللّه في الأشياء على ما أعطته المعلومات ممّا هي عليه في نفسها ، والقدر توقيت ما عليه الأشياء في عينها من غير مزيد .
فما حكم القضاء على الأشياء إلّا بها .
وهذا هو عين سرّ القدر الذي يظهرلِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ ق : 37 ] .فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ[ الأنعام : 149 ] .
فالحاكم في التّحقيق تابع لعين المسألة الّتي يحكم فيها بما تقتضيه ذاتها .
فالمحكوم عليه بما هو فيه حاكم على الحاكم أن يحكم عليه بذلك فكلّ حاكم محكوم عليه بما حكم به وفيه ، كان الحاكم مّن كان) .
(اعلم) يا أيها السالك (أن القضاء) ، أي الحكم الإلهي الأزلي حكم اللّه تعالى العدل والفضل وإلزامه الفصل.
(في الأشياء) كلها محسوسها ومعقولها وحكم اللّه تعالى (في الأشياء) كلها (على حد) ، أي مقدار (علمه) تعالى (بها) أي بالأشياء من حيث ذواتها (و) علمه (فيها) من حيث صفاتها وأحوالها .
(وعلم اللّه) تعالى (في الأشياء) كلها من حيث صفاتها وأحوالها (على) حسب (ما أعطته المعلومات) التي هي أعيان تلك الأشياء وحقائقها الثابتة في عدمها الأصلي (مما هي عليه في نفسها) من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير ولا تبديل أصلا ولا تقديم ولا تأخير .

(والقدر) بالتحريك أي قدر اللّه تعالى الأزلي هو (توقيت) ، أي الحكم بالوقت جميع (ما هي عليه الأشياء) كلها (في عينها) الثابتة في عدمها الأصلي (من غير مزيد) فيها ولا شك أن الوقت من جملة أحوال الشيء ، وهو الترتيب بينه وبين غيره من الأشياء ، وللأشياء أحوال أخرى غير الوقت ، فالحكم بالوقت قدر ، والحكم بغيره من الأحوال قضاء ، وقد يستعمل القدر في الحكم بالكل ، والقضاء كذلك ، وقد يستعملان معا بمعنى الحكم بالكل ، ويقدم القضاء ويكون القدر بعده تفسيرا له .

(فما حكم القضاء) الإلهي (على الأشياء) من الأزل (إلا بها) ، أي بعين ما هي عليه الأشياء في ثبوتها حال عدمها الأصلي (وهذا) الأمر في قضاء اللّه تعالى الأزلي (هو عين سر القدر) الإلهي (الذي أخفاه اللّه تعالى) عن خلقه وأمرهم بالعمل وما هم عاملون إلا عين ما قدره عليهم ، وما قدر عليهم إلا عين ما هم عاملون في أعيانهم الثابتة حال عدمها الأصلي (ولا ينكشف) هذا السر (إلا "لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ " )لا نفس ، لأن النفس بيت الشيطان ، فهو يوسوس فيها الذي يوسوس في صدور الناس ، ونعلم ما توسوس به نفسه ، والقلب بيت اللّه .
قال عليه السلام : « ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ».

وهو الذي يتقلب في الصور بتجلي الحق تعالى عليه في تلك الصور كلها ، فيؤمن به فيها ولا ينكره ، فهو العبد المؤمن لا الكافر المنكر ("أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ" إلى) ما ورد عن اللّه تعالى ورسوله عليه السلام فيؤمن بما ورد عن اللّه على مراد اللّه .
وبما ورد عن رسول اللّه على مراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا الذي " أَلْقَى السَّمْعَ " إلى ما قالته علماء الأفكار المتأوّلين الأخبار كما سبق بيانه .
(وَهُوَ)، أي الذي ألقى السمع للّه ولرسوله فهو من المقلدين ("شَهِيدٌ") [ ق :  37] .
 لما وقع في نفسه من الصورة التي تجلى بها عليه ربه وهو في عبادته كأنه يراه ، وهو في قبلته في حال صلاته ، لا الصورة التي اخترعها بنفسه فنحتها بفكره وأداه إليها دليله العقلي ، وبحثه وجداله في اللّه ، قال تعالى : "قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ( 95 ) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ "[الصافات : 95 - 96 ]
("فَلِلَّهِ")  على الخلق كلهم ("الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ") [ الأنعام : 149 ] ، وهي إيجادهم على طبق ما هم عليه في أعيانهم الثابتة حال عدمهم الأصلي ، فالسعيد سعيد الأزل والشقي شقي الأزل ، فما حكم عليهم إلا بما هم عليه في ثبوتهم الأزلي .
(فالحاكم في التحقيق) حكمه العدل (تابع لعين المسألة التي يحكم فيها بما تقتضيه ذاتها ) ، أي تلك المسألة المحكوم بها كما ورد قاض في الجنة وقاضيان في النار .
فالقاضي الذي في الجنة قاض عرف الحق وحكم به ، فهو تابع للحق بما يقتضيه واللّه يقضي بالحق : وقل "رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ" [ الأنبياء : 112 ] ،
والقاضيان :
قاض عرف الحق وحكم بالباطل ولم يحكم بالحق .
وقاض لم يعرف الحق وحكم على جهله ، فهما في النار لعدم متابعتهما لما هو الأمر عليه في نفسه من الحق ، ولا بد أن يكون الحاكم محكوما عليه كما قال .
(فالمحكوم عليه ) باطنا من الخلق أو الحق (بما هو فيه) من الأحوال الثابتة له (حاكم) في الباطن (على الحاكم عليه) في الظاهر وملزوم له (أن يحكم عليه بذلك) .
أي بما هو من أحوال عينه الثابتة عنده (فكل حاكم) من قديم أو حادث (محكوم عليه ) باطنا (بما حكم به) ظاهرا من الأعيان (وفيه) من الأوصاف والأحوال كان الحاكم من كان ربا أو عبدا.
واعلم أن الحق تعالى حاكم الأزل عرضت عليه في الأزل ، أعيان الكائنات جميعها التي لا نهاية لها من ذوات وصفات وأحوال مختلفة في الحس والعقل وهي عدم صرف ، وثبتت عند علمه بشهادة شاهدين عنده بذلك هما سمعه القديم وبصره القديم ، فحكم فيها بما وجدها ثابتة عليه في أعيانها العدمية .
وكان المدعى عليها قائم وهو حضرة الصفات والأسماء الإلهية المؤثرة فيها ، دون السمع والبصر فإنهما كاشفان لا مؤثران بما لذلك المدعي عندها من الحق ، وهو عبوديتها لحضرة الصفات والأسماء الإلهية .
فأجابته بالإنكار لأجل ما هي فيه من ظلمة العدم الأصلي ، ظلما منها للحق والظلم ظلمات يوم القيامة ؛ ولهذا كان السمع والبصر من حضرة الصفات والأسماء الإلهية شاهدين عليها بعبوديتها لمن ادعى الرق فيها ، واكتساء الأشياء كلها بالوجود في هذا العالم هو عين أداء الشهادة من هذين الاسمين الثابت بهما رق الأشياء وعبوديتها للحضرة الصفاتية والاسمائية ، وهي البينة التي قال تعالى :" لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ" [ البينة : 1 ] .

وهي التي قامت عليهم شاهدة بعبوديتم للصفات والأسماء ، فهم لا يزالون على إنكارهم لتلك العبودية والرق فيهم حتى يظهر شاهد الحق من نفوسهم ، وهو قوله تعالى :"رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ" [ البينة : 2 ] كقوله تعالى : "لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ " [ التوبة : 128 ] .

ثم قال:   "َيتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً " [ البينة : 2 ] ، وهي عين الخواطر المستقيمة في الحق تعالى ، فيها كتب : هي نزول العالم في كل نفس من حضرة الغيب ،
قيمة : من حيث اللوح والقلم ، وسر ظهور هذا كله فيهم كونه هو السميع البصير ، لأنه عين سمعهم الذي يسمعون به ، وعين بصرهم الذي يبصرون به ، كما ورد في الحديث المتقرب بالنوافل : " كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به".
وقال عليه السلام : « البينة للمدعي واليمين على من أنكر »  ؛ ولهذا أقسموا باللّه جهد أيمانهم لا يبعث اللّه من يموت ، وأوّل من أقسم باللّه تعالى كاذبا إبليس "وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ" [الأعراف : 21 ] وقد شرد بنا وارد الإلهام في أثناء هذا الكلام ، فأمسكنا عنان الإقدام أن هذا الميدان ليس لنا ، فإننا فيه خادمون لكلام غيرنا ، فينبغي المتابعة لذلك النظام.

 قال الشيخ رضي الله عنه :  (فتحقّق هذه المسألة فإنّ القدر ما جهل إلّا لشدّة ظهوره فلم يعرف وكثر فيه الطّلب والإلحاح .
واعلم أنّ الرّسل صلوات اللّه عليهم من حيث هم رسل لا من حيث هم أولياء وعارفون على مراتب ما هي عليه أممهم فما عندهم من العلم الّذي أرسلوا به إلّا قدر ما تحتاج إليه أمّة ذلك الرّسول ، لا زائد ولا ناقص .
والأمم متفاضلة يزيد بعضها على بعض فيتفاضل الرّسل في علم الإرسال بتفاضل أممها وهو قوله تعالى : "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ " [ البقرة  : 253] .
كما هم أيضا فيما يرجع إلى ذواتهم عليهم السّلام من العلوم والمعارف والأحكام الإلهيّة متفاضلون بحسب استعداداتهم وهو في قوله : " وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ " [ الإسراء : 55 ] .)

(فتحقق) يا أيها السالك (هذه المسألة) المذكورة (فإن القدر) ، أي تقدير الإلهي (ما جهل) في الناس إلا (لشدة ظهوره) وانكشافه (فلم يعرف) لأجل ذلك الظهور الذي له عند كل أحد من حيث إيمانه بعدل اللّه تعالى في خلقه أنه على طبق ما علم اللّه تعالى من الأشياء ، فهو تابع لها وإن لم تعرف تفاصيلها عند الكل في الكل ، فالكل يعلمون أنه تعالى عالم قضى بالحق وقدر على علم منه لا جهل ، ولا يعرفون ما ذكر هنا من البيان الحق (وكثر فيه) ، أي القدر الطلب والإلحاح من الناس في بيان المراد منه للإيمان به ، وتكلم فيه كل عالم على قدر ما عنده من العلم ، وفوق كل ذي علم عليم .


(واعلم) يا أيها السالك (أن الرسل صلوات اللّه عليهم) أجمعين (من حيث هم رسل) من اللّه تعالى إلى أممهم بالتكاليف المختلفة (لا من حيث هم) ، أي الرسل عليهم السلام (أولياء) للّه تعالى (وعارفون) باللّه تعالى فهم من هذا الوجه متفاوتون تفاوتا آخر من كونهم على درجات مختلفة في الولاية والمعرفة حيث هم في أذواقهم ، وليس هذا موضع بيان ذلك ، لأن هذا الباب معطل فيهم ، فليس أخذهم للشرائع منه بل من باب نبوّتهم ، فهم لا يأخذون بكشفهم وعرفانهم واستعدادهم من التجلي الخاص ، بل بما أنبأهم به الملك المنزل عليهم من حضرة ربهم ، فإنهم مع الحق في حكم ما يخبرهم به لا بحكم ما علموه باستعدادهم ، فالقرآن علم الرسالة المحمدية ، والسنة علم النبوّة والولاية (على مراتب) تختلف باختلاف على (ما هي عليه أممهم) من الفضائل المتفاوتة .


(فما عندهم) ، أي الرسل عليهم السلام (من العلم) الإلهي (الذي أرسلوا به) إلى أممهم ليعلموا ما هم عليه في ظواهرهم وبواطنهم (إلا قدر) ، أي مقدار (ما تحتاج إليه أمة ذلك الرسول) ، في اعتقاداتهم وعباداتهم ومعاملاتهم لانتظام معادهم ومعاشهم لا زائد على ذلك ولا ناقص ، والأمم متفاضلة يزيد بعضها على بعض في الفضيلة .
(فتفاضل الرسل) عليهم السلام (في علم الإرسال بتفاضل أممها) ، أي الرسل (وهو قوله) تعالى (" تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ") [البقرة : 253 ] ،.
أي بسبب ما عندهم من العلوم التي تحتاج إلى أممهم بحسب تفاوت الأمم بالذكاء والحذق كل أمة على حسب استعدادها (كما هم) ، أي الرسل عليهم السلام (أيضا فيما يرجع إلى ذواتهم) ، أي أنفسهم (عليهم السلام من العلوم الإلهية) من حيث هم أنبياء عليهم السلام (والأحكام) المخاطبين بها على مقتضى أحوالهم الربانية (متفاضلون) فمنهم من هو أفضل من الآخر (بحسب استعداداتهم) لقبول الفيض من وجود
 

الوجود (وهو قوله) تعالى ("وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ") من حيث الفضائل العلمية والعملية ("عَلى بَعْضٍ") [ الإسراء : 55 ] منهم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقال تعالى في حقّ الخلق : "وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ" [ النحل :71]
والرّزق منه ما هو روحانيّ كالعلوم ، وحسّيّ كالأغذية وما ينزّله الحقّ إلّا بقدر معلوم ، وهو الاستحقاق الّذي يطلبه الخلق .
فإنّ اللّه أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [ طه : 50 ] فينزّل بقدر ما يشاء وما يشاء إلّا ما علم فحكم به وما علم كما قلناه إلّا بما أعطاه المعلوم من نفسه .
فالتّوقيت في الأصل للمعلوم والقضاء والعلم والإرادة والمشيّة تبع للقدر . )

(وقال) : اللّه (تعالى) أيضا (في حق الخلق) ، أي غير الأنبياء والرسل عليهم السلام من جميع الناس وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ أيها الناس عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ[ النحل : 71 ] فيما يرزقكم إياه (والرزق) قسمان (منه ما هو) رزق (روحاني) تنتفع به أرواحكم المنفوخة فيكم (كالعلوم) الإلهية فإنها غذاء الأرواح تمدها وتقويها على الإدراك والطاعة ومنه ما هو رزق (حسي) ، أي محسوس (كالأغذية) من المآكل والمشارب فإنها غذاء الأجسام تمدها وتقويها على الحركة في كل ما يريده وما ينزله.
أي الرزق بقسميه الروحاني والحسي الحق تعالى ، لأنه من جملة الأشياء التي قال تعالى فيها :وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ[ الرعد : 8 ] "وَما نُنَزِّلُهُ (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ" وهو )[ الحجر : 21 ] .
أي ذلك القدر المعلوم (الاستحقاق الذي يطلبه الخلق) ، أي المرزوق بمقتضى استعدادهم (فإن اللّه) تعالى "أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ"، أي مقدار ما يمكن أن يتخلق ذلك الشيء به وما هو قابل له من الفيض الواسع الدائم على مقتضى قسطه من الزمان والمكان والهيئة كما قال تعالى: "الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى" [ طه : 50 ] ، أي دل على ذلك الإعطاء من شاء من عباده أو عليه تعالى بذلك الإعطاء .

(فينزل) سبحانه (بقدر) ، أي مقدار معلوم عنده (ما يشاء) من الرزق كما قال تعالى :" وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ" [ الشورى : 27 ] (وما يشاء) سبحانه (إلا ما علم) من كل شيء (فحكم به) ، أي بالذي علمه (وما علم ) تعالى (كما قلناه) فيما مر غير مرة (إلا بما أعطاه المعلوم) مما هو عليه (في نفسه فالتوقيت) الذي لكل شيء.
(في الأصل) من حيث كشف العلم عنه (للمعلوم) في نفسه فإن كل شيء من المعلومات كما أنه على مقدار مخصوص وصورة مخصوصة هو على ترتيب في ظهوره مخصوص إلى مدة مخصوصة والعلم الإلهي كاشف عن جميع ذلك في كل شيء وحاكم عليه بما هو كاشف عنه فيه (والقضاء) ، أي الحكم الإلهي الأزلي .
(و) كذلك (العلم) الإلهي (والإرادة) الإلهية المتعلقة بالأشياء من حيث زيادتها ونقصانها والمشيئة الإلهية المتعلقة بالأشياء من حيث هي في نفسها فقط فيشاء اللّه تعالى الشيء أن يكون كيفما هو عليه في نفسه من غير اعتبار كونه زائدا أو ناقصا ويريد سبحانه أن يكون الشيء زائدا على الشيء الآخر والشيء الآخر ناقصا عنه وهكذا في بقية الاعتبارات ، فتكون المشيئة باعتبار نفس الشيء ، والإرادة باعتبار أحواله ، وربما كانتا بمعنى واحد ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء اللّه تعالى في أوّل الفص اللقماني (تتبع للقدر) الذي هو التوقيت المذكور والتوقيت تبع للمعلوم على ما هو عليه ، فالكل يرجع إلى ما هو عليه المعلوم في نفسه حال عدمه الأصلي .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فسرّ القدر من أجلّ العلوم وما يفهّمه اللّه تعالى إلّا لمن اختصّه بالمعرفة التّامّة .
فالعلم به يعطي الرّاحة الكلّيّة للعالم به ويعطي العذاب الأليم للعالم به أيضا فهو يعطي النّقيضين .
وبه وصف الحقّ نفسه بالغضب والرّضا وبه تقابلت الأسماء الإلهيّة .
فحقيقته تحكم في الوجود المطلق والوجود المقيّد لا يمكن أن يكون شيء أتمّ منها ولا أقوى ولا أعظم لعموم حكمها المتعدّي وغير المتعدّي .
ولمّا كانت الأنبياء صلوات اللّه عليهم لا تأخذ علومها إلّا من الوحي الخاصّ الإلهي فقلوبهم ساذجة من النّظر العقليّ لعلمهم بقصور العقل من حيث نظره الفكري ، عن إدراك الأمور على ما هي عليه .
والإخبار أيضا يقصر عن إدراك ما لا ينال إلّا بالذّوق فلم يبق العلم الكامل إلّا في التّجلّي الإلهي وما يكشف الحقّ عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية فتدرك الأمور قديمها وحديثها وعدمها ووجودها ومحالها وواجبها وجائزها على ما هي عليه في حقائقها وأعيانها) .

(فسر القدر) الإلهي أي علمه (من أجلّ) ، أي أعظم العلوم الإلهية (وما يفهمه) ، أي سر التقدير (اللّه) تعالى لأحد من الناس (إلا من اختصه) ، أي اللّه تعالى (بالمعرفة التامة به) سبحانه ، فيعلم ذلك العارف الذي اعتنى به الحق تعالى فعرف أنه تعالى قدر على الأشياء وألزمها في الأزل بعين ما هي ثابتة من أحوالها في علمه تعالى الأزلي حال عدمها الأصلي ، ثم إنه تعالى يوجد كل شيء منها في وقته المخصوص به في ثبوت عينه وحاله المخصوص كذلك .
فكأنه تعالى أوجد الأشياء بجميع ما هي عليه في أعيانها العدمية ، فقدر عليها وألزمها بما هي عليه .

وبسبب ذلك كان التوجه منه تعالى عليها من الأزل إلى الأبد ، فانصبغت بوجوده وهي على ما هي عليه من عدمها الأصلي ، فجاء التعريف الإلهي بقوله تعالى "كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ " [ القصص : 88 ]
وقوله: " كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ( 26 ) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ" [الرحمن : 26 - 27 ] .
وقول النبي صلى اللّه عليه وسلم : « كان اللّه ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان »
وقوله صلى اللّه عليه وسلم : « أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل » ، فعرف من عرف وجهل من جهل . رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(فالعلم به )، أي بسر القدر الإلهي (يعطي الراحة) ، أي عدم التعب (الكلية) من حيث الظاهر والباطن (للعالم به) ، أي بسر القدر في بعض الأوقات لحال يقتضيه ، لأنه يرفع من العارف حكم الخوف والرجاء ويقتضي الإلزام بحال واحد لا يتغير فيه العبد مع اللّه تعالى ، لقطعه بما هو كائن لا محالة ، سواء علم عين ما يكون أو لم يعلم ، ولا يقبل العالم به الراحة الكلية إلا إذا كانت ثابتة في عينه العدمية ، فتظهر عليه في حالة إيجاده .

(ويعطي) أيضا ، أي العلم بسر القدر (العذاب الأليم للعالم به أيضا) في بعض الأوقات إذا كان ذلك ثابتا في عينه العدمية ، فيظهر منه كذلك في حالة وجوده بكمال الضجر والتألم أن يكون قد اقتضى ذلك ثبوت شر في عينه ، فيظهر في كونه وإن كان معصوما لعلمه بالعدل الإلهي ، حتى قيل إن إبراهيم الخليل عليه السلام كان يخفق قلبه في صدره حتى تسمع قعقعة عظامه من نحو ميل من شدة خوفه .
وكان نبينا صلى اللّه عليه وسلم يسمع لصدره أزير كأزير المرجل ، أي القدر على النار وهو من باب علمهم بسر القدر الإلهي في حال يقتضي منهم ذلك لثبوته في أعيانهم الأصلية .

(فهو) ، أي العلم بسر القدر (يعطي النقيضين) ، أي الراحة والتعب للعالم به على حسب الأحوال التي تعتريه بمقتضى العين الأصلية (وبه) ، أي بسبب سر القدر (وصف اللّه تعالى نفسه) في كلامه القديم على لسان نبيه عليه السلام (بالغضب) على أقوام بسبب أفعال صدرت منهم وأحوالهم التي هم عليها (وبالرضى) أيضا عن أقوام كذلك فكان ذلك بمقتضى ما عليه تلك الأقوام في أعيانهم العدمية من أحوال تلك الأعيان في الدنيا من المخالفات وفي الآخرة من المجازات بالثواب والعقاب وبه ، أي بسر القدر (تقابلت الأسماء الإلهية ) بأسماء الجلال وأسماء الجمال لتقابل أحوال الأعيان العدمية بما يقتضي ظهور الجلال لها من الحق تعالى ، أو ظهور الجمال منه سبحانه لها ، بل تعينت به جميع الأسماء الإلهية من الذات العلية ، وبه تسمى سبحانه وبه نعت وبه عرف وبه جهل .

(فحقيقته) ، أي سر القدر (تحكم) باعتبار أحوال الأعيان الثابتة في العدم عند تلك الأعيان (في الوجود المطلق) وهو الحق تعالى .
فتسميه بالأسماء وتنعته بالنعوت ، وتقابل بين حضراته وتنوّع أنواع تجلياته ، لا بالنسبة إلى ذلك الموجود المطلق في نفسه ، فإنه غني عن العالمين بحكم قوله سبحانه: “فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ “[ آل عمران : 97 ] .

أي بذاته من حيث هي ، وأما باعتبار المراتب ، فإنها ما تنوّعت وكثرت إلا باختلاف العالمين ، ولولا المراتب لم يكن البحث عن الذات الإلهية مفيدا ، فإنه لا يتصوّر أن يعلم أحد من هذا الوجه ولا يجهل أيضا وحقيقة سر القدر تحكم أيضا (في الموجود المقيد) وهو هذا العالم الحادث ، فكيف ما كان يظهر هذا الممكن على مقتضاه (ولا يمكن أن يكون شيء أتم) ، أي أكمل (منها) ، أي من حقيقة سر القدر أصلا.

)ولا أقوى( في التحكم )ولا أعظم في( الشأن )لعموم حكمها (، أي حكم حقيقة سر القدر (المتعدي) من تلك الأعيان العدمية إلى عين الوجود المطلق في تعين صفاته وأسمائه من ذاته العلية الغنية عما سواها عندها )وغير المتعدي( بل قاصر على تلك الأعيان في حال ظهورها .


(ولما كانت الأنبياء صلوات اللّه عليهم لا تأخذ علومها) الإلهية (إلا من الوحي الخاص) بجبريل عليه السلام وهو النبوي (الإلهي) احتراز عن وحي الإلهام فإنه عام في غير الأنبياء كوحي النحل والأرض.

فقلوبهم) ، أي الأنبياء عليهم السلام (ساذجة) ، أي بسيطة غير مركبة خالية (من النظر العقلي) فلا يستعملون عقولهم في العلوم الإلهية أصلا (لعلمهم) ، أي الأنبياء عليهم السلام قطعا (بقصور العقل من حيث نظره الفكري) لا الكشفي (عن إدراك الأمور) الغيبية الإلهية (على ما هي عليه) إلا إذا رفع له حجاب الغيب عنها فإنه يدركها حينئذ بقوّة شهوده وحسه .

(والأخبار أيضا) من الغير له  


.
يتبع



عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الخميس نوفمبر 21, 2019 7:02 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس نوفمبر 21, 2019 2:14 am

14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية
(يقصر عن إدراك ما لا ينال إلا بالذوق) من الحقائق الإلهية والمعارف الغيبية ، ولهذا كانت علوم الأنبياء عليهم السلام بالإخبار من طريق الوحي الخاص النبوي ، إنما هو علوم الرسالة من الأحكام المتعلقة بأحوال أممهم وقصص الماضين ، وأحوال المعاد وما في غيب الملكوت وخبايا الملك .
وأما ما يرجع إلى معرفة الحق تعالى فإن الأنبياء عليهم السلام نالوا ذلك من حيث ولايتهم ، واستعمال أذواقهم المؤيدة بالعصمة والحفظ ، لا من طريق الخبر ولا النظر العقلي .

وقد ورثتهم الأولياء في ذلك على تفاوت مقاماتهم (فلم يبق العلم الكامل) فيما لا ينال إلا بالذوق من علوم الأسماء الإلهية والنعوت الربانية والتجليات القدسية والحضرات الأنسية وغير ذلك (إلا في) حصول طريق (التجلي) ، أي الانكشاف (الإلهي) للعبد وإفادته العلم به منه (و ) في أنواع ما (يكشفه الحق) تعالى لعباده الطاهرين من التعلق بالأكوان في ظواهرهم وبواطنهم (من أعين البصائر) القلبية (والأبصار) الحسية (من الأغطية) الوهمية التي هي مجرد قصور في الإدراك ، فيقوى الإدراك فيرى ما لم يكن يراه ،ويعرف ما لم يكن عارفا به من قبل.
(فتدرك) ، أي البصائر والأبصار عند ذلك جميع (الأمور) على ما هي عليه (قديمها) كالتعينات الاسمائية والنعوت الربانية .
(وحادثها) كمظاهر تلك التعينات والنعوت من الآثار الكونية (أو عدمها)،  كالأعيان الثابتة حال عدمها الأصلي بحسب ما قدر لعينه مما يدركه منها ووجودها كمعرفة تجليات الوجود المطلق وشهوده في مظاهر قيوده (ومحالها) .
وهي مراتب التنزيه لذلك الوجود المطلق بحسب ما يقتضيه الوهم والخيال (وواجبها) من تحقيق معرفة الوجود والثبوت (وجائزها) من تقلب الأعيان الكونيتين :
الوجود والعدم والحدوث والقدم (على ما هي) ، أي تلك الأمور (عليه في حقائقها) الموجودة والمعدومة (وأعيانها) الثابتة والمنفية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما كان مطلب العزير على الطّريقة الخاصّة لذلك وقع العتب عليه كما ورد في الخبر ولو طلب الكشف الّذي ذكرناه ربّما كان لا يقع عتب في ذلك .
والدّليل على سذاجة قلبه قوله في بعض الوجوه "أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها"[ البقرة : 259 ] .
وأمّا عندنا فصورته عليه السّلام في قوله هذا كصورة إبراهيم عليه السّلام في قوله: "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى" [ البقرة : 260 ] ويقتضي ذلك الجواب بالفعل الّذي أظهره الحقّ فيه في قوله تعالى: "فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ"
فقال له : "وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً " [ البقرة : 259]
فعاين كيف تنبت الأجسام معاينة تحقيق فأراه الكيفيّة .
فسأل عن القدر الّذي لا يدرك إلّا بالكشف للأشياء في حال ثبوتها في عدمها فما أعطي ذلك فإنّ ذلك من خصائص الإطّلاع الإلهي .
فمن المحال أن يعلمه إلّا هو فإنّها المفاتح الأول أعني مفاتح الغيب الّتي لا يعلمها إلّا هو وقد يطلع اللّه من شاء من عباده على بعض الأمور من ذلك . )

قال رضي الله عنه :  (فلما كان مطلب العزير) عليه السلام تحصيل العلم عنده بكيفية إعادة بناء بيت المقدس ، وتعيين السبب والوقت والفاعل بوجه ، جزي ليكشف عن ذلك على الطريقة الخاصة النبوية الحاصلة بالوحي الجبرائيلي (لذلك) ، أي لأجل هذا السبب (وقع العتب) ، أي المعاتبة من اللّه تعالى عليه في ذلك كما ورد في الخبر الإلهي قال اللّه تعالى: "أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها" [ البقرة : 259 ] الآية .
حيث كان عند طريقة العلم الكامل المذكور (فلو) أنه عليه السلام (طلب الكشف) عن ذلك بالوجه (الذي ذكرناه) من طريق التجلي الإلهي بالذوق الوجداني من مقام ولايته (ربما كان لا يقع عليه عتب) من جهة الحق تعالى (في ذلك) السؤال الذي سأله .

(والدليل) عندنا (على سذاجة) ، أي عدم التركيب (قلبه) ، أي العزير عليه السلام كبقية الأنبياء عليهم السلام ، فإنهم يهملون النظر في الأمور من جهتهم عقلا وكشفا ، ويطلبون العلم بها من جهة ربهم بطريقهم النبوي الخاص قوله عليه السلام (في بعض الوجوه) ، أي الجهات التي أرادها حين مر على بيت المقدس ، وقد خربها بختنصر وقتل اليهود ("أَنَّى") أي كيف (" يُحْيِي هذِهِ")، أي القرية بمعنى البلدة بإعادة بنيانها وإرجاع أهلها يسكنون فيها ("اللَّهُ") سبحانه ("بَعْدَ مَوْتِها") [ البقرة  : 259 ].
أي خرابها وذهاب أهلها ، فإنه عليه السلام لولا سذاجة قلبه وعدم تكلفه وتصنعه في الأمور ما وقع منه السؤال عن ذلك ، مع كمال إيمانه بالقضاء والقدر ومعرفته بسعة قدرة اللّه تعالى 

عن أبلغ من ذلك ؛ ولهذا أجابه اللّه تعالى عن سؤاله ذلك بأن أماته مائة عام ، ثم بعثه وأراه العبرة في نفسه غيرة عليه أن يسأل عن مثل ذلك مع كمال مقامه ورفعة شأنه ، هذا عند طائفة من أهل طريق اللّه تعالى .
قال الغزالي رحمه اللّه تعالى : وانظر كيف تحمل لإخوة يوسف عليه السلام ما فعلوه بيوسف عليهم السلام ، ولم يتحمل للعزير عليه السلام كلمة واحدة سئل عنها في القدر (وأما عندنا) ، أي معشر المحققين من أهل اللّه تعالى.

قال رضي الله عنه :  (فصورته) ، أي العزيز  (عليه السلام في قوله هذا) المذكور (كصورة إبراهيم) الخليل (عليه السلام في قوله) طالبا عين اليقين بعد علم اليقين (رب) ، أي رب ("أَرِنِي") ، أي اكشف لي معاينة (" كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ") [ البقرة : 260 ] .
ولهذا ذكرت قصة إبراهيم عليه السلام متصلة بقصة العزير عليه السلام حتى كأنها قصة واحدة ، ولما كان ابن زكريا عليه السلام في مقام معاينة ذلك من نفسه سماه اللّه تعالى يحيى ، ولم يجعل له من قبل سميا ، وكان يحيي دائما بالحياة الإلهية عن كشف وشهود ، قال تعالى: "يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا" [ مريم : 7 ] .
وقد ألبسه اللّه تعالى خلعة هذا الاسم الخاص به مثل خصوصية اسم اللّه به تعالى كما قال سبحانه "هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا "  [ مريم : 65 ] ، أي تعلم أحدا يسمي اللّه غيره تعالى ، فقد نال هذا المقام يحيى عليه السلام من غير طلب بل من باب الاختصاص والمنة .
وقد طلب العزير وإبراهيم عليهما السلام لينالاه من باب الكسب فوصل إليه العزير في نفسه وإبراهيم عليه السلام في الطيور الأربعة ، ولا بد فيه من شهود مثال يظهر فيه ، ولهذا قتل يحيى عليه السلام وقطع رأسه ليتحقق في مثال نفسه على وجه الشهادة ، فإن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون .

ولما كان له هذا المقام لا من باب الكسب فكان هو المطلوب له لا الطالب وهو مستمر له ، لأنه يحيي بصيغة المضارع الشامل للحال والاستقبال كان هو الذي يذبح الموت في صورة كبش يوم القيامة بين الجنة والنار بعد عرضه على أهل الجنة وأهل النار كما ورد في الخبر الصحيح ، وسيأتي في الحكمة اليحيوية مشرب غير هذا من حضرة أخرى إلهية .
قال رضي الله عنه :  (ويقتضي ذلك) ، أي قوله في سؤاله: "رَبِّ أَرِنِي " إلى آخره (الجواب) عن السؤال بالفعل لا بالقول ، فإن القول يوصل إلى علم اليقين وهو موجود فيه عليه السلام ، ولا يوصل إلى عين اليقين ، لا الفعل الذي ( أظهره الحق) تعالى (فيه) ، أي في العزير عليه السلام (في قوله) تعالى: "فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عام " ٍليرى ما سأل عنه ويعاينه ("ثُمَّ بَعَثَهُ") .

أي أحياه اللّه تعالى (فقال له) سبحانه بأن أوحى إليه بذلك : "قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ  (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ")، أي عظام حمار("كَيْفَ نُنْشِزُها")، أي نرفعها ونضم بعضها إلى بعض ("ثُمَّ نَكْسُوها")، أي تلك العظام بأن ننبت لها منها عليها ("لَحْماً") كما كانت من قبل (فعاين كيف تنبت الأجسام) والعظام (معاينة تحقيق) فلما تبين له قال: "أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [ البقرة : 259 ] .
أي أنا أعلم علم يقين من قبل بذلك والآن عاينته عين اليقين (فأراه) الحق تعالى (الكيفية) ، أي كيفية الإحياء للموتى .

قال رضي الله عنه :  (فسأل) ، أي عزير عليه السلام بما وقع منه مما ذكر (عن) سر (القدر) الإلهي (الذي لا يدرك) من طريق الأنبياء والأخبار (إلا بالكشف) الذوقي (للأشياء) المحسوسة والمعقولة والموهومة (في حال ثبوتها في عدمها) الأصلي من غير وجود لها (فما أعطي) ، أي ما أعطاه اللّه تعالى ذلك وإنما أماته عام فأرجع نفسه إلى عينها الثابتة في عدمها الأصلي ، ثم أعادها كما كانت فذاقت كيفية ذلك ولم تكشف عن عينها الثابتة في العدم كيف هي وكيف أحوالها فإن ذلك الكشف المذكور (من خصائص الاطلاع الإلهي) بالعلم القديم (فمن المحال) عقلا وشرعا (أن يعلمه) ، أي ذلك الكشف عن الأعيان الثابتة على ما هي عليه كلها (إلا هو) سبحانه .
(فإنها) أي تلك الأشياء الثابتة والأعيان العدمية الممكنة (هي المفاتيح الأول أعني مفاتيح الغيب) وهو الوجود الذاتي المطلق .
كما قال تعالى "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ" [ البقرة : 3 ] ، أي باللّه تعالى الغائب عنهم ، لأن الوجود المطلق القديم فلا ينفتح فيظهر إلا بالمفاتيح المذكورة (التي لا يعلمها) كلها إلا (هو) تعالى بحكم قوله سبحانه "وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ" [ الأنعام : 59 ] .
(وقد يطلع اللّه) تعالى بطريق الكشف (من يشاء من عباده) الأنبياء والأولياء بالورثة عن الأنبياء (على بعض الأمور من ذلك) السر الذي للقدر الإلهي في بعض الأحوال دون بعض ولا يعلم ذلك على التفصيل إلا اللّه تعالى .
قال تعالى :"عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ( 26 ) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ" [ الجن : 72 ] الآية .
وقال تعالى : "وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ" [ البقرة : 255 ] .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم أنّها لا تسمّى مفاتح إلّا في حال الفتح ، وحال الفتح هو حال تعلّق التّكوين بالأشياء ؛ أو قل إن شئت : حال تعلّق القدرة بالمقدور ولا ذوق لغير اللّه في ذلك .
فلا يقع فيها تجلّ ولا كشف ، إذ لا قدرة ولا فعل إلّا للّه خاصّة ، إذ له الوجود المطلق الّذي لا يتقيّد .
فلمّا رأينا عتب الحقّ له عليه السّلام في سؤاله في القدر علمنا أنّه طلب هذا الاطّلاع ، فطلب أن تكون له قدرة تتعلّق بالمقدور ، وما يقتضي ذلك إلّا من له الوجود المطلق .
فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق ذوقا ، فإنّ الكيفيّات لا تدرك إلّا بالأذواق).

(واعلم أنها) ، أي تلك الأعيان الثابتة في عدمها الأصلي (لا تسمى مفاتيح) تفتح خزانة الغيب الذاتي فتظهر ذلك الوجود المطلق مقيدا بها حين تتصف به عندها وتظهر به لها (إلا في حال الفتح) والإظهار المذكور لا قبل ذلك لأنها قبل ذلك عدم صرف .
وليست ثابتة من دون وجود قبل ظهورها بالوجود إلا في ذلك الحال الذي تفتح به غيب الوجود ، لأن العلم الإلهي القديم تعلق بها أن تكون ثابتة به حين فتحها باتصافها بالوجود على طريق الوهم وليس لها إلا الثبوت في نفس الأمر ، فهي مفاتيح لا مفاتيح كما أن الأجرام إذا قابلت نور الشمس تفتح من نورها بقدر ما قبلت الظهور به منها ونور الشمس منفتح بنفسه فالأجرام مفاتيح إذ لولاها لم يظهر النور للرائي ، والنور ظاهر بنفسه لنفسه لا يغيب عن نفسه أصلا .

(وحال الفتح) الذي هي فيه ثابتة من الأزل معدومة بالعدم الأصلي هو حال تعلق التكوين الإلهي للأشياء (بالأشياء) تعلقا أزليا لا بداية له أن تكون تلك الأشياء في أوقات وجودها (أو قل إن شئت) بعبارة أخرى حال الفتح هو حال تعلق القدرة الأزلية (بالمقدور) أن يكون في وقت كونه ، فكونه في وقت كونه هو وقت تعلق القدرة به والوقت باعتبار المقدور ، ولا وقت باعتبار القدرة ، فالأزل محيط بالأوقات باعتبار المقدورات التي يمر عليها الزمان وتتصف بالحدثان ، فهي المرتبة بالمرتب لها ولا ترتيب للمرتب لها في ترتيبه لها (ولا ذوق) ، أي لا علم بطريق الكشف والمعاينة والمشاهدة (لغير اللّه) تعالى (في ذلك السر) الذي للأشياء في حال ثبوتها في عدمها الأصلي .

(فلا يقع فيها) ، أي في الأشياء الثابتة في عدمها الأصلي مع بقائها الثابتة كذلك (تجل) للحق تعالى على أحد أصلا (ولا) يقع (كشف) عنها لأحد من حيث هي أشياء ثابتة إلا في بعض الأمور في بعض الأحوال لبعض الأشخاص إذ ، أي لأنه (لا قدرة) على شيء قدرة مؤثرة (ولا فعل) على الحقيقة (إلا للّه) تعالى (خاصة) دون غيره سبحانه إذ ، أي لأنه تعالى (له الوجود المطلق الذي لا يتقيد) من حيث هي تفيد أصلا ، فلا يكشف عن جميع القيود في جميع الأحوال والأزمان والأشخاص سواه تعالى ، وكل ما سواه قيود عدمية وأعيان ممكنة ومقدورات ثابتة في غير وجود في عدمها الأصلي ، فلا يكشف عنها مثلها ولا يعلمها إلا من هو منزه عنها ، لأنه الموجود وهي المعدومة وهو العلم وهي المعلومة 

(فلما رأينا عتب الحق) تعالى له أي للعزير (عليه السلام في سؤاله في القدر) حين " قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها".
أي يوجدها كما كانت ويكشف بوجوده المطلق عن أعيانها الثابتة في عدمها الأصلي وأحوال تلك الأعيان فيظهر مقيدا بها (علمنا أنه) ، أي العزير عليه السلام (طلب) من اللّه تعالى (هذا الاطلاع) بأن يكشف له اللّه تعالى من طريق نبوته ويخبره بالوحي عما طلب مع بقائه قائما بالوجود الحق (فطلب أن يكون له قدرة) مؤثرة بالحق تعالى (تتعلق بالمقدور) فتوجده بعد الكشف عن ثبوته عما هو عليه ، وهو أمر ممكن لأن اللّه تعالى على كل شيء قدير ، فإن عيسى عليه السلام كشف عن الطير الذي خلقه من طين في حضرة عينه الثابتة وأمده اللّه تعالى بالقدرة المؤثرة فنفخ فيه روحا أيضا بعد أن سوّى جسده ، وكذلك فعل إبراهيم عليه السلام في الطيور الأربعة .
(وما يقتضي ذلك) ، أي يقدر عليه في كل شيء (إلا من له الوجود المطلق) ؛ ولهذا قال العزير عليه السلام لما تبين له مقدار ما عرف من كيفية ما طلب أن اللّه على كل شيء قدير ، وحكى الحق سبحانه عن ذلك فقال "فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" .
(فطلب) من الحق تعالى (ما لا يمكن وجوده في الخلق) ، أي من المخلوق (ذوقا) إلا مقدار مجرد النسبة في بعض الأمور وحصل له ما يمكن من ذلك في نفسه وفات ما لم يكن (فإن الكيفيات لا تدرك إلا بالأذواق) وكان جوابه بالفعل ليذوق ما يمكن من ذلك بنفسه .
.
يتبع


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الخميس نوفمبر 21, 2019 7:02 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس نوفمبر 21, 2019 2:27 am

14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا ما رويناه ممّا أوحى اللّه به إليه لئن لم تنته لأمحونّ اسمك من ديوان النبوّة ، أي أرفع عنك طريق الخبر وأعطيك الأمور على التّجلّي ، والتّجلّي لا يكون إلّا بما أنت عليه من الاستعداد الّذي به يقع الإدراك الذّوقي ، فتعلم أنّك ما أدركت إلّا بحسب استعدادك فتنظر في هذا الأمر الّذي طلبت ، فلمّا لم تره تعلم أنّه ليس عندك الاستعداد الّذي تطلبه وأنّ ذلك من خصائص الذّات الإلهيّة ، وقد علمت أنّ اللّه أعطى كلّ شيء خلقه فإن لم يعطك هذا الاستعداد الخاصّ ، فما هو خلقك ، ولو كان خلقك لأعطاكه الحقّ الّذي أخبر أنّهأَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [ طه : 50 ] فتكون أنت الّذي تنتهي عن مثل هذا السّؤال من نفسك ، لا تحتاج فيه إلى نهي إلهي وهذه عناية من اللّه بالعزير عليه السّلام علم ذلك من علمه وجهله من جهله ).

 (وأما ما رويناه) في الحديث النبوي (مما أوحى اللّه) تعالى (به إليه) ، أي عزير عليه السلام من قوله له زيادة في المعاتبة (لئن لم تنته) عن طلب ما سألته (لأمحون اسمك) ، أي أزيل حقيقتك (من ديوان النبوّة ) وأوقفك في مقام الولاية أي (أرفع عنك طريق الخبر) بالوحي النبوي ، فلا أكشف لك عن الأمور على مقدار ما هي عليه في نفسها وأدرك إلى أن أفيض عليك الإمداد على قدر استعدادك (وأعطيك الأمور) الغيبية (على) طريق (التجلي) ، أي الانكشاف بحسب استعدادك وأقطع عنك الخبر بالوحي (والتجلي) بالأمور الغيبية (لا يكون) أبدا (إلا بما أنت) كائن (عليه من الاستعداد الذي به يقع الإدراك) منك (الذوقي) لذلك الأمر الذي تدركه (فتعلم) حينئذ (أنك ما أدركت أمرا إلا بحسب استعدادك) ، أي قوّتك القابلة ووسعك المتهيىء ، فتنال من كل أمر على قدرك لا على قدر ذلك الأمر في نفسه .

(فتنظر في هذا الأمر الذي طلبت) وهو الاطلاع على سر القدر (فلما لم تره) وجد عندك مع توجهك على حصوله (تعلم أنه) ، أي الشأن (ليس عندك الاستعداد) ، أي التهيؤ والقبول (للذي تطلبه) من ذلك السر المذكور (و) تعلم (أن ذلك من خصائص الذات الإلهية ) لا يقدر عليه غيره تعالى (وقد علمت أن اللّه) تعالى ("أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ") من استعداده الخاص القابل لما تهيأ له من المدد الفياض الدائم بحكم قوله تعالى: "الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ."

(ولم يعطك) سبحانه (هذا الاستعداد الخاص) لقبول فيض هذا الوسع المذكور للإحاطة بسر القدر الإلهي (فما هو) ، أي هذا الاستعداد (خلقك ولو كان خلقك) ثابتا في الأزل لعينك الثابتة قبل إضافة الوجود في حال العدم الأصلي (لأعطاكه الحق) تعالى (الذي أخبر أنه "أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ") ولم يمنع شيئا ما استعد له وتهيأ لقبوله أصلا (فتكون أنت الذي تنتهي عن مثل هذا السؤال) المذكور انتهاء صادرا (من نفسك لا تحتاج فيه) ، أي في هذا الانتهاء (إلى نهي إلهي) يرد عليك (وهذا) الأمر الذي وقع للعزير عليه السلام (عناية) ، أي اعتناء (من اللّه) تعالى (بالعزير عليه السلام علم ذلك) المذكور (من علمه) من الناس (وجهله من جهله) منهم وهو حق في نفسه كما ذكر.


قال الشيخ رضي الله عنه :  (واعلم أنّ الولاية هي الفلك المحيط العامّ ، ولهذا لم تنقطع ، وله الإنباء العامّ . وأمّا نبوّة التّشريع والرّسالة فمنقطعة ، وفي محمّد صلى اللّه عليه وسلم قد انقطعت ، فلا نبيّ بعده مشرّعا أو مشرعا له ولا رسول وهو المشرّع .
وهذا الحديث قصم ظهور أولياء اللّه لأنّه يتضمّن انقطاع ذوق العبوديّة الكاملة التّامّة فلا ينطلق عليه اسمها الخاصّ بها فإنّ العبد يريد أن لا يشارك سيّده - وهو اللّه - في اسم ؛ واللّه لم يتسمّ بنبيّ ولا رسول ، وتسمّى بالوليّ واتّصف بهذا الاسم فقال :اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا[ البقرة : 258 ] وقال :وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ[ الشورى : 28 ] وهذا الاسم باق جار على عباد اللّه دنيا وآخرة . فلم يبق اسم يختصّ به العبد دون الحقّ بانقطاع النّبوّة والرّسالة .
إلّا أنّ اللّه لطيف بعباده فأبقى لهم النّبوّة العامّة الّتي لا تشريع فيها ، وأبقى لهم التّشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام . وأبقى لهم الوراثة في التّشريع فقال : « العلماء ورثة الأنبياء » وما ثمّة ميراث في ذلك إلّا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام فشرعوه . )


(واعلم) يا أيها السالك (أن) دائرة (الولاية هي الفلك المحيط العام ) فهي شاملة للأنبياء والمرسلين عليهم السلام ، فإنهم أولياء كما أنهم أنبياء (ولهذا لم تنقطع) ، أي الولاية إلى يوم القيامة ، لأنها الميراث الذي تركته الأنبياء عليهم السلام من بعدهم ، فلم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم وهو الولاية ، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ أوفر (ولها) ، أي للولاية (الإنباء) ، أي الإخبار بطريق التجلي الإلهي على مقدار الاستعداد في الأمور كلها (العام) ذلك الإنباء في النبي وغيره .

(وأما نبوّة التشريع) للأحكام (والرسالة) من اللّه تعالى إلى الأمّة (فمنقطعة) لا تكون في كل زمان كنبوّة الولاية ، لأن نبوّة الولاية عامة ونبوّة التشريع والرسالة خاصة ، والعام يبقى ببقاء أفراده وهم باقون إلى يوم القيامة ، والخاص يذهب بذهاب أفراده .
(وفي) نبينا (محمد صلى اللّه عليه وسلم قد انقطعت) النبوة التي هي نبوة التشريع والرسالة (فلا نبي بعده) إلى يوم القيامة (يعني) نبيا (مشرعا) للأحكام على الاستقلال بشرع جديد (أو) نبيا (مشرعا له) ، أي محمد صلى اللّه عليه وسلم بأن يكون نبيا جاء مقررا لشريعة محمد عليه السلام كما كانت أنبياء بني إسرائيل يقررون شريعة موسى عليه السلام (ولا رسول) بعده أيضا (وهو) الرسول (المشرع) للأحكام الإلهية .
(وهذا الحديث) "رواه مسلم والبخاري وغيرهما"  في انقطاع نبوّة التشريع والرسالة (قصم) ، أي قطع (ظهور)

جمع ظهر (أولياء اللّه) تعالى ، لأنه ، أي الحادث المذكور (يتضمن انقطاع ذوق العبودية) للّه تعالى (الكاملة التامة) في مرتبتي العلم والعمل في الظاهر والباطن (فلا يطلق عليه السلام ) ، أي على الولي (اسمها) ، أي اسم العبودية (الخاص) ذلك الاسم (بها) ، أي بالعبودية بحيث إذا أطلقت تصرف إليه لأنه فردها الكامل (فإن العبد) المقبل على التحقق بالعبودية (يريد أن لا يشاركه سيده) تعالى (وهو اللّه) سبحانه (في اسم) من أسمائه لينفرد بالعبودية كما انفرد ربه بالربوبية .

(واللّه) تعالى (لم يتسم) في الكتاب ولا السنة (بنبي ولا رسول و) إنما (تسمى بالولي واتصف) سبحانه بهذا الاسم في الكتاب العزيز فقال "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا" [ البقرة : 257 ] .
فولي وصف اللّه تعالى في المعنى وإن كان خبرا عنه في اللفظ (وقال) تعالى في مثل ذلك (وهو) أي اللّه تعالى : ("الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ") [ الشّورى : 28 ] أي المحمود ولايته (وهذا الاسم) أي الولي باق جار في الألسنة على عباد اللّه تعالى المتقين (دنيا وآخرة ).
قال تعالى "إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ" [ الأنفال  : 34] .
(فلم يبق اسم يختص به العبد) المؤمن المتقي (دون الحق) تعالى (بانقطاع النبوّة والرسالة) فإن النبي والرسول اسمان يختص بهما العبد دون الحق تعالى كما ذكر واسم الولي مشترك .

(إلا أن اللّه) تعالى (لطيف بعباده) المؤمنين كما قال سبحانه "اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ" [ الشورى : 19 ] ، والضمير راجع إلى اللّه تعالى ، أي بعباد اللّه تعالى لا بعبد الدرهم ولا عبد الدينار ، فإنه لا يلطف به .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "تعس عبد الدرهم وتعس عبد الدينار ، وتعس عبد الخميصة وانتكس وإذا شيك فلا انتقش". أي إذا دخلت فيه شوكة لا خرجت منه بالمنقاش .
رواه الطبري والديلمي و البيهقي والبزار والمناوي وغيرهم.

 (فأبقى) سبحانه (لهم النبوّة العامة) وهي مقام الولاية (التي لا تشريع فيها) ، أي تبيين الأحكام الإلهية للمكلفين بها (وأبقى لهم) سبحانه ، أي لعباده (التشريع في) رتبة (الاجتهاد) الذي للمجتهدين (في ثبوت الأحكام) الشرعية (وأبقى لهم) سبحانه (الوراثة) عن الأنبياء عليهم السلام (في التشريع) باستنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها الأصلية (فقال) ، أي اللّه تعالى على لسان نبيه عليه السلام ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، أي "إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى" [ النجم : 4 ] .
والوحي قول اللّه تعالى (العلماء) باللّه تعالى عن كشف وشهود وعيان وربما يلتحق بهم أصحاب الدليل والبرهان من بعض الوجوه في بعض الأحيان (ورثة) جمع وارث (الأنبياء)

المتقدمين عليهم السلام وذلك في وصف العلم الإلهي اللدني الذي هو الولاية .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « العلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء وورثتي وورثة الأنبياء ». اوره السيوطي في الجامع الكبير والصغير والمتقي الهندي القزويني في التدوين .
وقال " ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا" [ فاطر : 32 ] الآية .


(وما ثم) ، أي هناك في العلماء (ميراث في ذلك) ، أي في العلم النبوي (إلا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام) الشرعية الأصلية والفرعية في الاعتقاد وفي العمل بالكشف عن ذلك في الكتاب والسنة (فشرعوه) للأمة المحمدية شريعة نبيهم ، فيأتي كل ولي وارث كامل بالفهم الجديد لا بالشرع الجديد ، كما يأتي المجتهد بالمذهب الجديد لا الدين الجديد ، والمشارب تختلف بالأذواق والحق واحد في عين الكل ، والكل طرق إليه ولا خطأ في الفهم الجديد عند الولي الوارث لقوله تعالى: " قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً" [ الكهف : 109 ] .

ففهوم كلمات الرب لا تنحصر على الأبد ، ولهذا ورد في الحديث أنه يقال للمؤمن في الجنة حيث يقرأ القرآن : " اقرأ وارق ".
لأنه كلما قرأ فهم فهما جديدا فيرقى به مرتبة في الشهود لم يكن عليها والكل صواب ، لأنه معنى الكلمات الإلهية بخلاف مذهب المجتهد في العمل الظاهر فإنه يخطئ ويصيب كما قال صلى اللّه عليه وسلم : " من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد " .
 وسبب الخطأ من المجتهد استعمال عقله فيما اجتهد فيه من الدليل الشرعي ، والعقل قاصر فتارة يصيب بمعونة إلهية ، وتارة يخطئ فتنة له من اللّه تعالى ، وهو مثاب على كل حال ، لأنه ما استعمل عقله في هواه وإنما استعمله في أصول شرعه المأمور باتباعه .
وسبب عدم خطأ الولي الوارث في فهمه أصلا لأنه ما استعمل عقله في ذلك الفهم ، وإنما فرغ المحل بعد طهارته من الأغيار وتنظيفه منها وتطييبه بالأذكار الإلهية والحضور التام ، وقعد ينتظر ما يفيض عليه من كرم ربه من علوم الإلهام ، فهو مصيب على كل حال ويسمى مجتهدا ، وإنما يسمى عالما باللّه وعارفا .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا رأيت النّبيّ يتكلّم بكلام خارج عن التّشريع فمن حيث هو وليّ عارف .
ولهذا ، مقامه من حيث هو عالم ووليّ أتم وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع .
فإذا سمعت أحدا من أهل اللّه يقول أو ينقل إليك عنه أنّه قال الولاية أعلى من النّبوّة ، فليس يريد ذلك القائل إلّا ما ذكرناه .
أو يقول إنّ الوليّ فوق النّبيّ والرّسول ، فإنّه يعني بذلك في شخص واحد وهو أنّ الرّسول من حيث أنّه وليّ أتمّ منه من حيث أنّه نبيّ ورسول ، لا أنّ الوليّ التّابع له أعلى منه ، فإنّ التّابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه ، إذ لو أدركه لم يكن تابعا فافهم . )

قال الشيخ الله عنه :  (فإذا رأيت) يا أيها السالك (النبي) من الأنبياء عليهم السلام فيما ورد عنه (أنه يتكلم بكلام خارج عن التشريع) أي تبيين الأحكام الشرعية للمكلفين أمرا ونهيا وتخييرا (فمن حيث هو) ، أي ذلك النبي (ولي) للّه تعالى (وعارف به) سبحانه لا من حيث هو نبي ورسول (ولهذا) كان (مقامه) ، أي النبي (من حيث هو عالم) باللّه تعالى وهو مقام ولايته (أتم وأكمل) من مقامه (من حيث هو رسول أو ذو تشريع) ، أي تبيين الأحكام الإلهية من نبي قبله (و) ذو (شرع) جديد ، لأن مقام الولاية بينه وبين اللّه تعالى ومقام الرسالة بينه وبين المرسل إليهم من مؤمنين وكافرين ، ولأن الولاية باللّه والرسالة بالملك ، ولأنهم في حال الولاية مع اللّه تعالى وفي حال الرسالة مع غيره ، ولأن الولاية باقية والرسالة منقطعة ، وهذا كله في ولاية الأنبياء مع رسالتهم عليهم السلام ، لا في الولاية المفردة وحدها من غير رسالة ، كحالة الأولياء أشار إلى ذلك بقوله :
قال الشيخ الله عنه :  (فإذا سمعت) يا أيها السالك (أحدا من أهل اللّه يقول) من تلقاء نفسه (أو ينقل) بالبناء للمفعول ، أي ينقل أحد (إليك عنه أنه قال الولاية أعلى من النبوة ) والرسالة (فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه) من أن النبي من حيث هو عالم أتم وأكمل من حيث هو رسول ونبي .
(أو) سمعت أحدا يقول إن الولي فوق النبي والرسول في المرتبة (فإنه) إنما (يعني) ، أي يقصد (بذلك في) حق (شخص واحد) أنه ولي نبي رسول (وهو) ، أي ما يعنيه بقوله ذلك (أن الرسول عليه السلام من حيث هو ولي أتم ) ، وأكمل (منه) ، أي من نفسه (من حيث هو نبي ورسول) وهذا حق لا شبهة فيه (لا أن) مراده أن (الولي التابع له) ، أي للنبي الكائن من أمته في زمان من الأزمنة الماضية والمستقبلة أو الحالية (أعلى) ، أي أرفع مرتبة (منه ) ، أي من ذلك النبي أو من نبي من الأنبياء عليهم السلام

قال الشيخ الله عنه :   (فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدا) كائنا من كان ذلك التابع وذلك المتبوع (فيما هو تابع له فيه) من الشرع المقرر وغيره إذ ، أي لأنه لو أدركه ، أي التابع للمتبوع (لم يكن تابعا) لذلك المتبوع وقد فرضنا أنه تابع له فإنه لا يدركه أصلا فضلا عن سبقه له (فافهم) هذا البحث .

فإن كثيرا ممن هو أجنبي عن أهل هذه الطائفة المحققين يشنع عليهم في أنهم يقولون بأن الولي أفضل من النبي والرسول ، وأن الولاية أفضل من النبوّة ولا يعرف قولهم في ذلك ولا كيف قالوا فيفتري عليهم الكذب ويرميهم بالبهتان واللّه بصير بالعباد .

.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الخميس نوفمبر 21, 2019 7:03 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس نوفمبر 21, 2019 2:28 am

14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الرابع
14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فمرجع الرّسول والنّبيّ المشرّع إلى الولاية والعلم .
ألا ترى أنّ اللّه أمره بطلب الزيادة من العلم لا من غيره فقال له آمرا : بقوله :وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً[ طه : 114 ] .
وذلك أنّك تعلم أنّ الشّرع تكليف بأعمال مخصوصة أو نهي عن أعمال مخصوصة ومحلّها هذه الدّار فهي منقطعة ، والولاية ليست كذلك إذ لو انقطعت لانقطعت من حيث هي كما انقطعت الرّسالة من حيث هي . وإذا انقطعت من حيث هي لم يبق لها اسم ، والوليّ اسم باق للّه تعالى ، فهو لعبيده تخلّقا وتحقّقا وتعلّقا ).


(فمرجع) ، أي ما يكون إليه رجوع (الرسول والنبي المشرّع) للأمة أحكام ربها في نفسه (إلى الولاية والعلم) باللّه تعالى ألا ترى أن اللّه تعالى قد أمره ، أي النبي صلى اللّه عليه وسلم بطلب الزيادة من العلم لا من غيره ، أي العلم فقال تعالى له آمرا بذلك "وَقُلْ رَبِّ"، أي يا رب (" زِدْنِي عِلْماً " وذلك) ، أي كون العلم والولاية مرجع النبي والرسول .

(إنك) يا أيها السالك تعلم قطعا أن الشرع تكليف من اللّه تعالى لعباده (بأعمال مخصوصة أو نهي عن أفعال مخصوصة ومحلها)، أي تلك الأعمال والأفعال (هذه الدار) التي هي دار الدنيا فقط ولا محل لها في الآخرة (فهي) ، أي تلك الأعمال والأفعال (منقطعة) بموت المكلف وذهاب التكليف عنه بانتقاله إلى دار الآخرة ، فالنبوّة والرسالة المتعلقتان بما هو منقطع منقطعتان أيضا (والولاية ليست كذلك) ، أي هي ليست منقطعة لعدم تعلقها بالأعمال والأفعال المنقطعة (إذ لو انقطعت) بانقضاء هذه الدار والدخول إلى دار الآخرة لا نقطعت من حيث هي ، ولاية فلم تكن توجد في ولي أصلا إلى يوم القيامة.
 (كما انقطعت الرسالة من حيث هي) رسالة لا من حيث الولاية التي في ضمنها ، وكذلك النبوة انقطعت من حيث هي نبوة فلا يوجد رسول جديد ولا نبي جديدا إلى يوم القيامة (وإذا انقطعت) ، أي الولاية (من حيث هي) ولاية (لم يبق لها اسم) إلى يوم القيامة .
(والولي اسم) من أسماء اللّه تعالى (باق للّه) تعالى إلى الأبد (فهو) ، أي اسم الولي باق أيضا (لعبيده) ، أي اللّه تعالى غير منقطع في الدنيا والآخرة .

(تخلقا) ، أي من جهة التخلق وهو الاتصاف في النفس على وجه التكليف بمقتضى معنى الولاية ، وهي تنفيذ القول والحكم في الغير بطريق القهر ، فاللّه تعالى الولي على كل شيء لنفوذ قوله وحكمه في ملكه الذي هو كل شيء إيجادا وإمدادا ، فإذا اتصف العبد بهذا الوصف في نفسه فنفذ قوله وحكمه في ملكه الذي جعله اللّه تعالى له من أعضائه وقواه الظاهرة والباطنة إيجادا وإمدادا أيضا بمعونة اللّه تعالى له فقد تخلق باسم اللّه تعالى الولي وإنما يكون هذا للعبد إذا ألقت أرض نفسه ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت .

(وتحققا) ، أي من جهة التحقق أيضا وهو الكشف والمعاينة لما هو في نفس الأمر من وصف الولاية واسم الولي ، والتحقق ثلاث مراتب : علم اليقين بالفهم الجازم والإدراك اللازم ، وعين اليقين بالحس والمشاهدة ، وهاتان المرتبتان أجنبيتان من المقصود ، والمقصود هو المرتبة الثالثة وهي حق اليقين وهو الاتحاد الأزلي الأبدي الذي يستهلك جميع النسب والاعتبارات ولا يتصور فيه علم أصلا ولا عنه خبر في الدارين ، وهذان القسمان التخلق والتحقق مقاما سلوك لا وصول فالتخلق معرفة نهاية العبودية والتحقق معرفة نهاية الربوبية وبهاتين المعرفتين يكون الوصول لأهله .

(وتعلقا) ، أي من وجه التعلق وهو لزوم العبودية للربوبية وقيام الربوبية على العبودية فيتعلق العبد بالرب والرب بالعبد ، وهو الوقوف في عين القسمين الأوّلين ، وذلك نهاية السير من حيث الجملة وإن كان السير لا نهاية له ، فإن عدم النهاية فيه من حيث الخلق الجديد بالتجلي الجديد في هذه المراتب المذكورة وعلى حسب الموازين الكلية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقوله للعزير لئن لم تنته عن السّؤال عن ماهيّة القدر لأمحونّ اسمك من ديوان النّبوّة فيأتيك الأمر على الكشف بالتّجلّي ويزول عنك اسم النّبيّ والرّسول ، وتبقى له ولايته .
إلا أنّه لمّا دلّت قرينة الحال أنّ هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد علم من اقترنت عنده هذه الحالة مع الخطاب أنّه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية في هذه الدّار ، إذ النّبوّة والرّسالة خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تجري عليه الولاية من المراتب ، فيعلم أنّه أعلى من الوليّ الّذي لا نبوّة تشريع عنده ولا رسالة .
ومن اقترنت عنده حالة أخرى تقتضيها أيضا مرتبة النّبوّة يثبت عنده أن هذا وعد لا وعيد فإنّ سؤاله عليه السّلام مقبول إذ النّبيّ هو الوليّ الخاصّ .
ويعرف بقرينة الحال أنّ النّبيّ من حيث له في الولاية هذا الاختصاص محال أن يقدم على ما يعلم أنّ اللّه يكرهه منه أو يقدم على ما يعلم أنّ حصوله محال ).
(فقوله) تعالى (للعزير) في الخبر المذكور فيما مضى (لئن لم تنته عن السؤال عن ماهية القدر) الإلهي لتعلم مقدراته الجزئية على ما هي عليه في عدمها الأصلي (لأمحون اسمك) ، أي أرفعك وأزيلك (من ديوان) ، أي جملة أصحاب (النبوّة) الإلهية المقتضية للأنبياء والأخبار من طرف اللّه تعالى للعبد بالوحي من الملائكة .
(فيأتيك الأمر) الإلهي (على) طريق (الكشف) منك عنه والمعاينة له (بالتجلي) الإلهي عليك من غير واسطة وحي ولا ملك (ويزول عنك اسم النبي) لعدم النبأ وهو الخبر من الغير لك (و) اسم (الرسول) لعدم إرسالنا لك إلى غيرك بتبليغ أحكامنا ، فيزول حينئذ عنه اسم نبوته ورسالته لزوال ما هو سبب وجودهما فيه وهو النبأ والإرسال (وتبقى له ولايته) التي هي له لا باعتبار شيء زائد على حقيقته فكأنها ذاتية ، ولهذا بقيت النبوّة والرسالة عرضيان زائلان بزوال الدنيا وبطلان التكليف ؛ ولهذا ختما فلم يأت منهما أحد غير ما كان من قبل .
(إلا أنه) ، أي الشأن (لما دلت قرينة الحال) عند من يتأمل هذا الكلام الذي قال اللّه تعالى له : (أن هذا الخطاب) المذكور منه تعالى للعزير عليه السلام (جرى مجرى الوعيد) المستعمل في الشر لاقتضائه هبوط مرتبة العزير عليه السلام حيث يسد عليه طريق زائد في التلقي من حضرة الغيب وهو طريق الوحي بالملائكة عليهم السلام .
(علم) من ذلك (من اقترنت عنده هذه الحالة) المذكورة (مع) هذا (الخطاب) المقتضي (أنه) ، أي الخطاب (وعيد) منه تعالى للعزير عليه السلام (بانقطاع) متعلق باقترنت (خصوص بعض مراتب الولاية) ، وهي مرتبة الإنباء والإخبار بالملك في حق أحكام التكليف في هذه الدار الدنيوية (إذ) ، أي لأن (النبوة والرسالة خصوص رتبة) من المراتب (في) مقام (الولاية محتوية) تلك المرتبة (على بعض ما تحتوي عليه الولاية من المراتب) الإلهية.


 فإن الإنباء والإخبار في مقام النبوة ، والتبليغ في مقام الرسالة كشف في نفس الأمر بحسب الاستعداد الذي خلقت عليه الأنبياء والمرسلون لقبول فيض التجلي الدائم ، فالكل ولاية وأخذ بطريق الكشف والتجلي ، ولكن النبوة والرسالة خصوص حالة من ذلك ، فإذا نقص هذا الخصوص كان هبوط مقام في الجملة (فيعلم) ، أي من اقترن عنده ذلك أنه ، أي النبي والرسول الجامع لجميع مراتب الولاية خصوصها وعمومها (أعلى) مرتبة عند اللّه تعالى (من) مرتبة (الولي الذي) نقصت ولايته بحيث (لا يكون) خصوص مرتبة (نبوّة تشريع) للأمة (عنده) فيها (ولا) خصوص مرتبة رسالة ومن اقترنت عنده حالة أخرى).


 تأتي الإشارة إليها قريبا مع هذا الخطاب المذكور (تقتضيها) ، أي تلك الحالة (أيضا مرتبة النبوّة) والرسالة (ثبت عنده أن هذا) أي الخطاب من اللّه تعالى (وعد) بالخبر للعزيز عليه السلام (لا وعيد) بالشر (فإن سؤاله) ، أي العزير (عليه السلام مقبول) عند اللّه تعالى إذ ، أي لأن (النبي هو الولي الخاص) ، أي صاحب الولاية الخاصة التي من جملة مراتبها النبوة والرسالة ، ثم أشار إلى القرينة الأخرى بقوله (ويعرف بقرينة الحال) وهي تحقق الكمال (أن النبي من حيث له في) مقام الولاية الإلهية (هذا الاختصاص) الذي لا يوجد في غيره من بقية الأولياء الذين ليس عندهم هذا الخصوص في ولايتهم محال عقلا وشرعا أن يقدم على ما يعلم من الأقوال والأفعال أن اللّه تعالى (يكرهه منه) ولا يحبه له (أو يقدم على ما يعلم أن حصوله) من اللّه تعالى (محال) إذ الجهل على الأنبياء عليهم السلام بما يجب في حق اللّه تعالى وما يجوز وما يستحيل محال عليهم ، فإنهم أعرف الناس باللّه تعالى .


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الخميس نوفمبر 21, 2019 7:05 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية الجزء الخامس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس نوفمبر 21, 2019 2:29 am

14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية الجزء الخامس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الخامس
14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإذا اقترنت هذه الأحوال عند من اقترنت عنده وتقرّرت أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده في قوله : « لأمحونّ اسمك من ديوان النّبوّة » مخرج الوعد ، وصار خبرا يدلّ على علوّ مرتبة باقية وهي المرتبة الباقية على الأنبياء والرّسل في الدّار الآخرة الّتي ليست بمحلّ لشرع يكون عليه أحد من خلق اللّه في جنّة ولا نار بعد الدّخول فيهما .
وإنّما قيّدناه بالدّخول في الدّارين - الجنّة والنّار - لما شرّع يوم القيامة لأصحاب الفترات والأطفال الصّغار والمجانين فيحشر هؤلاء في صعيد واحد لإقامة العدل والمؤاخذة بالجريمة والثّواب العملي في أصحاب الجنّة . فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل عن النّاس بعث فيهم نبيّ من أفضلهم وتمثّل لهم نار يأتي بها هذا النّبيّ المبعوث في ذلك اليوم فيقول لهم أنا رسول اللّه إليكم ، فيقع عندهم التّصديق به ويقع التّكذيب عند بعضهم .
ويقول لهم اقتحموا هذه النّار بأنفسكم ، فمن أطاعني نجا ودخل الجنّة ، ومن عصاني وخالف أمري هلك ، وكان من أهل النّار . فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها سعد ونال الثّواب العملي ووجد تلك النّار بردا وسلاما . ومن عصاه استحقّ العقوبة فدخل النّار ونزل فيها بعمله المخالف ليقوم العدل من اللّه تعالى في عباده)

(فإذا اقترنت هذه الأحوال) مع الخطاب الإلهي (عند من اقترنت عنده وتقررت) ، أي ثبتت في نفسه (أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده) الوارد منه تعالى في حق عزير عليه السلام (في قوله تعالى : لأمحون اسمك من ديوان النبوة) كما سبق بيانه (مخرج الوعد له) بالخير .
(فصار) ذلك (خبرا) من اللّه تعالى (يدل) في حق عزير عليه السلام (على علو مرتبة له باقية) إلى الأبد لا تزول عنه ولا تنقطع وهي مرتبة الولاية الإلهية (وهي المرتبة الباقية) إلى يوم القيامة وإلى ما بعد ذلك (على الأنبياء والرسل) عليهم السلام (في الدار الآخرة) أيضا.
(التي ليست بمحل شرع يكون عليه أحد من خلق اللّه) تعالى (في جنة ولا نار بعد الدخول فيهما) ، أي في الجنة والنار ، فالنبوّة والرسالة تزولان بزوال الدار التي هي محل التكليف ولا يبقى إلا الولاية ، فالمحو من ديوان النبوّة على هذا زيادة شرف في حقه عليه السلام ، وهو قد طلب ما يقتضي ذلك بسؤاله عن سر القدر .
فوعده اللّه تعالى بحصول ذلك له إن لم ينته عن ذلك السؤال ، لأن النبوّة والرسالة مقامان لأحكام المكلفين من المؤمنين والكافرين وأحوال التبليغ إليهم ، وذلك يقتضي الهبوط عن مقام الولاية العالي الذي هو في الأنبياء والمرسلين عليهم السلام أفضل من مقام نبوتهم ومقام رسالتهم كما سبق بيانه .
(وإنما قيدناه) ، أي الشرع الذي يكون عليه أحد من الخلق (بالدخول في الدارين) دار (الجنة) ودار (النار لما شرع) ، أي لأجل أنه ورد في الأخبار الصحيحة

أن اللّه تعالى شرع (في يوم القيامة لأصحاب الفترات) جمع فترة وهي انقطاع الوحي وفقد تواتر الدين الصحيح بين كل رسولين كالفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام (والأطفال الصغار) الذين ماتوا قبل البلوغ ولعلهم أطفال المشركين ، فإن أطفال المسلمين كلهم في الجنة كما ورد في الأخبار النبوية (والمجانين) الذين ماتوا قبل أن يجري عليهم قلم التكليف في الدنيا .
(فيحشر هؤلاء) يوم القيامة (في صعيد واحد) ، أي أرض واحدة غير محشر الناس (لإقامة العدل) الإلهي عليهم (والمؤاخذة بالجريمة) في أصحاب النار منهم (والثواب العملي) ، أي العمل الصالح (في أصحاب الجنة) منهم (فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل عن الناس بعث فيهم نبي من أفضلهم) يبلغهم بإرساله إليهم (وتمثّل لهم نار يأتي بها هذا النبي المبعوث) إليهم (في ذلك اليوم فيقول لهم : أنا رسول الحق) تعالى (إليكم فيقع عندهم التصديق به) عند البعض منهم ويقع التكذيب به عند بعضهم الآخر (ويقول لهم اقتحموا) ، أي ادخلوا (هذه النار بأنفسكم فمن أطاعني نجا ودخل الجنة ومن عصاني وخالف أمري هلك وكان من أهل النار) فتنة لهم منه تعالى بذلك واختبارا ومحنة في طاعة اللّه تعالى .

(فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها) ، أي في تلك النار (سعد ونال الثواب العملي) ، أي ما يثاب عليه أهل العمل الصالح (وجد تلك النار) ، التي رمى بنفسه فيها ("بَرْداً وَسَلاماً")[ الأنبياء : 69 ] ، عليه أي أمانا له من التأذي بها ودخل الجنة مع الطائعين ومن عصاه فلم يرم بنفسه فيها (استحق العقوبة) لمخالفة ما كلف به من حكم اللّه تعالى فدخل النار ، أي نار العقاب مع المخالفين (ونزل فيها) ، أي في نار العقاب (بعلمه المخالف ليقوم العدل من اللّه تعالى في) جميع (عباده) فهذا تكليف يبقى في يوم القيامة قبل دخول الجنة والنار .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وكذلك قوله تعالى : "يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ" أي أمر عظيم من أمور الآخرة وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ تكليف وتشريع فيهم . فمنهم من يستطيع ومنهم من لا يستطيع ، وهم الّذين قال اللّه تعالى فيهم :وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [ القلم : 42 ] وهذا كما لم يستطع في الدّنيا امتثال أمر اللّه بعض العباد كأبي جهل وغيره . فهذا قدر من الشّرع في الآخرة يوم القيامة قبل دخول الجنّة والنّار ، فلذا قيّدناه . والحمد للّه ربّ العالمين ).
 (وكذلك) ، أي مثل ما ذكر في بقاء التكليف يوم القيامة (قوله) تعالى : (" يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ")  أي يتميز الأمر الملتبس أو تنفصل شدة البعث من قولهم : قامت الحرب على ساق ، أي شدة وقيل : الساق الذات الإلهية ويشمل ذلك تفسيره بقوله (أي أمر عظيم من أمور الآخرة "وَيُدْعَوْنَ" )، أي أهل المحشر كلهم ("إِلَى السُّجُودِ") للّه تعالى من تلقاء أنفسهم (فهذا تكليف وتشريع) أيضا في حق الجميع في ذلك اليوم .
(فمنهم من يستطيع) السجود للّه تعالى كما كانوا يسجدون له في الدنيا (ومنهم من لا يستطيع) السجود (وهم) ، أي من لا يستطيعون الذين قال اللّه فيهم : "وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ"[ القلم : 42 ] .
أن يسجدوا قيل : إن ظهورهم تصير كأنها صحيفة فولاذ . قال تعالى : "وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ" [ القلم : 43 ] .
(وهذا كما) كان (لم يستطع في) الحياة (الدنيا امتثال أمر اللّه) تعالى (بعض العباد كأبي جهل وغيره) من الكافرين (فهذا) المذكور هو (قدر ما يبقى من) التكليف بأحكام (الشرع في) الدار (الآخرة يوم القيامة قبل دخول الجنة والنار فلهذا) ، أي ولأجل ما ذكر (قيدناه) ، أي الشرع الذي لا يبقى بالدخول في الجنة والنار (والحمد للّه ) على أنعامه بتحقيق تعليمه وإلهامه .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:18 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
قال الشيخ رضي الله عنه :  (
عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين  .... في صورة البشر الموجود من طين
تكوّن الرّوح في ذات مطهّرة       ...... من الطّبيعة تدعوها بسجّين
لأجل ذلك قد طالت إقامته    ...... فيها فزاد على ألف بتعيين
روح من اللّه لا من غيره فلذا   .......... أحيا الموات وأنشأ الطّير من طين
حتّى يصحّ له من ربّه نسب   ....... به يؤثّر في العالي وفي الدّون
اللّه طهّره جسما ونزّهه      ......... روحا وصيّره مثلا بتكوين)
 
هذا فص الحكمة العيسوية ، ذكره بعد حكمة العزير عليه السلام ، لأنه كان في بني إسرائيل بعد العزير عليه السلام ، وقد ادعى فيه ما ادعي في العزير من طائفة من اليهود ، ولأن حكمة عيسى عليه السلام نبوية روحانية تناسب ذكرها بعد مبحث النبوة في حكمة العزير عليه السلام .
(فص حكمة نبوّية) منسوبة إلى النبوّة من النبأ وهو الخبر والنبوة وهي الرفعة في (كلمة عيسوية).
إنما اختصت حكمة عيسى عليه السلام كونها نبوّة ، لأنه من روح اللّه تعالى والنبوة إخبار الروح بالوحي في القلوب على وجه خاص من روحانية جبريل عليه السلام عن أمر اللّه تعالى [ شعر ]
(عن ماء ) متعلق يتكون في البيت الثاني مريم ، أي منها الذي نزل أو عن نفخ جبرين بالنون بدل عن اللام لغة في جبريل وهو الملك المعروف عليه السلام في صورة متعلق بنفخ البشر الموجود من طين ، وهو مريم عليها السلام .
قال تعالى :" وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ" ( 91 ) [ الأنبياء : 91 ] .
والوارد في الأحاديث : أن حمل مريم بعيسى عليه السلام كان بنفخ جبريل عليه السلام في جيب درعها فحملت به ووضعته من وقتها على الأشهر كرامة لها ومعجزة له صلى اللّه عليه وسلم وإنما نسب النفخ في الآية إلى اللّه تعالى جريا على عادته سبحانه في نسبة الأمور إليه تعالى تارة إلى الواسطة أخرى لقوله تعالى :" اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها " [ الزمر : 42 ] مع قوله سبحانه : " قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ" [ السجدة : 11 ] .
وقوله تعالى :زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ[ النمل : 4 ]
  مع قوله سبحانه :" وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ" [ الأنفال : 48 ].
(تكون) بالتشديد للواو أي تصور (الروح) ، وهو عيسى عليه السلام من قوله تعالى :" وَرُوحٌ مِنْهُ " في ذات نورانية شريفة مطهرة عن حكم الطبيعة ، أي غلبتها عليه بمقتضياتها تدعوها ، أي تلك الطبيعة يعني تسميها الذات المطهرة بسجين كما قال تعالى :" كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ" [ المطففين : 7 ] ، أي أنفسهم المكتوب فيها بأقلام حركاتهم الاختيارية في مخالفة الأوامر الإلهية لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ( 8 ) كِتابٌ مَرْقُومٌ"  [ المطففين : 7 - 9 ] ، وهو غلبة الطبيعة عليهم بمقتضياتها .
وقال تعالى : " يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ" [ آل عمران : 55 ] ، أي مخرج لك عن حكم الطبيعة وَرافِعُكَ إِلَيَّ، أي إلى حضرتي في جوار الملأ الأعلى وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أي من حالتهم التي غلبت عليهم فيها الطبيعة بمقتضياتها .
(لأجل ذلك) ، أي كونه مطهرا من حكم الطبيعة المقتضية التركيب والانحلال بسرعة قد طالت إقامته فيها ، أي في تلك الذات المطهرة ولم ينفصل عنها من حين ولد إلى الآن فزاد عمره عليه السلام على ألف سنة بتعيين .
لأنه رفع قبيل بعثة نبينا عليه السلام فله الآن حياة بالحياة النورانية الغالبة عليه من حكم غلبة الروح الأمري في صورته البشرية ، وصاحب هذه الحياة لا يموت أبدا كالخضر عليه السلام ، فإنه حي بهذه الحياة النورانية لا الحياة الظلمانية الطبيعية ، التي يموت صاحبها بالموت الطبيعي .
وينحل تركيبه لغلبة الحيوانية فيه على الإنسانية ، ولعل الخضر حين يقتله الدجال في آخر الزمان يكون بعد غلبة الطبيعة عليه ، ولهذا يظهر له فيعرفه ويقدره اللّه تعالى كما أقدر اليهود على زكريا ويحيى وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام فقتلوهم .
فإذا نزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان يخالط الأحياء بالحياة الطبيعية ، كما كان نبينا صلى اللّه عليه وسلم نيابة عنه في شريعتنا هذه المحمدية فيأكل ويشرب ويتزوج وينكح ، ثم يموت بالموت الطبيعي ، ويدفن في حجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم كما مات نبينا صلى اللّه عليه وسلم متابعة سنته عليه السلام .
لأنه يصير من أمته عليه السلام فالموت النفساني فرض في الحياة الدنيا كما قال عليه السلام : « موتوا قبل أن تموتوا » . الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع ابن حجر العسقلاني
وقال تعالى في عيسى عليه السلام :يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ[ آل عمران : 55 ] ،
 
أي من حظوظ نفسك فنفسك قائمة بيدي لا بيدك وهو قول نبينا عليه السلام : « والذي نفسي بيده » والموت الطبيعي سنة محمدية ، وعيسى عليه السلام مات الموت النفساني ، ثم رفع إلى السماء ولم يمت الموت الطبيعي فلا بد أن ينزل في آخر الزمان ، ويموت الموت الطبيعي أيضا كما مات نبينا صلى اللّه عليه وسلم ويدفن معه في حجرته كما ورد في الأخبار الصحيحة .
(روح) ، أي عيسى عليه السلام منفوخ (من) أمر (اللّه) تعالى بلا واسطة قال تعالى :" وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ" [ النساء : 171 ]( لا) روح (من غيره) سبحانه كالروح الحيواني المنفوخ بواسطة الطبيعة فإنه عليه السلام لما نفخ في فرج مريم لم يتدنس بطبيعة أب جسماني ، ولا انبعث في رحم أمه عن مقتضى شهوة نفسانية ، فلم يكن كغيره من الناس أصلا ، ولهذا أمكن أن يبقى في السماء من غير قوت كما هو مقتضى الخلقة الملكية ، ونبينا صلى اللّه عليه وسلم لما صعد إلى السماء ليلة المعراج بعد الإسراء كان ذلك له من غلبة الروحانية الأمرية عليه كعيسى عليه السلام ، ولكن حقيقة مقامه المحمدي الجامع للطبيعة وغيرها اقتضى هبوطه إلى الأرض في تلك الليلة وعدم بقائه في السماء شرفا لمقام الكشفي الجامع .
(فلذا) ، أي لكونه عليه السلام روحا من اللّه تعالى من أمر اللّه تعالى بلا واسطة أحيا الجسم الموات بإذن اللّه تعالى وإنشاء ، أي خلقه عليه السلام بإذن اللّه تعالى (الطير من طين) .
قال تعالى :" وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي" [ المائدة  :110]
وقال تعالى حكاية عنه عليه السلام :" وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ " تعالى [ آل عمران : 49 ] .
(حتى يصح له من ربه) ، الذي خلقه (نسب) بقطع الأنساب عنه وصدوره عنه بلا واسطة ؛ ولهذا قال :" وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا" [ التحريم : 12 ] ونسب تعالى النفخ إليه سبحانه مع أنه بالملك ، كما أن جميع الأنساب ترتفع يوم القيامة في ذلك النشىء الأخروي " وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى"( 47 ) [ النجم : 47 ] .
وفي الحديث  يقول تعالى : " اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم " رواه الحاكم
 
وهو قوله تعالى : " فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ" ( 101 ) [ المؤمنون 101 ].
 
فتكون الناس في يوم القيامة مثل خلقة عيسى ابن مريم عليه السلام عن اللّه تعالى سبحانه ، ويظهر سر قوله عليه السلام : « إن اللّه خلق آدم على صورته ».
وفي رواية : « على صورة الرحمن » وهم في الدنيا كذلك ، ولكن حجاب الطبيعة مانع من شهود الأمر على ما هو عليه عند البعض ، وليس في القيامة إلا ظهور الأمر على ما هو عليه ، وشهود الكل له كما قال تعالى : "وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ " [ النور : 25 ]
 
وقال تعالى :" فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ " [ ق : 22 ] ، وقال تعالى :" يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ "[ آل عمران : 106 ] الآية .
به ، أي بسبب هذا النسب المخصوص (يؤثر) عيسى عليه السلام بإذن اللّه تعالى (في العالي) ، وهو إحياء الموتى ونفخ الروح في الطير ، لأنه تصرف في العالم الروحاني وهو أعلى من الجسماني (وفي الدون)، أي السافل وهو تصوير صورة الطير من الطين وإبراء الأكمه والأبرص .
(اللّه) سبحانه (طهّره) ، أي عيسى عليه السلام (جسما )، أي من حيث جسمه فغلبت عليه الروحانية ، وانسلخ من عالم الطبيعة ، فخرج من الظلمات إلى النور على معنى أنه تعالى خلقه طاهرا كذلك حيث لم يخلقه بواسطة الأب الجسماني الطبيعي ، بل بالأب الجسماني النوراني ، وهو صورة البشر السوي التي جاء بها جبريل عليه السلام إلى مريم .
فخرج عيسى عليه السلام كذلك صورة جسمانية نورانية لا طبيعية ظلمانية ، فكان صورة جبريل عليه السلام لما جاء أمه فاستعاذت منه مخافة أن يكون جسما طبيعيا ظلمانيا ، فعرفته فنفخ فيها حتى ظهر عيسى عليه السلام في صورة الملائكة عليهم السلام ، فهو إنسان ملك لا إنسان حيوان ، ولما طلبوا نزول الملائكة بأحكام الشريعة للتبليغ من غير واسطة بشر بقولهم :"وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً" [المؤمنون : 24 ] .
قال تعالى :" وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ" ( 9 ) [ الأنعام : 9 ] ، يعني من الصورة الإنسانية وحقق تعالى ذلك بخلق عيسى ابن مريم عليه السلام كما قال سبحانه :" إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ ( 59 ) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ( 60 ) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ " [ الزخرف : 59 - 61 ] ؛ ولهذا ينزل عليه السلام في آخر الزمان فيكون نزوله من أشراط الساعة .
 
(ونزّهه) عليه السلام (روحا) ، أي من حيث هو روح ، لأنه من أمر اللّه تعالى فله التنزيه التام والتقديس العام (وصيّره مثلا )، أي نظيرا له تعالى في خلافته عنه في الأرض ، يحكم بأحكامه ويقوم بصفاته ويتسمى بأسمائه ويتحقق بذاته ويفعل بأفعاله كما قال (بتكوين) ، أي بسبب تكوينه أي خلقه الطير من الطين أو مثلا مكونا ، أي مخلوقا . وهذا معنى كون آدم عليه السلام مخلوق على صورة الحق تعالى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أنّ من خصائص الأرواح أنّها لا تطأ شيئا إلّا حيي ذلك الشّيء وسرت الحياة فيه . ولهذا قبض السّامريّ قبضة من أثر الرسول الّذي هو جبرئيل عليه السلام وهو الرّوح . وكان السّامري عالما بهذا الأمر . فلما عرف أنّه جبرئيل ، عرف أنّ الحياة قد مرت فيما وطئ عليه ، فقبض قبضة من أثر الرّسول بالضّاد أو بالصّاد أي بملء يده أو بأطراف أصابعه ، فنبذها في العجل فخار العجل ، إذ صوت البقر إنّما هو خوار ، ولو أقامه صورة أخرى لنسب إليه اسم الصّوت الّذي لتلك الصّورة كالرّغاء للإبل والثّؤاج للكباش واليعار للشياه والصّوت للإنسان أو النّطق أو الكلام . )
 
(اعلم) يا أيها السالك (أن من خصائص الأرواح) القدسية التي هي وجوه الروح الأعظم الأمري ورقائق شعاعاته المبثوثة في جميع العوالم أنها (لا تطأ) ، أي تمس (شيئا) من صور العالم الكثيفة أو اللطيفة (إلا حيي ذلك الشيء) ، أي صار حيا وسرت الحياة الإنسانية أو الحيوانية أو النباتية أو الجمادية (فيه) ، أي في ذلك الشيء ، كما سرت الحياة النباتية في الفروة ، وهي وجه الأرض التي جلس عليها الخضر عليه السلام ، وهو يتحقق بغلبة الروحانية كما ذكرنا ، فاخضرت تلك الأرض وسمي الخضر لأجل ذلك كما قيل ، ومن مشى على الماء أو في الهواء وهو هذه الحالة فقد سرت منه الحياة الجمادية في الماء والهواء في وقت مشيه ذلك ، والملك الذي جاء مريم عليها السلام في صورة البشر السوي لما نفخ فيها سرت في نطفتها داخل فرجها الحياة الإنسانية ، فكان عيسى عليه السلام .
(ولهذا) ، أي لما ذكر (قبض السامري) في بني إسرائيل (قبضة من أثر الرسول الذي هو جبريل) عليه السلام لما جاء وقت الذهاب إلى الطور ، وقد كان موسى عليه السلام وعد قومه أربعين ليلة أنه يذهب لميقات ربه ليأتيهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فجاء جبريل عليه السلام على فرس يقال له « فرس الحياة » ولا تصيب شيئا إلا حيي ليذهب بموسى عليه السلام إلى ربه (وهو) ، أي المقبوض من أثره (الروح ) الذي به تحيا الأشياء .
 
وكان السامري رجلا صالحا قد أظهر الإيمان بموسى عليه السلام على وجه النفاق ، وكان من قوم يعبدون البقر عالما بهذا الأمر ، أي بأن الروح لا يمس شيئا إلا حيي فلما عرف أنّه ، أي ذلك الرسول الذي جاء إلى موسى عليه السلام جبريل عليه السلام ورأى موضع قدم فرسه يخضر في الحال فيعطي الحياة النباتية للمستعد لها عرف ، أي السامري أن الحياة قد سرت فيها ، أي في وجه الأرض الذي وطيء ، أي داس عليه ذلك الفرس بحافره ، وقال : إن لهذا الفرس شأنا فقبض بيده قبضة من أثر ، أي تربة حافر فرس الرسول الذي هو جبريل عليه السلام والقبضة بالضاد المعجمة أو بالصاد المهملة كما قرىء بذلك .
أي بملء يده وهي القبضة بالمعجمة (أو بأطراف أصابعه) ، وهي القبضة بالمهملة ، وهذا بناء على أنه ألقي في روعه أنه إذا ألقي في شيء غيره حيي ، وقد كان موسى عليه السلام لما ذهب إلى الميقات خلف أخاه هارون عليه السلام في بني إسرائيل فقال لهم هارون : قد تحملتم أوزارا من زينة القوم ، أي حليهم فإنهم كانوا قد استعاروا حليا كثيرا من قوم فرعون قبل خروجهم من مصر بعلة غرض لهم .
 
فأهلك اللّه تعالى فرعون وقومه ، وبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل ، فقال لهم هارون : تطهروا منها ، فإنها نجس وأوقد لهم نارا وأمرهم بقذف ما كان معهم ففعلوا ، فأقبل السامري إلى النار وقال : يا نبي اللّه ألقي ما في يدي قال : نعم وهو يظن أنه حلي فقذفه فيها فقال : كن عجلا جسدا له خوار .
(فنبذها) ، أي تلك القبضة أو القبصة (في العجل) حتى صار عجلا من ذهب والعجل ولد البقر إلى أن يكبر قيل : خرج عجلا من ذهب مرصعا بالجواهر كأحسن ما يكون (فخار) ذلك (العجل) إذ ، أي لأن (صوت البقر إنما هو خوار . )
 
قال السدي رحمه اللّه تعالى : كان يخور ويمشي فقال السامري : هذا إلهكم وإله موسى فنسي ، أي تركه ههنا وخرج يطلبه ، وأخطأ طريق إصابته فافتتنوا به ودعاهم إلى عبادته فعبدوه .
(ولو أقامه) ، أي السامري (صورة أخرى) غير العجل (لنسب إليه) ، أي إلى ما أقامه (اسم الصوت الذي لتلك الصورة كالرغاء) بالغين المعجمة للإبل والثّؤاج) بالمثلثة والجيم للكباش من الغنم واليعار بالمثناة التحتية والعين المهملة (للشاة والصوت للإنسان أو النطق أو الكلام) ، ولكن إنما أقامه عجلا ، لأنه كان من قوم يعبدون البقر كما ذكرنا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فذلك القدر من الحياة السّارية في الأشياء يسمّى لا هوتا ، والنّاسوت هو المحلّ القائم به ذلك الرّوح فسمّي النّاسوت روحا بما قام به .
فلمّا تمثّل الرّوح الأمين الّذي هو جبرئيل لمريم عليهما السّلام بشرا سويّا تخيّلت أنّه بشر يريد مواقعتها فاستعاذت باللّه منه استعاذة بجمعيّة منها ليخلّصها اللّه منه لما تعلم أنّ ذلك ممّا لا يجوز . فحصل لها حضور تامّ مع اللّه وهو الرّوح المعنويّ .
فلو نفخ فيها في ذلك الوقت على هذه الحالة لخرج عيسى عليه السّلام لا يطيقه أحد لشكاسة خلقه لحال أمّه.
فلمّا قال لها :إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ جئت لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا[ مريم : 19 ] انبسطت عن ذلك القبض وانشرح صدرها فنفخ فيها في ذلك الحين فخرج عيسى .
وكان جبرئيل ناقلا كلمة اللّه لمريم كما ينقل الرّسول كلام اللّه لأمّته .
وهو قوله :وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ[ النساء : 171 ] . )
 
(فذلك القدر من الحياة السارية) من الروح (في الأشياء يسمى لا هوتا) .
فاللاهوت أثر الروح الساري فيما مسه من ذلك الشيء على حسب ذلك الشيء .
(والناسوت هو المحل القائم به ذلك الروح) من الأشياء المحسوسة بالروح وهو الجسم (فيسمى الناسوت) الذي هو الجسم (روحا بما) ، أي بسبب الروح الذي (قام به) لغلبته عليه واستهلاك حكم الناسوت فيه ، كما سمي ناسوت عيسى عليه السلام روحا باعتبار غلبة الروح عليه وسمي جبريل عليه السلام روحا في حال مجيئه إلى مريم في صورة البشر السوي .
 
(فلما تمثل) ، أي دخل في عالم المثال وهو برزخ بين الوجود والعدم واسع جدا فيه صورة كل شيء لا تدخله إلا الروحانيون من الملائكة والجن والإنس ، فإذا دخلوه استتروا بأي صورة شاؤوا منه ، فيراهم الرائي فيها على حسب ما يريدون وهم على ما هم عليه في خلقتهم الأصلية لا يتغيرون أصلا ، نظير الملابس التي تلبسها الناس فتظهر بها من غير أن يتغير اللابس عن حاله الأصلي (الروح الأمين الذي هو جبريل لمريم عليها السلام بشرا سويا) ، أي مستوي الخلقة معتدل الهيئة حسن الصورة (تخيلت) ، أي مريم عليها السلام أنه ، أي جبريل عليه السلام .
(بشر) من الناس ولم تعلم أنه ملك نزل في صورة إنسان وتوهمت (أنه يريد مواقعتها) عليها السلام .
 
(فاستعاذت باللّه تعالى منه) ، أي التجأت إليه تعالى واحتمت به باطنا وقالت :
ظاهرا أعوذ بالرحمن منك ، وخصت اسم الرحمن دون اسم اللّه ، لأنها طلبت أن اللّه تعالى يرحمها بالحفظ والصيانة من شره وأذاه (استعاذة) كانت (بجمعية) قلبية (منها) ، أي من مريم عليها السلام ، فتوجهت همتها من حضرة الرحمن المستوي على عرش قلبها بالرحمة ، فتحرك لسانها بذكره (ليخلصها اللّه) تعالى (منه) ، أي من ذلك البشر السوي لما تعلم ، أي لعلمها أن ذلك الأمر الذي توهمت منه مما لا يجوز في الشرع فيحصل لها عند ذلك حضور تام مع اللّه تعالى ، أي استحضار لقيوميته عليها وشهود لتجليه في باطنها وظاهرها فرارا من نفسها إليه سبحانه ليحميها ودخولا في ظل عنايته ليصونها ويريبها .
 
وهو ، أي ذلك الحضور التام الروح المعنوي الذي سرى فيها من توجيه الروح السوي الذي هو جبريل عليه السلام إليها وتأثير باطنه فيها (فلو نفخ) ، أي جبريل عليه السلام فيها ، أي في مريم عليها السلام (في ذلك الوقت على هذه الحالة) التي كانت عليها مريم عليها السلام من القبض والجلال (لخرج عيسى عليه السلام) صاحب قبض وجلال بحيث لا يطيقه أحد من الناس (لشكاسة) ، أي صعوبة (خلقه) ، أي عادته وطبيعته لحال أمه مريم عليها السلام ، لأن أحوال الأمهات والآباء لها تأثير في أخلاق الأولاد في خلقتهم باطنا وظاهرا .
(فلما قال) ، أي جبريل عليه السلام لها ، أي لمريم عليها السلام "إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ".
علمت أنه جبريل عليه السلام ، ثم قال لها : جئت ، أي من عند اللّه تعالى إليك ("لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا") [ مريم : 19 ] ، أي طيبا طاهرا .
 
فعند ذلك (انبسطت) لقوله عن ذلك القبض الذي كان فيها وزال عنها الجلال الذي قد اعتراها وانشرح صدرها لما يريده اللّه تعالى منها فنفخ ، أي جبريل عليه السلام فيها ، أي في مريم عليها السلام (في ذلك الحين فخرج عيسى) عليه السلام مفعول نفخ ، لأنه عين النفخ الجبريلي والروح الأمري والسر الإلهي (فكان جبريل عليه السلام ناقلا كلمة اللّه) تعالى (لمريم) عليها السلام كما ينقل الرسول من الأنبياء عليهم السلام كلام اللّه تعالى القديم المنزه عن الحروف والأصوات (لأمته) ، أي أمة ذلك الرسول بلسانه هو وحروفه وأصواته ، فيتكلمون به هم بألسنتهم وحروفهم وأصواتهم من غير أن يتغير كلام اللّه تعالى القديم عما هو عليه في الأزل ، ولا ينقطع توجه ذلك القديم الذي هو صفة من صفات المتكلم به أزلا وأبدا عن ذلك العبد المتكلم به ، وعما أتى به من الحروف والأصوات .
 
بحيث تبقى تلك الحروف والأصوات إذا نوى القارئ بها أنه يقرأ كلام اللّه تعالى القديم بمنزلة الصورة المثالية التي يتصوّر بها الروحاني فيستتر بها ويظهر فيها ، وهي فعله الممسوك به وهو قيومها الماسك لها ، فهي هو عند الناظر وهو غيرها في نفس الأمر ، وإذا كانت هي هو كان وجوده ظاهرا فيها وهي معدومة بعدمها الأصلي ، فلا تغير لوجوده عما هو عليه ، وإذا كان هو غيرها في نفس الأمر لم يكن لها وجود في نفسها أصلا .
 
(وهو قوله) تعالى في عيسى عليه السلام ("وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ") [ النساء : 171 ] سبحانه ، فعيسى عليه السلام كلمة اللّه تعالى ، كما نقول الآن من غير فرق أصلا للكلمة التي نتكلم بها نحن من القرآن والآية أنها كلمة اللّه تعالى عندنا حقيقة ، على معنى أنها مظهر للكلمة الإلهية وصورة لنا في لساننا من غير حلول ولا اتحاد ولا انحلال ، لأن قيوم الوجود لا يصح أن يحل أو يتحد أو ينحل عنه ذلك الشيء القائم به المعدوم في نفسه ، فجسد عيسى عليه السلام المشتمل على تركيب أعضائه الإنسانية بمنزلة حروف تلك الكلمة وباطنه عليه السلام مما تضمنه من الأسرار والعلوم بمنزلة معنى تلك الكلمة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فسرت الشّهوة في مريم فخلق جسم عيسى من ماء محقّق من مريم ، ومن ماء متوهّم من جبرئيل ، سرى في رطوبة ذلك النّفخ لأنّ النّفخ من الجسم الحيواني رطب لما فيه من ركن الماء .
فتكوّن جسم عيسى من ماء متوهّم ومن ماء محقّق ، وخرج على صورة البشر من أجل أمّه ، ومن أجل تمثّل جبرئيل على صورة البشر حتّى لا يقع التّكوين في هذا النّوع الإنساني إلّا على الحكم المعتاد .
فخرج عيسى يحيي الموتى لأنّه روح إلهيّ ، وكان الإحياء للّه والنّفخ لعيسى كما كان النّفخ لجبرائيل والكلمة للّه . )
 
(فسرت الشهوة في مريم) عليها السلام حين اطمأن قلبها بأنه ملك لا بشر ، وانبسطت عن قبضها ، وانشرح صدرها ، وأمنت منه السوء والفاحشة فخلق جسم عيسى عليه السلام ("مِنْ ماءٍ") ، أي من مني محقق وجوده من مريم عليها السلام ، ولا ينكر منها سريان الشهوة فيها عند رؤية البشر السوي لأنه أمر طبيعي لا يدخل تحت التكليف ، كحالة الجوع والعطش عند رؤية المأكل والمشرب خصوصا ، وليس من جهتها قصد لوجود ذلك ولا إرادة له .
 
وللّه تعالى في ذلك إرادة مقتضية لحكمة عظيمة ، فأنفذها سبحانه على طبق قضائه الأزلي وتقديره ومن ماء متوهم وجوده (من جبريل) عليه السلام لما جاء في صورة البشر السوي ، فإن النفخ كان من فم ذلك البشر السوي ، والفم فيه ماء الريق (سرى ذلك) الماء (في رطوبة ذلك النفخ ، لأن النفخ من الجسم الحيواني) وهو ماء فيه حياة نامية متحركة بالإرادة (رطب لما فيه).
 
أي في ذلك النفخ (من ركن الماء) فكان الهواء والماء من صورة النافخ ، والنار والتراب من صورة المنفوخ فيه ، وهو مريم عليها السلام ، فالنار من الشهوة والتراب من كثافة جرم المني ، فقد اجتمعت العناصر الأربعة على طريقة سائر المولدات (فيكوّن) بسبب ذلك جسم عيسى عليه السلام من ماء متوهم الوجود وماء محقق الوجود كما قال تعالى في حق كل إنسان إنه "خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ( 6 ) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ  "( 7 ) [ الطارق : 6-7] .
 
(وخرج) عيسى عليه السلام (على صورة البشر من أجل أمه) ، فإنها صورة بشر (ومن أجل تمثل جبريل) عليه السلام (في صورة البشر) فقد ظهر بشر من بين بشرين بحسب الظاهر كغيره من الناس (حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني إلا على هذا الحكم المعتاد) والأمر في الباطن ليس كذلك ، فإنه ظهور روح من بين روح وبشر ، فرفع مع الأرواح بعد نزوله منها ، وسينزل نزولا آخر على المنارة البيضاء شرقي دمشق نظير نزوله أوّلا على المنارة العذراء البيضاء ، ويغلب عليه حكم تلك المنارة ، فتأخذه الطبيعة النورانية المنيرة له ، فيتزوج وينكح ويتبع الشريعة المحمدية ، ويموت ويدفن بالحجرة كما ذكرناه قريبا .
 
(فخرج عيسى) عليه السلام ("يحى الموتى" لأنه روح إلهي) من أمر اللّه تعالى وكان الإحياء للموتى الظاهر من عيسى عليه السلام للّه تعالى فالمحيي هو اللّه تعالى وحده والنفخ في الطير الذي خلقه من طين وأحياه بالتوجه على أجسام الموتى وأرواحهم المفارقة لعيسى عليه السلام ، فالنافخ هو كما كان في خلقه عيسى عليه السلام النفخ في مريم عليها السلام لجبريل عليه السلام والكلمة ، أي تفصيل حروفها بتبيين أعضاء عيسى عليه السلام وتركيب بنيته وهيئته وتسوية صورته وتوجيه معانيه الباطنية بانتشار قواه الروحانية للّه تعالى وحده ، فالنافخ هو جبريل عليه السلام والمتكلم بإظهار كلمته هو اللّه تعالى .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:19 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان إحياء عيسى عليه السّلام للأموات إحياء محقّقا من حيث ما ظهر عن نفخه كما ظهر هو عن صورة أمّه  وكان إحياؤه أيضا متوهّما أنّه منه وإنّما كان للّه .
فجمع لحقيقته الّتي خلق عليها كما قلناه إنّه مخلوق من ماء متوهّم وماء محقّق ينسب إليه الإحياء بطريق التّحقيق من وجه وبطريق التّوهّم من وجه .
فقيل فيه من طريق التّحقيق وَأُحْيِ الْمَوْتى وقيل فيه من طريق التّوهّم فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ [ آل عمران : 49 ] فالعامل في المجرور فيكون ، لا أنفخ . ويحتمل أن يكون العامل فيه أنفخ فيكون طيرا ، من حيث صورته الحسّيّة الجسميّة .
وكذلك وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ [ المائدة : 110 ] وجميع ما ينسب إليه وإلى إذن اللّه .
وإذن الكناية في مثل قوله :بِإِذْنِي وبإذن الله فإذا تعلّق المجرور بتنفخ ، فيكون النّافخ مأذونا له في النّفخ ويكون الطّائر عن النّافخ بإذن اللّه . وإذا كان النّافخ نافخا لا عن الإذن ، فيكون التّكوّن للطّائر .
فيكون العامل عند ذلك فيكون فلو لا أنّ في الأمر توهّما وتحقّقا ما قبلت هذه الصّورة هذين الوجهين . بل لها هذان الوجهان لأنّ النّشأة العيسويّة تعطي ذلك . )
 
(فكان إحياء عيسى) عليه السلام (للأموات إحياء محققا من حيث ما ظهر عن نفخه) في الطير والميت بالتوجه الروحاني ، لأنه كذلك في الحس والعيان (كما ظهر هو) ، أي عيسى عليه السلام (عن صورة أمه) مريم عليها السلام ظهورا متحققا في الحس والعيان وكان إحياؤه ، أي عيسى عليه السلام أيضا ، أي كونه محققا متوهما أنه ، أي ذلك الإحياء منه ، أي من عيسى عليه السلام ، لأنه ظهر به وإنما كان ذلك الإحياء للّه تعالى وحده حقيقة ، لأنه هو الذي يحيي ويميت كما هو معلوم عند كل مؤمن بنبي )فجمع( عيسى عليه السلام )بحقيقته( الإنسانية الروحانية )التي خلق عليها كما قلنا( فيما مر إنه .
 
أي عيسى عليه السلام )مخلوق من ماء متوهم( من نفخ جبريل عليه السلام ومن )ماء محقق( من أمه مريم عليها السلام ، فهو بسبب ذلك )ينسب إليه( ، أي عيسى عليه السلام )الإحياء بطريق التحقيق( باعتبار الظاهر من وجه وبطريق التوهم ظاهرا أيضا )من وجه( آخر فقيل فيه ، أي في عيسى عليه السلام من طريق التحقق وأحيي الموتى من أن المحيي هو اللّه تعالى المتجلي بصورة عيسى عليه السلام.
وقيل فيه من طريق التوهم فتنفخ فيه ، أي فيما خلقه لهم كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن اللّه تعالى فالعامل في المجرور ، أي الذي يتعلق به الجار والمجرور في قوله تعالى : بِإِذْنِ اللَّهِ هو قوله فيكون .

أي يكون طيرا بإذن اللّه تعالى لا قوله تنفخ فيبقى نفخه مثل نفخ غيره من الناس إذا نفخ ، وإنما الخصوصية في اعتبار اللّه تعالى نفخه ذلك وتكوينه تعالى للطير عقيب نفخه إجابة له وتصديقا لدعواه ويحتمل أن يكون العامل فيه ، أي في المجرور بأن يكون الجار والمجرور متعلقا بـ تنفخ فيكون نفخه بإذن اللّه تعالى ليس كنفخ غيره من الناس .
فالخصوصية في النفخ لا في تكوين اللّه تعالى الطير ، فكل من نفخ مثل ذلك النفخ بإذن اللّه تعالى كان عنه ما أراد كما نقل أن أبا يزيد البسطامي قدس اللّه سره نفخ في نملة ماتت فأحييت بإذن اللّه تعالى فيكون طيرا من حيث صورته الجسمية الحسية على حسب ما خلقه من تلك الهيئة .

وكذلك قوله تعالى عنه (وتبريء الأكمه والأبرص) بإذن اللّه تعالى وجميع ما نسب إليه ، أي إلى عيسى عليه السلام وإلى إذن اللّه تعالى وإلى إذن الكناية عن اللّه تعالى وهي ضمير المتكلم في مثل قوله تعالى بإذني وبإذن اللّه تعالى كما ذكرنا فيما مر من قوله تعالى :" وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي" [ المائدة : 110 ] .
وقوله تعالى :"أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ" [ آل عمران : 49 ] .

فإذا تعلق الجار والمجرور وهو قوله بإذني وقوله : بإذن اللّه بتنفخ في الآية الأولى وأنفخ في الثانية فيكون النافخ مأذونا له في النفخ من جهة الحق تعالى ويكون الطير ، أي يتكون ويظهر طيرا عن النافخ بإذن اللّه تعالى .
وإذا كان النافخ في الآيتين نافخا لا عن الإذن ، أي إذن اللّه تعالى فيكون التكوين للطائر طائرا بإذن اللّه تعالى فيكون العامل في تعلق الجار والمجرور به عند ذلك قوله فيكون .
فلولا أن في الأمر الإلهي والشأن الرباني المتوجه على خلق عيسى عليه السلام توهما من وجه وتحققا من وجه آخر فهو متوهم من حيث الصورة ومتحقق من حيث الوجود .

فمن هذه صورته ليس هذا فعله ولا تأثير له أصلا ومن هذا وجوده فهو الفاعل المؤثر ولا صورة له فهذا هو وليس هذا هو فهو لا هو فكأنه هو فلا هو إلا هو ما قبلت هذه الصورة العيسوية هذين الوجهين وجه التوهم في كونه يخلق من الطين كهيئة الطير وينفخ فيه فيكون طيرا ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ووجه التحقق منه في ذلك أيضا بل لها .

أي للصورة العيسوية هذان الوجهان لأن النشأة ، أي الخلقة العيسوية من أصل تكوينها عن جبريل عليه السلام النافخ في مريم عليها السلام تعطي ذلك ، أي الوجهين المذكورين وجه التوهم في صدوره عن ماء متوهم ووجه التحقق في صدوره عن ماء محقق كما مر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وخرج عيسى من التّواضع إلى أن شرّع لأمّته أنيُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [ التوبة : 29 ] وأنّ أحدهم إذا لطم في خدّه وضع الخدّ الآخر لمن لطمه ولا يرتفع عليه ولا يطلب القصاص منه . هذا له من جهة أمّه إذ المرأة لها السّفل ، فلها التّواضع لأنّها تحت الرّجل حكما وحسّا .
وما كان فيه من قوّة الإحياء والإبراء فمن جهة نفخ جبرئيل في صورة البشر فكان عيسى يحيي الموتى بصورة البشر .
ولو لم يأت جبرئيل في صورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصريّة من حيوان أو نبات أو جماد لكان عيسى عليه السّلام لا يحيي الموتى إلّا حين يتلبّس بتلك الصّورة ويظهر فيها . )

(وخرج عيسى) عليه السلام فيه شبهان : شبه بأمه مريم عليها السلام وشبه بأبيه جبريل عليه السلام وهو البشر السوي وإن كان لا يسمى أباه ، لأن اجتماعه بمريم لا على وجه اجتماع الزوجين ، ولا كان حملها منه بإيلاج الذكر ، وإنما هو نفخ في الفم ، وهي عذراء بكر على ما هي عليه ، فكان عيسى عليه السلام (من التواضع) الذي في أخلاقه المرضية (إلى أن شرّع) بالبناء للمفعول .
أي شرع اللّه تعالى في ملتنا المحمدية (لأمته) عليه السلام وهم النصارى الزاعمون بقاء ملته وعدم نسخ أحكام التوراة والإنجيل ، فجاء في ملتنا المحمدية الناسخة لجميع الملل والأديان إبقاؤهم على ما يزعمون وإقرارهم على ما في دينهم بالجزية في أموالهم والخراج في أراضيهم حتى ينزل هو عليه السلام من السماء ، فيكذبهم فيما هم فيه ، ويلزمهم باتباع شريعتنا هذه المحمدية ، فيقتلهم أو ليسلموا والذي شرع أن يعطوا الجزية في أموالهم عن يد وهم صاغرون .

أي متذللون كما قال تعالى : " قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ "( 29 ) [ التوبة : 29 ] .

وهذا حكمهم في شريعتنا بسبب زعمهم البقاء على ملته واستقرارهم على متابعته ، فاقتضى تواضعه أن يكون من يزعم أنه متابع له قائما في هذه الذلة والصغار وبذل المال .

(وأن أحدهم) ، أي الواحد منهم معطوف على أن شرع ، أي خرج من التواضع إلى أن الواحد منهم ، أي من أمته شرع له في ملتهم المنسوخة إذا لطم ، أي لطمه أحد من الناس (في خده وضع الخدّ الآخر لمن لطمه ، ولا يرتفع عليه ولا يطلب القصاص منه) ، أي في مقابلة فعله معه هذا الأمر له ، أي لعيسى عليه السلام من جهة شبه أمه مريم عليها السلام إذ ، أي لأن مطلق المرأة لها السفل من الرجل فلها التواضع خلقة لأنها تحت الرجل حيث خلقت منه فهي متواضعة له فأسفل مرتبتها حكما شرعيا . قال تعالى :" وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ "[ البقرة : 228 ] وقال عليه السلام : « أخروهن من حيث أخرهن اللّه » وحسا لنقصانها عنه عقلا كما ورد : أنهن أنقص عقلا ودينا تمكث إحداهن شطر عمرها من غير صلاة .
وقال تعالى :" الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ" [ النساء : 34 ] الآية .

(وما كان فيه) ، أي في عيسى عليه السلام (من قوة الإحياء) للموتى (والإبراء) للأكمه والأبرص (فمن جهة) شبه الملك النافخ في أمه حتى حملت به ووضعته لأنه متكوّن من (نفخ جبريل) عليه السلام حين جاء إلى مريم (في صورة البشر) السوي (فكان عيسى) عليه السلام لأجل ذلك يحيي الموتى بصورة البشر التي هو مخلوق عليها مشابهة لصورة البشر السوي التي جاء بها جبريل إلى مريم عليها السلام حين النفخ فيها ولو لم يأت جبريل عليه السلام إلى مريم عليها السلام في صورة البشر السوي ولكن أتى إليها في صورة أخرى غيرها من صورة الأكوان العنصرية .

أي المركبة من العناصر الأربعة التراب والماء والهواء والنار من حيوان أو نبات أو جماد لكان عيسى عليه السلام لا يحيي الموتى وكذلك لا يبرئ الأكمه والأبرص إلا حتى يتلبس بتلك الصورة التي جاء بها جبريل إلى أمه عليها السلام ويظهر متمثلا فيها حتى يكون على صورة أبيه وطبيعته المقتضية لنفخ الروح والسر السبوحي .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولو أتى جبرئيل بصورته النّوريّة الخارجة عن العناصر والأركان - إذ لا يخرج عن طبيعته - لكان عيسى لا يحيي الموتى إلّا حين يظهر في تلك الصّورة الطبيعيّة النّوريّة لا العنصريّة مع الصّورة البشريّة من جهة أمّه فكان يقال فيه عند
إحيائه الموتى هو لا هو .
وتقع الحيرة في النّظر إليه كما وقعت في العاقل عند النّظر الفكريّ إذا رأى شخصا بشريّا من البشر يحيي الموتى ، وهو من الخصائص الإلهيّة ، إحياء النّطق لا إحياء الحيوان بقي النّاظر حائرا ، إذ يرى الصّورة بشرا بالأثر الإلهي .
فأدى بعضهم فيه إلى القول بالحلول ، وأنّه هو اللّه بما أحيا به الموتى ، ولذلك نسبوا إلى الكفر وهو السّتر لأنّهم ستروا اللّه الّذي أحيا الموتى بصورة بشريّة عيسى) .

فقال تعالى :" لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " [ المائدة : 17 ] فجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام كلّه لا بقولهم هو اللّه ولا بقولهم ابن مريم .
ولو أتى جبريل إلى مريم عليها السلام بصورته النورية التي خلقه اللّه تعالى عليها الخارجة عن العناصر الأربعة والأركان التي لا بد لكل مولد من المركبات الجسمانية أن يكون مستمدا منها إذ ، أي لأنه يعني جبريل عليه السلام لا يخرج عن طبيعته التي هو مركب الصورة منها .
وهي منقسمة إلى أربعة أقسام نظير العناصر الأربعة والأركان الأربعة ، وهي :
1 - الحرارة
2 - والبرودة
3 -  والرطوبة
4 - واليبوسة .
وأرواح الملائكة العلوية عليهم السلام منفوخة في صور جسمانية لطيفة طبيعية مركبة من هذه الطبائع الأربع المذكورة من العناصر (لكان عيسى) عليه السلام (لا يحيي الموتى) ولا يبرئ الأكمه والأبرص ولا يخلق الطير من الطين أيضا (إلا حين "حتى" يظهر في تلك الصورة) الملكية الجبريلية (الطبيعة النورية لا العنصرية مع) ظهوره أيضا في الصورة البشرية الإنسانية العنصرية من جهة أمه مريم عليها السلام .
لأنه متولد عن هاتين الصورتين حينئذ الصورة الطبيعية الملكية والصورة العنصرية الإنسانية (فكان يقال فيه عند إحيائه الموتى) وإبراء الأكمه والأبرص حيث يظهر في الصورتين معا فيكون ملكا بشرا (هو) .
أي عيسى عليه السلام من حيث الصورة البشرية ، لأنه بشر ابن مريم عليها السلام (لا هو) عيسى عليه السلام ، لأنه في الصورة الطبيعية الملكية ، لأنه ملك من نفخ جبريل عليه السلام .
(وتقع الحيرة) حينئذ عند العقلاء (في النظر إليه) ، لأنهم يرون بشرا يفعل فعل ملك فيقولون بشر للصورة ، ويقولون ملك للفعل ، كما قالت النسوة المفتتنات بيوسف عليه السلام عنه من فرط حسنه وجماله .


وحكى تعالى ذلك حيث قال : " فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ " [ يوسف : 31 ] .
(كما وقعت) ، أي الحيرة (في) الإنسان (العاقل عند النظر الفكري إذا رأى شخصا بشريا )، أي من البشر يحيي الموتى وهو ، أي إحياء الموتى من جملة الخصائص الإلهية إحياء النطق الإنساني ، لأنه أبلغ لكمال الحيوان الناطق لا إحياء مطلق الحيوان من غير نطق كإحياء أبي يزيد رضي اللّه عنه النملة .
وإحياء شيخنا الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي اللّه عنه الهرة وكان اسمها لؤلؤة ، وقد ماتت وألقيت على المزبلة فناداها لؤلؤة ، فجاءت مسرعة إليه .
والملا عبد الرحمن الجامي قدس اللّه سره أحيا الدجاجة التي وضعها السلطان مطبوخة قدامه وهي ميتة لا مذبوحة امتحانا له ، فصفق بيديه حتى قامت من الصحن مسرعة .
ومثل هذا الأمر لا يوقع حيرة بل كرامة عند الناظرين ، وإنما الحيرة في إحياء إنسان ، فإنه إذا صار من أحد.

(بقي الناظر) إلى ذلك (حائرا) فيه إذ يرى الصورة من ذلك الشخص الذي صدر منه إحياء الميت بشرا وهو مع ذلك ظاهر (بالأثر الإلهي) " والأثر إلهيا " .
الذي هو مخصوص به سبحانه وهو إحياء الموتى فأدى ، أي أوصل هذا الأمر بعضهم ، أي بعض العقلاء فيه ، أي في حق ذلك الشخص الذي أحيا الميت (إلى القول بالحلول) أي حلول اللّه تعالى المخصوص بإحياء الموتى في ذلك الشخص .
 كما قالته طائفة من النصارى في عيسى عليه السلام وفي رهابينهم وقسيسهم .
وتبعتهم الرافضية في علي وأولاده رضي اللّه عنهم .
والدروز والتيامنة والنصيرية في الحاكم بأمر اللّه وفي عقلائهم ، والباطنية في كل شيء ، وهو كفر صريح كما أوضحوا رده في علم الكلام .

وقد رميت به المحققون من أهل اللّه تعالى عند من لا خلاق له من جهلة العلماء الذين لا يعرفون اصطلاح الشرع في الكتاب والسنة .
ويعدلون عنه إلى اصطلاح آخر درج عليه أهل الكلام وأدى ذلك أيضا بعضهم وهم طائفة من النصارى أيضا إلى القول في عيسى عليه السلام أنه هو اللّه تعالى بما أحيا به من الموت وذلك مخصوص باللّه تعالى لا يقدر عليه غيره سبحانه ولذلك ، أي لأجل ما صدر منهم من القول المذكور نسبوا في شرعنا المحمدي إلى الكفر كما يأتي .

وهو ، أي الكفر معناه الستر لأنهم ، أي القائلين بذلك ستروا اللّه تعالى الذي أحيا الموتى وهو متجل عند الناظرين بصورة بشرية عيسى عليه السلام كما هو متجل بصورة روحانية عنده فقال اللّه تعالى :" لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " [ المائدة : 17 ] .

وهم النصارى قالوا ذلك من جهلهم بما الأمر عليه في نفسه فجمعوا بين الخطأ بترك ما هو الصواب والكفر في الدين في تمام الكلام الذي قالوه كله وهو قولهم :إ" ِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " ، لا جمعوا بين الخطأ والكفر بقولهم : "هُوَ، أي عيسى عليه السلام اللَّهَ من حيث إنه تعالى متجل بالصورة العيسوية بسبب أنه قيوم عليها إلا أنها مخلوقة له لا بالحلول ولا الاتحاد ولا الانحلال .

واللّه تعالى يتجلى في أي صورة شاء في الدنيا والآخرة من غير أن يتغير عن إطلاقه الحقيقي وتنزيهه الذاتي عن مشابهة كل شيء لما ظهر لموسى عليه السلام في صورة النار والشجر "فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى( 11 ) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ " [ طه : 11 - 12 ] .
وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : « رأيت ربي في أحسن صورة » . رواه الدارمي والطبري
وقال صلى الله عليه وسلم  : "  ويتحوّل يوم القيامة في الصور لأهل المحشر "  .
كما ورد في حديث مسلم ولا بقولهم أيضا هُوَعيسى عليه السلام ابْنُ مَرْيَمَ، لأنه ابن مريم من غير شبهة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعدلوا بالتّضمين من اللّه من حيث أحيا الموتى إلى الصّورة النّاسوتيّة البشريّة بقولهم ابن مريم وهو ابن مريم بلا شكّ .
فتخيّل السّامع أنّهم نسبوا الألوهيّة للصّورة وجعلوها عين الصّورة وما فعلوا بل جعلوا الهويّة الإلهيّة ابتداء في صورة بشريّة هي ابن مريم ، ففصلوا بين الصّورة والحكم . لا أنّهم جعلوا الصّورة عين الحكم .
كما كان جبرئيل في صورة البشر ولا نفخ ، ثمّ نفخ ، ففصل بين الصّورة
والنّفخ وكان النّفخ من الصّورة ، فقد كانت ولا نفخ . فما هو النفخ من حدّها الذّاتي ؟ )

(فعدلوا ) ، أي الكافرون (بالتضمين من اللّه ) تعالى ، أي بسبب جعلهم اللّه تعالى في ضمن بشرا آخر غيره وهو الصورة (من حيث) أنهم وجدوا منه إحياء الموتى وذلك مخصوص باللّه تعالى عدولا منهم إلى الصورة العيسوية (الناسوتية البشرية) الظاهرة لهم بقولهم ، أي بسبب قولهم هو المسيح ابن مريم فما قالوا :
هو المسيح فقط ، ولا قالوا هو ابن مريم فقط .
وإنما جمعوا بينهما وقالوا هو المسيح ابن مريم فأخطأوا وكفروا .
فإنه إذا كان هو المسيح من حيث ظهوره في صورته في حال تجليه بها من باب القيومية لا يكون ابن مريم في ذلك الاعتبار لاستهلاك الصورة الناسوتية في الحقيقة الروحانية التي هو من أمر اللّه تعالى .
وأمر اللّه تعالى كلمح بالبصر ، وهو مقام الفناء الذي عند العارفين باللّه تعالى ، الذي لا يمكن التحقق بالمعرفة والتجليات الإلهية عندهم إلا به ، وإذا كان هو المسيح ابن مريم باعتبار الصورة الناسوتية لم يكن هو اللّه تعالى أصلا ، ولا كان جانب الروحانية الأمرية معتبرا فيه ، بل المعتبر فيه حينئذ جانب الطبيعة وجهة الالتباس في الخلق الجديد ، فجعله في تلك الحالة هو اللّه قول بكون اللّه مخلوقا ، وهو كفر ، وجمع الشيئين فيه حلول للإله في الخلق وهو كفر أيضا وجهل محض .

(وهو) ، أي عيسى عليه السلام باعتبار صورته الناسوتية (ابن مريم بلا شك) ، لأنها ولدته فتخيل السامع في نفسه من قولهم ذلك (أنهم نسبوا الألوهية للصورة) حيث قالوا : إن اللّه هو المسيح ابن مريم ، أي الذي ولدته مريم وتخيل أنهم جعلوها .
أي الألوهية عين الصورة العيسوية الناسوتية وهم ما فعلوا ذلك بل جعلوا الهوية .
أي الذات الإلهية ابتداء ، أي من حين ابتداء ظهور عيسى عليه السلام حالة في صورة بشرية ناسوتية هي .
أي تلك الصورة ابن مريم وقالوا بالحلول وهو كفر ففصلوا بقولهم ذلك بين الصورة البشرية العيسوية الناسوتية والحكم الصادر منها وهو إحياء الموتى لا أنهم جعلوا تلك الصورة العيسوية عين الحكم فكان منها إحياء الموتى ، وإنما قالوا في ذلك كما كان جبريل عليه السلام في صورة بشر ولا نفخ ، فكانت صورة بشرية .

(ثم نفخ) فظهر حكم آخر غيرها على خلاف مقتضاها (ففصل بين الصورة) التي ظهر بها أوّلا (والنفخ) الذي ظهر ثانيا (وكان النفخ) ظاهرا من الصورة فأشبه أن يكون منها فيكون النافخ عينها ولكنه تبين (فقد كانت) الصورة البشرية ظاهرة ولا  نفخ منها فما هو النفخ من حدها الذاتي بحيث يكون داخلا في ماهيتها بل هو أمر آخر عرض لها بسبب حلول حقيقة أخرى فيها ، وذلك النفخ ظاهر عن تلك الحقيقة الأخرى وهكذا قولهم في عيسى عليه السلام وهو خطأ وكفر.

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى ما هو ؟ فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانيّة البشريّة فيقول هو ابن مريم ومن ناظر فيه من حيث الصّورة الممثّلة البشريّة فينسبه لجبرئيل عليه السّلام ؛ ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى فينسبه إلى اللّه بالرّوحيّة فيقول روح اللّه ، أي به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه . فتارة يكون الحقّ فيه متوهّما - اسم مفعول - وتارة يكون الملك فيه متوهّما ، وتارة تكون البشريّة الإنسانيّة فيه متوهّمة : فيكون عند كلّ ناظر بحسب ما يغلب عليه ، فهو كلمة اللّه وهو روح اللّه وهو عبد اللّه.)


(فوقع الخلاف بين أهل الملل) ، أي الأديان من المسلمين والكافرين في عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى ما هو في نفس الأمر فمن ناظر فيه عليه السلام من حيث صورته الإنسانية البشرية فيقول عنه إنه هو ابن مريم وهو عبد اللّه ورسوله .
وإحياء الموتى كان من اللّه تعالى المتجلي بصورته ، لأنه قيوم عليه ممسك بقدرته كالذي يمسك السكين مثلا بيده ويقطع بها فالقاطع هو الممسك لا السكين .
ولهذا يرجع إليه المدح والذم ويلحقه الثواب والإثم فيما فعل ، والسكين صورة ظهر منها فعل ممسكها لا هي القاطعة .
وإذا قيل عنها أنها القاطعة كان هذا وصفها باعتبار اليد الممسكة لها لا باعتبارها هي في نفسها ، ولا حلول لليد فيها ولا اتحاد لها ، وإنما هي حقيقة واليد حقيقة أخرى ، وهكذا جميع الأسباب عند المهتدين .
وللّه المثل الأعلى في السماوات والأرض ، وأهل هذا القول هم المسلمون المحمديون ، فإذا أحيا اللّه تعالى الموتى بصورة عيسى عليه السلام لا يلزم أن يكون اللّه تعالى هو عيسى عليه السلام ، كما أن الكاتب إذا كتب بالقلم مثلا لا يلزم أن يكون الكاتب هو القلم .
وإذا اعتبر القلم لا مدخل له بالكلية في الكتابة ، وإنما الكتابة فعل ، والكاتب وحده يصح أن يقال حينئذ إن الكاتب هو القلم بعد فناء القلم واضمحلاله في وجود الكاتب حيث لا تأثير له البتة .

وفي عيسى عليه السلام كذلك إذا لم يعتبر فيه وجوده المستفاد من القيوم عليه واضمحلت رسوم الأنانية في حقيقته يصح فيه ذلك قولهم عنه بعد ذلك إنه ابن مريم واعتبار وجود صورته الناسوتية يأبى ذلك ومن ناظر فيه ، أي عيسى عليه السلام

(من حيث الصورة ) الروحانية (المتمثلة البشرية فينسبه لجبريل) عليه السلام ويقول فيه : إنه مثل جبريل عليه السلام لما تمثل في صورة البشر السوي ، فهو ملك بشر وهو قول المسلمين أيضا ، والمحيي للموتى هو اللّه تعالى أيضا متجليا بصورته كما تجلى على مريم بصورة جبريل عليه السلام بعد تصوّره في صورة البشر السوي ، ونفخ سبحانه في مريم ، فكان عيسى عليه السلام ، ولهذا نسب تعالى النفخ فيه ، فقال :"وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا"الأنبياء : 91 ] .
فيكون هنا في إحياء الموتى بعيسى عليه السلام للّه تعالى تجل بثلاث صور : صورة جبريل الأصلية من غير أن تتغير ، وصورة البشر السوي التي جاء بها جبريل إلى مريم عليها السلام ، وصورة عيسى عليه السلام ، وذلك في إبراء الأكمه والأبرص .


وهذا هو التثليث الصحيح في الملة العيسوية المعبر عنه باسم الأب ، وهو صورة البشر السوي ، والابن وهو صورة عيسى عليه السلام ، وروح القدس وهو جبريل عليه السلام بصورته الأصلية النورية الملكية . وهذه الثلاثة هو اللّه تعالى باعتبار تجليه سبحانه بهذه الصور الثلاث التي بعضها فوق بعض بالمراتب الوجودية ، على معنى أنه قيوم عليها وهي ممسوكة به ، لا أن له حلولا في شيء منها ، ولا اتحادا له بها ، ولا انحلالا لها منه : "لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ( 3 ) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ"( 4 ) [ الإخلاص  3 - 4 ] .


(ومن ناظر فيه) ، أي عيسى عليه السلام (من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى فينسبه إلى اللّه) تعالى (بالروح) ، أي بسبب روحه الأمري المنفوخ فينقطع استهلاكه بالصورة الناسوتية في الحقيقة اللاهوتية فيقول فيه إنه روح اللّه كما قال سبحانه :وَرُوحٌ مِنْهُوهذا القول قريب مما قبله لكن لا اعتبار فيه للصورة المتمثلة أي به ، يعني بعيسى عليه السلام الذي هو روح اللّه ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه من الطير والموتى ، وهذا القول أيضا للمسلمين لورود القرآن والسنة به ، وإنما الكافرون أخذوا القول الأوّل منها وهو كونه ابن مريم وادعوا حلول الألوهية فيه .


وبعضهم أخذ القول الثاني وادعى اتحاد الألوهية ، وأنه بهذا الاعتبار نفس الإله ، فقالوا : إن الإله تثلث وانقسم إلى أب وابن وروح قدس .
ثم قالوا : إله واحد ، وجعلوا الثلاثة أقانيم ، والأقنوم في لغتهم معناه الأصل ، أي أصول ثلاثة ، ثم سموها ثلاث صفات فقالوا : وجود وحياة وعلم .
ثم قالوا : حل أقنوم العلم وحده في عيسى ابن مريم .
ثم قالوا فيه : أنه صلب ناسوته فانفصل منه أقنوم العلم ورجع إلى أصله وخبطوا خبطا فاحشا وجهلوا جهلا خبيثا .
وقد رد عليهم أهل الكلام بعد رد القرآن العظيم حيث كفروا كفرا : "تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ( 90 ) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ( 91 )  وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً"( 92 )[ مريم : 90 ] .

والحق ما عليه أئمة الإسلام وهو الصواب في نفس الأمر أن عيسى عليه السلام كانت حقيقته الظاهرة قابلة لثلاث اعتبارات بحسب ما ذكر فتارة يكون الحق تعالى فيه ، أي في عيسى عليه السلام متوهما بصيغة اسم مفعول حيث هو من روح اللّه والروح من أمر اللّه كما قال تعالى:  "وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي" [ الإسراء : 85 ] .

وبهذا الاعتبار تكون ملكيته وبشريته مستهلكتين في أمر اللّه تعالى النازل بالحقيقة العيسوية وتارة يكون الملك بفتح اللام واحد الملائكة عليهم السلام فيه ، أي في عيسى عليه السلام 
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:20 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
متوهما بصيغة اسم مفعول لأنه نشأ في فرج أمه مريم عليها السلام بنفخ الملك فيها بأمر اللّه تعالى ، لأن الملائكة عليهم السلام لا يعملون إلا بأمر اللّه تعالى .
قال سبحانه :" وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ " [ الأنبياء 27 ] ولا ينشأ عن الملك إلا ملك كما أنه لا ينشأ عن الإنسان إلا إنسان وعن الطير إلا طير .
وهكذا وبهذا الاعتبار تكون الحضرة الأمرية الإلهية والنشأة البشرية غائبتين في الحقيقة الملكية الروحانية منه .
وتارة تكون البشرية الإنسانية فيه أي في عيسى عليه السلام متوهمة أيضا بصيغة اسم مفعول ، لأنه نشأ عن صورة البشر السوي الموهومة وعن الصورة البشرية المحققة من أمه مريم عليها السلام ولا ينشأ عن البشر إلا بشر فيكون ، أي عيسى عليه السلام عند كل ناظر إليه كما ذكر بحسب ما يغلب عليه ، أي على ذلك الناظر من اعتبار النشأة العيسوية بحسب الوجوه الثلاث فهو ، أي عيسى عليه السلام كلمة اللّه تعالى وقول اللّه كما قال تعالى :وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.
 
وقال سبحانه : " ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ"[ مريم : 34 ] .
باعتبار الوجه الأوّل لكون الحق تعالى فيه متوهما اسم مفعول .
وهو أيضا روح اللّه كما قال سبحانه : "وَرُوحٌ مِنْهُ ".
باعتبار الوجه الثاني لكون الملك فيه متوهما وهو أيضا عبد اللّه .
كما قال تعالى  : "إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ" [ الزخرف : 59 ] ، وقال تعالى : " لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً"  [ النساء : 172 ] .
وقال تعالى : " إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً"  [ مريم : 93 ] .
وقال تعالى :" إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" [ آل عمران : 59 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وليس ذلك في الصّورة الحسّيّة لغيره ، بل كلّ شخص منسوب إلى أبيه الصّوري لا إلى النّافخ روحه في الصّورة البشريّة . فإنّ اللّه إذا سوّى الجسم الإنسانيّ كما قال :فَإِذا سَوَّيْتُهُ [ الحجر : 29 ] نفخ فيه هو تعالى من روحه .
فنسب الرّوح في كونه وعينه إليه تعالى . وعيسى ليس كذلك ، فإنّه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشريّة بالنّفخ الرّوحيّ ، وغيره كما ذكرناه لم يكن مثله . فالموجودات كلّها كلمات اللّه الّتي لا تنفذ ، فإنّها عن « كن » وكن كلمة اللّه .
فهل تنسب الكلمة إليه بحسب ما هو عليه فلا تعلم ماهيّتها أو ينزل هو تعالى إلى صورة من يقول « كن » فيكون قول كن لتلك الصّورة الّتي نزل إليها وظهر فيها ؟
فبعض العارفين يذهب إلى الطّرف الواحد ، وبعضهم إلى الطّرف الآخر ، وبعضهم يحار في الأمر ولا يدري . )
 
(وليس ذلك) ، أي الوجوه الثلاثة المذكورة (في الصورة الحسية لغيره) ، أي عيسى عليه السلام من جميع الناس ولا لآدم عليه السلام ، فإن اللّه تعالى ما خلقه بواسطة ملك تصوّر في صورة بشر ، وإنما خمر طينته بقدرته سبحانه ، ثم سواها بلا واسطة ونفخ فيه من روحه بلا واسطة ، والمثلية في قوله تعالى :إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍثم قال له كن فيكون باعتبار ما ذكره من خلقه من تراب ، ثم تكوينه له بنفخ الروح فيه ولا واسطة بالنظر إليه تعالى ، ولهذا قال في عيسى عليه السلام : فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [ الأنبياء : 91 ] .
 
ولم يذكر سبحانه واسطة نفخ الملك ، وهذا معنى التقييد بالعندية في قوله تعالى :إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ، ولم يطلق سبحانه : فإِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ.
وأما مثله عندنا فليس كذلك لاعتبارنا الواسطة كما هي كذلك في عيسى عليه السلام دون آدم عليه السلام .
ولهذا اعتبرها سبحانه في موضع آخر من كلامه حيث قال : " فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ( 18 ) قالَ: " إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا " ( 19 ).
بل كل شخص من الناس منسوب إلى أبيه الصوري المتوجه على إلقاء نطفته في رحم أمه ؛ ولهذا قال تعالى : " ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ " [ الأحزاب : 5 ] .
وقال تعالى : "وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ"  [ البقرة : 332 ] ، وهو الأب ، فإذا زال حكم الدنيا وتكوين الناس فيها عن الوسائط الظاهرة في الطبيعة وكان يوم القيامة ظهرت عندية اللّه .
 
قال تعالى : " فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ" [ المؤمنون : 101 ] ، وسبب ذلك النشأة الأخرى التي يتكوّن فيها الكل عن أمر اللّه تعالى من غير واسطة .
وقال تعالى  " :يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ( 34 ) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ " [ عبس : 34 - 35 ].
 
وذلك لبطلان النشأة التي كانت في الدنيا مبنية على السببية بالوسائط وارتفاع الأنساب بالنشأة التي قال تعالى : " وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى( 47 )" [ النجم : 47 ]
فيشبه الناس حينئذ خلق آدم عليه السلام بظهور الأمر لهم في عين ما طلبه إبراهيم عليه السلام في الدنيا بقوله :" رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى" [ البقرة : 260 ] .
فيريهم اللّه تعالى كلهم كيف يحيي الموتى في ذلك اليوم الآخر وهو قوله تعالى : " يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ "( 6 ) [ المطففين : 6 ] ، أي لا لأنفسهم ولا لبعضهم بعضا لا منسوب إلى الحق تعالى النافخ فيه روحه من أمره تعالى في الصورة البشرية التي صورناها من النطفة في رحم الأم بالملك الذي أرسله لذلك .
 
فإن اللّه تعالى إذا سوى الجسم الإنساني من النطفة في الرحم كما قال تعالى في آدم عليه السلام من غير واسطة ، وفي غيره بواسطة الملك المرسل إلى الرحم كما ورد في الحديث فإذا سويته والتسوية تصويره في الصورة الإنسانية ونفخ فيه ، أي في ذلك الجسم المسوّى هو ، أي اللّه تعالى من روحه فنسب الروح في كونه ، أي وجوده لنفسه وفي عينه ، أي تعينه بالصورة المخصوصة المنفوخ هو فيها إليه تعالى فقيل : روح اللّه .
وقال تعالى: " فَأَرْسَلْنا إليها رُوحَنا " [ مريم : 17 ]
وقال تعالى : " وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي"  [ الحجر : 29 ] .
 فالروح منسوب إلى اللّه تعالى قبل النفخ وبعده ، لأنه مخلوق من أمره بلا واسطة .
وعيسى عليه السلام في خلقته ليس كذلك ، أي ليس مثل كل شخص من الناس فإنه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشرية بالنفخ الروحي فيه فكان النافخ مسويا جسمه وصورته الإنسانية ومعطيا له الروح فيها بفعل واحد وهو النفخ الواحد وغيره .
 
أي غير عيسى عليه السلام من كل شخص من الناس كما ذكرناه قريبا لم يكن مثله ، أي مثل عيسى عليه السلام بل كان جسمه الإنساني قد سوّاه اللّه تعالى أوّلا ، فلما تمت تسويته نفخ فيه من روحه فلم يخلق اللّه تعالى أحدا كخلقه عيسى عليه السلام أصلا ، ولهذا صحت فيه الوجوه الثلاثة المذكورة دون غيره من المخلوقات .
وإن صح في كل شيء أن يقال إنه كلمة اللّه وإنه روح اللّه وإنه عبد اللّه باعتبار خلق اللّه تعالى كل شيء بقوله :كُنْ فَيَكُونُوقيام كل شيء به تعالى ، لأنه الحي القيوم وبأمره سبحانه كما قال : "أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ " [ الروم : 25 ] ،
ويتنزل الأمر بينهنّ .
وقال :" ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ " [ الطلاق : 5 ] ، وأخبر
 
أن كل شيء يسبح بحمده ولا يسبح إلا ذو روح ، فكل شيء له روح من أمر اللّه قيوم عليه باللّه ، وكل شيء عبد اللّه كما قال سبحانه :إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً( 93 ) [ مريم : 93 ].
 ولكن لم يخلق اللّه تعالى شيئا مثل كيفية خلقه لعيسى عليه السلام كيفية باعتبار ترتيب الوسائط لا باعتباره وهو سبحانه الخالق لكل شيء ، لأنه مافِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ[ الملك : 3 ]
وخلقه كله سواء بالنسبة إليه تعالى كما ذكرناه ، وإنما الفرق بالنسبة إلينا ؛ ولهذا قال تعالى :إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِكما قدمناه .
 
فالموجودات كلها المحسوسات منها والمعقولات والموهومات كلمات اللّه تعالى التي لا تنفد
كما قال سبحانه : " قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً "( 109 ) [ الكهف : 109 ] .
وقال تعالى : " وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ " [ لقمان : 27 ] فإنها ، أي جميع الموجودات صادرة عن اللّه تعالى بقوله سبحانه كن لكل شيء منها فيكون وكن كلمة اللّه تعالى ، وقد تضمنت الشيء لتوجهها به عليه ، فالشيء لها بمنزلة الحروف الحاملة بطريق الدلالة للمعنى المراد ، وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُوهو كن لتوجهها منه تعالى لأنها أمره ، فالأمر الإلهي هو الكلام النفسي ، والخلق بمنزلة الكلام اللفظي كما قال تعالى :"أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ "[ الأعراف : 45 ].
  
فهل تنسب الكلمة الإلهية التي هي كن إليه تعالى بحسب ما هو تعالى عليه من التنزيه المطلق الذي لا يعلم به إلا هو فلا تعلم ، أي لا يعلم أحد ماهيتها ، أي تلك الكلمة كباقي حضراته تعالى فنسلمها له ونؤمن بها على ما يعلمه هو منها لا على ما نعلم نحن ، لأنه تعالى يعلم ونحن لا نعلم جميع ما يكون له سبحانه كما قال :وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[ البقرة : 216 ] .
وقال الملائكة : " سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا " [ البقرة : 32 ]
أو نقول : ينزل هو ، أي اللّه تعالى إلى صورة من يقول من ملائكة أو بعض خلقه كن للشيء الذي يريده اللّه تعالى .
 
فيكون حينئذ قول كن حقيقة معلومة لنا منسوبة لتلك الصورة التي نزل إليها الحق تعالى فتجلى بها وظهر فيها بقيوميته عليه
فبعض العارفين من أهل اللّه تعالى يذهب إلى الطرف الواحد وهو الأوّل.
وبعضهم أي العارفين يذهب إلى الطرف الآخر وهو الثاني
وبعضهم ، أي العارفين يحار في الأمر الإلهي ولا يدري ما هو .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذه مسألة لا يمكن أن تعرف إلّا ذوقا كأبي يزيد حين نفخ في النّملة الّتي قتلها فحييت فعلم عند ذلك بمن ينفخ فنفخ فكان عيسوي المشهد .
وأمّا الإحياء المعنويّ بالعلم فتلك الحياة الإلهيّة الذّاتيّة العليّة النّوريّة الّتي قال اللّه فيها :أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ[ الأنعام  122 ].
 فكلّ من يحيي نفسا ميتة بحياة علميّة في مسألة خاصّة متعلّقة بالعلم باللّه ، فقد أحياه بها فكانت له نورا يمشي به في النّاس أي بين أشكاله في الصّورة .
فلولاه ولولانا ... لما كان الذي كانا
فإنا أعبد حقا ...    وإن الله مولانا
وإنا عينه فاعلم ...    إذا ما قلت إنسانا
فلا تحجب بإنسان ...  فقد أعطاك برهانا
فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا
وغذ خلقه منه ...    تكن روحا وريحانا
فأعطيناه ما يبدو ...    به فينا وأعطانا
فصار الأمر مقسوما   ... بإياه وإيانا
فأحياه الذي يدري  ... بقلبي حين أحيانا
فكنا فيه أكوانا    ... وأعيانا وأزمانا
وليس بدائم فينا   ... ولكن ذاك أحيانا )
 
(وهذه) ، أي مسألة الأمر الإلهي المتوجه على إيجاد الكائنات من قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) (مسألة) عظيمة (لا يمكن أن تعرف) ، أي يعرفها أحد (إلا ذوقا ) ، أي كشفا من نفسه وهو النظر التام في قوله تعالى :"أفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ( 17 ) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ( 18 ) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ( 19 ) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ"  [ الغاشية : 17 - 20 ] .
وقوله تعالى : " أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً" [ النحل : 48 ] .
 
وهو نظر الاعتبار ورؤية المعرفة والاستبصار كأبي يزيد البسطامي رضي اللّه عنه حين نفخ في النملة التي قتلها فحييت بإذن اللّه تعالى فأمات وأحيا بإذن اللّه تعالى فعلم ، أي أبو يزيد عند ذلك ، أي عند الإحياء بمن ينفخ ، أي بربه القيوم عليه فنفخ به سبحانه لا بنفسه هو بحيث كان النافخ هو الحق تعالى بفم أبي يزيد ، مثل جبريل كما نفخ عيسى عليه السلام في مريم عليها السلام ، فإن نفخه ذلك كان باللّه تعالى ، بل هو نفخ تعالى بجبريل عليه السلام .
وكذلك عيسى عليه السلام لما أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ونفخ في الطير كان ذلك منه باللّه تعالى ، بل من اللّه تعالى به .
وأبو يزيد رضي اللّه عنه ذاق ذلك في نفسه وتحقق به (فكان عيسوي المشهد) ، أي يشهد من الحق تعالى ما يشهد عيسى عليه السلام وهذا في الإحياء الحسي .
 
(وأما الإحياء المعنوي بالعلم) باللّه تعالى للموتى بالجهل به كالكافرين والمشركين والمغرورين والغافلين فتلك هي الحياة الإلهية ، أي المنسوبة إلى الإله تعالى الذاتية ، أي التي لا تفارق من اتصف بها ، لأنها كمال له باعتبار ذاته لا عرضية مفارقة له كالحياة الحسية العلية ، لأنها حياة الحق تعالى .
والحياة الحسية التي هي بسريان الروح الأمري في الجسم مستحيلة على الحق تعالى ، لأنها حياة سفلية طبيعية النورية ، لأنها بالنور الذي هو العلم الإلهي ، والحياة الحسية ظلمانية ، لأنها بالغير والغير ظلمة .
وإن كان لا حياة في نفس الأمر إلا بالعلم الإلهي والحياة بالروح كذلك ، لأنها إذا لم يصحبها العلم باللّه عن ذوق وكشف كانت مجرد حركات طبيعية وإدراكات وهمية في أجسام حيوانية وعقول شيطانية في نفوس شهوانية .
 
فهي موت لا حياة وإن عدها صاحبها حياة لعدم ذوقه الحياة كما قال تعالى وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ[ فاطر : 22 ] .
ولهذا كان شرط وجود الحياة العلمية الحقيقية الموت من تلك الحياة الطبيعية الوهمية النفسانية فقال عليه السلام : « موتوا قبل أن تموتوا »  ، أي موتوا اختيارا قبل أن تموتوا اضطرارا التي قال اللّه تعالى فيها ، أي في تلك الحياة المذكورة " أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً " [ الأنعام : 122 ] .
ذكره ابن حجر العسقلاني في الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع يعني بالجهل باللّه تعالى وهو الموت الحقيقي فَأَحْيَيْناهُ بالحياة العلمية النورانية الحقيقية المذكورة "وجعلنا له نورا" [ الأنعام : 122 ] .
 
وهو الروح العلمي الذي نفخه فيه فأحياه بالحياة المذكورة " يَمْشِي بِهِ " [ الأنعام : 122 ] ، أي بذلك النور وهو قوله تعالى :اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ النور : 35 ] .
وفي الحديث : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه " في الناس ، أي بين أمثاله فيعرفهم ولا يعرفونه ويؤمن بهم ويجحدونه ، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ولو جعل اللّه تعالى لهم ما جعل له من النور لمشوا به فيه كما مشى هو به فيهم .
قال تعالى :" وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ " [ النور : 40 ] .
 
فكل من أحيا نفسا ميتة بالجهل باللّه تعالى بالحياة العلمية الألوهية ولو في مسألة خاصة متعلقة بالعلم باللّه تعالى لا بما سواه فإن ذلك ليس بعلم أصلا في نفس الأمر عند العارف ، وإن سماه الجاهل علما ، لأن أحوال الناس متفاوتة كما قال تعالى :"كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" [ المؤمنون : 53 ] .
فقد أحياه بها ، أي بتلك المسألة الإلهية حياة ذاتية لا عرضية علوية ، ولا سفلية نورانية ، ولا ظلمانية قلبية ، ولا نفسانية حقيقية ، ولا وهمية باقية ، ولا فانية دينية ، ولا دنيوية .
وكانت ، أي تلك المسألة له نورا يمشي به في الناس أي بين أشكاله وأمثاله في الصورة الآدمية فيعلو عليهم بالعلم ويسفلون عنه بالجهل
 
شعر :
قال رضي الله عنه : 
(  فلولاه ولولانا ... لما كان الذي كانا)
(فلولاه )، أي الحق تعالى الذي هو نور السماوات والأرض بالعلم الإلهي الظاهر في القابل المستعد له من أهل السماوات والأرض على حسب قابليته واستعداده ، والكل قابل ومستعد لما هو فائض عليه من ذلك النور ومن طلب فوق قابليته واستعداده لا يجد ذلك ؛ ولهذا قال :
ولولانا فإن النور عين الوجود ، وقد اتصف بالوجود كل شيء ، فهو متصف بالعلم ولا علم إلا باللّه كما أنه لا جهل إلا باللّه تعالى ، والجاهل ناقص العلم باللّه تعالى ، فلا جهل باللّه من كل وجه بل الكل عالم باللّه .
ولكن قال تعالى : " وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ " [ يوسف : 76 ] ، وأخبر أنه سبحانه :"رَفِيعُ الدَّرَجاتِ"[ غافر 15 ] ،
وقال سبحانه : " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ " [ المجادلة 11 ]
والكل آمنوا ولو من وجه والكل أُوتُوا الْعِلْمَ ولو بشيء ، فهم مرفوعون ولكن رفعتهم درجات متفاوتة ، وذلك عين ما هم فيه وهي درجاته ، لأنه رفيع الدرجات لما كان الذي كانا وهو الظهور الصفاتي في عين البطون الذاتي ؛ ولهذا قال :
(فإنا أعبد حقا  ... وإن الله مولانا)
 
(فإنا) معشر الكائنات (أعبد) جمع عبد (حقا) على حسب ما في كل واحد من العبودية ، فالبطون بالربوبية على مقدار الظهور بالعبودية .
فمن كثرت عبوديته كثر فيه ظهور ربوبية اللّه تعالى .
ومن قلّت فيه العبودية ، كثر فيه بطون الربوبية .
وأن اللّه سبحانه (مولانا) بربوبيته لنا وهذا حكم الظهور والبطون وهما تجليان صفاتيان.
 وأما التجلي الذاتي فقد أشار إليه بقوله:  
 
(وإنا عينه فاعلم ...    إذا ما قلت إنسانا )
(وأنا) معشر الكائنات أيضا (عينه) ، أي بعد فنائنا في أنفسنا ذوقا وكشفا ،لأنه لا يبقى إلا هو.
(فاعلم) يا أيها السالك هذه الأنانية الذاتية بعد تلك الأنانية الصفاتية الاسمائية ، وهذا الجمع بعد ذلك الفرق إذا ما قلت أنت أو أنا إنسانا فإن الإنسان هو الكامل في النشأة ، العارف بنفسه وبربه الجامع بالمعنى الفارق بالصورة ، وما عداه من الناس فهو إنسان ناقص ، غلبت عليه الحيوانية ، ولم يكمل فيه ظهور الربوبية لنقصان العبودية .
 
(فلا تحجب بإنسان ...  فقد أعطاك برهانا )
(فلا تحجب) يا أيها السالك عن العين الإلهية الحقيقة الوجودية المطلقة (بإنسان) كامل أو ناقص ، فإنه ظهور لتلك العين المطلقة على التمام أو على النقص .
فقد أعطاك ، أي الحق تعالى برهانا فيك على أنه عينك تشهده منك ذوقا وكشفا في طور كمالك ، وهو قوله تعالى في يوسف عليه السلام :" لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ " [ يوسف : 24 ] .
 
ثم أشار إلى جمع الجمع وهو الفرق الثاني بعد الجمع بقوله :
(فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا)
(فكن) يا أيها السالك (حقا) بعين وجودك القائم الدائم (وكن خلقا) بصورك الثلاث الصورة الروحانية العقلية ، والنفسانية الخيالية ، والجسمانية الطبيعية العنصرية .
تكن حينئذ باللّه تعالى متحققا من حيث صورتك الروحانية العقلية رحمانا مستويا بصورتك النفسانية الخيالية على عرش جسمانيتك الطبيعية العنصرية.
 
وصورتك الجسمانية الطبيعية العنصرية لها قلب وهو عرشها ، ودماغ وهو كرسيها ، وصفات سبعة هي كواكبها ، في أفلاك سبعة ، وهي قواها العرضية ، في مواضع سبعة هي سمواتها ، ويظهر عن تلك الكواكب في سباحتها في أفلاكها مواليد أربعة جماد العمل القاصر ، ونبات العمل المتعدي ، وحيوان الاعتقاد القاصر ، وإنسان الاعتقاد المتعدي ، عن عناصر أربعة : تراب الخاطر ، وماء النية ، وهواء العزم ، ونار الهمة .
 
وهو قوله :
(وغذ خلقه منه ...    تكن روحا وريحانا )
(وغذّ) أمر من الغذاء وهو القوت الذي به القوام (خلقه) تعالى ، أي مخلوقاته وهي المواليد الأربعة فيك العمل القاصر والمتعدي ، والاعتقاد القاصر والمتعدي ، فعملك واعتقادك خلقه سبحانه .
وذلك في يوم القيامة متصوّر في صورة حسنة أو قبيحة ، يحشر مع صاحبه ويوزن ويحاسب عليه ويجازى به ، فأمره أن يغذيه أي يقيته ويمده منه تعالى بماء النية ومأكل الإخلاص تكن حينئذ يا أيها الفاعل ذلك روحا لذلك العمل والاعتقاد القاصر والمتعدي الذي خلقه اللّه فيك فيكون عملك حيا .
 
وكذلك اعتقادك بنوعيه فيحملك بكونه مظهرا لك كونك متجليا به ، فهو كلمك الطيب الصاعد بك إلى ربك كما قال سبحانه: " إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" [ فاطر : 10 ]
كما أن عمل ربك حي بربك ، وعلمه كذلك فهو مظهر له لأنه متجل به ، فهو نازل إليك منه تعالى وتكن ريحانا ، أي زكاء أو طيبا لعملك  واعتقادك القاصر والمتعدي ، أو أن المعنى قيام السالك بالفرق والجمع حتى يكون متحققا في نفسه بجمع الاسم اللّه ، وظاهرا بين الناس بفرق الاسم الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء .
فهو مأمور حينئذ أن يغذي خلق اللّه من كل من وجده مؤمنا به بالغذاء الرحماني ، وهو العلم الإلهي منه تعالى لا من نفسه بحسب فتوح الوقت ، فإنه يكون له حينئذ روحا معنويا بنفخه فيه ، فيحييه به حياة علمية ذاتية إلى الأبد ، وريحانا : أي جنة معنوية يدخله فيها ، عيونها جارية وقطوفها دانية .
 
(فأعطيناه ما يبدو ...    به فينا وأعطانا )
(فأعطيناه ) ، أي الحق تعالى (ما يبدو) ، أي يظهر من العمل والاعتقاد بنوعيه به ، أي بقدرته فينا ، وهو الكلم الطيب الذي يصعد إليه ، وإذا أعطيناه ذلك فلا يبقى عندنا دعوى له ، فإذا قدمنا عليه لا نقدم عليه بشيء بل نقدم عليه به ، لأنه هو الذي يبقى عندنا فنعمل به ما نعمل وأعطانا هو أيضا ما يبدو ، أي يظهر بنا من عمله وعلمه وهو كلماته التامات .
فإذا قدم علينا لا يقدم علينا أيضا بشيء ، وإنما يقدم علينا بنا لأننا نحن الذين نبقى عنده فيعمل بنا ما يعمل ، أو المعنى أن الذي نغذي به خلقه من الطالبين لمعرفته إذا أعطيناهم إياه فقد أعطيناه ما يظهر به سبحانه فينا من فيضه ، وأعطانا هو أيضا ما يظهر بنا فيه من استعدادنا لكماله وفيض جلاله وجماله
 .
(فصار الأمر مقسوما   ... بإياه وإيانا )
(فصار) بسبب ما ذكر منا ومنه سبحانه الأمر الإلهي الواحد (مقسوما ) بيننا وبينه بإياه وهو البطون والجمع وإيانا وهو الظهور والفرق .


(فأحياه الذي يدري  ... بقلبي حين أحيانا  )
(فأحياه) سبحانه من حيث ظهوره بنا الوجود الحق (الذي) هو (يدري) به ، أي يعلمه فلا يعلمه غيره وهو لقلبي الذي وسعه كما ورد : « ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ".
حين أحيانا نحن أيضا من حيث بطونه عنا بما أحيا به نفسه في ظهوره بنا .
 
(فكنا فيه أكوانا    ... وأعيانا وأزمانا   )
(فكنا) بانقلاب الأمر الذي وسعناه به وهو قلبنا (فيه) سبحانه (أكوانا) جمع كون وأعيانا جمع عين وأزمانا جمع زمان ، وذلك جميع العوالم في بصائر العارفين كلها ثابتة من غير وجود لأنه عين الوجود ، فلا يصير وصفا لغيره وهو قوله تعالى :" يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا" [ إبراهيم : 27 ].
أي يجعلهم ثابتين لا منفيين فإن المنفي هو المحال وهم ممكنون والمضارع حكاية الأزل .
ثم قال تعالى بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ وهو عين الوجود الحق من حيث هو أمر نازل كلمح بالبصر .
ثم عمم تعالى هذا الحكم فيهم فقال: " فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ" [ إبراهيم : 27 ] ، أي يحيرهم فلا يهديهم إلى معرفة الأمر على ما هو عليه لظلمهم لأنفسهم أو لغيرهم ، فكلما عدلوا عن الحق عدل بهم " فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ"[ يونس : 32 ] .
 
(وليس بدائم فينا   ... ولكن ذاك أحيانا )
وليس ما ذكر من شهود الثبوت في الوجود بدائم فينا معاشر المؤمنين ولكن ذاك أحيانا ، أي في أوقات دون أوقات ، فلا بد من شهود الثبوت في الوجود ، وشهود الوجود في الثبوت ، فالوجود واحد والثبوت كثير ، والوجود مطلق والثبوت مقيد ، والوجود له الظهور والبطون والثبوت له الظهور والبطون ، وهما كالليل والنهار ، بل الليل والنهار كما قال تعالى :" وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وهي القمر وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً"[ الإسراء : 12 ] وهي الشمس .
 
وفي الحديث : " فإنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر " رواه الترمذي في سننه

. وفي رواية أخرى : " كما ترون الشمس في الظهيرة ". رواه الدارقطني
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:21 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الرابع
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وممّا يدلّ على ما ذكرناه من أمر النّفخ الرّوحاني مع صورة البشر العنصريّ هو أنّ الحقّ وصف نفسه بالنّفس الرّحماني ولا بدّ لكلّ موصوف بصفة أن يتبع جميع ما تستلزمه تلك الصّفة ، وقد عرفت أنّ النّفس في المتنفّس ما يستلزمه فلذلك قبل النّفس الإلهيّ صور العالم . فهو لها كالجوهر الهيولانيّ ، وليس إلّا عين الطّبيعة .
فالعناصر صورة من صور الطّبيعة وما فوق العناصر وما تولّد عنها فهو أيضا من صور الطّبيعة ، وهي الأرواح العلويّة الّتي فوق السّموات السّبع . )
 
(ومما يدل على ما ذكرناه) في مسألة (أمر النفخ الروحاني ) الذي هو من اللّه تعالى (مع صورة البشر العنصري) ولا يمكن أن يعرف إلا ذوقا كواقعة أبي يزيد رضي اللّه عنه المذكورة هو ، أي الذي يدل على ذلك أن الحق تعالى وصف نفسه بسكون الفاء.
أي ذاته على لسان نبيه عليه السلام بالنفس بفتح الفاء الرحماني قال عليه السلام : " أني لأجد نفس الرحمن يأتيني من جهة اليمن " ، ولا بد لكل موصوف بصفة أن تتبع الصفة جميع ما تستلزمه تلك الصفة من الأمور التي لا ثبوت لتلك الصفة إلا بها .
 
وقد عرفت يا أيها السالك أن النفس بفتح الفاء ، أي الهواء الداخل إلى الجوف الحيواني ثم الخارج منه في المتنفس به من الحيوانات ما يعني أي شيء يستلزمه من الحرارة أو البرودة أو الاعتدال وانفتاح صور الصوت فيه وصور الحروف والكلمات ، وحيث اتصف الحق تعالى بالنفس فقد اتصف نفسه بما يتصف به النفس من صور الطبائع والعناصر والمولدات فلذلك ، أي لما ذكر قبل النفس بفتح الفاء الإلهي صور العالم كلها محسوسها ومعقولها وموهومها فهو ، أي النفس الإلهي لها ، أي لصور العالم كلها كالجوهر ، أي الجزء الذي لا يتجزأ الهيولاني حيث يتركب منه الجسم فيكون ذلك الجسم هيولي ، أي مادة الصور كثيرة تجعل منه كالخشبة تجعل الباب والصندوق والكرسي ، والطين يجعل منه الكوز والجرة والخابية ، والعجين يجعل منه الرغيف والقرص والكعك ونحو ذلك .
 
(وليس)  كالجوهر الهيولاني (إلا عين الطبيعة) الكلية الحاملة لصور العالم التي تنقسم إلى أربعة أقسام وتتكاثف بالعناصر (فالعناصر) المنقسمة إلى أربعة أيضا (صورة من صور الطبيعة) وجميع ما فوق العناصر وفوق ما تولد عنها ، أي عن العناصر من السماوات السبع وملائكتها عليهم السلام فهو أيضا من صور الطبيعة المذكورة وهي ، أي ما فوق العناصر والمتولد منها الأرواح العلوية وهم الملائكة عليهم السلام التي فوق السماوات السبع ملائكة العرش والكرسي .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا أرواح السّموات السبع وأعيانها فهي عنصريّة ، فإنّها من دخان العناصر المتولّد عنها .
وما تكوّن من كلّ سماء من الملائكة فهو منها ، فهم عنصريّون ومن فوقهم طبيعيّون ، ولهذا وصفهم اللّه بالاختصام - أعني الملأ الأعلى - لأنّ الطّبيعة متقابلة .
والتّقابل الّذي في الأسماء الإلهيّة الّتي هي النّسب إنّما أعطاه النّفس .
ألا ترى الذّات الخارجة عن هذا الحكم كيف جاء فيها الغنى عن العالمين ؟
فلهذا خرج العالم على صورة من أوجدهم ، وليس إلّا النّفس الإلهيّ . )
 
(وأما أرواح) ، أي ملائكة (السماوات السبع وأعيانها) ، أي أعيان السماوات السبع وهي ذواتها (فهي عنصرية فإنها) متكونة من دخان العناصر وبخارها يوم خلقها اللّه تعالى (المتولد) ذلك الدخان عنها ، أي عن العناصر وما تكون بتشديد لواو (عن كل سماء) من السماوات السبع من الملائكة بيان للمتكون فهو ، أي ذلك المتكون منها ، أي من نوع تلك السماء .
 
قال تعالى :" وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها " [ فصلت : 12 ] ، وهو الذي تعمل به ملائكة تلك السماء كما قال تعالى :" وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ " [ الأنبياء : 27 ] فهم ، أي ملائكة السماوات السبع عنصريون ، أي مخلوقون من دخان العناصر الأربعة فهم ألطف من الجن والشياطين المخلوقين من العناصر الأربعة وفي الكل قوّة التشكل والتصوّر في الصور المختلفة على حسب ما يريدون من غير أن يتغيروا عن صورهم الأصلية العنصرية لغلبة الروحانية ولطافة الجسمانية ومن فوقهم ، أي من فوق ملائكة السماوات السبع عليهم السلام ملائكة طبيعيون ، أي مخلوقون من الطبيعة لا من العناصر ؛ ولهذا ، أي لكونهم طبيعيين وصفهم اللّه تعالى في القرآن بالاختصام ، أي المجادلة والاختلاف فيما بينهم أعني بهم الملأ الأعلى وهم ملائكة العرش والكرسي وما شاكل ذلك .
 
قال تعالى عن نبيه عليه السلام :" ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ" [ ص : 69 ] وفي حديث الترمذي بإسناده عن ابن عباس .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " أتاني الليلة آت من ربي " .
وفي رواية : « أتاني الليلة ربي في أحسن صورة ، فقال : يا محمد ، فقلت : لبيك ربي وسعديك ، قال هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟
قلت : لا أعلم . قال : فوضع يديه بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي ، أو قال في نحري ، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض ، أو قال ما بين المشرق والمغرب .
قال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ، قلت : نعم في الدرجات والكفارات ونقل الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات . وانتظار الصلاة بعد الصلاة ومن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه .
قال : يا محمد ، قلت : لبيك وسعديك ، قال : إذا صليت فقل : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون .
قال : والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام " . رواه الترمذي والدارقطني
لأن الطبيعة باعتبار أقسامها الأربعة متقابلة فبعضها يقابل بعضا ، وبالتقابل يقع الاختلاف ويصدر الاختصام .
 
(والتقابل الذي في الأسماء الإلهية) المنقسمة إلى أسماء جلال وأسماء جمال وأسماء ذاتية وأسماء فعلية (التي هي) مجرد (النّسب) جمع نسبة وهي الاعتبارات الذاتية إنما أعطاه ، أي أعطى التقابل المذكور (النّفس) بفتح الفاء (الرحماني) الحامل لصور العالم كلها وهو عالم الإمكان والأعيان الثابتة بلا وجود التي هي غير مجعولة ألا ترى الذات الإلهية الخارجة عن هذا الحكم وهو التقابل الذي هو مقتضى النسب الأسمائية الصادر عن النفس الرحماني ، والعالم الإمكاني المعدوم الفاني كيف جاء فيها ، أي في تلك الذات الغنى عن العالمين .
 
قال تعالى : " واللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ " [ آل عمران : 97 ] ، فلهذا ، أي لكون التقابل الاسمائي مقتضى النفس الرحماني خرج العالم من العدم إلى الوجود على صورة من أوجدهم ، أي أشخاص العالم المختلفة وليس الذي أوجدهم إلا النّفس بفتح الفاء الرحماني الإلهي ثم ذلك النفس المذكور انبعث عنه القلم الأعلى ، وهو العقل الأوّل وهو الروح القدسي ، ثم بقيّة الأرواح المهيمة الذين سماهم اللّه تعالى بالعالمين من الملائكة عليهم السلام .
 
فقال لإبليس :أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ[ ص : 75 ]  ، ثم انبعث عن القلم الأعلى نفسه وهو اللوح المحفوظ وهو الروح الأعظم المنفوخ منه في جميع العالم على حسب الاستعداد ، ثم ظهر عن اللوح المحفوظ عالم الطبيعة فالقلم واللوح والطبيعة منطويات في النفس الإلهي ، لأنها اعتبارات فيه ، وكذلك ما بعدها إلى آخر المراتب . ولهذا قال صلى اللّه عليه وسلم : « إني لأجد نفس الرحمن يأتيني من جهة اليمن » .
كان ذلك هو الأنصار من أهل الصفة مع أنهم أجسام إنسانية ، فانطوت مراتبهم كلها في أصلهم الثابت فسماهم به .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فبما فيه من الحرارة علا ، وبما فيه من البرودة والرّطوبة سفل ، وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل ، فالرّسوب للبرودة والرّطوبة ؛ ألا ترى الطّبيب إذا أراد سقي دواء لأحد ينظر في قارورة مائه ، فإذا رآه راسبا علم أنّ النّضج قد كمل فيسقيه الدّواء ليسرع في النّجح . وإنّما يرسب لرطوبته وبرودته الطّبيعيّة .
ثمّ إنّ هذا الشّخص الإنساني عجن طينته بيديه وهما متقابلتان وإن كانت كلتا يديه يمينا فلا خفاء بما بينهما من الفرقان ، ولو لم يكن إلّا كونهما اثنين أعني يدين .
لأنّه لا يؤثّر في الطّبيعة إلّا ما يناسبها وهي متقابلة ، فجاء باليدين . )
 
فبما ، أي فبالذي فيه ، أي في النفس الإلهي من الحرارة ، عن اعتبار الطبيعة فيه في ثالث مرتبة من مراتبه علا ، أي النفس على مراتب الأكوان كلها وبما فيه ، أي في النفس بالاعتبار المذكور من البرودة والرطوبة سفل ، فانتهى إلى آخر المراتب في عالم الأجسام العنصرية الأرضية وبما فيه ، أي النفس من اليبوسة ثبت على مقدار واحد وميزان واحد ولم يتزلزل كما هو ظاهر في الحس والعقل . قال تعالى :وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ( 19 ) [ الحجر : 19 ] .
(فالرسوب) على وزن واحد بحيث يلتبس بالجمود كما قال تعالى :وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً[ النمل : 88 ] ، وهي عام في الدنيا والآخرة والخاص في الآخرة قوله تعالى :وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ (للبرودة والرطوبة) في النفس الرحماني باعتبار كونه طبيعة كما ذكرنا .
وذلك للثقل الذي فيهما ألا ترى الطبيب إذا أراد سقي دواء لأحد من المرضى ينظر أوّلا في قارورة مائة ، أي بوله بوضع بوله في قارورة من زجاج فينظر فيه فإذا رآه ، أي ماءه يعني بوله رسب ، أي صفا وسكن علم أن النضج في طبيعة ذلك الداء قد كمل فيسقيه الدواء المناسب له ليسرع في النجح فإن الداء إذا لم يأخذ حده في الاستحكام ويكمل في الإنضاج لا يمكن أن يزول ، لأنه يكون في الزيادة وهي ضد النقصان .
 
(وإنما يرسب) الماء ، أي البول (لرطوبته وبرودته الطبيعية ثم)  اعلم (أن هذا الشخص الإنساني عجن) الحق تعالى (طينته) المجموعة من جميع أجزاء الأرض بيديه سبحانه وهما أسماؤه الجمالية وهي يده اليمنى ، وأسماؤه الجلالية وهي يده اليسرى وهما ، أي اليدان متقابلتان بالجمال والجلال .
وإن كانت كلتا يديه تعالى يمينا كما ورد في الخبر ، لأن صفاته تعالى كلها جمالية ، وسمي بعضها جلالية باعتبار أحوال الممكنات التي بها تعين ذلك .
فإذا رجعت تلك الأحوال إلى ثبوتها الأصلي العدمي عادت صفاته تعالى كلها إلى الجمال ولهذا ورد أن الرحمة تسبق الغضب لزوال ما يقتضي ظهور الرحمة غضبا والجمال جلالا وهذا معنى قوله : « كلتا يديه يمين » . رواه مسلم
وقد ورد : « أن اللّه جميل يحب الجمال » رواه مسلم.
 
وقال تعالى :" بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " [ آل عمران : 26 ] فما في يده تعالى إلا الخير ، والأشياء إما أن تستعد للخير أو للشر .
فالاستعداد اقتضى وجود النوعين ما دام له حكم في الممكن ، فإذا وضع الجبار قدمه في النار يوم القيامة كما ورد في الخبر زال حكم الاستعداد وظهر الخير المحض والجمال الصرف وهو قوله : « كلتا يديه يمين » فلا خفاء مع ذلك لما بينهما .
أي اليدين من الفرقان ظاهرا فإن حكم الاستعداد إذا زال في العبد استحكامه باطنا زال في تأثر النفوس به لا في ظاهر الاتصاف بمقتضاه ، فالنار لا تزول عن كونها نارا بعد وضع الجبار قدمه فيها وانزواء بعضها إلى بعض . وقولها : قط قط .
 
فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما ورد عنه أنه أخبر بذلك لم يخرجها عن كونها نارا ، أو أهلها الذين هم أهلها لا يزالون فيها كذلك ولو لم يكن في اليدين بصيغة التثنية كما قال تعالى لإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي إلا كونهما ، أي اليدين اثنتين أعني يدين لا يد واحدة لأنه ، أي الشأن لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها من طبيعة أخرى وهي ، أي الطبيعة متقابلة بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فجاء سبحانه في خلق آدم عليه السلام باليدين معا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا أوجده باليدين سمّاه بشرا للمباشرة اللائقة بذلك الجناب باليدين المضافتين إليه .
وجعل ذلك من عنايته بهذا النّوع الإنسانيّ فقال لمن أبى عن السّجود له :ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ على من هو مثلك - يعني عنصريّا -أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ[ ص : 75 ] عن العنصر ولست كذلك . ويعنى بالعالين من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النّوريّة عنصريّا وإن كان طبيعيّا .
فما فضل الإنسان غيره من الأنواع العنصريّة إلّا بكونه بشرا من طين ؛ فهو أفضل نوع من كلّ ما خلق من العناصر من غير مباشرة .
فالإنسان في الرّتبة فوق الملائكة الأرضيّة والسّماويّة والملائكة العالون خير من هذا النّوع الإنساني بالنّص الإلهيّ .)
 
(ولما أوجده) ، أي آدم عليه السلام (باليدين) معا سماه تعالى بشرا فقال سبحانه :وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً[ الحجر : 28 ] من طين للمباشرة اللائقة ، أي المناسبة بذلك الجناب الإلهي القديم المنزه عن مشابهة كل شيء باليدين متعلق بالمباشرة المضافتين ، أي المنسوبتين إليه تعالى على حد ما يعلمه هو سبحانه من ذلك لا على حد ما نعلمه نحن ، لأن الحادث لا يعلم من القديم إلا ما يليق بحدوثه ، ولولا الإيمان بالغيب لتساوى المسلم والكافر .
 
(وجعل) تعالى ذلك الفعل من عنايته ، أي اعتنائه (بهذا النوع الإنساني) ، لأنه ذكره في معرض التفضيل والمنة عليه فقال اللّه تعالى : لمن أبى ، أي امتنع عن السجود له ، أي لآدم عليه السلام وهو إبليس ما منعك ، يعني أي شيء كان مانعا لك أن تسجد ، أي عن سجود كلِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ بتشديد الياء الثانية تثنية يد أستكبرت ، أي تكبرت على من هو مثلك وهو آدم عليه السلام يعني عنصريا ، أي مخلوقا من العناصر الأربعة أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ[ ص : 75 ] جمع عال وهو المرتفع عن كثافة العنصر ولست ، أي يا إبليس كذلك ، أي من الملائكة العالين الذين لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام لعدم معرفتهم به من كمال استغراقهم في شهود اللّه تعالى .
 
(ونعني) ، أي نريد نحن معشر العارفين بالعالين كل من علا ، أي ارتفع بذاته عن أن يكون في نشأته ، أي خلقته النورية عنصريا ، أي منسوبا إلى العنصر وإن كان في نشأته طبيعيا ، أي منسوبا إلى الطبيعة فما فضل الإنسان غيره من جميع الأنواع العنصرية ، أي المخلوقة من العناصر الأربعة إلا بكونه ، أي ذلك الإنسان بشرا مخلوقا من طين فهو ، أي البشر من الطين أفضل نوع من كل ما خلق من العناصر الأربعة وما تولد منها من غير مباشرة باليدين الإلهيتين فالإنسان في الرتبة فوق الملائكة الأرضية ودخل فيهم الجن لأنهم عنصريون والملائكة السماوية ، لأنهم من دخان العناصر المتولد منها هم وسماواتهم السبع .
 
(والملائكة العالون خير من هذا النوع الإنساني) ، لأنهم طبيعيون لا عنصريون ، والطبيعة أقرب إلى الأمر الإلهي وألطف من العنصر بالنص الإلهي وهو هذه الآية في قوله تعالى :" أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ " ، أي الذين لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام ، لأنهم أفضل من هذا النوع الإنساني وخير منه لا أنت خير منه ردا لقوله :" أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" [ الأعراف : 12 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أراد أن يعرف النّفس الإلهيّ فليعرف العالم .
فإنّه من عرف نفسه فقد عرف ربّه الّذي ظهر فيه أي العالم ظهر في نفس الرّحمن الّذي نفّس اللّه تعالى به عن الأسماء الإلهيّة ما تجده من عدم ظهور آثارها ، فامتنّ على نفسه بما أوجده في نفسه .
فأوّل أثر للنّفس الرحماني إنّما كان في ذلك الجناب ثمّ لم يزل الأمر ينزل بتنفيس العموم إلى آخر ما وجد .
فالكل في عين النفس ... كالضوء في ذات الغلس
والعلم بالبرهان في ... سلخ النهار لمن نعس
فيرى الذي قد قلته ... رؤيا تدل على النفس
فيريحه من كل غم ... في تلاوته «عبس»
ولقد تجلى للذي ... قد جاء في طلب القبس
فرآه نارا وهو نور ... في الملوك و في العسس
فإذا فهمت مقالتي ... تعلم بأنك مبتئس
لو كان يطلب غير ذا ... لرآه فيه وما نكس )
 
(فمن أراد أن يعرف النفس) بفتح الفاء (الإلهي فليعرف العالم) بفتح اللام ، لأنه مقتضى ذلك النفس والنفس حامل له كما أن المتأوّه من أمر إذا تنفس الصعداء كان نفسه متضمنا صورة المعنى الذي في قلبه فإنه ، أي الشأن من عرف نفسه بسكون الفاء ما هي في الوجود الظاهر (فقد عرف ربه) ، أي خالقه الذي ظهر هو فيه سبحانه ( أي العالم ظهر في نفس) بفتح الفاء الرحمن الذي نفّس بتشديد الفاء ، أي فرج اللّه تعالى به ، أي بذلك النفس عن حضرة الأسماء الإلهية ما تجده تلك الأسماء من عدم ظهور آثارها المتوجهة من الأزل على إظهار تلك الآثار بظهور متعلق بنفس آثارها على حسب ترتيبها المستعدة به لقبول فيض التجلي الدائم .
 
(فامتن) سبحانه على نفسه بفتح الفاء بما أوجده سبحانه من العوالم المختلفة على طبق ما في علمه في نفسه بفتح الفاء فأوّل أثر كان للنفس الإلهي إنما كان في ذلك الجناب أي في حضرة الأسماء الإلهية بالتنفيس عما تجده من ذلك الأمر المذكور ثم لم يزل الأمر الإلهي ينزل شيئا فشيئا بتنفيس الغموم ، وتفريج الغيوم إلى آخر ما وجد من آثار الحي القيوم
 
[ شعر ]
(فالكل) ، أي جميع الموجودات الحادثة من محسوسات ومعقولات
وموهومات (في عين )، أي ذات النفس بفتح الفاء وهو النفس الرحماني المذكور كالضوء الظاهر آخر الليل في ذات الغلس ، أي نفس الغلس وهو الظلمة بعد طلوع الفجر قبل أن ينتشر الضوء جدا ، فإن ذلك الضوء يظهر في تلك الظلمة التي هي بقية ظلمة الليل شيئا فشيئا حتى ينتشر ويملأ الوجود وتختفي الظلمة فيه .
(والعلم ) باللّه تعالى (بالبرهان) العقلي حاصل في وقت سلخ النهار ، أي تمييزه وانفصاله عن ظلمة الليل كالجلد ينسلخ عن الشاة فينفصل منها .
 
قال تعالى :" وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ" [ يس : 37 ] لمن نعس ، أي غفل عن الأمر على ما هو عليه لاعتماده على نظره العقلي ، فإنه داخل في عين النفس الإلهي قائم به وهو برهانه ذلك من غير شعور منه .
فيرى ، أي يرى صاحب العلم بالبرهان وهو الناعس من الغفلة الأمر الذي قد قلته من الكلام في قيام العوالم كلها بالنفس الرحماني ، ولكن رؤيا منام لا رؤيا يقظة ، لأنه لم يمت بالموت الاختياري من توهم القيام بنفسه والنظر بعقله وحسه . قال عليه السلام : « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ".
 
وقال عليه السلام : "  المؤمنون ينظرون بنور اللّه "  تدل تلك الرؤيا المنامية التي يراها في نوم غفلته عينها على معرفته بهذا النفس الرحماني وقيام العوالم به ، ولكن معرفته مطموسة بالغفلة والغرور واللهو واللعب .
قال تعالى :وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ[ العنكبوت : 61 ] ، قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ، وقال تعالى :وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ( 63 ) [ العنكبوت : 63 ] .
وقال تعالى : " قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 84 ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ( 85 ) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( 86 ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ ( 87 ) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ( 88 ) [ المؤمنون : 84 - 88 ] .
 
(فيريحه) ، أي الذي قلته ، أو النفس يريح صاحب البرهان الغافل من كل غم هو فيه من إشكال حاصل له في حال تلاوته قوله تعالى :عَبَسَ وَتَوَلَّى ( 1 ) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ( 2 ) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ( 3 ) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى( 4 ) [ عبس : 1 - 4 ] الآية نزلت في النبي صلى اللّه عليه وسلم لما طمع في إيمان بعض المشركين ، فكان يلين لهم الكلام ،
فدخل ابن أم مكتوم وكان أعمى ، فعبس صلى اللّه عليه وسلم منه وأعرض عنه لاشتغاله بما هو فيه من الأهم ، فأنزل اللّه تعالى عليه ذلك يعاتبه في حق المؤمن به كما عاتبه تعالى في حق الأنصار ، ومن عرف ظهور الصور في النفس الرحماني لم يشكل شيئا من ذلك ، فيستريح من كل إشكال في الدين مطلقا .
 
(ولقد تجلى) ، أي انكشف النفس الرحماني المذكور الذي قد جاء في طلب القبس وهو الشعلة من النار ، وذلك أن موسى عليه السلام لما قال لأهله :امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً[ طه : 10 ] ، فرآه ، أي النفس الرحماني نارا وهو نور ظاهر في صور الملوك ملوك الدنيا والآخرة وهم العارفون ، أو ملوك الدنيا فقط وهم كبارها وفي صور العسس ، أي الخدام وهم السالكون السائرون في ليل نفوسهم على تهذيب أخلاقها وخدمة ملوك الدنيا ، أو هم الرعايا ، يعني يعم الكلام للعالي والدون من الناس ، يعني أن النفس الرحماني واحد في صورة كل شيء ، وهو نور حق على ما هو عليه وإن اختلفت عليه الصور فاختلفت الأحكام لاختلاف الصور .
(فإذا فهمت) يا أيها الإنسان السالك (مقالتي) هذه في شأن هذا النفس الإلهي الظاهر لموسى عليه السلام في صورة النار مع أنه نور في نفس الأمر ، لأنه كان طالبا للنار فظهر له في صورة حاجته الذي هو طالب لها .
تعلم أنت بطريق الذوق حيث ظهر في صورة كل شيء ظهر لك (بأنك مقتبس) ، أي مفتقر إلى صورها ظهر لك بها وإن لم تعلم حقيقة ذلك .
قال تعالى : " وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" [ البقرة : 216 ] .
(لو كان) ، أي موسى عليه السلام (يطلب غير ذا) ، أي غير القبس من النار (لرآه) ، أي النفس الإلهي ظاهرا له (فيه) ، أي في ذلك الغير من كل ما هو محتاج إليه (وما نكس) ، أي انقلب عما رآه من ذلك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا هذه الكلمة العيسويّة لمّا قام لها الحقّ في مقام « حتّى نعلم ويعلم » استفهم عمّا نسب إليها هل هو حقّ أم لا مع علمه الأوّل بهل وقع ذلك الأمر أم لا .
فقال له :أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
فلا بدّ في الأدب من الجواب للمستفهم .
لأنّه لمّا تجلّى له في هذا المقام وهذه الصّورة اقتضت الحكمة الجواب في التّفرقة بعين الجمع.
فقال وقدّم التّنزيه سُبْحانَكَ فحدّد بالكاف الّتي تقتضي المواجهة والخطاب .ما يَكُونُ لِيمن حيث أنا لنفسي دون كأَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي ما تقتضيه هويّتي ولا ذاتي .إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ لأنك أنت القائل في صورتي ، ومن قال أمرا فقد علم ما قال ، وأنت اللّسان الّذي أتكلّم به كما أخبرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ربّه في الخبر الإلهي فقال : « كنت لسانه الّذي يتكلّم به » . فجعل هويّته عين لسان المتكلم ؛ ونسب الكلام إلى عبده .
ثمّ تمّم العبد الصّالح الجواب بقوله :تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي.   والمتكلّم الحقّ .
ولا أعلم ما فيها فنفى العلم عن هويّة عيسى عليه السّلام من حيث هويّته لا من حيث إنّه قائل وذو أثر .وَلا أَعْلَمُ [ المائدة : 116 ] فجاء بالفصل والعماد تأكيدا للبيان واعتمادا عليه ، إذ لا يعلم الغيب إلّا اللّه .  ففرّق وجمّع ووحّد وكثّر ، ووسّع وضيّق . )
 
(وأما هذه الكلمة) الإلهية (العيسوية) التي قال تعالى فيها :" وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ" [ النساء : 171 ] (لما قام لها الحق) تعالى (في مقام) : " وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتّى نعلم الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ" [ محمد : 31 ] .
قرأ القراء السبعة بالنون ، وقرأ أبو بكر شعبة عن عاصم وليبلونكم حتى يعلم المجاهدين منكم والصابرين ويبلو أخباركم بالياء المثناة التحتية في الثلاثة يعني حتى نعلم أو يعلم هو تعالى من حيث نزوله إلى صورة العارفين به الكاملين بوصف القيومية في ظواهرهم وبواطنهم ، فإن علمهم نزول علمه وباقي صفاتهم وأسمائهم وأنها لهم كذلك استفهمها ، أي العيسوية الحق تعالى عما نسب بالبناء للمفعول ، أي نسب الكافرون إليها من دعوى الإلهية هل هو حق أم لا مع علمه تعالى بعدم وقوع ذلك منه عليه السلام العلم الأوّل الذي له باعتبار ذاته قبل النزول بالقيومية إلى صور الكاملين ، فإن علم الكاملين في هذا النزول الإلهي علمه تعالى أيضا العلم الثاني الترتيبي ، والأوّل هو العلم المجموعي بهل متعلق باستفهامها
(وقع ذلك الأمر) وهو دعوى الألوهية أم لا ، أي لم يقع منه .
(فقال) تعالى له ، أي لعيسى عليه السلام (أأنت قلت للناس) ، أي لقومك من بني إسرائيل " اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ" ، أي معبودينم ِنْ دُونِ اللَّهِ، أي مع اللّه تعالى حتى يبقى المعبود ثلاثة .
 
وهذا المذكور مرجع أمر الكافرين ومحط قولهم في التثليث فلا بد في مقام الأدب من الجواب للمستفهم ، أي طلب الفهم ، ولو في التقدير والتنزيل لأنه تعالى لما تجلى ، أي انكشف تعالى له ، أي لعيسى عليه السلام في هذا المقام المذكور وهو النزول بالقيومية إلى الصورة العيسوية من قوله تعالى :أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ[ الرعد : 33 ] .
والتجلي في هذه الصورة اقتضت فيه الحكمة الإلهية الجواب عما وقع السؤال عنه في حال التفرقة بين المتجلي والصورة في مقام الفرق ليكون مخاطبا اسم فاعل ومخاطبا اسم مفعول بعين الجمع بينهما في وحدة الأمر .
 
(فقال) عيسى عليه السلام (وقدم التنزيه )على التشبيه (سبحانك) فسبحان كلمة تنزيه ، أي أنزهك عن ظاهر معنى هذا الاستفهام من حيث أنت ، وعما لا يليق بك فحدد ، أي شبه بالكاف التي تقتضي المواجهة والخطاب للحق تعالى وذلك يقتضي امتيازه بالصورة والتعيين عن غيب إطلاقه ما يكون ، أي يليق ويحسن لي ، أي (من حيث أنا لنفسي دونك أن أقول) ، أي قولي فاعل يكون ما ليس لي بحق ، أي ما تقتضيه ، أي تتهيأ له وتستعد لقبوله هويتي ، أي ماهيتي الحادثة ولا ذاتي المخلوقة الثابتة في علمك القديم قبل وجودها ، وبعد هذا الاعتذار إليك مما كذب علي الكافرون إن كنت قلته .
أي ما سبق من دعوى الألوهيةفَقَدْ عَلِمْتَهُ[ المائدة : 116 ] فلا يخفى عليك لأنك تكون أنت القائل حينئذ ، لأن لساني ينطق بك وذاتي كلها قائمة بك لك ، فقولي ظهور قولك كما أن ذاتي ظهور ذاتك ، لا قولي قولك وذاتي ذاتك ، كما يظن المشركون .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الخامس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:22 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الخامس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الخامس
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
(ومن قال أمرا )، أي كلاما (فقد علم ما قال) خصوصا الذي لا يضل ولا ينسى ومع ذلك أيضا أنت اللسان وهو تشبيه الذي أتكلم به تنزيه لذلك التشبيه ، أي لا اللسان الذي لا يتكلم به وهو القطعة من اللحم في الفم كما أخبرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ربه تعالى في الخبر الإلهي ، أي الحديث القدسي فقال فيه من جملة ما قال كما سبق ذكره (وكنت لسانه الذي يتكلم به .)
 
(فجعل) الحق تعالى (هويته) ، أي ذاته التي هي الوجود المطلق عين لسان المتكلم من حيث انصباغه بنور الوجود المطلق نظير كل شيء كما قال اللّه تعالى :اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ[ النور : 35 ] ، أي القيوم عليها بوجوده المطلق .
(ونسب) تعالى (الكلام) في هذا الخبر الإلهي إلى عبده لا إليه تعالى بقوله الذي يتكلم به (ثم تمم العبد الصالح) وهو عيسى عليه السلام (الجواب بقوله : )
 
(تعلم) يا أيها الحق المطلق ما في نفسي من حيث إني الحق المقيد بالصورة الصادرة منك والمتكلم بهذا القول هو عيسى عليه السلام باعتبار أنه الحق المقيد المذكور ولا أعلم أنا من حيث أني مجرد هوية وحادثة وصورة حسية ومعنوية ما فيها .
أي في النفس التي هي الحق المقيد بهويتي المذكورة وصورتي المزبورة لأنها حينئذ نفسك
ولا أعلم ما في نفسك فنفى الحق تعالى العلم عن هوية عيسى عليه السلام ، أي عن ذاته الحادثة وصورته التي هي قيد ذلك الإطلاق من حيث هويته .
أي ماهيته المخلوقة المقيدة لإطلاق القديم بقيوميته عليها لا نفي العلم عنه من حيث إنه ، أي عيسى عليه السلام قائل .
أي متكلم بقوله : تعلم ما في نفسي ، لأنه حينئذ هو الحق المقيد المذكور ولا من حيث إنه ذو أثر كخلق الطير وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فإنه حينئذ هو الحق المقيد أيضا كما ذكرنا .
والحاصل أن الحق تعالى له اعتباران وعيسى عليه السلام له اعتباران أيضا ، والأمر واحد وهو الحق المطلق تقيد بالصورة ، فالاعتباران الأوّلان :
الحق المطلق
والحق المقيد بالصورة .
والاعتباران الآخران :
عيسى عليه السلام من حيث إنه الحق المقيد بالصورة .
ومن حيث إنه نفس الصورة المقيدة للحق ، والمستفهم بقوله :
أأنت قلت للناس هو الحق المطلق في مقام نزوله إلى الحق المقيد بالصورة ؟
استفهم من عيسى عليه السلام من اعتبار كونه نفس الصورة المقيدة للحق حتى يعلم من حيث إنه الحق المقيد بالصورة .
والجواب منه من جهة عيسى عليه السلام من اعتبار كونه نفس الصورة بتكلم عيسى عليه السلام من اعتبار كونه الحق المقيد بالصورة إنك أنت العليم الحكيم فجاء.
 أي المتكلم وهو عيسى عليه السلام من اعتبار أنه الحق المقيد تكلم عنه من حيث إنه نفس الصورة والقيد للحق المطلق بالفصل .
أي ضمير الفصل وهو قوله : أنت ويسمى العماد عند الكوفيين من علماء النحو تأكيدا ، أي على وجه زيادة التأكيد إذ التأكيد حاصل من إن واسمية الجملة للبيان ، أي إظهار مضمون هذه الجملة واعتمادا ، أي على وجه الاعتماد من المتكلم عليه ، أي على البيان المذكور إذ ، أي لأنه لا يعلم الغيب مما ذكر وغيره إلا الله تعالى فقرق .
أي عيسى عليه السلام في جوابه المذكور بينه وبين الحق تعالى بقوله :" سُبْحانَكَ " في ابتداء كلامه وبما بعد ذلك وجمع أيضا بينه وبين الحق تعالى بقوله : إن كنت قلته فقد علمته ، وبما بعده ووحّد الحق تعالى
 
بقوله : إنك أنت وكثر أيضا ذلك الواحد بالصور فاثبت تسبيحا ومسبحا اسم فاعل وهو نفسه ، ومسبحا اسم مفعول وهو الحق تعالى ، وقولا وحكما على ذلك القول بأنه ليس بحق ، وحقا مخلوقا وهو ما تقتضيه الهوية والذات الحادثة ، وأثبت للحق تعالى نفسا وله أيضا نفسا ، وللحق علما وله أيضا علما ووسع بقوله : إن كنت قلته فقد علمته ، وهو توسعة في أن كل ما يقوله العبد أو يفعله ، فهو يعلم الحق تعالى وهو فعل الحق تعالى .
فليقل العبد ما شاء ويفعل ما شاء ، فهو للحق حقيقة ، وله مجازا ونسبته كما قال تعالى :اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[ فصلت : 40 ] .
وقال تعالى :قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا( 84 ) [ الإسراء : 84 ] وضيق أيضا بقوله :ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ[ المائدة : 116].
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ قال متمّما للجواب ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِه ِفنفى أوّلا مشيرا إلى أنّه ما هو ثمّة . ثمّ أوجب القول أدبا مع المستفهم ، ولو لم يفعل كذلك لاتّصف بعدم علم الحقائق وحاشاه من ذلك ، فقال :إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ وأنت المتكلّم على لساني وأنت لساني.
فانظر إلى هذه التّنبئة الرّوحيّة الإلهيّة ما ألطفها وأدقّها أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فجاء بالاسم « اللّه » لاختلاف العبّاد في العبادات واختلاف الشّرائع ؛ ولم يخصّ اسما خاصا دون اسم ، بل جاء بالاسم الجامع للكلّ .
ثمّ قال :رَبِّي وَرَبَّكُمْ ومعلوم أنّ نسبته إلى موجود ما بالرّبوبيّة ليست عين نسبته إلى موجود آخر ، فلذلك فصّل بقوله :رَبِّي وَرَبَّكُمْ بالكنايتين كناية المتكلّم وكناية المخاطب .إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ[ المائدة : 117 ] فأثبت نفسه مأمورا وليست سوى عبوديّته ، إذ لا يؤمر إلّا من يتصوّر منه الامتثال وإن لم يفعل . )
 
ثم قال ، أي عيسى عليه السلام متمما للجواب عن الاستفهام المذكور ما قُلْتُ لَهُمْ، أي للناس إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ[ المائدة : 117 ] فنفى ، أي عيسى عليه السلام من حيث إنه الحق المقيد بالصورة يعني نفى قوله لهم أوّلا ، أي في ابتداء هذا الكلام حال كونه مشيرا بقوله هذا إلى أنه ، أي عيسى عليه السلام من حيث إنه نفس الصورة المقيدة للحق تعالى ما هو ، أي موجود ثم بالفتح ، أي
هناك يعني في حضرة الحق المطلق المستفهم له في حضرة تقيده بالصورة .
 
ثم أوجب ، أي نقض ذلك النفي بإيجاب القول أدبا مع المستفهم الحق فإنه استفهمه عن حضرة نفس الصورة المقيدة للحق حتى ينفي القول عنها مطلقا ، وإنما استفهمه عن حضرة كونه الحق المقيد بالصورة .
 
ولو لم يفعل ، أي عيسى عليه السلام كذلك ، أي ينفي القول عنه من حيثية كونه نفس الصورة ، ويشتبه من حيثية كونه الحق المقيد بالصورة ، يعني ما قلت لهم شيئا من تلقاء نفسي ، أي قولا بنفسي ، وإنما قلت لهم :ما أَمَرْتَنِي بِهِ، أي قولا بأمرك .
 وذلك من حضرة كونه ملكا روحانيا كما قال تعالى عن الملائكة وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ والقول عمل اللسان لا تصف عليه السلام بعدم معرفة علم الحقائق وحاشاه من ذلك الاتصاف ، لأنه رسول الحقيقة إلى بني إسرائيل أرسل بها إليهم ليكمل شريعتهم .
 كما أرسل موسى عليه السلام بالشريعة إليهم ، فلما كذبوه وما آمن معه إلا قليل أرسل اللّه تعالى محمدا صلى اللّه عليه وسلم إلى كافة العالمين بالشريعة والحقيقة معا ليظهره على الدين كلهوَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ[ التوبة : 32 ] .
 
فقال ، أي عيسى عليه السلام :ما قُلْتُ لَهُمْإِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِوأنت المتكلم على لساني وفي المشرب المحمدي الذاتي أنت لساني الذي أتكلم به وهو الإشارة إلى كونه ما قال إلا من كونه الحق المقيد بالصورة فانظر يا أيها السالك إلى هذه التثنية  في قوله :أَمَرْتَنِيفأثبت نفسه مأمورا مع ربه الآمر له الروحية ، أي المنسوبة إلى الروح لأنه روح اللّه الإلهية لأنه عبد اللّه ما ألطفها من حيث اقتضاؤها الآمر والمأمور ، والروح من أمر اللّه تعالى بحكم قوله :وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي[ الإسراء : 85 ] .
 وأمره تعالى كما قال :إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[ النحل : 40 ] ومنه قوله تعالى :إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ( 59 ) [ آل عمران : 59 ] .
 
فعيسى عليه السلام روح اللّه وهو من أمر اللّه وهو مأمور اللّه وهو مخلوق اللّه وهو كلمة اللّه وهو قول اللّه وهو عبد اللّه وما أدقها ، أي هذه التثنية أيضا لخفاء معناها عند الكشف عنها في مقام الأرواح الأمريةأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، أي افعلوا عبادته تعالى يا أيها المكلفون بها .
فجاء ، أي عيسى عليه السلام باسم اللّه دون غيره من الأسماء الإلهية
(لاختلاف العبّاد) جمع عبد أو بالتشديد جمع عابد في العبادات فكل عبد أو عابد يعبده تعالى بمقدار استطاعته في حضوره في تلك العبادة وبالكيفية المتوجهة عليه منها فيكون أثرا عن تجلي اسم إلهي خاص ولأجل اختلاف الشرائع.
 
 فكل شريعة لأمة من الأمم تكليفا باعتبار ما تقتضيه بحقائقها ، وتستعد له بنفوسها من حضرات الأسماء الإلهية متوجهة على تأثيرها ، كذلك فالأمر من اللّه تعالى لعيسى عليه السلام أن يأمر من لقيهم من الناس تأكيدا للشرائع التي كانت عليها بنو إسرائيل في زمان أنبيائهم ، وحثا لقومه على لزوم أحكامهم وإلزاما لهم بالشريعة المحمدية إن أدركوها في زمانها ، وهذا معنى اختلاف الشرائع في أمر عيسى عليه السلام بالعبادة المختلفة فيها .
 
(ولم يخص) ، أي عيسى عليه السلام اسما خاصا كقوله : اعبدوا الرحمن أو اللطيف أو القدير أو العليم ونحو ذلك دون اسم آخر من تلك الأسماء الإلهية بل جاء بالاسم الجامع للكل وهو اسم اللّه الجامع لجميع أسمائه سبحانه جمعية ذاتية تقتضي انفراد كل اسم بحيطته الخاصة به ، وإن كان كل اسم إلهي جامعا لجميع الأسماء الإلهية أيضا ، ولكنها جمعية صفاتية لا ذاتية ، لأنها تدخل تحت حيطة ذلك الاسم الجامع لها لا تحت حكم الذات بما تقتضيه ثم قال ، أي عيسى عليه السلام رَبِّي وَرَبُّكُمْ[ آل عمران : 51 ] .
 
فكان فصل إجمال أسمائه تعالى المجموعة في الاسم اللّه بظهور الربوبية في كل مربوب ومعلوم أن نسبته تعالى إلى وجود ما ، أي شيء من الأشياء بالربوبية التي اقتضت وصف العبودية في كل شيء ليست عين نسبته سبحانه بالربوبية أيضا إلى موجود آخر غير الأوّل فلذلك فصل مجمل ما في لفظ اللّه من الأسماء الكثيرة بقوله :رَبِّي وَرَبُّكُمْتفصيلا حاصلا بالكنايتين وهما الضميران المتصلان كناية ، أي الضمير المتكلم ، وهو الياء المثناة التحتية في الأوّل وكناية المخاطب وهو الكاف والميم الدالة على جميع المذكور في الثانيإِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِفأثبت ، أي عيسى عليه السلام نفسه مأمورا بأمر اللّه تعالى له .
 
(وليست) نفسه المأمورة ، إذ لا نفس له لأنه روح اللّه ، والروح من أمر اللّه وأمر اللّه تعالى قيوميته على خلقه سوى عبوديته ، أي اتصاف روحه بوصف العبودية للّه تعالى إذ ، أي لأنه لا يؤمر بأمر من الأمور إلا من يتصور منه الامتثال لذلك الأمر وإن لم يفعل ما أمر به لموته قبل وقت المأمور أو امتناعه منه ، وعيسى عليه السلام وإن لم يكن له نفس ففيه قبول وصف العبودية للّه تعالى باعتبار الحقيقة الملكية والصور الآدمية ، ونفسه التي قال عنها :"تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي" هي الحق المقيد
بالصورة كما تقدم ذكره لا نفس الصورة والحق المقيد هو الأمر النازل بالروح والطبيعة ومجموع العناصر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا كان الأمر يتنزّل بحكم المراتب ، لذلك ينصبغ كلّ من ظهر في مرتبة ما بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة . فمرتبة المأمور لها حكم يظهر في كلّ مأمور .
ومرتبة الآمر لها حكم يبدو فهي كلّ آمر .
فيقول الحقّ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [ البقرة : 43 ] فهو الآمر ، والمكلّف المأمور .
ويقول العبدرَبِّ اغْفِرْ لِي [ الأعراف : 151 ] فهو الآمر والحقّ المأمور .
فما يطلب الحقّ من العبد بأمره هو بعينه يطلبه العبد من الحقّ بأمره .
ولهذا كان كلّ دعاء مجابا .
ولا بدّ وإن تأخّر كما يتأخّر بعض المكلّفين ممّن أقيم مخاطبا بإقامة الصّلاة فلا يصلّي في وقت فيؤخّر الامتثال ويصلّي في وقت آخر إن كان متمكّنا من ذلك . فلا بدّ من الإجابة ولو بالقصد).
 
(ولما كان الأمر) الإلهي (ينزل) من حضرة الحق تعالى إلى أعيان الكائنات الثابتة في العدم الأصلي (بحكم المراتب) الكونية ، أي على مقتضى ما يليق بها في الحكمة الإلهية لذلك ، أي لأجل ما ذكر ينصبغ كل من ظهر من تلك الأعيان الكونية في مرتبة ما من المراتب المذكورة بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة من الحكم اللائق بها فمرتبة المأمور من المكلفين في كل حال وقت وشريعة لها حكم يظهر ذلك الحكم في كل مأمور بحسبه ومرتبة الآمر ، أي الذي يصدر منه الأمر لها أيضا حكم يبدو ، أي يظهر في كل أمر من الأمرين بحسبه ، فأمر اللّه تعالى لإبليس بلا واسطة اقتضت مخالفته الكفر .
 
وأمره تعالى بواسطة النبي للأمة اقتضت مخالفته الفسق ، والعصيان دون الكفر ، وأمر الناقل عن النبي اقتضت مخالفته في بعض الأحكام كراهة تحريمية أو تنزيهية ، وخلاف الأولى في البعض الآخر ، وكلما ضعفت الواسطة خف الأمر وسهلت مخالفته ، وكلما قوي ثقلت مخالفته فيقول الحق تعالى لعباده أَقِيمُوا الصَّلاةَ فهو ، أي الحق تعالى الآمر الذي صدر منه هذا الأمر بإقامة الصلاة والمكلف من العباد ، أي العاقل البالغ منهم المسلم في قول دون آخر المأمور بإقامة الصلاة .
(ويقول العبد ) في مقابلة ذلك (رَبِّ) ، أي يا رب (اغْفِرْ لِي) ، أي استر
ذنوبي بمسامحتك لي فهو ، أي العبد الآمر الذي صدر منه هذا الأمر بالمغفرة والحق تعالى وهو ربه المأمور بذلك فكل من العبد والرب آمر ومأمور ، وإنما هي طاعات بطاعات ، فمن أطاع اللّه أطاعه اللّه ومن عصى اللّه عصاه اللّه .
 
(فما يطلب الحق) تعالى (من العبد بأمره له) في حكم من الأحكام (هو بعينه )، أي ما يطلبه الحق (ما يطلب العبد من الحق) تعالى بأمره له فكل من استجاب لدعاء ربه بحكم قوله تعالى :وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ[ يونس : 25 ] ، أي الجنة .
يعني بالأمر بالأعمال الصالحة ، وقوله تعالى :اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ[ الشورى : 47 ] ، فإن اللّه تعالى يستجيب له دعاءه .
قال تعالى :ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[ غافر : 60 ] ولهذا كان كل دعاء مجابا ولا بد ، أي هو أمر محقق بعين الإجابة من المدعو ولا اعتبار لخصوص الوصف ، لأنه عين صيغة النفس الآمرة للأمر المطلوب من المأمور ، فمن دعا اللّه تعالى في أمر من الأمور الدنيوية أو الأخروية .
 
فإن ذلك عين أمر اللّه تعالى له في ذلك الوقت بما هو متوجه عليه في الشرع من الفعل أو الكف ، فإن أراد أن الحق تعالى يستجيب له ما دعاه به فليستجب هو للحق تعالى عين ذلك الأمر في ذلك الوقت على أتم وجوه الاستجابة بعد البحث عنه وضبطه بعينه ، فإنه يجده عين إجابة الحق تعالى له فيما طلب ، وأدنى ذلك أن يجد نفسه قادرا على عين ما دعا الحق تعالى به ، أو متسلية عنه بأعلى منه .
 
وإن نقص في الإجابة للحق تعالى نقصت الإجابة منه تعالى عن الصفة التي طلبها بمقدار ما نقص من الصفة التي طلبها الحق تعالى منه ، إلى أن تنعدم الاستجابة منه للحق تعالى ببطلان عمله المأمور به من حيث لا يشعر ، إما لجهله أو لغفلته ، فتنعدم الإجابة له فيما دعاه بالكلية ، إلا أن يستدرج وربما يقول دعوت اللّه تعالى في أمر كذا فلم يجبني ويكون ذلك لعدم إجابته هو لأمر اللّه تعالى الذي دعاه به ، وأمر اللّه تعالى بالسجود لإبليس لم يوجد منه استجابة له بالوصف المطلوب ، فلم يوجد من الحق تعالى استجابة لدعائه بالوصف المطلوب له في قوله : قال رب أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ( 14 ) [ الأعراف : 14 ]
 
وكان مطلوبه وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ( 40 ) [ الحجر : 39 - 40 ] ، فقال له :فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 37 ) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ38 ) [ الحجر : 37 - 38 ] .
ولم يقدره على إضلال جميع من سوى المخلصين ، بل جعله سببا في دخول الجنة للكثير ممن يخالفه في وسواسه ، وجعل لمن جاهده أجر المجاهدين ورفعه في الدنيا والآخرة بالامتناع منه فقد استجاب إبليس بعض ما أمر به في تعظيم آدم عليه السلام بكونه سببا لشرف بعض ذريته ، فكان في مقابلة ذلك إنظار الحق تعالى له إلى يوم الوقت المعلوم ، فإن ذلك بعض ما دعاه به ، إذ ليس مراده مجرد الإنظار وطول العمر بل مراده الأهم ومقصده الألزم إقداره على إغواء كل بني آدم ، وإضلال غير المخلصين منهم ، ولم يعطه اللّه تعالى ما دعاه به كله بل بعضه في مقابلة أنه ما أعطى الحق تعالى ما أمره به كله بل بعضه من حيث لا يشعر .
 
وهكذا عادة اللّه تعالى جارية في جميع خلقه لمن دقق النظر وأعمل الفكر وإن تأخر ذلك الدعاء إلى وقت آخر في الدنيا أو الآخرة ، فاستجابه اللّه تعالى له في الوقت الذي يريده تعالى لحكمة يعلمها سبحانه كما يتأخر بعض المكلفين عن سرعة الإجابة ممن أقيم مخاطبا اسم مفعول بإقامة الصلاة فلا يصلي تلك الصلاة في وقت وجب عليه فعلها فيه فيؤخر الامتثال للأمر ويصلي في وقت آخر إن كان متمكنا ، أي المخاطب بالصلاة من ذلك الامتثال بأن كان قادرا عليه فلا بد من الإجابة من العبد القادر ولو كان بالقصد للإجابة ونية الامتثال في وقت عجزه ومن الرب سبحانه ولو بالقصد للإجابة في الوقت الذي يريد وكتابته في اللوح وإعلام الملائكة به .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ قال :وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ ولم يقل على نفسي معهم كما قال ربّي وربّكم شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ لأنّ الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم .فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي رفعتني إليك وحجبتهم عنّي وحجبتني عنهم كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ في غير مادتي ، بل في موادّهم .
إذ كنت بصرهم الّذي يقتضي المراقبة . فشهود الإنسان نفسه شهود الحقّ إيّاه . وجعله بالاسم الرّقيب لأنّه جعل الشّهود له . فأراد أن يفصّل بينه وبين ربّه حتّى يعلم أنّه هو لكونه عبدا في الواقع وأنّ الحقّ هو الحقّ لكونه ربّا له ، فجاء لنفسه بأنّه شهيد ، وفي الحقّ بأنّه رقيب .
وقدّمهم في حقّ نفسه فقال :عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْإيثار لهم في التّقدّم وأدبا ، وأخّرهم في جانب الحقّ عن الحقّ في قوله :الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْلما يستحقّه الرّبّ من التّقدّم بالرّتبة . )
 
(ثم قال) ، أي عيسى عليه السلام (وكنت عليهم) ، أي على الناس الذين كانوا في زمانه ، ولم يقل أيضا على نفسي معهم كما قال الشيخ رضي الله عنه :  اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً، أي شاهدا مطلقا ما دُمْتُ[ المائدة : 117 ] ، أي مدة دوامي قائما فِيهِمْ. لأن الأنبياء والمرسلين عليهم السلام أرسلهم اللّه تعالى ليكونوا شهداء على أممهم ما داموا قائمين فيهم ، قال تعالى :يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً( 45 ) [ الأحزاب : 45 ] . وقال تعالى :لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً[ البقرة : 143 ] .
 
(فلما توفيتني) بالوفاة الاختيارية وهي الموت الاختياري بغلبة أحكام الروحانية على مقتضيات البشرية (أي رفعتني إليك) ، يعني من حضيض النفس البشرية إلى أوج حضرتك القدسية وحجبتهم ، أي الناس بإشغالهم بأحكام نفوسهم وغفلاتهم المستولية على قلوبهم عني من حيث أني الروح الخالص المصفى من كدرات الطبائع وأوساخ العناصر وحجبتني عنهم بدوام شهودك في حضرة وجودك على بساط كرمك وجودك كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِم ْبهم لا بي في غير مادتي وهي نشأته الروحانية الطبيعية العنصرية بل في موادهم الروحانية الطبيعية العنصرية إذ ، أي لأنك كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة لأفعالهم وإن لم يشعروا بذلك لنفاذ حكمك فيهم بالغواية عن الحق المبين .
 
(فشهود الإنسان ) ، أي رؤيته ومعاينته نفسه بغفلته أولا ويبصر ثانيا شهود الحق تعالى إياه ، أي رؤيته تعالى ومعاينته لنفس ذلك الإنسان ثانيا في حال اتصافه بالوجود بعد شهوده له أوّلا في حال اتصافه بالثبوت في عدمه الأصلي ، وكما أن الإنسان في شهوده نفسه ورؤيته لها ومعاينته إياها له بصيرة قلبية هي المشاهدة الرائية في نفس الأمر ، وله بصر هو مظهر بصيرته وصورة تجليها على بعض مدركاتها ، فكذلك الحق تعالى له بصر قديم هو صفة من صفات ذاته الأزلية يضاف إليه الشهود والرؤية حقيقة في نفس الأمر ، وله بصيرة وبصر خلقهما لعبده فهما مظهر لبصره القديم ، وصورة تجليه من حيث اسمه البصير كما تجلى باسمه القادر وصفة القدرة في قدرة عبده الحادثة .
 
وهكذا باقي الأوصاف والأسماء بصفة القيومية واسم القيوم بلا حلول ولا اتحاد .
(وجعله ) ، أي شهود الحق تعالى لهم باسم الرقيب في قوله :كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ لأنه عليه السلام جعل الشهود له بقوله :وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فأراد أن يفصل ، أي يفرق بينه وبين ربه تعالى حتى يعلم بالبناء للمفعول أي يعلم السامع لهذا الكلام من الناس أنه ، أي عيسى عليه السلام هو ، أي عيسى عليه السلام لكونه عليه السلام عبدا من عبيد اللّه تعالى.
 
كما قال عليه السلام أول ما نطق وهو في المهد :إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وأن الحق تعالى القيوم عليه وعلى نفسه بما كسبت هو الحق تعالى لكونه سبحانه ربا ، أي مالكا له ، أي لعيسى عليه السلام فجاء عليه السلام لنفسه في كلامه بأنه شهيد وجاء في الحق تعالى بأنه رقيب عليهم وقدمهم ، أي الناس في حق نفسه فقال :وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [ المائدة : 117 ] .
فقوله : شهيدا مؤخر عن قوله عليهم إيثارا ، أي سماحة لهم في التقدم الذكرى وأدبا في المسارعة إلى امتثال الأمر ، لأن الحق تعالى أرسله وأمره بالشهود عليهم ، فإنهم ركن في الامتثال ، فقدمهم مراعاة للأدب مع مولاه الذي أمرهم وأخرهم .
أي الناس في جانب الحق تعالى عن ذكر الحق تعالى في قوله : كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ لما يستحقه الرب سبحانه من التقدم على الكل بالرتبة فإن رتبته أعلى من أن يقال إنها أعلا من كل الرتب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ أعلم أنّ للحقّ الرّقيب الاسم الّذي جعله عيسى لنفسه وهو الشّهيد في قوله عَلَيْهِمْ شَهِيداً فقال :وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فجاء بكُلِّ للعموم وبشَيْءٍ لكونه أنكر النكرات وجاء بالاسم الشّهيد ، فهو الشّهيد على كلّ مشهود بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود .
فنبّه على أنّه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى حين قال : وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ[ المائدة : 117 ] فهي شهادة الحقّ في مادّة عيسويّة كما ثبت أنّه لسانه وسمعه وبصره . )
 
(ثم اعلم) يا أيها السالك (أن للحق) تعالى الرقيب سبحانه الاسم الذي جعله عيسى عليه السلام لنفسه وهو الاسم الشهيد في قوله : أي عيسى عليه السلام وَكُنْتُ عليهم شهيدا ما دُمْتُ فِيهِمْ فقال عليه السلام :وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فجاء بكل في قوله :كُلِّ شَيْءٍ للعموم ، أي عموم الأشياء وجاء بشيء في قوله له كل شيء أيضا لكونه ، أي الشيء أنكر النكرات لأنه اسم لكل مجهول ، فإذا عين باسم أخص وعلم كحجر ومدر وجاء بالاسم الشهيد فهو تعالى الشهيد فعيل بمعنى الفاعل ، أي شاهد من المشاهدة وهي المعاينة على كل مشهود بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود من كونه محسوسا أو معقولا أو موهوما ونحو ذلك من الأقسام فنبه ، أي عيسى عليه السلام على أنه .
أي الحق  (تعالى هو الشهيد) ، أي الشاهد على قوم عيسى عليه السلام حين قال ، أي عيسى عليه السلام وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [ المائدة : 117 ] .
فهي ، أي هذه الشهادة شهادة الحق تعالى ، لأنه على كل شيء شهيد في جميع الأحوال والأزمان في مادة ، أي نشأة وخلقة عيسوية منسوبة إلى عيسى عليه السلام بصفة القيومية الإلهية عليها كما ثبت في الحديث القدسي من المقام المحمدي الذاتي أنه ، أي الحق تعالى لسانه ، أي لسان عيسى عليه السلام وسمعه وبصره حيث قال محمد نبينا صلى اللّه عليه وسلم : « فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به » الحديث .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ قال كلمة عيسويّة ومحمّديّة : أمّا كونها عيسويّة فإنّها قول عيسى بإخبار اللّه تعالى عنه في كتابه ؛ وأمّا كونها محمّديّة فلموقعها من محمّد صلى اللّه عليه وسلم بالمكان الّذي وقعت منه ، فقام بها ليلة كاملة يرددها لم يعدل إلى غيرها حتى مطلع الفجر .إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( 118 ) [ المائدة : 118 ] .
« وهم » ضمير الغائب كما أنّ « هو » ضمير الغائب .
كما قال :هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا[ الفتح : 25 ] بضمير الغائب ، فكان الغيب سترا لهم عمّا يراد بالمشهود الحاضر . فقال :إِنْ تُعَذِّبْهُمْ بضمير الغائب .
وهو عين الحجاب الّذي هم فيه عن الحقّ . )
 
(ثم قال) ، أي عيسى عليه السلام بعد ذلك (كلمة عيسوية) ، أي منسوبة إليه عليه السلام (ومحمدية) ، أي منسوبة إلى نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم أما كونها ، أي الكلمة عيسوية فإنها قول عيسى عليه السلام من مقامه الروحاني الإلهي بإخبار اللّه تعالى عنه .
أي عن عيسى عليه السلام بذلك في كتابه تعالى وهو القرآن العظيم وأما كونها ، أي الكلمة (محمدية فلوقوعها من محمد صلى اللّه عليه وسلم بالمكان) ، أي المقام والمحل (الذي وقعت منه) صلى اللّه عليه وسلم من حيث المشرب العيسوي والمرتبة الروحانية الإلهية.
فقام ، أي محمد صلى اللّه عليه وسلم بها ، أي بهذه الكلمة المذكورة ليلة كاملة يرددها .
 
أي يكررها في القرآن في القراءة في الصلاة النافلة لم يعدل عنها إلى غيرها حتى طلع الفجر
الثاني وهي قوله :إِنْ تُعَذِّبْهُمْ، أي القائلين من الناس أن عيسى وأمه عليهما السلام إلهين من دون اللّه تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، أي أصحاب عبودية لك وهي غاية الذل بين يديك ولم يشعروا بذلك من نفوسهم لانطماسها بالكفر بك .
("وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ")، أي تستر عنهم المؤاخذة على كفرهم ، لأنه أمر جائز منك غير مستحيل وقوعه فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ[ المائدة : 118 ] ، أي صاحب العزة والعظمة عن أن يقدروا أن يغضبوك بمخالفتهم لك فتشتفي منهم بعذابك لهم .
 

ونظيره ما روى أبو نعيم في الحلية عن يوسف بن الحسين الرازي قال : سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول : سمعت أبا سليمان الداراني يقول : ليس أعمال الخلق بالتي ترضيه ولا تسخطه ، إنما رضي عن قوم فاستعملهم بأعمال الرضى ، وسخط على قوم فاستعملهم بأعمال السخط الْحَكِيمُ.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء السادس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:22 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء السادس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء السادس
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
أي صاحب الحكمة البالغة ، فلو غفر لهم لكان ذلك هو الحكمة منك ، فإنها دائرة مع أفعالك كيفما فعلت ، فهو الحكمة ، لا هي أمر مخصوص بحيث تنحصر أفعالك فيها ، تعاليت عن ذلك علوا كبيرا وهم ( ) - من قوله :إِنْ تُعَذِّبْهُمْ، ضمير الغائب كما أن هو ضمير الغائب لكنه للواحد كما قال اللّه تعالى في نظير ضمير الغائب المجموع هم الذين كفروا .
 
بضمير الغائب المجموع لغيبتهم عن الحضور مع اللّه تعالى فكان الغيب الذي هم فيه بجهلهم وكفرهم سترا ، أي ساترا لهم عما ، أي عن الخلق الذي يراد ، أي يقصد عند العارفين بالمشهود ، لأنهم يشهدونه الحاضر لحضورهم بين يديه على بصيرة منهم بذلك ويقين تام .
فقال ، أي عيسى عليه السلام فيما أخبر اللّه تعالى به عنه إِنْ تُعَذِّبْهُمْ بضمير الغائب المجموع وهو ، أي نواب المفهوم من ضمير الغائب عين الحجاب الذي هم فيه عن شهود الحق تعالى والحضور بين يديه على علم .
 
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فذكّرهم اللّه قبل حضورهم حتّى إذا حضروا تكون الخميرة قد تحكّمت في العجين فصيّرته مثلها .فَإِنَّهُمْ عِبادُك َفأفرد الخطاب للتّوحيد الّذي كانوا عليه . ولا ذلّة أعظم من ذلّة العبيد .
لأنّهم لا تصرّف لهم في أنفسهم فهم بحكم ما يريده بهم سيّدهم ولا شريك له فيهم فإنّه قال :عِبادُكَ فأفرد . والمراد بالعذاب إذلالهم ولا أذلّ منهم لكونهم عبادا . فذواتهم تقتضي أنّهم أذلّاء فلا تذلّهم فإنّك لا تذلّهم بأدون ممّا هم فيه من كونهم عبيدا .وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ أي تسترهم عن إيقاع العذاب الّذي يستحقّونه بمخالفتهم أي تجعل لهم غفرا يسترهم عن ذلك ويمنعهم منه .فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ[ المائدة : 118 ] أي المنيع الحمى ).
 
(فذكرهم اللّه) تعالى في حال غيبتهم عنه وانحجابهم عن شهوده (قبل حضورهم) بين يديه بكشف الغطاء عنهم وارتفاع الحجاب عنهم بالموت والبعث يوم القيامة كما قال تعالى :فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ ق : 22 ] حتى إذا حضروا وانكشف عنهم غطاؤهم بين يدي اللّه تعالى تكون الخميرة وهي ما حمض من العجين يوضع فيها يعجن فيستحيل كله خميرا ، وذكر اللّه تعالى لهم في الدنيا على هذا الوصف بلسان نبيين معصومين عليهم السلام اعتناء بهم ونوع حضور منهم وإن لم يحضروا معه .
 
ولولا حضوره تعالى واعتناؤه لما حضر معه من حضر واعتنى به ، فكان ذكره تعالى لهم بمنزلة الخميرة لحضورهم وذكرهم له في الآخرة قد تحكمت ، أي خميرة ذكره لهم في العجين من حقائقهم المذكورة له تعالى فصيرته ، أي ذلك العجين مثلها ، أي مختمرا بسريانها فيه واستحالته إليها فإنهم عبادك فأفرد الخطاب بالكاف للّه تعالى للتوحيد ، أي لأجل التوحيد الاضطراري الذين كانوا عليه من حيث حقائقهم القائمة به تعالى وإن لم يشعروا لانطماسهم بالكفر ودعوى الشريك معه تعالى .
قال تعالى :وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً ( 67 ) أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ( 68 ) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً( 69 ) [ الإسراء : 67 - 69 ] .
 
(ولا ذلة أعظم من ذلة العبيد) وهوانهم وحقارتهم (لأنهم) ، أي العبيد (لا تصرف لهم في أنفسهم) أصلا فمنهم ، أي العبيد قائمون بحكم ما يريد بهم سيدهم .
أي مولاهم من جميع الأحوال ولا شريك له ، أي لسيدهم فيهم فإنه .
أي عيسى عليه السلام قال عبادك فأفرد الخطاب للّه تعالى ، لأنهم إذا كانوا عباده وهم كثيرون كان هو سيدهم ومولاهم وهو واحد لا شريك له فيهم .
والمراد بالعذاب من قوله : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ في نفس الأمر إذلالهم ، أي إهانتهم بما يذيقهم من الألم بالنار وغيرها (ولا أذل) ، أي أكثر ذلا ومهانة وحقارة (منهم) ، أي من العبيد (لكونهم عبادا) ، أي ذليلون حقيرون من العبادة وهي نهاية الذل وغاية المهانة في طاعة الرب والمولى عز وجل فذواتهم تقتضي أنهم أذلاء .
 
أي ذليلون حقيرون مهانون بسبب ظهور عبوديتهم لك عند من يعترف بها وإن لم يشعروا بها هم لانطماس قلوبهم بالكفر فلا تذلهم أكثر مما هم فيه من الذل والحقارة فإنك لا تذلهم بأدون .
أي بذل يجعلهم أدون وأقل مما هم فيه من الذل الذي هو مقتضى كونهم عبيدا .
أي متصفين بالعبودية التي هي كمال الذلة بحيث لا يمكن أذل منها لكنهم لا يشعرون بذلك من نفوسهم لانطماسهم بالكفر وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ أي تسترهم ، يعني تغطيهم برداء حكمك الواسع عن إيقاع العذاب المؤلم الموجع بهم الذين يستحقونه منك بمخالفتهم لأمرك وعدم امتثالهم لطاعتك ومعنى تغفر لهم أي تجعل لهم غفرا ، أي سترا وغطاء .
 
ومنه المغفر لما يجعل على الرأس من درع الحديد ليسترهم عن ذلك ، أي عن إيقاع العذاب ويمنعهم ، أي يحميهم ويحفظهم ويحرسهم ويوقيهم منه ، أي من إيقاع العذاب بهم فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ، أي المنيع ، أي الممنوع المحفوظ الحمى ، أي الجناب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا الاسم إذا أعطاه الحقّ لمن أعطاه من عباده يسمّى الحقّ بالمعزّ ، والمعطى له هذا الاسم بالعزيز . فيكون منيع الحمى عمّا يريد به المنتقم والمعذّب من الانتقام والعذاب .
وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ولتكون الآية على مساق واحد في قوله :إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ[ المائدة : 116 ] وقوله :كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ[ المائدة : 117 ] .
فجاء أيضا :فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة  118 ]
فكان سؤالا من النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم وإلحاحا منه على ربّه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر يرددها طلبا للإجابة فلو سمع الإجابة في أوّل سؤال ما كرّر .
فكان الحقّ يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب عرضا مفصّلا فيقول له في كلّ عرض عرض وعين عين : "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " [ المائدة : 118 ] . )
 
(وهذا الاسم) الذي هو اسم اللّه العزيز (إذا أعطاه الحق تعالى لمن أعطاه من عباده ) المؤمنين ، أي جعله متخلقا به ظاهرا بمقتضى مدلوله وهو العزة والمنعة والهيبة (يسمى الحق) تعالى حينئذ (بالمعز) ، لأنه أعطى اسمه العزيز لعبده فأعزه به بل ظهر تعالى عزيزا بذلك العبد لأنه قيوم عليه وبطن عنه باسم المعز فهو تعالى المعز والعزيز ويسمى ذلك العبد المعطى له هذا الاسم من أسماء اللّه تعالى بالعزيز ، أي المنيع الحمى فيكون ، أي المعطى له هذا الاسم منيع الحمى ، أي محروس الجناب محفوظ الذات والصفات عما ، أي عن كل سوء يريد به اسم المنتقم والاسم المعذب اسم فاعل اللذين هما من أسماء اللّه تعالى من 0 حلول الانتقام به والعذاب بيان لما
(وجاء ) ، أي عيسى عليه السلام في كلامه هذا (بالفصل) وهو ضمير الفصل ويسمى العماد أيضا وذلك قوله : " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (تأكيدا) ، أي على وجه التأكيد للبيان ، أي لإظهار مضمون هذه الجملة كما مر ولتكون هذه الآية من أوّلها إلى آخرها على مساق ، أي أسلوب ونمط واحد .
 
في قوله أوّلا إنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
وقوله : ثانيا :كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ فجاء ، أي عيسى عليه السلام في آخر الآية أيضا .
ثالثا بقوله : إنكأ َنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فكان مقتضى هذه الآية ومضمونها سؤالا .
أي طلبا من النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم وإلحاحا ، أي مبالغة في الطلب منه صلى اللّه عليه وسلم على ربه تعالى في هذه المسألة التي هي مقتضى هذه الآية ومضمونها ليلة كاملة من بعد العشاء الأخيرة إلى طلوع الفجر الثاني وهو يرددها .
أي هذه الآية في قراءته لها طلبا من اللّه تعالى للإجابة إلى حصول مضمونها من المغفرة والمسامحة .
 
فلو سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم الإجابة إلى سؤاله المذكور من اللّه تعالى في أوّل سؤال وقع منه بقراءة هذه الآية ما كرر قراءتها مرة بعد أخرى فكان الحق تعالى يعرض عليه ، أي النبي صلى اللّه عليه وسلم فصول ، أي أنواع ما ، أي بسبب الذي استوجبوا ، أي استحقوا يعني الكافرين به .
 
أي بذلك السبب العذاب من اللّه تعالى عرضا مفصلا فيقول ، أي النبي صلى اللّه عليه وسلم له ، أي اللّه تعالى في كل عرض من ذلك وكل عين عين بتكرار لفظ العين أي خصوص كل سبب من أسباب العذاب إِنْ تُعَذِّبْهُمْ على ما عرضته علي من هذا السبب المخصوص فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ذلك السبب فتستره ولا تؤاخذهم به فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحقّ وإيثار جنابه لدعا عليهم لا لهم .
فما عرض عليه إلّا ما استحقّوا به ما تعطيه هذه الآية من التّسليم للّه والتّعريض لعفوه .
وقد ورد أنّ الحقّ إذا أحبّ صوت عبده في دعائه إيّاه أخّر الإجابة عنه حتى يتكرّر ذلك حبّا فيه لا إعراضا عنه ، ولذلك جاء بالاسم الحكيم ؛ والحكيم هو الّذي يضع الأشياء في مواضعها ، ولا يعدل بها عمّا تقتضيه وتطلبه حقائقها بصفاتها .
فالحكيم هو العليم بالتّرتيب . فكان صلى اللّه عليه وسلم بترداده هذه الآية على علم عظيم من اللّه تعالى . فمن تلا هذه الآية فهكذا يتلو ، وإلّا فالسّكوت أولى به .
وإذا وفّق اللّه عبدا إلى النّطق بأمر ما فما وفّقه إليه إلّا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته فلا يستبطيء أحد ما يتضمّنه ما وفّق له ، وليثابر مثابرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على هذه الآية في جميع أحواله ، حتّى يسمع بأذنه أو بسمعه ، كيف شئت أو كيف أسمعك اللّه الإجابة ، فإن جازاك بسؤال اللّسان أسمعك بأذنك ، وإن جازاك بالمعنى أسمعك بسمعك).
 
(فلو رأى ) ، أي النبي صلى اللّه عليه وسلم (في ذلك العرض) المذكور (ما يوجب تقديم ) حق الحق تعالى على حق عباده المذكورين وإيثار .
أي اختيار ترجيح جنابه تعالى على جنابهم لدعا صلى اللّه عليه وسلم عليهم بما يستحقونه من العذاب لا دعا لهم بالمغفرة والمسامحة ، ولكنه رأى في ذلك ما يوجب تقديم حق العبد لعجزه وافتقاره على حق الرب تعالى لقدرته وغناه المطلق ، وإيثار جناب العبد في دعاء الحق تعالى بالمغفرة له على جناب الحق تعالى سبحانه في الدعاء على من خالف أمره لكمال عزته وعموم حكمته .
 
(فما عرض) ، أي الحق تعالى (عليه) ، أي على النبي صلى اللّه عليه وسلم بتلاوته هذه الآية في تلك الليلة التي كان يكررها فيها (إلا ما استحقوا به ما تعطيه هذه الآية ) المذكورة من المغفرة لهم والعفو عنهم (من التسليم ) بيان لما استحقوا به للّه تعالى في جميع أحوالهم التي أراد تعالى وقوعها بهم مما يضرهم كالكفر والضلال ، أو ينفعهم كالذل له في حقيقة نفوسهم واضطرارهم إلى إمداده ظاهرا أو باطنا وإن لم يشعروا بذلك والتعريض لعفوه عنهم والمغفرة لهم بما عندهم من العبودية له وذلك مستفاد من مضمون الآية المذكورة .
 
(وقد ورد) في الحديث (أن الحق) تعالى (إذا أحب صوت عبده في دعائه إياه ) سواء كان صوت قلب أو لسان ، فإن للقلب كلاما كما وللسان كلاما أخر تعالى الإجابة عنه لدعائه حتى يتكرر ذلك ، أي الدعاء منه ، أي من ذلك العبد حبا ، أي محبة منه تعالى فيه ، أي في ذلك العبد لا إعراضا منه تعالى عنه ، أي عن ذلك العبد الداعي ولذلك جاء ، أي عيسى عليه السلام في كلامه بالاسم الحكيم فقال : إنكأَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
 
(والحكيم) معناه (هو الذي يضع الأشياء في مواضعها) اللائقة بها والمناسبة لها ولا يعدل بها ، أي بالأشياء عما تقتضيه وتطلبه حقائقها ، أي حقائق تلك الأشياء بصفاتها ، أي بسبب ما اتصف به من الأحوال المختلفة فالحكيم هو في المعنى العليم ، أي الذي يعلم جميع الأشياء بالترتيب المتقن الذي هو على أبلغ الوجوه طبق ما هي عليه الأشياء في حال ثبوتها في العلم القديم ، وهي معدومة بالعدم الأصلي وكان ، أي النبي صلى اللّه عليه وسلم بترداده ، أي تكراره هذه الآية المذكورة على علم عظيم من اللّه تعالى ، فإنه أعلم الخلق باللّه تعالى على الإطلاق فمن تلا ، أي قرأ هذه الآية المذكورة فهكذا ، أي على هذا الوصف المذكور من التنبيه للمعاني الإلهية والمناجاة مع الحق تعالى بالأسرار الخفية والجلية يتلو ، أي يقرأ هذه الآية وإلا ، أي وإن لم يتلها هكذا بأن تلاها بفغلة قلب وجهل بالأمور الإلهية وتحريف للأسرار واستصغار للمعاني الكبار فالسكوت وترك التلاوة أولى به حينئذ كما قال تعالى :" أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ( 44 ) [ البقرة : 44] .
 
وورد في الخبر : « رب قارىء للقرآن والقرآن يلعنه » (وإذا وفق اللّه) تعالى (العبد إلى نطق) ، أي تكلم ودعاه (بأمر ما) ، أي أمر من الأمور فما وفقه ، أي اللّه تعالى إليه ، أي إلى النطق بذلك الأمر إلا وقد أراد إجابته فيه ، أي في ذلك الأمر الذي دعاه به . وأراد قضاء حاجته ، فيما طلب منه تعالى فلا يستبطىء أحد من الناس ما يتضمنه ما ، أي الذي وفق ، أي وفقه اللّه تعالى له من الدعاء فإن قضاء الحاجات له أوقات .
 
وقد ورد : « يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول :
دعوت فلم يستجب لي » ولعل قوله : ذلك مبطل للدعاء ، فمانع من الإجابة ،
وامتثال العبد أمر ربه تعالى له بالدعاء في قوله :ادْعُوا رَبَّكُمْ[ الأعراف : 55 ] ، وقوله :ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[ غافر : 60 ] عين الإجابة من العبد لأمر ربه سبحانه ، فاللّه مستجيب له على كل حال كما مر .
 
(وليثابر) ، أي يواظب الداعي مثابرة ، أي مواظبة (رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على) تلاوة (هذه الآية) في تلك الليلة الكاملة ودعا اللّه تعالى بمضمونها في شأن الكافرين (في جميع أحواله) ، أي الداعي ولا يستبطىء الإجابة فيترك الدعاء حتى يسمع ذلك الداعي بأذنه الحسية أو بسمعه النفساني كيف شئت قلت في ذلك أو كيف أسمعك اللّه تعالى الذي يسمع من يشاء الإجابة لدعائك ذلك فإن شاء تعالى جازاك على دعائك سؤال ، أي طلب اللسان منك للذي أردته أسمعك تعالى الإجابة لدعائك بأذنك قوله القديم : لبيك عبدي وإن جازاك على دعائك فأجابه لك بالمعنى ، أي أعطاك ما طلبته أسمعك إجابة لك بسمعك النفساني بأن يكشف لك عن حصول نفس مطلوبك ، فيكون ذلك دليلا على أنه يذيقك عين ما طلبته في الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد أنت ، فإنه يعلم وأنت لا تعلم .
تم فص الحكمة العيسوية .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:30 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
وهذا فص الحكمة السليمانية ، ذكره بعد حكمة عيسى عليه السلام ، لأن مقام سليمان عليه السلام حاصل من إجابة الدعاء بعين ما طلب حيث قالَ: " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي[ص : 35 ] ،
وعيسى عليه السلام حاصل من إجابة دعاء امرأة عمران بطريق النذر ، كما قال تعالى :" إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 35 ) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ( 36 ) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً [ آل عمران : 35 - 37 ] .
وكانت امرأة عمران طلبت غلاما يكون خالصا لبيت المقدس ، فأجابها اللّه تعالى أوّلا بالأنثى وهي مريم ، وثانيا بالذكر وهو عيسى ابن مريم عليهما السلام وهو عين الإجابة بما طلبت ، ومما يدل على أنها كانت متحققة في الإجابة إلى عين ما طلبت وهو حصول الغلام الذكر من مريم قولها :" وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها".
فقد علمت بالذرية وهو عيسى عليه السلام في حال صغر أمه مريم عليها السلام ، وأخبر تعالى أنه تقبلها ، أي مريم عليها السلام قبولا حسنا ، وأنبتها وهو خروج عيسى عليه السلام منها نباتا حسنا ، كما قال تعالى :وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً( 17 ) [ نوح : 17 ] .
(فص حكمة رحمانية) منسوبة إلى الرحمن (في كلمة سليمانية ).
إنما اختصت حكمة سليمان عليه السلام بكونها رحمانية ، لأنها من استواء الرحمن على عرش الوجود واستيلاؤه عليه ، فهي لمحة من رحمة الإيجاد ، وقد رحم اللّه تعالى الوجود الذي استولى عليه سليمان عليه السلام ، وقهره بالموافقة ونفوذ الكلمة ، فهي نعمة عليه وعلى أهل زمانه كلهم ، ولهذا ذكرها من باب التحدث بالنعمة .
 "وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ" [ النمل : 16 ] .
وفي قضية عرش بلقيس :" فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ " [ النمل : 40 ] .
قال اللّه تعالى :
* * *
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "إِنَّه ُيعني الكتاب مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ أي مضمونه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ " [ النمل : 30 ] .
فأخذ بعض النّاس في تقديم اسم سليمان على اسم اللّه ولم يكن كذلك .
وتكلّموا في ذلك بما لا ينبغي ممّا لا يليق بمعرفة سليمان بربّه .
وكيف يليق ما قالوه وبلقيس تقول فيه :إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ[ النمل : 29]
أي مكرّم عليها وإنّما حملهم على ذلك ربّما تمزيق كسرى كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؛ وما مزّقه حتّى قرأه كلّه وعرف مضمونه .
فكذلك كانت تفعل بلقيس لو لم توفّق لما وفّقت له فلم يكن يحمي الكتاب عن الإحراق لحرمة صاحبه تقديم اسمه عليه السّلام على اسم اللّه تعالى ولا تأخيره . )
 
(إنه يعني الكتاب) الذي أرسله سليمان عليه السلام إلى بلقيس مع الهدهد من سليمان ، لأنه هو الذي قصدها به ودعاها بدعوة الحق إلى الدخول تحت طاعته التي هي طاعة اللّه تعالى (وإنه) ، أي (مضمونه) يعني ما تضمنه ذلك الكتاب من الدين الحق ودعوة الهدى(   "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" [ النمل : 31 ] . فأخذ بعض الناس)
من علماء الظاهر في بيان حكمة تقديم اسم سليمان عليه السلام على اسم اللّه تعالى ولم يكن الأمر في نفسه كذلك ، أي على ما ذكروا من تقديم اسم سليمان على اسم اللّه تعالى ، وإنما يكون كذلك لو قال :
باسم سليمان واللّه الرحمن الرحيم ، وحاشاه عليه السلام من تقديم اسمه على اسم اللّه تعالى مع علمه باللّه ومعرفته به المعرفة التامة وعصمته في الأدب معه تعالى ، ولكنه أتى أوّلا باسم اللّه الظاهر والآخر بالقيومية عليه وعلى كل شيء وله سبحانه في هذه الحضرة أسماء منها اسم سليمان وأتى ثانيا باسم اللّه الباطن ، والأوّل عن إدراكه وإدراك كل شيء.
وله سبحانه في هذه الحضرة أيضا أسماء منها : اسم الرحمن الرحيم .
وستأتي الإشارة إليه من المصنف قدس اللّه سره ، وقد قال تعالى :"هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ" [ الحديد : 3 ] ، فلا أوّل ولا آخر ولا ظاهر ولا باطن إلا هو لا إله إلا هو إليه المصير .
وهذا كله من حيث إنه تعالى قيوم على كل شيء "وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" [ القصص : 88 ]
لا من حيث إنه تعالى عين الأشياء الهالكة ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار .
)وتكلموا ) ، أي بعض الناس من علماء الظاهر (في ذلك) الذي ذهبوا إليه من تقديم اسم سليمان على اسم اللّه تعالى (بما لا ينبغي) أن يقال مما ، أي من الأمر الذي (لا يليق بمعرفة سليمان عليه السلام بربه) تعالى فإنه عارف به المعرفة الكشفية الذوقية لا المعرفة العقلية المستفادة من الدليل والبرهان كما هو عند أهل الظاهر من
 
المتمسكين بالعقول في أحكام الشريعة في العقول وكيف يليق بمقام سليمان عليه السلام ما قالوه من الكلام وبلقيس تقول فيه ، أي في ذلك الكتاب لما ألقاه الهدهد عليها وكانت كافرة من قوم كافرين يعبدون الشمس من دون اللّه : (" يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ" أي مكرم عليها) [ النمل  : 29 ]
وذلك لما رأته مشتملا عليه من الجزالة في اللفظ مع كمال الإفادة في المطلوب ، وذكر الأمر والنهي وبيان المرسل بذكر اسمه واسم اللّه تعالى ، وبيان التوحيد بأن الأمور كلها به تعالى ، وبيان الشريعة بذكر الإسلام لسليمان عليه السلام في كل ما جاء به ، ولهذا لما أسلمت بلقيس قالت :وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ[ النمل : 44 ] .
فقد انقادت للّه تعالى الذي به قام كل شيء ، من باب شريعة سليمان عليه السلام لا بالاستقلال منها وترك الشريعة التي كان عليها سليمان عليه السلام ، وهذا كمال الحذق منها والاستعداد لقبول الحق والتوفيق الإلهي لها ، ولهذا لما امتحنها سليمان عليه السلام فقالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ( 41 ) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ[ النمل : 41 - 42 ] ،
وأتت بهذه العبارة الجامعة للحقائق والحاوية على أنواع الرقائق .
(وإنما حملهم) ، أي علماء الظاهر (على ذلك) القول الذي قالوه ربما ، أي يحتمل أن يكون تمزيق ، أي تقطيع (كسرى) أنو شروان ملك الفرس (كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم) لما أرسله إليه يدعوه إلى الإسلام وما مزقه ، أي كسرى حتى قرأه كله وعرف مضمونه .
أي ما اشتمل عليه من الأمر بترك الدين الباطل واتباع الإسلام فكذلك كانت تفعل بلقيس بكتاب سليمان عليه السلام ، فما كانت تمزقه حتى تقرأه من أوّله إلى آخره وتعرف مضمونه لو لم توفق ، أي يوفقها اللّه تعالى لما وفقت له .


أي وفقها اللّه تعالى له من كرامة ذلك الكتاب عليها فلم يكن يحمي الكتاب عن الإحراق ، أي عدم الاحتفال بحرمة صاحبه ، أي صاحب ذلك الكتاب تقديم اسمه ، أي سليمان عليه السلام على اسم اللّه تعالى ولا تأخيره ، أي سليمان عليه السلام عنه ، أي عن اسم اللّه تعالى .
لأن الكتاب كله يمزق بعد تمام قراءته ومعرفة مضمونة ، فيقع التمزيق على اسم سليمان عليه السلام واسم اللّه تعالى .
وليس وقوع التمزيق أولا على اسم سليمان عليه السلام بأمر محقق حتى يكون وقاية لتمزيق اسم اللّه تعالى كما زعموا .
بل كان الأمر بالعكس ينبغي تقديم اسم اللّه تعالى حتى إذا رأوه في أوّل الكتاب يحترمون تمزيق الكتاب ، لأن الكفار من المجوس وعباد الشمس والنار والأصنام قائلون بوجود اللّه ، ولم ينكر وجوده تعالى إلا الدهرية ومن تابعهم .
ولأن تقديم اسم المخلوق الذي مثلهم يحرك فيهم سلسلة
 
العناد لما انجبلت عليه النفوس البشرية من عدم الانقياد لمثلها ؛ ولهذا قالوا :أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ[ القمر : 24 ] ،وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً[ المؤمنون : 24 ]
فأبوا عن الانقياد للجنس وطلبوا غير الجنس ، فكان تقديم اسم المخلوق باعثا على تمزيق الكتاب أكثر من باعث تقديم اسم اللّه تعالى .
فإنهم ربما كانوا يرعون لذكر اسم اللّه تعالى في الابتداء قبل ذكر اسم المخلوق ، بل ربما كان تقديم اسم المخلوق داعيا إلى أشد التكذيب منهم بتعليل أن هذا الداعي لهم إلى اللّه تعالى قدم اسمه على الاسم المدعو إليهم ، فيفهم الجاهل من ذلك عدم الاحترام منه ، فيدعو ذلك إلى التمزيق والإهانة ، فلا وجه لما قالوه فيما زعموا من التقديم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فأتى سليمان بالرّحمتين : رحمة الامتنان ورحمة الوجوب اللّتان هما الرّحمن الرّحيم . فامتنّ بالرّحمن وأوجب بالرّحيم . وهذا الوجوب من الامتنان . فدخل الرّحيم في الرّحمن دخول تضمّن .
فإنّه كتب على نفسه الرّحمة سبحانه ليكون ذلك للعبد بما ذكره الحقّ من الأعمال الّتي يأتي بها هذا العبد ، حقّا على اللّه أوجبه له على نفسه يستحقّ بها هذه الرّحمة أعني رحمة الوجوب .  ومن كان من العبيد بهذه المثابة فإنّه يعلم من هو العامل منه .
والعمل منقسم على ثمانية أعضاء من الإنسان . )
 
(فأتى سليمان) عليه السلام في كتابه المذكور (بالرحمتين) الإلهيتين :
الأولى (رحمة الامتنان) منه تعالى على خلقه وبها أعطى الاستعدادات لقبول ما يفيض من الإمداد على الكل وهو قوله سبحانه وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وهذا الوسع منة من الحق تعالى وفضل من غير سبب سابق ، بل هو سبب للفيض اللاحق
(و)الثانية (رحمة الوجوب) ، أي الإيجاب منه تعالى على نفسه لا بإيجاب أحد عليه وهو قوله تعالى :" فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ" [ الأعراف : 156 ] ، وقوله :"كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ " [ الأنعام : 54 ] ،
 أي أوجبها اللتين هما رحمة (الرحمن) ورحمة (الرحيم فامتن) ، أي أنعم وتفضل سبحانه على كل شيء فأوجده مستعدا لكل ما هو مستعد له (بالرحمن) المستوي على العرش وهي رحمة العامة وأوجب ، أي أحق وألزم عدلا منه سبحانه (بالرحيم) وهي رحمة الخاصة من قوله تعالى :أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى[ طه : 50 ].
 والهداية أيضا إعطاء للمستعد لها خلقه
 
ولكن أفردها ليميز أهلها عن أهل الضلالة كما قال :يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ[ النحل : 93 ] ومن لم يستعد للهداية ولو أفاضها عليه فإنه لا يقبلها كما قال سبحانه :وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى[ فصلت : 17 ] .
(وهذا الوجوب) في الرحمة هو (من) جملة (الامتنان) أيضا على الكل والرحمة واحدة لا تنقسم ، لأنه هو الذي أوجبها على نفسه فإيجابه لها على نفسه عين الامتنان منه (فدخل) الاسم (الرحيم في) الاسم (الرحمن) ورحمة الوجوب في رحمة الامتنان ورحمة الخصوص في رحمة العموم (دخول تضمن) كدخول العام في الخاص والأمر الكلي في الجزئي ، لأن الخاص هو المقصود وكذلك الجزئي وهو الكلي ، والعام جزء الخاص ، وكذلك الكلي كأنه جزء للجزئي ، والمرحومون بالرحمة الخاصة رحمة الوجوب هم المعتبرون وهم المقصودون وهم الجامعون كما قال تعالى :قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ[ الأعراف : 32 ] ، وإنما لم تكن خالصة في الدنيا لأنها ليست بدار جزاء ، والآخرة هي دار الجزاء فكانت لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا من باب رحمة الامتنان فتشاركوا فيها مع الكافرين ، وفي الآخرة تكون للمؤمنين خاصة من دون الكافرين من باب رحمة الوجوب التي يخص اللّه تعالى من بها من يشاء .
وقال تعالى في حق الكافرين ُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ[ هود : 16] ،
وأخبر تعالى أنه تقطع لهم ثياب من نار ، وأن شجرة الزقوم تنبت في أصل الجحيم فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ( 66 ) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ( 67 ) [ الصافات : 66 - 67 ] ، فليس لهم إلا ما أعطت حقائقهم مما استعدوا له من العقاب . ولهذا قال تعالى :وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[ البقرة : 57 ] .
(فإنه) ، أي اللّه تعالى (كتب على نفسه) ، أي ذاته وهي الوجود المطلق (الرحمة سبحانه) وهي إفاضة الوجود على الأعيان الثابتة في الأصل بطريق المنة فظهرت موجودة على حسب ما كانت ثابتة فيه من الأعيان العدمية (ليكون ذلك) ، أي كناية الرحمة منسوبا (للعبد) المكلف وغيره (بما ذكره الحق) تعالى في القرآن من الأعمال بيان لما ذكره التي يأتي بها هذا العبد كما قال بعضهم : من فضله عليك أن خلق ونسب إليك « حكمة ابن عطاء الله السكندري » .
حقا على اللّه تعالى كما قال :وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[ الروم : 47 ] ، أي على أنفسهم وشياطينهم بالطاعة والموافقة ، وعلى  أعدائهم بالحفظ والغلبة (أوجبه) .
 
أي ذلك الحق له ، أي لعبد اللّه تعالى (على نفسه يستحق) ، أي ذلك العبد (بها) ، أي بسبب تلك الأعمال (هذه الرحمة أعني رحمة الوجوب) وهي رحمة الاختصاص التي قال تعالى :يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ[ البقرة : 105 ] .
(ومن كان من العبيد بهذه المثابة) ، أي الحالة المذكورة فإنه ، أي ذلك العبد (يعلم من هو العامل منه) ومن غيره أيضا للأعمال الاختيارية الصادرة عنه في الخير فضلا وفي الشر عدلا.
(والعمل) الذي كلف اللّه تعالى به الإنسان (منقسم على ثمانية أعضاء من الإنسان) المكلف اليدين والرجلين والعينين والأذنين واللسان والقلب والبطن والفرج .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد أخبر الحقّ أنّه تعالى هويّة كلّ عضو منها ، فلم يكن العامل غير الحقّ ، والصّورة للعبد ، والهويّة مندرجة فيه ، أي في اسمه لا غير .
لأنّه تعالى عين ما ظهر وسمّي خلقا وبه كان الاسم الظّاهر والآخر للعبد ؛ وبكونه لم يكن ثمّ كان . ويتوقّف ظهوره عليه وصدور العمل منه كان الاسم الباطن والأوّل .
فإذا رأيت الخلق رأيت الأوّل والآخر والظّاهر والباطن . )
 
(وقد أخبر الحق) تعالى كما ورد في الحديث القدسي وغيره (أنه تعالى هوية) ، أي ذات (كل عضو منها )، أي من تلك الأعضاء بقوله : « كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها » .
والبعض وارد بالتصريح ، والبعض مفهوم بالكناية والتلويح في أخبار مختلفة ، ويعم الكل قوله تعالى :إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ( 49 ) [ القمر : 49 ] .
في قراءة رفع على أنها خبر إنّ ، ولا يلزم مما يفهم الجاهل من أنه تعالى خلق نفسه ، لأنه إذا كان تعالى يتحوّل في الصور كما ورد في حديث مسلم الصحيح في يوم القيامة ، فالتحول في الصور التي هي مظاهر تجلياته ، لا في نفس المتجلي بها .
 
ولكن يصح إضافة التحول إلى المتجلي ، لأنه لازم من تحول مظاهر تجلياته في رؤية الرائي لا في نفس الأمر ، وكذلك القول فيما ذكرنا وما للعميان والبحث عن حقائق الألوان ، فإن الآلة التي بها تدرك الألوان هي البصر خاصة ، وذلك مفقود من العميان ، فترك البحث والجدال أولى بهم إن كان عندهم إذعان وليس للمعاندة دواء إلا الضرب والطعان .
(فلم يكن العامل) حينئذ (غير الحق) سبحانه والصورة التي ظهر بها الحق تعالى في وقت العمل بالقيومية عليها للعبد والهوية ، أي الذات الإلهية مندرجة فيه أي اسمه يعني اسم العبد لا غير ، أي لا في ذاته لأنه تعالى عين ما ظهر بالوجود في صورة العبد وذاته واسمه بصفة القيومية عليه وسمي خلقا ، أي مخلوقا ومن هنا قال سليمان عليه السلام في كتابه إلى بلقيس إنه من سليمان وإنه بسم اللّه الرحمن الرحيم كما مر .
(وبه) ، أي بما ظهر وسمي خلقا كان ، أي ظهر (الاسم الظاهر و)الاسم الآخر للّه تعالى للعبد ، أي ظهورا عند العبد ، فلو لا ظهور العبد ما ظهر عنده اسم اللّه تعالى الظاهر ولا اسمه الآخر وبكونه ، أي العبد لم يكن ظاهرا ثم كان ، أي ظهر .
 
(ويتوقف ظهوره) ، أي العبد عليه ، أي على الحق تعالى وصدور العمل ، أي عمل العبد منه ، أي من الحق تعالى خلقا وإيجادا كان ، أي تبين عند العبد أيضا (الاسم الباطن) والاسم الأوّل للّه تعالى فإذا رأيت يا أيها السالك الخلق ، أي المخلوق من الناس وغيره فقد رأيت الأوّل الحق ظاهرا عندك بإظهار أثره ورأيت الآخر الحق أيضا ظاهرا عندك بوجوده المطلق الذي فني فيه قيد أثره ورأيت الظاهر الحق ظاهرا عندك بوجوده المطلق أيضا الذي فني فيه قيد أثره ورأيت الباطن الحق ظاهرا عندك أيضا بإظهار أثره ، فتظهر عندك بك وبكل شيء حضرات الحق تعالى الأربعة ، وتتميز بالأثر الواحد الصادر عنها بالاعتبارات الأربعة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهذه معرفة لا يغيب عنها سليمان عليه السّلام ، بل هي من الملك الّذي لا ينبغي لأحد من بعده ، يعني الظّهور به في عالم الشّهادة .
فقد أوتي محمّد صلى اللّه عليه وسلّم ما أوتيه سليمان ، وما ظهر به . فمكّنه اللّه تعالى تمكين قهر من العفريت الّذي جاءه باللّيل ليفتك به فهمّ بأخذه وربطه بسارية من سواري المسجد حتّى يصبح فتلعب به ولدان المدينة ، فذكر دعوة سليمان فردّه  اللّه خاسئا . فلم يظهر عليه السّلام بما أقدر عليه وظهر بذلك سليمان .
ثمّ قوله :مُلْكاً[ النساء : 54 ] فلم يعمّ ، فعلمنا أنّه يريد ملكا ما . ورأيناه قد شورك في كلّ جزء من الملك الّذي أعطاه اللّه ، فعلمنا أنّه ما اختصّ إلّا بالمجموع من ذلك ، وبحديث العفريت ، أنّه ما اختصّ إلّا بالظّهور ، وقد يختصّ بالمجموع والظّهور .
ولو لم يقل صلى اللّه عليه وسلّم في حديث العفريت : « فأمكنني اللّه منه » لقلنا إنّه لمّا هم بأخذه ذكّره اللّه دعوة سليمان ليعلم أنّه لا يقدره اللّه على أخذه . فردّه اللّه خاسئا . فلمّا قال فأمكنني اللّه منه علمنا أنّ اللّه تعالى قد وهبه التّصرّف فيه . ثمّ إنّ اللّه ذكّره فتذكّر دعوة سليمان فتأدّب معه ، فعلمنا من هذا أنّ الّذي لا ينبغي لأحد من الخلق بعد سليمان الظّهور بذلك في العموم . )
 
(وهذه معرفة) بالحق تعالى كشفية ذوقية (لا يغيب عنها سليمان عليه السلام ) ومنها كان كتابه المذكور بل هي ، أي هذه المعرفة (من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ) ، كما دعا اللّه تعالى بذلك فحصل له في قوله :رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي[ ص : 35 ] .
يعني بالذي لا ينبغي لأحد من بعده الظهور به أي بهذا الملك العرفاني والمقام الرباني الرحماني في عالم الشهادة أي عالم الحس والعقل فقد أوتي محمد نبينا صلى اللّه عليه وسلّم أي آتاه اللّه تعالى ما أوتيه سليمان عليه السلام من الملك ولكنه صلى اللّه عليه وسلم ما ظهر به في عالم الشهادة كما ظهر سليمان عليه السلام فمكنه ، أي مكن محمدا صلى اللّه عليه وسلّم اللّه تعالى تمكين قهر واستيلاء من العفريت وهو العاتي المتمرد من الجن الذي جاءه عليه السلام بالليل ليفتك به صلى اللّه عليه وسلّم .


أي يضره ويؤذيه فهم ، أي شرع واهتم بأخذه ، أي مسكه والقبض عليه وربطه بسارية ، أي عمود أو عضادة من سواري المسجد الحرام المدني حتى يصبح ، أي يدخل في الصباح فيلعب به ولدان المدينة فذكر .
أي تذكر صلى اللّه عليه وسلّم بدعوة أخيه سليمان عليه السلام ، في قوله :رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِيفرده ، أي العفريت اللّه تعالى خاسئا ، أي حقيرا ذليلا فلم يقدر على ما أراد بالنبي عليه السلام كما أخبر بذلك صلى اللّه عليه وسلّم في الحديث الصحيح «. رواه البخاري والنسائي
 
(فلم يظهر) ، أي النبي (عليه السلام مما أقدر) ، أي أقدره اللّه تعالى (عليه) من ذلك الملك (وظهر بذلك) الملك سليمان عليه السلام ثم قوله ، أي سليمان عليه السلام ربهَبْ لِيمُلْكاًفلم يعم في جميع العوالم وإن قال :لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِيفليس فيه إفادة العموم فعلمنا أنه ، أي سليمان عليه السلام يريد ملكا ما يعني ، أي ملك كان لكنه لا ينبغي لأحد من الناس .
فهو نظير السؤال في القدر من العزير عليه السلام ، وسؤال إبراهيم عليه السلام في طمأنينة قلبه باليقين ، فكأنه طلب أن اللّه تعالى يملكه في الخلق ملكا بطريق الظهور الإلهي في حقيقته السليمانية بتجلي القيومية من حضرة اسمه تعالى المالك ، ولو على شيء واحد ليعرف ويتحقق بصفة الملك الإلهي لكل شيء ذوقا ، زيادة على مجرد النسبة الاستخلافية الحاصلة لبني آدم بمقتضى الأحكام الشرعية من قوله تعالى :"وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ"[ الحديد : 7 ] .
(ورأيناه) ، أي سليمان عليه السلام (قد شورك) ، أي شاركه غيره في كل جزء ، أي فرد من أجزاء (الملك الذي أعطاه اللّه) تعالى ، أي لسليمان عليه السلام كما وقع لنبينا صلى اللّه عليه وسلم في قصة العفريت ، وفي واقعة جن نصيبين التي أشار إليها الحق تعالى بقوله :قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ[ الجن : 1 ] ، إلى آخره .


ووقع للأولياء المحمديين كثير من ذلك كأبي البيان الدمشقي وغيره .
(فعلمنا) من ذلك (أنه) ، أي سليمان عليه السلام (ما اختص) دون غيره (إلا بالمجموع) المتفرق في غيره من ذلك ، أي الملك وبحديث العفريت المذكور قريبا علمنا منه أنه ، أي سليمان عليه السلام ما اختص دون غيره إلا بالظهور فقط ، وغيره لم يظهر بذلك مع مشاركته له فيه وقد يختص ، أي سليمان عليه السلام بالمجموع للأجزاء كلها والظهور بذلك معا ولو لم يقل أي نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم في حديث العفريت المذكور فأمكنني اللّه تعالى منه لقلنا إنه صلى اللّه عليه وسلم لما هم بأخذه والقبض عليه (ذكّره اللّه) تعالى (دعوة سليمان) عليه السلامرَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِيليعلم ، أي نبينا صلى اللّه عليه وسلم أنه لا يقدره اللّه تعالى على أخذه ، أي العفريت (فردّه) ،


 أي العفريت اللّه تعالى خاسئا ، لأن ذلك أمر مختص بسليمان عليه السلام فلما قال ، أي نبينا صلى اللّه عليه وسلم (فأمكنني اللّه) تعالى منه ، أي من العفريت (علمنا أن اللّه تعالى قد وهبه التصرف فيه) كما وهب سليمان عليه السلام إلا أن سليمان اختص بالظهور به دون غيره .
(ثم إن اللّه) تعالى (ذكره) ، أي نبينا صلى اللّه عليه وسلم (فتذكر دعوة سليمان) عليه السلام وهي الظهور بذلك (فتأدب) أي نبينا صلى اللّه عليه وسلم معه أي مع سليمان عليه السلام لأنه صلى اللّه عليه وسلم أكثر الناس أدبا وكمالا كما قال عليه السلام : «أدبني ربي فأحسن تأديبي»   فعلمنا من هذا الأمر المذكور أن الملك (الذي لا ينبغي لأحد من الخلق بعد سليمان) عليه السلام كما دعا هو بذلك (الظهور بذلك) الملك (في العموم) ، أي عموم أجزاء الملك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليس غرضنا من هذه المسألة إلّا الكلام والتّنبيه على الرّحمتين اللّتين ذكرهما سليمان في الاسمين اللّذين تفسيرهما بلسان العرب الرّحمن الرّحيم.
فقيّد رحمة الوجوب وأطلق رحمة الامتنان في قوله :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[ الأعراف : 156 ] حتّى الأسماء الإلهيّة ، أعني حقائق النّسب .
فأمتنّ عليها بنا . فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهيّة والنّسب الرّبانيّة .
ثمّ أوجبها على نفسه بظهورنا لنا وأعلمنا أنّه هويّتنا لنعلم أنّه ما أوجبها على نفسه إلّا لنفسه . فما خرجت الرّحمة عنه . فعلى من امتنّ وما ثمّ إلّا هو ؟
إلّا أنّه لا بدّ من حكم لسان التّفضيل لما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم ؛ حتّى يقال إنّ هذا أعلم من هذا مع أحديّة العين . )
 
(وليس غرضنا من) ذكر (هذه المسألة) في هذا المحل (إلا الكلام والتنبيه) للأفهام (على الرحمتين اللتين ذكرهما سليمان) عليه السلام في كتابه إلى بلقيس (في الاسمين اللذين) تكلم بهما كيفية الكتاب بلسانه وهو لسان بني إسرائيل العبرانية .
وقد أنزل اللّه تعالى على نبينا العربي صلى اللّه عليه وسلم (تفسيرهما بلسان العرب) كباقي الكتاب بلفظ (الرحمن الرحيم) فقال تعالى :إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ( 30 ) [ النمل : 30 ] ، فقيّد ، أي الحق تعالى رحمة الوجوب وهي رحمة الرحيم كما قال :وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً[ الأحزاب : 43 ] ، وقال :فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ[ الأعراف : 156 ] الآية . وقال :كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[ الأنعام : 54 ] .


« فمن عرف نفسه فقد عرف ربه » فكان هو الرحمة المكتوبة على النفس الإلهية بسبب الإيمان ؛ ولهذا قيل : « وسعني قلب عبدي المؤمن » ، لأنه مكتوب عليه فيسعه كما أن الحروف المكتوبة في القرطاس تسع مقدارها مما هي قائمة به من القرطاس وأطلق سبحانه رحمة الامتنان وهي رحمة الرحمن في قوله :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فلم يقيدها بشيء دون شيء حتى أنها وسعت (الأسماء الإلهية) التي نحن قائمون بها أعني بالأسماء الإلهية (حقائق النسب) جمع نسبة الإلهية الوجودية كالخالق والبارىء والمصوّر والمحيي والمميت إلى غير ذلك .
(فامتن) سبحانه برحمة الرحمن التي استوى بها على العرش وجميع ما حواه
 
العرش (عليها) ، أي على أسمائه الإلهية (بنا) معشر الكائنات جميعها لتكون نحن مظاهر آثارها ومطارح شعاعاتها وأنوارها ومواضع حكمها وأسرارها فنحن معشر الكائنات (نتيجة رحمة الامتنان) التي هي أول ما تعلقت بالأسماء الإلهية ، أي بالحق تعالى في مرتبة ألوهيته ، فأظهرتنا آثارا لها لا من حيث هو سبحانه فإنه غني عن العالمين ، أي ما يعلم به من حيث نحن ولا يعلم سبحانه في نفس الأمر إلا بأسمائه ، ولا تعلم أسماؤه إلا بآثارها ، فالآثار هي العالمون عند الصفاتيين ، والأسماء هي العالمون عند الذاتيين (والنسب) جمع نسبة تفسير الأسماء (الربانية ) ، أي المنسوبة إلى الرب تعالى .
 
(ثم أوجبها) ، أي الرحمة التي امتن بها سبحانه (على نفسه) فكتبها كما قال :كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[ الأنعام : 12 ] وذلك (بظهورنا) معشر الكائنات لنا فعلمنا أنفسنا وأعلمنا هو سبحانه أنه تعالى هويتنا فمن عرف منا نفسه عرف ربه ، ومن جهل نفسه جهل ربه ، وما منا من جهل نفسه من كل وجه بل من وجه دون وجه ، فيعرف ربه من ذلك الوجه الذي عرف به نفسه ، ويجهل ربه من الوجه الذي جهل به نفسه ، وهكذا كل شيء .
 
(لنعلم أنه) تعالى (ما أوجبها) ، أي الرحمة ، يعني كتبها (على نفسه إلا لنفسه) ، أي ليعلم نفسه بنفسه في مرتبة ألوهيته وربوبيته كما هو عالم بنفسه في ذاته وهويته (فما خرجت الرحمة) ، أي رحمته سبحانه التي امتن بها أوّلا وأوجبها ثانيا عنه سبحانه فإنه ليس هناك أمران موجودان ، وإنما الأمر واحد يتضمن راحما ورحمة في الأزل ومرحوما فيما لا يزال ، والمرحوم في الراحم نفس الراحم ، وأما المرحوم في نفسه فهو غير الراحم ، فإذا رحمه بالرحمة أوجده بها له ، كالمراتب إذا قامت بمن هي له تعددت وغايرته ولم يتغير هو بها وإن تغيرت هي به فعلى من امتن سبحانه وما ثم ، أي هناك في الوجود ( إلا هو ).
 
وأما المراتب الإمكانية فهي مراتبه به ثبتت في علمه أزلا من غير وجود لها ، وبه وجدت في أنفسها لا فيه سبحانه فيما لا يزال إلى الأبد ، فإن كان امتنانه عليها بالوجود في حال ثبوتها كان امتنانه على نفسه ، لأنه بوجوده أوجدها فقد امتن عليها بإيجادها بل على وجوده بإظهارها لا لها ، فمرجع المنة إليه ، وإن كان إيجاده للرحمة عليها في حال وجودها به كان ذلك عليه لا عليها ، لأن الموجود دونها ، ولكنه موجود وجودا ملتبسا بها كقولهم دخلت عليه بثياب السفر ، وذلك قوله تعالى :وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ[ الأنعام : 9 ] ، فأخبر تعالى أن لبس ما يلبسون إنما هو عليهم لا في نفس الأمر ، وأنهم هم الذين يلبسون والأمر مكشوف في نفسه ،
 
وإذا ظهر الشيء للجاهل على خلاف ما هو عليه ، كان خلاف ما هو عليه من جهة قصور الجاهل ، والشيء في نفسه على ما هو عليه لم يتغير .
قال تعالى :وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ[ الأنعام : 110 ] ، أي بواطنهم وظواهرهم فلا يرون بقلوبهم وأبصارهم إلا ما قلبهم إلى رؤيته فأراهم سبحانه ما أراد لا ما هو في نفس الأمر ، وذلك عين الإضلال منه تعالى لمن أراد أن يضله . 
ثم قال تعالى :كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، أي يصدقوا بالحق تعالى على ما هو عليه إيمانا بالغيب من غير تفكر بعقولهم أول مرة ، وإنما خاضوا فيه بالأفكار وتدبروه بالعقول ، فاستحسنوا أن يكون سبحانه كذا وكذا في خيالهم ، فأثبتوه في اعتقادهم على حد ما وصلوا إليه لا على ما هو عليه في نفس الأمر ، وذلك قوله :وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ[ الأنعام : 110 ] .


وهم جميع أهل النظر ، فعلوا كذلك إلا من حفظ اللّه تعالى منهم فخاض في النظر للرد على المخالفين لا للاعتقاد وقليل ما هم إلا أنه .
أي الشأن لا بد من حكم لسان التفضيل ، أو إثبات الفضائل بين المراتب التي هو ظاهر بها سبحانه لما ظهر ، أي لأجل الأمر الذي ظهر شرعا وعقلا من تفاضل بيان لذلك الأمر الخلق ، أي المخلوقات في العلوم الإلهية حتى يقال إن هذا أعلم من هذا ، أي أكثر علما منه .
وقال تعالى :يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ[ المجادلة : 11 ] .
(مع أحدية العين) ، أي الذات القائمة على كل نفس بما كسبت التي ما تعددت في هذا وهذا وهذا إلا بسبب أسمائها التي ظهرت آثارها .
 .
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:31 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومعناه معنى نقص تعلّق الإرادة عن تعلّق العلم ، فهذه مفاضلة في الصّفات الإلهيّة ؛ وكمال تعلّق الإرادة وفضلها وزيادتها على تعلّق القدرة .
وكذلك السّمع الإلهيّ والبصر وجميع الأسماء الإلهيّة على درجات في تفاضل بعضها على بعض .  كذلك تفاضل ما ظهر في الخلق من أن يقال هذا أعلم من هذا مع أحديّة العين .
وكما أن كلّ اسم إلهيّ إذا قدّمته سمّيته بجميع الأسماء ونعتّه بها ، كذلك فيما ظهر من الخلق فيه أهليّة كلّ ما فوضل به ، فكلّ جزء من العالم مجموع العالم ، أي هو قابل لحقائق متفرّقات العالم كلّه ؛ فلا يقدح قولنا إنّ زيدا دون عمرو في العلم أن تكون هويّة الحقّ عين زيد وعمرو ،ويكون في عمرو أكمل وأعلم منه في زيد ، كما تفاضلت الأسماء الإلهيّة وليست غير الحقّ.)
 
(ومعناه) ، أي معنى قول هذا أعلم من هذا يعني نظر ذلك يرجع في نفس الأمر إلى (معنى نقص تعلق الإرادة) الإلهية (عن تعلق العلم) الإلهي فإنه تعالى يتعلق علمه بالواجب والمستحيل والممكن ولا تتعلق إرادته إلا بالممكن فقط (فهذه مفاضلة) حاصلة (في الصفات الإلهية) وكذلك كما تتعلق الإرادة بجميع الممكنات إلى ما لا نهاية له وفضلها لاقتضائها التقدم في الرتبة وزيادتها على تعلق القدرة الإلهية بما يريد وجوده تعالى من الممكنات ، والإرادة تتعلق بما يريد وجوده وما يريد عدم وجوده .
وكذلك السمع الإلهي والبصر الإلهي كالقدرة الإلهية لا يتعلقان إلا بما يريد اللّه تعالى وجوده لا بما يريد عدم وجوده من المستحيلات بالغير مما يمكن أن يكون عليه الممكن من زيادة أو نقصان أراد الحق تعالى وجود أحدهما وعدم الآخر ونحو ذلك (وجميع الأسماء الإلهية على درجات) متفاوتة (في تفاضل بعضها على بعض) من جهة تعلقاتها .


(كذلك) ، أي مثل هذا التفاضل (في الأسماء تفاضل ما ظهر في الخلق) ، أي في المخلوقات (من أن يقال هذا) الإنسان (اعلم من هذا) الإنسان (مع أحدية العين) المسماة بتلك الأسماء الإلهية كلها والظاهرة بالقيومية في جميع الصور الإنسانية وغيرها (وكما أن كل اسم إلهي إذا قدمته) بالفضيلة لعموم التعلق سميته بجميع الأسماء الإلهية لدخولها تحت حيطته ونعته ، أي ذلك الاسم بها ، أي بجميع الأسماء كما قال تعالى :قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى[ الإسراء : 110] .
(كذلك) القول (فيما ظهر من الخلق ) ، أي المخلوقات فيه ، أي في ذلك الظاهر أهلية ، أي فضيلة كل ما فوضل ذلك الظاهر به فكل جزء من أجزاء العالم بفتح اللام فيه مجموع العالم كله أي هو قابل لحقائق متفرقات العالم كله أن تظهر من ذلك الجزء وأن يتجلى القيوم على جميع العالم على ذلك الجزء بما تجلى به على جميع العالم فلا يقدح في هذا التساوي بين أجزاء العالم قولنا مع ذلك إن زيدا دون عمرو ، أي أقل منه في فضيلة العلم أن تكون هوية الحق تعالى القائمة بصفة القيومية على كل نفس بما كسبت كما قال سبحانه :أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ[ الرعد : 33 ] عين زيد وعين عمرو ومع أنهما عينهما (تكون في عمرو أكمل وأعلم منه في زيد كما تفاضلت الأسماء الإلهية) بعموم التعلق وخصوصه (وليست) كلها (غير الحق
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو تعالى من حيث هو عالم أعمّ في التّعلّق  من حيث ما هو مريد وقادر ، وهو هو ليس غيره . فلا تعلمه يا وليّي هنا وتجهله هنا وتثبته هنا وتنفيه هنا.
إلّا أن أثبّته بالوجه الّذي أثبت نفسه ، ونفيته عن كذا بالوجه الّذي نفى نفسه كالآية الجامعة للنّفي والإثبات في حقّه .  حين قال :"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " فنفى "وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"[ الشورى : 11 ] فأثبت بصفة تعمّ كلّ سامع بصير من حيوان .
وما ثمّ إلّا حيوان إلّا أنّه بطن في الدّنيا عن إدراك بعض النّاس ، وظهر في الآخرة لكلّ النّاس ، فإنّها الدّار الحيوان ، وكذلك الدّنيا إلّا أنّ حياتها مستورة عن بعض العباد ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد اللّه بما يدركونه من حقائق العالم .
فمن عمّ إدراكه كان الحقّ فيه أظهر في الحكم ممّن ليس له ذلك العموم .
فلا تحجب بالتّفاضل وتقول لا يصحّ كلام من يقول إنّ الخلق هويّة الحقّ بعدما أريتك التّفاضل في الأسماء الإلهيّة الّتي لا تشكّ أنت أنّها هي الحقّ ومدلولها المسمّى بها وليس إلّا اللّه تعالى.)
 
فهو تعالى من حيث هو عالم أعم في التعلق ) بالواجبات والممكنات والمستحيلات (من حيث ما هو مريد) تتعلق إرادته بالممكنات فقط ومن حيث ما هو قادر تتعلق قدرته بما يريد وجوده من الممكنات دون ما يريد عدمه منها كما مر .
(و) مع ذلك (هو هو) سبحانه وتعالى (ليس) معه غيره في الوجود المطلق أصلا والكل مراتب ظهوراته وتقادير تجلياته فلا تعلمه هنا ، أي في هذا الظهور يا وليي ، أي صديقي وتجهله هنا ، أي في هذا الظهور الآخر وتثبته ، أي تقر به تعالى هنا ، أي في هذا الظهور الفلاني وتنفيه هنا ، أي في ظهور آخر غيره إلا أن أثبته سبحانه في هذا الظهور الخاص بالوجه الذي أثبت سبحانه نفسه به ونفيته عن كذا أي ظهور آخر بالوجه الذي نفى فيه نفسه تعالى كالآية الجامعة للنفي والإثبات في حقه سبحانه .
حين قال الشيخ رضي الله عنه :  لَيْسَ كَمِثْلِهِ سبحانه شيء وهو أنكر النكرات وقد وقع في سياق النفي فيعم المعقول والمحسوس والموهوم فنفى سبحانه المشابهة بينه وبين كل شيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[ الشورى  : 11] .
فأثبت تعالى المشابهة له بصفة هي السمع والبصر تعم تلك الصفة (كل سامع بصير من حيوان) ، أي جسم نوراني أو ناري أو ترابي حساس متحرك بإرادته (وما ثم) ، أي
 
هناك في الوجود من محسوس ومعقول وموهوم (إلا حيوان إلا أنه) ، أي هذا الأمر بطن ، أي اختفى في الدنيا عن إدراك بعض الناس وهم المحجوبون دون العارفين وظهر في الآخرة لكل الناس فإنها ، أي الآخرة الدار الحيوان كما قال تعالى :وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ[ العنكبوت : 64 ] .
(وكذلك) الحكم (في الدنيا) هي الحيوان أيضا بجميع ما فيها إلا أن حياتها ، أي الدنيا (مستورة عن بعض العباد) من أهل الغفلات واللهو (ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد اللّه) تعالى المحجوبين والعارفين بما يدركونه من حقائق العالم . فمن عم إدراكه فرأى في الدنيا كل شيء حيوان ينطق بتسبيح اللّه تعالى كما قال سبحانه :الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ[ فصلت : 21 ] ، وقال :وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ[ الإسراء : 44 ] .


كان الحق تعالى أظهر في الحكم الإلهي لا في الذات ممن ليس له ذلك العموم في رؤية كل شيء حيوان فلا تحجب يا أيها السالك بالتفاضل الواقع في العالم بين الأشخاص الإنسانية وغيرها وتقول لا يصح كلام من يقول إن الخلق .
أي المخلوقات كلها عين هوية الحق تعالى بصفة القيومية عليها من حيث الوجود الظاهر بكل مرتبة كونية وصورة إمكانية صدرت عنه بطريق الحكم الإلهي والأمر الرباني المعبر عنه بكن فيكون بعدما أريتك التفاضل في الأسماء الإلهية التي لا تشك أنت أنها ، أي تلك الأسماء هي الحق تعالى لأن الاسم عين المسمى من حيث المراد به وهي مدلولها ، أي ما دلت عليه المسمى ذلك المدلول بها ، أي بتلك الأسماء وليس في نفس الأمر ذلك المدلول مع الأسماء إلا اللّه تعالى ، فإنه هو الأسماء والمسمى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّه كيف يقدّم سليمان اسمه على اسم اللّه كما زعموا وهو من جملة من أوجدته الرّحمة .  فلا بدّ أن يتقدّم الرّحمن الرّحيم ليصحّ استناد المرحوم .
هذا عكس الحقائق : تقديم من يستحقّ التّأخير وتأخير من يستحقّ التّقديم في الموضع الذي يستحقّه .
ومن حكمة بلقيس وعلوّ علمها كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب ؛ وما عملت ذلك إلّا لتعلم أصحابها أنّ لها اتّصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها ، وهذا من التّدبير الإلهيّ في الملك ، لأنّه إذا جهل طريق الإخبار الواصل للملك خاف أهل الدّولة على أنفسهم في تصرّفاتهم ، فلا يتصرّفون إلا في أمر إذا وصل إلى سلطانهم عنهم يأمنون غائلة ذلك التّصرّف . فلو تعيّن لهم على يدي من تصل الأخبار إلى ملكهم لصانعوه وأعطوا له الرّشا حتّى يفعلوا ما يريدون ولا يصل ذلك إلى ملكهم . فكان قولها :أُلْقِيَ إِلَيَّ[ النمل : 29 ] ولم تسمّ من ألقاه سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواصّ مدبّريها وبهذا استحقّت التّقدّم عليهم . )
 
(ثم إنه) ، أي الشأن (كيف يقدم سليمان) عليه السلام (اسمه في) كتابه إلى بلقيس (على اسم اللّه) تعالى (كما زعموا) ، أي علماء الرسوم الظاهرة والعقول القاصرة الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم غافلون عن الآخرة والحال هو ، أي سليمان عليه السلام من جملة من أوجدته الرحمة العامة ، لأنه شيء والرحمة وسعت كل شيء ، وكتبت له الرحمة الخاصة ، لأنه من الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
(فلا بد أن يتقدم) ذكر اسمه على اسم اللّه (الرحمن الرحيم ليصح استناد المرحوم) إلى الراحم والأثر إلى المؤثر ، (هذا) الأمر (عكس الحقائق) ، لأنها تعطي تقديم الأصل على الفرع وهنا (تقديم من يستحق التأخير) وهو ذكر الصورة السليمانية التي هي مظهر عند الحس والعقل للحضرة الإلهية الرحمانية الرحيمية (وتأخير من يستحق التقديم ) وهو ذكر الهوية الذاتية الموصوفة بالرحمة العامة والخاصة في الحضرة الاسمائية في الموضع ، أي المقام الذي يستحقه ، أي كل من يستحق التأخير ويستحق التقديم ، فإن خطاب سليمان عليه السلام لبلقيس الكافرة الجاهلة باللّه تعالى يقتضي تقديم صورته المظهرية التي بها يحضر الحق تعالى عند الغافل المحجوب عن شهود الغيب ، فإنه لا يعرف ذلك إلا بالآلة كالمعنى الذي لا يفهمه الجاهل الغبي بالإشارة ، فيقال له بنطق العبارة ثم يذكر له المقصود بعد ذلك ، فيتحقق الفرق بالجمع والجمع بالفرق ، فموضع الخطاب معها يقتضي عكس الحقائق المذكورة ، ولهذا لما أسلمت قدمت ما قدمه سليمان وأخرت ما أخره سليمان على طبق كتابه إليها فقالت :وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ[ النمل : 44 ] .
وذكرت رب العالمين موضع الرحمن المتجلي على عرش الوجود ، والرحيم المتجلي على عرش الإيمان ، إشارة إلى تحققها بالاسمين واطلاعها على الاسم الرب الذي ينزل إلى سماء الدنيا كما ورد « ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا » .رواه أبو داود
 
(ومن حكمة بلقيس) ، أي فطنتها وذكائها وقابليتها للكمال (وعلو) ، أي ارتفاع (علمها) الذي كانت فيه قبل إسلامها بإلهام الحق تعالى لها وإجرائه على قلبها ولسانها من باب نطق الاستعداد لا أثر القوّة الكمالية الإنسانية (كونها) ، أي بلقيس (لم تذكر) لقومها (من ألقى إليها الكتاب) وهو الهدهد الذي كان رسول سليمان عليه السلام إليها فقالَتْ: " يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ" ( 29 ) [ النمل : 29 ] .
وما عملت ، أي بلقيس ذلك ، أي تركت ذكر الهدهد الذي جاء إليها بالكتاب إلا لتعلم أصحابها ، أي قومها أن لها اتصالا .
أي معرفة واطلاعا إلى أمور خفية لا يعلمون طريقها ولا كيفية الوصول إليها .
وهذا الأمر من جملة التدبير الإلهي والتوفيق الرباني لها في سياسة الملك وبقاء السلطنة لها على قومها .
لأنه ، أي الشأن إذا جهل طريق الإخبار عن الأمور الواصل ذلك الإخبار للملك خاف أهل الدولة من العساكر والأجناد على أنفسهم في تصرفاتهم واستيلائهم على ما هو تحت أيديهم من الولايات مخافة أن ينكشف أمرهم من حيث لا يعرفون كيف انكشافه فلا يتصرفون إلا في أمر صحيح بحيث إذا وصل ذلك إلى سلطانهم عنهم وانكشف عنده يأمنون غائلة ذلك التصرف ولا يتأتى عليهم ضرر منه فلو تعين لهم .
أي لأهل الدولة على يدي من يوصل الأخبار عنهم وعن أحوالهم إلى ملكهم لصانعوه .
أي صنعوا إليه المعروف وأهدوا إليه الهدايا وأعظموا .
أي أكثروا له الرشا بالضم جمع رشوة وهو البرطيل « هي الإكرامية غير المستحقة » على سكوته وعدم إخباره عنهم .
حتى يفعلوا في تصرفاتهم ما يريدون من الأفعال ولا يصل خبر ذلك إلى ملكهم .
فكان قولها ، أي بلقيس ألقى بالبناء للمجهول إليّ ، أي ألقى إليّ ملق ولم تسمّ من ألقاه سياسة منها لرعاياها وأرباب ولايتها أورثت ، أي تلك السياسة الحذر.
أي الخوف منها ، أي من بلقيس في أهل مملكتها من الرعية والأجناد وخواص مدبّريها من الوزراء وبهذا الأمر استحقت ، أي بلقيس التقديم عليهم بالملك والسلطنة مع أنها امرأة وهم رجال ، فاقتضت الحكمة الإلهية ملكها عليهم ودخولهم تحت حيطتها ونفوذ أمرها فيهم إن شاؤوا وإن أبوا وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ[ البقرة : 247 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا فضل العالم من الصّنف الإنسانيّ على العالم من الجنّ بأسرار التّصريف وخواصّ الأشياء ، فمعلوم بالقدر الزّمانيّ : فإنّ رجوع الطّرف إلى النّاظر به أسرع من قيام القائم من مجلسه ؛ لأنّ حركة البصر في الإدراك إلى ما يدركه أسرع من حركة الجسم فيما يتحرّك منه ، فإنّ الزّمان الّذي يتحرّك فيه البصر عين الزّمان الّذي يتعلّق بمبصره مع بعد المسافة بين النّاظر والمنظور فإنّ زمان فتح البصر زمان تعلّقه بفلك الكواكب الثّابتة وزمان رجوع طرفه إليه عين زمان عدم إدراكه .
والقيام من مقام الإنسان ليس كذلك . أي ليس له هذه السّرعة .
 فكان آصف بن برخيا أتمّ في العمل من الجنّ ، فكان عين قول آصف بن برخيا عين الفعل في الزّمن الواحد . فرأى في ذلك الزّمان بعينه سليمان عليه السّلام عرش بلقيس مستقرّا عنده لئلا يتخيّل أنّه أدركه وهو في مكانه من غير انتقال . )
 
(وأما فضل) ، أي فضيلة الشخص (العالم) ، أي المتصف بالعلم والإدراك (من الصنف) ، أي النوع (الإنساني) ، أي المنسوب إلى الإنسان وهو الآدمي كوزير سليمان عليه السلام آصف بن برخيا الذي جاء بعرش بلقيس في طرفة عين من سبأ إلى بيت المقدس بدعوة دعا اللّه تعالى بها في ذلك على الشخص العالم ، أي المتصف بالعلم والإدراك من نوع الجن كالعفريت الذي قال لسليمان عليه السلام :أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ[ النمل : 39 ] .
 
وكان سليمان عليه السلام يجلس للحكومة إلى العصر (بأسرار) متعلق بالعالم الأوّل أو الثاني بطريق التنازع (التعريف) في عالم الشهادة (وخواص الأشياء) فالعفريت لا يعلم من القوة الإلهية التي قام بها كل شيء وقدر بها كل شيء إلا مقدار ما تعين منها في صورته وظهر بهويته ، فلهذا قال على مقتضى علمه وإدراكه وآصف بن برخيا رضي اللّه عنه علمها كلها فلم يتعين منها عنده في صورته ولا ظهر بهويته شيء بل أسلم لها إطلاقها ونظرها بها لا به وهي أمر واحد كلمح بالبصر ففعل بها ما فعل وقال ما قال .
 
(فمعلوم) ، أي الفضل والمزية في ذلك (بالقدر الزماني) فانظر كم بين قول العفريت وقول آصف من التفاوت في بطء الزمان وسرعته (فإن رجوع الطرف) لحظ العين (إلى الناظر به) ، أي بالطرف من الناس في قول آصف رضي اللّه عنه قبل أن يرتد إليك طرفك (أسرع من قيام القائم) ، أي الذي يريد القيام من مجلسه الذي هو جالس فيه (لأن حركة البصر في الإدراك) ، أي الرؤية يعني وصوله (إلى ما يدركه)
 
من المبصرات (أسرع من حركة الجسم فيما) ، أي في الموضع الذي (يتحرك) ذلك الجسم منه ، (فإن الزمان الذي يتحرك فيه البصر) إلى الشيء المبصر هو عين الزمان الذي يتعلق بمبصره اسم مفعول ، أي مبصر ذلك البصر مع بعد المسافة بين الناظر والمنظور ، فإن زمان فتح البصر هو عين زمان تعلقه ، أي البصر بفلك الكواكب الثابتة وهو الفلك الثامن مع هذه المسافة الطويلة من الأفلاك السبعة الشفافة والبعد بينها ومقدار مسافة العناصر وكذلك زمان رجوع طرفه ، أي الناظر إليه بعد الإدراك عين زمان عدم إدراكه ، أي الناظر لذلك الشيء وإن بعدت المسافة والقيام من مقام الإنسان ، أي موضع إقامته وهو مجلسه ليس كذلك أي ليس له هذه السرعة التي للمبصر في توجه الطرف ورجوعه .
(فكان آصف بن برخيا ) وزير سليمان عليه السلام (أتم) وأكمل (في العمل من الجن فكان عين قول آصف بن برخيا) المذكور رضي اللّه عنه وهو دعاؤه اللّه تعالى بحضور عرش بلقيس (عين الفعل) الإلهي المكون لعرش بلقيس في بيت المقدس بعد إعدامه من سبأ في الزمن الواحد .
فرأى في ذلك الزمان الواحد بعينه سليمان عليه السلام عرش بلقيس مستقرا عنده ، أي في مجلسه ذلك لئلا يتخيل بالبناء للمجهول له لذكر الاستقرار أنه ، أي سليمان عليه السلام (أدركه) ، أي العرش (وهو) ، أي العرش (في مكانه) ببلاد سبأ من أقصى اليمن (من غير انتقال) لذلك العرش .
 
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولم يكن عندنا باتّحاد الزّمان انتقال ، وإنّما كان إعدام وإيجاد من حيث لا يشعر بذلك إلّا من عرفه ، وهو قوله تعالى :بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ.
ولا يمضي عليهم وقت لا يرون فيه ما هم راؤون له .
وإذا كان هذا كما ذكرناه ، فكان زمان عدمه - أعني عدم العرش - من مكانه عين وجوده عند سليمان من تجديد الخلق مع الأنفاس . ولا علم لأحد بهذا القدر بل الإنسان لا يشعر به من نفسه أنّه في كلّ نفس لا يكون ثمّ يكون .
ولا تقل « ثمّ » تقتضي المهلة ، فليس ذلك بصحيح ، وإنّما « ثمّ » تقتضي تقدّم الرّتبة العلّيّة عند العرب في مواضع مخصوصة كقول الشّاعر : كهزّ الرّديني ثمّ اضطرب
وزمان الهزّ عين زمان اضطراب المهزوز بلا شكّ . وقد جاء بثمّ ولا مهلة .
كذلك تجديد الخلق مع الأنفاس : زمان العدم زمان وجود المثل كتجديد الأعراض في دليل الأشاعرة . )
 
(ولم يكن عندنا) معشر المحققين من أهل اللّه تعالى (باتحاد الزمان) ، أي بسبب كونه واحدا (انتقال) للعرش من مكان إلى مكان كما يجد ذلك أهل الغفلة والحجاب في كل شيء يتحوّل من مكانه (وإنما كان) ذلك الانتقال في العرش (إعدام) له من سبأ (وإيجاد له) في بيت المقدس كما كان في سبأ كذلك ينعدم ويوجد كل لمحة من حيث لا يشعر أحد بذلك إلا من عرفه من المحققين الإلهيين دون الجاهلين المحجوبين .
(وهو) ، أي هذا الحكم مقتضى قوله تعالى :بَلْ هُمْ، أي الناس الجاحدون للإعادةفِي لَبْسٍ، أي التباس عليهممِنْ خَلْقٍ، أي إيجاد لكل شيءجَدِيدٍ[ ق : 15 ] غير الإيجاد الأوّل .
وقال تعالى :وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ( 50 ) [ القمر : 50 ] ، وهو باطن الخلق والخلق ظاهر الأمر . وقال تعالى :أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ[ الإعراف : 54 ] ،
وقال :خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ[ الأنعام : 73 ] ، وهو الأمر الذي قال فيه :وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ[ الروم : 25 ] ، وقال :ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ[ الطلاق : 5 ] إلى غير ذلك من شواهد الحال في هذه المسألة ولا يمضي عليهم ، أي على الذين هم في الالتباس وقت لا يرون فيه ، أي في ذلك الوقت ما ، أي الذي هم راؤون له من جميع المخلوقات المحسوسة والمعقولة .
 
(وإذا كان هذا) الأمر (كما ذكرناه) في الالتباس من الخلق الجديد (فكان زمان عدمه أعني) زمان (عدم العرش) ، أي عرش بلقيس (من مكانه) في سبأ عين زمان وجوده ، أي العرش (عند سليمان عليه السلام) في بيت المقدس من جملة تجديد الخلق ، أي المخلوقات دائما مع الأنفاس فكل نفس يذهب بخلق ويأتي بخلق آخر جديد مثل الأوّل بل لا مثل لكل خلق ، لأن التجليات لا تتكرر فالآثار لا تتكرر ولا علم لأحد من الناس بهذا القدر أصلا إلا من كشف اللّه تعالى عن بصيرته فأراه ربه ما لا يراه غيره ببصره ولا بقلبه بل الإنسان المحجوب لا يشعر به ، أي بهذا التجديد في الخلق من نفسه أنه في كل نفس بفتح الفاء لا يكون ، أي لا يوجد ثم يكون ، أي يوجد فكيف يشعر بذلك من غيره ولا تقل يا أيها الإنسان كلمة .
(ثم تقتضي المهلة) ، أي التراخي بين المتعاطفين بها مع الترتيب بينهما (فليس ذلك) ، أي اقتضاؤها المهلة في جميع مواضعها (صحيح وإنما) كلمة ثم تقتضي تقدم (الرتب العلية) التي بين المتعاطفين بها (عند العرب) ، أي في لغتهم من غير
 
اقتضاء مهلة لذلك (في مواضع مخصوصة) من الكلام كقول الشاعر من شعراء العرب .
(كهز الرديني) وهو الرمح (تحت العجاج) ، أي الغبار في الحرب (جرى) ، أي الهز (في الأنابيب) ، أي أنابيب الرمح جمع أنبوبة وهي العقدة منه ثم اضطرب ، أي ذلك الرديني ومعلوم أن زمان الهز هو (عين زمان اضطراب المهزوز بلا شك) ، عند أحد في ذلك وقد جاء هذا القائل في كلامه بثم ولم يأت بالفاء المقتضية للفور ولا مهلة في الكلام هنا ، فليست ثم للمهلة دائما بل تخرج عن ذلك في مواضع مخصوصة من كلام العرب هنا ما ذكر كذلك تجديد الخلق ، أي المخلوقات مع الأنفاس من حيث ابتداء اللّه تعالى المخلوقات إلى الأبد فيكون زمان العدم ، أي عدم المخلوق هو عين زمان وجود المثل ، أي المخلوق الآخر الذي هو مثل ذلك المخلوق الأول (كتجديد الأعراض) جمع عرض بالتحريك وهو ما لا قيام له بنفسه (في دليل الأشاعرة) من علماء الكلام لأنهم يقولون بامتناع بقاء العرض زمانين ،
بل قال بعضهم : القول بامتناع بقاء العرض أصلا أحسن من القول بامتناع بقائه زمانين ، لأنه يلزم من انتفاء البقاء زمانين ثبوت البقاء زمانا واحدا ، فيلزم من ذلك أن يوجد العرض في زمان ويبقى في زمان ويعدم في زمان ، وهم نفوا زمانين فأين ثلاثة أزمنة . وقالوا : لو بقي العرض لكان القاء عرضا فلزم قيام العرض بالعرض وهو محال لأن العرض يقوم بالجرم لا بعرض مثله وسبق الكلام معهم في بقاء الأجسام .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنّ مسألة حصول عرش بلقيس من أشكل المسائل إلّا من عرف ما ذكرناه آنفا في قصّته .
فلم يكن لآصف من الفضل في ذلك إلّا حصول التّجديد في مجلس سليمان عليه السّلام .
فما قطع العرش مسافة ، ولا زويت له أرض ولا خرقها لمن فهم ما ذكرناه .
وكان ذلك على يدي بعض أصحاب سليمان ليكون أعظم لسليمان في نفوس الحاضرين من بلقيس وأصحابها .
وسبب ذلك كون سليمان هبة اللّه تعالى لداود عليهما السّلام من قوله تعالى : وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ[ ص : 30 ] . والهبة عطاء الواهب بطريق الإنعام لا بطريق الجزاء الوفاق أو الاستحقاق .  فهو النّعمة السّابغة والحجّة البالغة والضّربة الدّامغة . )
 
(فإن مسألة حصول عرش بلقيس) من سبأ في بيت المقدس قبل ارتداد الطرف (من أشكل المسائل) في الدين (إلا عند من عرف ما ذكرناه آنفا) ، أي قريبا في قصّته العرش من أنه إعدام من مكان وإيجاد في مكان لا بطريق الانتقال ، لأنه من الخلق الجديد الواقع في كل شيء في مكان واحد أو في أماكن (فلم يكن لآصف) بن برخيا الذي جاءه بالعرش بدعوته من الفضل ، أي الفضيلة في ذلك الأمر إلا حصول التجديد للعرش في مجلس سليمان عليه السلام بمثل التجديد الذي كان له وهو في سبأ .
 
(فما قطع العرش) بانتقاله (مسافة) أصلا ، (ولا زويت) ، أي طويت (له أرض) حتى حصل بسرعة (ولا خرقها) ، أي الأرض كما هو عند المحجوبين من علماء الرسوم (لمن فهم ما ذكرناه) من تجديد الخلق (وكان ذلك) الحصول للعرش بسرعة (على يدي بعض أصحاب سليمان) عليه السلام وهو آصف بن برخيا وزير سليمان عليه السلام وابن خالته ، ولم يكن ذلك على يدي سليمان عليه السلام ليكون ذلك (أعظم لسليمان عليه السلام في نفوس الحاضرين) عنده من بلقيس بيان للحاضرين (وأصحابها) الذين جاؤوا معها .


(وسبب ذلك) ، أي حصول هذا الأمر الخارق للعادة على يدي بعض أصحاب سليمان عليه السلام زيادة في تعظيمه في نفوس أعدائه (كون سليمان عليه السلام موهبة) ، أي عطية اللّه تعالى لداود أبيه عليهما السلام أخذا من قوله تعالى "وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ " [ ص : 30 ] ، (والهبة إعطاء الواهب بطريق الإنعام) على المعطى له (لا بطريق الجزاء) على العمل الوفاق ، أي الموافق لمقدار العمل أو بطريق الاستحقاق إذ لا يستحق أحد على اللّه تعالى شيئا فهو ، أي سليمان عليه السلام النعمة على أبيه داود عليه السلام السابغة ، أي الواسعة كما يقال : درع سابغ وثوب سابغ ، أي واسع على لابسه يستر بدنه كله والحجة ، أي الدليل والبرهان على أعداء الحق البالغة ، أي القوية المتينة والضربة في الكفر والباطل وأهله الدامغة ، أي الواصلة إلى الدماغ بحيث لا برء منها هذا من حيث حاله عليه السلام وهمته وشأنه في نفسه .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:32 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا علمه فقوله تعالى :فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ مع نقيض الحكم وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً[ الأنبياء : 79 ] . فكان علم داود علما مؤتى آتاه اللّه ، وعلم سليمان علم اللّه في المسألة إذ كان هو الحاكم بلا واسطة . فكان سليمان ترجمان حقّ في مقعد صدق . كما أنّ المجتهد المصيب لحكم اللّه الّذي يحكم به اللّه في المسألة أو تولّاها بنفسه أو بما يوحى به لرسوله له أجران ، والمخطيء لهذا الحكم له أجر مع كونه علما وحكما . )

(وأما علمه) ، أي سليمان عليه السلام فقوله ، أي اللّه (تعالى "فَفَهَّمْناها")، أي الحكومة في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم أي الزرع الذي أكلته غنم الغير ("سُلَيْمانَ") عليه السلام ، فحكم أن صاحب الزرع يأكل من لبن الغنم حتى ينبت زرعه كما كان ، ثم يرد الغنم على أهله (مع نقيض الحكم) من أبيه داود عليه السلام وهو حكمه بالغنم ملكا لصاحب الزرع وَكُلًّا، أي كل واحد منهما آتاه اللّه تعالى حُكْماً، وهو سليمان عليه السلام وَعِلْماً وهو داود عليه السلام بقوله سبحانه :وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً[ الأنبياء : 79 ] .

فكان علم داود عليه السلام الذي آتاه اللّه تعالى له علما يؤتى ، أي يؤتيه اللّه تعالى لمن شاء وهو العلم الحادث وعلم سليمان عليه السلام هو علم اللّه تعالى القديم في هذه المسألة ، وهو العلم اللدني الذي قال اللّه تعالى في الخضر عليه السلام آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا[ الكهف : 65 ] وهو الوجود الذي قام به وكشف عنه وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً[ الكهف : 65 ] .

أي علما من عندنا ، وهو علم اللّه تعالى القائم بذلك الوجود المطلق عين الوجود المطلق ، فالخضر لموسى عليه السلام كسليمان لداود عليه السلام ، فالخضر على علم علمه اللّه تعالى لا يعلمه موسى عليه السلام ، وموسى عليه السلام على علم لا يعلمه الخضر عليه السلام كما ورد ذلك عن الخضر في الخبر الصحيح .

ومع ذلك فما علم الخضر وعلم موسى عليهما السلام في علم اللّه تعالى إلا كما أخذ العصفور بفمه من ماء البحر كما قال الخضر ذلك لموسى عليه السلام كما ورد به الحديث الصحيح .

 لأن علم الخضر عليه السلام في كل مسألة عين علم اللّه تعالى بها ، وعلمه تعالى بمسألة عين علمه لكل مسألة إلى ما لا نهاية له ، ولكن لما قوبل بعلم موسى عليه السلام الذي آتاه اللّه تعالى له على حسب استعداده واستعداد المكلفين به ، انقسم ذلك ، فانتسب إلى المطلق بما أخذ العصفور من ماء البحر . وكذلك علم سليمان مع داود عليهما السلام .

 ولما كان سليمان هبة لداود عليهما السلام لم يعترض عليه داود كما اعترض موسى على الخضر عليهما السلام ؛ ولهذا قال له :إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً[ الكهف : 67 ] ، وتقدير الكلام ، لأن علمك من علمه ، نزل لك على حسب استعدادك واستعداد قومك ، وعلمي عين علمه صعدت إليه أنا بالفناء عني وعن كل ما سواه لا هو نزل إليّ ، وصرح له بذلك فقال : وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ، وهو علم اللّه تعالى ، وهما الملكان : أحدهما النازل والآخر الصاعد كما ورد في الحديث . فالنازل يقول موسى أعلم من الخضر ، والصاعد يقول الخضر أعلم من موسى إذ ، أي لأنه كان ، أي سليمان عليه السلام هو الحاكم الحق بلا واسطة نفس منه واللّه يحكم لا معقب لحكمه . وكان سليمان عليه السلام ترجمان حق لحكم الحق تعالى بلسانه فيما حكم بهفِي مَقْعَدِ صِدْقٍ[ القمر : 55 ] ،
وهو حضرة الثبوت العلمي مكشوفا عنه بالوجود الحقيقي .


(كما أن المجتهد) في شريعتنا في مسألة من المسائل (المصيب لحكم اللّه) تعالى (الذي يحكم به اللّه) سبحانه في تلك المسألة لو تولاها ، أي تلك المسألة فحكم بها اللّه تعالى بنفسه من غير واسطة أحد وبما يوحى به من الشريعة لرسول من رسله عليهم السلام كان له ، أي لذلك المجتهد على حكمه المذكور في تلك المسألة أجران : أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الحق والمخطىء في اجتهاده لهذا الحكم المعين الذي يحكم به اللّه لو حكم بلا واسطة ويحكم به رسوله بالوحي عنه له أجر واحد على اجتهاده فقط كما ورد في الحديث : « من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد » مع كونه ،

 أي مما حكم به المجتهد في الصواب والخطأ علما وحكما فهو في الصواب حكم وفي الخطأ علم ، وإن لم يشعر بذلك لاستعماله العقل والفكر في اجتهاده ، فهو على غير بصيرة ، وإن أعطاه اللّه تعالى الأجر فليسوا من ورثة الأنبياء إلا من حيث كونهم حاملين لعلوم العقل من الكتاب والسنة ، لا من حيث علومهم التي استنبطوها ، وإن أقرهم عليها الشارع ، لأن علوم الأنبياء عليهم السلام ليست اجتهادية ظنية كعلوم المجتهدين ولا تحتمل الخطأ أصلا ، وإنما ورثتهم من كل وجه أهل الباطن المحققون . قال تعالى :قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[ يوسف  : 108] الآية .

وإن كانت هذه العلوم الباطنية اللدنية حاصلة للمجتهدين أيضا مع علوم اجتهادهم ، فإنهم ورثة الأنبياء من تلك الحيثية لا من حيث علوم الاجتهاد ، وهذا مرادنا بالمجتهد من حيث ما هو مجتهد لا من حيث ما هو عارف صاحب كشف وبصيرة إن كان كذلك .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأعطيت هذه الأمّة المحمّديّة رتبة سليمان - عليه السّلام - في الحكم ، ورتبة داود - عليه السّلام - . فما أفضلها من أمّة .
ولمّا رأت بلقيس عرشها مع علمها ببعد المسافة واستحالة انتقاله في تلك المدّة عندهاقالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ[ النمل : 42 ] وصدقت بما ذكرناه من تجديد الخلق بالأمثال ، وهو هو ، وصدق الأمر ، كما أنّك في زمان التّجديد عين ما أنت في الزّمن الماضي .
ثمّ إنّه كمال علم سليمان التّنبيه الّذي ذكره في الصّرح .
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ وكان صرحا أملس لا أمت فيه من زجاج .
فلمّا رأته حسبته لجّة أي ماء وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها[ النمل : 44 ] .
حتّى لا يصيب الماء ثوبها . فنبّهها بذلك على أن عرشها الّذي رأته من هذا القبيل وهذا غاية الإنصاف . فإنّه أعلمها بذلك إصابتها في قولها :كَأَنَّهُ هُوَ[ النمل: 42 ] . )
فقالت عند ذلك :" رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ أي إسلام سليمان لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ" [ النمل : 44 ] . )

(فأعطيت )، أي أعطى اللّه تعالى علماء (هذه الأمة المحمدية) الحاملون لعلوم النقل منهم وهم المجتهدون (رتبة سليمان عليه السلام في الحكم) إن أصابوا ورتبة داود عليه السلام في العلم إن أخطأوا يعني ثواب ذلك وهو الأجران : على الصواب والأجر على الخطأ (فما أفضلها من أمة) حيث أدركت ثواب النبيين في ذلك .

ولما رأت بلقيس عرشها مستقرا عند سليمان عليه السلام مع علمها ، أي بلقيس ببعد المسافة بين بلادها وبيت المقدس وعلمها استحالة انتقاله ، أي العرش في تلك المدة القليلة التي فارقت عرشها فيها وهو في بلادها عندها ، أي النسبة إليها .

وقد علم بحالها ذلك سليمان عليه السلام لما قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ( 41 ) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هو "النمل: 41 - 42 ]

، أي هذا العرش "هُوَ"، أي عرشها وصدقت في قولها ذلك بما ، أي بسبب الذي ذكرناه من تجديد الخلق ، أي المخلوقات بالأمثال في كل لمحة ومع ذلك التجديد هو ، أي الخلق بحاله في عين الغافل المحجوب الذي لا شعور عنده بالتجديد المذكور ، فلم يلزم أن يكون غير الخلق الأول عند المكلفين بالأمر الشرعي حتى يقتضي كذب الأمر بتكليف ما لا يمكن بقاؤه ، أو غير ما كلف ولهذا قال :
(وصدق الأمر) الشرعي المتوجه على المكلفين مع تجديدهم في كل لمحة

 
(كما أنك) يا أيها المكلف في عالم كونك مخلوقا (في زمان التجديد) لك في عالم الأمر الإلهي الذي أنت وكل شيء قائم به عين ما أنت في الزمن الماضي فعالم رؤية المخلوقات كلها على ما هي عليه متصوّرة بالصورة المختلفة في الحس والعقل هو عالم الخلق وهو الذي فيه المخلوقات موصوفون بالصفات ، وفيه الأشياء موجودة ، وفيه التكليف بالأمر والنهي ، وهو عالم الشهادة وعالم الملك .

قال تعالى :" تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( 1 )" [ الملك : 1 ] ، وعالم رؤية المخلوقات كلها ظاهرة من العدم راجعة إلى العدم كلمح بالبصر من غير استقرار شيء أصلا في الحس ، والعقل هو عالم الأمر الذي قال تعالى :أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ[ الأعراف : 54 ] ، وهو عالم الغيب وعالم الملكوت الذي قال تعالى :وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ( 75 ) [ الأنعام : 75]

، وقال تعالى :الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[ يس : 83 ] ، وليس المخلوقات في هذا العالم موصوفين بالصفات أصلا إلا باعتبار العالم الأوّل ، وإنّما الأوصاف فيه كلها راجعة إلى الحق تعالى ، وفيه يكون الحق سمع العبد وبصره ولا يتصوّر تكليف ولا مكلف أصلا ، لأن الأشياء كلها فيه هالكة كما قال تعالى :كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ[ القصص : 88 ] وكُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ( 26 ) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ( 27 ) [ الرحمن : 26  27 ] .

ولا يبقى فيه العارف أكثر من لمح بالبصر في شهوده ، ويقع الغلط للسالك في هذا العالم كثيرا ، ويظن أنه ساقط التكليف في وقت شهوده طرفا من ذلك ، فيكفر بالجحود للقواطع الشرعية المتوجهة عليه وهو لا يشعر فتنطمس بصيرته عن الترقي ويحسبون أنهم مهتدون .


(ثم إنه) ، أي الشأن (من كمال علم سليمان) عليه السلام (التنبيه) ، أي الإيقاظ والتفهيم لبلقيس الذي ذكره ، أي تذكره في الصرح الممرد من قوارير أي زجاج صاف فقيل لها ، أي بلقيس ادْخُلِي الصَّرْحَ، وهو القصر وكل بناء عال وكان ، أي ذلك الصرح صرحا أملس ، أي ناعما صافيا (لا أمت) ، أي لا ارتفاع .

قال تعالى :لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً( 107 ) [ طه : 107 ] ، أي لا انخفاض ولا ارتفاع فيه ، أي في ذلك الصرح من زجاج أبيض ، وهو نظير عرشها اتخذه سليمان عليه السلام يشبه السرير على وجه الأرض " فَلَمَّا رَأَتْهُ " أبيض صافيا يتلألأ من بريقه ولمعانه في شعاع الشمس "حَسِبَتْهُ لُجَّةً"، أي ماء يترقرق .

(فكشفت) ، أي بلقيس ("عَنْ ساقَيْها" حتى لا يصيب) ذلك (الماء ثوبها فنبهها) ، أي سليمان عليه السلام (بذلك) ، أي بأمرها بدخول الصرح على أن عرشها الذي رأته مستقرا عنده من هذا القبيل ، أي ليس هو بعرشها في عالم الأمر

الإلهي ، وهو عرشها في عالم الخلق الرحماني ، وهي في توهم في كل ما هي متحققة به كما توهمت الزجاج ماء ، وأثر ذلك التوهم في نفسها حتى كشفت عن ساقيها لتخوض في ذلك الماء الذي رأته ، وهو زجاج على خلاف ما ترى ، فنبهها بذلك على الأمر العظيم .

(وهذا)  من سليمان عليه السلام (غاية الإنصاف فإنه) ، أي سليمان عليه السلام (أعلمها بذلك) الأمر (إصابتها) ، أي كونها مصيبة في قولها ، أي بلقيس عن عرشها كَأَنَّهُ هُوَ فعلمت أنها في توهم من أمرها وشأنها كله فقالت عند ذلك رَبِّ، أي يا رب إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي في جميع ما كنت أعتقده من أمر الدين ، حيث رأت نفسها متوهمة في كل ما تعتقده في محسوساتها الدنيوية ، فكيف بمعقولاتها الدينية وَأَسْلَمْتُ، أي دخلت في دين الإسلام مَعَ سُلَيْمانَ عليه السلام أي إسلام سليمان عليه السلام: لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ[ النمل : 44 ] ، أي مالكهم والعالم بهم على ما هم عليه في أنفسهم من غير توهم في علمه تعالى .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما انقادت لسليمان وإنّما انقادت للّه ربّ العالمين ، وسليمان من العالمين .  فما تقيّدت في انقيادها كما لا تتقيّد الرّسل في اعتقادها في اللّه .
بخلاف فرعون فإنّه قال : رَبِّ مُوسى وَهارُونَ( 48 )
وإن كان يلحق بهذا الانقياد البلقيسي من وجة ، لكن لا يقوى قوّته فكانت أفقه من فرعون في الانقياد للّه . 
وكان فرعون تحت حكم الوقت حيث قال :" آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ " [ يونس : 90 ] »
فخصّص ، وإنّما خصص لما رأى السّحرة قالوا في إيمانهم باللّه :رَبِّ مُوسى وَهارُونَ( 48 ) [ الشعراء : 48 ] . )



(فما انقادت) ، أي بلقيس بإسلامها (لسليمان) عليه السلام (وإنما انقادت) بإسلامها (لرب العالمين وسليمان ) عليه السلام من جملة العالمين الذين أسلمت بلقيس لربهم فما تقيدت ، أي بلقيس في انقيادها للّه تعالى بقيد أصلا كما لا تتقيد الرسل عليهم السلام في اعتقادها ، أي طائفة الرسل في اللّه تعالى بقيد أصلا من كمال الإيمان بخلاف فرعون حين أسلم وآمن لما أدركه الغرق فإنه
قال الشيخ رضي الله عنه :  آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ[ يونس : 90 ] ، وخصص إيمانه من تخصيص السحرة ، وتقدير ذلك آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل" رَبِّ مُوسى وَهارُونَ( 122 ) [ الأعراف : 122 ] .
فإنه مرجع كلامه ، (وإن كان) ، أي فرعون ( يلحق بهذا الانقياد) ، أي الإسلام (البلقيسي) ، 
أي الذي فعلته بلقيس من وجه وهو ذكر ربوبيته لموسى وهارون عليهما السلام في تقدير كلامه ، فكان نظير ذكر معية سليمان عليه السلام وربوبيته للعالمين في إيمان بلقيس .

(ولكن لا يقوى) ، أي انقياد فرعون (قوته) ، أي قوّة انقياد بلقيس لصريح المعية فيه وظهور الإطلاق في ربوبيته للعالمين وإن لزم ذلك في انقياد فرعون بتقدير ذكر موسى وهارون عليهما السلام انقيادهما مطلق من القيود ، وهو ربوبية العالمين ، وذلك هو الذي آمنت به بنو إسرائيل ، وأسلم له فرعون في قوله :وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ[ يونس : 90 ]
وهم السحرة الذين آمنوا برب العالمين " رَبِّ مُوسى وَهارُونَ( 122 )"  
وقد كان قال لهم :" آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ " [ الأعراف : 123 ] ،

فبقي في نفسه ما آمنوا به ، فلما آمنوا أتى هو بذلك في كلامه فكانت ، أي بلقيس أفقه ، أي أكثر فقها ، أي فهما في الدين من فرعون في الانقياد للّه تعالى لمعرفتها كيف تؤمن لما آمنت ، وذلك لسلامتها مما وقع فيه فرعون من المهلكة في وقت الإيمان .


(وكان فرعون) داخلا (تحت حكم الوقت) الذي كان فيه (حيث قال) حين أدركه الغرق آمنت ، أي صدقت بالذي آمنت ، أي صدقت به بنو إسرائيل ، أي أولاد يعقوب وهم قوم موسى عليه السلام ، لما رآهم نجوا من الغرق بإيمانهم ، فطمع في النجاة فآمن مثل إيمانهم كي ينجو هو كنجاتهم ، فكان إيمانه إيمان طمع محقق لا إيمان يأس من الحياة ، ولهذا قبل منه وعوتب على تأخيره فخصّص ، أي فرعون إيمانه بإيمان بني إسرائيل وإنما خصص بذلك إيمانه لما رأى السحرة قالوا في إيمانهم باللّه تعالى آمنا برب العالمين رَبِّ مُوسى وَهارُونَ( 122 ) . "

وفي موضع آخر من القرآن قالوا :"آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى"طه : 70 ] ، وإن كان الواو لا تقتضي ترتيبها فإنهم لما قالوا ذلك بلغتهم ترجمة اللّه تعالى لنا بالعربية فقدم في الترجمة ذكر موسى وتارة ذكر هارون ويحتمل أن بعضهم قدم ذكر موسى وبعضهم قدم ذكر هارون فقصه اللّه تعالى .

والظاهر أن تقديم ذكر هارون مراعاة لفواصل الآيات والأصل تقديم ذكر موسى وقول بعضهم ، لأن فرعون هو الذي ربى موسى فلو قدموا ذكره في إيمانهم لتوهم فرعون أنهم أمنوا به يرده ذكر هارون بعده ويبقى التوهم في تلك الآية التي قدم فيها ذكر موسى ، وقد وجد في كلام فرعون ما يرده وهو قوله :" آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ " ولم يقل بي فصرح بتحققه بإيمانهم باللّه تعالى .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان إسلام بلقيس إسلام سليمان إذ قالت :مَعَ سُلَيْمانَفتبعته .
فما يمرّ بشيء من العقائد إلّا مرّت به معتقدة ذلك . كما نحن على الصّراط المستقيم الّذي الرّبّ تعالى عليه لكون نواصينا في يده . ويستحيل مفارقتنا إيّاه .
فنحن معه بالتضمين وهو معنا بالتّصريح ، فإنّه قال :وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [ الحديد : 4 ] ونحن معه بكونه آخذا بنواصينا .
فهو اللّه تعالى مع نفسه حيثما مشى بنا من صراطه ، فما أحد من العالم إلّا على صراط مستقيم وهو صراط الرّبّ تعالى .
وكذلك علمت بلقيس من سليمان فقالت :لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [ النمل : 44 ] وما خصّصت عالما من عالم . )


(فكان إسلام بلقيس) هو (إسلام سليمان) عليه السلام (إذ) ، أي لأنها (قالت) ، أي بلقيس (مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فتبعته) ، أي بلقيس تبعت سليمان عليه السلام (فما يمر بشيء من العقائد) الإيمانية إلا مرت ، أي بلقيس به ، أي بذلك الشيء معتقدة ذلك بقلبها وهذا معنى معيتها في الإسلام لسليمان عليه السلام كما نحن معشر المخلوقات كلها إن علمت وإن جهلت فإن علمت انتفعت بعلمها وكانت على بصيرة من أمرها وعلى هدى من اللّه تعالى ، وإن جهلت تضررت بجهلها وكانت على عمى وضلالة .


قال تعالى :" فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها" [ يونس : 108 ] على الصراط ، أي الطريق المستقيم من غير اعوجاج ولا ميل عن الحق أصلا أي الرب سبحانه عليه لكون نواصينا ، أي رؤوسنا موضع العقل والتدبير والإرادة والقصد للأمور كلها في يده تعالى يتصرف فينا كيف يشاء كما قال سبحانه :" ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" [ هود : 56 ] .

والدابة كل ما دب من العدم إلى الوجود كما مر في فص هود عليه السلام ويستحيل عقلا وشرعا مفارقتنا معشر المخلوقات إياه تعالى ، أي انفصالنا عنه كما يستحيل اتصالنا به .

 
(فنحن) كلنا (معه) ، أي مع الحق تعالى أينما كان ، أي في أي حضرة من حضرات أسمائه سبحانه نزل فيها وتجلى بها ولكن بالتضمين ، أي من حيث اقتضاء الآية المذكورة لذلك وهو بطريق التبعية لأنا آثار أسمائه فمعيتنا له أثرية لا مؤثرية كمعيته تعالى لنا فنحن به معه لا بنا معه وهو به معنا لا بنا معنا ، لأنه الغني عنا ونحن المفتقرون إليه تعالى ، فلولاه لما كنا معه وهو سبحانه معنا بالتصريح ، إذ لو لم يكن معنا لما كنا ، فكونه معنا عين وجودنا به ، وكوننا معه عين ظهوره بنا

 
(فإنه) تعالى (قال) مصرحا بمعيته لنا (وهو معكم أينما كنتم) ، أي في أي حالة كنتم فيها وصورة تصورتم بها (ونحن معه) سبحانه بكونه تعالى (آخذا بنواصينا) ، أي قيوما علينا يتصرف بنا كيف شاء ، فمعيتنا له عين معيته لنا ، فهو قيوم علينا لا قيام لنا إلا به فهو معنا من هذا الوجه ونحن معه كذلك ، ولكنه من طرفه بالإرادة ومن طرفنا بالاضطرار فهو تعالى حينئذ مع نفسه سبحانه حيث ما مشى بنا ، أي تصرف فينا ظاهرا وباطنا بإظهارنا لنا ورؤيتنا بنا من صراطه المستقيم وهو عطاؤه الفضل ومنه العدل . وحكمه الفضل وظهور فرعه بما يقتضيه الأصل .

 
(فما أحد من العالم) في الحس والعقل (إلا على صراط مستقيم) بحكم التبعية لمالك النواصي وقاهر الأعداء في الصياصي وهو ، أي الصراط المستقيم صراط الرب تعالى الذي يمشي به فينا ، أي يتصرف فيه بنا فيظهر بأوصافه وأسمائه ويبطن بذاته وهويته وهما قدم التجلي وقدم الاستتار ولذا ، 
أي لكون الأمر كذلك علمت بلقيس من سليمان عليه السلام ، أي صارت عالمة منه لإسلامها بحكم التبعية له ، كما أنّا مع الحق تعالى بحكم التبعية له ، وهو سبحانه على صراط مستقيم في جميع شؤونه ، فنحن كذلك على صراط مستقيم في جميع شؤوننا ، ولا يضر إلا الجهل بما الأمر عليه في نفسه ، ومنه ظهرت المعاصي والمخالفات .
 

فقالت أي بلقيس :وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمان َلِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فأطلقت إسلامها للّه في جميع حضراته سبحانه لإطلاق الربوبية في جميع العوالم وما خصصت عالما من عالم وهذا كله استفادته من حكم التبعية لسليمان عليه السلام في الإسلام من غير استقلال لها في ذلك ، لأنها لو استقلت دخلت تحت حكم عقلها وحسها ، فيلزم من ذلك التخصيص ، ويكون عقدها مخصوصا بصورة التجلي فتفتضح يوم التحوّل في الصور يوم القيامة ، فمعيتها لسليمان عليه السلام أنتجت لها حكم الإطلاق كما نقول ذلك في المقلدين في عقائدهم لما جاءت به الرسل ، ووردت به الكتب من غير تأويل ولا تشبيه إذا أسلموا لها كإيمان السلف الصالحين ، ومن هنا قيل : من لا شيخ له فشيخه الشيطان ، وورد في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب من هذه الأمة. رواه البخاري ومسلم

أن مع كل واحد منهم سبعين ألفا ، أي يؤمنون كإيمانهم ويسلمون معهم للّه رب العالمين ، وأصلها معية الأنبياء والمرسلين .

قال اللّه تعالى :وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ( 69 ) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً( 70 ) [ النساء : 69 - 70 ] ، والمراد الطاعة فيما ورد في الكتاب والسنة مع الإسلام له على حسب ما هو عليه ، كما نقل عن الإمام الشافعي رضي اللّه عنه أنه كان يقول : آمنت باللّه وبما جاء عن اللّه على مراد اللّه وآمنت برسول اللّه وبما جاء به رسول اللّه على مراد رسول اللّه .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا التّسخير الّذي اختصّ به سليمان وفضّل به على غيره وجعله اللّه له من الملك الّذي لا ينبغي لأحد من بعده فهو كونه عن أمره . فقالفَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ[ ص : 36 ] .
فما هو من كونه تسخيرا ، فإنّ اللّه يقول في حقّنا كلّنا من غير تخصيص :وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [ الجاثية : 13]
. وقد ذكر تسخير الرّياح والنّجوم وغير ذلك ولكن لا عن أمرنا بل عن أمر اللّه . فما اختصّ سليمان - إن عقلت - إلّا بالأمر من غير جمعيّة ولا همّة ، بل بمجرّد الأمر .
وإنّما قلنا ذلك لأنا نعرف أنّ أجرام العالم تنفعل لهمم النّفوس إذا أقيمت في مقام الجمعيّة .
وقد عاينّا ذلك في هذا الطّريق . فكان من سليمان مجرّد التّلفّظ بالأمر لمن أراد تسخيره من غير همّة ولا جمعيّة . )


(وأما التسخير) ، أي تسخير العوالم واستخدامها (الذي اختص به سليمان) عليه السلام (وفضل به غيره) ، أي صار بسببه أفضل من غيره وجعله ، أي ذلك التسخير اللّه تعالى له ، أي لسليمان عليه السلام من جملة الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده فهو كونه ، أي ذلك التسخير عن أمره ، أي عن أمر سليمان عليه السلام فقال اللّه تعالى عنه فسخرنا له الريح تجري كيف شاء بأمره ، أي بأمر سليمان عليه السلام فما هو ، أي اختصاص سليمان عليه السلام بالتسخير من كونه ، أي ذلك التسخير تسخيرا ، فإن اللّه تعالى يقول في حقنا معشر بني آدم كلنا من غير تخصيص بإنسان منا دون إنسانوَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً[ الجاثية : 13 ] ، أي أمر الكل بالانقياد إليكم واستخدمهم في
حساب أعطاني مع كل واحد منهم سبعين ألفا فقلت : يا رب أمتي لا تسع هذا فقال : أكملهم لك من الأعراب   .
حوائجكم ومصالحكم الدينية والدنيوية منه ، أي تسخيرا كائنا منه لا منكم ، أي عن أمره تعالى لا عن أمركم .
(وقد ذكر) تعالى أيضا (تسخير الرياح) لنا (والنجوم وغير ذلك ولكن لا من أمرنا) نحن (بل عن أمر اللّه تعالى) .
قال تعالى :" وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ " [ الأعراف : 54 ] ،
وقال تعالى " وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ( 33 ) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ " [إبراهيم : 32 - 34 ] ،
وقال تعالى :" وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( 14 ) " [ النحل: 14 ] ،
وقال :" أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ " [ النحل : 79 ] .
وقال تعالى :أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ[ الحج : 65 ] ،
وقال تعالى :" وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ " [ البقرة : 164 ] ،
 

(فما اختص سليمان) عليه السلام (إن عقلت) يا أيها السالك (إلا بالأمر) أن يكون ذلك التسخير عن أمره وهو في مقام الفرق النفساني الموجب للقيام باللّه في جميع الأحوال من غير احتياج إي جمعية روحانية ولا همة أمرية إلهية بل بمجرد الأمر النفساني نظير تسخير الأعضاء الإنسانية السالمة من الزمانة لكل إنسان فيحركها عن أمر نفسه في كل ما يريد وما افترق إلا بعدم الحساب فإنه تعالى قال :وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ( 13 ) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً( 14 ) [ الإسراء : 13 - 14 ] ، فإن الحساب على كل إنسان في كل أمر نفساني إلا سليمان عليه السلام فقد قال تعالى في حقه :هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ( 39 ) [ ص : 39 ] ، فهو الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده .
 

(وإنما قلنا ذلك) ، أي من غير جمعية ولا همة (لأنا) معشر المحققين (نعرف أن أجرام العالم) ، أي المخلوقات تنفعل ، أي تتأثر لهمم جمع همة النفوس الفاضلة الكاملة إذا أقيمت ، أي تلك النفوس بأن أقامها الحق تعالى في مقام الجمعية به تعالى على وجه الاحتضار لأمره القديم القيوم على كل شيء وقد عاينا نحن ذلك الانفعال في هذا الطريق المستقيم طريق السعداء العارفين فكان من جهة سليمان عليه السلام مجرد تلفظه بلسانه بالأمر لمن أراد تسخيره من غير همة قلبية ولا جمعية روحانية .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم - أيّدنا اللّه وإيّاك بروح منه - أن مثل هذا العطاء إذا حصل للعبد أيّ عبد كان فإنّه لا ينقصه ذلك من ملك آخرته ، ولا يحسب عليه ، مع كون سليمان عليه السّلام طلبه من ربّه تعالى .
فيقتضي ذوق الطّريق أن يكون قد عجّل له ما ادّخر لغيره ويحاسب به إذا أراده في الآخرة .
فقال اللّه له :هذا عَطاؤُنا ولم يقل لك ولا لغيرك فَامْنُنْ أيّ أعطي أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ[ ص : 39 ] . )


(واعلم) يا أيها السالك (أيدنا) ، أي قوّانا وسددنا (اللّه) تعالى وإياك بروح منه طاهرة من لوث الطبيعة ، منفوخة على التحقق بالحقيقة والتمسك بالشريعة (أن مثل هذا العطاء) السليماني والملك الظاهر الرباني إذا حصل للعبد من مولاه تعالى (أي عبد كان فإنه لا ينقصه ذلك) العطاء من ملك آخرته شيئا ولا يحسب بالبناء للمفعول ، أي لا يحسبه اللّه تعالى عليه ، أي على ذلك العبد من جزائه في الآخرة على عمله الصالح في الدنيا (مع كون سليمان عليه السلام طلبه) ، أي الملك من ربه تعالى في قوله :رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي[ ص : 35 ]
فيقتضي ذوق ، هذا الطريق إلى اللّه تعالى وهو مذهب المحققين من العارفين أن يكون قد عجل ، أي عجل اللّه تعالى في الدنيا له ، أي لسليمان عليه السلام ما ادخره ، أي ادخره اللّه تعالى لغيره في الآخرة من الجزاء كما قال :أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا[ الأحقاف : 20 ] ،
ويحاسب ، أي يحاسبه اللّه تعالى به .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:33 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الرابع
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
أي بسبب ما ناله من الملك في الدنيا إذا أراده ، أي الملك في الآخرة فقال اللّه تعالى له ، أي لسليمان عليه السلامهذا عَطاؤُناولم يقل له عطاؤنا لك ولا عطاؤنا لغيرك إذ لو قال عطاؤنا لك لكان جوابا لسؤاله فيكون عجل له جزاءه وحوسب به من ملك الآخرة فهو عطاء لكل من أعطاه سليمان عليه السلام فامنن أي أعط منه من شئت ، فيكون ذلك عطاؤنا من شئت أو أمسك ممن شئت فيكون ذلك عين الممسك منا والمنع .

قال تعالى :" ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ " [ فاطر : 2 ] بغير حساب عليك منا في الآخرة ، لأنك مظهرنا ، ففعلك فعلنا في العطاء والمنع ، فلا حساب عليك منا .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعلمنا من ذوق الطّريق أنّ سؤاله ذلك كان عن أمر ربّه . والطّلب إذا وقع عن الأمر الإلهي كان الطّالب له الأجر التّامّ على طلبه . والباري تعالى إن شاء قضى حاجته فيما طلب منه وإن شاء أمسك ، فإنّ العبد قد وفّى ما أوجب اللّه عليه من امتثال أمره فيما سأل ربّه فيه ؛ فلو سأل ذلك من نفسه عن غير أمر ربّه له بذلك لحاسبه به.
وهذا سار في جميع ما يسأل فيه اللّه كما قال لنبيّه محمّد صلى اللّه عليه وسلم :" وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" [ طه : 114 ] .
فامتثل أمر ربّه فكان يطلب الزّيادة من العلم حتّى كان إذا سيق له لبن يتأوّله بالعلم كما تأوّل رؤياه لمّا رأى في النّوم أنّه أتي إليه بقدح لبن فشربه وأعطى فضله عمر بن الخطّاب .
قالوا فما أوّلته قال العلم . وكذلك لمّا أسري به أتاه الملك بإناء فيه لبن وإناء فيه خمر فشرب اللّبن فقال له الملك أصبت الفطرة أصاب اللّه بك أمّتك .
فاللّبن متى ظهر فهو صورة العلم ، فهو العلم تمثّل في صورة اللّبن كجبرئيل تمثّل في صورة بشر سويّ لمريم ).

 
(فعلمنا من ذوق الطريق) ، أي مذهب المحققين من أهل اللّه (أن سؤاله) ، أي طلب سليمان عليه السلام (ذلك) الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده (كان عن أمر ربه) له بذلك السؤال بطريق الوحي والطلب إذا وقع من العبد عن الأمر الإلهي له بذلك كان الطالب له الأجر ، أي الثواب التام من اللّه تعالى في الآخرة على طلبه حيث فعل فرضا مأمورا به فأثيب به كفرض الصلاة والبارىء تعالى إن شاء قضى حاجته ، أي الطالب فيما ، أي في الأمر الذي طلب منه وهو الإعطاء وإن شاء أمسك تعالى عن قضاء حاجته لحكمة يعلمها سبحانه .

 
(فإن العبد) الطالب (قد وفى) ، أي فعل (ما أوجب اللّه) تعالى (عليه من امتثال أمره) ، أي الرب تعالى فيما ، أي في الأمر الذي سأل ربه فيه ، أي طلبه من ربه تعالى فلو سأل ، أي العبد ذلك الأمر المطلوب له من تلقاء نفسه عن غير أمر ربه تعالى له ، أي لذلك العبد بذلك المطلوب لحاسبه أي الرب تعالى به أي بذلك المطلوب في الآخرة وأنقص عليه حظه فيها وهذا الحكم سار من اللّه تعالى في جميع ما يسأل بالبناء للمفعول فيه اللّه تعالى ، أي يطلبه العبد منه في الدنيا من ملك وغيره وكما قال ، أي اللّه تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام وَقُلْ رَبِّ، أي يا ربزِدْنِي عِلْماً[ الأنبياء : 114 ] .

 لك فقد أمر بالدعاء كما أمر سليمان عليه السلام بذلك فامتثل ، أي محمد صلى اللّه عليه وسلم أمر ربه تعالى فكان عليه السلام يطلب من ربه تعالى الزيادة من العلم باللّه في جميع أحواله عليه السلام حتى كان صلى اللّه عليه وسلم إذا سيق له لبن ، أي حليب في اليقظة ، أي أهدي له ذلك يتأوّله ، أي ذلك اللبن علما باللّه تعالى فيشربه ويستزيد من شربه على أنه علم باللّه تعالى ناله كما تأوّل عليه السلام رؤياه لما رأى في النوم أنه أتي بالبناء للمفعول أي أتاه آت من الناس بقدح لبن فشربه صلى اللّه عليه وسلم وأعطى فضله ، أي ما بقي منه ( عمر بن الخطاب) رضي اللّه عنه (قالوا) ، أي الصحابة رضي اللّه عنهم (فما أوّلته) ، أي اللبن يا رسول اللّه قال أوّلته العلم باللّه تعالى وكذلك ،


أي مثل ما ذكر لما أسري ، أي أسرى اللّه تعالى به صلى اللّه عليه وسلم أتاه الملك بإناء فيه لبن وإناء فيه خمر فشرب صلى اللّه عليه وسلم اللبن ولم يشرب الخمر ، لأنه لو شرب الخمر لسكرت أمته في حب اللّه تعالى وغلب عليهم حكم خمر الجنة فقال له الملك عليه السلام في شربه اللبن أصبت الفطرة « رواه البخاري » ، أي فطرة الإسلام . 
قال تعالى :فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها[ الروم : 30 ] أصاب اللّه تعالى بك أمتك ، أي متعهم بعلومك وأفاض عليهم من بحور أسرارك.
 

(فاللبن متى ظهر) في اليقظة أو المنام (فهو صورة العلم) ، باللّه تجسد في حضرة الخيال المطلق أو المقيد فهو ، أي ذلك اللبن العلم ، باللّه تعالى تمثل في صورة اللبن في خيال الرائي كجبريل عليه السلام تمثل في صورة بشر ، أي إنسان سوي ، أي معتدل الخلقة حسن الهيئة لمريم عليها السلام لما اعتزلت قومها فاتخذت من دونهم حجابا وتمثله أيضا عليه السلام لنبينا صلى اللّه عليه وسلم في صورة دحية بن خليفة الكلبي « رواه البخاري » وفي صورة الأعرابي " رواه مسلم  " حتى قال عليه السلام ردوا عليّ الرجل « رواه مسلم » فسماه رجلا بحكم الصورة كما يسمى اللبن بحكم الصورة .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا قال عليه السّلام : « النّاس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » نبّه على أنّه كلّ ما يراه الإنسان في حياته الدّنيا إنّما هو بمنزلة الرّؤيا للنّائم خيال فلا بدّ من تأويله
إنّما الكون خيال  .... وهو حقّ في الحقيقة
والّذي يفهم هذا  .... حاز أسرار الطّريقة
فكان صلى اللّه عليه وسلم إذا قدّم له لبن قال : « اللّهمّ بارك لنا فيه وزدنا منه » لأنّه كان يراه صورة العلم ، وقد أمر بطلب الزّيادة من العلم ؛ وإذا قدّم له غير اللّبن قال :
"اللّهمّ بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه " . فمن أعطاه اللّه ما أعطاه بسؤال عن أمر إلهي فإنّ اللّه لا يحاسبه به في الدّار الآخرة ، ومن أعطاه اللّه ما أعطاه بسؤال عن غير أمر إلهيّ فالأمر فيه إلى اللّه ، إن شاء حاسبه به ، وإن شاء لم يحاسبه .
وأرجو من اللّه في العلم خاصّة أنّه لا يحاسبه به .
فإنّ أمره لنبيّه بطلب الزّيادة من العلم عين أمره لأمّته فإنّ اللّه يقول :لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ الأحزاب : 21 ] .
وأيّ أسوة أعظم من هذا التّأسّي لمن عقل عن اللّه تعالى .
ولو نبّهنا على المقام السّليمانيّ على تمامه لرأيت أمرا يهولك الاطلاع عليه فإنّ أكثر علماء هذه الطّريقة جهلوا حالة سليمان عليه السّلام ومكانته وليس الأمر كما زعموا . )


(ولما قال ) ، أي النبي عليه السلام (الناس نيام) ، أي نائمون بنوم الغفلة والغرور (فإذا ماتوا) الموت الطبيعي أو الاختياري عن حياتهم الدنيا انتبهوا من نومهم ذلك نبه صلى اللّه عليه وسلم أمته على أنه ، أي الشأن كل ما يراه الإنسان يقظة في حياته الدنيا من محسوس ومعقول إنما هو بمنزلة الرؤيا للنائم فهو خيال فلا بد من تأويله أي إرجاعه إلى حقيقته التي خيلت للرائي تلك الصورة ومن ذلك اللبن الذي كان يشربه صلى اللّه عليه وسلم في اليقظة بتأويل العمل كما مر .


(إنما الكون) أي الكون المخلوقات كلها من المعقولات والمحسوسات (خيال) في الحس والعقل تظهر للرائي في اليقظة والمنام فيسميها بالأسماء المختلفة ويحكم عليها بالأحكام المتنوعة وهو ، أي الكون المذكور ، كله حق ظهر بصورة الخلق في الحقيقة ، أي حقيقة الأمر ، وفي الشريعة المبنية على الظاهر هو خلق قائم بحق .

(و) الإنسان (الذي يفهم هذا) الأمر المذكور ويعرفه ويكشف عنه بذوقه ويتحقق به في نفسه وغيره حاز ، أي جمع وملك أسرار ، أي أصول الطريقة ،
 

أي طريقة العارفين المحققين كما قال تعالى : " سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"  [الإسراء : 53 ] .
أي الذي رأوه في الآفاق وفي أنفسهم وهو الظاهر بصورة كل شيء ، لأنها فعله كما يحاكي الإنسان غيره فيفعل فعلا هو صورة من حاكاه في عين الرائي ولم يتغير هو في نفسه ، لأن الفاعل لا يتغير بفعل .
وقال تعالى في مقابلة ذلك :* ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً( 51 )[ الكهف : 51 ]،

أي أشهدتهم الأغيار في الحس والعقل منهم ومن غيرهم وما أشهدتهم أنها فعل الحق تعالى وخلقه فهي مظاهره ، كما أن الأفعال مظاهر الفاعل ، وإن تخيلوا ذلك بألسنتهم وهم غافلون عنه ، فإنه لا يصل إلى أذواقهم لحجابهم بالمعاصي والمخالفات المتلبسة عليهم بالطاعات في الاعتقاد والأعمال وهم يقلدون بعضهم بعضا فضلوا وأضلوا .

(فكان) ، أي النبي (صلى اللّه عليه وسلم إذا قدم) ، أي قدم أحد (له اللبن) في اليقظة في الدنيا (قال اللهم) ، أي يا اللّه بارك لنا معشر المؤمنين فيه ، أي في ذلك اللبن وزدنا منه ، أي أكثره عندنا لأنه صلى اللّه عليه وسلم كان يراه ، أي ذلك اللبن في اليقظة صورة العلم باللّه وقد أمر ، أي أمره اللّه تعالى بطلب الزيادة من العلم بقوله : سبحانه له :وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماًوإذا قدّم إليه صلى اللّه عليه وسلم شيء آخر غير اللبن قال اللهم ، 

أي يا اللّه بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ولا يقول عليه السلام وزدنا منه ، فلا يطلب الزيادة إلا من اللبن خاصة لما ذكر فمن أعطاه اللّه تعالى ما أعطاه من أنواع العطايا في الدنيا بسؤال ، أي طلب منه لذلك عن أمر إلهي له بأن يسأل كسليمان عليه السلام في ملكه ونبينا صلى اللّه عليه وسلم في علمه باللّه فإن اللّه تعالى لا يحاسبه ، أي ذلك العبد به ، أي بما أعطاه في الدار الآخرة البتة ومن أعطاه اللّه تعالى ما أعطاه من ذلك في الدنيا بسؤال ، أي طلب عن غير أمر إلهي له بذلك بل من تلقاء نفسه .

(فالأمر) ، أي الشأن (فيه) ، أي في ذلك العبد موكول إلى اللّه تعالى إن شاء اللّه تعالى حاسبه في يوم القيامة به ، أي بسبب ذلك الشيء الذي أعطاه إياه في الدنيا وإن شاء ، أي اللّه تعالى لم يحاسبه أصلا وأرجو من اللّه تعالى في شأن العلم باللّه خاصة أنه تعالى لا يحاسبه ، أي العبد به ، أي بسبب حصوله له في الآخرة وما ورد في بعض الأحاديث من قوله عليه السلام : « لن تزول قدما امرئ يوم القيامة حتى يسئل عن ثلاث وذكر منها علمه ماذا عمل به » . رواه الدارمي وابن شيبة وغيرهما.

فلعله غير العلم باللّه من علم الشريعة والأحكام ؛ ولهذا قال : ماذا عمل به والعلم باللّه لا عمل فيه بالنفس بل لا عمل أصلا بل هو شكر كما قال تعالى :اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ[ سبأ : 13 ] .
وقال النبي عليه السلام « أفلا أكون عبدا شكورا ». رواه البخاري
والشكر رؤية العلم الحقيقي لا النعمة ، فصاحب العلم باللّه ناظر إلى اللّه لا إلى نعمته فهو الشاكر ، والعمل الصالح من أكبر النعم على العبد .

(فإن أمره) ، أي اللّه تعالى (لنبيه صلى اللّه عليه وسلم بطلب الزيادة من العلم) باللّه (عين أمره) تعالى بذلك (لأمته) ، إلا فيما اختص به صلى اللّه عليه وسلم ولا بد من بيان الخصوصية ، ولا بيان هنا فلا خصوصية ، والأصل عدمها كما ذكروا 
فإن اللّه تعالى يقول :لَقَدْ كانَ لَكُمْ يا معشر المؤمنين فِي رَسُولِ اللَّهِ إليكم محمد صلى اللّه عليه وسلم أُسْوَةٌ، أي قدوة ومتابعة حَسَنَةٌ [ الأحزاب : 21 ] ، 
أي يحسن منكم فعلها والإتيان بها على كل حال وأي أسوة ، أي قدوة ومتابعة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعظم من هذا التأسي ، أي الاقتداء والاتباع في طلب زيادة العلم باللّه لمن عقل ، أي فهم جميع ما يفهمه عن اللّه تعالى من العارفين المحققين ، فإنهم أحق من غيرهم في ذلك .


(ولو نبهنا) في هذا الكتاب (على المقام السليماني) ، أي المنسوب إلى سليمان عليه السلام على تمامه ، أي ذلك المقام بتفاصيله لرأيت من ذلك أمرا يهولك ، أي يفزعك ويخيفك الاطلاع عليه كما قال اللّه تعالى في حق أصحاب الكهف :لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً[ الكهف : 18 ] .

(فإن أكثر علماء هذه الطريقة) الإلهية من العارفين (جهلوا حالة سليمان ) عليه السلام ، أي مقامه على التمام (ومكانته) ، أي مرتبته في العلم باللّه والتحقق به (وليس الأمر) ، أي أمر سليمان عليه السلام يعني شأنه ورتبته (كما زعموا) ، أي أكثر علماء هذه الطريقة لقصورهم عن معرفة كمال مقامه الشريف النبوي فلا يعرف حقه.


تم الفص السليماني  
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي.   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:00 am

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي.

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 
الجزء الأول
17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية
هذا فص الحكمة الداودية ، ذكره بعد حكمة سليمان عليه السلام ، لأنه أبوه فذكره بعده وكان القياس تقديم ذكر الأب على الابن ، لأنه أصله لما وهبه اللّه تعالى لأبيه وجمع سر الخلافة الإلهية فيه وفهمه الحكمة وحققه بالرحمة كان عمل أبيه الصالح المقدم بين يديه .
والمشار به إليه قال تعالى :"وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ"( 30 ) [ ص : 30 ] .
وقال تعالى :" فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [ الأنبياء : 79 ] ، فقد سبق أباه بالفهم وضرب له في مقام المظهرية الإلهية بأوفى سهم .
(فص حكمة وجودية) ، أي منسوبة إلى الوجود (في كلمة داودية) إنما اختصت حكمة داود عليه السلام بكونها وجودية لأنها كانت بتصرف الوجود في الوجود ، ولهذا ورد التصريح لها بالخلافة دون آدم عليه السلام ولين لها الحديد وأوّبت معها الجبال لكما اتصالها بالوجود عن تحقق كشف وشهود انفصالها عن حكم الأعيان الثابتة الظاهرة بنور الحق سبحانه فكأنها نفس النور الوجودي من كمال المقام الشهودي .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أنّه كانت النّبوّة والرّسالة اختصاصا إلهيّا ليس فيها شيء من الاكتساب أعني نبوّة التّشريع ، كانت عطاياه تعالى لهم عليهم السّلام من هذا القبيل مواهب ليست جزاء ، ولا يطلب عليها جزاء فإعطاؤه إيّاهم على طريق الإنعام والإفضال .
فقال تعالى :وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ[ الأنعام : 84 ] يعني لإبراهيم الخليل - عليه السّلام - وقال في أيّوب - عليه السّلام -وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ [ ص : 43 ] ؛ وقال في حقّ موسى - عليه السّلام -وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا( 53 ) [ مريم : 53 ] إلى مثل ذلك . فالّذي تولّاهم أوّلا هو الّذي تولّاهم آخرا في عموم أحوالهم أو أكثرها ، وليس إلّا اسمه الوهّاب .)
 
(اعلم) يا أيها السالك (أنه) ، أي الشأن لما كانت النبوّة والرسالة في النبي والرسول (اختصاصا إلهيا) ، أي مجرد خصوصية يختص اللّه تعالى بها من يشاء من عباده (ليس فيها) ،
أي في النبوّة وكذلك الرسالة (شيء من الاكتساب) ، أي التحصيل بالسعي أصلا (أعني) بالنبوّة (نبوّة التشريع) ، أي المقتضية لتشريع الشرائع الإلهية وتكليف العباد بها احترازا عن نبوّة الخبر كالإلهام في حق الأولياء والوحي الوارد للنحل والأرض كما قال تعالى :وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ[ النحل : 68 ] ، وقال سبحانه :يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ( 4 ) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها( 5 ) [ الزلزلة : 4 - 5 ] .
وقوله تعالى : وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [ القصص : 7 ] ، وغير ذلك فإنه كان بمعنى وحي الإلهام ونبوّة الخبر دون وحي النبوّة ونبوّة التشريع (كانت عطاياه تعالى لهم) ، أي للأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) غير النبوّة والرسالة (من هذا القبيل) ، أي من قبيل نبوّتهم ورسالاتهم مجرد اختصاصات إلهية ومحض (مواهب) رحمانية (ليست جزاء) منه تعالى لهم على عمل أصلا (ولا) هي عمل منه تعالى (يطلب) بالبناء للمفعول (عليها) ،
أي على تلك العطايا (منهم) ، أي من الأنبياء عليهم السلام (جزاء) ، لأن اللّه تعالى غني عن العالمين (بإعطائه) تعالى (إياهم) ، أي للأنبياء عليهم السلام تلك العطايا (على طريق الإنعام) منه سبحانه (والإفضال) ، أي الإحسان والتكرم .
 
(فقال) تعالى ("وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ " )[ الأنعام : 84 ] ابن إسحاق (يعني لإبراهيم الخليل) عليه السلام (وقال) تعالى (في أيوب) عليه السلام (" وَوَهَبْنا لَهُ") ،
أي لأيوب عليه السلام (أَهْلَهُ)، وهم أولاده وزوجاته فقيل : إن اللّه تعالى أحياهم له (وَمِثْلَهُمْ)، أي أولاده وزوجاته مقدارهم أيضا (مَعَهُمْ) [ ص : 43 ] وقال تعالى أيضا (في حق موسى) عليه السلام ("وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا")( 53 ) [ مريم : 53 ] ، فشد اللّه تعالى عضده به وقوّاه وجعل لهما سلطانا في الأرض (إلى مثل ذلك) كقوله تعالى في زكريا عليه السلام :وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى[ الأنبياء : 90 ] ، (فالذي تولاهم) ،
أي الأنبياء عليهم السلام يعني كان وليا لهم (أوّلا) فجعلهم بمحض فضله عليهم وإحسانه إليهم أنبياء ومرسلين (هو الذي تولاهم آخرا) ،
أي قام على نفوسهم بجميع ما اكتسبوا (في عموم أحوالهم) ظاهرا وباطنا من غير نسبة إلى نفوسهم عندهم أصلا (أو) في (أكثرها) ، أي أحوالهم ، وفي الأقل بنسبتها إلى نفوسهم عندهم ونفوسهم قائمة به سبحانه كما كان يقسم صلى اللّه عليه وسلم بقوله : « والذي نفسي بيده » رواه البخارى ومسلم .
(وليس) ذلك الذي تولاهم (إلا اسمه) تعالى (الوهاب) كما ورد فعله بذلك في الآيات المذكورة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقال في حقّ داود - عليه السّلام – "وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا "[ سبأ : 10 ] فلم يقرن به جزاء يطلبه منه ، ولا أخبر أنّه أعطاه هذا الّذي ذكره جزاء . ولمّا طلب الشّكر على ذلك العمل طلبه من آل داود ولم يتعرّض لذكر داود ليشكره الآل على ما أنعم به على داود .
فهو في حقّ داود عطاء نعمة وإفضال ، وفي حقّ آله على غير ذلك لطلب المعاوضة
فقال تعالى :" اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ" [ سبأ  : 13] .
وإن كانت الأنبياء عليهم السّلام قد شكروا للّه على ما أنعم به عليهم ووهبهم ، فلم يكن ذلك على طلب من اللّه ، بل تبرّعوا بذلك من نفوسهم كما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى تورّمت قدماه شكرا لما غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر . فلمّا قيل له في ذلك قال : « أفلا أكون عبدا شكورا » ؟ وقال في نوح :" إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً " [ الإسراء : 3 ] .
والشّكور من عباد اللّه تعالى قليل .
فأوّل نعمة أنعم اللّه بها على داود - عليه السّلام - أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتّصال . فقطعه عن العالم بذلك إخبارا لنا عنه بمجرّد هذا الاسم ، وهي الدّال والألف والواو).
 
(وقال) تعالى (في حق داود) عليه السلام " وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا " [ سبأ  : 10] ،
أي فضيلة على جميع أهل زمانه بمزايا اختصه بها وعطايا منحه إياها (فلم يقرن) ، أي اللّه تعالى في كلامه (به) ، أي بذلك الفضل الذي ذكر سبحانه أنه آتاه لداود عليه السلام (جزاء) من شكر ونحوه (يطلبه) سبحانه وتعالى (منه) ، أي من داود عليه السلام في مقابلة ما آتاه (ولا أخبر) تعالى (أنه) سبحانه (أعطاه) ، أي أعطى داود عليه السلام (هذا) الفضل (الذي ذكره) سبحانه (جزاء) لداود عليه السلام على عمل سبق له .
(ولما طلب) تعالى (الشكر على ذلك) الفضل الذي آتاه لداود عليه السلام (بالعمل) الصالح (طلبه) ، أي ذلك الشكر (من آل) ، أي قوم (داود) عليه السلام ، وهم المتبعون له من أهله وأعوانه (ولم يتعرض) سبحانه (لذكر داود) عليه السلام بطلب شكر منه ولا غيره (ليشكره) تعالى (الآل) ، أي آل داود عليه السلام (على ما أنعم به) سبحانه وتعالى (على داود) عليه السلام من الفضل (فهو) ، أي ذلك الفضل (في حق داود) عليه السلام (عطاء نعمة) من اللّه تعالى عليه (وإفضال) ، أي إحسان إليه (وفي حق آله) ، أي آل داود عليه السلام (على) وجه (غير ذلك) الوجه وهو كونه (لطلب المعاوضة) من الآل وهي الشكر بالعمل الصالح .
 
(فقال تعالى) في ذلك الطلب : ("اعْمَلُوا آلَ") بحذف حرف النداء والتقدير (يا آل داود عليه السلام شكرا) ، أي عملا شكرا وهو المنظور فيه إلى اللّه تعالى العامل له لا إليه (" وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ") [ سبأ : 13 ] .
أي من يظهر هذا الاسم الإلهي فيه عند العمل فيعبد اللّه كأنه يراه فيكون شاكرا والشاكر من أسماء اللّه تعالى أيضا قال تعالى :" اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ " [ البقرة : 158 ] ، ثم إنه لا يرى اللّه تعالى فيراه اللّه تعالى بما يرى به نفسه فيكون شكورا وهو القليل من العباد (وإن كانت الأنبياء عليهم السلام قد شكروا للّه على ما أنعم به عليهم) .
 
من أنواع النعم (ووهبهم) من الهبات الكثيرة في ظواهرهم وبواطنهم (فلم يكن ذلك) ، أي الشكر منهم (عن طلب من اللّه) تعالى (بل) هم (تبرعوا بذلك) الشكر من تلقاء نفوسهم الفاضلة (كما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم) من الليل (حتى تورمت قدماه) من كثرة التهجد (شكرا) .
أي على وجه الشكر للّه تعالى (لما) ، أي لأجل أنه (غفر اللّه) تعالى (له) ، أي لنبينا صلى اللّه عليه وسلم (ما تقدم من ذنبه وما تأخر) ،أي إلى آخر عمره عليه السلام (فلما قيل له في ذلك).
أي لم تفعل كذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال صلى اللّه عليه وسلم أفلا أكون عبدا للّه تعالى من حيث الصورة شكورا من حيث القيام بهذا الاسم الإلهي والتحقق به وقال اللّه تعالى في حق نوح عليه السلام إنه ، أي نوحا عليه السلام كانَ عَبْداً شَكُوراً[ الإسراء : 3 ] ، أي كلاما متحققا بنفسه وبربه والعبد الشكور ، كما ذكرنا من عباد اللّه تعالى قليل كما هو في الآية المذكورة .
(فأول نعمة أنعم اللّه) تعالى (بها على داود) عليه السلام (أن أعطاه) تعالى (اسما) سماه به (ليس فيه حرف من حروف الاتصال) ، أي متصل مع الحرف الآخر بل كل منه منفصل عن الآخر وهو اسم داود عليه السلام فقطعه اللّه تعالى عن التعلق بشيء من العالم المحسوس والمعقول بذلك الاسم إخبارا منه تعالى (لنا) معشر هذه الأمة عنه ، أي داود عليه السلام (بمجرد هذا الاسم ) الذي سماه به في الكتاب والسنة (وهي) ، أي حروف الاسم المذكور (الدال) المهملة (والألف والواو) فهي ثلاثة حروف من غير تكرار ، ومع التكرار خمسة حروف الدالان والواوان والألف ،
وقد حذفت من الكتابة إحدى الواوين لأنها جوفية فناسب استتارها مع وجودها في النطق ، كما حذفت في نظائره كطاوس وناوس ، فأوّل اسمه حرف في آخر اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وآخر اسمه كذلك نظير ظهوره عليه السلام بالصورة المحمدية ، وفي وسط اسمه ثلاثة حروف من حروف العلة أحدها مكرر وهو الواو نظير النفس والعقل فإنهما ملكوتيان مستتران بالصورة الجسمانية الملكية ، وأحدهما مستتر في الآخر صورة وظاهر حركة وتدبيرا نظير الواو ، والمحذوف في الخط والحرف الآخر الألف نظير الروح المنفوخ من عالم الأمر الإلهي ،
 
فالصورة في الحضرة العلمية ثابتة نظير الدال الأولى ، والروح والعقل والنفس نظير الألف ، والواوين أوّل ما ظهر من تلك الصورة الثابتة في العالم على الترتيب ، ثم ظهرت تلك الصورة وهي الدال الثانية ، وعندنا كلام آخر في الاسم من حيث دال الوجود المطلق يطول ذكره ، ومن حيث واو الهوية ومن حيثيات أخر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسمّى اللّه محمّدا عليه الصّلاة والسّلام بحروف الاتّصال والانفصال ، فوصله به وفصله عن العالم فجمع له بين الحالتين . في اسمه كما جمع لداود بين الحالتين من طريق المعنى ، ولم يجعل ذلك في اسمه ، فكان ذلك اختصاصا لمحمّد صلوات اللّه عليهما أعني التّنبيه عليه باسمه . فتمّ له الأمر عليه الصلاة والسّلام من جميع جهاته ، وكذلك في اسمه « أحمد » فهذا من حكمة اللّه تعالى .
ثمّ قال في حقّ داود عليه السّلام ، فيما أعطاه إيّاه على طريق الإنعام عليه ، ترجيع الجبال معه بالتّسبيح ، فتسبّح لتسبيحه ليكون له عملها ، وكذلك الطّير .
وأعطاه القوّة ونعته بها ، وأعطاه الحكمة وفصل الخطاب . )
 
(وسمّى اللّه) تعالى (محمدا) نبينا صلى اللّه عليه وسلم (بحروف الاتصال) وحروف (والانفصال) فله أسماء متصلة كلها كمحمد ومصطفى ومجتبى وطه ، وأسماء منفصلة الحروف كرؤوف من قوله تعالى :بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (فوصله) ، أي اللّه تعالى به وأشار إلى ذلك بأسماء الاتصال وفصله تعالى عن جميع العالم المحسوس والمعقول بأسماء الانفصال فجمع سبحانه وتعالى له ، أي لنبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم (بين الحالين) ، أي حال الاتصال وحال الانفصال .
(في اسمه) صلى اللّه عليه وسلم المتصل الحروف والمنفصل الحروف (كما جمع) تعالى
 
(لداود) عليه السلام (بين الحالين) حال الاتصال به سبحانه وحال الانفصال عن جميع العالمين (من طريق المعنى) فقط (ولم يجعل) تعالى (ذلك) الجمع (في اسمه) ، أي اسم داود عليه السلام بل جعل في اسمه الانفصال في الحروف فقط
(فكان ذلك) الجمع بين الحالين في الاسم (اختصاصا لمحمد) نبينا صلى اللّه عليه وسلم (على داود) عليه السلام أعني بذلك الاختصاص التنبيه عليه ، أي على الجمع بين الحالين باسمه صلى اللّه عليه وسلم كما ذكرنا فتم ، أي كمل له ، أي لنبينا صلى اللّه عليه وسلم الأمر وهو الجمع المذكور عليه الصلاة والسلام من جميع جهاته اللفظية والمعنوية وكذلك تم له الأمر في اسمه أحمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإن بعض حروفه منفصل والبعض متصل فقد جمع الاتصال والانفصال في اسم واحد ، ومثله اسمه محمود هادي وشافع ، فهذا الأمر المذكور من جملة حكمة اللّه تعالى في خلق الأنبياء عليهم السلام .
(ثم قال) تعالى (في حق داود عليه السلام فيما) ، أي في جملة ما (أعطاه) اللّه تعالى من العطايا والمواهب (على طريق الإنعام عليه ) والإحسان إليه (ترجيع الجبال معه) ، أي مع داود عليه السلام (بالتسبيح) للّه تعالى والتقديس كما قال تعالى :يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ[ سبأ : 10 ] .
أي رجعي التسبيح (فتسبح) الجبال (بتسبيحه) ، أي تأخذ منه تسبيحه وتسبح به ، كما يأخذ المتعلم الكلمة من فم معلمه ويتكلم بها هو ، فيكون رجعها ثانيا بتكلمه بها (ليكون) ، أي سبب ذلك الترجيع (له) ، أي لداود عليه السلام ثواب (عملها) ، لأنه إمامها في التسبيح وهي مقتدية به في ذلك ومتابعة له فيه وللإمام ثواب عمل كل من اقتدى به (وكذلك الطير) ، اسم جنس ، أي الطيور بأنواعها كانت تسبح معه فيكون له ثواب ترجيعها لمتابعتها له فيما يقول من التسبيح والتقديس وهو نطق الجماد له والحيوان بمثل ما يريد .
(وأعطاه اللّه) تعالى أيضا (القوّة) وهو تليين الحديد له فكان في يديه مثل العجين يفعل به ما يشاء من شدّة قوّته عليه السلام التي أمده بها (ونعته) عليه السلام ، أي وصفه اللّه تعالى (بها) في قوله سبحانه :وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ ص : 17 ] ، والأيدي جمع يد وهي القدرة والقوّة وأعطاه اللّه تعالى (الحكمة) وهي العلم باللّه تعالى مع العمل الصالح (وفصل الخطاب) ، أي الخطاب الفاصل بين الحق والباطل ، وذلك حكمه في بني إسرائيل وقضاؤه بينهم بالحق ، وقيل : فصل الخطاب قوله : أما بعد في كل خطبة وموعظة . قال اللّه تعالى :وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ[ ص : 20 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ المنّة الكبرى والمكانة الزّلفى الّتي خصّه اللّه تعالى بها التّنصيص على خلافته . ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه وإن كان فيهم خلفاء فقال :يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي ما يخطر لك في حكمك من غير وحي منّي فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن الطّريق الّذي أوحي به إلى رسلي .
ثمّ تأدّب سبحانه معه فقال :إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ[ ص : 26 ] ولم يقل : « فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد )
 .
(ثم المنة) من اللّه تعالى على داود عليه السلام (الكبرى) التي هي أكبر المنن عليه (والمكانة) ، أي المنزلة والرتبة (الزلفى) ، أي القريبة إلى حضرة اللّه تعالى التي خصه ، أي داود عليه السلام اللّه تعالى بها هي التنصيص في كلام اللّه تعالى على خلافته في الأرض بطريق المشافهة في الخطاب ولم يفعل اللّه تعالى (ذلك )، أي التنصيص المذكور (مع أحد من أبناء جنسه) ، أي داود من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وإن كان فيهم) ، أي الأنبياء عليهم السلام الذين هم أبناء جنسه خلفاء في الأرض كثيرون وهم المرسلون منهم ، ومنهم من لم يستخلفه اللّه تعالى كغير المرسلين من الأنبياء عليهم السلام حتى آدم عليه السلام لم يصرح اللّه تعالى له بالخلافة وإنما قال تعالى :وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ البقرة : 30 ] الآية .
 
فقال تعالى في داود عليه السلام ("يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً") عنا ("فِي الْأَرْضِ")، الجسمانية حيث نغيب نحن عن حواس المكلفين من العباد وعقولهم وتحضر أنت عند حواسهم وعقولهم فَاحْكُمْ أنت حينئذ بحكمنا نيابة عنه ("بَيْنَ النَّاسِ") وهم أهل الأرض الذين يختصمون إليك فلا يجدون حاكما غيرك ، وأما أهل السماء فإنهم إذا اختصموا كما في اختصام الملأ الأعلى يتحاكمون إلى اللّه تعالى ، لأنهم يجدونه من عدم غفلتهم عنه سبحانه وحضورهم معه بِالْحَقِّ الذي أنزله إليك مع جبريل عليه السلام وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى النفساني أي ما يخطر لك في حكمك بين الأخصام المتحاكمين إليك من غير وحي مني إليك بذلك فَيُضِلَّكَ،
أي الهوى الذي تتبعه عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل (أي عن الطريق الذي أوحي به إلى رسلي) الذين هم مثلك خلفائي في الأرض ، فتبقى إذا أردت الاستمداد مني بعد ذلك لا تعرف طريقه لالتباسه عليك بخواطر نفسك .
(ثم تأدب) ، أي اللّه (سبحانه) يعني عامله معاملة المتأدب (معه) ، أي مع داود عليه السلام نظير معاملته هو مع اللّه تعالى فإنه تعالى الملك الديان يدين كما يدان.
 
فقال تعالى ("إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ") في الدنيا والآخرة (بِما نَسُوا) أي بسبب نسيانهم (يَوْمَ الْحِسابِ )[ ص : 26 ] ، وهو يوم القيامة الذي يحاسب اللّه تعالى به كل من حكم بين الناس بما يخطر له ويستحسنه بعقله من غير وحي من اللّه تعالى إن كان من أهل الوحي أو متابعة لأهل الوحي أو لمن أمر بمتابعتهم كالمقلد يتبع المجتهدين فيما استنبطوه من أدلتهم الشرعية (ولم يقل) سبحانه له ، أي لداود عليه السلام (فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد) احتراما من اللّه تعالى له من عزته عليه .
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن قلت وآدم عليه السّلام قد نصّ على خلافته ، قلنا ما نصّ مثل التّنصيص على داود ، وإنّما قال للملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ البقرة : 30 ] ولم يقل إنّي جاعل آدم خليفة في الأرض ولو قال أيضا مثل ذلك ، لم يكن مثل قوله :إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً[ ص :26  ] في حقّ داود ، فإنّ هذا محقّق وذلك ليس كذلك .
وما يدلّ ذكر آدم في القصّة بعد ذلك على أنّه عين ذلك الخليفة الّذي نصّ اللّه عليه فاجعل بالك لإخبارات الحقّ عن عباده إذا أخبر . )
 
(فإن قلت) يا أيها السالك (وآدم عليه السلام) أيضا (قد نص) ، أي نص اللّه تعالى في القرآن (على خلافته) أيضا وليس ذلك مخصوصا بداود عليه السلام قلنا في الجواب (ما نص) اللّه تعالى على خلافة آدم عليه السلام (مثل التنصيص على) خلافة داود عليه السلام من جهة التصريح له بذلك والمشافهة في الخطاب وإنما قال تعالى للملائكة قبل خلق آدم عليه السلامإِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةًولم يقل تعالى إني جاعل آدم عليه السلام خليفة في الأرض ولو قال اللّه تعالى أيضا كذلك لم يكن مثل قوله تعالى : (إنا جعلناك خليفة في حق داود) عليه السلام .
فإن هذا التصريح أمر محقق في ذلك لا احتمال فيه وذلك الوارد في آدم عليه السلام بطريق الإشارة إليه في المعنى ليس كذلك ، أي ما هو أمر محقق وما يدل ذكر آدم عليه السلام في القصة ، أي قصة ذكر الخلافة للملائكة عليهم السلام بعد ذلك ، أي بعد ذكر الخلافة على أنه ، أي آدم عليه السلام (عين ذلك الخليفة الذي نص) اللّه تعالى عليه وإنما كان مفهوما أنه هو الخليفة من ذكر تعليمه الأسماء وسجود الملائكة له كلهم أجمعين إلا إبليس إن هذه لا تكون إلا صفات من استخلف في الأرض على أبناء جنسه ،
 
فإن إطاعة الجند واجتماعهم على ولي الأمر ابتداء شأن الخلافة وهو من لوازمها فدل ذلك بالمفهوم على خلافة آدم عليه السلام في الأرض (فاجعل بالك) يا أيها السالك (لإخبارات الحق) تعالى عن (عباده إذا أخبر) عنهم تجد لاختلاف ذلك أسرارا عظيمة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك في حقّ إبراهيم الخليل :قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً[ البقرة : 124 ] ولم يقل خليفة ، وإن كنّا نعلم أنّ الإمامة هنا خلافة ، ولكن ما هي مثلها ، لأنّه ما ذكرها بأخصّ أسمائها وهي الخلافة .
ثمّ في داود من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم ، وليس ذلك إلّا عن اللّه تعالى فقال له فاحكم بين النّاس بالحقّ ، وخلافة آدم قد لا تكون من هذه المرتبة فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها قبل ذلك ، لا أنّه نائب عن اللّه في خلقه بالحكم الإلهيّ فيهم ، وإن كان الأمر كذلك وقع ، ولكن ليس كلامنا إلّا في التّنصيص عليه والتّصريح به .
وللّه في الأرض خلائف عن اللّه ، وهم الرّسل . وأمّا الخلافة اليوم فعن الرّسل لا عن اللّه .
فإنّهم ما يحكمون إلّا بما شرع لهم الرّسول لا يخرجون عن ذلك . غير أن ههنا دقيقة لا يعلمها إلّا أمثالنا . وذلك في أخذ ما يحكمون به ممّا هو شرّع للرّسول عليه السّلام . )
 
(وكذلك) ، أي مثل آدم في عدم التصريح بالخلافة ، قال اللّه تعالى (في حق إبراهيم الخليل) عليه السلام إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً[ البقرة : 124] ، أي ليقتدوا بك في جميع شؤونهم ولم يقل له اللّه تعالى : إني جاعلك للناس خليفة عني وإن كنا نحن معاشر العارفين نعلم يقينا (أن الإمامة هنا خلافة) عن اللّه تعالى في الأرض ولكن هذه الخلافة ما هي بمعنى الإمامة (ما هي مثلها) ، أي مثل خلافة داود (ولو ذكرها) اللّه تعالى ، أي هذه الخلافة بمعنى الإمامة (بأخص أسمائها وهي) ، أي أخص الأسماء والتأنيث من قبيل قولهم  :
وتشرق بالقول الذي قد أذعته … كما شرقت صدر القناة من الدم
 
"" البيت للأعشى. يخاطب عمير بن عبد الله بن المنذر وكان بينهما مهاجاة.
وتشرق بالقول الذي قد أذعته … كما شرقت صدر القناة من الدّم
، وتشرق:بالنصب عطفا على فعل منصوب في بيت سابق ..
ومعنى تشرق: ينقطع كلامك في حلقك، يريد أنه ينقطع كلامك حتى لا تقدر على أن تتكلم لما تسمعه من هجائي لك، بسبب ما تذيعه وتنشره من السب والشتم لي...
كما شرقت صدر القناة، يريد: أنّ الدم إذا وقع على صدر القناة وكثر عليها لم يتجاوز الصدر إلى غيره لأنه يجمد عليه، فأراد أنّ كلامه يقف في حلقه ولا يمكنه إخراجه كما يقف الدم على صدر القناة فلا يذهب ...
و «ما» في «كما» مصدرية.والشاهد: أن كلمة «صدر» اكتسبت التأنيث من القناة، بالإضافة ولذلك أنّث الفعل المسند إليه وهو «شرقت» لأن المضاف يكتسب من المضاف إليه عشرة أشياء: التعريف، والتنكير، والاستفهام، والشرط، والتأنيث والتذكير، والبناء، ومعنى الظرف من الزّمان والمكان، ومعنى المصدر . أهـ""
 
(الخلافة) فقال تعالى : إني جاعلك للناس خليفة عني لم يكن ذلك مثل التنصيص على خلافة داود عليه السلام ، لأن خلافة داود عليه السلام خلافة حكم بين الناس وهذه خلافة علم ومتابعة فليست مثلها .
(ثم في داود) عليه السلام (من الاختصاص بالخلافة) الإلهية عن اللّه تعالى أن جعله ، أي اللّه تعالى (خليفة حكم) في الأرض بين الناس (وليس ذلك) الاستخلاف بالحكم في الأرض بين الناس إلا نيابة (عن اللّه تعالى فقال) ، أي اللّه تعالى له ، أي لداود عليه السلام بعد التنصيص على خلافته فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ[ ص : 26 ] .
 
فأعلمه أنه خليفة حكم (وخلافة آدم) عليهما السلام (قد لا تكون من هذه المرتبة) ، أي مرتبة خلافة الحكم في بنيه بالحق إذ ليس فيها من التصريح بذلك مثل هذه الخلافة الداودية (فتكون خلافته) ، أي آدم عليه السلام (أن يخلف من كان فيها) ، أي في الأرض قبل ذلك ، أي قبل استخلاف آدم عليه السلام وهم الجن الذين كانوا يسكنون في الأرض لا أنه ، أي آدم عليه السلام نائب عن اللّه تعالى (في خلقه بالحكم الإلهي فيهم ) مثل داود عليه السلام ، فإنه نائب عن اللّه تعالى بالحكم الإلهي في الخلق (وإن كان الأمر كذلك وقع) ،
أي أن آدم عليه السلام نائب عن اللّه تعالى في خلقه بالحكم الإلهي (ولكن ليس كلامنا) الآن (إلا في التنصيص عليه) ، أي على هذا الأمر الواقع والتصريح به ، أي بهذا الأمر المذكور وللّه تعالى في الأرض خلائف جمع خليفة عن اللّه تعالى في العلم والحكم (وهم الرسل) عليهم السلام سواء ورد ذكر خلافتهم في القرآن أو لم يرد ذكرها .
 
(وأما الخلافة اليوم) في الأولياء (فعن الرسل) عليهم السلام (لا عن اللّه) تعالى (فإنهم) ، أي الخلفاء اليوم (ما يحكمون) بين الناس في الظاهر والباطن (إلا بما شرع) ، أي بين (لهم الرسول) صلى اللّه عليه وسلم من الأحكام الإلهية لا يخرجون عن ذلك أصلا في قول أو عمل أو اعتقاد أو حال غير أن ههنا في هذه المسألة إشارة (دقيقة) جدا .
(لا يعلمها) ذوقا وكشفا (إلا أمثالنا) من المحققين أصحاب الوراثة الكاملة والدائرة الكبرى الشاملة وإذا سمعها الأجنبي عن هذا المقام يتخيلها بعقله فيظن أنه عرفها فربما ينكرها الظهور عنده بخلاف ما هي عليه في نفسها عند صاحبها المتحقق بها .
(وذلك) ، أي ما ههنا من تلك الدقيقة في كيفية أخذ ما يحكمون ، أي الخلفاء (به بما هو شرع للرسول عليه السلام) مقرر عنه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالخليفة عن الرّسول من يأخذ الحكم بالنّقل عنه صلى اللّه عليه وسلم أو بالاجتهاد الّذي أصله أيضا منقول عنه صلى اللّه عليه وسلم . وفينا من يأخذه عن اللّه بعين ذلك الحكم ، فتكون المادّة له من حيث كانت المادّة لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، فهو في الظّاهر متّبع لعدم مخالفته في الحكم كعيسى عليه السّلام إذا نزل فحكم ، وكالنّبيّ محمّد صلى اللّه عليه وسلم في قوله :أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ[ الأنعام : 90 ] .
وهو في حقّ ما يعرفه من صورة الأخذ مختصّ موافق ، هو فيه بمنزلة ما قرّره النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم من شرع من تقدّم من الرّسل بكونه قرّره فاتبعناه من حيث تقريره لا من حيث إنّه شرع لغيره قبله . )
 
(فالخليفة عن الرسول) صلى اللّه عليه وسلم في تقديره للأمة وتفصيله لهم والحكم به هو كل (من يأخذ الحكم الإلهي) في قضيته (بالنقل عنه) ، أي عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم حيث ورد التصريح به في كتاب أو سنة أو اجتمعت عليه الأمة أو يأخذه (بالاجتهاد) وهو الاستنباط بالفهم والمقايسة مما ورد في الكتاب والسنة أو الإجماع (الذي أصله) ، أي الاجتهاد أيضا ، أي مثل الكتاب والسنة أو الإجماع منقول ، أي الإذن فيه والإجازة له عنه صلى اللّه عليه وسلم قال تعالى :لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ[ النساء : 83 ] .
.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي.   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:01 am

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي.

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

الجزء الثاني
17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية
وقال عليه السلام : « من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر »  ولما أرسل النبي صلى اللّه عليه وسلم معاذا إلى بلاد اليمن قال له : « بماذا تحكم يا معاذ فقال : أحكم بكتاب اللّه تعالى ، قال : فإن لم تجد ، قال : فسنة نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، قال : فإن لم تجد قال : أرى رأيي وأحكم فقال : اللهم وفق رسول رسولك » رواه أبو داود والترمذي .
 
(وفينا) ، أي معشر المحققين من أهل اللّه تعالى العارفين (من يأخذه) ، أي الحكم الإلهي في القضية (عن اللّه) تعالى من غير واسطة دليل ظاهر (فيكون) حينئذ (خليفة عن اللّه) تعالى (بعين ذلك الحكم) الذي تلقاه من وحي الإلهام (فتكون المادة له) في تلقي ذلك الحكم عن اللّه تعالى (من حيث كانت المادة) فيه (لرسوله صلى اللّه عليه وسلم) وهذا المقام يسمى مقام القربة ، وللمصنف قدس اللّه سره في تبيينه وتحقيقه رسالة مستقلة ذكر فيها أن هذا مقام فوق الصديقية ودون النبوّة ، وإن أبا حامد الغزالي وبعض العارفين ينكره ويقول : ليس فوق الصديقية إلا النبوة .
 
والشيخ رضي اللّه عنه قد حقق به ووجده مذكورا في بعض كتب أبي عبد الرحمن السلمي نصا واسمه مقام القربة ، وأن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه كان له هذا المقام في زمان خلافته زيادة على مقام الصديقية .
ومن هذا المقام قاتل بني حنيفة وسباهم وقال عمر رضي اللّه عنه : فما هو إلا أن رأيت أن اللّه قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق .
(فهو) ، أي صاحب هذا المقام المذكور (في الظاهر متبع) للرسول صلى اللّه عليه وسلم فيما جاء به من شرائع الأحكام (لعدم مخالفته) له (في الحكم) أصلا وهو في الباطن مستقل بأخذ عين الحكم الشرعي من اللّه تعالى بغير واسطة رسول من البشر وإليه الإشارة بقوله تعالى :يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ[ غافر : 15 ] الآية .
 
وقوله تعالى :قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[ يوسف : 108 ]
فقد أخبر تعالى أن المتبع في الظاهر على بصيرة أيضا مثل الرسول صلى اللّه عليه وسلم كعيسى ابن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان فحكم بشريعتنا فإنه متبع في الظاهر ، وفي الباطن إنما هو مستقل بوحي اللّه تعالى إليه عين هذا الحكم الذي في شريعتنا ، ولا يأخذه عليه السلام من اجتهاد عقلي لعصمته من الخطأ واحتماله .
(وكان النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم في قوله) تعالى له عن الأنبياء الماضين عليهم السلام أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ[ الأنعام : 90 ] ، أي اتبع لهم في هداهم مع أنه صلى اللّه عليه وسلم يوحى إليه بعين ذلك الحكم المأمور بالاتباع فيه فهو متبع في الظاهر ومستقل في الباطن.
 
(وهو) ، أي صاحب هذا المقام (في حق ما نعرفه) نحن (من صورة) ، أي كيفية الأخذ ، أي أخذ الحكم عن اللّه مثل أخذ الأنبياء عليهم السلام لكن من وحي الإلهام لا وحي النبوة مختص بذلك دون غيره من أهل طريقه (موافق هو) ، أي صاحب هذا المقام فيه ، أي في الحكم المأخوذ للحكم الوارد عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم (بمنزلة ما قرره النبي صلى اللّه عليه وسلم من شرع من تقدم من الرسل) عليهم السلام بكونه ، أي بسبب كونه عليه السلام قرره ، أي ذلك الحكم (فاتبعناه من حيث تقريره) له صلى اللّه عليه وسلم لا اتبعناه (من حيث إنه) ، أي ذلك الحكم (شرع لغيره) عليه السلام قبله من شرائع المرسلين عليهم السلام .



قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك أخذ الخليفة عن اللّه عين ما أخذه منه الرّسول فنقول فيه بلسان الكشف خليفة اللّه وبلسان الظّاهر خليفة رسول اللّه . ولهذا مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما نصّ بخلافة عنه إلى أحد . ولا عيّنه لعلمه أنّ في أمّته من يأخذ الخلافة عن ربّه فيكون خليفة عن اللّه مع الموافقة في الحكم المشروع . فلمّا علم ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يحجر الأمر .
فللّه خلفاء في خلقه يأخذون من معدن الرّسول ما أخذته الرّسل عليهم السّلام .
ويعرفون فضل المتقدّم هناك لأنّ الرّسول قابل للزّيادة : وهذا الخليفة ليس بقابل للزّيادة الّتي لو كان الرّسول قبلها .
فلا يعطى من العلم والحكم فيما شرع إلّا ما شرع للرّسول خاصّة ؛ فهو في الظّاهر متّبع غير مخالف ، بخلاف الرّسل . )

(وكذلك أخذ الخليفة) صاحب مقام القربة المذكور (عن اللّه) تعالى (عين ما أخذه منه) ، أي من اللّه تعالى الرسول صلى اللّه عليه وسلم فنقول معشر المحققين فيه ، أي في الخليفة المذكور (بلسان الكشف) عن حقيقة ما هو عليه في مقامه وذلك هو (خليفة رسول اللّه في الأرض ونقول أيضا فيه (بلسان الظاهر) من حاله هو (خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؛ ولهذا) ، أي لكون الأمر كما ذكر (مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما نص) ، أي صرح بخلافة عنه صلى اللّه عليه وسلم إلى أحد من الصحابة رضي اللّه عنهم ولا عينه ، أي ذلك الأحد لعلمه صلى اللّه عليه وسلم (أن في أمته من يأخذ الخلافة) في الأرض (عن ربه) تعالى (فيكون) ذلك (خليفة عن اللّه) تعالى كما كانت الأنبياء والرسل عليهم السلام ، وهم الأفراد الخارجون عن نظر القطب.

(مع الموافقة) للرسول صلى اللّه عليه وسلم (في الحكم) الإلهي (المشروع) للأمة (فلما علم ذلك) في أمته صلى اللّه عليه وسلم إلى يوم خروج المهدي في آخر الزمان (لم يحجر الأمر) بالنص لأحد على الخلافة عنه وترك ذلك شورى بين الصحابة رضي اللّه عنهم (فللّه) تعالى (خلفاء) عنه سبحانه (في خلقه) ، أي مخلوقاته وليسوا بأنبياء (يأخذون) من علم الشرائع والأحكام ومعرفة الحلال من الحرام (من معدن الرسول) صلى اللّه عليه وسلم ،

أي موضع أخذه شريعته ومعدن الرسل عليهم السلام قبله ما ، أي الحكم مفعول يأخذون الذي (أخذته الرسل عليهم السلام) فيكونون مستقلين موافقين في الباطن ومتبعين في الظاهر ومن هنا قال أبو القاسم الجنيدي رضي اللّه عنه المريد الصادق غني عن علم العلماء ، أي هو عالم بعلمهم من غير أن يحتاج إلى تعلمه منهم لأخذه ذلك عن اللّه تعالى إذا كان من أهل هذا المقام المذكور .


(ويعرفون) ، أي الخلفاء المذكورون (فضل) الرسول (المتقدم) عليهم الذي أخذوا من مأخذه (هناك) ، أي مما يأخذونه من الحكم الشرعي (لأن الرسول) الذي أخذوا من مأخذه (قابل للزيادة) في ذلك الحكم المشروع بإظهار حكم آخر ونسخ له (وهذا الخليفة) عن اللّه تعالى المذكور (ليس بقابل للزيادة) فيما أخذه عن اللّه تعالى من ذلك ( فلا يعطى) ، أي ذلك الخليفة من العلم الإلهي والحكم فيما ، أي في الأمر الذي شرع ، أي أظهر وبيّن لا تباعه إلا ما شرع الرسول لأمته خاصة ، من غير قابلية زيادة ولا نقصان ولهذا ورد في الحديث « الشيخ في أهله كالنبي في أمته » ، رواه الديلمي في مسند الفردوس .
وفي رواية ابن حبان في صحيحه . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " الشيخ في بيته كالنبي في أمته " .


(فهو) ، أي الخليفة المذكور (في الظاهر متّبع) للرسول صلى اللّه عليه وسلم (غير مخالف) له أصلا وإن كان مستقلا في أخذ الحكم الشرعي عن اللّه تعالى بالرقيقة الممتدة له من روحانية جبريل عليه السلام تنفث في روعه بعين الحكم الذي نزل به جبريل عليه السلام على الرسول قبله وبعضهم يسميه جبريل عليه السلام ، ولكنه ما اتصف (بخلاف الرسل) عليهم السلام فإنهم يعطون زيادة في العلم والحكم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا ترى عيسى عليه السّلام لمّا تخيّلت اليهود أنّه لا يزيد على موسى ، مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرّسول ، آمنوا به وأقرّوه ، فلمّا زاد حكما ونسخ حكما كان قد قرّره موسى - لكون عيسى رسولا - لم يحتملوا ذلك لأنّه خالف اعتقادهم فيه ؟ وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه .
فطلبت قتله ، فكان من قصّته ما أخبرنا اللّه تعالى في كتابه العزيز عنه وعنهم . فلمّا كان رسولا قبل الزّيادة ، إمّا بنقص حكم قد تقرّر ، أو زيادة حكم ، على أنّ النّقص زيادة حكم بلا شكّ .
والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب وإنّما تزيد وتنقص على الشّرع الّذي قد تقرّر بالاجتهاد لا على الشّرع الّذي شوفه به محمّد صلى اللّه عليه وسلم . )


(ألا ترى) يا أيها السالك (عيسى) ابن مريم عليهما السلام (لما تخيلت اليهود أنه لا يزيد) في الأحكام الشرعية (على) أحكام شريعة (موسى) بن عمران عليه السلام وظنوا أنه خليفة عن موسى عليه السلام (مثل ما قلناه في) حق (الخلافة) الإلهية في الأولياء (اليوم مع الرسول) صلى اللّه عليه وسلم لا يزيد عليه ولا ينقص عنه في حكم أصلا وإن أخذ من مأخذه آمنوا ، أي اليهود به ، أي بعيسى عليه السلام بقلوبهم أنه نبي ورسول إليهم متابعا لموسى عليه السلام وأقروا بألسنتهم به ولم يكذبوه .

(فلما زاد حكما) ليس عندهم في التوراة (أو نسخ حكما كان قد قرره) لهم موسى عليه السلام من أحكام التوراة (لكون عيسى) عليه السلام (رسولا) إليهم جاءهم بالإنجيل كما جاء موسى عليه السلام بالتوراة ، فقال لهم عليه السلام :وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ[ آل عمران : 50 ] (لم يتحملوا) ، أي اليهود ذلك ، أي ما زاده من الحكم ونسخه لأنه ، أي عيسى عليه السلام (خالف اعتقادهم) ، أي اليهود فيه فإنهم كانوا يعتقدون أنه لا يزيد ولا ينقص من شريعة موسى عليه السلام شيئا ، فلما زاد أو نقص أنكروه وكفروا به (وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه) في نفسه لإنكارهم النسخ من أصله ، وأنه لا يقع في أحكام اللّه تعالى أصلا فطلبت ، أي اليهود قتله ، أي عيسى عليه السلام فكان من قصته عليه السلام مع اليهود لما هموا بقتله (ما أخبرنا اللّه تعالى في كتابه العزيز) عنه ، أي عن عيسى عليه السلام من رفعه إلى السماء وتطهره منهم قال تعالى :يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا[ آل عمران : 55 ] ، (وعنهم) ، أي عن اليهود من عدم قتله وصلبه ومن تشبهه لهم .
قال تعالى :وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ[ النساء : 157 ] ، وقال تعالى : "وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ "[ النساء : 157 ] .

 

(فلما كان) ، أي عيسى عليه السلام (رسولا) إلى اليهود (قبل الزيادة) على شريعة موسى عليه السلام (إما بنقص) أو نسخ حكم من أحكام اللّه تعالى قد تقرر عندهم في شريعة موسى عليه السلام (أو زيادة حكم) فيها (على أن النقص) منها بنسخ الحكم زيادة حكم فيها بلا شك لثبوت الإباحة بنسخ التحريم والخلافة الإلهية في الأولياء (اليوم ليس لها هذا المنصب) الذي للأنبياء والرسل عليهم السلام (وإنما تنقص) ، أي الخلافة (أو تزيد على الشرع )المحمدي الذي قد تقرر بالاجتهاد وهو مذهب المجتهد فإنه شرع محمدي عند ذلك المجتهد ومن قلده فقط ، وكل صاحب مذهب من المجتهدين كذلك ، وطريقة الاجتهاد باقية إلى يوم القيامة ، وتقع الزيادة والنقص وهو مذهب المجتهد بمجتهد آخر غيره ، لأن ذلك غلبة ظن لا محض يقين أرأيت أنه محتمل للخطأ كما ورد في حديث : « من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر »  والأنبياء والرسل عليهم السلام عصموا من الخطأ فيما يحكمون به من شرائعهم ، ولهذا امتنع في حقهم الاجتهاد لا تنقص أو تزيد (على الشرع الذي شوفه) به نبينا (محمد صلى اللّه عليه وسلم) ، أي شافهه اللّه تعالى في خطابه له بالوحي إليه .


قال رضي الله عنه :  (فقد يظهر من الخليفة ما يخالف حديثا ما في الحكم فيخيّل أنّه من الاجتهاد وليس كذلك وإنّما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النّبيّ ؛ ولو ثبت لحكم به . وإن كان الطّريق فيه العدل عن العدل فما هو معصوم من الوهم ولا من النّقل على المعنى . فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم ، وكذلك يقع من عيسى عليه السّلام ، فإنّه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرّر فيبيّن برفعه صورة الحقّ المشروع الّذي كان عليه السّلام عليه .
ولا سيّما إذا تعارضت أحكام الأئمّة في النّازلة الواحدة . فنعلم قطعا أنّه لو نزل وحي لنزل بأحد الوجوه فذلك هو الحكم الإلهيّ . وما عداه وإن قرّره الحقّ فهو شرع تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمّة واتّساع الحكم فيها . )


(فقد يظهر من الخليفة) اليوم (ما يخالف حديثا ما) ، يعني أي حديث كان ( في الحكم) الشرعي (فيتخيل) بالبناء للمفعول أي يتخيل أحد من الناس (أنه) أي الخلاف الواقع من الخليفة لذلك الحديث (من الاجتهاد) كما يخالف المجتهد لغلبة ظنه بضعف الحديث أو نسخه أو فهمه منه ما لم يفهمه غيره .

(وليس الأمر) من الخليفة (كذلك) ، أي ما هو من قبيل الاجتهاد واستعمال العقل والفكر في الاستنباط من أحوال الشرع (وإنما هذا الإمام) الذي هو الخليفة عن اللّه تعالى في الأرض الذي يكشف بنور إيمانه ويقينه عما يقع في صدره من نفث ملك الإلهام الذي أيده اللّه تعالى به وأمده بمدده من روح القدس (لم يثبت عنده من جهة الكشف) المذكور الذي طريقه في المعرفة (ذلك الخبر) ، أي الحديث الذي ثبت عند غيره من الناس (عن النبي) صلى اللّه عليه وسلم (ولو ثبت) ذلك الحديث عنده بالطريق المخصوص له (لحكم به) كما حكم به من ثبت عنده (وإن كان الطريق) عند أهل الظاهر (فيه) ، أي في ذلك الخبر النبوي حيث خالفه الخليفة (العدل) ، أي الميل منه عن قبول قول المخبر العدل الراوي لذلك الخبر .

(فما هو) ، أي ذلك المخبر العدل (معصوم عن) حصول (الوهم) له في سماع الخبر (ولا ) معصوم (من النقل) ، أي رواية ذلك الخبر عن الرسول المعصوم صلى اللّه عليه وسلم (على المعنى) ، أي بمعنى لفظ الرسول عليه السلام لا بعين لفظه والنقل بالمعنى قد أجازه علماء الحديث في غير جوامع الكلم من الأحاديث النبوية ، ولهذا اختلفت الروايات فيها والمعنى واحد في الغالب .

وقد يختلف المعنى فيكون الخليفة كشف عن الحكم الموافق لذلك الحديث لو رواه الراوي عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم بلفظه أو لم يتوهم فيه من النبي عليه السلام أو من شيخه الذي روى عنه حتى وصل إلى من ثبت عنده بغلبة ظنه كونه قول الرسول صلى اللّه عليه وسلم (فمثل هذا) الأمر (يقع من الخليفة اليوم) ولا يكون مخالفا لحكم من أحكام الشريعة المحمدية أصلا في نفس الأمر وإن حكم عليه من ثبت الحديث عنده بالمخالفة فإنه ما اتصف في حكمه لعدم معرفته بالطريقة المأمونة عند المحققين .

 

وفي شرح الوصايا اليوسفية للمصنف قدس اللّه سره . :
قال الواجب على المريد أن يرى نطق الشيخ نطق الحق في جميع ما ينطق به من خير وشر عرفا وشرعا ، وهذا عزيز في المريدين جدا ، بل الغالب على القابلين منهم أن يقبلوا ذلك إذا قبلوه ولم يردوه على كره منهم ، لا جرم أنهم يعاقبون على الرد وإن كان الحق بأيديهم في ذلك ، ولكن طاعة الشيخ أولى بالمريد على كل حال .

ولقد قال لي الشيخ يوما كلاما فيه فحش عظيم ، أو صله إلى الغير من عامة الناس ، وإيصال ذلك معصية في الشرع مقرر عندنا فبادرت لا متثال أمره بمحضر الجماعة
فقال لي : أو تفعل ذلك ؟
قلت له : أي واللّه ،
قال : وتعلم أن ذلك معصية شرعا ؟
قلت له : نعم ، قال : وكيف تفعله وأنت تعلم أنه معصية شرعا ؟
عن كره أو عن طيب نفس ؟
قلت له : عن طيب نفس قال : وبم ذلك ؟
قلت له : لأنا ما أخذنا الشرع عن الشارع وإنما أخذناه بالنقل عنه كما قال أبو يزيد : أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت .
وكلامك عندي هو الشرع المقرب إلى اللّه ، فإنك عندي ممن ينطق عن اللّه لا عن هوى نفسه ، والأخذ عنك أثبت وأصح من أخذي من أقوال علماء الشريعة .
فقال : بارك اللّه فيك اجلس لا تفعل ذلك ، فإني ما أردت ذلك إلا أري الجماعة صدقك في الخدمة وقيامك بالحرمة ، وقد ظهر والحمد للّه .
يا بني إن ذلك الذي أمرتك به معصية عندي ، وما كنت لأتركك تفعل ذلك ، وإنما ابتليتك حتى نعلم كما قال اللّه تعالى في محكم كتابه مع علمه "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ" [ محمد : 31 ] .

(وكذلك ) ، أي مثل ما يقع من الخليفة اليوم (يقع من عيسى عليه السلام) ، فإنه أي عيسى عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان (يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرر) عن المجتهدين ومقلديهم اليوم فيبين ،

أي عيسى عليه السلام (برفعه) كما تقرر في شرع الاجتهاد (صورة الحق المشروع الذي كان عليه) نبينا محمد (صلى اللّه عليه وسلم ولا سيما) ، أي خصوصا (إذا تعارضت أحكام الأئمة) المجتهدين (في النازلة الواحدة) فذهب كل إمام إلى قول .
(فنعلم) نحن الآن (قطعا أنه) ، أي الشأن (لو نزل وحي) من اللّه تعالى في تلك القضية الواحدة المختلف فيها (لنزل) ذلك الوحي (بأحد الوجوه) التي ذهب إليها أحد تلك الأئمة .

(فذلك) النازل (هو الحكم الإلهي) القديم وما عداه من بقية الأحكام وإن قرره الحق تعالى وقبل العمل بمقتضاه فهو شرع تقرير من الحق تعالى وعدم إنكاره لرفع أي إزالة الحرج ، أي الصعوبة والعسر عن هذه الأمة . قال تعالى :وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[ الحج : 78 ] ولأجل اتساع الحكم الإلهي فيها ، أي في هذه الأمة .
قال تعالى :يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[ البقرة : 185 ] ، وقال عليه السلام : « أتيتكم بالحنيفية السمحة السهلة » رواه الديلمي و أحمد في المسند.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا قوله عليه السّلام إذا بويع لخلفتين فاقتلوا الآخر منهما فهذا في الخلافة الظّاهرة الّتي لها السّيف . وإن اتّفقا فلا بدّ من قتل أحدهما بخلاف الخلافة المعنويّة فإنّه لا قتل فيها .
وإنّما جاء القتل في الخلافة الظّاهرة وإن لم يكن لذلك الخليفة هذا المقام وهو خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن عدل .
فمن حكم الأصل الّذي به تخيّل وجود إلهين .لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا[ الأنبياء : 22 ].
وإن اتّفقا فنحن نعلم أنّهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما ، فالنّافذ الحكم هو اللّه على الحقيقة ، والّذي لم ينفذ حكمه ليس بإله . )
 

(وأما قوله) ، أي النبي (عليه السلام) في الحديث الصحيح (إذا بويع) ، أي بايع الناس (لخليفتين) في الأرض (فاقتلوا) الخليفة (الآخر منهما) وهو الثاني والخلافة للسابق . رواه مسلم والحاكم
(فهذا) الحكم (في) حق (الخلافة الظاهرة) في الناس (التي لها السيف) في القتل والسبي (وإن اتفقا) على الخلافة في الأرض (فلا بد من قتل أحدهما) ، أي الخليفتين ليصلح الأمر بين الناس ولا تفسد الأحوال .

(بخلاف الخلافة المعنوية) الباطنية المذكورة التي لها التأثير بالهمة مكان السيف فإنه ، أي الشأن (لا قتل فيها) لعدم معرفتها على أحد من الأولياء ، وإن قتل أحدهما من نازعه بحاله وهمته ،

كما وقع للشيخ شمس الدين الحنفي مع سيدي علي وفا قدس اللّه سرهما لما حضرا في مجلس
فقال سيدي علي :  هنا رجل تدور رحى الكائنات عليه ،
فقال الشيخ شمس الدين الحنفي : وهنا رجل لو قال لها بيده : اسكني لسكنت ،
فقام سيدي علي محموما ولم يعش غير سبعة أيام رحمهما اللّه تعالى .
وإنما جاء القتل في الظاهر من المكلفين بذلك في أمر الخلافة الظاهرة التي هي الملك والسلطنة في الظاهر وإن لم يكن لذلك الخليفة ،
أي السلطان في الظاهر هذا المقام الشريف الذي لصاحب الخلافة المعنوية المذكور وهو ، أي صاحب الخلافة الظاهرة خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن عدل في حكمه بين رعاياه الداخلين تحت ولايته ، وإن ظلم وجار على الرعية فهو خليفة الشيطان فمن أجل (حكم الأصل) في التوحيد الإلهي (الذي به )،

أي بسببه (يخيّل) بالبناء للمفعول أي للقاصرين (وجود إلهين) اثنين أي مؤثرين بقدرتين وإرادتين نافذتين وهو تخيل الشرك في تعداد الأمر الواحد وما أحسن ما أنشأه وأنشده السلطان سليم من بني عثمان رحمه اللّه تعالى :
الملك للّه من يظفر لنيله مني  .... يردده قهرا أو يضمن دونه الدركا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة ..... فوق البسيطة كان الأمر مشتركا

أي كان أمر اللّه تعالى مشتركا ولم يكن الأمر واحدا وأمر اللّه تعالى واحد كما قال سبحانه :وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ[ القمر : 50 ] وقال تعالى :لَوْ كانَ فِيهِما، أي في السماوات والأرض آلِهَةٌ جمع إله إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا[ الأنبياء : 22 ] ،
أي السماوات والأرض فما فسدتا ، فليس فيهما آلهة إلا اللّه وإن اتفقا ، أي الإلهان ولم يختلفا أصلا في خلق شيء فنحن نعلم أنهما ،

أي الإلهين يمكن اختلافهما ولو اختلفا تقديرا فأراد أحدهما إيجاد شيء والآخر إعدامه لنفذ حكم أحدهما قطعا لاستحالة اجتماع النقيضين فالنافذ الحكم هو إله تعالى على الحقيقة والذي لم ينفذ حكمه ليس بإله لعجزه والإله لا بد أن يكون قادرا على كل شيء .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن ههنا نعلم أنّ كلّ حكم ينفذ اليوم في العالم أنّه حكم اللّه عزّ وجلّ ، وإن خالف الحكم المقرّر في الظّاهر المسمّى شرعا إذ لا ينفذ حكم إلّا للّه في نفس الأمر ، لأنّ الأمر الواقع في العالم إنّما هو على حكم المشيئة الإلهيّة لا على حكم الشّرع المقرّر .
وإن كان تقريره من المشيئة . ولذلك نفذ تقريره خاصّة .
وأنّ المشيئة ليس لها فيه إلّا التّقرير ، لا العمل بما جاء به .
فالمشيئة سلطانها عظيم ، ولهذا جعلها أبو طالب عرش الذّات .
لأنّها لذاتها تقتضي الحكم . فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجا عن المشيئة فإنّ الأمر الإلهيّ إذا خولف هنا بالمسمّى معصية فليس إلّا الأمر بالواسطة لا الأمر التّكوينيّ . )


(ومن هنا) ، أي من هذا الدليل الوارد في كلام اللّه تعالى على توحيده نعلم أن كل حكم من حاكم مطلق (ينفذ اليوم في العالم) المحسوس والمعقول والظاهر والباطن على طبق إرادة المخلوق أو على المكره منه .

(أنه) ، أي ذلك الحكم النافذ (حكم اللّه) تعالى من غير شك أصلا (وإن خالف الحكم) الإلهي (المقرر في الظاهر) عند المؤمنين (المسمى شرعا) محمديا (إذ لا ينفذ حكم) أصلا (إلا للّه تعالى) خالق كل شيء في نفس الأمر ، وإن كان ذلك الحكم منسوبا في الظاهر إلى المخلوق ، لأنه مظهر الحاكم الحق (لأن الأمر الواقع في العالم) سواء كان خيرا أو شرا إنما هو واقع (على) مقتضى (حكم المشيئة الإلهية) والإرادة الربانية (لا على) مقتضى (حكم الشرع) المحمدي (المقرر) عند المؤمنين (وإن كان تقريره) ، أي ذلك الشرع (من) حكم (المشيئة) الإلهية أيضا ؛

(ولذلك) ، أي لكونه من حكم المشيئة الإلهية (نفذ تقريره) بين المؤمنين به خاصة دون نفوذ مقتضاه في الكل (فإن المشيئة) الإلهية (ليس لها فيه) ، أي في الشرع المقرر إلا التقرير ، أي الإثبات والتبيين للمكلفين بالأنبياء والمرسلين عليهم السلام لا لها العمل بما جاء ذلك الشرع (به ، فالمشيئة) الإلهية (سلطانها عظيم) لنفوذها في كل شيء إيجادا وإمدادا (ولهذا) ، أي لعظم سلطانها (جعلها أبو طالب) المكي صاحب « قوت القلوب » عرش الذات الإلهية ،

أي مستولى الذات الإلهية ، فلا تظهر الأسماء الإلهية بآثارها في الملك والملكوت إلا بحسب مقتضاها في الخير والشر لأنها ، أي المشيئة الإلهية لذاتها ، أي لكونها مشيئة تقتضي الحكم ، أي ترجيح أحد طرفي الممكن الإيجاد والإعدام .

(فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع) من الوجود شيء خارجا عن المشيئة الإلهية أصلا (فإن الأمر الإلهي إذا خولف) ، أي خالفه مخالف من المكلفين به هنا ، أي في الشرع المقرر (بالمسمى معصية) من أفعال المكلفين (فليس) الذي خولف (إلا الأمر) الإلهي (بالواسطة) وهي الملائكة والأنبياء عليهم السلام والعلماء الناقلون ذلك عنهم (لا الأمر التكويني) ، أي الذي به تتكون الأشياء من عدمها ، وهو أمر المشيئة والإرادة كما قال تعالى :إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ( 40 ) [ النحل : 40 ].

  
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فما خالف اللّه أحد قطّ في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة ؛فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة فافهم .
وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنّما يتوجّه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر على يديه ،فيستحيل أن لا يكون ؛ولكن في هذا المحلّ الخاصّ .
فوقتا يسمّى به مخالفة لأمر اللّه ، ووقتا يسمّى موافقة وطاعة لأمر اللّه ، ويتبعه لسان الحمد والذّم على حسب ما يكون .
ولمّا كان الأمر في نفسه على ما قرّرناه لذلك كان مآل الخلق إلى السّعادة على اختلاف أنواعها.
فعبّر عن هذا المقام بأنّ الرّحمة وسعت كلّ شيء ، وأنّها سبقت الغضب الإلهيّ . )

(فما خالف) اللّه تعالى (أحد قط في جميع ما يفعله) سبحانه (من حيث أمر المشيئة) الإلهية النافذة الحكم في كل شيء (فوقعت المخالفة) ممن وقعت منه (من حيث أمر الواسطة) وهو الأمر التكليفي في الشرع المقرر لا غير (فافهم) يا أيها السالك (وعلى الحقيقة فأمر المشيئة) الإلهية (إنما يتوجه) من الحق تعالى (على إيجاد عين الفعل) وهو العمل الصادر من المكلف المسمى خيرا أو شرا . قال تعالى :وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ( 96 ) [ الصافات : 96 ] ،

 
أي وخلق عملكم ، والخلق هو توجه المشيئة الإلهية (لا) يتوجه (على من ظهر ذلك) الفعل (على يده) إلا في حال تكوينه بأمر المشيئة الإلهية مثل تكوين فعله (فيستحيل) حينئذ عقلا وشرعا (أن لا يكون) ، أي لا يوجد ذلك الفعل الذي توجه عليه أمر المشيئة الإلهية ولكن في هذا (المحل الخاص) وهو العبد الفلاني من المكلفين .

(فوقتا يسمى) ، أي ذلك الفعل تسمية كائنة به ، أي بأمر المشيئة الإلهية (مخالفة لأمر اللّه ) تعالى ووقتا آخر يسمى ذلك الفعل (موافقة وطاعة لأمر اللّه تعالى .)

وهذه التسمية واردة في الشرع المقرر (ويتبعه) ، أي ذلك الفعل في الشرع (لسان الحمد) في تسميته موافقة وطاعة أو لسان الذم في تسميته مخالفة ومعصية (على حسب ما يكون) ذلك الفعل من المكلف (ولما كان الأمر) الإلهي والشأن الرباني (في نفسه على ما قدرناه) من أن أمر المشيئة لا يخالفه شيء أصلا ، فلم يخالف اللّه أحد قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة الإلهية ، وإن خالفوه من حيث أمره الشرعي الذي كلفهم به على ألسنة الوسائط .

(لذلك) ، أي لما ذكر (كان مآل) ، أي مرجع (الخلق) ، أي المخلوقين كلهم (إلى السعادة) الأبدية (على) حسب (اختلاف أنواعها) ، أي السعادة (فعبر) بالبناء

للمفعول في كلام اللّه تعالى (عن هذا المقام) الذي هو مرجع الكل إلى السعادة المختلفة (بأن الرحمة) الإلهية (وسعت كل شيء) ، قال اللّه تعالى :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[ الأعراف : 156 ] ، فكل شيء ظهر منها ويرجع إليها ، ولهذا تسعه ولا تضيق عنه وأنها ، أي الرحمة سبقت الغضب الإلهي .
كما ورد في الحديث « أن رحمتي سبقت غضبي » . أخرجه البخاري
في رواية له ولمسلم : إن رحمتي تغلب غضبي " .
وفي رواية للبخاري : « غلبت غضبي » .
وفي رواية لمسلم : " سبقت رحمتي غضبي "
وكان ذلك ، لأنها الأصل والغضب طارىء عليها باعتبار تقدير المخالفة والمعصية المقتضية له ، فإذا رجعت الأمور إلى أصولها وجدت الرحمة ووسعت المخالفة والمعصية فأوجدتها ، ووسعت العقوبة في الآخرة والعذاب والنار فأوجدت ذلك ، فغلب حكمها مع بقاء النار وجميع ما فيها من أنواع العقوبات ، فيظهر أن الغضب نوع من الرحمة ، ويتبين عند ذلك كون الرحمة سابقة الغضب ، ويزول من الأفهام القاصرة مقابلة الغضب للرحمة وكونها نقيضها ، ويعود نوعا منها وهو عينها مع بقاء عينه .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي.   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:02 am

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي.

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 
الجزء الثالث
17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والسّابق متقدّم ، فإذا لحقه هذا الّذي حكم عليه المتأخّر حكم عليه المتقدّم فنالته الرّحمة إذ لم يكن غيرها سبق .  فهذا معنى سبقت رحمته غضبه .  لتحكم على ما وصل إليها فإنّها في الغاية وقفت .
والكلّ سالك إلى الغاية . فلا بدّ من الوصول إليها ، فلا بدّ من الوصول إلى الرّحمة ومفارقة الغضب .
فيكون الحكم لها في كلّ واصل إليها بحسب ما تعطيه حال الواصل إليها .
فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا ....  وإن لم يكن فهم فيأخذه عنّا
فما ثمّ إلّا ما ذكرناه فاعتمد  ..... عليه وكن بالحال فيه كما كنّا
فمنه إلينا ما تلونا عليكم .....  ومنّا إليكم ما وهبناكم منّا )
 
(والسابق) على الشيء (متقدم) عليه (فإذا لحقه) ، أي لحق ذلك السابق (هذا) الشيء (الذي حكم عليه) ، أي على السابق بكونه سابقا (المتأخر) عنه (حكم عليه) ، أي على ذلك المتأخر المسبوق وذلك (المتقدم) السابق فالرحمة ما سبقت الغضب إلا لما كانت متقدمة عليه ، فإذا لحقها الغضب الذي حكم عليها بالسبق إذ لولا تأخره عنها ما كانت سابقة عليه فقد حكمت الرحمة عليه بتأخره عنها (فنالته) ، أي الغضب الإلهي (الرحمة) الإلهية (إذ) ، أي لأنه (لم يكن غيرها) ، أي غير الرحمة (سبق) على الغضب حتى يناله ، فإذا نالته الرحمة أحالته نوعا منها مع بقائه على حكمه ومقتضاه ، كالميتة إذا وقعت في المملحة فصارت ملحا كانت المملحة سابقة على تلك الميتة وكل سابق متقدم ، فإذا ألقيت تلك الميتة المتأخرة عن وجود المملحة في المملحة لم تزل المملحة متقدمة في الحكم ، فغلبت على أجزاء تلك الميتة فأحالتها ملحا مثلها وبقيت صورة الميتة على حالها ، فيقال فيها : ميتة حمار أو جمل أو طير ونحو ذلك . وفي نفس الأمر الكل ملح .
 
(فهذا معنى) أنه تعالى (سبقت رحمته غضبه) كما ورد في الحديث (لتحكم) ، أي الرحمة (على من وصل إليها) ممن هو آيل وراجع إليها لتأخره عنها بإدراك الغضب له ثم لا يزال يسير به الغضب خلف الرحمة حتى يصل إلى الرحمة فإنها ، أي الرحمة (في الغاية) التي إليها السير من الجميع كما قال تعالى :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ[ هود : 123 ] وقفت إذ هي رحمة اللّه تعالى ظهرت منه بظهور أمره ، فتوجهت على إيجاد كل شيء ، ثم تنوّعت أنواعا منها : نوع الغضب فساق هذا النوع منها المسمى بالغضب قوما بمخالفاتهم ومعاصيهم إليه تعالى لقيامهم بأمره من حيث لا يشعرون ، فلما رجع أمره إليه رجعوا هم أيضا إليه بحكم وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فوجدوا الرحمة سبقتهم إليه ، لأنه غايتها فوقعوا فيها فوسعتهم ، فمنها كان ابتداؤهم وإليها كان مرجعهم وانتهاؤهم .
 
(والكل) ، أي كل شيء (سالك) مع الأنفاس إذ هو في خلق جديد كما مر (إلى الغاية) التي هي مستقر الرحمة وهي حضرة الحق تعالى (فلا بد من الوصول إليها) ، أي الغاية (فلا بد من الوصول إلى الرحمة) الإلهية ومن مفارقة غلبة حكم الغضب الإلهي في كل سالك إذ بالوصول إليها يستحيل الغضب رحمة كما ذكرنا (فيكون الحكم لها) ، أي الرحمة (في كل) سالك (واصل إليها) لكن حكما خاصا.
 
(بحسب ما يعطيه حال الواصل إليها )، أي إلى الرحمة من السالكين ، فلا يزال مسمى جهنم دركاتها وأنواع العذاب فيها لأهلها إلى الأبد ، ولكن الرحمة تسع ذلك كله فتحيله إليها ، فيرجع الكل رحمة مع بقاء الغضب غضبا والعذاب عذابا .
قال تعالى :فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ" [ الحديد : 13 ].
وفي الحديث : « لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد حتى يضع الجبار قدمه فيها فتقول : قط قط وينزوي بعضها إلى بعض » . رواه النسائي واحمد .
 
(فمن كان) من السالكين (ذا) ، أي صاحب (فهم) منوّر بنور الإيمان كما ورد :
" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه ".   (يشاهد) عيانا (ما) ، أي الذي قلناه في سبق الرحمة للغضب في أهل النار الذين هم أهلها مع بقاء الكل بحاله ولا يحتاج إلى معلم يعلمه ذلك (وإن لم يكن) له (فهم) كذلك (فيأخذه) ، أي ما قلنا من الأمر المذكور عنا ويتعلمه منا إن كان قابلا لذلك ، وكان مؤمنا بنا مصدقا لكلامنا وإلا فله ما رأى وحسابه على اللّه .
 
(فما ثم) ، بالفتح ، أي هناك في نفس الأمر من الحق إلا ما ذكرناه في هذا المحل وغيره (فاعتمد) يا أيها السالك (عليه) ، أي على ما ذكرناه (وكن بالحال) ، أي الذوق والشهود لا التخيل والفهم لمعناه فقط (فيه) ، أي فيما ذكرناه (كما كنا) نحن فإننا على شهود منه وذوق لا تخيل لمعناه وفهم .
(فمنه) ، أي من الأمر في نفسه وأصل (إلينا ما) ، أي الذي (تلوناه عليكم) من الكلام فإنه انكشف لنا بنور اللّه تعالى الذي نحن ننظر به من حيث إنا مؤمنون فعرفناه على ما هو عليه من حيث إنا محسنون نعبد اللّه كأنا نراه فإن لم نكن نراه فإنه يرانا .
 
قال تعالى :اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ[ النور : 35 ] والنور يكشف كل مستور (ومنّا) وأصلا (إليكم ما وهبناكم منا) ، لأنه موقوف على الكشف عنه منه فإذا أخذتموه منا تخيلتموه بأفهامكم ، فلم يصل إليكم ما الأمر عليه في نفسه من ذلك ، لأنه لا يؤخذ إلا منه بنور اللّه تعالى كما أخذناه نحن لا منا من حيث ما نحن عندكم وعلى اللّه قصد السبيل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا تليين الحديد فقلوب قاسية يليّنها الزّجر والوعيد تليين النّار الحديد .
وإنّما الصّعب قلوب أشدّ قساوة من الحجارة ، فإنّ الحجارة تكسّرها وتكلّسها النّار ولا تليّنها : وما ألان له الحديد إلّا لعمل الدّروع الواقية تنبيها من اللّه : أي لا يتّقى الشّيء إلّا بنفسه ، فإنّ الدّرع يتّقى بها السّنان والسّيف والسّكّين والنّصل ، فاتّقيت الحديد بالحديد .
فجاء الشّرع المحمّديّ بأعوذ بك منك . فافهم ، فهذا روح تليين الحديد فهو المنتقم الرّحيم .
واللّه الموفّق . )
 
(وأما تليين الحديد) لداود عليه السلام كما قال اللّه تعالى :وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ[ سبأ : 10 - 11 ] ، (فقلوب) القوم غافلين عن اللّه تعالى (قاسية) من كثرة جهلها به سبحانه كما قال اللّه تعالى :ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ[ البقرة : 74 ] ، وهم أصحاب البقرة الذين هم كالبقر اليهود الذين كان فيهم داود عليه السلام (يلينها الزجر والوعيد )، أي الإنذار والتخويف (مثل تليين النار الحديد) حين ألقاه به فيها ، وذلك مما أكرم اللّه تعالى به داود عليه السلام (وإنما الصعب قلوب) القوم أكثر غفلة من الأوّلين (أشد قسوة من الحجارة) والحجارة أقسى من الحديد وهذه القلوب أقسى من الحجارة فإن الحديد تلينه النار .
(والحجارة تكسرها وتكلسها) ، أي تجعلها كلسا (النار ولا تلينها) وهذه القلوب القاسية لا تلينها المواعظ والآيات في الدنيا ولا النار في الآخرة ، ولهذا تبقى فيها إلى الأبد من غير تأثير فيها (وما ألان اللّه) تعالى (له) ، أي لداود عليه السلام (الحديد إلا لعمل الدروع) جمع درع (الواقية) ، أي الحافظة لمن يلبسها من معرة السلاح (تنبيها من اللّه) تعالى لداود عليه السلام وغيره على سر خفي (أن لا يتّقى الشيء إلا بنفسه) فنفسه وقاية منه .
(فإن الدرع) من الحديد (يتقى به السنان) جمع سن وهو نصل الرمح (والسيف والسكين والنصل) من السهام وهي من الحديد (فاتقيت الحديد بالحديد فجاء الشرع المحمدي) في نظير ذلك التنبيه (بأعوذ) ، أي بقول نبينا صلى اللّه عليه وسلم في دعائه : « اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك » .أخرجه السيوطي في الجامع الصغير.
 
فلا تحصل الوقاية من اللّه تعالى إلا باللّه تعالى ، فكل من اتقاه بنفسه فليس بمتق ومن اتقاه به فهو المتقي ؛ ولهذا قال تعالى اقرأ باسم ربك فقرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال تعالى :وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[ البينة : 5 ] ، أي يعبدونه به لا بأنفسهم .
 
وقال تعالى للشيطان :إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ[ الحجر : 42 ] وهم العابدون له به وهم المخلصون . وقال تعالى حكاية عن الشيطان :لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ ص : 82 - 83 ] .
ونزل في ابتداء كل سورة : بسم اللّه الرحمن الرحيم إلا سورة التوبة لنزولها في قتال المشركين وبراءة اللّه تعالى ورسوله منهم فليسوا باسم اللّه وإنما هم بنفوسهم .
ولما كان الأمر في نفسه باللّه وإن جهلوه جاءت الباء في أوّل السورة إشارة إلى باء البسملة لكنها خفية ، لأنها جزء من براءة اللّه تعالى منهم وبراءة رسوله عليه السلام الكامنة في نفوسهم وهم لا يشعرون فافهم يا أيها السالك ما ذكر فهذا الأمر المذكور
روح ،أي سر تليين اللّه تعالى الحديد لداود عليه السلام فهو ، أي اللّه تعالى المنتقم فيتقي منه الرحيم فيكون وقاية لعباده منه .
 
قال تعالى :نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 49 ) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ( 50 ) [ الحجر : 49 - 50 ] واللّه سبحانه هو الموفق لمن يشاء إلى هذه التقوى والحافظ لعباده في السر والنجوى .


.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي.   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالأحد يناير 19, 2020 6:30 pm

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي.

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

الفص اليونسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
 18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية
هذا فص الحكمة اليونسية ، ذكره بعد حكمة داود عليه السلام لأنه تهذيب فيها وتكميل لها وبيان لاحترام النوع الإنساني مطلقا بقدر الإمكان ، اعتبارا للخلافة العامة الثابتة لكل مكلف فيما يملك من الحقوق ، وإن جار فيها وظلم وتجاوز الحد ، فإنه مسؤول عن ذلك بعد عزله بالموت .
 
قال تعالى :"وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ"[ الحديد : 7 ] . وقال تعالى :"وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ"[ الأنعام : 165 ] ، وقال تعالى :"إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ"[ الأنعام : 133 ] . وقال تعالى ":وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ"الأعراف :69 ] وقال تعالى :"وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ" [ الأعراف : 74 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع بني آدم خلفاء في الأرض ،
لكن ليست الخلافة الكاملة في الظاهر كخلافة الملوك أو في الظاهر والباطن كخلافة الأنبياء عليهم السلام وورثتهم من الأولياء .

(فص حكمة نفسية) ، أي منسوبة إلى النفس الإنسانية (في كلمة يونسية) ، إنما اختصت حكمة يونس عليه السلام بكونها نفسية ، لأن الكلام فيها على النفس الإنسانية ولزوم احترامها وخلاصها من ظلمة المعصية على حسب الإمكان كما تخلصت نفس يونس عليه السلام من نفس الحوت الذي ابتلعته ونجاه اللّه تعالى من الظلم الثلاثة ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت .
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أنّ هذه النّشأة الإنسانيّة بكمالها روحا وجسما ونفسا خلقها اللّه على صورته ، فلا يتولّى حلّ نظامها إلّا من خلقها ، إمّا بيده - وليس إلّا ذلك - أو بأمره . ومن تولّاها بغير أمر اللّه فقد ظلم نفسه وتعدّى حدّ اللّه فيها وسعى في خراب ما أمره اللّه بعمارته ).

(اعلم) يا أيها السالك (أن النشأة)، أي الخلقة (الإنسانية) الآدمية (بكمالها) ظاهرا وباطنا (روحا)، أي من جهة الروح (وجسما)، أي من جهة الجسم (ونفسا)،
أي من جهة النفس وكذلك من جهة العقل (خلقها)، أي تلك النشأة (اللّه) تعالى (على صورته) كما ورد في الحديث : « أن اللّه خلق آدم على صورته » .
وفي رواية : « على صورة الرحمن »  وصورة الشيء مجموع صفاته ومدلولات أسمائه إذا سألت أحدا عن صورة شيء وأردت منه بيانها إذا كانت غائبة عنك لتعرفها ، فإنه يأتي لك بصفات ذلك الشيء ومدلولات أسمائه ،
فيقول لك مثلا ، الورد أحمر طيب الرائحة مستدير الورق في وسطه صفرة أخضر الساق مشوكه ونحو ذلك ، فالذي ذكره لك صورته ، وأنت تعلم أن الورد جسم مخلوق ، فتتخيل معنى الصفات التي ذكرها لك على حسب فهمك ، فتصير عارفا بالورد وصورة كل شيء عندك من محسوس ومعقول مناسبة لذلك الشيء ،
وإذا سألت أحدا عن صورة أمر معقول كمسألة ونحوها فإنه يأتيك بصفاتها أيضا ، فتفهمها وتتخيلها على حسب قوتك العقلية ، فتكون عارفا بتلك المسألة ،

وكذلك إذا أردت أن تعرف صورة ما ليس بمحسوس ولا معقول ولا جسم ولا عرض ، فإنه يوصف لك بصفاته ، فإذا فهمتها على حسب ما هو عندك من أنه ليس بمحسوس ولا معقول ولا جسم ولا عرض ، فقد عرفت ذلك الشيء وميزته عن غيره ،
وأما إذا فهمتها على غير ما هو عنك لذلك الشيء بأن فهمتها على حد ما هي منسوبة إلى غير ذلك الشيء من المحسوسات أو المعقولات أو الأجسام أو الأعرض ،
فقد أدركت ذلك الفهم إلى الضلالة في ذلك الشيء وإلى تناقضك فيه ، من أنك تعرف أنه ليس بمحسوس ولا معقول ولا جسم ولا عرض ،
ومع ذلك تفهم أوصافه أنها مثل أوصاف المحسوس أو المعقول أو الجسم أو العرض ، فيكون عندك في نفسك من تلك الصفات المذكورة لك صورة تخالف صورة ذلك الشيء التي أرادها الواصف لك وهو الجهل الفاحش والخبث القبيح ،
فاعرف صورة اللّه تعالى الواردة في الحديث التي هي مجموع صفاته سبحانه ومدلولات أسمائه ، فإن الشرع شرع لك ذلك وبسط الكلام فيه في الكتاب والسنة ،

وأنت تعلم عقلا أن الخالق لا يساوي المخلوق ولا من وجه أصلا ، إذ لو ساواه من وجه ، لجاز في حقه ما جاز في حق ذلك المخلوق من ذلك الوجه ، الجائز في حق المخلوق الفناء والزوال من كل وجه ،
والخالق تعالى لا يجوز في حقه ذلك وإلا لكان مخلوقا مثله والمخلوق عاجز ،  والعاجز ليس بخالق ، فأضيف إلى هذا التنزيه العقلي التشبيه الشرعي ، وخالف الفلاسفة ومن تبعهم في إنكارهم واقتصارهم على التنزيه العقلي حتى تبعتهم المعتزلة في إنكار رؤية الرب تعالى في الآخرة .
 
وافهم الصفات الشرعية الواردة في حق اللّه تعالى على حسب التنزيه العقلي تكن من المؤمنين العارفين ، وتحقق أن صورة اللّه تعالى هي مجموع صفاته ومدلولات أسمائه الواردة في الكتاب والسنة ، ولا تفهم شيئا من ذلك كما تفهمه إذا نسب إلى المخلوق ، تعرف حينئذ معنى أن اللّه تعالى خلق آدم على صورته ،

وكذلك كل إنسان من أولاد آدم مخلوق على الصورة الإلهية أي مخلوق له أعضاء جسمانية وقوى روحانية مسماة بأسماء الصفات والأسماء الإلهية ، وكل عضو منها وقوّة منها مظهر لما يناسبها من الصفات والأسماء الإلهية ،
والجميع مظهر للجميع حتى الذات للذات، فالصورة الآدمية مظهر للصورة الإلهية ، والحضرة الربانية عند قوم ، وحجابه عليها عند قوم آخرين.
 
(فلا يتولى حل) ، أي إزالة (نظامها) ، أي هذه النشأة الإنسانية وإماتتها (إلا من خلقها) وهو اللّه تعالى (إما بيده ) سبحانه وهو الموت حتف الأنف وغيره (وليس) الواقع (إلا ذلك) كما قال تعالى :"يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها"[ الزمر : 42 ]
وإن كان بواسطة ملك الموت ولكن لما كان التأثير له تعالى وحده ولا تأثير لملك الموت في ذلك لم يذكره تعالى في هذه الآية في قوله سبحانه :"قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ"السجدة : 11 ] لم يذكر سبحانه أنه هو المتوفي لهم وذكر ملك الموت ،
لأنه خطاب للكافرين وهم لا يعرفون اللّه تعالى ولكن يعرفون المخلوق ، فنسبت الوفاة إليه مناسبة لهم (أو بأمره )، أي اللّه تعالى كقتل المحصن بالحد ، والقتل بالقصاص ، وقتل أهل الحرب والردة ونحو ذلك .
 
(ومن تولاها )، أي تلك الفعلة في هذه النشأة الإنسانية (بغير أمر اللّه) تعالى بأن قتل أحدا من غير حق ببغي أو قطع طريق أو نحوه (فقد ظلم) ذلك المتولي للقتل نفسه المكلفة شرعا بالكف عن مثل ذلك (وتعدى حد اللّه) تعالى (فيها ) ،
أي في تلك الفعلة المذكورة وسعى في خراب من أمر اللّه تعالى بعمارته من هذه البنية الآدمية والنشأة الإنسانية ، قال تعالى :وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً[ المائدة : 32 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم أنّ الشّفقة على عباد اللّه أحقّ بالرّعاية من الغيرة في اللّه .  أراد داود بنيان البيت المقدس فبناه مرارا ، فكلّما فرغ منه تهدّم ، فشكا ذلك إلى اللّه تعالى فأوحى اللّه تعالى إليه أنّ بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدّماء ،
فقال داود يا ربّ ألم يكن ذلك في سبيلك ؟  قال : بلى ولكنّهم أليسوا عبادي ؟
فقال: يا ربّ فأجعل بنيانه على يدي من هو منّي فأوحى اللّه تعالى إليه أنّ ابنك سليمان يبنيه.)
 
(واعلم) يا أيها السالك (أن الشفقة) من الإنسان (على عباد اللّه) تعالى سواء كانوا مؤمنين أو كافرين ولو في حد أو قصاص ونحو ذلك (أحق) وأولى (بالرعاية) لها (من الغيرة في اللّه) تعالى بالقتل وسفك الدم .
وأما قوله تعالى: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ"[ النور : 2 ] ،
وذلك في غير القتل وسفك الدم من أنواع الحدود والتعازير وغيرهما وقد ورد في الخبر أنه (أراد داود) عليه السلام (بنيان بيت المقدس فبناه مرارا فكلما فرغ منه )،
أي من بنيانه تهدم ولم يستقم بنيانه على يديه فشكى ، أي داود عليه السلام ذلك ،
أي تهدم البنيان إلى اللّه تعالى فأوحى اللّه تعالى إليه قائلا إن بيتي هذا لا يقوم ،
أي يثبت بنيانه على يدي من سفك الدماء ، وذلك أن داود عليه السلام مع طالوت في بني إسرائيل غزا الجبابرة الكنعانيين وسفك دماءهم بأمر اللّه تعالى وقتل داود جالوت وآتاه اللّه الملك (فقال داود) عليه السلام (يا رب ألم يكن ذلك) ،
أي سفك دماء الجبارين (في سبيلك) ،
أي طريقك المشروع لنا بالوحي منك طلبا لمرضاتك وامتثالا لأمرك .
قال اللّه تعالى: (" بلى") ، يعني كان ذلك كذلك (ولكنهم) ،
أي المسفوك دماؤهم من الكفار الجبارين (أليسوا عبادي) ،
أي أنا خلقتهم ورزقتهم وأقمتهم فيما أردت من الأحوال وخلقت لهم ما شئت من الأعمال والأقوال .
(قال) داود عليه السلام عند ذلك (يا رب فاجعل بنيانه) ،
أي بيت المقدس على يدي من هو مني ،
أي أحد من ذريته ليكون له نصيب من الثواب ولا يحرم ذلك بالكلية (فأوحى اللّه) تعالى (إليه) ،
أي إلى داود عليه السلام (أن ابنك سليمان) عليه السلام (يبنيه) ، أي بيت المقدس ويستقيم بنيانه على يديه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النّشأة الإنسانيّة ، وأنّ إقامتها أولى من هدمها .
ألا ترى عدوّ الدّين قد فرض اللّه في حقّهم الجزية والصّلح إبقاء عليهم ، وقال :"وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ"[ الأنفال : 61 ] ،. ألا ترى من وجب عليه القصاص كيف شرّع لوليّ الدّم أخذ الفدية أو العفو ؟ فإن أبى فحينئذ يقتل ؟
ألا تراه سبحانه إذا كان أولياء الدّم جماعة فرضي واحد بالدّية أو عفاه ، وباقي الأولياء لا يريدون إلّا القتل ، فكيف يراعى من عفا ويرجّح على من لم يعف فلا يقتل قصاصا ؟ ألا تراه عليه السّلام يقول في صاحب النّسعة « إن قتله كان مثله » ؟ )
 
(فالغرض من) ذكر (هذه الحكاية) عن داود عليه السلام هنا بيان المهم (مراعاة هذه النشأة)،
أي الخلقة (الإنسانية وأن إقامتها)، أي إبقاءها قائمة (أولى من هدمها ) وإزالتها بحسب الإمكان على كل حال (ألا ترى) يا أيها السالك (عدوّ اللّه) تعالى يعني جنسهم وهم الكافرون .
" وفي نسخة [ عدو الدين ] بدل [ عدو اللّه ]"
(قد فرض)، أي قدر اللّه تعالى (في حقهم) شرعا (الجزية والصلح إبقاء عليهم) وتسليم حالهم كما قال تعالى ": حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ"التوبة : 29 ] .
(وقال) اللّه تعالى ("وَإِنْ جَنَحُوا") ، أي مالوا ("لِلسَّلْمِ") بالفتح فالسكون الصلح ضد الحرب ("فَاجْنَحْ")، أي مل أنت أيضا ("لَها") ، أي لتلك الحالة التي جنحوا لها ("وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ")[ الأنفال : 61 ] تعالى فإن اللّه تعالى يكفيك مؤونة ذلك ،

(ألا ترى كل من وجب عليه القصاص) من الناس (كيف شرع) بالبناء للمفعول ، أي شرع اللّه تعالى (لولي الدم أخذ الفدية ) منه وهي الدية في النفس (أو العفو عنه) فهو مخير في ذلك ،
(فإن أبى) ، أي امتنع من ذلك إلا القتل (فحينئذ يقتل) ذلك الذي وجب عليه القصاص (ألا تراه سبحانه) وتعالى حكم في الشرع المحمدي أنه (إذا كان أولياء الدم ) في المقتول عمدا (جماعة فرضي واحد) منهم (بالدية أو عفا) واحد منهم ،
(وباقي الأولياء لا يريدون) من ذلك القاتل (إلا القتل كيف يراعى) جانب (من عفا) عن القاتل أو رضي بالدية (ويرجح على) جانب (من لم يعف) وطلب القصاص ،
(فلا يقتل) لأجل ذلك هذا القاتل (قصاصا) وفي مسند الإمام أبي حنيفة رضي اللّه عنه روى بإسناده عن ابن عباس رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « من عفى عن دم لم يكن له ثواب إلا الجنة » . رواه النسائي و الترمذي وغيرهما

"" الحديث: عن أبي هريرة قال : قتل رجل على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدفع القاتل إلى وليه فقال القاتل : يا رسول اللّه واللّه ما أردت قتله فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أما إنه إن كان قوله صادقا فقتلته دخلت النار فخلى عنه الرجل قال وكان مكتوفا بنسعة قال : فخرج يجر نسعته قال : فكان يسمى ذا النسعة » . والنسعة حبل ، وروي الحديث بألفاظ أخرى .""

ألا تراه ، أي النبي صلى اللّه عليه وسلم (يقول في) حق (صاحب النّسعة) بكسر النون قطعة من النسع بالكسر سير ينسج عريضا على هيئة أعبية البغل تشد به الرحال وسمي نسعا لطوله .
كذا في القاموس (إن قتله) أحد (كان مثله ) ، \
أي مثل المقتول يعني ميتا فلا زيادة فائدة للمقتول بقتل قاتله ، وإنما الفائدة للأحياء تزجر بعضهم عن بعض ؛ ولهذا قال تعالى :"وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ"[ البقرة : 179 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (ألا تراه تعالى يقول :وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فجعل القصاص سيّية ، أي يسوء ذلك الفعل مع كونه مشروعا .فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[ الشورى: 40 ]  لأنّه على صورته . فمن عفا عنه ولم يقتله . فأجره على من هو على صورته لأنّه أحقّ به إذ أنشأه له .
وما ظهر بالاسم الظّاهر إلّا بوجوده فمن راعاه إنّما يراعي الحقّ وما يذمّ الإنسان لعينه وإنّما يذمّ الفعل منه ، والفعل ليس عينه ، وكلامنا في عينه . ولا فعل إلّا للّه ؛ ومع هذا ذمّ منها ما ذمّ وحمد ما حمد .  ولسان الذّمّ على جهة الغرض مذموم عند اللّه تعالى .
فلا مذموم إلا ما ذمّه الشّرع ، فإنّ ذمّ الشّرع لحكمة يعلمها اللّه أو من أعلمه اللّه كما شرع القصاص للمصلحة إبقاء لهذا النّوع وإرداعا للمتعدّي حدود اللّه فيهوَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ[ البقرة : 179 ] وهم أهل لبّ الشيء الذّين عثروا على سرّ النّواميس الإلهيّة والحكميّة . )
 
(ألا تراه ) ، أي اللّه (تعالى يقول :"وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها"[ الشورى : 40 ] فجعل) سبحانه (القصاص سيئة ، أي يسوء ذلك الفعل) يعني القصاص لا يجب (مع كونه) ، أي القصاص فعلا (مشروعا) وفيه حياة .
قال اللّه تعالى :" وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ " [ البقرة : 179 ] (فَمَنْ عَفا) فيه عن القاتل ("وَأَصْلَحَ") في عفو ذلك بأن علم انزجار القاتل لا تجرؤه على القتل ("فَأَجْرُهُ")، أي فاعل العفو("عَلَى اللَّهِ") [ الشورى : 40 ] "واللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [ هود : 115] 
 
(لأنه) ، أي القاتل المعفو عنه (على صورته) ، أي صورة اللّه تعالى كما بيناه (فمن عفى عنه) ، أي عن القاتل بعد استحقاقه للقتل ووجوب القصاص في حقه (ولم يقتله فأجره) ، أي ثوابه في الآخرة والدنيا (على من هو على صورته) ، وهو اللّه تعالى (لأنه) ، أي من هو على صورته (أحق به) أن يبقى مظهرا له من غير قتل (إذ) هو سبحانه (أنشأه) ، أي خلقه (له وما ظهر) ، أي اللّه تعالى سبحانه (بالاسم الظاهر) الوارد في قوله تعالى :"هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ" [ الحديد : 3].
 
(إلا بوجوده) ، أي وجود هذا القاتل المذكور (فمن راعاه) ، أي راعى القاتل من الناس فإنه (إنما يراعي الحق) تعالى ، لأنه الظاهر به كما أنه الباطن عنه والأوّل بغيبه والآخر بشهادته (وما يذم الإنسان) شرعا وعرفا (لعينه) ، أي لذاته أصلا (وإنما يذم) في الشرع والعرف (الفعل منه) فقط وهنا القتل الصادر منه مذموم لا هو في نفسه مذموم وإن كان حكم القتل أهدر دمه وصيره مذموما كله (وفعله) الذي صدر منه (ليس عينه) ، أي ذاته (وكلامنا في) وجوب احترام (عينه) ، أي القاتل (ولا فعل إلا للّه) تعالى خلقا وإيجادا .
 
قال تعالى :وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [ الصافات : 96 ] ، أي وعملكم (ومع هذا) ، أي كون الفعل للّه مخلوقا سبحانه (ذم) تعالى (منها) ، أي من أفعال العبد التي خلقها (ما ذم وحمد) منها سبحانه (ما حمد) كما ورد ذلك في الكتاب والسنة (ولسان الذم) من كل إنسان (على جهة الغرض) النفساني لشيء من ذلك (مذموم عند اللّه) تعالى .
 
قال تعالى :قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ( 59 ) [ يونس : 59 ] (فلا مذموم) عند المؤمنين (إلا ما ذمه الشرع) كما أنه لا محمود إلا ما حمده ولا مدخل للذم العقلي والمدح العقلي عند المؤمنين أصلا (فإنّ ذم الشرع) في كل ما ذمه إنما هو (لحكمة يعلمها اللّه) تعالى (أو) يعلمها (من أعلمه اللّه) تعالى بها ، وكذلك حمد الشرع فيما حمده وتخييره فيما خير فيه (كما شرع القصاص) في القاتل عمدا (للمصلحة) في حق المكلفين (إبقاء لهذا النوع) الإنساني في الحياة الدنيا (وإرداعا) ، أي زجرا (للمتعدي حدود اللّه) تعالى (فيه) ، أي في هذا النوع .
 
قال تعالى : ("وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ") [ البقرة : 179 ] باعتبار كف الناس عن القتل خوفا من القصاص إذا أقيم على القاتل ، فيحيا من لولا الكف من القادر على القاتل لقتل ("يا أُولِي الْأَلْبابِ") ، أي أصحاب العقول الكاملة (وهم) ، أي أولو الألباب (أهل لب الشيء) ، أي خلاصته وزبدته فلهم خلاصة العقول وزبدتها (الذين عثروا) ، أي اطلعوا (على سر النواميس) ، أي الشرائع (الإلهية و) القوانين الحكمية ، وعلموا حكمها وخفايا معانيها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذ علمت أنّ اللّه راعى هذه النّشأة وإقامتها وإدامتها فأنت أولى بمراعاتها إذ لك بذلك السّعادة ، فإنّه ما دام الإنسان حيّا ، يرجى له تحصيل صفة الكمال الّذي خلق له .  ومن سعى في هدمها فقد سعى في منع وصوله لما خلق له .
وما أحسن ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " ألا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ذكر اللّه " .
وذلك أنّه لا يعلم قدر هذه النّشأة الإنسانيّة إلّا من ذكر اللّه الذّكر المطلوب منه ، فإنّه تعالى جليس من ذكره ، والجليس مشهود الذاكر ومتى لم يشاهد الذّاكر الحقّ الّذي هو جليسه فليس بذاكر .  فإنّ ذكر اللّه سار في جميع العبد .
لا من ذكره بلسانه خاصّة . فإنّ الحقّ لا يكون في ذلك الوقت إلّا جليس اللّسان خاصّة ، فيراه اللّسان من حيث لا يراه الإنسان بما هو راء .
فافهم هذا السّرّ في ذكر الغافلين . )
 
(وإذا علمت) يا أيها السالك (أن اللّه) تعالى (راعى) ، أي اعتبر شرعا (هذه النشأة) ، أي الخلقة الإنسانية (وإقامتها) أي إبقاءها واستدامتها حتى يكون اللّه تعالى هو الذي يحل نظامها ويفض ختامها (فأنت) يا أيها السالك (أولى بمراعاتها) ،
أي المحافظة على حقوقها ، لأنك المندوب إلى ذلك والمشار عليك به (إذ) ،
أي لأنه (لك بذلك) ، أي بسببه (السعادة) في الدنيا والآخرة لأنك راعيت حكم ربك وقمت بما ندبك إليه (فإنه) ، أي الشأن (ما دام الإنسان حيا) في هذه الدنيا فإنه (يرجى) بالبناء للمفعول (له) ، أي لذلك الإنسان تحصيل صفة الكمال الإنساني الذي خلق هذا الإنسان له ،
أي لأجل تحصيله وهو معرفته بربه وقيامه به عن كشف وشهود (و) كل (من سعى في هدمه) ، أي هدم بنيان الإنسان (فقد سعى في منع وصوله) ، أي الإنسان (لما خلق) ، أي خلقه اللّه تعالى (له) من تحصيل صفة الكمال ويصير قاطعا عليه طريق احتمال الوصول إلى حضرة ذي الجلال .
قال تعالى :" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها" [ البقرة : 114 ] ،
وقال تعالى : " أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ( 9 ) عَبْداً إِذا صَلَّى ( 10 ) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى ( 11 ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى ( 12 ) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( 13 ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى( 14 ) [ العلق : 9 - 14 ] .
 
(وما أحسن ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ) للصحابة رضي اللّه عنهم (ألا أنبئكم) ، أي أخبركم (بما) ، أي بأمر (هو خير لكم وأفضل) عند اللّه تعالى (من أن تلقوا) ، أي لقاءكم (عدوكم) يعني جنسه وهم الكافرون (فتضربوا رقابهم) بسيوفكم في الحرب (ويضربوا) أيضا (رقابكم) بسيوفهم (ذكر اللّه)  تعالى بقلوبكم وألسنتكم فإنه أفضل من ذلك كله. رواه الحاكم  والترمذي
"" الحديث :  عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا : وما ذاك يا رسول اللّه
قال : ذكر اللّه عز وجل . أهـ.
وقال معاذ بن جبل: "ما عمل آدمي من عمل أنجى له من عذاب اللّه من ذكر اللّه عز وجل"أهـ.""
 
لأن ضرب الرقاب قطع لتحصيل الكمال ففيه ، ضرر بأحوال القابلين لأشرف الأحوال ، وهو ذكر اللّه تعالى في الغدو والآصال .
فأشار صلى اللّه عليه وسلم بالذكر إلى الإبقاء وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً[ الإسراء : 44 ] .
وذلك ، أي كان الأمر كما ذكر لأجل أنه ، أي الشأن لا يعلم قدر هذه النشأة ، أي الخلقة الإنسانية عند اللّه تعالى إلا من ذكر اللّه تعالى الذكر المطلوب حصوله منه وهو شهود المذكور الحق لا إله إلا اللّه ، ومتى غفل عن شهوده خرج عن ذكره لأن الذكر ضد الغفلة وهما لا يجتمعان فإنه تعالى جليس من ذكره من الناس كما ورد في الحديث : « أنا جليس من ذكرني » . اخرجه الدينوري المالكي في المجالسة ورواه ابن ابي شيبه والبيهقى وابي نعيم الأصفهاني في الحلية.

"" أضاف الجامع :
1 - الحديث :عن، كعب، قال: " قال موسى: أي رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ قال: يا موسى , أنا جليس من ذكرني , قال , يا رب , فإنا نكون من الحال على حال نعظمك أو نجلك أن نذكرك عليها , قال: وما هي؟ قال: الجنابة والغائط , قال: يا موسى , اذكرني على كل حال ".رواه ابن ابي شيبه والبيهقى و ابي نعيم الأصفهاني في الحلية وابن القيم في الوابل الصيب ومجموع الفتاوى لابن تيمية والسيوطي في الجامع والدر المنثور .

2 - الحديث : عن ابن عباس قال: «يكره أن يذكر الله وهو جالس على الخلاء، والرجل يواقع امرأته؛ لأنه ذو الجلال يجل عن ذلك» . أخرجه ابن أبى شيبة وابن المنذر عن ابن عباس موقوفاً ""

(إذ الجليس مشهود للذاكر) ، لأنه متى ذكره كان جليسه والجليس مشهود على كل حال ، ومن لم يكن جليسه بجانبه فإنه غائب عنه حينئذ ، والجليس حاضر لا غائب وإلا فليس بجليس ومتى لم يشاهد العبد الذاكر للحق تعالى الحق تعالى الذي هو جليسه فليس ذلك العبد بذاكر للحق تعالى ، وكل ذاكر للحق تعالى مشاهد له بالعضو منه الذي فيه الذكر ،
وإن غفل العضو الآخر فإنّ ذكر اللّه تعالى سار في جميع العبد
فكان عضو منه ظاهره وباطنه ذاكرا للّه تعالى مشاهد له وهو العبد الكامل في العبودية لا من ذكره للّه تعالى بلسانه خاصة وبقية أعضائه غافلة لتقييدها بعبودية غيره تعالى وهي الانفعال للغير ولو بالخاطر
كانفعال أهل الدنيا للدنيا في ظواهرهم وبواطنهم من جهلهم باللّه تعالى وعدم معرفتهم به
فإن الحق تعالى لا يكون في ذلك الوقت ، أي وقت الذكر باللسان خاصة إلا جليس اللسان خاصة دون بقية الأعضاء فيراه ،
أي يرى الحق تعالى ذلك اللسان ويشهده من حيث لا يراه ذلك الإنسان الذاكر بلسانه خاصة ولا يشهده لغفلته عنه بما متعلق بيراه اللسان هو ، أي ذلك الإنسان راء للأشياء وهو ، البصر المعروف .
فافهم يا أيها السالك هذا السر العجيب في ذكر الغافلين عن اللّه تعالى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالذّاكر من الغافل حاضر بلا شكّ ، والمذكور جليسه فهو يشاهده  والغافل من حيث غفلته ليس بذاكر فما هو جليس الغافل فإنّ الإنسان كثير ما هو أحديّ العين ، والحقّ أحديّ العين كثير بالأسماء الإلهيّة : كما أنّ الإنسان كثير بالأجزاء : وما يلزم من ذكر جزء ذكر جزء آخر . فالحقّ جليس الجزء الذاكر منه والآخر متّصف بالغفلة عن الذّكر .
ولا بدّ أن يكون في الإنسان جزء يذكر به فيكون الحقّ جليس ذلك الجزء فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية . )
 
(فالذاكر) للّه تعالى (من) أعضاء العبد (الغافل) عن اللّه تعالى (حاضر) ، أي مشاهد للّه تعالى (بلا شك) في ذلك (والمذكور له) وهو اللّه تعالى (جليسه) ،
أي مجالس له كما ورد في الحديث السابق : « أنا جليس من ذكرني »  .
(فهو) ، أي العضو الذاكر من الغافل (يشاهده) ، أي يشاهد اللّه تعالى (والغافل) عن اللّه تعالى (من حيث غفلته) عنه سبحانه (ليس بذاكر) له تعالى فما هو ، أي اللّه تعالى (جليس الغافل) عنه سبحانه (فإن الإنسان) الواحد (كثير) بالأعضاء والأجزاء (ما هو) ،


أي الإنسان (أحدي العين) ، أي الذات لكثرة أعضائه وأجزائه (والحق) تعالى (أحدي العين) أي هو واحد في ذاته ، فلا تعدد له أصلا ، وواحد في أسمائه وصفاته ، فهو موصوف بالواحدية في كل اسم منها وكل صفة .
قال تعالى : "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" [ الإخلاص : 1 ] ،
واللّه اسم من أسمائه تعالى ، أي هذا المسمى بهذا الاسم أحد من حيث ذاته لعدم تغير ذاته وعدم تبدلها وبقائها أزلا وأبدا بخلاف ذات الإنسان فإنها وإن كانت واحدة في نفس الأمر لكنها متغيرة بالمثل في كل حين متبدلة لا بقاء لها أصلا فما هي بأحدية ،

وإنما هي واحدة من حين خلقها اللّه تعالى إلى الأبد قد ولاها اللّه تعالى على أعضاء الجسد وأجزائه وصرفها في ذلك بأمره تعالى إلى أن يعزلها بالموت ثم يحاسبها على كل ما صدر منها في موضع ولايتها (كثير) ، أي متعدد من حيث ظهوره (بالأسماء الإلهية) وإن كان تعالى أحدا في ذاته (كما أن الإنسان) الواحد (كثير) ،
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي.   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالأحد يناير 19, 2020 6:31 pm

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي.

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

الفص اليونسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
 18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية
أي متعدد (بالأجزاء) الجسمانية وإن كان واحدا في ذاته (وما يلزم من ذكر جزء ما) يعني أي جزء كان من أجزاء اللسان للّه تعالى (ذكر جزء آخر) من أجزائه للّه تعالى كما أنه لا يلزم من ظهور ذات الحق تعالى في اسم من أسمائه سبحانه بأثر خاص ظهور ذات الحق تعالى أيضا في اسم آخر من أسمائه تعالى بمثل ذلك الأثر الخاص ، وإنما تظهر الذات الإلهية كل لمحة من الزمان في كل اسم من أسمائها بأثر خاص لا يظهر عن غير ذلك الاسم في غير تلك اللمحة أصلا لا فيما مضى ولا فيما سيأتي إلى الأبد .
 
(فالحق) تعالى (جليس الجزء الذاكر) للّه تعالى (منه) ، أي من الإنسان(و) الجزء (الآخر) منه (متصف بالغفلة عن الذاكر) ، أي ذاكر اللّه تعالى (ولا بد أن يكون في الإنسان جزء يذكر) اللّه (به) ، أي بذلك الجزء منه ، أي إنسان كان مؤمنا أو كافرا أو جاهلا أو عالما ، عرف الإنسان ذلك الجزء أو لم يعرفه ، ولا يكون أن يكون غافلا مطلقا ولا ذاكرا مطلقا أيضا ، بل إذا غفل منه جزء ذكر منه كما أن العالم لا يخلو من غافل ومن ذاكر أصلا ، فإذا غفل الذاكر ذكر الغافل وبالعكس (فيكون الحق) تعالى (جليس ذلك الجزء) الذاكر من الإنسان (فيحفظ) ذلك الجزء أو الحق تعالى (باقي الأجزاء) من الإنسان (بالعناية) الإلهية .
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما يتولّى الحقّ هدم هذه النّشأة بالمسمّى موتا وليس بإعدام كلّيّ وإنّما هو تفريق ، فيأخذه إليه ، وليس المراد إلا أن يأخذه الحقّ إليهوَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [ هود : 123 ] فإذا أخذه إليه سوّى له مركبا غير هذا المركب من جنس الدّار الّتي ينتقل إليها ، وهي دار البقاء لوجود الاعتدال .  فلا يموت أبدا ، أي لا تفرّق أجزاؤه . )
 
(وما يتولى) ، أي تولية (الحق) تعالى (هدم) بنيان (هذه النشأة) ، أي الخلقة الإنسانية (بالمسمى موتا) حيث يتولى اسم اللّه المميت على ذلك العبد بعد عزل اسم اللّه المحيي عنه (فليس) ذلك الموت (إعداما) للعبد وإرجاعه إلى ما كان فيه من العدم الأصلي ، فإن اللّه تعالى لا يكرر حالة واحدة على عبد أصلا لسعة التجلي وعدم تناهيه إلى الأبد (وإنما هو) ،
 
أي الموت (تفريق) بين الروح والبدن أوّلا بقصر تصرفها عنه وإظهار عجزها لها ، ثم بين أجزاء البدن ، فلا يبقى لها قدرة على إمساك تلك الأجزاء بالكلية ليكشف لها بعد الموت عن قدرته النافذة في كل شيء ، 


وذلك في ضعيف الروح عن الكشف المذكور في حال الحياة ، ومن كشف في حياته عن ذلك فكان متحققا في نفسه بلا حول ولا قوّة إلا باللّه لا يفنى جسده بعد الموت وتبقى روحه ممسكة لأجزائه بقدرة اللّه تعالى القائمة بها في الحياة وبعد الموت ، كرامة لها عند اللّه تعالى وهم الأنبياء والأولياء ، لتحققهم بذلك في الحياة الدنيوية ، والشهداء لتحققهم عند الموت وشهودهم له ، بذلك سموا شهداء ، ودخل في الأولياء العلماء العاملون ، والمؤذنون المحتسبون ، وغيرهم ممن لا يبلوا في قبورهم فيأخذه ، أي اللّه تعالى ذلك الميت (إليه) سبحانه ، أي حضرته ويذيقه سطوة تصرفه فيه ويغيبه عن شهود تصرف الواسطة في ظاهره وباطنه.


(وليس المراد) ، أي المقصود من الموت (إلا أن يأخذه الحق تعالى) ، أي يأخذ الإنسان إليه سبحانه ، فيشهده حضرته ويغيب عن نفسه بالكلية .
قال تعالى :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ[ هود : 123 ] الإلهي الواحد الذي كل شيء صورته ، فهو من حيث ما هو قيوم واحد أمر ، ومن حيث ما هو كل شيء بالصور المختلفة في الحس والعقل خلق ، فالخلق ما ظهر والأمر ما بطن وما ظهر هو عين ما بطن ؛
ولهذا أكده من حيث ظهوره بقوله (كله) ، أي لا يبقى شيء إلا ويرجع إليه بسبب رجوع الأمر الواحد إليه ، فإن نور الشمس إذا رجع إليها رجعت جميع الشعاعات كلها إليها وانقبضت في الحال بعد انبساطها على أقطار الأرض برا وبحرا .
 
(فإذا أخذه) ، أي أخذ الحق تعالى ذلك الإنسان (إليه) سبحانه (سوّى) ، أي خلق اللّه تعالى (له) ، أي لذلك الإنسان (مركبا) بالتشديد ، أي بدنا آخر مؤلفا من أجزاء أخرى لطيفة برزخية غير هذا المركب بالتشديد أيضا ، أي البدن الذي كان فيه أو بالتخفيف ، أي بدنا أيضا يركبه هذا الإنسان يعني يستولي عليه ويتصرف فيه كما يستولي صاحب الدابة على دابته ويتصرف في تحريكها وتسكينها (غير هذا المركب) ، 

أي البدن الذي كان متوليا عليه وراكبا له في الدنيا (من جنس الدار) البرزخية (التي ينتقل إليها) هذا الإنسان بعد الموت (وهي دار البقاء) وعدم الزوال (لوجود الاعتدال) ، أي تساوي أجزاء تلك النشأة الأخروية بسبب القوّة الروحانية وتحققها بما هو الأمر عليه في نفسه وزوال الوهم والالتباس (فلا يموت) ذلك الإنسان بعد هذا الموت (أبدا أي لا تفرّق أجزاؤه) بعد هذا الافتراق أصلا إذ المقصود قد حصل وهو الرجوع إلى اللّه تعالى بتحقيق أن لا فاعل غيره ذوقا من نفسه . قال تعالى :لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى[ الدخان : 56 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا أهل النّار فمآلهم إلى النّعيم ، ولكن في النّار إذ لا بدّ لصورة النّار بعد انتهاء مدّة العقاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها ، وهذا نعيمهم .
فنعيم أهل النّار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل اللّه حين ألقي في النّار فإنّه عليه السّلام تعذّب برؤيتها وبما تعوّد في علمه وتقرّر من أنّها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان وما علم مراد اللّه فيها ومنها في حقّه .
فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصّورة اللّونيّة في حقّه وهي نار في عيون النّاس . فالشّيء الواحد يتنوّع في عيون النّاظرين : هكذا هو التّجلّي الإلهيّ . )
 
(وأما أهل النار) الذين هم أهلها وهم الكافرون على اختلاف أنواعهم بعد إخراج العصاة فيها (فمآلهم) ، أي مرجعهم في آخر أمر العذاب المستولي عليهم من تجلي اسم اللّه تعالى المنتقم والضار والخافض والمانع ونحو ذلك من أسماء الجلال (إلى النعيم) المؤبد بظهور تجلي اسم اللّه تعالى اللطيف النافع الرافع المعطي ونحو ذلك من أسماء الجمال (ولكن) ذلك النعيم لهم (في النار) ، أي في طبقاتها التي هم فيها فلا يخرجون منها إلى غيرها أصلا كما قال تعالى :وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ[ الحجر : 48 ] ،

ولا يحتاج إلى إخراجهم إذا أراد اللّه تعالى نعيمهم ، فإنه على كل شيء قدير إذا أراد خلق النعيم للمعذب بعين ما هو به معذب وخلق العذاب للمنعم بعين ما هو به منعم ،
وذلك أمر ذوقي لا ظهور له عند الغير ، ولهذا لم يرد التصريح بهذه المسألة في الشرع إلا بطريق الإشارة الخفية ، لأنها من علوم الأذواق لا علوم الأفكار والعقول ، فإن تلك الأسماء الجلالية تتحوّل عين الأسماء الجمالية ، لأن كل اسم منها عين الاسم الآخر بالنسبة إلى الحق تعالى ، وإن امتاز بالأثر المظهر له ،

فإن اللّه تعالى واحد في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه كما تقرر في علم الكلام .
(إذ) ، أي لأنه (لا بد لصورة النار) فإنها مجرد صورة في الأمر الإلهي قائمة به كقيام الموج بالماء ، وهكذا كل شيء في الدنيا والآخرة لأنهما مخلوقتان والخلق صورة الأمر والأمر حقيقة الخلق وسرهم . قال تعالى َلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ[ الأعراف : 54 ] ،
(بعد انتهاء) ، أي انقضاء (مدة العقاب) التي قدرها اللّه تعالى وقضى بها في علمه الأزلي (أن تكون) ، أي صورة النار في الآخرة (بردا) لا حرارة فيها ، لأن الحرارة منهم هي ما في طبيعتهم الغريزية بسبب جهلهم باللّه تعالى الموجود دونهم ، فإذا ختم اللّه وجعل على سمعهم وبصرهم غشاوة قويت تلك الحرارة فيهم ، وحيث ماتوا على ذلك حشروا عليه ودخلوا به حبس الآخرة المسمى بجهنم ، فجاؤوا بنيرانهم إليه كما ورد : « قوموا لنيرانكم فأطفؤوها ».
 
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله عز وجل ملكا ينادي عند كل صلاة يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على أنفسكم فاطفؤها بالصلاة". رواه القديسي في المختارة والطبراني في الأوسط والصغير وحليه الأولياء ومصنف عبد الرزاق الصنعاني
قال صلى الله عليه وسلم  : «إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم». رواه البخاري ومسلم واحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم
 
فكان سر ذلك كله جهلهم بالمتجلي الحق عليهم وهم لا يشعرون لكفرهم ، وتغطيتهم له بما يدعون من مقتضيات الكفر ، فإذا غلب نور التجلي على نار الاستتار أطفؤوها وحالهم على ما هو من غير تغيير ظاهرا فصارت نارهم بردا وسلاما ،
أي أمانا من العذاب بها على من فيها، أي النار وهذا الحال المذكور هو نعيمهم، أي نعيم أهل النار في النار من غير أن يخرجوا منها .

(فنعيم أهل النار) كما ذكر (بعد استيفاء) عقابهم على ترك (الحقوق) الواجبة عليهم للّه تعالى من الإيمان وغيره، فإن للعقاب مدة معلومة عند اللّه تعالى كما قال تعالى :لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً( 23 ) [ النبأ : 23 ] ، ولا ينافيه قوله سبحانه :كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ[ النساء : 56 ] ، وقوله تعالى :لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ[ البقرة : 162 ] ،
أي من عذابها، فإنهم كما يذوقونه ألما ووجعا يذوقونه أيضا لذة وعذوبة، وعينه لا تتغير .
 
أرأيت أن المحب العاشق إذا رأى في ظلمة أحدا من الناس يضربه فإنه يتألم ويتوجع بذلك الضرب ، فإذا تبين له وتحقق أن محبوبه ومعشوقه الهاجر له المعرض عنه هو الذي يضربه فإنه لا شك أن ذلك الألم والوجع الذي كان يجده من الغير ينقلب لذة وعذوبة عنده من غير أن يخفف منه شيء ، وذلك بمجرد انكشاف محبوبه له وتحققه به ،
ولا يعرف هذا ويصدق به إلا من عشق وذاق أحوال العشاق (كنعيم) إبراهيم (خليل اللّه) تعالى (عليه السلام) حين ألقاه عدوّه النمرود في النار ،
 
فصارت عليه بردا وسلاما مع أنها في نفسها على ما هي عليه نار لم تتغير ، فلو دخلها النمرود أو غيره لاحترق بها ، وما منع إبراهيم عليه السلام من الاحتراق بها إلا كونه متحققا في نفسه بربها الحق تعالى التي هي صورة تجليه بها ، وانتفت عنه خواطر الأغيار وانكشفت لوامع الأسرار (حين ألقي في النار) ؛
 ولهذا لما جاء جبريل عليه السلام فقال له : « ألك حاجة ، قال : أما إليك فلا وأما إلى اللّه فبلى . فقال له : سل اللّه ، فقال : علمه بحالي يغني عن سؤالي » .
"أورده العجلوني في كشف الخفاء: (حسبي من سؤالي علمه بحالي) ذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء بلفظ وروي عن كعب الأحبار أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك ثم رموا به في المنجنيق إلى النار فاستقبله جبريل، فقال يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا قال جبريل فسل ربك، فقال إبراهيم حسبي من سؤالي علمه بحالي . انتهى،
وذكر البغوي في تفسير ... (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم) ... أن إبراهيم عليه السلام قال حسبي الله ونعم الوكيل حين قال له خازن المياه لما أراد النمرود إلقاؤه في النار إن أردت أخمدت النار، وأتاه خازن الرياح فقال له إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم لا حاجة لي إليكم، حسبي الله ونعم الوكيل انتهى. "
 
وكذلك أهل النار ألقاهم عدوّهم الشيطان فيها بمنجنيق وساوسه وتسويله كما قال تعالى :الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ[ محمد : 25 ] فإذا آمنوا بالله عند رؤية النار ، وأبصروا الحق في الآخرة من حين خروجهم من قبورهم ، وقال تعالى :قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ[ يس : 52 ] .
وقال تعالى :رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ[ السجدة : 12 ] ، قال تعالى :وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ[ فاطر : 37 ] ، فقال إِنَّكُمْ ماكِثُونَ[ الزخرف : 77 ] ، فإذا زاد تحققهم بوضع الجبار قدمه في النار .
 
كما ورد في الحديث ، ونفذت بصائرهم إلى ذوق الحقيقة بوضع القدم ، وقعوا في عين الحق على ما هم عليه ، وتنعموا بما هم معذبون به ، واللّه على كل شيء قدير ، واللّه لطيف بعباده ، ورحمته وسعت كل شيء .
 
(فإنه) ، أي إبراهيم خليل اللّه عليه السلام (تعذب برؤيتها) ، أي النار لأنها من مظهر الجلال الإلهي وهو قد أوفى الحقائق حقها ، لأنه من الكاملين (وبما تعود في علمه) بأن النار محرقة (وتقرر) عنده (من أنها) ، أي النار (صورة) خلقية قائمة بالحقيقة الأمرية (تؤلم) ،
أي تعطي الألم والوجع لكل (من جاورها) ، أي اقترن بها (من الحيوان) إنسانا كان أو غيره (وما علم) إبراهيم عليه السلام في ذلك الوقت (مراد اللّه) تعالى (فيها) ،
أي في النار ومراده تعالى (منها) ، أي من النار (في حقه) عليه السلام بخصوصه .
(فبعد وجود هذه الآلام) والأوجاع الوهمية فيه من كونه بشرا عليه السلام (وجد) في وقت مسه لتلك النار ("بَرْداً وَسَلاماً") [ الأنبياء : 69 ] .
عكس ما كان في ظنه منها من الحرارة والهلاك فبدله اللّه تعالى بالبرد والأمان مع شهود الصورة الكونية ، أي المخلوقة في حقه عليه السلام وهي ، أي تلك الصورة نار في عيون الناس كما كان يراها عليه السلام من قبل ثم رآها بردا وسلاما .
 
(فالشيء الواحد يتنوع) إلى أنواع كثيرة (في عيون الناظرين) إليه إما في آن واحد كنار إبراهيم عليه السلام ، وهي نار في عين غيره وبردا وسلاما في عينه عليه السلام ، وكالصورة المنحوتة من حجر أو خشب يراها الجاهل بها إنسانا أو حيوانا ويراها العارف بها حجرا أو خشبا ، وكالصورة المرئية من بعيد يراها المتوهم فارسا أو راجلا فتؤثر في نفسه خوفا ورعبا ، ويراها المتحقق بها شجرة أو حجرا كبيرا
 
ونحو ذلك ، وإما في آنات كثيرة كالحبة حشيشة ثم حبة ثم طحينا ثم رغيفا ثم كيموسا ثم دما ثم منيا ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم صورة إنسانية ثم جنينا ثم مولودا ثم طفلا ثم غلاما ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا ثم ميتا ثم جيفة ثم ترابا هكذا هو التجلي الإلهي في عيون الناظرين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (فإن شئت قلت إنّ اللّه تجلّى مثل هذا الأمر ، وإن شئت قلت إنّ العالم في النّظر إليه وفيه مثل الحقّ في التّجلّي.
فيتنوّع في عين النّاظر بحسب مزاج النّاظر أو يتنوّع مزاج النّاظر لتنوّع التّجلّي وكلّ هذا سائغ في الحقائق .
فلو أنّ الميّت - والمقتول - أيّ ميّت كان ، أو أيّ ، مقتول كان - إذا مات أو قتل لا يرجع إلى اللّه ، لم يقض اللّه بموت أحد ولا شرّع قتله .  فالكلّ في قبضته فلا فقدان في حقّه .
فشرع القتل وحكم بالموت لعلمه بأنّ عبده لا يفوته : فهو راجع إليه . على أنّ قوله :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُأي فيه يقع التّصرّف ، وهو المتصرّف ، فما خرج عنه شيء لم يكن عينه ، بل هويّته هو عين ذلك الشّيء .  وهو الّذي يعطيه الكشف في قوله :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [ هود : 123 ] .  ( والتّوفيق من اللّه تعالى ) . )
 
(فإن شئت) يا أيها السالك (قلت إن اللّه) سبحانه (تجلى) ، أي انكشف (مثل هذا الأمر) ، أي الشأن المذكور كما قال تعالى :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ الرحمن : 29].
(وإن شئت قلت : إن العالم) بفتح اللام (في النظر إليه) ، أي إلى نفسه (وفيه) ، أي في نفسه (مثل الحق) تعالى (في التجلي) المتنوّع المذكور (فيتنوّع) ، أي العالم (في عين الناظرين) إليه لا في نفسه (بحسب مزاج الناظرين) إليه وقوّة استعدادهم في إدراكه فيدركونه في وقت هكذا وفي وقت آخر هكذا بمقتضى ما هم فيه من المزاج ، كالأحول يرى الواحد اثنين ، وكالصفراوي يرى العسل مرا ونحو ذلك لسبب فيه لا في المرئي ، والمرئي على ما هو عليه لم يتغير (أو بتنوّع مزاج الناظرين) إلى العالم (لتنوّع التجلي) الإلهي المفيض عليهم ذلك ، ثم يتنوّع العالم في أعينهم بحسب تنوّع مزاجهم .

قال تعالى : " وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [ يونس : 61 ] ، وقال :أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [ الرعد : 33 ] ، وكل هذا الاعتبار (سائغ) ، أي ممكن القول به (في الحقائق) الإلهية الظاهرة والإشارة إليه واردة في الشرع عند أهلها .

(ولو أن) الإنسان (الميت) ، (أو) الإنسان (المقتول) الغافل إذ صاحب اليقظة راجع إلى اللّه تعالى في حياته (أي ميت كان وأي مقتول كان) صغيرا أو كبيرا مؤمنا أو كافرا وغير الإنسان كذلك لكن لا يتعلق به حكم هنا (إذا مات أو قتل) ، أي ذلك الإنسان (لا يرجع) من شهود نفسه وغفلته (إلى) شهود (اللّه) تعالى ويقظته وصاحب اليقظة تزداد يقظته بذلك قال تعالى :وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ[ البقرة:281] الآية .
وقال تعالى : يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ[ النور : 37 ] ، وهو يوم الموت تتقلب فيه القلوب من الغفلة إلى اليقظة .
وفي الحديث : "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " . رواه البيهقي وابونعيم في الحلية والزهري
 
وقال عليه السلام : « إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا » . رواه النسائي والطبراني في مسند الشاميين والسنة لأبي عاصم والمختارة للمقديسي والشريعة للآجري والفتن لنعيم بن حماد.
وقال تعالى :وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ[ الروم : 23 ] ، أي غفلتكم في الحياة الدنيا إلى الموت .
لم يقض اللّه تعالى أي لم يحكم من الأزل بموت أحد من الناس أصلا ولا شرع سبحانه قتله في مهدر الدم بردّة أو حرب أو قصاص أو زنا محصن أو تعزير بليغ ونحو ذلك .
فالكل ، أي الأحياء والأموات في تصريف قبضته سبحانه كما قال تعالى :وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ[ الإسراء : 60 ]  .

 وقال سبحانه : وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [ البروج : 20 ] ، وقال : واللّه بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ[ فصلت : 54 ] ، فلا فقدان لأحد في حقه تعالى بل الكل حاضرون عنده تعالى .
فشرع القتل فيمن يستوجبه وحكم بالموت على كل حي لا ليدخلوا في قبضته ويحضروا عنده بل لعلمه سبحانه بأن عبده لا يفوته وإن غفل عنه وظن أنه يفر منه في الدنيا دون الآخرة .
وقال تعالى :يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ( 10 ) كَلَّا لا وَزَرَ ( 11 ) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ( 12 ) [ القيامة : 10 - 12 ] ، فهو ، أي عبده راجع إليه
 
تعالى على كل حال على أن في قوله تعالى وَإِلَيْه ِسبحانه، أي لا إلى غيره يُرْجَعُ الْأَمْرُ الإلهي الذي كل شيء مخلوق صورته في الحس والعقل كله فلا يبقى غيره أي فيه سبحانه من حيث أنه أمر متوجه على تصوير كل شيء يقع التصرف من كل متصرف وهو سبحانه المتصرف في كل شيء لا غيره .
فما خرج عنه تعالى شيء من محسوس أو معقول لم يكن عينه تعالى بل هويته تعالى عين ذلك الشيء من حيث وجود ذلك الشيء لا من حيث صورته المحسوسة والمعقولة ، فإنها فانية بحكم قوله تعالى :كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [ الرحمن : 26 ] ، أي على أرض الوجود هالكة بحكم قوله سبحانه :كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : 88 ] ،
 
ومنفية بحكم قوله عليه السلام : « كان اللّه ولا شيء معه » وهو الآن على ما عليه كان.
"" العبارة زادها العارفون باللّه تعالى أخذا من قوله تعالى :هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ[ الحديد : 3 ].
وقوله تعالى :كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ( 26 ) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ( 27 ) [ الرحمن: 26 – 27] . ""

وهو ، أي هذا الكلام المذكور الذي يعطيه الكشف الصحيح في معنى قوله تعالى :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هود: 123] عند أهل المعرفة باللّه.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 27, 2020 3:56 pm

19 -  فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص الأيوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
19 -  فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية
هذا فص الحكمة الأيوبية ، ذكره بعد حكمة يونس عليه السلام ، لأن معراج أيوب عليه السلام كان باغتساله بماء تلك العين التي نبعت له لما ركض برجله عن أمر اللّه تعالى ، ومعراج يونس عليه السلام كان بسيره في الماء في بطن الحوت في تلك الظلمات الثلاث ، فناسب ذكره بعده ، فقد مس سر الحياة بواسطة الحوت ومسه أيوب عليه السلام بلا واسطة .
(فص حكمة غيبية) ، أي منسوبة إلى الغيب وهو مقابل للشهادة (في كلمة أيوبية ) إنما اختصت حكمة أيوب عليه السلام بكونها غيبية ، لأن التكلم فيها على سر الحياة الإلهية القائم بها على كل شيء والسر غيب لا شهادة ، وهو ما غاب عن الحس والعقل بحيث لا يحصره أحد إلا غاب عن حسه وعقله .
 قال الشيخ رضي الله عنه :  (إعلم أنّ سرّ الحياة سرى في الماء فهو أصل العناصر والأركان ، ولذلك جعل اللّه مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ[ الأنبياء : 30 ] وما ثمّ شيء إلّا وهو حيّ ، فإنّه ما من شيء إلّا وهو يسبّح بحمد اللّه ولكن لا تفقه تسبيحه إلّا بكشف إلهيّ . ولا يسبّح إلّا حيّ .
فكلّ شيء حيّ فكلّ شيء الماء أصله . ألا ترى العرش كيف كان على الماء لأنّه منه تكوّن فطفا عليه فهو يحفظه من تحته ، كما أنّ الإنسان خلقه اللّه عبدا فتكبّر على ربّه وعلا عليه ، فهو سبحانه مع هذا يحفظه من تحته بالنّظر إلى علوّ هذا العبد الجاهل بنفسه.
وهو قوله عليه السّلام : « لو دلّيتم بحبل لهبط على اللّه » فأشار إلى نسبة التّحت إليه كما أنّ نسبة الفوق إليه في قوله :يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ[ النحل : 50 ] ،وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِه ِ[ الأنعام : 18 ] فله الفوق والتّحت .
ولهذا ما ظهرت الجهات السّتّ إلّا بالإنسان وهو على صورة الرّحمن . )
 
قال رضي الله عنه :  (اعلم ) يا أيها السالك (أن سر الحياة) الإلهية (سرى) من غير سريان إذ هو القيوم (في الماء) على كل ما خلق منه (فهو) ، أي الماء باعتبار ذلك (أصل العناصر) ، أي الأصول (والأركان الأربعة) التي هي الماء والتراب والهواء والنار (ولذلك) :
أي لكون الماء أصلا (جعل اللّه) تعالى "من الماء كلّ شئ حىّ" كما قال تعالى :وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ[ الأنبياء : 30 ] (وما ثم ) بالفتح ، أي هناك (شيء) محسوس أو معقول أو موهوم (إلا وهو حي) بحياة تناسبه مستفادة من حياة اللّه تعالى لقيوميتها عليه ،
 
قال رضي الله عنه :  (فإنه) ، أي الشأن ما من شيء مطلقا إلا وهو يسبح بحمد اللّه تعالى ، أي ينزهه تعالى عما لا يليق به مما يدرى ذلك الشيء بنطق عربي لا بلسان حال .
قال اللّه تعالى الذي أنطق كل شيء ولكن لا يفقه بالبناء للمفعول تسبيحه ، أي تسبيح ذلك الشيء إلا بكشف إلهي لمن يشاء اللّه تعالى من عباده .
قال تعالى :تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً( 44 ) [ الأسراء : 44 ] .
ولا يسبح بحمد اللّه تعالى إلا حي إذ الميت لا ينسب إليه علم ولا حركة ، فلا ينسب إليه تسبيح على أنه لا ميت أصلا بالمعنى الذي عند الغافلين الجاهلين ، والموت صفة من صفات الشيء لا ينافي الحياة فيه كالعقود والكلام فكل شيء حي بحياة تناسبه كما ذكرنا فكل شيء الماء أصله ، أي منشؤه منه ألا ترى يا أيها السالك العرش العظيم كيف كان على الماء كما قال تعالى :وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ[ هود : 7 ] ،
لأنه ، أي العرش منه ، أي من الماء تكوّن ، أي أنشىء وخلق فطفا ، أي علا ذلك العرش عليه ، أي على الماء فهو ، أي الماء الذي هو أصله يحفظه ، أي يحفظ العرش من تحته ، أي من تحت العرش بقوّة سريان الحياة الإلهية فيه كما أن الإنسان خلقه اللّه تعالى عبدا ذليلا من حقه أن يكون قائما بمولاه تعالى في جميع أحواله متحركا ساكنا بأمره كالملائكة الذين هم بأمره يعملون فتكبر ذلك العبد على ربه الذي هو خالقه ومنشيه وعلا ،
أي ارتفع عليه سبحانه بالغفلة عنه والغرور فيه ودعوى الاستقلال بنفسه في جميع شؤونه الظاهرة والباطنة دون الحق تعالى فهو ، أي اللّه سبحانه مع هذا ، أي كونه خالقا له يحفظه ، أي يحفظ ذلك العبد من تحته بالنظر إلى علو ، أي ارتفاع هذا العبد الجاهل باللّه تعالى بنفسه فيدعي ما ليس له من الحول والقوّة ، وليست هذه التحتية للّه تعالى بالنظر إليه تعالى لأنه تعالى موجود ولا شيء معه ،
وكذلك الفوقية له سبحانه كما قال تعالى :يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ[ النحل : 50 ] ، فهي أيضا بالنظر إلى انخفاض العبد العارف باللّه تعالى بنفسه ، فلا يدعي مع اللّه تعالى حولا ولا قوّة ، فهو تعالى فوق العارفين به وتحت الجاهلين الغافلين .
 
قال رضي الله عنه :  (وهو) ، أي ذكر نسبة التحتية إليه سبحانه قوله أي النبي عليه السلام : لو دلّيتم يا أيها الجاهلون باللّه تعالى باعتبار دعواكم الترفع على اللّه تعالى بالاستقلال بالأعمال كما ذكرنا بحبل وهو القرآن العظيم من قوله تعالى :"وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا"[ آل عمران  :103]،
أي نظرتم فيه واعتبرتم ما تضمنه من الآيات ، على أن كل ما ادعيتموه من ترفعكم عليه بالاستقلال في أنفسكم باطل وأنكم في تلك الحالة قائمون به تعالى أيضا متحركون ساكنون به ، وإن غفلتم عن ذلك لهبط ، أي سقط ذلك الحبل الذي دليتم به (على اللّه)  تعالى أي أوصلكم إلى اللّه سبحانه ، وكشف لكم عن ترفعكم عليه بالباطل ، فوجدتموه مجعولا عندكم تحتكم افتراء منكم عليه ، وهو تعالى غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ[ آل عمران : 97 ] .
" ورد الحديث بلفظ : « والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على اللّه ثم قرأ :« هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( 3 ) [ الحديد : 3 ] » . جز من حديث طويل رواه الترمذي في سننه"
 
قال رضي الله عنه :  (فأشار) صلى اللّه عليه وسلم بهذا الحديث (إلى أن نسبة التحت إليه تعالى) وهي حق (كما أن نسبة الفوقية إليه) تعالى أيضا وهي حق (في قوله) تعالى (يخافون) ، أي المؤمنون العارفون ربهم ، أي هم قائمون به في ظواهرهم وبواطنهم من فوقهم لأنهم لم يرتفعوا عليه بدعوى نفوسهم ، كالجاهلين به الذين ترفعوا عليه بدعوى نفوسهم وجعلوه تحتهم ليظهروا بالأمر دونه ، وهؤلاء ظهر هو بالأمر دونهم وقوله تعالى وهو ، أي اللّه تعالى القاهر ، أي لا غيره لنفوس العارفين به فلا يتركها تدعي حركة ولا سكونا فوق عباده المؤمنين باستيلائه عليهم في ظواهرهم وبواطنهم بخلاف عباد الدرهم والدينار الذي قال النبي صلى اللّه عليه وسلم "تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة". رواه الطبراني في الأوسط ورواه الحافظ ابن القاسم ورواه البزار في مسنده والهيثمي في مجمع الزوائد
 
 وفي رواية : « تعس عبد الزوجة » ذكره الغزالي ، فإن اللّه تعالى ليس فوقهم على علم منهم لكونهم ليسوا من العباد المنسوبين إليه في نفوسهم ، وإنما هم عباد الهوى والشيطان ، فليست فوقية عندهم بل تحتية كما ذكرنا .
 
فله ، أي اللّه تعالى الفوق والتحت صفتان ثابتتان شرعا بلا كيف ولا تشبيه وليس المراد بهما الجهتان المعروفتان ، لأنه تعالى ليس بجسم حتى ينسب إلى جهة محسوسة ، وإنما ظهر بالجهتين المحسوستين ، وهما الجهتان المعروفتان اللتان يأتي
الإمداد منهما في عالم الحس ينزل الغيث من الفوق ، ويخرج النبات من التحت ، والجهات الأربعة الباقية اليمين والشمال والقدام والخلف جهات الشيطان كما حكى تعالى عنه بقوله :لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ[ الأعراف : 17 ].
 قال رضي الله عنه :  ولهذا ، أي لكون الفوق والتحت له سبحانه ما ظهرت الجهات الست فوق وتحت ويمين وشمال وقدام وخلف إلا بالنسبة إلى الإنسان لا غيره لإدراكه وانتصاب قامته في تبيين تلك الاعتبارات وتمييزها ، إذ هي مجرد اعتبار لا حقيقة له ؛ ولهذا تختلف باختلاف الانحراف والتحوّل ، فقد يصير الفوق تحتا بالصعود على السطح ونحوه ، والتحت فوقا بالهبوط إلى غار ونحوه ، واليمين شمالا والشمال يمينا والقدام خلفا والخلف قداما بالتحوّل .
وهو ، أي الإنسان مخلوق على صورة الرحمن المستوي على العرش بما لا يعلمه الجاهل إذ هو حال العارف الكامل ، وعلى صورة الشيطان أيضا المستولي عليه بما لا يدركه إلا المخلص الذي هو ممن قال فيهم كما حكاه تعالى :وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ( 40 ) [ الحجر : 39 - 40 ] ، إذ هو حال الغافل الجاهل الناقص ، فاتصف لذلك بالجهات الست المذكورة وظهرت به وتميزت عنده الجهتان اللتان للرحمن والأربع جهات التي للشيطان ، فمن تميزت عنده جهاته الست كان مظهر الرحمن والشيطان ، صاحب جمال وجلال وهو القرآن العظيم الذي قال تعالى عنه :يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً[ البقرة : 26 ] .
وقال تعالى :وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا[ الشورى : 52 ] ، وقال تعالى :وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى[ فصلت : 44 ] .
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا مطعم إلّا اللّه ، وقد قال في حقّ طائفة :وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَثمّ نكّر وعمّم فقال :وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْفدخل في قوله :وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْكلّ حكم منزل على لسان رسول أو ملهم ،لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْوهو المطعم من الفوقيّة الّتي نسبت إليه ،وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ[ المائدة : 66 ] وهو المطعم من التّحتيّة الّتي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله المترجم عنه صلى اللّه عليه وسلم . )
 
قال رضي الله عنه :  (ولا مطعم) في نفس الأمر إلا اللّه تعالى كما قال :وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ[ الأنعام : 14 ] وقد قال تعالى في حق طائفة من أهل الكتابين ولو أنهم أقاموا التوراة وهم اليهود والإنجيل وهم النصارى ، أي عملوا على مقتضى ذلك وتركوا هوى نفسهم والعمل بحسب أغراضهم الدنيوية ثم إنه بعد ذلك نكّر ولم يبين
القسم الثالث وهم هذه الأمة سترا عليها احتراما ما لنبيها عليه السلام وعمّم بما يشملها ويشمل القسمين قبلها فقال تعالى : ("وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ") [ المائدة  : 66]
وهو القرآن العظيم نزل إلى هذه الآية من ربهم (فدخل في قوله) تعالى : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ  كل حكم) من أحكام اللّه تعالى (منزل منه) تعالى (على لسان رسول) أولا أو لسان ولي وارث لرسول (ملهم) بصيغة اسم المفعول ، أي يلهمه اللّه تعالى ذلك الحكم المنزل
 
كما قال الجنيد رضي اللّه عنه : "المريد الصادق غني عن علم العلماء"
وصدق استقامته في الدين كما قال تعالى :إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 30 ) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ[ فصلت : 30 - 31 ] "وإذا أراد الله بالمريد خيرا أوقعه إلى الصوفية ومنعه صحبة القراء " ، " وإن لم يجد شيخا مرشدا بسبب التباس الناس عليه من كثرة الفتن، واشتداد ظلمات الأغنياء والمحن، فعليه بملازمة كتب العارفين من المتقدمين والمتأخرين، فإن في ذلك كفاية لمن وفقه اللّه تعالى "  كتاب الوجود الشيخ عبد الغني النابلسي
 
قال رضي الله عنه :  (لأكلوا) ، أي أولئك الذين أقاموا كتبهم ، أي جاءهم الإمداد الجسماني والروحاني (من فوقهم وهو المطعم) سبحانه (من الفوقية) الروحانية (التي تنسب إليه) باعتبار العارفين به (ومن تحت أرجلهم وهو المطعم من التحتية) النفسانية (التي نسبها) اللّه سبحانه وتعالى إلى نفسه في الحديث (على لسان رسوله المترجم عنه صلى اللّه عليه وسلم) باعتبار الجاهلين به تعالى كما ذكرنا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولو لم يكن العرش على الماء ما انحفظ وجوده ، فإنّه بالحياة ينحفظ وجود الحي . ألا ترى أنّ الحيّ إذا مات الموت العرفيّ تنحلّ أجزاء نظامه وتنعدم قواه عن ذلك النّظم الخاصّ ؟
قال تعالى لأيّوب :ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ[ ص : 42 ] يعني ماء بارد - وشراب لما كان عليه من إفراط حرارة الألم فسكّنه اللّه ببرد الماء .
ولهذا كان الطّبّ النّقص من الزّائد ، والزّيادة في النّاقص . والمقصود طلب الاعتدال ، ولا سبيل إليه إلّا أنّه يقاربه . )
 
قال رضي الله عنه :  (ولو لم يكن العرش) العظيم (على الماء) كما أخبر تعالى (ما انحفظ) عليه (وجوده) لمحة من اللمحات (فإنه) ، أي الشأن (بالحياة) السارية (ينحفظ وجود الحي) فلا يموت.
قال رضي الله عنه :  (ألا ترى) يا أيها السالك أنّ الحيوان (الحي إذا مات الموت العرفي) ، أي المعروف تنحل ، أي تتفرق (أجزاء نظامه) ، أي تركيبه المخصوص (وتنعدم قواه) العرضية الصادرة فيه (عن ذلك النّظم) ، أي التركيب (الخاص قال اللّه تعالى لأيوب) عليه السلام (أركض) ، أي اضرب الأرض (برجلك) تخرج لك
 
عين ماء صافية ، فركض برجله فخرجت فقيل له : (هذا مغتسل يعني ماء بارد) تغتسل به
 
قال رضي الله عنه :  (وشراب) تشرب منه فيشفيك (لما) ، أي قيل له ذلك لأجل (ما كان) أيوب عليه السلام (عليه من إفراط )، أي كثرة حرارة الألم ، أي الوجع الذي فيه (فسكنه) ، أي إفراط الحرارة (اللّه) تعالى (ببرد الماء) الذي أخرجه له (ولهذا) ، أي لأجل ما ذكر (كان الطب) عند علمائه في حصول صحة الأبدان معناه (نقصا) في المزاج من الخلط الزائد والكيفية الزائدة كالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والزيادة في الخلط .
قال رضي الله عنه :  (الناقص) والكيفية الناقصة حتى تعتدل الأخلاط والكيفيات في البدن ، وإن كان الاعتدال الحقيقي لا يمكن حصوله إلا بالنسبة إلى المزاج الكثير الانحراف ، فهو اعتدال نسبي إذ لو كان حقيقيا لما قبل الموت والانحلال ، ولهذا لما تتركب الأجسام في يوم القيامة تركبا معتدلا اعتدالا حقيقا كما زعم بعضهم لا تفسد بعد ذلك أصلا إلى الأبد ، ولا يغلب عليها الحرارة بمجاورة النار ولا البرودة بمجاورة الزمهرير في جهنم بل يبقى الاعتدال فيها ، لأنها نشأة أخرى صحيحة غير نشأة الدنيا كما قال تعالى وأن عليه النشأة الأخرى .
قال رضي الله عنه :  (فالمقصود) من علم الطب في معالجة أجسام المرضى (طلب) حصول (الاعتدال) الحقيقي فيها حتى يستقيم نشؤها (ولا سبيل) ، أي لا طريق إليه ، أي إلى ذلك الاعتدال المطلوب فلا يمكن حصوله إلا أنه ، أي الاعتدال المطلوب يعني الطب يقاربه ، أي يقارب ذلك الاعتدال الحقيقي وهو الاعتدال النسبي كما ذكرنا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنّما قلنا ولا سبيل إليه أعني الاعتدال من أجل أنّ الحقائق والشّهود تعطي التّكوين مع الأنفاس على الدّوام ، ولا يكون التّكوين إلّا عن ميل يسمّى في الطبيعة انحرافا أو تعفينا ، وفي حقّ الحقّ إرادة وهي ميل إلى المراد الخاصّ دون غيره . والاعتدال يؤذن بالسّواء في الجميع وهذا ليس بواقع فلهذا منعنا من حكم الاعتدال .
وقد ورد في العلم الإلهيّ النّبويّ اتّصاف الحقّ بالرّضا والغضب ، وبالصّفات .
والرّضا مزيل للغضب ، والغضب مزيل للرّضا عن المرضيّ عنه والاعتدال أن يتساوى الرّضا والغضب ؛ فما غضب الغاضب على من غضب عليه وهو عنه راض . فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه وهو ميل . وما رضي الحقّ عمّن رضي عنه وهو غاضب عليه ؛ فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه وهو ميل .) .
 
قال رضي الله عنه :  (وإنما قلنا هنا ولا سبيل إليه أعني الاعتدال) الحقيقي في الحياة الدنيا ولا في الآخرة في مزاج من الأمزجة مطلقا (من أجل أن الحقائق) ، أي أعيان الأشياء المخلوقة كلها (وأن الشهود) ، أي المعاينة لها من بعضها لبعض بالحس أو العقل (يعطى) ذلك لمن كشف عنه (التكوين) ، أي الإيجاد الجديد مع الأنفاس فكل نفس بفتح الفاء يذهب اللّه تعالى فيه بجميع المخلوقات ويأتي بمخلوقات أخرى غيرها على صورتها وشكلها مما يشبه الأولى أو يقاربها على الدوام في الدنيا والآخرة كما قال تعالى :بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ[ ق : 15 ] ، 


وقدمنا ذكر هذا مفصلا (ولا يكون) هذا (التكوين) المذكور (إلا عن ميل) ، أي توجه من الذي يكون عليه (يسمى) ذلك الميل إذا ظهر (في) عالم (الطبيعة) الإنسانية وغيرها (انحرافا) ، أي خروجا عن حد الاعتدال النسبي أو يسمى (تعفينا) لاقتضائه فساد الأخلاط وتغير المزاج (وفي حق الحق) تعالى يسمى (إرادة وهي) ، أي الإرادة الإلهية ميل ، أي توجه قديم أزلي أبدي ليس بمعنى غرضي ولا يشبهه إلى المراد اللّه تعالى الخاص في علمه سبحانه دون غيره من بقية المرادات ، فكل مراد له ميل يخصه عن تلك الإرادة الإلهية هو عين تلك الإرادة باعتبار فاعليته ، وغيرها باعتبار انفعاله لما اقتضاه العلم القديم .
قال رضي الله عنه :  (والاعتدال) الحقيقي (يؤذن بالسواء في) طبيعيات (الجميع) وكيفيات أمزجتهم (وهذا) الأمر (ليس بواقع) أصلا ولا يمكن وقوعه إلا إذا شاء اللّه تعالى كما قال سبحانه :أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً[ الفرقان : 45]
، فأشار إلى حركة ظل الكائنات عن شمس أحدية وجوده القديم ، ولو شاء لجعله ساكنا بإرجاعه إلى الثبوت العلمي كما قال سبحانه :وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ[ الأنعام : 13 ] ، يعني والمتحرك لنفسه لا له لدعواه الاستقلال في الخلق الجديد ، وهو قوله تعالى :وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ [ الأعراف : 143] 
، يعني في الثبوت العلمي والعدم الأصلي فسوف تراني ؛
قال رضي الله عنه :  (فلهذا) ، أي لكون الأمر كما ذكر (منعنا من) وجود (حكم الاعتدال) الحقيقي أصلا كيف (وقد) ورد إلينا (في العلم الإلهي) النبوي ، أي المنقول عن النبي صلى اللّه عليه وسلم اتصاف الحق تعالى فيه (بالرضا) عن قوم (وبالغضب) على قوم (وبالصفات) من ذلك كالراضي والغضبان وغير ذلك من المتقابلات (والرضا مزيل للغضب) ، لأنه يقابله في كل ما تعلق به (والغضب) أيضا (مزيل للرضا عن المرضى) عنه كذلك .
قال رضي الله عنه :  (والاعتدال) في ذلك (أن يتساوى الرضا والغضب) معا في حقيقة واحدة فتقبل ظهور الأثرين معا وهو ممتنع (فما غضب الغاضب) القديم سبحانه والحادث (على من غضب عليه وهو) ،
 
 أي ذلك الغاضب (عنه) ، أي المغضوب عليه (راض) أصلا (فقد اتصف) تعالى (بأحد الحكمين) ، أي حكم الرضى وحكم الغضب (في حقه) ، أي حق ذلك المغضوب عليه الواحد
قال رضي الله عنه :  (وهو) ، أي الاتصاف بأحد الحكمين ميل إلى أحدهما عن الآخر ينافي الاعتدال وما رضي الحق تعالى (عمن رضي عنه) من عباده (وهو غاضب عليه أصلا فقد اتصف) تعالى (بأحد الحكمين) المذكورين أيضا (في حقه) ، أي في حق ذلك المرضي عنه (وهو) ، أي الاتصاف بأحد الحكمين أيضا ميل إلى أحدهما عن الآخر فلا اعتدال .
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنّما قلنا هذا من أجل من يرى أنّ أهل النّار لا يزال غضب اللّه عليهم دائما أبدا في زعمه فما لهم حكم الرّضا من اللّه فصحّ المقصود .
فإن كان كما قلنا مآل أهل النّار إلى إزالة الآلام وإن سكنوا النّار ، فذلك رضا . فزال الغضب لزوال الآلام ، إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت .
فمن غضب فقد تأذّى ، فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه إلّا ليجد الغاضب الرّاحة بذلك ، فينتقل الألم الّذي كان عنده إلى المغضوب عليه والحقّ إذا أفردته عن العالم يتعالى علوا كبيرا عن هذه الصّفة على هذا الحدّ .)
 
قال رضي الله عنه :  (وإنما قلنا هذا) الكلام المذكور هنا (من أجل من يرى) ، أي يعتقد من الناس (أهل النار) الذين هم أهلها وهم الكافرون (لا يزال غضب اللّه) تعالى عليهم في جهنم يوم القيامة دائما أبدا من غير تناهي (في زعمه) ، أي زعم هذا القائل المذكور (فما لهم) ، أي لأهل النار (حكم الرضا من اللّه) تعالى أصلا بل لهم حكم الغضب فقط (فصح المقصود) حينئذ لثبوت حكم إحداهما عند هذا القائل دون الآخر وهو ميل والميل هو المقصود إثباته (فإن كان) الأمر في حق أهل النار يوم القيامة كما قلنا فيما تقدم مآل ، أي مرجع حال أهل النار في جهنم (إلى إزالة الآلام) ، أي الأوجاع وأنواع العذاب عنهم وإن سكنوا النار ولم يخرجوا منها بحيث يصير لهم فيها نعيم مخصوص من جنس طبائعهم يلائم أمزجتهم النارية كالسمك في الماء يلائم مزاجه طبيعة الماء فلو خرج منه تألم بمفارقته .
 
قال رضي الله عنه :  (فذلك) المقدار رضا لهم من الحق تعالى حكم به عليهم فاقتضى ظهور أثره فيهم (فزال) عنهم (الغضب) الإلهي لزوال الآلام التي هي أثر ذلك الغضب فيهم (إذ) ، أي لأن (عين الألم) من حيث هو ألم (عين الغضب) الإلهي عليهم كان معلوما في نفس الحق تعالى مقدرا مقتضيا به على مقتضى الإرادة الإلهية فتوجه الحق تعالى به عليهم فأظهره في نفوسهم فهو في نفسه تعالى يسمى غضبا وفي نفوسهم يسمى ألما وأوجاعا إن (فهمت) ،
 
يا أيها السالك فما زالت الآلام من نفوسهم الا وقد تحوّل التوجه الإلهي بالغضب الذي في نفسه عنهم وتوجه عليهم بما يقابل ذلك ولا يقابله إلا الرضى فظهرت في نفوسهم اللذة بالعذاب فانقلب عذوبة وقد بين ذلك بقوله :
 
قال رضي الله عنه :  (فمن غضب) على أحد (فقد تأذى) في نفسه ، أي وصل إليه الأذى ممن غضب عليه .
وقد ورد في الكتاب والسنة وصف اللّه تعالى بالتأذي من خلقه ، قال تعالى :إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً( 57 )  [ الأحزاب : 57 ]
، وفي الحديث قال عليه السلام : « لا أحد أصبر على أذى سمعه من اللّه عز وجل ، إنه ليشرك باللّه ويجعل له الولد ، ثم يعافيهم ويرزقهم » ، أخرجه البخاري ومسلم  بإسنادهما إلى أبي موسى.
قال رضي الله عنه :  (فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه) ، أي انتقامه منه (بإيلامه) له (إلا ليجد الغاضب) في نفسه الراحة ، أي الفراغ من حمل ألم الغضب الذي يسمى غضبا في نفسه ، ويسمى آلاما في نفس المغضوب عليه .
وقد وصف اللّه تعالى نفسه بالفراغ في قوله سبحانه :سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ( 31 ) [ الرحمن : 31 ] ، أي نضع في نفوسكم يوم القيامة ما هو في نفسنا اليوم لكم من حمل ألم الغضب على قوم مما يسمى غضبا فينا ويسمى آلاما فيكم .
وحمل لذة الرضى كذلك ( بذلك) - السعي في الانتقام وإن كان اللّه تعالى منزها عن صورة ما يفهمه الغافل القاصر من ذلك الذي وصف اللّه تعالى به نفسه من غضب غيره .
قال رضي الله عنه :  (فينتقل الألم الذي كان عنده) ، أي في نفس الغاضب حيث يسمى غاضبا بسبب وجوده في نفسه المتوجه به على المغضوب عليه ليفرغ منه ويصيغه فيه ما سمي غاضبا عليه (إلى) ذلك (المغضوب عليه) من الناس (والحق) تعالى إذا (أفردته) ، أي اعتبرته متميزا (عن العالم) جميعه غير متعلقة صفاته وأسماؤه بشيء أصلا (يتعالى) ، أي يرتفع ويتقدس ويتنزه (علوا كبيرا عن هذه الصفة) التي هي وجود الراحة في نفسه بالانتقام من المغضوب عليه والتشفي منه (على هذا الحد) المفهوم بحسب ما يجده المخلوق في نفسه إذا غضب على غيره .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا كان الحقّ هويّة العالم ، فما ظهرت الأحكام كلّها إلّا منه وفيه.
وهو قوله تعالى :"وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ" حقيقة و"كشفا فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ" [هود : 123] حجابا وسترا .  فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم لأنّه على صورة الرّحمن .
أوجده اللّه أي ظهر وجوده تعالى بظهور العالم كما ظهر الإنسان بوجود الصّورة الطّبيعيّة . )
 
قال رضي الله عنه :  (وإذا كان الحق) تعالى (هوية العالم) كله محسوسه ومعقوله وموهومه ، لأن الهوية ما به الشيء هو هو ، والعالم كله ليس هو هو إلا بالحق تعالى لا بشيء غيره أصلا ،
فالحق تعالى هوية العالم بهذا الاعتبار لصدق تعريفهم الهوية عليه ، ولأن الكل ثابت في علمه تعالى غير منفي عنه من غير وجود له أصلا فيه ، والوجود كله واحد مطلق قديم ظاهر على كل ما هو فيه مشرق عليه به من غير أن يحل فيه شيء من ذلك الذي فيه أصلا ،
ولا يحل هو في شيء منه أصلا ، إذ الكل معدوم والمعدوم لا يتصوّر فيه حلول أصلا لا منه في غيره ولا من غيره فيه .
ولا يضر الجاهلين الغافلين إلى رؤيتهم العالم موجودا بقيومية وجود اللّه تعالى عليه وظنهم ، إذ كلامنا عنه في تلك الحالة ، وإنه في حال وجوده باللّه تعالى حال في اللّه تعالى ، واللّه تعالى حال فيه ، وهو فهم قبيح جدا وقصور بليغ وتناقض فاحش ، إن عقلوا ما هم قائلون به من أنه تعالى قيوم على كل شيء ،
وإنما مرادنا من ذلك اعتبار العالم في نفسه مع قطع النظر عن وجود اللّه تعالى القيوم عليه ، فإنه كله حينئذ معدوم صرف بالإجماع منا ومن هؤلاء الجاهلين الغافلين ، ولا وجود حينئذ إلا وجود واحد قديم هو وجود اللّه تعالى المطلق المنزه عن كل شيء بالإجماع منا ومنهم ، وهذه وحدة الوجود التي قصدناها إذا أطلقناها ،
وهي مذهب العارفين المحققين قبلنا ، بل هي مذهب كل أحد من الناس لو عقل الكل وفهموا لمرادهم ، ولكن أهلها يناديهم مناديها من مكان قريب واستمع "يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ "ق : 41 ] يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ،
وغير أهلها إنما هم حولها يدندنون ويحومون عليها ، أولئك ينادون من مكان بعيد ، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون .
قال رضي الله عنه :  (فما ظهرت الأحكام) الإلهية بإيجاد كل شيء معدوم صرف ثابت في الحضرة العلمية من غير وجود (كلها) ، أي جميع تلك الأحكام قال تعالى :وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ[ الرعد : 41 ] إلا فيه ، أي في الحق تعالى إذ لولا الوجود لما كان شيء أصلا ، والوجود كله للّه تعالى كما ذكرنا ، فالكل ظاهر فيه .
 
ومنه سبحانه أيضا ، قال تعالى :قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ[ النساء : 78 ] وهو قوله سبحانه ("وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ" حقيقة )، أي في نفس الأمر وإن جهله الجاهلون وأنكره المنكرون وكشفا عند العارفين به المحققين (له "فَاعْبُدْهُ ") يا أيها السالك إليه بما صوّر لك في نفسك من الحول المخلوق والقوة المخلوقة ("وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ") [ هود : 123 ] ، أي فوّض أمرك إليه في ظاهرك وباطنك فلا تعتمد على حولك وقوتك حجابا ، أي في حال انحجابك عنه بشهود نفسك ،
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 27, 2020 4:00 pm

19 -  فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص الأيوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
19 -  فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية
وسترا ، أي في وقت استتاره عنك بظهوره عليك على مقدار ما قبل ثبوت عينك في علمه القديم من تجلي وجوده وأنت لا تشعر لاشتغالك بك عنه .
قال رضي الله عنه :  (فليس في الإمكان) الاعتباري مما تراه العقول الفاضلة (أبدع من هذا العالم) المحسوس والمعقول والموهوم (لأنه) ، أي هذا (على صورة) مجموع صفات (الرحمن) عز وجل المستوي على العرش الذي هو مجموع العالم كله (أوجده) ، أي العالم اللّه تعالى (أي ظهر وجوده تعالى بظهور العالم) فهو يتبدل به في الصور المختلفة على حسب ما يريد سبحانه ، ويتحوّل في الحس والعقل إلى الأبد من غير أن يتغير تعالى عما هو عليه في الأزل (كما ظهر الإنسان) في الدنيا من حيث الروحانية اللطيفة الحاملة للمعاني الشريفة (بوجود الصورة الطبيعية) الآدمية الجسمانية المتركبة من العناصر الأربعة ، ثم يختفي الإنسان بموت هذه الصورة وزوال تركيبها واضمحلالها ، ثم يعود إليها في النشأة الآخرة ظاهرا بها إلى الأبد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنحن صورته الظّاهرة وهويّته تعالى روح هذه الصّورة المدبّرة لها . فما كان التّدبير إلّا فيه كما لم يكن إلّا منه . فهو الْأَوَّلُ بالمعنى وَالْآخِرُ بالصّورة وهو وَالظَّاهِرُ بتغيّر الأحكام والأحوال وَالْباطِنُ بالتّدبير ،وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ الحديد : 3 ] فهو على كلّ شيء شهيد ، ليعلم عن شهود لا عن فكر . فكذلك علم الأذواق لا عن فكر وهو العلم الصّحيح وما عداه فحدس وتخمين ليس بعلم أصلا . )

قال رضي الله عنه :  (فنحن) معشر الكائنات (صورته) تعالى (الظاهرة) في الدنيا والآخرة لأنا موصولون بما هو موصوف به على حد ما يليق به ، فنحن علمه بنفسه لأنه علم نفسه فعلمنا ، ونحن كثيرون وهو واحد لكمال تنزيهه ورفعة شأنه عن أن يدركه علمه فيحصره فضلا عن علم غيره لعظمة إطلاقه الكلي ، ونحن نتبدل ونتحوّل وهو ثابت لا يتغير لفنائنا واضمحلالنا ووجوده وتحققه وثبوته أزلا وأبدا وهويته سبحانه ، أي وجوده الحق (روح) ، أي قيوم (هذه الصورة) الظاهرة التي مجموع روحانية وجسمانية المدبر هو سبحانه لها، أي لتلك الصورة ، قال تعالى يدبر الأمر.

قال رضي الله عنه :  (فما كان التدبير) للصورة المذكورة (إلا فيه) تعالى ، لأن الكل في علمه أزلا وأبدا (كما لم يكن) ذلك التدبير (إلا منه) سبحانه وإن ظهر بالأسباب العلوية فقال تعالى :فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً( 5 ) ، لأنها مظاهره تعالى ، فإنها مدبرة به وهو المدبر بها ، فلا مدبر سواه (فهو الأول) قبل ظهور كل شيء (بالمعنى) الذي في علمه تعالى من أحوال كل شيء وهو المرتبة الألوهية التي له تعالى بما صدر عنه كل شيء ، فإن وجوده المطلق من حيث هو لا يتكلم عنه إذ لم يصدر عنه شيء من هذا الوجه أصلا ، لأنه لا يفيد الكلام عن الشيء إلا من حيث رتبته كالقاضي إذا تكلمت عنه من حيث هو إنسان ، فلا تميز له عن غيره من هذا الوجه ، ولا كبير فائدة في ذلك وإن تكلمت عنه من حيث هو قاض فقد تكلمت عنه من حيث رتبته فالكلام عنه مفيد حينئذ وهو لا يتحكم إلا من حيث رتبته ، لا من حيث ذاته .

قال رضي الله عنه :  (و) هو أيضا (الآخر بالصورة) التي هي مجموع الكائنات ، لأنه عين من قام به ذلك المعنى وتبين به هذا المبنى
وهو أيضا (الظاهر بتغيير الأحكام) الإيجادية والإعدامية والأحوال الملكية والملكوتية.
(و) هو أيضا (الباطن) بالتدبير في الكل على ما تقتضيه الحكمة وتشمله الرحمة وهو سبحانه وتعالى بعد ذلك "بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " [ البقرة : 29 ] أزلا وأبدا.

قال رضي الله عنه :  (فهو على كل شهيد كذلك ليعلم) بكل شيء (عن شهود) ومعاينة (لا عن فكر) وتخيل لاستحالة ذلك في علم اللّه تعالى (فكذلك) ، أي مثل علم اللّه تعالى في هذه الصفة السلبية علم الأذواق ، أي الكشف والمنازلة عند الأنبياء والأولياء لا ذلك العلم حاصل (عن فكر) كعلم الظاهر من علماء الرسوم (وهو) ، أي علم الأذواق (العلم الصحيح) الموروث عن الأنبياء عليهم السلام كما ورد في الحديث : « العلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء وورثتي وورثة الأنبياء » . رواه القزويني في أخبار قزوين  وعزاه العجلوني في كشف الخفاء إلى ابن عدي عن علي رضي اللّه عنه وهو حديث صحيح كما قال المناوي » .
وفي رواية : « العلم ميراثي وميراث الأنبياء قبلي » أخرجه السيوطي في جامعه الصغير ورواه أبو حنيفة في مسنده.
وعلماء الظاهر إن وعوا ما في الكتاب والسنة من العلوم الظاهرة فهم حملة العلم وليسوا بعلماء،

وإن وعوا غير ذلك من علوم العربية والعلوم الفلسفية ونحو ذلك فليسوا بحملة العلم ولا علماء أصلا ؛ ولهذا قال رضي اللّه عنه .
وما عداه ، أي غير علم الأذواق (فحدس) ، أي ظن وتوهم (وتخمين) افتتنت به أهله كما افتتن أهل الدنيا بالدرهم والدينار (وهو ليس بعلم أصلا) ،
قال صلى اللّه عليه وسلم : « العلم ثلاثة : كتاب ناطق وسنة ماضية وقول لا أدري » . أخرجه السيوطي أيضا في جامعه الصغير ،
فقول : لا أدري في مقابلة ذلك الحدس والتخمين ، فالعالم يقول : لا أدري والجاهل يتكلم بالحدس والتخمين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ كان لأيّوب عليه السّلام ذلك الماء شرابا لإزالة ألم العطش الّذي هو من النّصب والعذاب الّذي مسّه به الشّيطان ، أي البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليه . فيكون بإدراكها في محلّ القرب . فكلّ مشهود قريب من العين ولو كان بعيدا بالمسافة ، فإنّ البصر يتّصل به من حيث شهوده ولولا ذلك لم يشهده أو يتّصل المشهود بالبصر . كيف كان . فهو قرب بين البصر والمبصر .
ولهذا كنّى أيّوب عليه السّلام في المسّ ، فأضافه إلى الشّيطان مع قرب المسّ فقال البعيد منّي قريب لحكمة فيّ . )

قال رضي الله عنه :  (ثم كان لأيوب عليه السلام ذلك الماء) الذي خرج بركض رجله شرابا يشربه (لإزالة ألم العطش الذي هو من النّصب) بضم النون وسكون الصاد المهملة ، أي الشر والبلاء .
قال الجوهري في صحاحه : والنصب الشر والبلاء ومنه قوله تعالى :مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ[ ص : 41 ] .

قال رضي الله عنه :  (و) من (العذاب) وهو العقوبة (الذي مسه) ، أي أيوب عليه السلام (به الشيطان) من قولهم شطت داره إذا بعدت (أي البعد عن الحقائق) الإلهية (أن يدركها) أيوب عليه السلام (على ما هي عليه السلام ) في نفسها لا على حسب ما يعطي البعد عنها من المعاني النفسانية .
قال رضي الله عنه :  (فيكون) ، أي أيوب عليه السلام (بإدراكها) ، أي تلك الحقائق كذلك (في محل القرب) إلى اللّه تعالى (فكل) شيء (مشهود) من تلك الحقائق على ما هو عليه قريب من العين الشاهدة له ولو كان بعيدا عنها بالمسافة الجسمانية ( فإن البصر) من تلك العيون (متصل به) ، أي بذلك المشهود (من حيث شهوده) ،
أي البصر لذلك المشهود وهو الاتصال المعنوي الروحاني الأصلي ، إذ جميع الأشياء في الأصل الأوّل وهو العلم الإلهي واحدة لا كثرة فيها ، وكذلك في الأصل الروحاني الطبيعي والعنصري ثم تفترق بالتولد وتظهر فيها صورة الأصول فإذا أدركت بعضها بعضا إنما تدركه بصورة تلك الأصول التي فيها .

قال رضي الله عنه :  (فلو لا ذلك) الاتصال (لم يشهده) ولهذا انفصل عنه بالصورة المتولدة من الأصول المذكورة فغابت عنها الصورة الأخرى (أو يتصل) ذلك الشيء (المشهود بالبصر) من حيث اتصاله الأصلي كما ذكرناه فيشهده البصر (كيف كان) الأمر في نفسه (فهو قريب) روحاني (بين البصر والمبصر) بصيغة اسم المفعول ؛
(ولهذا) ، أي ما ذكر من القرب (كنى أيوب عليه السلام في المس) ، أي أصابته بالسوء (فأضافه) ، أي المس يعني نسبه (إلى الشيطان) حين قال :مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ [ ص : 41].

مع قرب المس حين هو مشهود له دون قرب الشيطان ، لأنه لم يشهده لانفصاله عنه بحقيقة أخرى سرت في حقيقته عليه السلام الجسمانية من قوله صلى اللّه عليه وسلم :  "الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " . رواه ابن إسحاق بن راهويه   والديلمي في الفردوس عن أبي هريرة  ورواه غيرهما .
وقدمنا بيان عصمة الأنبياء عليهم السلام منه من أي وجه هي فاقتضى سريانها فيه ما أصاب من النصب والعذاب بتقدير اللّه تعالى
فقال ، أي أيوب عليه السلام في تقرير معنى كلامه (البعيد مني) بحيث لم أشهده (قريب) إلي (لحكمة) ، أي إظهاره (فيّ) ، أي في جسدي أثره المؤلم من النصب والعذاب جزاء على عدم شهودي له كما قال تعالى :"وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" [ الزخرف : 36 ] .
وهذا حكم عام لا خصوص له فيشمل المعصوم وغير المعصوم وأما قوله بعد ذلك :وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ " [ الزخرف : 37 ] ،
فهو حال الالتباس وذلك مخصوص بغير المعصوم من الناس ولهذا غير اللّه نظام الآية بالجمع بين صيغة الإفراد . 

 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد علمت أنّ القرب والبعد أمران إضافيان ، فهما نسبتان لا وجود لهما في العين مع ثبوت أحكامها في القريب والبعيد .واعلم أنّ سرّ اللّه في أيّوب الّذي جعله عبرة لنا وكتابا مسطورا حاليّا تقرؤه" هذه الأمّة المحمّديّة لتعلم ما فيه فتلحق بصاحبه تشريفا لها . فأثنى اللّه عليه - أعني على أيّوب - بالصّبر مع دعائه في رفع الضّرّ عنه . فعلمنا أنّ العبد إذا دعا اللّه في كشف الضّرّ عنه لا يقدح في صبره . وأنّه صابر وأنّه نعم العبد كما قال تعالى :إِنَّهُ أَوَّابٌأي رجّاع إلى اللّه لا إلى الأسباب ، والحقّ يفعل عند ذلك بالسبب لأنّ العبد يستند إليه ، إذ الأسباب المزيلة لأمر ما كثيرة والمسبّب واحد العين ).

قال رضي الله عنه :  (وقد علمت) يا أيها السالك من غير هذا المحل (أن البعد والقرب أمران إضافيان) لا يعقلان إلا من شيئين باعتبار الزمان كما يقال مصنف هذا الكتاب قدس اللّه سره أقرب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منا ،
أي من زمانه أقرب إلى زمان النبوة من زماننا أو باعتبار المكان
قال رضي الله عنه :  (كما يقال) : داري أقرب إلى الجامع من دارك (فهما) ، أي القرب والبعد (نسبتان) ، أي أمران منتزعان من النظر في حقيقتين باعتبار زمان أو مكان (لا وجود لهما) ، أي لتلك النسبتين (في العين) ، أي في عين كل واحدة منهما مع ثبوت ، أي تحقق (أحكامهما) ، أي القرب والبعد (في) الشيء (البعيد) عن الشيء الآخر البعيد عنه (و) الشيء (القريب) إلى الشيء الآخر القريب إليه .

قال رضي الله عنه :  (واعلم) يا أيها السالك (أن سر اللّه) تعالى (في أيوب) عليه السلام (الذي جعله) اللّه تعالى عبرة لنا نعتبر به في أحوالنا مع اللّه تعالى (و) جعله (كتابا مستورا) ، أي آيات قرآنية نزلت في حق أيوب عليه السلام (حاكيا) ." وفي نسخة : حاليا  بدل حاكيا ".

 ذلك الكتاب ما كان في الزمان الأوّل ، فنزل جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى اللّه عليه وسلم فتلاه علينا بلسان عربي مبين (تقرؤه هذه الأمة المحمدية لتعلم ما فيه) من الأسرار والعلوم (فتلحق) ، أي هذه الأمة (بصاحبه) ، أي صاحب هذا الكتاب المسطور بطريق الإرث النبوي (تشريفا لها) وتعظيما لشأنها (فأثنى اللّه) تعالى (عليه السلام ) ، أي مدحه في القرآن العظيم (أعني على أيوب) عليه السلام (بالصبر) حيث قال تعالى :إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ ص : 44 ] مع دعائه ، أي أيوب عليه السلام في رفع ، أي إزالة الضر ، أي البلاء عنه .

قال تعالى : "وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ "[ ص : 41 ] ، وقال تعالى : " وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" ( 83 ) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ( 84 ) [ الأنبياء : 83 - 84 ] .


قال رضي الله عنه :  (فعلمنا) من ذلك (أن العبد) المؤمن (إذا دعا اللّه) تعالى (في كشف الضر) والسوء (عنه لا يقدح) ذلك ، أي لا ينقص ولا يطعن (في صبره) على ذلك الضر والسوء (فإنه) ، أي ذلك العبد مع طلبه من اللّه تعالى وتضرعه في إزالة ضره عنه صابر على ما أصابه به وأنه ، أي ذلك العبد حينئذ .

(نعم العبد كما قال تعالى) في أيوب عليه السلام :إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ "، أي رجاع ، من نفسه إلى اللّه تعالى على وجه الكثرة فإذا كان بنفسه دعا اللّه تعالى في إزالة الضر عنه ثم رجع إلى اللّه تعالى فترك الدعاء وقام بالتفويض إليه سبحانه والتوكل عليه ،
ثم كان بنفسه وقام بالأسباب ، ثم رجع ذلك وتكرر منه هذا الحال ، فهو أوّاب صيغة مبالغة من آب إذا رجع ، ورجوعه في كل مرة إلى اللّه تعالى.


قال رضي الله عنه :  (لا إلى الأسباب) من نفسه ودعائه ونحو ذلك بل من الأسباب إلى مسببها تعالى وهي أكمل الأحوال ، لأنها قيام بالحق تعالى من حيث أسماؤه كلها لا بعضها ، فإنه إذا كان في الأسباب قام باسمه تعالىالْأَوَّلُ،وَالْباطِنُوإذا أعرض عن الأسباب قام باسمه تعالى الآخر والظاهر ، وهذه الأسماء الأربعة أمهات الأسماء الفاعلة وغيرها .


قال رضي الله عنه :  (والحق) تعالى (يفعل عند ذلك) ، أي عند رجوع العبد إليه سبحانه (بالسبب) وهو رجوع العبد إليه (لأن العبد يستند إليه) ، أي إلى الحق تعالى في حال رجوعه إليه سبحانه فيكون ذلك الإسناد سببا يفعل اللّه تعالى به ما يريد لعبده (إذ الأسباب المزيلة لأمر ما) يعني أي أمر كان حسي أو معنوي (كثيرة) جدا (والمسبّب) لتلك الأسباب كلها (واحد العين)، أي الذات لا كثرة فيه أصلا وهو الحق تعالى.
 

 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسّبب ذلك الألم أولى من الرّجوع إلى سبب خاصّ ربّما لا يوافق علم اللّه فيه .فيقول إنّ اللّه لم يستجب لي وهو ما دعاه ، وإنّما جنح إلى سبب خاصّ لم يقتضه الزّمان ولا الوقت .   فعمل أيّوب بحكمة اللّه تعالى إذ كان نبيّا .لمّا علم أنّ الصّبر هو حبس النّفس عن الشّكوى عند طائفة وليس ذلك بحدّ الصّبر عندنا ، وإنّما حدّه حبس النّفس عن الشّكوى لغير اللّه لا إلى اللّه .فحجب الطّائفة نظرهم في أنّ الشّاكي يقدح بالشّكوى في الرّضا بالقضاء ،وليس كذلك ، فإنّ الرّضا بالقضاء لا تقدح فيه الشّكوى إلى اللّه ولا إلى غيره ، وإنّما تقدح في الرّضا بالمقضيّ ونحن ما خوطبنا بالرّضا بالمقضيّ . والضّرّ هو المقتضيّ ما هو عين القضاء.)
 

قال رضي الله عنه :  (فرجوع العبد) إذا أصابه الضر أودعته حاجة (إلى الواحد العين) المزيل عنه (بالسبب ذلك الألم) الذي هو فيه (أولى) ، أي أحق وأسهل (من الرجوع) عند ضرورته (إلى سبب خاص) يتعلق به من دعاء ونحوه (ربما لا يوافق) ذلك السبب الخاص (علم اللّه) تعالى (فيه) ، أي في الألم بزوال أو بقاء (فيقول) ذلك العبد حينئذ (إن اللّه) تعالى (لم يستجب لي) دعائي (وهو) ، أي ذلك العبد ما دعاه في نفس الأمر ، أي ما دعا اللّه تعالى فيستجيب له .

(وإنما جنح) ، أي مال في دعائه اللّه تعالى (إلى سبب خاص) عينه في نفسه وهو صورة المدعو التي تخيلها الداعي ، أي داع كان فإنه لا بد من الصورة في كل داع وكل عابد ، كما ورد أن اللّه في قبلة المصلي  .

وذلك لا يضر في الإيمان باللّه تعالى إذا لم يقتض الحصر في صورة من ذلك إذ هو من صورة الخيال ، فإذا استسلم العارف إلى اللّه تعالى بالتفويض إليه لم يقف عند الصورة الخيالية لانحلالها بعدم القصد إليها ، فإن الدعاء فعل والتفويض ترك الفعل (لم يقتضه) ، أي ذلك السبب الخاص
قال رضي الله عنه :  (الزمان ولا الوقت) لتحصل الإجابة به وقد يقتضيه الزمان فيستجاب له بذلك السبب (فعمل أيوب) عليه السلام (بحكمة اللّه تعالى) التي أوتيها كما قال سبحانه :يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ "[ البقرة : 269 ]
إذ ، أي لأنه يعني أيوب عليه السلام كان نبيا من أنبياء اللّه تعالى المعصومين القائمين بالحكمة والنبوّة .
لما تعليل للقول بأنه عليه السلام عمل بالحكمة علم بالبناء للمفعول (أن الصبر) على البلوى (هو حبس) ، أي إمساك (النفس عن الشكوى) إلى أحد (عند الطائفة) الصوفية (وليس ذلك) المذكور (بحد) ، أي تعريف صحيح (للصبر عندنا) معشر العارفين المحققين وإنما حدّه ، أي الصبر عندنا حبس ، أي إمساك النفس الإنسانية (عن الشكوى لغير اللّه) تعالى من البلوى لا حبس النفس عن الشكوى إلى اللّه تعالى (فحجب الطائفة) الصوفية القائلين بما ذكر (نظرهم) ، أي قياسهم (في أنّ الشاكي يقدح) ،

 أي يطعن (بالشكوى) ولو إلى اللّه تعالى (في الرضى بالقضاء) الإلهي ، والتقدير الأزلي على العبد فالصبر مثل الرضى يقدح فيه الشكوى ولو إلى اللّه تعالى وليس الأمر (كذلك) ، أي كما قالوا في ذلك كما نظروا (فإن الرضا بالقضاء) والتقدير على العبد (لا يقدح فيه الشكوى إلى اللّه) تعالى (ولا إلى غيره) سبحانه أيضا (وإنما يقدح) ذلك (في الرضا بالمقضي) وهو الشيء الذي قضى اللّه تعالى به كالبلاء مثلا ، فمن شكى من البلاء لم يكن راضيا بذلك البلاء ولا يطعن شكواه من ذلك في الرضى بقضاء اللّه تعالى عليه بذلك البلاء .

قال رضي الله عنه :  (ونحن ما خوطبنا) ، أي خاطبنا اللّه تعالى (بالرضا بالمقضي) وإنما خوطبنا بالرضى بالقضاء الذي هو حكم اللّه تعالى والضر ، أي البلاء الذي شكى منه أيوب عليه السلام (هو المقضي ما هو) ، أي ذلك الضر (عين القضاء) ، أي حكم اللّه تعالى الذي يجب الرضا به .

 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلم أيّوب عليه السّلام أنّ في حبس النّفس عن الشّكوى في دفع الضرّ إلى اللّه مقاومة القهر الإلهيّ وهو جهل بالشّخص إذ ابتلاه اللّه بما تتألّم منه نفسه ، فلا يدعو اللّه في إزالة ذلك الأمر المؤلم ، بل ينبغي له عند المحقّق أن يتضرّع ويسأل اللّه في إزالة ذلك عنه ، فإنّ ذلك إزالة عن جناب اللّه عند العارف وصاحب الكشف . فإنّ اللّه تعالى قد وصف نفسه بأنّه يؤذى فقال :إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ الأحزاب : 57 ] . وأيّ أذى أعظم من أن يبتليك ببلاء عند غفلتك عنه أو عن مقام إلهيّ لا تعلمه لترجع إليه بالشّكوى فيرفعه ، فيصحّ الافتقار الّذي هو حقيقتك ، فيرتفع عن الحقّ الأذى بسؤالك إيّاه في رفعه عنك .إذ أنت صورته الظّاهرة ، كما جاع بعض العارفين فبكى فقال له في ذلك من لا ذوق له في هذا الفنّ معاتبا له ، فقال العارف : « إنّما جوّعني لأبكي » يقول إنّما ابتلاني بالضّرّ لأسأله في رفعه عنّي ، وذلك لا يقدح في كوني صابرا . فعلمنا أنّ الصّبر إنّما هو حبس النّفس عن الشّكوى لغير اللّه . )

قال رضي الله عنه :  (وعلم أيوب) عليه السلام كمال حكمته وشريف فطنته (أنّ في حبس) ، أي إمساك (النّفس) الإنسانية (عن الشكوى إلى اللّه) تعالى (في رفع الضر) ، أي البلاء عنه (مقاومة القهر الإلهي) كما قال تعالى :وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ[ الأنعام  : 18]
، وقال تعالى :وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ[ الرعد : 16 ] ، (وهو) ، أي فعل المقاومة المذكورة (جهل بالشخص) ، أي الإنسان (إذا ابتلاه اللّه) تعالى (بما تتألم) ، أي تتوجع (منه نفسه) من أنواع البلاء (فلا يدعو اللّه) تعالى (في إزالة ذلك الأمر المؤلم) ، أي الموجع عنه (بل ينبغي له) ، أي الشخص المبتلي بشيء من البلوى عند المحققين من أهل اللّه تعالى أن يتضرع في دعائه ويسأل اللّه تعالى في إزالة ذلك البلاء عنه المؤلم له .

فإن إزالة ذلك البلاء عنه إزالة عن جناب اللّه تعالى الظاهر له بصورته عند العارف باللّه تعالى (صاحب الكشف) الإلهي (فإن اللّه) تعالى (قد وصف نفسه) في كلامه القديم (بأنه يؤذى فقال) سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [ الأحزاب : 57 ] وسبق أيضا وصفه تعالى بذلك في الحديث كما ذكره .

(وأي أذى أعظم من أن يبتليك) ربك أيها العبد (ببلاء) مؤلم لك (عند غفلتك عنه) سبحانه أو غفلتك (عن مقام إلهي لا تعلمه) أنت أي ذلك المقام وهو يريد أن يوصلك إليه (لترجع) يا أيها العبد إليه تعالى (بالشكوى) من ذلك البلاء (فيرفعه) سبحانه ، أي يزيله (عنك) بتضرعك إليه .
قال رضي الله عنه :  (فيصح) منك إليه سبحانه (الافتقار) في جميع أحوالك الظاهرة والباطنة (الذي هو حقيقتك) الذاتية (فيرتفع) بذلك (عن الحق) تعالى الظاهر لك بصورتك المتجلي بها عليك الأذى الذي هو بلاء باعتبارك وأذى باعتباره تعالى إذ لم يرد أنه تعالى يوصف بالبلاء ، وورد أنه يوصف بالأذى كما مر في الآية والحديث .


قال رضي الله عنه :  (بسؤالك) ، أي دعائك إياه سبحانه (في رفعه) ، أي إزالة ذلك الأذى (عنك إذ) ، أي لأنك (أنت صورته) تعالى (الظاهرة) بتجليه عليك (كما) ورد أنه (جاع بعض العارفين) باللّه تعالى (فبكى) من جوعه (فقال له في ذلك) ، أي البكاء (من لا ذوق له) ، أي لا تحقيق عنده (في هذا الفن) ، أي العلم الإلهي (معاتبا له) على بكائه من الجوع (فقال العارف) المذكور (إنما جوّعني لأبكي يقول) ، أي ذلك العارف (إنما ابتلاني) اللّه تعالى (بالضر) ، أي البلاء المؤلم (لأسأله) ، أي أطلب منه تعالى وأدعوه (في رفعه) ، أي إزالة ذلك الضر الذي ابتلاني به (عني وذلك) ، أي السؤال في رفعه والبكاء منه ل(ا يقدح) ، أي لا يطعن في كونه ، أي كون ذلك المبتلى بالضر صابرا على بلواه وضره .

قال رضي الله عنه :  (فعلمنا) مما ذكر (أن الصبر) عند المحققين من أهل اللّه تعالى (إنما هو حبس النفس) ، أي إمساكها (عن الشكوى لغير اللّه) تعالى من الناس .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 27, 2020 4:02 pm

19 -  فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص الأيوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
19 -  فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأعني بالغير وجها خاصّا من وجوه اللّه . وقد عيّن الحق وجها خاصّا من وجوه اللّه وهو المسمّى وجه الهويّة فتدعوه من ذلك الوجه في رفع الضّرّ عنه لا من الوجوه الأخر المسمّاة أسبابا ، وليست إلّا هو من حيث تفصيل الأمر في نفسه .
فالعارف لا يحجبه سؤاله هويّة الحقّ في رفع الضّرّ عنه عن أن تكون جميع الأسباب عينه من حيثيّة خاصّة . وهذا لا يلزم طريقته إلّا الأدباء من عباد اللّه الأمناء على أسرار اللّه ، فإنّ للّه أمناء لا يعرفهم إلّا اللّه ؛ ويعرف بعضهم بعضا . وقد نصحناك فاعمل وإياه سبحانه فاسأل ).




قال رضي الله عنه :  (وأعني) ، أي أقصد (بالغير) ، أي غير اللّه تعالى (وجها خاصا) ظاهرا بالشيء الهالك من وجوه اللّه تعالى الكثيرة كما قال تعالى :كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ[ القصص : 88 ] ،
وقال :فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ[ البقرة : 115 ] ، (وقد عين الحق) تعالى في الشرع (وجها خاصا من وجوه اللّه) تعالى الكثيرة (وهو المسمى وجه الهوية) الإلهية في قلب العارف باللّه تعالى وهو من جملة تلك الوجوه الكثيرة ، وما تميز عنها إلا بتعيين اللّه تعالى له بحكمه الشرعي لضرورة صرف العبادة إليه والرجوع في المهمات (فيدعوه) ،
أي يدعو اللّه تعالى ذلك العبد المؤمن من ذلك الوجه الذي عينه الحق تعالى (في رفع) ،


أي إزالة (الضر) ، أي البلاء المؤلم عنه لا يدعوه من تلك (الوجوه الأخر) الكثيرة التي له تعالى (المسماة) بين المؤمنين أسبابا يفعل اللّه تعالى المسببات عندها لا بها وليست ،


أي تلك الوجوه الأخر (إلا هو) سبحانه (من حيث تفصيل الأمر) الإلهي الواحد (في نفسه) بصور الخلق المختلفة .


قال رضي الله عنه :  (فالعارف) باللّه تعالى الكامل (لا يحجبه سؤاله) ، أي طلبه ما يريد من (هوية) ، أي ذات (الحق) تعالى الظاهرة له بصورة كل شيء محسوس أو معقول (في رفع) ، أي إزالة الضر الذي ابتلاه اللّه تعالى به عنه ، أي عن ذلك العارف عن أن متعلق بيحجبه تكون جميع الأسباب التي هي وجوه الحق تعالى إلى كل شيء عينه ، أي عين الحق تعالى من حيثية خاصة يعرفها العارف باللّه تعالى في نفسه ذوقا وكشفا ، وتخفى على الجاهل المحجوب .




وهذا المقام المذكور لا يلزم طريقته إلا الأدباء جمع أديب من عباد اللّه تعالى المحققين الأمناء جمع أمين وهو المحتفظ على أسرار اللّه تعالى في خلقه ، وقد ورد أن يعقوب عليه السلام كان يجلس على طرق من طريق العامة فيشكو لهم ما يجده من فقد يوسف عليه السلام ، ويحكى حالته للمارة حتى قال له بقية أولاده :"تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ"[ يوسف : 85 ] ،


فقال لهم مجيبا من هذا المقام المذكور "أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ"[ يوسف : 86 ] وهو علمه بوجه الحق تعالى من تلك الحيثية الخاصة مما لا يعلمه غيره.


قال رضي الله عنه :  (فإن للّه) تعالى (أمناء) على أسراره من عباده (لا يعرفهم) أحد إلا اللّه تعالى (و) هم (يعرف بعضهم بعضا) بأسرار سيشيرون إليها وأحوال يقفون عليها (وقد نصحناك) يا أيها السالك بما شرحنا لك من العلم الإلهي (فاعمل) عليه في باطنك وظاهرك (وإياه سبحانه) ، أي لا غيره (فأسأل) ، أي أطلب منه كل ما تريد فإنه لطيف بالعبيد .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالأربعاء فبراير 19, 2020 11:30 pm

20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص اليحيوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية   
هذا فص الحكمة اليحيوية ، ذكره بعد حكمة أيوب عليه السلام ، لأن سر الحياة الذي في الماء كان من حكمة أيوب عليه السلام ، وبذلك الماء حيي ذكر زكريا بيحيى عليه السلام ، لأنه ماء أبيه فحياة ذكره به ، ومن هنا قولهم : الولد سر أبيه ، لأن في الماء سر الحياة ، وإن كان المني ليس بماء في العرف العام ، فإنه ماء عند أهل الخصوص ولكن سر مادة بدنية مازجة لتفتح فيه صورة أصلها .
قال تعالى :فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ( 5 ) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ( 6 ) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ( 7 ) [ الطارق : 5 - 7 ] .
وفي الحديث قال عليه السلام : « الماء من الماء » .  رواه مسلم ورواه ابن حبان ورواه غيرهما .
(فص حكمة جلالية) ، أي منسوبة إلى الجلال وهو الهيبة الإلهية والقبض الرباني والعظمة الرحمانية في كلمة يحيوية .
إنما اختصت حكمة يحيى عليه السلام بكونها جلالية ، لأن الغالب عليه عليه السلام كان في حياته الجلال والقبض ، فكان كثير البكاء والحزن من هيبة اللّه تعالى وجلاله ، حتى قيل إنه كان إذا اجتمع بابن خالته عيسى ابن مريم عليه السلام يقول له لما يراه عليه من السرور والبسط كأنك آمن من مكر اللّه تعالى ، فيقول له عيسى عليه السلام لما يرى عليه من غلبة الحزن والقبض كأنك آيس من رحمة اللّه تعالى .
وقيل : إنه رأى مرة أمه توقد النار فبكى من خوف اللّه تعالى فقالت له : ما يبكيك وأنت صغير
فقال : إني رأيتك توقدين الحطب الكبار بالصغار أو كما قال صلى اللّه عليه وسلم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( هذه حكمة الأوّلية في الأسماء ، فإنّ اللّه سمّاه يحيى أي يحيا به ذكر زكريّا ولم يجعل له من قبل سميّا .
فجمع بين حصول الصّفة الّتي فيمن غبر ممّن ترك ولدا يحيى به ذكره ، وبين اسمه بذلك فسمّاه يحيى فكان اسمه يحيى كالعلم الذّوقيّ .
فإنّ آدم حيّي ذكره بشيث ، ونوحا حيّي ذكره بسام ، وكذلك الأنبياء
ولكن ما جمع اللّه لأحد قبل يحيى بين الاسم العلم منه وبين الصّفة إلّا لزكريّا عناية منه .
إذ قال : فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا[ مريم : 5 ] فقدّم الحقّ على ذكر ولده كما قدّمت آسية ذكر الجار على الدّار في قولها :عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ[ التحريم : 11 ] .
فأكرمه اللّه بأن قضى حاجته وسمّاه بصفته حتّى يكون اسمه تذكارا لما طلب منه نبيّه زكريّا ، لأنّه عليه السّلام آثر بقاء ذكر اللّه في عقبه إذ الولد سرّ إبيه ، فقال :يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [ مريم : 6 ] وليس ثمّة موروث في حقّ هؤلاء إلّا مقام ذكر اللّه والدّعوة إليه . ).


قال رضي الله عنه : (هذه) ، أي حكمة يحيى عليه السلام  (حكمة الأوّلية في الأسماء )، أي ظهور اسم جديد لم يكن ظاهرا من قبل لظهور مسمى جديد لم يكن من قبل موجودا فإن اللّه تعالى (سماه) ، أي يحيى عليه السلام باسم يحيى فهي تسمية اللّه تعالى له أوحى تعالى بها إلى أبيه زكريا عليه السلام وقد ابتدأ اللّه تعالى له التسمية بذلك كما ابتدأه في مقامه المخصوص فهي يحيى أي يحيا به ذكر أبيه زكريا عليه السلام بعد موته لأن بالولد يحيا ذكر الأب فيبقى مذكورا به بعد موته كما ورد في الحديث : « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية وعمل ينتفع به وولد صالح يدعو له » .


قال رضي الله عنه : (ولم يجعل اللّه) تعالى له ، أي ليحيى عليه السلام (من قبل) ، أي قبل معنى ما ذكر من نداء زكريا عليه السلام نداء خفيا وكون امرأته عاقرا وطلبه الغلام من اللّه تعالى والبشارة له به وخلقه سميا أي أحدا يسمى بهذا الاسم (فجمع) اللّه تعالى لزكريا عليه السلام (بين) نعمتين عظيمتين (حصول الصفة) له (التي) كانت فيمن غبر ، أي مضى وتقدم من الأنبياء عليهم السلام وهي قوله (ممّن ترك) بعد موته (ولدا) من أولاده (يحيا به ذكره) بحيث كل من رآه وعرفه تذكر أباه أو ظهرت عليه أخلاق أبيه وكمالاته وعلومه فورثه في مقامه ، فإذا مات كان ذكره ، أي ما كان يتذكره من العلم حيا بحياة ابنه بعده ،


قال رضي الله عنه : (وبين اسمه بذلك) ،أي يحيى عليه السلام باسم لم يسم به غيره قبله إشارة منه تعالى لفظية إلى حصول الصفة الأولى (فسماه) اللّه تعالى (يحيى) بصيغة الفعل المضارع (فكان اسمه) ، أي اسم زكريا عليه السلام يحيى فلا يموت اسمه بموته (كالعلم الذوقي) ،
أي الذي في ذوق صاحبه ، أي كشفه والتحقق به ، فإنه ذكر صاحبه الذي إذا مات وترك ابنا له فيه من صلبه أو تربيته وتأديبه يحيى ذكره بذلك الابن ، بخلاف العلم الخيالي الذي لا يتجاوز فهم صاحبه وخزانة خياله ، فإنه ليس بعلم بل هو ظن وحدس ، إذ لو كان علما لذاقه صاحبه وتحقق به في نفسه وأخذه عن كشفه لا عن درسه ،
ولكنه علم غيره نقله بفهمه وبيانه ولقلق فيه بلسانه ، فليس بذكر لصاحبه حتى يحيا بعده بابن صلبي أو غيره فإن آدم عليه السلام (حيي ذكره) ، أي صار حيا بعد موته بشيث ابنه الوارث له في العلوم الإلهية (و) أن (نوحا) عليه السلام كذلك حيي ذكره بعد موته بسام ابنه الوارث في العلوم الإلهية .
 
قال رضي الله عنه :  (وكذلك الأنبياء) عليهم السلام كموسى عليه السلام حيي ذكره بعد موته بفتاه يوشع بن نون ، وكان رباه موسى عليه السلام ، وهي أن نبىء بعده ، وكداود عليه السلام أحيا اللّه تعالى ذكره بولده سليمان عليه السلام فعمر بيت المقدس ، ولم تستقم عمارته على يدي داود عليه السلام كما مر ذكره ، وكإبراهيم عليه السلام أحيا اللّه تعالى ذكره بابنيه إسماعيل وإسحاق .
ولهذا قال عليه السلام :الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ [ إبراهيم : 39 ] .
ويعقوب أحيا اللّه تعالى ذكره بيوسف عليه السلام ، ونبينا صلى اللّه عليه وسلم أحيا اللّه تعالى ذكره بعلي رضي اللّه عنه ، لأنه باب لمدينة العلم النبوي كما قال عليه السلام : " أنا مدينة العلم وعلى بابها ". رواه الحاكم في المستدرك والطبراني في المعجم الكبير وغيرهما
. وفي رواية : « وحلقتها معاوية » أخرجه الديلمي في مسند الفردوس  والعجلوني في كشف الخفاء
وورد أيضا : « إن اللّه جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب » .رواه الطبراني في الكبير
 وورد : "كل بني أنثى تمات عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإني أنا عصبتهم وأنا أبوهم "
رواه الطبراني في الكبير و أبو يعلى في المسند .

 وإن كان أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما أفضل منه عندنا ، ولكن فضيلتهما من وجه آخر ، فإن ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم بعلوم الأذواق ما ظهر إلا بعلي وأولاده رضي اللّه عنهم ، فأحيا اللّه تعالى ذكره به لأنه رباه فهو ولده من التربية ، وتلقين الذكر في طرق الصوفية كلها راجع بالأسانيد إلى علي رضي اللّه عنه .
 
قال رضي الله عنه :  (ولكن ما جمع اللّه) تعالى لأحد من الأنبياء عليهم السلام (قبل يحيى) صلوات اللّه عليه (بين الاسم العلم) بالتحريك (منه ) المخترع من اللّه تعالى ، فلم يسم به أحد قبله (وبين الصفة له) بذلك الاسم حيث اقتضى إحياء الذكر إلا لزكريا عليه السلام (عناية )، أي اعتناء منه تعالى بزكريا عليه السلام (إذ قال) ، أي زكريا عليه السلام في دعائه ربه  :"رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ" [ آل عمران : 38 ] ،
أي من عندك بطريق الاختراع الذي لم يسبق نظيره كعلم الذوق الذي قال تعالى فيه لما علمه للخضر عليه السلام : فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً( 65 ) [ الكهف : 65 ] ،
أي من عندنا وَلِيًّا [ مريم :5] ، أي ولدا يتولى أمر أبيه فيخلفه في جميع أحواله ولهذا قال :يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا( 6 ) [ مريم : 6 ] .
 
قال رضي الله عنه :  (فقدم) زكريا عليه السلام ذكر (الحق) تعالى بكاف الخطاب على ذكر ولده يحيى عليه السلام أدبا مع اللّه تعالى واحتراما لجنابه (كما قدمت آسية) بنت مزاحم امرأة فرعون (ذكر الجار) الحق سبحانه وتعالى (على) ذكر (الدار في قولها) ، أي آسية كما حكاه اللّه تعالى بقوله : (" رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ") [ التحريم :11] .
(فأكرمه) ، أي زكريا عليه السلام (اللّه) تعالى (بأن قضى حاجته) بخلق يحيى عليه السلام له (وسماه بصفته) فأحيا ذكره به (حتى يكون اسمه) ، أي اسم يحيى عليه السلام تذكارا من اللّه تعالى (لما) ، أي الذي (طلب) ، أي طلبه (منه) ،
أي من اللّه تعالى (نبيه زكريا) عليه السلام من الولي الوارث (لأنه) ، أي زكريا عليه السلام آثر ، أي قدم واختار (بقاء ذكر اللّه) تعالى في عقبه ، أي ذريته إلى يوم القيامة إذ ، أي (لأن الولد سر أبيه) ، فهو حامل كماله ونتيجة حضرة جماله وجلاله.
قال رضي الله عنه :  (فقال) ، أي زكريا عليه السلام في حملة دعائه ( "يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب َ") وليس ثم بالفتح ، أي هناك موروث في حق هؤلاء من زكريا وآل يعقوب عليه السلام (إلا مقام ذكر اللّه) تعالى بالذوق والعرفان (والدعوة إليه) ، أي إلى دينه سبحانه بالقلب واللسان .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّه بشّره بما قدّمه من سلامه عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّا .
فجاء بصفة الحياة وهي اسمه وأعلم بسلامه عليه ، وكلامه صدق فهو مقطوع به .
وإن كان قول الرّوح :وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [ مريم : 33 ] أكمل في الاتّحاد ، فهذا أكمل في الاتّحاد والاعتقاد وأرفع للتّأويلات .
فإنّ الّذي انخرقت فيه العادة في حقّ عيسى إنّما هو النّطق ، فقد تمكّن عقله وتكمّل في ذلك الزّمان الّذي انطقه اللّه فيه . ولا يلزم للمتمكّن من النّطق - على أيّ حالة كان - الصّدق فيما به ينطق ، بخلاف المشهود له كيحيى . )
 
ثم إنه تعالى بشّره ، أي زكريا عليه السلام بما قدمه تعالى على خلق يحيى عليه السلام وإظهاره من سلامه تعالى عليه ، أي على يحيى عليه السلام "يَوْمَ وُلِدَ"، أي ظهر في الدنيا "وَيَوْمَ يَمُوتُ"، أي يخرج منها إلى البرزخ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا[ مريم : 15 ] ، أي يخرج من البرزخ إلى القيامة ، وعالم الآخرة حيث قال سبحانه :"وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا"[ مريم : 15 ] وسلم هو تعالى على يحيى عليه السلام اعتناء بشأنه فجاء تعالى في ذكر البعث بصفة الحياة له وهي اسمه يحيى عليه السلام وهو الذي يذبح الموت في صورة كبش بين الجنة والنار ، أي يعرضه على أهل الجنة وأهل النار
فيعرفونه كما ورد في الخبر « ونصه : عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجاء بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشربون وينظرون ويقال : يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ثم يذبح ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود لا موت ". رواه الطبراني في الكبير ورواه النسائي في السنن الكبرى ورواه غيرهما .
 
وذلك من خصوصيته عليه السلام بكمال التحقق بصفة الحياة الحقيقة ، حتى يغلب على حقيقة الموت في صورة الكبش فيميته ، وإذا مات الموت فإنه يحيا ويدخل الجنة ، لأن أصله منها ، ولهذا جاء به جبريل عليه السلام إلى إبراهيم عليه السلام فداء لابنه فذبحه في الدنيا ، وهي عالم الخيال المطلق ،
وكان ذبحه في صورة ابنه في عالم خياله المقيد أيضا وهو منامه ، فلم يبرح من البرزخ حتى تقوم الساعة فيذبحه يحيى عليه السلام في ذلك العالم الحقيقي وهو ثالث مرة فيموت ويعود كما
 
كان في الجنة كبشا أملح ، ولهذا ورد أنه لا يدخل الجنة من الحيوان إلا خمسة :
كبش إسماعيل وناقة صالح ونملة سليمان وحمار العزير وهدهد بلقيس وزاد بعضهم براق النبي صلى اللّه عليه وسلم .
وأعلم أي زكريا عليه السلام أعلمه اللّه تعالى بسلامه سبحانه عليه ، أي على يحيى عليه السلام وكلامه ، أي اللّه تعالى صدقه كما قال :وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا[ النساء : 122 ] فهو ، أي كلام اللّه تعالى مقطوع به فتمت البشارة .
وإن كان قول الروح ، أي عيسى عليه السلام عن نفسه حين تحقق بالروح الحقيقي الروحاني وانسلخ من المقام البشري النفساني والسلام علي ، أي الأمان مني من حيث الهوية القيومية على ذاتي من حيث الصورة اللاهوتية والناسوتية يَوْمَ وُلِدْتُ من أمي بغير أبوَيَوْمَ أَمُوتُبعد هبوطي من السماء وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[ مريم : 33 ] في يوم القيامة أكمل من السلام على يحيى في تحقيق المقام الاتحاد الروحاني .
 
قال رضي الله عنه :  (فهذا) السلام اليحيوي (أكمل) منه (في) جمعه بين (الاتحاد) الباطني  (والاعتقاد) الظاهري ، ولا يسلم اللّه تعالى إلا على المتحقق به سبحانه ، لأنه أمان له من الفناء ، وكل ما سواه تعالى يفنى ويزول فهذه دلالته على الاتحاد ، والاعتقاد فيه صريح التمييز بين المسلّم والمسلّم عليه (وأرفع) ، أي أكثر رفعا ، أي إزالة (للتأويلات) حيث لا التباس فيه بخلاف السلام العيسوي (فإن) الأمر (الذي انخرقت فيه العادة في حق عيسى) عليه السلام (إنما هو النطق) في المهد قبل أوان التكلم ،


(فمن تمكن عقله) ،أي عيسى عليه السلام وتكمل ، أي صار كاملا (في ذلك الزمان الذي أنطقه اللّه فيه) ، وهو صغير في المهد ابن ساعة (ولا يلزم للمتمكن) في نفسه (من النطق) ، أي التكلم بالكلام (على) أي حالة كان سواء كان ممن عادته ينطق أو كان لم يبلغ حد النطق وكان نطقه خرقا للعادة كعيسى عليه السلام (الصدق فيما به ينطق) من الكلام وإن كان قول عيسى عليه السلام وهو في المهد من الإتيان بالسلام منه عليه صدقا فلا شبهة فيه أصلا ، ولكن الخارق للعادة فيه إنما هو نفس النطق لا المنطوق به ، فأي شيء كان المنطوق به كان خارقا للعادة ، فليس معنى ذلك بمقصود في حصول الخارق (بخلاف المشهود له) بالسلام (كيحيى) عليه السلام .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فسلام الحقّ على يحيى من هذا الوجه أرفع للالتباس الواقع في العناية الإلهيّة به من سلام عيسى على نفسه ، وإن كانت قرائن الأحوال تدلّ على قربه من اللّه في ذلك وصدقه ، إذ نطق في معرض الدّلالة على براءة أمّه في المهد ، فهو أحد الشّاهدين ، والشّاهد الآخر هزّ الجذع اليابس فتساقط رطبا جنيا من غير فحل ولا تذكير ، كما ولدت مريم عيسى من غير فحل ولا ذكر ولا جماع معتاد .
لو قال نبيّ آيتي ومعجزتي أن ينطق هذا الحائط ، فنطق الحائط وقال في نطقه تكذب ما أنت رسول اللّه ، لصحّت الآية وثبت بها أنّه رسول اللّه ، ولم يلتفت إلى ما نطق به الحائط .
فلمّا دخل هذا الاحتمال في كلام عيسى بإشارة أمّه إليه وهو في المهد ، كان سلام اللّه على يحيى أرفع من هذا الوجه .
فموضع الدّلالة أنّه عبد اللّه من أجل ما قيل فيه إنّه ابن اللّه - وفرغت الدّلالة بمجرّد النّطق - وأنّه عبد اللّه عند الطّائفة الأخرى القائلة بالنّبوّة . وبقي ما زاد في حكم الاحتمال في النّظر العقليّ حتّى ظهر في المستقبل صدقه في جميع ما أخبر به في المهد فتحقّق ما أشرنا إليه . )
 
قال رضي الله عنه :  (فسلام الحق) تعالى (على يحيى) عليه السلام (من هذا الوجه) المذكور (أرفع) ، أي أكثر إزالة (للالتباس الواقع في) جهة (العناية الإلهية) ، أي الاعتناء الإلهي الرباني به ، أي بيحيى عليه السلام حيث أقامه اللّه تعالى في مقام الاتحاد الروحاني الحقيقي كعيسى عليه السلام ولكن ستره منه فلم يظهره عليه ،
وأظهره على عيسى عليه السلام وهو في المهد بسلامه على نفسه وبعد نبوّته فكان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن اللّه تعالى ، وخلق الطير ونفخ فيه الروح بإذن اللّه تعالى (من سلام عيسى) عليه السلام (على نفسه) لظهور معنى الاتحاد فيه الموهم للمعنى الفاسد ، فيحتاج إلى التأويل وعدم كون معناه مقصودا بالذات في وقت صدوره منه (وإن كانت قرائن الأحوال) من عيسى عليه السلام حين نطق وهو في المهد (تدل على قربه) ،
أي عيسى عليه السلام (من اللّه) تعالى (في ذلك) القول (و)على (صدقه) عليه السلام فيه إذ ، أي لأنه عليه السلام (نطق) بذلك (في معرض) ، أي لأجل (الدلالة على براءة أمه) مريم عليها السلام مما رموها به وهو طفل في المهد فهو ، أي عيسى عليه السلام أحد الشاهدين ببراءة أمه عليها السلام (والشاهد الآخر) على براءتها (هزّ الجذع) من النخل (اليابس فسقّط) بالتشديد ذلك الجذع عليها (رطبا) من التمر (جنيا) ،
 
أي نضيجا (من غير فحل) لتلك النخلة (ولا تذكير) ، أي تلقيح وهو تأبير النخل لأجل الحمل ، ومن عادته أنه لا يثمر إلا بعد ذلك .
قال رضي الله عنه :  (كما ولدت مريم) عليها السلام (عيسى) عليه السلام (من غير فحل) لها (ولا ذكر) وهي عذراء بتول لا زوج لها عليها السلام (ولا جماع عرفي معتاد) بإيلاج وإنزال ، وإنما جاءها جبريل عليه السلام في صورة بشر سوي كما كان يأتي النبي صلى اللّه عليه وسلم في صورة دحية الكلبي الذي هو أجمل أهل زمانه ليباسطه في الوحي إليه فنفخ في فرجها فحملت بعيسى عليه السلام ، فكان النفخ في ساعة والحمل في ساعة والوضع في ساعة ، ثم جاءت به قومها تحمله فأعابوا عليها واتهموها ، فأشارت إليه فنطق وهو صغير في المهد ببراءتها .

قال رضي الله عنه :  (لو قال نبي) من الأنبياء عليهم السلام (آيتي) ، أي الأمر الذي جئت به خارقا للعادة دليلا على صدق دعواي النبوة (ومعجزتي) على ذلك (أن ينطق هذا الحائط فنطق) ذلك الحائط (وقال في نطقه) لذلك النبي مثلا (تكذب ما أنت برسول) اللّه تعالى ولا نبيه (لصحت الآية) ، أي المعجزة الخارقة للعادة الدالة على صدقه في دعواه النبوّة (وثبت بها) ، أي بتلك الآية (أنه) ،
أي ذلك النبي (رسول اللّه) ، لأن المعجزة نطق الحائط وقد حصلت لا معنى ما نطق به من الكلام (ولم يلتفت) بالبناء للمفعول (إلى) معنى (ما نطق به) ذلك (الحائط) من التكذيب لذلك النبي (فلما دخل هذا الاحتمال في كلام عيسى) عليه السلام (بإشارة أمه) مريم عليها السلام (إليه وهو) صغير (في المهد) ، فاحتمل أن يكون الخارق للعادة المقصودة هو نطقه مع صغره جدا ، وقد حصلت البراءة بذلك ، ويحتمل أن الخارق للعادة في مضمون كلامه أيضا ، ومعلوم أن العصمة إنما تقررت له عند الغير في زمان نبوّته ودعواه الرسالة لا في حال صغره وكونه في المهد .

قال رضي الله عنه :  (كان سلام اللّه) تعالى (على يحيى) عليه السلام (أرفع) رتبة من سلام عيسى عليه السلام على نفسه (من هذا الوجه) المذكور (فموضع الدلالة) من مضمون كلامه عليه السلام وهو في المهد على صدق عبوديته للّه تعالى وبطلان ما يدعيه الجاهلون في حقه قوله (أنه عبد اللّه) وهي دعوى ظاهرة لا تحتاج إلى إثبات ، فإنه عبد اللّه بلا شبهة ، وذلك القول (من أجل ما قيل فيه) من الجاهلين به أنه ابن اللّه تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
 
قال رضي الله عنه :  (وفرغت الدلالة منه بمجرد النطق) الذي أتى به (وأنه) ، أي عيسى عليه السلام بلا شك (عبد اللّه عند الطائفة الأخرى) العارفين به عليه السلام وهم المؤمنون (القائلة) تلك الطائفة فيه بالنبوة ، أي أنه نبي من أنبياء اللّه تعالى وبقي ما زاد على ذلك كلامه عليه السلام وهو في المهد وذلك قوله :آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا .
 
قالَ تعالى : إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ( 30 ) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ( 31 ) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ( 32 ) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا( 33 ) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)  [ مريم : 30  33 ] ،

قال رضي الله عنه :  (في حكم الاحتمال في النظر العقلي) لأنها دعوى قابلة للثبوت (حتى يظهر في المستقبل) بعد كبره صدقه بالمعجزات (في جميع ما أخبر به وهو في المهد) مما ذكر في الآية .
قال رضي الله عنه :  (فتحقق) يا أيها السالك ما أشرنا إليه هنا من هذه الأسرار واللّه فاتح البصائر والأبصار .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالأربعاء فبراير 19, 2020 11:31 pm

21  - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي   

الفص الزكرياوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
21  - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية            الجزء الأول
هذا فص الحكمة الزكرياوية ، ذكره بعد حكمة يحيى عليه السلام لأنه أبوه وقدم ذكر الابن ، لأنه هبة له من اللّه تعالى والهبة مقدمة اعتناء بشأن الواهب وشكر النعمة التي هي من أعظم المواهب .
قال تعالى : "وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ( 89 ) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ( 90 )" [ الأنبياء : 89 - 91 ] .
(فص حكمة مالكية) ، أي منسوبة إلى المالك الحق سبحانه (في كلمة زكرياوية . )
إنما اختصت حكمة زكريا عليه السلام بكونها مالكية لأنها مشتملة من أوّلها إلى آخرها على ذكر الرحمة الإلهية العامة والخاصة، لأنه عليه السلام كما قال تعالى عنه :"ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا" [ مريم : 2 ] الآية .
والرحمة لها الملك في المرحومين بها إيجادا وإمدادا فهي مالكة لذواتهم وصفاتهم لأن المالك له التصرف دون غيره ولا متصرف إلا الرحمة فلها الملك في كل شيء والاستيلاء على كل شيء.

قال الشيخ رضي الله عنه:  (اعلم أنّ رحمة اللّه وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ، وأنّ وجود الغضب من رحمة اللّه بالغضب . فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرّحمة إليه نسبة الغضب إليه .  ولمّا كان لكلّ عين وجود يطلبه من اللّه ، لذلك عمّت رحمته كلّ عين .
فإنّه برحمته الّتي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه ، فأوجدها . فلذلك قلنا إنّ رحمة اللّه وسعت كلّ شيء وجودا وحكما .
والأسماء الإلهيّة من الأشياء ؛ وهي ترجع إلى عين واحدة . فأوّل ما وسعت رحمة اللّه شيئية تلك العين الموجدة للرّحمة بالرّحمة ، فأوّل شيء وسعته الرّحمة نفسها ثمّ الشيئيّة المشار إليها، ثمّ شيئيّة كلّ موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة وعرضا وجوهرا، ومركّبا وبسيطا . ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم كلّه وسعته الرّحمة الإلهيّة وجودا . )
 
(اعلم) يا أيها السالك (أن رحمة اللّه ) تعالى التي هي صفة من صفاته الأزلية الأبدية وسعت كل شيء قديم أو حادث فوسعها للقديم اتصافها به فهي موصوفة بجميع الأوصاف الإلهية ، فهي واسعة لذلك والاسم منها جامع لجميع الأسماء فهو واسع لها قال تعالى :قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى[ الإسراء :110].
 
ووسعها للحادث محسوسا كان أو معقولا ، أو موهوما ، لأن لها الإحاطة بالأعيان كلها كما قال سبحانه ؛ والله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ[ فصلت : 54 ] بالشيء واسع له وما أحاط إلا بصفة الرحمة الاستوائية على العرش الجامع لكل شيء بالاسم المشتق منها وهو اسم الرحمن وتبعته جميع الأسماء للآية المذكورة .
وقال سبحانه :الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [ طه : 5 ] ، وكل اسم محيط بأثره بالرحمة التي توجد منها فالرحمة هي المحيطة فهي الواسعة لكل شيء (وجودا) ، أي من حيث وجود ذلك الشيء بها (وحكما) ، أي من حيث الحكم على ذلك الشيء بكونه مؤثرا أو مكملا أو أثرا خيرا أو شرا أو ذا خير وذا شر ومجردا منها واعلم أيضا (أن وجود الغضب الإلهي على شيء (من رحمة اللّه تعالى بالغضب) إذ الغضب صفة من صفات اللّه تعالى ولولا الرحمة له ما وجد ، أي ما قام وثبت لصفة وإن كان موجودا للذات الإلهية ، لأنه من صفاتها ولولا الاسم الرحمن المسمى بجميع الأسماء ما ظهر الاسم الغاضب
(فسبقت رحمته) تعالى المستوي بها على العرش جميع صفاته وأسمائه لسبق الذات لأحوالها فاتصفت بجميع الصفات وتسمت بكل الأسماء حتى أنها سبقت من جملة ذلك صفة (غضبه) تعالى كما ورد في الأحاديث أي سبقت نسبة الرحمة إليه ، تعالى بالنظر إلى إيجاد كل شيء وإمداده عن تلك الأسماء الإلهية والصفات الربانية (نسبة الغضب إليه) سبحانه فتأخر الغضب عنها تأخر الصفة عن الموصوف والاسم عن المسمى ، وقامت الرحمة لجميع الصفات والأسماء الإلهية مقام الذات الجامعة .
 
ولهذا ورد أن الرحمة انقسمت مائة جزء ، وهي الأسماء الإلهية التسعة والتسعون اسما ، وتمام المائة اسم الذات الجامع لكلها ، وكون الجزء الواحد منها في الدنيا وهو الاسم الجامع الذاتي الظاهر في كل شيء ، الذي ترفع به الدابة يدها عن ولدها شفقة عليه ورحمة به أن تدوسه ، وتتفصل الأجزاء الباقية في يوم القيامة فيرحم اللّه تعالى بها عباده ، ويقوم الميزان بالقسط ، ولا تظلم نفس شيئا لظهور العدل الإلهي في ذلك اليوم ، وتتخلق العارفون بتلك الأجزاء كلها .
 
روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : " جعل اللّه الرحمة مائة جزء ، فأمسك عنده تسعا وتسعين جزءا ، وأنزل إلى الأرض جزءا واحدا ، فيه يتراحم الخلق حتى أن الفرس لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تدوسه ". أورده المناوي في فيض القدير وعزاه إلى البخاري في الأدب المفرد.  
 
وفي رواية الحسن أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : " إن للّه تعالى مائة رحمة أهبط منها رحمة إلى أهل الدنيا فوسعتهم إلى آجالهم وأن اللّه تعالى قابض تلك الرحمة يوم القيامة إلى التسعة والتسعين فيكملها مائة رحمة لأوليائه وأهل طاعته ". رواه الحاكم في ورواه أحمد في المسند عن أبي هريرة ورواه غيرهما .
 
(ولما كان لكل عين) من الأعيان الأسمائية التي هي مجرد نسب ورتب في الذات الأحدية والأعيان الأثرية التي هي صور تجليات تلك النسب والرتب الاسمائية (وجود) يليق ظهوره بحسب تلك العين (يطلبه) ، أي كل عين يطلب وجوده المقيد من حضرة (وجود اللّه) تعالى المطلق القيوم على الكل اتصافا في الأعيان الأسمائية وتأثيرا في الأعيان الكونية (لذلك) ، أي لأجل كون الأمر كذلك (عمت رحمته) سبحانه (كل عين) مما ذكرنا ،
 
(فإنه) سبحانه وتعالى (برحمته) ، أي بسبب رحمته (التي رحمه) ، أي رحم كل عين ب(ها قبل) تعالى (رغبته) ، أي رغبة كل عين وطلبه ودعاءه بلسان افتقاره واستعداده (في وجود عينه) ، أي ذاته له (فأوجدها) ، أي تلك العين الراغبة في وجودها لشرف الوجود وكمال الاتصاف به فإنه حلة القديم سبحانه .
 
(فلذلك قلنا إن رحمة اللّه) تعالى (وسعت كل شيء) قديم أو حادث (وجودا وحكما و)لا شك أن (الأسماء الإلهية) القديمة الأزلية (من) جملة (الأشياء) لأنها مجرد نسب واعتبارات وإضافات بين ذات الحق تعالى وبين ما أقامه بها من الأعيان الكونية قبل وجودها الثابتة في عدمها الأصلي ، فإذا استفادت تلك الأعيان الثابتة صفة الوجود من تلك النسب الذاتية ، كانت الإضافة من الذات الإلهية بواسطة تلك النسب ، فتتبين تلك النسب المذكورة لا أنها تحدث لأنها قديمة بقدم الذات الإلهية ، إذ هي نسب الذات واعتباراتها وإضافاتها ، وإنما الذي يحدث تلك الأعيان الثابتة
باعتبار إضافة الوجود عليها بالمتجلي الحق سبحانه ، فكما تظهر تلك الأعيان الثابتة بالمتجلي الحق تظهر أيضا تلك النسب الذاتية بالمتجلى الحق ، فتشترك مع الأعيان في الظهور بالتجلي ، فتسمى أشياء بهذا الاعتبار
وتدخل تحت قوله تعالى :"كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ"[ القصص : 88 ] ومعنى الهلاك عدم الاستقلال فيها والنسب ليست مستقلة إذ هي أسماء الذات الإلهية فهي هالكة بهذا الاعتبار ، أي فانية في الذات الأحدية لأوجه تلك الذات الأحدية ، وكذلك قوله سبحانه :فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ[ البقرة : 115 ] ،
 
أي ذاته سبحانه الواحدة الأحدية المتجلية بالنسب والآثار في كل شيء (وهي) ، أي الأسماء الإلهية (ترجع) في نفس الأمر (إلى عين) ، أي ذات (واحدة) هي موضع نسبها واعتباراتها وإضافاتها وهي الذات الإلهية والوجود الواحد المطلق الساري بلا سريان في الأعيان كلها الأسمائية والكونية ، وهي عين الكل إذا فنيت جميع النسب الأسمائية ونسب النسب الإمكانية الكونية .
 
(فأول ما وسعته رحمة اللّه) تعالى وسعت (شيئية تلك العين) الواحدة المذكورة ، وهذا الوسع وهو الانقسام الواقع في الرحمة فالجزء من الرحمة ، الذي في الدنيا هو هذه العين الواحدة المشار إليها هنا كما سبق بيانه ،
ولهذا من فاته التحقيق بها اليوم فاتته بقية الأجزاء التسعة والتسعون في يوم القيامة أن يتحقق بها ، ومن تحقق بها اليوم تحقق بالبقية غدا .
 
وهذا الجزء الذي في الدنيا هو المقصود في الكل لأنه عين الذات ، ولهذا كثرت الغفلة في الدنيا من الجاهلين بهذا الجزء ، والغفلة عين اليقظة له ولكونه جزءا لا يتجزأ لكون معرفته عينه ، وهم يريدون أن تكون غيره وهو ممتنع عقلا وشرعا وهم لا يشعرون من كثرة ما يشعرون ، فلو قل شعورهم بالأغيار لتنبهوا لحقيقة هذا
(الواحد القهار) الموجدة تلك العين أي المظهرة المفصلة للرحمة الواسعة لها بالرحمة المذكورة فأوّل شيء وسعته الرحمة الإلهية أنها وسعت (نفسها ثمّ ) وسعت الشيئية التي لتلك العين الواحدة المذكورة (المشار إليها )هنا قريبا بأنها مرجع الكل وأنها هي المنفصلة المتكثرة إلى شيئيات تلك الأسماء الإلهية (ثم) وسعت (شيئية كل موجود) من الحوادث الكونية مما (يوجد) في الحس أو العقل أو الوهم إلى ما لا يتناهى دنيا) ،
 
أي في الدنيا (وآخرة) ، أي في الآخرة وعرضا بالتحريك وهو ما لا قيام له بنفسه ظاهرا (وجوهرا) وهو ما قام ظاهرا بنفسه (ومركبا وبسيطا) ،
أي غير مركب وكله دخل تحت قولنا في الحس والعقل أو الوهم (ولا يعتبر فيها) ، أي في الرحمة الإلهية الواسعة لما ذكر حصول غرض لأحد ممن وسعته مطلقا (ولا ملائمة طبع) من الطباع أصلا بل الشيء (الملائم) كالنعيم واللذة (وغير الملائم) كالألم والعذاب
كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا فوجد بها على حسب ما هو عليه في نفسه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ذكرنا في الفتوحات أنّ الأثر لا يكون إلّا للمعدوم لا للموجود ، وإن كان للموجود فبحكم المعدوم : وهو علم غريب ومسألة نادرة ، ولا يعلم تحقيقها إلّا أصحاب الأوهام ، فذلك بالذّوق عندهم . وأمّا من لا يؤثّر الوهم فيه فهو بعيد عن هذه المسألة.
فرحمة اللّه في الأكوان سارية  ... وفي الذّوات وفي الأعيان جارية
مكانة الرّحمة المثلى إذا علمت  ... من الشّهود مع الأفكار عالية)
 
(وقد ذكرنا في) كتاب الفتوحات المكية أن الأثر الحادث من العين الثابتة في العدم الأصلي (لا يكون) ذلك الأثر مستندا (إلا للمعدوم) في نفسه الموجود فيما هو أصله بوجود أصله لا بوجود آخر كالأسماء الإلهية ، فإنها كلها مراتب واعتبارات للذات الإلهية الموصوفة بها المسماة بها أزلا وأبدا عندها فهي معدومة العين موجودة الأثر لأنها مراتب الذات الإلهية لا عينها ولا غيرها لا يكون الأثر (للموجود) أصلا (وإن كان) الأثر (للموجود) ، أي نسب إليه بمقتضى الظاهر
(كما يقال) : هذا أثر اللّه تعالى في القديم ، قال سبحانه : هذا خلق اللّه .
ويقال في الحادث هذا فعل زيد وكتابة عمرو ونحو ذلك .
 
قال تعالى :فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ[ التوبة : 105 ] ، فنسب تعالى العمل للمخاطبين (فبحكم ، أي فهذه النسبة حينئذ بحسب ما اتصف به ذلك الموجود من الأمر (المعدوم وهو مرتبة اللّه تعالى التي هي قدرته مثلا في قولنا : هذا أثر اللّه وهذا خلق اللّه ، أي أثر قدرة اللّه تعالى وخلقها والقدرة مرتبة للّه تعالى لا هي ذاته ، لأنه ذاته موجودة ولا أثر للموجود وإنما المرتبة معدومة في نفسها فلها الأثر،
وكذلك في الحادث قولنا : هذا فعل زيد وكتابة عمرو أي فعل قدرته وكتابة صفته لا أن ذلك منسوب إلى ذاته الموجودة إذ لا أثر للموجود ، وإنما ذلك منسوب إلى مرتبة زيد وعمرو هي صفته القائمة بذاته التي إذا توجه بها على الأثر ، ظهر الوجود في الأثر بنقلها ذلك الوجود عن الذات الموجودة ،
ولهذا تسمى القدرة في الحوادث عرضا لاتصافها بالوجود الذاتي ساعة نقله إلى الأثر وهي معدومة في نفسها ، ولا تسمى في الحق تعالى عرضا لعدم ورود ذلك ، ولأنه يقتضي المشابهة للحوادث ، ولأن العرض فان مضحمل وذلك محال على الحق تعالى .
 
قال صدر الدين القونوي تلميذ المصنف وابن زوجته رضي اللّه عنهما في كتابه «مفتاح الغيب» الأثر لا يكون لموجود أصلا من حيث وجوده فقط بل لا بد من انضمام أمر آخر خفي إليه يكون هو المؤثر أو عليه يتوقف الأثر،
والأثر نسبة بين أمرين مؤثرين فيه ومؤثر، ولا تتحقق نسبة ما بنفسها فتحققها بغيرها، ولا يجوز أن يكون ذلك الغير هو الوجود، فإن الوجود لا يظهر عنه ما لا وجود له ولا يظهر عنه أيضا عينه .
 
ولما كان أمر الكون محصورا بين وجود مرتبة وتعذر إضافة الأثر إلى الوجود الظاهر لما مر تعين إضافته إلى المرتبة ، ومرتبة الوجود المطلق الألوهية فإليها وإلى نسبها المعبر عنها بالأسماء تستند الآثار ، والمراتب كلها أمور معقولة غير موجودة في أعيانها ،
فلا تحقق لها إلا في العلم كأعيان الممكنات قبل انصباغها بالوجود العام المشترك بينها وبما ذكرنا من أمر المراتب ، تتميز عن الأرواح والصور ، فإن الأرواح والصور لها وجود في أعيانها بخلاف المراتب ، وكذلك سائر النسب فافهم .


وإذا عرفت هذا علمت أنه لا أثر إلا الباطن ، وإن أضيف إلى الظاهر لغموص سره وصعوبة إدراكه بدون الظاهر ،
فمرجعه في الحقيقة أعني الأثر إلى أمر باطن من ذلك الظاهر أو فيه ، فاعرف ، وفي محل آخر من الكتاب المذكور لا شك في استناد العالم إلى الحق من حيث مرتبته المسماة ألوهية ، ولهذه الألوهية حقائق كلية هي جامعتها وتسمى في اصطلاح أهل الظاهر الصفاتيين وغيرهم حياة وعلما وإرادة وقدرة والألوهية مرتبة للذات المقدسة ونسبتها إليه نسبة السلطنة إلى السلطان والخلافة إلى الخليفة ، والنبوّة إلى النبي يعقل التمييز بينهما حقيقة وعلما ،
 
أي بين المرتبة وصاحبها من سلطان وخليفة وسواهما ، ولا يظهر في الخارج للمرتبة صورة زائدة على صاحبها لكن يشهد أثرها ممن ظهر بها ما دام لها الحكم به وله بها ، ومتى انتهى حكمها به ومن حيث هو لم يظهر عنه أثر وبقي كسائر من ليست له تلك المرتبة .
 
(وهو) ، أي ما ذكر من هذا الحكم (علم غريب) بين غير أهله ومسألة نادرة في الواقع لقلة من ينتبه إليها ويطلع عليها (ولا يعلم تحقيقها) ، أي إدراكها على وجه التحقق لها (إلا أصحاب الأوهام) ، أي الذين استولت على أفهامهم أوهامهم فتحكم عقولهم بوجود ما لا وجود له وترتب على ذلك أمور كثيرة كالمتمسكين بالعلوم الظاهرة عامتهم وخاصتهم
 
(فذلك) ، أي العلم المذكور لهذا الحكم (بالذوق) ، أي الوجدان النفساني (عندهم) ، فلا يتكلفون له (وأما من لا يؤثر الوهم فيه) ولا يستولي عليه من أهل هذه الطريقة الإلهية (فهو بعيد عن هذه المسألة) فلا يقدر يتحقق بصدور الأثر عن المعدوم ولا عن الموجود بحكم المعدوم أصلا ، بل يرى المراتب الأسمائية والكونية مترتبة على حسب ما هي عليه أزلا وأبدا ، وليس منها مؤثر ولا أثر إلا بحكم التعريف الشرعي والدلالة الإلهية ،
 
ويرى الوجود الحق الواحد المطلق يتجلى بتلك المراتب كلها ظاهرا وباطنا على ما هو عليه في ذاته سبحانه أزلا وأبدا ، فلا معنى لمسألة الأثر عنده في نفس الأمر لانخراق حجاب الوهم له دون الأوّلين المذكورين ، وإذا علمت ما ذكر .
 
(فرحمة اللّه) تعالى الواسعة (في) جميع الأكوان الحادثة سارية بصفة القيومية على كل شيء فلا قيام لشيء إلا بها وفي الذوات كلها حتى الذات الإلهية من حيث ظهورها بأعيان الأسماء الأزلية الأبدية وفي الأعيان أيضا ، أي أعيان تلك الذوات وهي أسماؤها حادثة كانت أو قديمة جارية تلك الرحمة أيضا ، أي ظاهرة منها .
 
(مكانة) ، أي مرتبة (الرحمة) الإلهية (المثلى) ، أي الشريفة التي يتمثل بها ويتشبه من يريد الظهور بالكمال وإن لم يكن موجود من يفعل ذلك إذا علمت بالبناء للمفعول أي علمها أحد (من) أهل (الشهود) ، أي المعاينة والكشف بالشهود (مع أهل (الأفكار) أيضا وإذا علمها أحد من أهل الأفكار بالأفكار كذلك عالية ، أي مرتفعة عن إداركه وإحاطته لكمال تنزيهها وعظمة إطلاقها حيث حكمت على كل ما هو دونها من الذوات والأسماء مطلقا ،
 
فهي ذات الذات بل ولا يقال فيها ذلك ، لأنه تعيين لها بأنها ذات ، وهي من حيث هي لا تتعين أصلا ولا باسم الرحمة إلا من حيث ما ورد عنها باعتبار مراتبها القابلة لظهورها بها ، ولا يعينها اسم الوجود أيضا ولا العدم ولا الإطلاق ولا نفس الأمر إلا من حيث مراتبها المذكورة .
قال المصنف قدس اللّه سره في ترجمان أشواقه:
إن سرت في الضمير يجرحها  .... ذلك الوهم كيف بالبصر
لعبة  ذكرنا يذوّبها   ..... لطفت  عن مسارح  النّظر
طلب النّعت أن يبيّنها   .... فتعالت فعاد ذا حصر
وإذا رام أن يكيّفها  .... لم يزل ناكصا على الأثر
إن أراح المطيّ طالبها  .... لم يريحوا مطية الفكر
روحنت كلّ من أشبّ بها ....  نقلته عن مراتب البشر
غيرة أن يشاب رايقها  .... بالّذي في الحياض من كدر
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكلّ من ذكرته الرّحمة فقد سعد ، وما ثمّة إلّا من ذكرته الرّحمة . وذكر الرّحمة الأشياء عين إيجادها إيّاها . فكلّ موجود مرحوم . ولا تحجب يا وليّ عن إدراك ما قلناه بما تراه من أصحاب البلاء وما تؤمن به من آلام الآخرة الّتي لا تفتر عمّن قامت به . )
 
(فكل ما) ، أي شيء من الأشياء (ذكرته) تلك (الرحمة) الإلهية الواسعة (فقد سعد) في الدنيا والآخرة ، أي كانت عاقبته السعادة الأبدية (وما ثم) ، أي هناك في الوجود (إلا ما ذكرته) تلك (الرحمة) المذكورة (وذكر الرحمة) لجميع (الأشياء) المحسوسة والمعقولة والموهومة (عين إيجادها) ،
أي الرحمة إياها ، أي الأشياء ، فالرحمة إذا ذكرت شيئا كان ذكرها له عين إيجادها إياه ، فالموجود إذا ذكر معدوما وجد ذلك المعدوم بنفس ذكر الموجود له ، كالمتحرك مثلا إذا أمسك ساكنا فقد تحرك ذلك الساكن بنفس إمساكه له ، على معنى أن حركته تظهر عليه لا أنه تصير له حركة أخرى غير حركة المتحرك ، وكذلك الوجود الحق المطلق إذا ذكر بصفة علمه أو كلامه المراتب الإمكانية العدمية كانت موجودة له بعلمه ،
 
وهو معنى ثبوتها لنفسها قبل وجودها ، وكانت موجودة لنفسها بكلامه وهو معنى وجودها لنفسها بعد عدمها ، وكان ذلك الثبوت العدمي لتلك المراتب الإمكانية عين ثبوته هو في علمه ، وذلك الوجود العيني الذي لها عين وجوده هو في نفسه ، والمراتب على ما هي عليه وإن سميت ثابتة وموجودة باعتبار التعريف الراجع إلى الحق تعالى فهي وسائل إلى التحقق به سبحانه .
 
(فكل موجود) محسوس أو معقول أو موهوم (مرحوم) ، لأن الرحمة ذكرته فرحمته فأوجدته (ولا تحجب يا وليي) ، أي صديقي (عن إدراك) ،
أي معرفة ما قلناه من أن كل موجود مرحوم بما تراه في الدنيا (من أصحاب البلاء) الجسماني والنفساني كالأمراض البدنية والقلبية كالمعاصي وبكل (ما تؤمن) ، أي تصدق (به من آلام ) ، أي أوجاع الدار (الآخرة التي لا تفتر) ، أي لا تضعف تلك الآلام عمن قامت به من العصاة أو الكافرين في نار جهنم ، فإن هذه البلايا المذكورة لا تمنع حصول السعادة الأبدية لكل من وسعته الرحمة منهم ، والبلاء لا ينقص مراتب السعداء بل هو مما يرفعها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فاعلم أوّلا أنّ الرّحمة إنّما هي في الإيجاد عامّة . فبالرّحمة بالآلام أوجد الآلام . ثمّ إنّ الرّحمة لها الأثر بوجهين : أثر بالذّات وهو إيجادها كلّ عين موجودة .
ولا تنظر إلى غرض ولا إلى عدم غرض ؛ ولا إلى ملائم ولا إلى غير ملائم : فإنّها ناظرة في عين كلّ موجود قبل وجوده ، بل تنظره في عين ثبوته . ولهذا رأت الحقّ المخلوق في الاعتقادات عينا ثابتة في العيون الثّابتة فرحمته بنفسها بالإيجاد . )
 
(واعلم) يا أيها السالك (أوّلا أن الرحمة )، أي رحمة اللّه تعالى الواسعة لكل شيء (إنما هي في) شأن (الإيجاد) ، أي التكوين من العدم في كل شيء مطلقا حيث كانت رحمة (عامة) لا خاصة (فبالرحمة) الإلهية (بالآلام) ، أي الأوجاع الدنيوية والأخروية لأنها أشياء فهي مرحومة بالرحمة الواسعة لكل شيء أوجد الحق سبحانه جميع (الآلام) المذكورة في الدنيا والآخرة .
 
(ثم إن الرحمة) الإلهية (لها الأثر) في كل من أثرت فيه (بوجهين) الأوّل (أثر بالذات) ، أي باعتبار اقتضاء ذات كل شيء في حال ثبوته (وهو) معدوم تأثيرها فيه وهو ، أي هذا الأمر الذاتي إيجادها ، أي الرحمة كل عين موجودة في الحس أو العقل أو الوهم ولا تنظر يا أيها السالك إلى غرض لها في شيء تنفعه أو تضره ولا إلى عدم الغرض أيضا ولا إلى أمر ملائم لأمر آخر ولا إلى أمر غير ملائم لأمر آخر أيضا فإنها ، أي الرحمة ناظرة في عين كل شيء موجود مطلقا قبل وجوده ، أي ذلك الموجود بل تنظره في عين ثبوته في العلم الإلهي وهو معدوم بالعدم الأصلي ويلزم من نظرها إليه ورؤيتها له إفاضة نور وجودها عليه وظهوره موجودا بها .
 
(ولهذا) ، أي لكون الأمر كذلك رأت ، أي تلك الرحمة الإلهية (الحق) ، أي الصورة في الخيال التي تسمى عند العبد الجاهل والعارف الحق (المخلوق في الاعتقادات) كلها على حسب حال كل معتقد من مؤمن أو كافر
وهو الذي وسعه قلب عبده كما سيأتي ذكره إن شاء اللّه تعالى في آخر الكتاب (عينا ثابتة) من غير وجود معدومة بالعدم الأصلي (في) جملة (العيون) الكونية الإمكانية (الثابتة) في العلم الإلهي بالعدم الأصلي من غير وجود لها أصلا (فرحمته) ، أي رحمت تلك الرحمة ذلك الحق المخلوق (بنفسها بالإيجاد) له بأن ظهرت فيه كما ظهرت في غيره من العيون الثابتة المذكورة ، أو ظهرت به أو ظهر هو فيها أو بها ، كيف شئت قلت بعد معرفة المعنى المقصود والتحقق به.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك قلنا إنّ الحقّ المخلوق في الاعتقادات أوّل شيء مرحوم بعد رحمتها بنفسها في تعلّقها بإيجاد المرحومين .
ولها أثر آخر بالسّؤال ، فيسأل المحجوبون الحقّ أن يرحمهم في اعتقادهم ، وأهل الكشف يسألون رحمة اللّه أن تقوم بهم ، فيسألونها باسم اللّه فيقولون يا اللّه ارحمنا ، ولا يرحمهم إلّا بقيام الرّحمة بهم . فلها الحكم ، لأنّ الحكم إنّما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحلّ .
فهو الرّاحم على الحقيقة . فلا يرحم اللّه عباده المعتنى بهم إلّا بالرّحمة .
فإذا قامت بهم الرّحمة وجدوا حكمها ذوقا . )
 
(ولذلك) ، أي لأجل ما ذكر (قلنا) بالمعنى فيما مر في شيئية تلك العين الواحدة التي هي مرجع الأسماء الإلهية لا تلك العين الواحدة (إن الحق المخلوق في الاعتقادات) وهو تلك الشيئية المذكورة (أوّل شيء مرحوم) بالرحمة الإلهية المذكورة (بعد رحمتها) ، أي تلك الرحمة (بنفسها) لنفسها (في تعلقها) ، أي الرحمة (بإيجاد) جميع (المرحومين) بها فإن إيجادها لهم رحمة منها بنفسها إذا تم لها ما كانت مهتمة به ومتوجهة إلى حصولها منه (ولها) ، أي للرحمة أيضا (أثر آخر) بوجه ثان وهو الأثر (بالسؤال) ، أي الطلب وهي الرحمة الخاصة التي كتبها للمؤمنين المتقين (فيسأل المحجوبون) عن معرفة اللّه تعالى من الناس الحق تعالى ، أي يدعونه ويطلبون منه أن يرحمهم بهذه الرحمة الخاصة المذكورة حال كون ذلك الحق تعالى الذي يدعونه ويسألونه في اعتقادهم ، أي هم متصوّرون له بخيالهم أنه الحق تعالى وهو الحق المخلوق في الاعتقادات .
(وأهل الكشف) من العارفين باللّه تعالى (يسألون) ، أي يدعون ويلتمسون (رحمة اللّه) تعالى الواسعة (أن تقوم) ، أي تظهر وتتبيّن (بهم) فتظهر بها لهم أعيان أحوالهم الملائمة الثابتة في حضرة العلم القديم بالعدم الأصلي (فيسألونها) ،
أي يدعون الرحمة باسم اللّه تعالى الجامع لجميع الأسماء فيقولون في سؤالهم ودعائهم (يا اللّه ارحمنا )،
أي يا جامع الأسماء كلها أظهر فينا ما ظهر فيك من الرحمة الواسعة وهم يعلمون أنه (لا يرحمهم إلا قيام) ، أي ظهور الرحمة الإلهية بهم كظهورها في الحضرات الأسمائية والمراتب الذاتية الصفاتية .
 
(فلها) ، أي للرحمة الواسعة (الحكم) في كل محكوم عليه أي الظهور والتجلي به فيه (لأن الحكم إنما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحل) المحكوم عليه لا للحاكم من حيث هو حاكم وأن نسب الحكم الحاكم في الظاهر أنه أثره وإنما هو في نفس الأمر أثر المحكوم عليه إذ لولا قبوله لذلك الحكم واستعداده له ما ظهر فيه ،
فاستعداده وقبوله أثر فيه لا فعل الفاعل فما تأثر إلا بما منه (فهو) ، أي ذلك المعنى القائم بالمحل المرحوم هو الراحم لذلك المرحوم (على الحقيقة) وما قام بكل شيء حتى اقتضى وجوده إلا الرحمة الإلهية كما مر ذكره ، فهي استعداد كل شيء لما هو مستعد له وهي قبول كل شيء لما هو قابل له ، وهي أيضا التي توصل كل مستعد وقابل لما هو مستعد له وقابل له ،
 
فلها الواسع الأعظم من جميع الوجوه والاعتبارات فلا يرحم اللّه تعالى (عباده المعتنى بهم) من أهل الكشف والوجود وهم المؤمنون المتقون (إلا بالرحمة) القائمة بهم ظهورا وتجليا .
(فإذا قامت بهم) ، أي ظهرت لهم منهم الرحمة الإلهية الواسعة لهم ولغيرهم وجدوا حكمها فيهم ذوقا ، أي كشفا ومعاينة لا تخيلا وفهما ، فصارت تلك الرحمة العامة خاصة بهم وهو قوله :فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ[ الأعراف : 156 ] بعد قوله :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فمن ذكرته الرّحمة فقد رحم . واسم الفاعل هو الرّحيم والرّاحم .
والحكم لا يتّصف بالخلق لأنّه أمر توجبه المعاني لذواتها . فالأحوال لا موجودة ولا معدومة .
أي لا عين لها في الوجود لأنّها نسب ، ولا معدومة في الحكم لأنّ الّذي قام به العلم يسمّى عالما وهو الحال .
فعالم ذات موصوفة بالعلم ، ما هو عين الذّات ولا عين العلم ، وما ثمّ إلّا علم وذات قام بها هذا العلم . وكونه عالما حال لهذه الذّات باتّصافها بهذا المعنى فحدثت نسبة العلم إليه فهو المسمّى عالما .
والرّحمة على الحقيقة نسبة من الرّاحم ، وهي الموجبة للحكم ، فهي الرّاحمة .
والّذي أوجدها في المرحوم ما أوجدها ليرحمه بها وإنّما أوجدها ليرحم بها من قامت به .
وهو سبحانه ليس بمحلّ للحوادث ، فليس بمحلّ لإيجاد الرّحمة فيه . وهو الرّاحم ولا يكون الرّاحم راحما إلا بقيام الرّحمة به ، فثبت أنّه عين الرّحمة . )
 
فمن ذكرته الرحمة ، أي تذكرته بمعنى علمته من قوله تعالى :لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى[ طه : 52 ] أو تكلمت به من قوله تعالى للشيء كُنْ فَيَكُونُ.
وقوله سبحانه :هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [ الإنسان : 1 ] ،
أي متكلما به لأنه ما ظهر إلا بنفس تكلم الحق تعالى به وهو ذكر اللّه تعالى الأكبر في قوله سبحانه :وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ[ العنكبوت : 45 ] ، وقال تعالى :فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ[ البقرة : 152 ] ، أي أكثروا من ذكري حتى يظهر لكم أني ذاكركم بكلامي .
 
وفي الحديث قال النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول اللّه تعالى : " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ". رواه الترمذي في السنن ورواه أحمد في المسند عن أبي ذر ورواه غيرهما .
إلى أن قال في آخر الحديث : " ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد ، عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له كن فيكون" .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالأربعاء فبراير 19, 2020 11:32 pm

21  - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي   

الفص الزكرياوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
21  - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية             الجزء الثاني
(فقد رحم) ، أي صار مرحوما بمجرد ذكرها له (واسم الفاعل) من صفة الرحمة (هو الرحيم ) بصيغة المبالغة لكمال ظهورها في أهل الخصوص (والراحم) أيضا من غير مبالغة لظهورها في العموم (والحكم) الإلهي المنسوب إلى الرحمة الإلهية باعتبار توجهه على كل متصف بها ومرحوم بها من المراتب الأسمائية والكونية (لا يتصف بالخلق) ، أي بكونه مخلوقا (لأنه) ، أي ذلك الحكم أمر إلهي قديم (توجبه) ، أي تقتضيه (المعاني) الأسمائية والمراتب الصفاتية الأزلية والإمكانية الكونية لذواتها إذ لولاه لما ظهرت اعتباريتها أصلا .

(فالأحوال) الأسمائية الإلهية (لا موجودة) في نفسها ولا في غيرها أصلا ولا (معدومة) أيضا كذلك أي (لا عين لها في الوجود) الحق المطلق غير ذلك الحق الوجود المطلق

(لأنها) ، أي تلك الأحوال المذكورة نسب لذلك الوجود الحق المطلق وإضافات له واعتبارات وهي أمور تقوم بعقل المتعقل لها ، لا زيادة معنى لها فيما هي له في نفس الأمر ، وإن كان لها زيادة معنى في عقل المتعقل لها ، ومن هنا قال المنلا عبد الرحمن الجامي قدس اللّه سره في رسالته : وأما الصوفية فذهبوا إلى أن صفاته تعالى عين ذاته بحسب الوجود وغيرها بحسب التعقل (ولا معدومة) أيضا (في الحكم) ، أي باعتبار الحكم الذي اقتضته لذواتها

(لأن) المحل (الذي قام به) نسبة (العلم) مثلا (يسمى عالما) ، أي يقتضي الحكم عليه بصفة العالمية وهو ، أي كونه عالما الحال الذي اقتضته الصفة القائمة بذلك المحل فأوجبت الحكم المذكور وهكذا قيام القدرة والإرادة يقتضي الحال الذي هو كونه قادرا ومريدا ونحو ذلك فعالم مثلا ذات قامت بها صفة العلم فهي موصوفة بالعلم ما هو ، أي اسم عالم عين الذات الموصوفة بالعلم حيث قام بها ولا هي عين العلم الذي وصفت به تلك الذات لقيامه بها .

(وما ثم) ، أي هنالك فيما يطلق عليه اسم العالم (إلا علم وذات قام بها هذا العلم) فاتصفت به اتصاف الذات بمعانيها القائمة بها (وكونه) ، أي كون من قام به صفة العلم (عالما حال لهذه الذات) التي قام بها صفة العلم (باتصافها) ، أي بسبب اتصافها أي تلك الذات (بهذا المعنى) الذي هو العلم مثلا (فحدثت) للمحل المتصف بصفة العلم (نسبة العلم إليه) بصفة مخصوصة غير صفة النسب المشهورة كعلمي ونحوه (فهو المسمى عالما) ، أي ذا علم يعني المنسوب إليه العلم وهكذا بقية الأحوال المعنوية .

(والرحمة) الإلهية على (الحقيقة) ، أي في نفس الأمر (نسبة) للمرحوم صادرة (من الراحم) وهي ، أي تلك النسبة (الموجبة للحكم) على من صدرت منه بأنه راحم ومن قامت به على معنى أنها ظهرت فيه أنه مرحوم (فهي) ، أي تلك النسبة (الراحمة) لذلك المرحوم (والذي أوجدها) ،
أي النسبة التي هي الرحمة في المرحوم بها سواء كان شيئية الأسماء الإلهية أو الشيئية الكونية كما مر على معنى أنه أظهرها فيه وأقامه بها ما أوجدها فيه (ليرحمه) ،
أي يرحم من أوجدها فيه بها ، أي بتلك الرحمة وإن سمي مرحوما بها شمولها له وظهوره بها وظهورها به (وإنما أوجدها) ،


أي أظهرها في المرحوم بها (ليرحم بها من قامت به) ، أي اتصف بها من الراحم بها لغيره وهو ، أي الحق تعالى (سبحانه ليس بمحل للحوادث) ، أي بحيث تحل فيه الحوادث ، لأنه قديم ، والقديم لا يتغير أصلا وحلول الحوادث تغيير (فليس) سبحانه (بمحل لإيجاد الرحمة) منه (فيه) ، أي حدوث هذا المعنى له بعد أن لم يكن فيه ، ولهذا سبق أنّ أوّل شيء مرحوم بالرحمة نفس الرحمة في تعلقها بإيجاد المرحومين بها ، أي ظهورها فيهم لا ظهورها في نفسها ، لأنه تحصيل الحاصل فلا معنى له (وهو) تعالى (الراحم) ، أي المتصف بالرحمة (ولا يكون الراحم راحما إلا بقيام صفة الرحمة به) حتى إذا رحم بها غيره يظهرها في ذلك الغير فيرحم بها نفسها كما تقدم أن أوّل شيء مرحوم بها نفسها فثبت بمقتضى كونه تعالى راحما أنه سبحانه (عين الرحمة) الواسعة المذكورة .

قال الشيخ رضي الله عنه:  (ومن لم يذق هذا الأمر ولا كان له فيه قدم ما اجترأ أن يقول إنّه عين الرّحمة أو عين الصّفة ، فقال ما هو عين الصّفة ولا غيرها . فصفات الحقّ عنده لا هي هو ولا هي غيره، لأنّه لا يقدر على نفيها ولا يقدر على أن يجعلها عينه، فعدل إلى هذه العبارة وهي عبارة حسنة، وغيرها أحقّ بالأمر منها وأرفع للإشكال.
وهو القول بنفي أعيان الصّفات وجودا قائما بذات الموصوف وإنّما هي نسب وإضافات بين الموصوف بها وبين أعيانها المعقولة.)

(ومن لم يذق) ، أي يجد في نفسه (هذا الأمر) المذكور هنا (ولا كان له فيه قدم) ، أي رسوخ بمقتضى كشفه ومعاينته وإن فهمه وتخيله بعقله ما اجترأ ، أي قدر (أن يقول إنه) ، أي اللّه تعالى (عين الرحمة) التي هي صفة من صفاته تعالى (أو عين الصفة) الإلهية ويصيب الحق والصواب بذلك القول ، فإن حكماء الفلسفة قالوا بذلك وأخطأوا وكفروا ، فإن الصفات عندهم عين الذات على معنى أنه ليس هناك ذات وصفات بل ذات واحدة إذا قدر بها كانت هي عين ما سمي قدرة ولا رتبة هناك ولا نسبة أصلا وهو باطل عقلا وشرعا ،

(فقال) : وهو الأشعري من علماء الكلام ما هو ، أي اللّه تعالى (عين الصفة) التي له ولا غيرها أيضاف فصفات الحق تعالى (عنده) ، أي عند هذا القائل (لا هي) تلك الصفات (هو) ، أي اللّه (ولا هي) ، أي تلك الصفة أيضا (غيره) تعالى (لأنه) ، أي هذا القائل (لا يقدر على نفيها) عنه تعالى بالكلية لورودها في الشرع فيلزم من ذلك نفي الشرع ، وهو كفر (ولا يقدر) أيضا (أن يجعلها) ، أي تلك الصفات الإلهية (عينه) ، أي عين ذات الحق تعالى ، لأن القول به مع إثباتها له تعالى يحتاج إلى ذوق كشفي ومعاينة وهو من أهل الأفكار والأنظار العقلية ، فلا يتيسر له ذلك إلا ويلزم عليه عنده القول بنفي الصفات مثل مذهب الفلاسفة وهو كفر أيضا .


(فعدل) بالضرورة إلى هذه العبارة التي هي قوله لا الصفات عين الذات ولا غيرها (وهي عبارة حسنة) وإن لزم منها ارتفاع النقيضين وهو محال عقلا لكن هي أداة تنزيه للحق تعالى ولصفاته فليس المراد مفهومها بل الإيمان بما هو الأمر عليه في نفسه من غير أن يستقر له مفهوم في العقل وقول بعضهم بمفهوم هذه العبارة وأنها بمنزلة الواحد من العشرة لا هو عين العشرة ولا غيرها ذهاب منه إلى القول بأن الصفات جزء من الذات الإلهية كالواحد جزء من العشرة فيكون قولا بالتركيب في الذات الإلهية وهو غير قائل به ،


لأنه شرك فلا يصح التمثيل لهذه العبارة بمثل ذلك (وغيرها) ، أي غير هذه العبارة (أحق) أي أولى وأحرى (بالأمر) أي بما هو عليه الأمر في نفسه (منها) أي من هذه العبارة (وأرفع) ، أي أكثر رفعا ، أي إزالة (للإشكال) الذي هو ارتفاع النقيضين أو ثبوتهما معا وذلك محال لأنها إذا لم تكن عينا كانت غيرا ، وإذا لم تكن غيرا كانت عينا فتكون عينا وغيرا أو لا عينا ولا غيرا.


(وهي) ، أي هذه العبارة (القول بنفي أعيان الصفات وجودا) ، أي من جهة الوجود قائما ذلك الوجود بذات الموصوف بها يعني أن أعيان الصفات الإلهية ليست بموجودة وجودا آخر قائما بذات الحق تعالى الموصوف بها حتى يحتاج أن يقال إنها عينه أو غيره أو لا عينه ولا غيره .

(وإنما هي) ، أي تلك الصفات الإلهية نسب جمع نسبة وإضافات جمع إضافة ، أي هي أمور اعتبارية حاصلة (بين الموصوف بها) وهو الحق تعالى (وبين أعيانها) ، أي أعيان تلك الصفات (المعقولة) ، أي تلك الأعيان في عقل المتعقل لها على مقتضى ما وردت بها نصوص الكتاب والسنة وصف اللّه تعالى بها نفسه شرعا ، ولو كانت موجودة بوجود مستقل غير وجود الذات الإلهية أو بوجود فائض عن الذات الإلهية لشاركت الحوادث في وجودها فكانت حادثة ولزم التركيب في الذات الإلهية وقيام الحوادث بالقديم أو عدم قيامها بالذات الأزلية وكله محال ، فتعين أن لا يكون لها وجود في نفسها أصلا مع ثبوتها له تعالى شرعا ،

فكانت مجرد مراتب للحق تعالى كمرتبة السلطان والقاضي ليس في الخارج أمر زائد على ذات الإنسان يسمى صفة السلطنة والقضاء بحيث إذا اتصف بذلك إنسان زاد فيه معنى آخر في الخارج عن عقل المتعقل حاصلا في ذلك الإنسان ، وإنما هي أمور اعتبارية تقديرية والتأثير لا يصدر إلا عنها لا عن الذات .

أرأيت أن السلطان والقاضي لا يحكمان على أحد من حيث كونهما إنسانا أصلا ، ولا فرق من هذا الوجه بينهما وبين غيرهما من بقية الناس ، بل لهما المساواة في ذلك مع الغير وإنما يحكمان من حيث المرتبة التي لهما ، ولا وجود لها في الخارج عن تعقل المتعقل أصلا ، فالسلطان والقاضي موصوفان بوصفين هما مجرد مرتبتين لهما اعتباريتين تقديريتين لا يوصف بهما غيرهما وهما السلطنة والقضاء والتحكم كله للمرتبة لا للذات ، فافهم ترشد إن شاء اللّه تعالى إلى الكشف عن ذلك ومعرفته ذوقا ،

وتدرك من أين قال أهل هذه الطريقة المرضية من المحققين إن صفات الحق تعالى عين ذاته لا بمعنى قول الفلاسفة المنكرين للصفات ، ولا تحتاج أن تقول إنها غير الذات أو إنها لا غير الذات ولا عينها.


قال الشيخ رضي الله عنه:  ( وإن كانت الرّحمة جامعة فإنّها بالنّسبة إلى كلّ اسم إلهي مختلفة . فلهذا يسأل سبحانه أن يرحم بكلّ اسم إلهيّ. فرحمة اللّه والكناية هي الّتي وسعت كلّ شيء.
ثمّ لها شعب كثيرة تتعدّد بتعدّد الأسماء الإلهيّة. فما تعمّ بالنّسبة إلى ذلك الاسم الخاصّ الإلهيّ في قول السّائل ربّ ارحم، وغير ذلك من الأسماء حتّى المنتقم له أن يقول يا منتقم ارحمني.
وذلك لأنّ هذه الأسماء تدلّ على الذّات المسمّاة، وتدلّ بحقائقها على معان مختلفة، فيدعو بها في الرّحمة من حيث دلالتها على الذّات المسمّاة بذلك الاسم لا غير .
لا بما يعطيه مدلول ذلك الاسم الّذي ينفصل به عن غيره ويتميّز، فإنّه لا يتميّز عن غيره وهو عنده دليل الذّات، وإنّما يتميّز بنفسه عن غيره لذاته، إذ المصطلح عليه بأيّ لفظ كان ، حقيقة متميّزة بذاتها عن غيرها :  وإن كان الكلّ قد سيق ليدلّ على عين واحدة مسمّاة . ولا خلاف في أنّه لكلّ اسم حكم ليس للآخر، فذلك ينبغي أن يعتبر كما تعتبر دلالتها على الذّات المسمّاة.)

(وإن كانت الرحمة جامعة) واسعة لكل شيء كما مر وهي مهيمنة على جميع الأسماء الإلهية (فإنها بالنسبة إلى كل اسم إلهي) من أسماء اللّه تعالى (مختلفة) لاقتضاء كل اسم من تلك الأسماء أمرا لا يقتضيه الاسم الآخر فتختلف الرحمة باختلاف مقتضيات الأسماء فلكل اسم رحمة تليق به فتنظر في آثاره على حسب مقتضاه (فلهذا )،
أي لما ذكر (يسأل) بالبناء للمفعول أي يطلب منه ويدعى اللّه (سبحانه أن يرحم بكل اسم إلهي) من أسمائه تعالى فكلما تجلى سبحانه على أثر من الآثار باسم من أسمائه اقتضى ذلك الاسم أن أثره ذلك يسأل الرحمة من اللّه تعالى له (فرحمة اللّه) تعالى وهو الاسم الجامع لجميع الأسماء ورحمة الكناية وهي الضمير الراجع إلى اللّه تعالى لقوله تعالى : " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" [ الأعراف : 156]


(هي) الرحمة (التي وسعت كل شيء) كما أخبر تعالى (ثم لها) ، أي لهذه الرحمة الواسعة (شعب) ، أي فروع (كثيرة تتعدد) تلك الشعب وتتفرع وتتكثر (بتعدد الأسماء الإلهية) وكثرتها (فما تعم) ، أي الرحمة (بالنسبة إلى ذلك الاسم) الواحد (الخاص الإلهي) من تلك الأسماء الإلهية (في قول السائل رب) ، أي يا رب (ارحم) فإنه طلب الرحمة منه من حيث الاسم الرب فما هو طلب الرحمة العامة الواسعة (وغير ذلك من الأسماء) الإلهية كذلك كقوله :

يا شافي ارحمني أو يا رزاق أو يا فتاح (حتى) الاسم (المنتقم) من الأسماء الإلهية له ،
أي لعبده (أن يقول) في دعائه (يا منتقم ارحمني) ونحو ذلك ، ولهذا ترى كل مؤمن أو كافر على أي حال كان يرتجي الرحمة من اللّه تعالى ويدعوه .
وقال تعالى :كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[ المؤمنون :53].
 
 وإنما كان ذلك لأن هذه الأسماء الإلهية تدل على الذات الإلهية المسماة بهذه الأسماء المذكورة بحيث أن كل اسم منها بانفراده يدل على تلك الذات بتمامها وتدل ، أي تلك الأسماء أيضا بحقائقها ، أي بما به كل اسم منها يتميز عن الاسم الآخر على معان جمع معنى مختلفة تلك المعاني وآثارها مختلفة أيضا لاختلافها فيدعو العبد الداعي بها ،
 
أي بتلك الأسماء يعني أن كل عبد يدعو باسم يخصه في طلب حصول الرحمة له من حيث دلالتها ، أي تلك الأسماء على الذات الإلهية المسماة بذلك الاسم الذي دعا به ذلك الداعي لا غير ، لا يدعو الداعي الاسم الذي يخصه من تلك الأسماء الإلهية بما يعطيه مدلول ذلك الاسم الخاص الذي دعا به ذلك الداعي الذي ينفصل ، أي ذلك الاسم به عن غيره من المعنى الخاص .


(ويتميز) عن جميع الأسماء الإلهية ، فإن الاسم بهذا الاعتبار لا يقتضي الرحمة بل يقتضي ما هو بصدد التوجه إليه من ظهور خاصيته في أثره فإنه ، أي ذلك الاسم الخاص حيث سأل الداعي منه الرحمة (لا يتميز عن غيره) من بقية الأسماء الإلهية من وجه دلالته على الرحمة (وهو) ، أي ذلك الاسم الخاص (عنده) ، أي عند ذلك الداعي به دليل الذات الإلهية ، لأنه طلب منه مقتضى دلالته على الذات الإلهية لا مقتضى ما يميزه عن غيره من بقية الأسماء (وإنما يتميز) ، أي ذلك الاسم الخاص (بنفسه) ، أي بما هو مقتضى اعتباريته ونسبته إلى الذات الإلهية لا دلالته عليها من حيث إنه اسمها (عن غيره) من بقية الأسماء الإلهية (لذاته) ،


أي لمعنى تقتضيه ذات ذلك الاسم إذا الاسم (المصطلح عليه في اصطلاح الشرع أو اللغة (بأي لفظ كان من الألفاظ العربية وغيرها (حقيقة متميزة بذاتها) وذاتها ، أي الخصوصية المستندة بذلك اللفظ إلى الذات الإلهية (عن غيرها) من حقائق بقية الأسماء الإلهية (وإن كان للكل) ،
أي الأسماء الإلهية كلها (قد سيق)، أي ورد في كلام اللّه تعالى وكلام رسوله عليه السلام (ليدل على عين)، أي ذات واحدة لا تعدد فيها بوجه من الوجوه مطلقا مسماة تلك العين الواحدة بتلك الأسماء كلها (فلا خلاف) من واحد (في أنه)،
أي الشأن (لكل اسم) إلهي من تلك الأسماء (حكم) يعود على الذات المسماة بذلك الاسم عند المشاهدة لها وعلى الأثر الظاهر في عينه بذلك الاسم.

(فذلك)، أي الحكم المذكور (أيضا ينبغي أن يعتبر) في دلالة كل اسم إلهي (كما تعتبر دلالته)، أي كل اسم إلهي (على الذات) الإلهية المسماة بتلك الأسماء كلها فيكون لكل اسم إلهي ثلاث دلالات: دلالة في نفسه على نفسه بما يتميز به عن غيره من خصوص ذاته المقتضي لظهور إلهي خاص وأثر كوني خاص، ودلالة على الذات الإلهية من جهة أنها مسماة به ودلالة على حكم مخصوص للمسمى به وهو الذات الإلهية من حيث ظهورها للمعارف وعلى حكم مخصوص أيضا للأثر الصادر عن ذلك الاسم .


قال الشيخ رضي الله عنه:  ( ولهذا قال أبو القاسم بن قسيّ في الأسماء الإلهيّة : إنّ كلّ اسم إلهي على انفراده مسمّى بجميع الأسماء الإلهيّة كلّها : إذا قدّمته في الذّكر نعتّه بجميع الأسماء ، وذلك لدلالتها على عين واحدة ، وإن تكثّرت الأسماء عليها واختلفت حقائقها أي حقائق تلك الأسماء .
ثمّ إنّ الرّحمة تنال على طريقين ، طريق الوجوب ، وهو قوله تعالى :فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَوما قيّدهم به من الصّفات العلميّة والعمليّة .
والطّريق الآخر الّذي تنال به هذه الرّحمة طريق الامتنان الإلهيّ الّذي لا يقترن به عمل وهو قوله :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[ الأعراف : 156 ] ومنه قيل :لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ[ الفتح : 2 ] . ومنها قوله : « اعمل ما شئت فقد غفرت لك » فاعلم ذلك ).


(ولهذا) ، أي لأجل اعتبار هذه الدلالة (قال) الإمام العارف المحقق (أبو القاسم بن القسي) رضي اللّه عنه (في) حق (الأسماء الإلهية إن كل اسم) منها (على انفراده) ، أي بحسب ظهوره بأثره الخاص في الحس أو العقل للمتجلي به الحق تعالى (مسمى) ، أي ذلك الاسم (بجميع الأسماء الإلهية كلها) وذلك باعتبار دلالته على الذات الإلهية الجامعة لجميع الأسماء بحيث إذا (قدمته) ، أي كل اسم إلهي (في الذكر) ، أي ذكرك له في افتتاح الكلام (نعته) ،

أي صفته (بجميع الأسماء) الإلهية بأن ذكرتها بعده أوصافا له ونعوتا ، ويصح منك فعل ذلك ويحسن في الكلام ، بإرادة أن الاسم الأول الذي ابتدأت به أردت به الدلالة على الذات المسماة به ، وحسن منك هذا لما سبق أن كل اسم إلهي دلالة على الذات الإلهية زيادة على دلالته على معناه المخصوص في نفسه ، وعلى حكمه الخاص به ، ثم تورد بقية الأسماء بعدها نعوتا له بإرادة معنى كل اسم في نفسه وصح (ذلك) ،

أي تسمى المذكور (لدلالتها) ، أي الأسماء الإلهية (على عين) ، أي ذات (واحدة) جامعة لجميع الأسماء (وإن تكثرت الأسماء عليها) فإن كثرتها غير مانعة من وحدة الذات ، لأنها مجرد مراتب لها ونسب لا أعيان موجودة وإن (اختلفت) أيضا (حقائقها أي حقائق تلك الأسماء) الكثيرة فكل اسم له حقيقة تميزه عن الاسم الآخر ، فإن ذلك غير مانع أيضا من وحدة الذات المسماة .

(ثم إن الرحمة) الإلهية (تنال) ، أي ينالها من يعامله اللّه تعالى بها من الناس (على طريقين) ، أي جهتين طريق الوجوب بإيجاب اللّه تعالى ذلك على نفسه كما قال سبحانه :كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[ الأنعام : 54 ] ، وهو قوله سبحانه : (فَسَأَكْتُبُها)، أي الرحمة( لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الشرك الجلي والخفي ، فإن الكفر نتيجة الشرك الجلي والمعاصي نتيجة الشرك الخفي (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ)[ الأعراف : 156 ] من أموالهم بربع عشرها ومن أنفسهم بفناء أنانيتها ، فإن الرحمة لهم بإيجاب اللّه تعالى ذلك على ذلك وكذلك من طريق الوجوب (ما قيدهم) ،
أي الذي قيد الحق تعالى هؤلاء المتقين المزكين من طريق الوجوب به من هذه الصفات العلمية ، وهو ما دعاهم في أنفسهم إلى التقوى والزكاة مما يعلمونه من العظمة الإلهية والجلال (و)الصفات (العلمية) كالتقوى والزكاة فإنه أوجب ذلك لهم أيضا على نفسه الرحمة بهم وهو عين ما كتب لهم ، وأوجب من غير سابقة داعية منهم ، وإن كان يلاحقه الداعية وهي العمل وبهذا يفترق عن القسم الثاني .

(والطريق الآخر الذي تنال به هذه الرحمة) الإلهية ، أي ينالها من يعامله اللّه تعالى بها من الناس (طريق الامتنان) ، أي الفضل والكرم (الإلهي الذي لا يقترن به عمل) أصلا (و) لا داعية تقتضي ذلك (وهو قوله تعالى :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [ الأعراف : 156 ] ،
أي منة وفضلا وكرما وهي نعمة الإيجاد لكل شيء والأولى نعمة الإمداد لأهل الاستعداد ، فإن من لا استعداد له لا إمداد له وبقاؤه في الدنيا بطريق الإيجاد المتكرر لا بطريق الإمداد المتأكد ومنه ، أي من طريق الامتنان رحمته تعالى بالنبي صلى اللّه عليه وسلم في (قوله تعالى : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [ الفتح : 2 ] ،


وكذلك قوله تعالى في حق غيره من الأمة :وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ[ النساء : 48 ] ، وقوله سبحانه لعباد الاختصاص المضافين إليه تعالى لانقطاعهم عن كل ما سواه والتجائهم إليه سبحانه بالفناء عن كل شيء :قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( 53 ) [ الزمر:53].
(ومنها) ، أي من رحمة الامتنان أيضا قوله تعالى كما ورد في الحديث في حق أهل بدر "اعملوا ما شئت فقد غفرت لكم" . رواه الهيثمي في موارد الظمآن

"" أضاف المحقق :
نص الحديث : "عن جابر أن ابن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أراد غزوهم فدل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المرأة التي معها الكتاب فأرسل إليها فأخذ كتابها من رأسها فقال : يا حاطب أفعلت
قال : نعم أما إني لم أفعله غشا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا نفاقا ولقد علمت أن اللّه سيظهر رسوله ويتم أمره غير أني كنت غريبا بين ظهرانيهم وكانت أهلي معهم فأردت أن أتخذها عندهم يدا فقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ألا أضرب رأس هذا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتقتل رجلا من أهل بدر ما يدريك لعل اللّه اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم. رواه الهيثمي ""

 

وفي رواية الجامع الصغير للسيوطي ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " كما لا ينفع مع الشرك شيء كذلك لا يضر مع الإيمان شيء ".
 وفي رواية لأبي نعيم : " كما لا يضر مع الإيمان ذنب لا ينفع مع الشرك عمل"رواه الديلمي في الفردوس
حتى قال بعض الشارحين : من أراد الإيمان الحقيقي الكامل الذي يملأ القلب نورا فتستأنس النفس وتصير تحت سلطنته وقهره ،
فهذا الذي لا يضر معه شيء من الأشياء إذ الإيمان كما في الحكم قد يكون في الغيب وقد يكون عن كشف وشهود وهو الحقيقي فاعلم يا أيها السالك ذلك ، أي ما ذكر لأنه يكشف لك خفايا المسالك .  
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالأربعاء فبراير 19, 2020 11:33 pm

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم   

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية       الجزء الأول
هذا فص الحكمة الإلياسية ، وهي الحكمة الإدريسية المتقدمة فذكرها فيما مر بنصف المعرفة وهنا بنصف المعرفة لاختلاف الاسمين لها فذكر لها اسم إلياس هنا ،
لأنه سيذكر في هذا الفص أن اللّه تعالى أنشأها مرتين كان نبيا قبل نوح عليه السلام ، ثم رفع وهو أمر فصها الأوّل ثم نزل رسولا بعد ذلك وسمى إلياس وهو حال هذا الفص فذكره بعد حكمة زكريا عليه السلام ،
لأن الكلام فيها عن إلياس عليه السلام أنه صار عقلا مجردا عن الشهوة وهو من رحمة اللّه تعالى كما أن زكريا عليه السلام كان عين الرحمة بحكم قوله تعالى : ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا( 2 ) [ مريم : 2].
 
فهو أقرب منه ولهذا قدمه ، وإلياس يليه بالرتبة الملكية وهو المكان العلي الذي رفعه اللّه تعالى إليه من كونه بشرا سويا واسمه إدريس وإلا فإن النبي أرفع من الملك ومن هنا كان يقول النبي صلى اللّه عليه وسلم عند موته اللهم الرفيق الأعلى وعرج به في أطباق السماوات وهو عليه السلام أفضل من الكل وأشرف .
 
(فص حكمة إيناسية) أي منسوبة إلى الإيناس وهو حصول الأنس ضد الوحشة (في كلمة إلياسية).
 
إنما اختصت حكمة إلياس عليه السلام بكونها إيناسية لأنها من مقام الملائكة أصحاب العقول المجردة عن الشهوات الجسمانية فلها الاستئناس باللذائذ الروحانية والمحبة الربانية في شهود الجمال الرحماني والكمال الصمداني في حضرات المعاني على نغمات الأدوار الأمرية برنات المثاني .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إلياس وهو إدريس عليه السّلام كان نبيّا قبل نوح عليه السّلام ، ورفعه اللّه مكانا عليا ، فهو في قلب الأفلاك ساكن وهو فلك الشّمس ، ثمّ بعث إلى قرية بعلبك ، وبعل اسم صنم ، وبك هو سلطان تلك القرية . وكان هذا الصّنم المسمّى بعلا مخصوصا بالملك وكان إلياس الذي هو إدريس قد مثّل له انفلاق الجبل المسمّى لبنان - من اللّبانة وهي الحاجة - عن فرس من نار ، وجميع آلاته من نار . فلمّا رآه ركب عليه فسقطت عنه الشّهوة ، فكان عقلا بلا شهوة ، فلم يبق له تعلّق بما تتعلّق به الأغراض النّفسيّة . )
 
إلياس النبي المشهور هو إدريس عليه السلام .
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه اللّه تعالى في تفسير سورة مريم عند قوله تعالى :وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ[ مريم : 56 ] هو أخنوخ جد أبي نوح أوّل مرسل بعد آدم عليه السلام ، وأوّل من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والهيئة وخاط اللباس ، واتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل ، وسمي به لكثرة درسه وقيل : هو إلياس انتهى .
 
وفي صحيح البخاري في كتاب الأنبياء عليهم السلام ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس رضي اللّه عنهم أن إلياس هو إدريس .
وقال الزركشي في شرح البخاري قلت : لكن ظاهر القرآن يدل على أنه غيره وهو قوله تعالى في سورة الأنعام :وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ[ الأنعام : 84 ] إلى قوله :وَإِلْياسَ فهذا تصريح بأن إلياس من ذرية نوح ، وأجمعوا على أن إدريس كان قبل نوح فكيف يستقيم أن يقال إنه إلياس . وقد أشار إلى ذلك البغوي في تفسيره ، انتهى .
 
وقرأت في هامش شرح الزركشي بخط بعض العلماء نقل هذا الإجماع باطل .
وقال البيضاوي في نفسيره وإلياس قيل هو إدريس جد نوح فيكون البيان ، أي بيان ذرية نوح في الآية مخصوصا بمن في الآية الأولى يعني التي آخرها وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ[ الأنعام : 84 ] . وقوله تعالى :وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ[ الأنعام : 85 ].
معطوف على قوله وَنُوحاً هَدَيْنا.
قال البيضاوي : قيل هو يعني إلياس من أسباط هارون أخي موسى ، انتهى .
 
وهو الجواب عن إيراد الزركشي ، وفي حديث الجامع الصغير للسيوطي برواية ابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « الخضر هو إلياس » « أورده السيوطي في الدر المنثور ، وعزاه إلى ابن مردويه عن ابن عباس » .
وقال الشارح المناوي رحمه اللّه تعالى أن الخضر لقبه واسمه هو إلياس وهو غير إلياس لمشهور ، فقد اشتهر بلقبه وذلك باسمه ، فلا تدافع بينه وبين ما بعده من قوله عليه السلام : " الخضر في البحر وإلياس في البر » .
يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين بين الناس وبين يأجوج ومأجوج ، ويحجان ويعتمران كل عام ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل برواية الحارث بن أبي أسامة عن أنس رضي اللّه عنه .
وفي الشرح المذكور عند حديثه إنما سمي الخضر خضرا لأنه جلس على فروة وهي وجه الأرض فاخضرت .
قال : وهو صاحب موسى عليه السلام الذي أخبر عنه القرآن بتك الأعاجيب ، وأبوه ملكان بفتح فسكون ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح .
وقيل : هو ابن حلقيا وقيل : ابن قابيل بن آدم وقيل : ابن فرعون صاحب موسى عليه السلام وهو غريب . وقيل : أمه رومية وأبوه فارسي .
وقيل : هو ابن آدم عليه السلام لصلبه ، وقيل : الرابع من أولاده ، وقيل : هو ابن خالة ذي القرنين ووزيره . انتهى .
 
فتحصل من هذا أن إلياس :
يجوز أن يكون مشتركا بين الخضر اسمه إلياس وبين إلياس النبي المشهور ،
ويجوز أن يكون المراد بإلياس الذي ذكر في القرآن في الآية السابقة : أنه من ذرية نوح عليه السلام هو الخضر الذي ذكره اللّه تعالى أيضا في قصة موسى عليه السلام بقوله :فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً( 65 ) [ الكهف : 65 ] ،
وهو من ذرية نوح عليه السلام ، فسماه في موضع باسمه إلياس ووصفه بصفة العبودية في موضع آخر ، وهو غير إلياس المذكور في القرآن أيضا في قوله تعالى :وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ( 123 ) [ الصافات : 123 ] .
 
كما أنه تعالى ذكر يوسف بن يعقوب في سورته ، وذكر في موضع آخر قوله تعالى :وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ [ غافر : 34 ] الآية .
وهي من قول موسى : " من آل فرعون " فيوسف هذا بعد يوسف بن يعقوب فهو غيره ، وكذلك ذكر اللّه تعالى يونس في القرآن في موضع آخر ذا النون فقال سبحانه : وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً[ الأنبياء : 87 ] الآية .
فلا يصح إيراد الزركشي الذي ذكر سابقا ، وصح قول ابن مسعود وابن عباس رضي اللّه عنهم : أن إلياس هو إدريس عليه السلام يعني غير إلياس الملقب بالخضر المذكور في سورة الأنعام أنه من ذرية نوح عليه السلام ،
كيف وابن عباس رضي اللّه عنهما ابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ترجمان القرآن وقد دعا له ابن عمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقوله : « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » « رواه أحمد في المسند » ،
 
أي تأويل القرآن ،فهو أدرى بالقرآن من غيره فقوله : بأن إلياس هو إدريس عليه السلام أصح الأقوال خصوصا وقد وافقه ابن مسعود خادم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وغيره أيضا ، وجاء الكشف الصحيح المؤيد بالكتاب والسنة بذلك من حضرة المصنف قدس اللّه سره ، وجعل فرادس الجنان مقره وذكر المنلا عبد الرحمن الجامي قدس اللّه سره في رسالته في تحقيق مذهب الصوفية والمتكلمين والحكماء المتقدمين .
 
قال : ثم لا يخفى على من تتبع معارفهم يعني الصوفية المثبوتة في كتبهم أن ما يحكى عن مكاشفاتهم ومشاهداتهم لا يدل إلا على إثبات ذات مطلقة محيطة بالمراتب العقلية والغيبية ، منبسطة على الموجودات الذهنية والخارجية ، ليس لها تعين يمتنع معه ظهورها مع تعين آخر من التعينات الإلهية والخلقية ، فلا مانع أن يثبت لها تعيين يجامع التعينات كلها ، لا ينافي شيئا منها وتكون عين ذاته غير زائدة عليه لا ذهنا ولا خارجا ،
إذا تصوّر العقل هذا التعين امتنع عن فرضه مشتركا بين كثيرين اشتراك الكلي بين جزئياته ، لا أن عين تحوّله وظهوره في الصور الكثيرة والمظاهر الغير المتناهية علما وعينا وغيبا وشهادة بحسب النسب المختلفة والاعتبارات المتغايرة ،
واعتبر ذلك بالنفس الناطقة السارية في أقطار البدن وحواسها الظاهرة وقواها الباطنة بل بالنفس الناطقة الكمالية ، فإنها إذا تحققت بمظهرية الاسم الجامع كان التروحن من بعض حقائقها اللازمة فتظهر في صور كثيرة من غير تقيد وانحصار ، فتصدق تلك الصورة عليها وتتصادق لاتحاد عينها كما تتعدد لاختلاف صورها ،
ولذا قيل في إدريس عليه السلام إنه هو إلياس المرسل إلى بعلبك لا بمعنى أن العين خلع الصورة الإدريسية ولبس الصورة الإلياسية ،
وإلا كان قولا بالتناسخ بل إن هوية إدريس مع كونها قائمة في آنيته وصورته في السماء الرابعة ظهرت وتعينت في آنية إلياس الباقي إلى الآن ، فيكون من حيث العين والحقيقة واحدا ومن حيث التعين الصوري اثنين ، كتحوّل جبرائيل وميكائيل وعزرائيل عليهم السلام يظهرون في الآن الواحد في مائة ألف مكان بصور شتى كلها قائمة بهم ،
وكذلك أرواح الكمل كما يروى عن قضيب البان الموصلي رحمة اللّه تعالى عليه أنه كان يرى في زمان واحد في مجالس متعددة مستقلا في كل منها بعين ما في الآخر ، ولما لم يسع هذا الحديث أوهام المتوغلين في الزمان والمكان تلقوه بالرد والعناد وحكموا عليه بالبطلان والفساد .
 
وأما الذين منحوا التوفيق للنجاة من هذا الضيق فلما رأوه متعاليا عن الزمان والمكان علموا أن نسبة جميع الأزمنة والأمكنة إليه نسبة واحدة متساوية ، فجوّزوا ظهوره في كل زمان وكل مكان بأي شأن شاء وبأي صورة أراد كان ،
 
أي إلياس (عليه السلام نبيا قبل نوح عليه السلام) وهو إدريس ولهذا قال فيه (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [ مريم : 57 ] . قال تعالى :وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ( 56 ) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا( 57 ) [ مريم : 56 - 57 ] ،
فهو ، أي إدريس عليه السلام في قلب الأفلاك السبعة السماوية ساكن وهو ، أي قلب الأفلاك فلك الشمس وهو الفلك الرابع فوقه ثلاث أفلاك وتحته ثلاث أفلاك ثم بعث ،
أي بعثه اللّه تعالى إلى قرية بعلبك وسماه تعالى باسم إلياس ،
قال سبحانه :وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 123 ) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ( 124 ) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ ( 125 ) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ( 126 ) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( 127 ) إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 128 ) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ( 129 ) سَلامٌ عَلى إِل‌ْياسِينَ ( 130 ) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 131 ) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ( 132 ) [ الصافات : 123 – 132].
 
(وبعل اسم صنم وبك هو سلطان تلك القرية) المعروفة بالقرب من دمشق الشام (وكان هذا الصنم المسمى بعلا مخصوصا بالملك) يعبده من دون اللّه والقوم يدعونه في حوائجهم )وكان إلياس الذي هو إدريس عليه السلام قد مثل( بالبناء للمفعول ، أي مثل اللّه تعالى له انفلاق الجبل المسمى بجبل لبنان في بلاد البقاع وهو معروف الآن .
حتى ذكر جدنا العلامة الشيخ إسماعيل بن النابلسي في حاشيته على تفسير البيضاوي في سورة هود عليه السلام : أن نوحا عليه السلام كانت سفينته من العاج وهو شجر عظيم يجلب من بلاد الهند وقيل : من خشب الصنوبر .
وفي تفسير القرطبي عن عمر بن الحارث أنه قال :
عمل نوح عليه السلام سفينته ببقاع دمشق وقطع خشبها من جبل لبنان وهو مشتق (من اللّبانة) بالضم والتخفيف (وهي الحاجة عن فرس) روحاني له جسد (من نار وجميع آلته) كالآكاف واللكام والركاب والحزام من نار أيضا هي وفرس الحياة التي نزل جبريل عليه السلام راكبا عليها حتى قبض السامري في بني إسرائيل قبضة من أثرها فوضعها في العجل من الذهب فصار له خوار ، وإنما انفلق جبل لبنان لإدريس عليه السلام الذي هو إلياس عن جسدها الناري القائم بروحها النورانية التي نزل بها جبرائيل عليه السلام ، فالروحاني حظه منها الجزء الروحاني والجسماني حظه منها الجزء الجسماني .
(فلما رآه) ، أي رآى إدريس عليه السلام ذلك الفرس (ركب عليه فسقطت عنه) ، أي عن إدريس عليه السلام (الشهوة) الجسمانية شهوة البطن والفرج فلم يحتج إلى الأكل والشرب والجماع (فكان عقلا) محضا (بلا شهوة) بمنزلة الملائكة عليهم السلام وكان له صيام الدهر من المقام الصمداني ( فلم يبق له تعلق به بما تعلق الأغراض النفسية) والطبيعة البشرية ولهذا رفعه اللّه تعالى إلى قلب الأفلاك يعبد اللّه تعالى مع الملائكة عليهم السلام بالتسبيح والتقديس .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكان الحقّ فيه منزّها ، فكان على النّصف من المعرفة باللّه ، فإنّ العقل إذا تجرّد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره ، كانت معرفته باللّه على التّنزيه لا على التّشبيه.  
وإذا أعطاه اللّه المعرفة بالتّجلّي كملت معرفته باللّه ، فنزّه في موضع وشبّه في موضع .
ورأى سريان الحقّ في الصّور الطّبيعيّة والعنصريّة . وما بقيت له صورة إلّا ويرى عين الحقّ عينها .
وهذه المعرفة التّامّة الّتي جاءت بها الشّرائع المنزلة من عند اللّه وحكمت بهذه المعرفة الأوهام كلّها .
ولذلك كانت الأوهام أقوى سلطانا في هذه النّشأة من العقول ، لأنّ العاقل ولو بلغ من عقله ما بلغ لم يخل عن حكم الوهم عليه والتصوّر فيما عقل . )
فكان الحق تعالى ظاهرا فيه ، أي في إدريس عليه السلام منزها عن كل ما لا يليق به سبحانه تنزيها تاما من غير تشبيه أصلا .
فكان إدريس عليه السلام الذي هو إلياس على النصف من المعرفة باللّه تعالى والنصف الآخر سبق ذكره في الفص الإدريسي ، فكانت معرفته كمعرفة الملائكة باللّه تعالى ، ولهذا يسبحونه ويقدسونه ولا يفترون عن ذلك لأنهم عقول مجرد فإن العقل إذا تجرد عن الشهوة لنفسه من حيث أخذه العلوم الإلهية عن نظره وفكره كانت معرفته باللّه تعالى على جهة (التنزيه) فقط (لاعلى) جهة التشبيه بالصور الظاهرة له وإذا أعطاه ، أي العقل اللّه تعالى المعرفة بالتجلي في الصورة المحسوسة والمعقولة والموهومة كملت معرفته ، أي العقل باللّه تعالى حينئذ .
فنزه اللّه تعالى في موضع يقتضي التنزيه لوروده في الشرع وشبه أيضا اللّه تعالى في موضع آخر يقتضي التشبيه لوروده في الشرع ورأى ، أي ذلك العقل بعين بصيرته سريان الحق تعالى بالوجود المطلق الحقيقي ظاهرا في الصور الطبيعية الروحانية والصور العنصرية الجسمانية وما بقيت له ،
 
أي للعقل (صورة) مطلقا إلا ويرى ذلك العقل (عين الحق) تعالى (عينها) من حيث التجلي بالوجود كما ذكر (وهذه هي المعرفة) باللّه تعالى (التامة الكاملة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند اللّه) بالملك على النبيين عليهم السلام إلى أممهم وإدريس الذي هو إلياس عليه السلام جاء بها أيضا إلى أمته التي أرسل إليهم ولكن لما كذبوه رفعه اللّه تعالى المكان العلي بانفلاق الجبل عن تلك الفرس ونزع منه المقتضيات الجسمانية بغلبة الروحانية عليه كما فعل تعالى بعيسى ابن مريم لما رفعه إليه .
قال تعالى :يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا[ آل عمران : 55 ] . (وحكمت أيضا بها) ، أي بهذه المعرفة المذكورة من حيث اشتمالها على التشبيه (الأوهام) العقلية (كلها) فبلغت منها الغاية (ولذلك) ، أي لأجل ما ذكر (كانت الأوهام أقوى سلطانا) ، أي أشد تسلطا وقهرا (في هذه النشأة) الإنسانية من إدراك (العقول لأن العاقل) من بني آدم (وإن بلغ من عقله ما بلغ) من رتبة كمال العقل (لم يخل عن حكم) ، أي استيلاء (الوهم عليه) ، أي على عقله وبقدر ذلك يكون القصور « التصور » منه (فيما عقل) من الأمور .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالوهم هو السّلطان الأعظم في هذه النشأة الصّوريّة الإنسانيّة ، وبه جاءت الشّرائع المنزلة فشبّهت ونزّهت ، شبّهت في التّنزيه بالوهم ، ونزّهت في التّشبيه بالعقل . فارتبط الكلّ بالكلّ ، فلا يمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ولا تشبيه عن تنزيه .
قال اللّه تعالى :لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌفنزّه وشبّه ،وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[ الشورى : 11 ] فشبّه .
وهي أعظم آية نزلت في التّنزيه ومع ذلك لم تخل عن التّشبيه بالكاف . فهو أعلم العلماء بنفسه ، وما عبّر عن نفسه إلّا بما ذكرناه . ثمّ قال :سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ( 180 ) [ الصافات : 180 ].
وما يصفونه إلّا بما تعطيه عقولهم . فنزّه نفسه عن تنزيههم إذ حدّدوه بذلك التّنزيه ، وذلك لقصور العقول عن إدراك مثل هذا . )
 
(فالوهم هو السلطان الأعظم ) المستولي القاهر في هذه النشأة ، أي الخلقة
 
(الصورية الكاملة الإنسانية وبه) ، أي بالوهم والحكم به في الاعتقاد (جاءت الشرائع المنزلة) من اللّه تعالى (فشبهت) ، أي الشرائع الحق تعالى ونزهت أيضا الحق تعالى ليعرف سبحانه ظاهرا وباطنا وأوّلا وآخرا (فشبهت) الحق سبحانه في حال التنزيه له لحكمها (بالوهم) في الصور (ونزهت) أيضا الحق تعالى في حال التشبيه له لحكمها (بالعقل) في العجز عنه (فارتبط الكل) ، أي جميع صور التشبيه المحسوسة والمعقولة والموهومة (بالكل) ، أي جميع مراتب التنزيه .
 
(فلا يمكن أن يخلو تنزيه) للحق تعالى (عن تشبيه) أصلا ، فإن المنزه للحق تعالى لا بد أن يتصوّر الحق تعالى في خياله وقت الحكم عليه بالتنزيه عن كل ما لا يليق به من كل ما سواه ، فإن الحكم فرع التصوّر لأنه لا يمكن الحكم على شيء بأمر من الأمور إلا بعد تصوّره في الذهن ، وإلا لم يكن حكم أصلا ، وهو بديهي عند العقلاء فقد لزم من التنزيه التشبيه في كل ما وجد تنزيه ولا يمكن أن يخلو أيضا تشبيه للحق تعالى بشيء من الصور عن تنزيه أصلا فإن من شبهه سبحانه بصورة حسية أو عقلية حكم بأنه لا يشبه كل ما عداها من الصور وهو التنزيه للحق تعالى .
 
قال اللّه تعالى :"لَيْسَ كَمِثْلِهِ" سبحانه "شَيْءٌ"[ الشورى : 11 ] بإثبات المثل له فنزّه مثله تعالى عن مشابهة كل شيء بكاف التشبيه المنفية بليس فلزم من ذلك تنزيه نفسه بالأولى وشبّه نفسه تعالى بإثبات المثل له ("وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ")، أي لا سميع ولا بصير غيره تعالى ، فإن تعريف الطرفين يفيد الحصر كقوله تعالى :هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ[ غافر : 65 ] .
فشبه سبحانه نفسه بإثبات صورة كل سميع بصير أنه صورته كما ورد في الحديث : « كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به » .
 
( وهي) ، أي هذه الآية (أعظم آية) في القرآن (نزلت في التنزيه) الإلهي (ومع ذلك) ، أي كونها نزلت في التنزيه لم تخل عن تشبيه للّه تعالى (بالكاف) أي بسببها لأنه يلزم منها ثبوت المثل له تعالى وهو تشبيه ، فلو لم تكن الكاف لانتفى المثل بالكلية والأصل عدم الزيادة في الكاف وفي المثل ، فالتقرير على أصلية كل واحد منهما وهو الأليق ببلاغة القرآن العظيم .
 
(وهو) ، أي اللّه تعالى الذي أنزل هذه الآية أعلم العلماء بنفسه سبحانه ومع ذلك ما عبر تعالى (عن نفسه إلا بما ذكرناه) من الآية المذكورة (ثم قال اللّه) تعالى أيضا عن نفسه (سبحان ربك) والخطاب لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ،
 
أي سبح ربك ونزهه وقدسه (رب العزة) ، أي الرفعة عن إدراك العقول والحواس (عما يصفون) ، أي الواصفون له تعالى مع كثرة اختلافهم في أوصافه تعالى وما ينبغي أن يكون عليه تعالى (وما يصفونه) ، أي الواصفون المنزه عن وصفهم إلا بما تعطيه لهم (عقولهم) مما ينبغي أن يكون عليه عندهم لنبذهم الوقوف مع الشرع وما جاء به من الأوصاف .
 
(فنزه) سبحانه نفسه بكلمة سبحان التي هي علم على التسبيح (عن تنزيههم) ، أي تنزيه الواصفين له تعالى إذ ، أي لأنهم (حدوه) ، أي جعلوا له تعالى حدا (بذلك التنزيه) الذي أتوا به في حقه تعالى عندهم فإنهم حكموا عليه بعدم مشابهته لشيء مطلقا وكل محكوم عليه قد تصوّره الحاكم عليه في نفسه بصورة غفل عنها في وقت الحكم عليه لاشتغاله بمضمون الحكم من نفي مشابهة كل شيء له تعالى والتصور بالصورة هو التحديد بالحد (وذلك) إنما كان (لقصور العقول كلها عن إدراك مثل هذا) التعريف الإلهي الوارد عنه تعالى من التنزيه في التشبيه والتشبيه في التنزيه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ جاءت الشّرائع كلّها بما تحكم به الأوهام . فلم تخل عن صفة يظهر فيها . كذا قالت ، وبذا جاءت . فعملت الأمم على ذلك فأعطاها الحقّ التّجلّي فلحقت بالرّسل وراثة ، فنطقت بما نطقت به رسل اللّه .اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُفاللَّهُ أَعْلَمُموجّه له وجه بالخبريّة إلى رسل اللّه ، وله وجه بالابتداء إلىأَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ. وكلا الوجهين حقيقة فيه ولذلك قلنا بالتّشبيه في التّنزيه وبالتّنزيه في التّشبيه .
وبعد أن تقرّر هذا فنرخي السّتور ونسدل الحجب على عين المنتقد والمعتقد ، وإن كانا من بعض صور ما تجلّى فيها الحقّ . )
 
(ثم جاءت الشرائع كلها) من عند اللّه تعالى إلى الأمم المكلفين بها على ألسنة أنبيائهم ورسلهم عليهم السلام بما تحكم به الأوهام على العقول الإنسانية من التصوير والتمثيل في حق اللّه تعالى مع التنزيه والتقديس عن جميع ذلك فأقرّ الصور لمحة ونفاها لمحة ، لأن أمره تعالى "كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ"، فيقال فيه هو هذا ثم يقال : ليس (هو) هذا لانتفائه في اللمحة الثانية .
(فلم يخل الحق تعالى عن صفة) عند الأوهام العقلية (يظهر فيها) للعقلاء
 
(كذا قالت ، أي الشرائع كلها بمضمون حكمها وصريح عبارات أدلتها النقلية (وبذا ، أي بما ذكر جاءت ، أي الشرائع من عند اللّه تعالى إلى الأمم بواسطة المرسلين عليهم السلام (فعملت جميع الأمم على ذلك ، أي وصفت الحق تعالى بما تعطيه أوهامها من الأوصاف المختلفة (فأعطاها الحق تعالى (التجلي ، أي الانكشاف في حضرة الأوهام فتكلم كل واحد بما تجلى له في وهمه من الصفات الإلهية (فلحقت تلك الأمم (بالرسل والأنبياء عليهم السلام وراثة نبوية في نفس الأمر من غير متابعة شرعية منهم في البعض فإنهم كفروا وإن وافقوا المقصود ،
لأن المطلوب منهم أخذ المقصود بالمتابعة لا بالاستقلال ، لأن الاستقلال رسالة من اللّه تعالى وهم لم يرسلوا فنطقت ، أي الأمم بما نطقت به يعني الأمم من الصفات الإلهية على حسب ما وقع لهم التجلي الإلهي في أوهامهم وتخيلاتهم فأصابوا الحق ، لأن الكل تجلياته سبحانه وأخطأوا حيث لم يأذن اللّه تعالى فإنه ليس كل صواب مقبولا .
 
قال تعالى :وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ البقرة : 189 ] .
مع أن المقصود إتيان البيوت وقد حصل سواء أتى من الظهور أو من الأبواب الكبرى ، ولكن البر أي الإحسان إلى الشارع الإتيان من الأبواب ، أي المتابعة في ذلك كتارك الأكل نهارا لا يسمى صائما حتى ينوي متابعة الشارع فيما شرعه من ذلك ،
وهكذا جميع المشروعات من الفروض والنوافل ، فالنية شرط في حصول العبادات مطلقا في المأمور والمنهي ، وهو قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات " .
أو بما نطقت به . رواه البخاري ورواه أبو داود ورواه غيرهما .
 
رسل اللّه فاعل نطقت لأنهم ورثتهم من حيث الأوهام البشرية التي لم تقبل منهم لعدم متابعتهم لهم فيها كما تبعت الأنبياء عليهم السلام ربهم في ذلك .
قال تعالى :قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ[ الكهف : 110 ] ،
فالفارق الوحي وهو القذف في القلب والكل يقذف في قلوبهم ولكن المتابعة الإلهية تنتجها المعرفة الربانية وهي المقتضية للقبول على الوجه التام فلولا متابعة الأنبياء عليهم السلام لأمر ربهم على الكشف في نفوسهم لما فرق بينهم وبين أممهم في التجليات الإلهية ومقتضى ما تعطى من الأوصاف وكذلك الوراثة النبوية في الأمم ما قبل منها إلا وراثة أهل المتابعة دون غيرهم ولهذا قال تعالى عن الكافرين :وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ "اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ"الأنعام : 124 ] .
بأن يأذن اللّه تعالى لهم بذلك فيكون ما يجدونه من الأوصاف عن الوحي النبوي لا عن وسواس نفوسهم كما قال تعالى :"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ" [ ق :16] ،
فثبت له تعالى العلم بجعل الرسالة في المرسلين عليهم السلام ، والعلم أيضا بوسواس النفوس في غير أهل المتابعة من الناس . ثم قال تعالى :وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ ق : 16]
 
فأثبت القرب إلى الإنسان بجميع أنواع الإنسان على السواء من غير تفاوت ، وبقي التفاوت بوسواس النفس ، ووحي الرب وهو الجعل للرسالة في المرسلين دون غيرهم ، لا العلم بهم فإنه مشترك كما ذكرنا فاللّه أعلم .
 
الواقع في هذه العبارة في هذا الكتاب كلام موجه ، أي ذو وجهين له وجه بالخبرية ، أي موجه بكونه خبرا إلى ، قوله هنا رسل اللّه إذا تم الكلام على قوله بما نطقت به الآية التي سبب نزولها كما ذكر البيضاوي في تفسره :  أن كفار قريش لما قال أبو جهل تزاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه واللّه لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه انتهى .
 
"" أضاف المحقق :
ونص ما أورده البيضاوي في تفسيره كاملا :وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [ الأنعام : 124 ]
يعني كفار قريش لما روي : أن أبا جهل قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحي إليه اللّه لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزلت :اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ[ الأنعام : 124 ]
استئناف للرد عليهم بأن النبوة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص اللّه سبحانه وتعالى بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالاته من علم أنه يصلح لها ، وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه . تفسير البيضاوي . أهـ ""
 
فيبقى قوله تعالى :قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ[ الأنعام : 124].
، فنائب الفاعل ضمير أوتي راجع إلى نبيهم الذي جاءتهم آيته ، أي معجزته وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لأنهم لم يقولوا مثل ما أوتي جميع الأنبياء والرسل ،
وإنما قالوا : إن يأتينا وحي كما يأتيه ، فرسل : مبتدأ ، واللّه : مضاف إليه ، واللّه : خبر المبتدأ كما قال تعالى  :إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ( 49 ) [ القمر : 49 ] .
في قراءة رفع كل على أنها خبر إنّ ثم قوله : اعلم ، صفة للّه بإضمار هو تعالى ، وحيث يجعل رسالته متعلق بأعلم وله ، أي لقوله اللّه وجه آخر موجه أيضا بالابتداء ، أي هو مبتدأ إلى أعلم فأعلم خبر المبتدأ حيث يجعل رسالته متعلق بأعلم أيضا
 
وكلا الوجهين في عبارة هذا الكتاب هنا (حقيقة فيه) ، أي في اللّه تعالى على حسب ما ورد عنه سبحانه (فلذلك) ، أي لكونهما حقيقة لا مجازا (قلنا) في حقه تعالى (بالتشبيه) للّه تعالى (في التنزيه) حيث كان الكلام أنهم نطقوا بما نطقت به رسل اللّه من التجليات في أوهامهم " اللَّهُأَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ" .
فهو تعالى منزه عن كل ما نطقوا به ، لأن اللّه تعالى لم يجعل الرسالة فيهم ، فهو تنزيه اللّه تعالى والتشبيه في ضمنه لمطابقتهم ما نطقت به الرسل عليهم السلام .
 
وقلنا أيضا (بالتنزيه) للّه تعالى (في التشبيه) حيث كان الكلام أنهم نطقوا بما نطقوا به ورسل اللّه هم اللّه وهو تشبيه للّه تعالى والتنزيه في ضمنه حيث أثبت الرسل صورا إنسانية مسماة بأسماء معلومة ، فجعلها مبتدأ والمبتدأ غير الخبر ، وإلا لما صح الحمل ولزم تحصيل الحاصل مثل قولك : زيد زيد فلا فائدة فيه .
 
(وبعد أن نقول) لك يا أيها السالك (هذا) الكلام (فنرخي الستور) على وجوه الأسرار (ونسدل الحجب على عين المنتقد) ، أي المنكر وعين (المعتقد) ، أي المصدق لئلا تفسد المعاني الصحيحة بالأفهام الفاسدة أو يصعب إدراكها فتوجب وقفه فإن وراء ما ذكر أسرار الاتحاد الروحاني وأنوار الاختلاف الجسماني فلا يسعه إلا العبد الفاني والسر المتداني ،
فإن الشريعة مجرد بيان والحقيقة خلاصة عيان ، والكل ثابت فلا يتغير بما هو يكون وما هو كائن وما كان لأنه نفس الأمر في وعائي الزمان والمكان وإن كانا ، أي المنتقد والمعتقد أيضا اللذين نسبة الحقائق عليهما (من بعض صور ما تجلى) ، أي انكشف (فيها الحق) تعالى لأهل الكمال .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالأربعاء فبراير 19, 2020 11:34 pm

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم   

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية                الجزء الثاني
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولكن قد أمرنا بالسّتر ليظهر تفاضل استعداد الصّور ، فإنّ المتجلّي في صورة بحكم استعداد تلك الصّورة ، فينسب إليه ما تعطيه حقيقتها ولوازمها ولا بدّ من ذلك .
مثل من يرى الحقّ في النّوم ولا ينكر هذا وأنّه لا شكّ الحقّ عينه فتتبعه لوازم تلك الصّورة وحقائقها الّتي تجلّى فيها في النّوم ، ثمّ بعد ذلك يعبّر أي يجاز عنها إلى أمر آخر يقتضي التّنزيه عقلا . فإن كان الّذي يعبّرها ذا كشف أو إيمان ، فلا يجوز عنها إلى تنزية فقط ، بل يعطيها حقّها من التّنزيه وممّا ظهرت فيه .  فاللّه على التّحقيق عبارة لمن فهم الإشارة .)

ولكن قد أمرنا ، أي أمرنا الشارع بالستر فيما لا تبلغه عقول القاصرين من العلوم كما قال صلى اللّه عليه وسلم : « كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون ".أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ "" : « حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب اللّه ورسوله » ""

ليظهر بذلك تفاضل استعداد أي تهيئة الصور الإنسانية لقبول فيض التجلي نفسها ، فتذوق تلك الصور حلاوة الوهب الإلهي وليظهر أن المتجلي الحق في صورة إنسانية ظاهر بحكم استعداد تلك الصورة لما قبلته من الإدراك فينسب إليه ، أي إلى المتجلي الحق سبحانه ما تعطيه حقيقتها ، أي حقيقة تلك الصورة فيكون هو تعالى الظاهر بذلك دونها وما تعطيه لوازمها ،
أي لوازم تلك الصورة من نسبة العلم أو الجهل أو نحو ذلك مما هو لازم حقيقة تلك الصور بحيث لا ينفك عنها ، لأنه من جملة أحوالها لا بد من ذلك ،

أي من بقاء حقيقة تلك الصورة ولوازمها ، لأن المتجلي الحق بها هكذا أراد أن يتجلى فلا ينبغي أن تعطيها خلاف ما يظهر منها ، وإن كانت لا تقبل منه إلا مقدار استعدادها فإن استعدادها يقبل من فيض التجلي بحسبه ، وإن كان منامك هو أيضا من فيض التجلي عليها ، ولكنها لا تشعر لوقوفها في الفرق عن شهود الجمع .

مثل من يرى الحق تعالى في النوم ولا ينكر هذا ، الذي رآه أنه الحق سبحانه وأنه لا شك عنده أن الحق تعالى عينه ، أي عين ما رأى فتتبعه ، أي تتبع ذلك المرئي في النوم لوازم تلك الصورة المرئية من الكبر أو الصغر أو الحسن أو ضده ونحو ذلك وحقائقها التي تجلى فيها في النوم كحقيقة غلام أو رجل أو جارية أو امرأة ونحو ذلك من غير الإنسان أيضا .

ثم بعد ذلك ، أي بعد تحققه بصورة ما رأى في النوم وضبطه لوازمها يعبر ذلك الرائي في النوم أي يجاوز عنها ، أي عن صورة ما رأى إلى أمر آخر تناسبه تلك الصورة فتأول رؤياه إليه على أكمل الوجوه بحيث يقتضي ذلك حصول التنزيه للّه تعالى عقلا عن كل ما لا يليق به ، لأنه تعالى نور والنور يكشف عن كل شيء مستور ، ويرجع حسن تلك الصورة أو سوءها إلى حال الرائي وأنه منهمك في الباطل ، وقد استقصينا طرفا واسعا من رؤية اللّه تعالى في النوم في كتابنا تعطير الأنام في تعبير المنام .
فإن كان الذي يعبرها ، أي تلك الرؤيا ذا كشف ، أي بصيرة نافذة في الغيب أو ذا إيمان ، أي تصديق وإذعان من غير كشف فلا يجوز ،

أي لا يتجاوز عنها ، أي عن صورة ما رأى إلى تنزيه اللّه تعالى فقط بل يعطيها ، أي صورة ما رأى حقها ، أي حق تلك الصورة من التنزيه للّه تعالى وحقها أيضا مما ، أي من أمر الصورة التي ظهرت تلك الصورة فيه من التشبيه للّه تعالى فينزه ويشبه ويعمل بالعقل وبمقتضاه وهو التنزيه ، وبالحس وبمقتضاه وهو التشبيه فاللّه ، أي هذا الاسم الجامع على التحقيق في المعرفة عبارة لفظية في اللسان ومعنوية في القلب والجنان عن المرتبة الكلية التي هي مرتبة الألوهية الجامعة للجمعية الأسمائية الإلهية العالمية المظهرية الإمكانية الانفعالية لمن فهم الإشارة الوضعية الإلهية على صفحات المكان والزمان .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وروح هذه الحكمة وفصّها أنّ الأمر ينقسم إلى مؤثّر وموثّر فيه وهما عبارتان : فالمؤثّر بكلّ وجه وعلى كلّ حال وفي كلّ حضرة هو اللّه ، والمؤثّر فيه بكلّ وجه وعلى كلّ حال وفي كلّ حضرة هو العالم .
فإذا ورد أي الوارد الإلهيّ فألحق كلّ شيء بأصله الّذي يناسبه ، فإنّ الوارد أبدا لا بدّ أن يكون فرعا عن أصل .
كما كانت المحبّة الإلهيّة عن النّوافل من العبد .
فهذا أثر بين مؤثّر ومؤثّر فيه كان الحقّ سمع العبد وبصره وقواه عن هذه المحبّة. فهذا أثر مقرّر لا تقدر على إنكاره لثبوته إن كنت مؤمنا.)

(وروح) ، أي سر (هذه الحكمة) الإلياسية (وفصها) ، أي موضع نقش خاتمها يعني زبدتها وخلاصتها (أن الأمر) الإلهي الواحد باعتبار ظهور الخلق عنه (ينقسم إلى مؤثر) بصيغة اسم الفاعل ومؤثر بصيغة اسم المفعول (فيه وهما) ،
أي هذان القسمان (عبارتان) لفظيتان ومعنويتان (فالمؤثر) وهو القسم الأوّل (بكل وجه وعلى كل حال وفي كل حضرة هو اللّه والمؤثر فيه) وهو القسم الثاني (بكل وجه) من وجوهه (وعلى كل حال من أحواله (وفي كل حضرة) من حضراته (هو العالم) بفتح اللام ، أي المخلوقات كلها
(فإذا ورد) عليك يا أيها السالك (ذلك الأمر الإلهي) المنقسم إلى ما ذكر (فألحق) ذلك الأمر عندك (كل شيء) ظهر منه (بأصله) ، أي جعله ملحقا بأصله الذي يناسبه منه كالحياة إذا نشأت في شيء كانت من الأمر المحيي ، والموت من الأمر المميت ، والعز من المعز ، والذل من المذل ، وهكذا .
(فإن) الأمر (الوارد) عليك (أبدا) ، أي دائما في الدنيا والبرزخ والآخرة (لا بد أن يكون) ذلك الوارد ، أي يظهر عندك (فرعا) ناشئا (عن أصل) له غير ذلك لا يكون (كانت) جواب إذا أي وجدت (المحبة الإلهية) ظاهرة (عن) سبب التقرب إليه تعالى بأعمال النوافل من العبد المؤمن كما ورد في الحديث : « لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به » إلى آخره ،

فهذا ، أي العبد أثر ظاهر من مؤثر فيه هو الحق تعالى وقد كان الحق تعالى حينئذ سمع العبد وبصره وقواه جميعها كما هو في الحديث المذكور ظاهرا ذلك عن هذه المحبة الإلهية للعبد فهذا ، أي كون الحق تعالى سمعا وبصرا وغير ذلك أثر ، أي مضمون حديث مقرر ، أي وارد عن النبي عليه السلام لا تقدر أنت يا أيها الإنسان على إنكاره لثبوته شرعا ، أي صحة سنده إن كنت مؤمنا بكلام النبوّة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا العقل السّليم فهو إمّا صاحب تجلّ إلهيّ في مجلى طبيعيّ فيعرف ما قلناه ، وإمّا مؤمن مسلم يؤمن به كما ورد في الصّحيح .
ولا بدّ من سلطان الوهم أن يحكم على العاقل الباحث فيما جاء به الحقّ في هذه الصّورة لأنّه مؤمن بها .
وأمّا غير المؤمن فيحكم على الوهم بالوهم فيتخيّل بنظره الفكريّ أنّه قد أحال على اللّه ما أعطاه ذلك التّجلي في الرّؤيا ، والوهم في ذلك لا يفارقه من حيث لا يشعر لغفلته عن نفسه .
ومن ذلك قوله تعالى :ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غافر : 60 ] . قال تعالى :وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [ البقرة : 186 ] إذ لا يكون مجيبا إلّا إذا كان من يدعوه غيره . )

وأما صاحب العقل السليم من آفات التقليد الرديء والعناد والغرور والأعراض الفاسدة .
فهو إما صاحب كشف عن تجل إلهي ، أي ظهور للحق تعالى عنه في مجلى ، أي مظهر طبيعي كالصور المحسوسة فيعرف ما قلناه من التحاق الفرع بالأصل لانقسام الأمر إلى مؤثر ومؤثر فيه وإما مؤمن ،

أي مصدق (مسلم) ، أي مذعن للوارد عن الشارع (يؤمن) أي يصدق (به) أي بالأثر المذكور والحديث المسطور (كما) أي على حسب (ما ورد) ، أي بالمعنى الذي أراده اللّه تعالى ورسوله في) الإسناد (الصحيح من غير عدول إلى تأويل عقلي ونظر فكري .

(ولا بد من سلطان الوهم أن يحكم) لغلبته (على) هذا (العاقل) المؤمن المسلم للذي ورد على حسب ما ورد الباحث ذلك العاقل (فيما جاء به الحق) تعالى (في هذه الصورة) مما تضمنه الحديث المذكور (لأنه) ، أي ذلك المؤمن المسلم (مؤمن) ، أي مصدق (بها) ، أي بتلك الصورة الواردة ،

ولا يمكن امتناعه من الوهم لغلبته عليه بالضرورة وإن نفى الصورة واحترز من ذلك كمال الاحتراز ، لأن لفظ الحديث يقتضيها ،
فحال هذا المؤمن المسلم مثل حال صاحب التجلي المذكور إلا أنه غير عارف بمن تجلى له ، وهو محترز منه خائف على إيمانه بالغيب من جهله بما الأمر عليه في نفسه وأما العاقل (غير المؤمن) بالوارد في الحديث المذكور (فيحكم) دائما (على الوهم) الغالب فيه (بالوهم) الغالب فيه على عقله فيتخيل بنظره الفكري وقياسه العقلي (أنه قد أحال على اللّه) تعالى ، أي اعتقد أنه محال في حق اللّه تعالى عنده ما (أعطاه ذلك التجلي) الإلهي والانكشاف الرباني لتلك الصورة التي رآها في (الرؤيا) المنامية حيث لا يقدر على إنكارها ولا يستطيع أن يجحد أنه رأى اللّه تعالى في صورة كذا .

(و )لأن (الوهم في ذلك) ، أي فما رآه (لا يفارقه) أصلا لأن ذلك التجلي وجدان عنده وذوق له (من حيث لا يشعر) بحاله وما هو عليه (لغفلته عن نفسه) وذهوله عنها ومن ذلك ،
أي من التحاق الفرع بالأصل وما تقرر فيه قوله تعالى ادعوني يا أيها العباد استجب لكم ما تدعوني فيه ،
فإنه إذا كان لسان الداعي كما ورد في الحديث ، كان هو الداعي تعالى وهو المستجيب ، ولهذا ورد في قوله تعالى :وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ( 25 ) [ يونس : 25 ] ، أي يدل على أنه عين الداعي .

وقال تعالى :اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ[ الشورى : 47 ] ، فهو عكس الأوّل ليتبين العبد ما هو الأمر عليه في نفسه (قال اللّه تعالى : "وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) ، أي طلبوا منك أن تعرفهم بي وتدلّهم عليّ "فَإِنِّي قَرِيبٌ" إليهم ، ولأني أقرب للشيء من نفسه ؛
ولهذا ورد :"وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"ق : 16 ] وذلك لأن حبل الوريد من الصورة الجسمانية والحق تعالى متجل عليه في صورته النفسانية التي هي حقيقته "أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ" بأن عرف نفسه فعرف ربه فدعاه سبحانه وهو شرط في الآية يعني إذا دعاني لا إذا دعا غيري لجهله بي في صورة التجلي (إذ) ،

أي لأنه تعالى (لا يكون مجيبا) لدعوة الداع (إلا إذا كان) تعالى (هو من يدعوه) ، أي عين الداعي فيكون صدق عليه مقتضى قوله :إِذا دَعانِ[ البقرة : 186 ] ، كما ذكرنا.
""وفي نسخة أخرى : من يدعوه غيره  بدل  هو من يدعوه "".

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن كان عين الدّاعي عين المجيب فلا خلاف في اختلاف الصّور ، فهما صورتان بلا شكّ .
وتلك الصّور كلّها كالأعضاء لزيد : فمعلوم أنّ زيدا حقيقة واحدة شخصيّة ، وأنّ يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه . فهو الكثير الواحد ، الكثير بالصّور ، والواحد بالعين .
وكالإنسان واحد بالعين بلا شكّ . ولا شكّ أن عمرا ما هو زيد ولا خالد ولا جعفر ، وأنّ أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودا . فهو وإن كان واحدا بالعين ، فهو كثير بالصّور والأشخاص . )

(وإن كان ) حينئذ (عين الداعي) من حيث التجلي بالوجود عين المجيب له دعاه (فلا خلاف في اختلاف الصور) لهما في كل لمحة ، لأن الخلق الجديد يقتضي ذلك ، فإذا كانت الصورة للعبد باعتبار استيلاء نفسه عليها كان هو الداعي والحق تعالى متجل عليه بصورته في مفهوم خياله ،
فإذا تحوّلت صورة العبد في صورة المتجلي الحق باعتبار استيلاء الرب تعالى عليه في ظاهره وباطنه غاب العبد فكان هو المجيب الحق (فهما صورتان) صورة عبد داع وصورة رب مجيب ظهر فيها بطريق التجلي وهو على ما هو عليه من إطلاقه الحقيقي وتنزهه وتقدسه بلا شك عند العارف بذلك أصلا وتلك الصور كلها التي هي للداعي وللمجيب الحق تعالى بل لجميع العالم المحسوس والمعقول الصادرة من الأمر الإلهي الواحد الذي هو كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ كما قال تعالى :وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ( 50 ) [ القمر: 50 ].

وقد قال سبحانه :وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ[ الروم : 25 ] فالكل كلمح بالبصر لقيامه بما هو كلمح بالبصر وهو الأمر الإلهي وذلك قوله تعالى :بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ[ ق : 15 ] .
كالأعضاء المختلفة (لزيد) مثلا (فمعلوم) عند العقلاء (أن زيدا حقيقة واحدة شخصية) ، أي متشخصة في الحس وأن صورة (يده) مثلا (ليست) هي صورة رجله ولا صورة (رأسه ولا) صورة (عينه ولا) صورة حاجبه فهو ، أي زيد الكثير ومع ذلك هو الواحد أما الكثير فهو بالصور المختلفة لأعضائه الجسمانية وأما الواحد فهو بالعين ، أي الذات النفسانية الواحدة .

(وكالإنسان) ، أي جنس الآدمي الكلي وهو الحيوان الناطق فإنه (بالعين) ، أي الماهية المشتملة على الجنس والفصل (واحد) كلي (بلا شك) عند العقلاء في ذلك ولا تشك أيضا أن (عمروا) الذي هو جزئي من جزئيات الإنسان الكلي لزيادة التشخص فيه على ذلك الكلي (ما هو زيد) الذي هو جزئي آخر من تلك الجزئيات غير الجزئي الأوّل (ولا هو) أيضا خالد ،
أي الذي هو جزئي آخر ولا هو أيضا جعفر الجزئي الآخر ولا شك أيضا أن أشخاص) ، أي جزئيات (هذه العين الكلية الإنسانية (الواحدة لا تتناهى وجودا) ، أي من حيث دخولها في الوجود شيئا فشيئا .

(فهو) ، أي الإنسان المذكور (وإن كان واحدا بالعين) ، أي الماهية (فهو) ، أي الإنسان (كثير بالصور والأشخاص) المختلفة القائمة كلها بتلك العين الواحدة في الزمان الواحد والأزمنة الكثيرة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد علمت قطعا إن كنت مؤمنا أنّ الحقّ عينه يتجلّى يوم القيامة في صورة فيعرف ، ثمّ يتحوّل في صورة فينكر ، ثمّ يتحوّل عنها في صورة فيعرف ، وهو هو المتجلّي - ليس غيره - في كلّ صورة .
ومعلوم أنّ هذه الصّورة ما هي تلك الصّورة الأخرى : فكأنّ العين الواحدة قامت مقام المرآة فإذا نظر النّاظر فيها إلى صورة معتقده في اللّه عرفه فأقرّ به .
وإذا اتّفق أن يرى فيها معتقد غيره أنكره ، كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره فالمرآة عين واحدة والصّور كثيرة في عين الرّائي ، وليس في المرآة صورة منها جملة واحدة .
مع كون المرآة لها أثر في الصّور بوجه ، وما لها أثر بوجه : فالأثر الّذي لها كونها تردّ الصّورة متغيّرة الشّكل من الصّغر والكبر والطّول والعرض ؛ فلها أثر في المقادير ، وذلك راجع إليها).


(وقد علمت) يا أيها الإنسان (قطعا) من غير شك (إن كنت مؤمنا) ، أي مصدقا جازما (أن الحق) تعالى (عينه) ، أي ذاته سبحانه (يتجلى) ، أي ينكشف (يوم القيامة)
لأهل المحشر (في صورة) كما ورد في الحديث الصحيح "" اللفظ للبخاري :  
... فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت،
(وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها)، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون،
فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه، ويضرب جسر جهنم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم......"" رواه الستة وغيرهم .
(فيعرف) ، أي يعرف فيها من كان يعرفه في الدنيا بتلك الصورة (ثم يتحوّل) سبحانه (في صورة) أخرى (فينكر) فيها ، أي ينكره من لم يعرفه فيها في الدنيا (ثم يتحوّل) سبحانه (عنها في صورة) أخرى (فيعرف) فيها ،

لأنه كان يعرف فيها في الدنيا من حيث التصوّر في الخيال ومع ذلك كله (هو) سبحانه وتعالى (هو) على ما هو عليه في الأزل من تنزهه وتقدسه (المتجلي) في تلك الصورة المتحوّل فيها (ليس غيره) أصلا (في كل صورة) تجلى بها وتحوّل عنها إلى غيرها .

(ومعلوم) عند العقل أن هذه الصورة التي تجلى فيها ما هي عين تلك الصورة الأخرى التي تحوّل عنها ونحو ذلك (فكانت العين) ، أي الذات الإلهية واحدة في نفسها (وقد قامت) لأهل المحشر يوم القيامة الناظرين إليها (مقام المرآة) المجلوة الظاهرة لهم كلهم على ما هي عليه من إطلاقها الحقيقي بحيث لا ينضبط منها عند ظهورها أمر من الأمور في الخيال ولا في الحس أصلا لعدم تقيدها من حيث هي بوجه من الوجوه غير ما استعد له الناظر من الصورة الناشئة عن مقدار قوّته في إدراك ما استطاع منها في الدنيا وهي غيب عنه ومات على ذلك فيظهر له منها في حضورها يوم القيامة مقدار ذلك .

(فإن نظر الناظر فيها) ، أي في تلك العين التي هي كالمرآة (إلى صورة معتقده) بصيغة اسم المفعول أي ما كان يعتقده (في اللّه) تعالى في الدنيا ومات على ذلك .

عرفه ، أي عرف معتقده الذي مات عليه (فأقر) ، أي اعترف (به) أنه ربه تعالى .
(وإذا اتفق أن يرى فيها) ، أي في تلك العين التي كالمرآة (معتقد) ، أي ما يعتقده (غيره) من صورة استعداد ذلك الغير (أنكره) أن يكون ربه وتعوّذ منه كما ورد في الحديث .
وقد ذكرنا فيما مر وغيره بعكسه (كما يرى) الإنسان (في المرآة) المجلوة (صورته و) يرى أيضا (صورة غيره فيها فالمرآة عين واحدة) لم تتغير أصلا في نفسها ، وإن ظهرت فيها الصور المختلفة وتحوّلت منها وعادت إليها ،

وإنما التغير والتحوّل والاختلاف في الصور فقط لا في المرآة (والصور) الظاهرة في المرآة (كثيرة في عين الرائي وليس) حالا (في) تلك (المرآة صورة منها) ، أي من تلك الصور الكثيرة (جملة واحدة مع كون المرآة لها) أثر محقق في ظهور تلك (الصور) فيها (بوجه) إذ لولا وجود المرآة ما كانت تلك الصور والأشكال الظاهرة أصلا ( وما لها) ،

أي لتلك المرآة أثر في الصور أصلا (بوجه) آخر ، لأن المرآة خالية من تلك الصور الظاهرة فيها ، فهي على ما هي عليه كانت لم تتغير عن حالها الأصلي بحركة ولا سكون ولا انحراف ولا أمر من الأمور حتى ظهرت فيها تلك الصور .

(فالأثر الذي لها) ، أي للمرآة في الصور الظاهرة فيها (كونها) ، أي المرآة المذكورة ترد ، أي ترجع الصورة الظاهرة فيها من الشيء الذي يقابلها متغيرة الشكل عما هي عليه في ذات ذلك الشيء المقابل لها من الصغر كالمرآة الصغيرة تظهر فيها الصور الكبار صغار والكبر كالمرآة الكبيرة تظهر فيها الصور الكبار كبارا على أصلها (والطول) هكذا في المرآة الطويلة تظهر فيها الصور المستديرة طويلة (والعرض) كذلك في المرآة العريضة (فلها) ، أي للمرآة من حيث حضراتها التي هي عليها أثر ظاهر منها (في المقادير) ، أي مقادير الصور الظاهرة فيها وذلك الأثر (راجع) من حيث الظهور (إليها) ، أي إلى المرآة لا إلى تلك الصور فالصور في نفسها على ما هي عليه وقد ظهرت المرآة من تلك الصور بما اقتضت حضراتها أن تظهر به لعين الرائي من صغر الصور أو كبرها أو طولها أو عرضها .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإنّما كانت هذه التّغييرات منها لاختلاف مقادير المرائي .
فانظر في المثال مرآة واحدة من هذه المرائي ، لا تنظر الجماعة ، وهو نظرك من حيث كونه ذاتا . فهو غنيّ عن العالمين ؛ ومن حيث الأسماء الإلهيّة فذلك الوقت يكون كالمرائي .
فأيّ اسم إلهي نظرت فيه نفسك أو من نظر ، فإنّما يظهر للنّاظر حقيقة ذلك الاسم .
فهكذا هو الأمر إن فهمت . فلا تجزع ولا تخف فإنّ اللّه يحبّ الشّجاعة ولو على قتل حيّة)

(وإنما كانت هذه التغييرات) في الصور (منها) ، أي من تلك العين الواحدة التي هي كالمرآة (لاختلاف مقادير المرائي) الموجودة في تلك العين الواحدة ، أي الموجودة المختلفة فكل إنسان ناظر إلى مرآة مخصوصة هي حضرة اسم من أسمائها ، فلها فيه صورة مخصوصة (فانظر) يا أيها السالك (في المثال) المذكور (مرآة واحدة من) جملة (هذه المرائي) المذكورة (لا تنظر الجماعة) من المرائي كلها (وهو) ، أي ذلك النظر المخصوص (نظرك) إليه تعالى (من حيث كونه) سبحانه
(ذاتا فهو) تعالى من هذا الوجه (غني عن العالمين)، أي لا افتقار له ولا احتياج إلى شيء منهم أصلا .

وأما نظرك (من حيث الأسماء الإلهية) المتجلي بها سبحانه على كل شيء فهو ظاهر بصورة كل شيء (فذلك الوقت يكون) تعالى من تلك الحيثية (كالمرائي) الكثيرة المختلفة كل اسم منها بمنزلة المرآة المستقلة (فأي اسم إلهي) من ذلك (نظرت فيه نفسك) من حيث هو كالمرآة المجلوة أو نظرت (من نظر) فيه نفسه من غيرك (فإنما يظهر) من ذلك (في) عين (الناظر حقيقة ذلك الاسم) الإلهي بمقتضى ما هو عليه تلك الصورة من الحالة المخصوصة

(فكهذا) ، أي كما ذكرنا (هو الأمر) الإلهي عليه في نفسه والشأن الرباني (إن فهمت) يا أيها السالك ما قد ذكرنا (فلا تجزع) ، أي لا يقل صبرك (ولا تخف) من تحقيق هذه المعاني الإلهية والأسرار الربانية وإن أزالت ما عندك من الجهل الذي كان بمقتضى نظرك القاصر (فإن اللّه) تعالى (يحب الشجاعة) ، أي قوّة القلب في جميع الأمور (ولو على قتل حية) يجدها الإنسان .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليست الحيّة سوى نفسك . والحيّة حيّة لنفسها بالصّورة والحقيقة . والشّيء لا يقتل عن نفسه . وإن أفسدت الصّورة في الحسّيّ فإنّ الحدّ يضبطها والخيال لا يزيلها .
وإذا كان الأمر على هذا فهذا هو الأمان على الذّوات والعزّة والمنعة ، فإنّك لا تقدر على إفساد الحدود . وأيّ عزّة أعظم من هذه العزّة ؟ )

(وليست الحية) التي يحب اللّه تعالى الشجاعة في قتلها (سوى نفسك) وهي أنانيتك الوهمية والحية التي هي نفسك (حية لنفسها فليس كونها حية موقوفا عليك فهي حية (بالصورة) ، أي بسبب الصورة التي لها مما يظهر منها الأذى وبسبب (الحقيقة) ، أي ماهيتها التي هي الحيوان المؤذي والشيء لا يقتل بالبناء للمفعول بحيث يهلك (عن نفسه) ،

أي بسبب الصورة تفسد نفسه وتتلف وتنعدم وإنما يقتل غيره وهو صورة الجسد (فإن أفسدت الصورة) الإنسانية الجسمانية الظاهرة (في الحس) فليس ذلك فساد النفس (فإن الحد) ، أي التعريف الذاتي للنفس بأنها الحيوان المؤذي لاتصافها بالغفلة عن خالقها (يضبطها) بعد الموت ، لأنها ليست بعرض حتى تفسد بفساد صورة الجسد ، بل هي باقية بعد الموت وبعد فساد صورة جسدها بالوصف التي كانت فيه حال تصوّرها بالجسد من خير وشر ،

فالغفلة لا تفارقها لم تزل عنها في الحياة الدنيا بالرياضة الشرعية والمعرفة الإلهية (والخيال) الذي كان لها في حياتها وهي منتقشة فيه بجميع أحوالها فإنه (لا يزيلها) ، أي يرفعها منه بعد الموت بل تبقى فيه متخيلة عنده كما كانت (وإذا كان الأمر) في نفسه (على) مقتضى (هذا) الكلام المذكور (فهذا) الحال الذي للنفوس بعد الموت (هو الأمان على الذوات) ، أي نفوس الأشياء كلها حيث قلنا بحياتها وإدراكاتها لأنها مسبحة ، فلا تفسد نفوسها بما هي عليه من الأحوال أصلا وإن فسدت صورها الظاهرة وتفرقت أجزاؤها وفنيت .

وهذه الحالة أيضا هي (العزة) ، أي الرفعة لتلك النفوس (والمنعة) بالكسر أي الحماية والصون لها من الزوال والاضمحلال (فإنك) يا أيها الإنسان (لا تقدر على إفساد الحدود) ، أي التعاريف الذاتية التي للنفوس وهي ماهيتها المقوّمة لها بإفساد أجسادها (وأي عزة) لها (أعظم من هذه العزة ؟) بحيث لا يقدر قاتلها على قتلها ولا إفسادها وإتلافها .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فتتخيّل بالوهم أنّك قتلت ، وبالعقل والوهم لم تزل الصّورة موجودة في الحدّ .
والدّليل على ذلك :"وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى" [ الأنفال : 17 ] .
والعين ما أدركت إلّا الصّورة المحمّديّة الّتي ثبت لها الرّمي في الحسّ ، وهي الّتي نفى اللّه الرّمي عنها أوّلا ثمّ أثبته لها وسطا ، ثمّ عاد بالاستدراك أنّ اللّه هو الرّاميّ في صورة محمّديّة ، ولا بدّ من الإيمان بهذا .
فأنظر إلى هذا المؤثّر حتّى أنزل الحقّ في صورة محمّديّة . وأخبر الحقّ نفسه عباده بذلك ، فما قال أحد منّا عنه ذلك بل هو قال عن نفسه ، وخبره صدق والإيمان به واجب ، سواء أدركت علم ما قال أو لم تدركه ؛ فإمّا عالم ، وإمّا مسلم مؤمن . )

فتتخيل يا أيها الإنسان بالوهم ، أي بسبب القوّة الواهمة المستولية عليك أنك قتلت ، أي نفسك وأفسدتها وأعدمتها وبالعقل والوهم أيضا لم تزل الصورة النفسانية منك موجودة على ما هي عليه في الحد الذاتي أي تعريفها بماهيتها وإن فسدت صورة جسدها واضمحلت ،
ولولا أن النفوس صور الحق تعالى الظاهر بها للأبد بحيث لا تضمحل ولا تزل ما كان لها هذه العزة والمنعة عن أن يصل إليها فساد أو يتطرق إليها فناء أو زوال إلا فيه تعالى كما هو وصفها الحقيقي .

والدليل على ذلك الأمر المذكور قوله تعالى عن نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم لما أخذ كفا من تراب ورمى به في وجوه الأعداء في بعض الغزوات .
وقال : « شاهت الوجوه » .  رواه مسلم وابن حبان في صحيحه ورواه غيرهما .
فانهزموا ولم يبق أحد منهم إلا وصل التراب في عينيه (" وَما رَمَيْتَ") من حيث أن صورتك للّه تعالى تجلى بها ("إِذْ رَمَيْتَ") من حيث أن صورتك لك ظهرت بها ("وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى") الأنفال : 17 ] من حيث أن الصورة له ولهذا اخترق العادة في هزم الأحزاب وإيصال التراب وذلك قوله عليه السلام : " وهزم الأحزاب وحده ولا شيء قبله ولا شيء بعده.قال المحقق : رواه ابن سلام في الأموال

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالأربعاء فبراير 19, 2020 11:35 pm

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي  

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم 

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية       الجزء الثالث

""أضاف الجامع : من الشواهد عليه
1- حديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، ولا شيء بعده". رواه احمد بالمسند
2 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:" لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده ولا شيء بعده" رواه الجوزي في جامع المسانيد و شهاب الدين أحمد في إتحاف الخيرة المهرة . ""

(والعين) الناظرة من الحاضرين (ما أدركت) في الظاهر (إلا الصورة المحمدية) ، أي المنسوبة إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم (التي ثبت لها الرمي المذكور (في الحس وهي) ، أي تلك الصورة المحمدية (التي نفى اللّه تعالى (الرمي) المذكور (عنها أوّلا) بقوله سبحانه :وَما رَمَيْتَ، أي في نفس الأمر (ثم أثبته) ، أي الرمي سبحانه (لها) ، أي للصورة المحمدية (وسطا) ، أي ثانيا في وسط الكلام بقوله :إِذْ رَمَيْتَ، أي بحسب ما يظهر منك للحس .

(ثم عاد) تعالى (بالاستدراك) آخرا وثالثا إن اللّه تعالى (هو الرامي) وحده (في صورة محمدية) ظاهرة فقال تعالى ولكن اللّه رمى ، أي في نفس الأمر ، لأنه "هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ"[ الحديد : 3 ] .
وقال تعالى أيضا في هذه الآية قبل ذلك في حق الصحابة رضي اللّه عنهم لما كانوا يفتخرون بقتل المشركين في تلك الغزوة فيقول الرجل : أنا قتلت خمسة ،
ويقول الرجل : أنا قتلت عشرة ونحو ذلك على حسب ما ورد في الخبر عنهم .

فقال تعالى لهم كما قال لنبيه عليه السلام :فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ[ الأنفال : 17 ] ، أي من حيث أن صوركم ليست لكم ولكن اللّه قتلهم ،
أي من حيث أن صوركم للّه تعالى تجلى بها فقتل المشركين ، ولم يقل لهم إذ قتلتموهم
كما قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم : إذ رميت لأنهم لا يحتاجون إلى إثبات الفرق ، لأنه أصل فيهم فلا يتكلفون لشهوده بخلاف النبي صلى اللّه عليه وسلم ،
فإنه لولا إثبات الفرق له بقوله :إِذْ رَمَيْتَ لوقف في أصله وهو الجمع ، فنفى الفعل عنه بالكلية وأثبته للّه تعالى وحده فقط ،
والكمال بالجمع في الفرق والفرق في الجمع ولا بد من الإيمان ، أي التصديق بهذا الأمر المذكور لأنه قرآن منزل وهو حق لا شبهة فيه فانظر يا أيها السالك إلى هذا المؤثر في رميه المذكور حتى أنزل الحق وهو وجوده تعالى أي أظهره للحس في صورة محمدية يراها كل أحد ولا يعرفها إلا العارفون ويجحده الجاهلون.

قال تعالى :وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [ الأعراف : 198 ] .
وقال عليه السلام : "من رآني فقد رأى الحق " . رواه احمد بالمسند
وأخبر الحق تعالى نفسه تأكيد للحق عباده مفعول أخبر بذلك ، أي أنه تعالى حق في صورة محمدية كما هو مضمون الآية المذكورة فما قال أحد منا معشر العباد عنه تعالى ذلك الأمر المذكور بل هو سبحانه قال ذلك عن نفسه في كلامه القديم المنزل على نبيه صلى اللّه عليه وسلم وخبره تعالى صدق من غير شبهة كما قال سبحانه :"وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا"[النساء : 122].

(والإيمان) ، أي التصديق (به) ، أي بما قاله تعالى عن نفسه من ذلك (واجب) ، أي فرض على المكلفين بحيث يكفر منكره والشاك فيه (سواء أدركت) يا أيها الإنسان (علم) ، أي مفهوم معنى (ما قال) تعالى من ذلك فإنه يجب الإيمان بذلك العلم المذكور (أو لم تدركه) ، أي علم ما قال سبحانه (فإما) أنك (عالم) بذلك القول الإلهي (وإما مسلم) ، أي مذعن له (مؤمن) ،

أي مصدق به والجاحد له كافر لا محالة والمتأوّل مبتدع لعدوله عن الحق القرآني المؤيد بالسنة من غير ضرورة وليس القصور عن أحوال الكاملين وأذواق السالكين بعد رقي التأويل خصوصا ممن يدعي العلم وينسب نفسه إلى معرفة الكتاب والسنة وليس له حال رباني ولا كشف وجداني فإن الإسلام له أسلم والإيمان بحاله أحكم واللّه أعلم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وممّا يدلّك على ضعف النّظر العقليّ ، من حيث فكره ، كون العقل يحكم على العلّة أنّها لا تكون معلولة لمن هي علّة له حكم العقل لا خفاء به ، وما في علم التّجلي إلّا هذا ، وهو أنّ العلّة تكون معلولة لمن هي علّة له .
والّذي حكم به العقل صحيح مع التّحرير في النّظر ؛ وغايته في ذلك أن يقول إذا رأى الأمر على خلاف ما أعطاه الدّليل النّظريّ ؛ إنّ العين بعد أن ثبت أنّها واحدة في هذا الكثير ، فمن حيث هي علّة في صورة من هذه الصّور لمعلول ما ، فلا تكون معلولة لمعلولها ، في حال كونها علّة ، بل ينتقل الحكم بانتقالها في الصّور ، فتكون معلولة لمعلولها ، فيصير معلولها علّة لها . هذا غايته إذا كان قد رأى الأمر على ما هو عليه ، ولم يقف مع نظره الفكريّ . )

(ومما يدلك) يا أيها السالك (على ضعف) ، أي قصور وعجز (النظر العقلي من حيث فكره) ، أي العقل وهو الذي يتمسك به المتأوّلون ممن يدعي علوم الأوراق وهو محروم من علوم الأذواق ، فيعدلون عن ظواهر الكتاب والسنة بلا ضرورة تقتضي ذلك غير قصورهم عن مواجيد الرجال وتشتيت أحوالهم في حب الدنيا وكثرة الانكباب على مطالعة القيل والقال (كون العقل) من كل أحد (يحكم على العلة) كحركة اليد مثلا علة لحركة الخاتم الذي فيها ، يلزم من وجودها وجود حركة الخاتم بطريق التأثير ليخرج السبب ، فإنه كذلك بلا تأثير (إنها) ،

أي تلك العلة (لا تكون معلولة) أيضا (لمن هي علة له) فينعكس الأمر برجوع المعلول علة ،

والعلة معلولا فتصير حركة الخاتم علة لحركة اليد هذا الأمر المذكور (حكم العقل لا خفاء فيه) عند العقلاء أصلا (وما في علم التجلي) الإلهي عند العارفين المحققين من أهل اللّه تعالى (إلا هذا) بعكس النظر العقلي (وهو أن العلة تكون معلولة) دائما (لمن هي علة له) كأسماء اللّه تعالى علل للآثار المخلوقة تقتضي إيجادها وكذلك الآثار المخلوقة في حال كونها معلولة لها هي علل للأسماء الإلهية تقتضي تميزها عن الذات الإلهية وإفرازها بالمعاني المختلفة وتميز بعضها عن بعض عند المؤمنين العارفين ،

وإن كانت تلك الأسماء الإلهية قديمة ، فإن تلك الآثار قديمة أيضا في العلم القديم الإلهي وفي أحكام القضاء والقدر والكلام القديم لكن لا أعيان لها متميزة بالوجود في تلك الحضرات ، كما أن الأسماء قبل ظهور آثارها لا تمييز لها عن الذات الإلهية ، ولا تمييز لبعضها عن بعض أيضا .

والحكم الذي (حكم به العقل) من أن العلة لا تكون معلولة لمن هي علة له (صحيح) أيضا (مع التحرير ، أي الاتقان (في النظر) الفكري بالنسبة إليه فإنه يقتضي ذلك (وغايته) ، أي النظر (في ذلك) الحكم المذكور (أن يقول) ، أي العاقل (إذا رأى الأمر) في هذا الحكم (على خلاف ما أعطاه الدليل النظري) على وجه النقص له (أن العين) ، أي الذات الواحدة (بعد أن ثبت أنها واحدة في هذا) الأمر (الكثير) الصور (فمن حيث هي) ، أي تلك العين الواحدة (علة في صورة من هذه الصور) الكثيرة (لمعلول ما) ينسب إلى تلك الصورة من حركة أو سكون مثلا (فلا تكون) ، أي تلك العين الواحدة (معلولة لمعلولها) الذي ينسب إلى تلك الصورة (في حال كونها) ، أي تلك العين الواحدة (علة له) ، أي لذلك المعلول المذكور (بل ينتقل الحكم) في تلك العين الواحدة (بانتقالها) ،

أي انتقال تلك العين أي تكرار ظهورها واستتارها ( في الصور) الكثيرة (فتكون حينئذ (معلولة لمعلولها) المذكور في حال آخر غير الأوّل لانتقال الحكم فيها (فيصير معلولها) المذكور (علة لها) من وجه آخر غير وجه ما هو معلول لها (هذا غايته) ، أي النظر العقلي في إدراك هذه المسألة كالواحد من العشرة مثلا علة لكونها عشرة من وجه ، فهي معلولة له وهو علتها وهي أيضا علة لكونه جزءا من وجه آخر غير وجه كونها عشرة ، بل وجه كونها مركبة ، وليس التركيب خاصا بها بل موجود فيما زاد على الواحد ، فالواحد معلول لها من هذا الوجه أكثر من ذلك لا يدرك العقل في هذا الحكم (إذا كان) ،

أي العاقل (قد رأى الأمر) في هذه القضية (على ما هو عليه) بأن وجد علة المعلول وهي معلولة له (ولم يقف) في ذلك (مع نظره الفكري) المقتضي عنده لامتناع ذلك فإنه يحكم باختلاف الجهة ولا يسعه الحكم باتحادها وإذا اتسع نظره وأبطل العلة من أحد الطرفين فلا إشكال عنده حينئذ .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا كان الأمر في العلّية بهذه المثابة ، فما ظنّك باتّساع النّظر العقلي في غير هذا المضيق ؟
فلا أعقل من الرّسل صلوات اللّه عليهم وقد جاؤوا بما جاؤوا به في الخبر عن الجناب الإلهي ، فأثبتوا ما أثبته العقل وزادوا بما لا يستقلّ العقل بإدراكه وما يحيله العقل رأسا ويقرّ به في التّجلّي الإلهي .
فإذا خلا بعد التّجلّي بنفسه حار فيما رآه : فإن كان عبد ربّ ردّ العقل إليه ، وإن كان عبد نظر ردّ إلى حكمه .
وهذا لا يكون إلّا ما دام في هذه النّشأة الدّنياوية محجوبا عن نشأته الأخراويّة في الدنيا . فإنّ العارفين يظهرون ههنا كأنّهم في الصّور الدّنياويّة لما يجري عليهم من أحكامها ، واللّه تعالى قد حوّلهم في بواطنهم في النّشأة الأخراويّة ، لا بدّ من ذلك . فهم بالصّورة مجهولون إلّا لمن كشف اللّه عن بصيرته فأدرك . )

(وإذا كان الأمر في العلة) عند العقل (بهذه المثابة) يتسع فيها بنظره الفكري تارة ويضيق أخرى (فما ظنك) يا أيها السالك (باتساع النظر العقلي في غير هذا) الأمر (المضيق) من أمور الغيب الأخروي ونحوه (فلا أعقل) ، أي أكثر عقلا (من الرسل) والأنبياء (صلوات اللّه) وسلامه (عليهم وقد جاؤوا) من عند اللّه تعالى بما

(جاؤوا به في الخبر) ، أي في الإخبار (عن الجناب الإلهي) مما يتعقل بمقتضيات الرضوان والغضب منه تعالى في الأحكام الشرعية ، وما يتعلق بأمور الآخرة والبرزخ وأخبار الأمم الماضية والآتية قبل يوم القيامة (فأثبتوا) لأممهم من ذلك (ما أثبته العقل وزادوا) عليه (بما لا يستقل العقل بإدراكه) بل يحتاج في إدراكه إلى معونة من الخبر (وما يحيله) ، أي يحكم باستحالته (العقل رأسا وإنما يقر) العقل (به) ، أي بذلك المستحيل (في) حالة (التجلي) ، أي الانكشاف (الإلهي) عليه .

(فإذا خلا) ، أي العقل (بعد التجلي) الإلهي (بنفسه حار) ، أي العقل يعني أدركته الحيرة (فيما) ، أي في الأمر الذي رآه من ذلك المستحيل عنده (فإن كان) ، أي صاحب العقل بعد ذلك في حال غفلته (عبد رب) ، أي تابعا لربه سبحانه في كل ما أشكل عليه مفوضا في جميع أموره إليه رد ، أي رجع (العقل) الحاكم منه باستحالته ذلك الأمر وامتناعه (إليه) ، أي إلى ربه تعالى ووقف مع إسلامه لذلك وإيمانه به (وإن كان ، أي صاحب العقل (عبد نظر) فكري ، أي تابعا لنظره الفكري معتمدا عليه في جميع أمور دينه ودنياه كعلماء الظاهر المحجوبين عن معرفة ربهم الذوقية ومن تابعهم رد ، أي أرجع (الحق) الذي حار فيه (إلى حكمه) ، أي حكم نظره الفكري وفهمه بمقتضى عقله وجزم به كذلك .

(وهذا) الأمر المذكور (لا يكون) من العبد (إلا ما دام) واقفا (في هذه النشأة ) الظاهرة للحس والعقل (محجوبا عن) القيام بحكم (نشأته) ، أي خلقته (الأخروية) الغيبية وهو كائن (في) حال الحياة (الدنيا) قبل موته منها وانتقاله إلى البرزخ كما قال سبحانه عمن هذا حاله "يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ"[ الروم  : 7].


(فإن العارفين) باللّه تعالى القائمين بأمره سبحانه بعد العبور عن عالم الخلق (يظهرون ههنا) في هذه الدار الدنيا بين الناس (كأنهم) ،
أي حالهم الظاهر منهم للغافلين المحجوبين يشبه أنهم مثلهم قائمون (في الصور) الخلقية (الدنيوية) الجامدة في العقل والحس (لما يجري عليهم) ، أي على ظواهرهم (من أحكامها) ،

أي الصورة الدنيوية من أكل وشرب ونوم وجماع وطاعة ومعصية ومرض وموت ونحو ذلك (واللّه تعالى قد حوّلهم) ، أي العارفين (في بواطنهم) في الدنيا (في النشأة الأخروية) لقيامهم بأمره تعالى ومفارقتهم أحوال الخلق عن كشف منهم وشهود (لا بد من) ثبوت (ذلك) لهم في طور المعرفة الذوقية .

(فهم) ، أي العارفون (بالصورة) الإنسانية ، أي بسببها وسبب أحكامها الدنيوية (مجهولون) بين الناس كما قال تعالى :" وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ" [ الفرقان : 7 ] ،
وقالوا :ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ( 34 ) [ المؤمنون : 33 - 34 ] ،
وقالوا :إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً[ المؤمنون : 38 ] ، 
وقالوا لرسلهم :ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ[ يس : 15]

مع أن القائلين من العقلاء البالغين والمقول لهم ذلك من أكمل أهل الأنوار الإلهية وأفضل أولى الصفوة والخصوصية ، فكيف بمن دونهم من أهل الولاية والوراثة المحمدية (إلا لمن كشف اللّه) تعالى (عن بصيرته) من الناس (فأدرك) مقامات الرجال وميز مراتب أهل الكمال كما وفق اللّه تعالى في الزمان السابق جماعة للإيمان بالأنبياء عليهم السلام فجعلهم عمدة في نقل الحق والشرع وتبليغه بعدهم للأمم المؤمنين بهم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (فما من عارف باللّه من حيث التّجلّي الإلهيّ إلّا وهو على النّشأة الآخرة : قد حشر في دنياه ونشر من قبره ؛ فهو يرى ما لا يرون ويشهد ما لا يشهدون ، عناية من اللّه تعالى ببعض عباده في ذلك .
فمن أراد العثور على هذه الحكمة الإلياسيّة الإدريسيّة الّذي أنشأه اللّه نشأتين ، فكان نبيّا قبل نوح عليه السّلام ، ثمّ رفع ونزل رسولا بعد ذلك ، فجمع اللّه له بين المنزلتين فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته ، وليكن حيوانا مطلقا حتّى يكشف ما تكشفه كلّ دابّة ما عدا الثّقلين ؛ فحينئذ يعلم أنّه قد تحقّق بحيوانيّته .
وعلامته علامتان الواحدة هذا الكشف ، فيرى من يعذّب في قبره ومن ينعّم ، ويرى الميّت حيّا والصّامت متكلّما والقاعد ماشيا . والعلامة الثّانية الخرس بحيث إنّه لو أراد أن ينطق بما رآه لم يقدر فحينئذ يتحقّق بحيوانيّته . وكان لنا تلميذ قد حصل له هذا الكشف غير أنّه لم يحفظ عليه الخرس فلم يتحقّق بحيوانيّته . ولمّا أقامني اللّه في هذا المقام تحقّقت بحيوانيّتي تحقّقا كلّيا . فكنت أرى وأريد أن أنطق بما أشاهده فلا أستطيع ؛ فكنت لا أفرّق بيني وبين الخرس الّذين لا يتكلّمون . )

(فما من عارف باللّه) تعالى في كل زمان إلى يوم القيامة (من حيث التجلي الإلهي) عليه وانكشاف الأمر الرباني له (إلا وهو) ، أي ذلك العارف قائم (على النشأة) ، أي الخلقة (الأخروية) التي قال تعالى :وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى [ النجم : 47 ] ،

وذلك لأنه قد مات بالموت الاختياري ، وقبر في ترابه الذي خلق منه وسئل في قبره وتنعم بنعيم القبر وفني جسمه وتفرقت أجزاء تركيبه ونفخ في صوره (وقد حشر) في أرض القيامة كل ذلك وهو (في دنياه) بين الغافلين ولا يشعرون به (ونشر) ، أي خرج (من قبره إلى عالم آخرته (فهو) ، أي ذلك العارف يرى كشفا بحسه وعقله (ما لا يرون) ، أي الناس (ويشهد) ، أي يعاين من عوالم غيب الملكوت والملك (ما لا يشهدون) ، أي الناس وهذا (عناية من اللّه تعالى) ، أي محض فضل ومنة واعتناء (ببعض عباده) تعالى المؤمنين في ذلك الأمر المذكور فمن أراد العثور) ،

أي الاطلاع (على هذه الحكمة) الإلهية (الإلياسية الإدريسية) ، أي المنسوبة إلى إلياس الذي هو إدريس عليه السلام (الذي أنشأه) ، أي خلقه (اللّه تعالى نشأتين) ، أي مرتين (فكان) إدريس عليه السلام (نبيا) فقط (قبل نوح عليه السلام) فهو أحد أجداد نوح عليه السلام واسمه يومئذ إدريس عليه السلام (ثم رفع) إلى السماء الرابعة كما قال تعالى :وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [ مريم : 57 ] 

وقد ذكر المصنف قدس اللّه سره فص حكمته فيما تقدم بعد فص حكمة نوح عليه السلام ونزل ، أي إدريس عليه السلام من السماء (رسولا بعد ذلك) الرفع إلى أهل قرية بعلبك كما مر ذكره وكان اسمه حينئذ إلياس عليه السلام .

وذكر المصنف قدس اللّه سره هذا الفص لبيان حكمته (فجمع اللّه) تعالى (له) ، أي لإدريس عليه السلام (بين المنزلتين) ، أي منزلة النبوّة أوّلا قبل نوح عليه السلام من غير رسالة ، ومنزلة الرسالة أيضا مع النبوّة بعد نوح عليه السلام (فلينزل) ،
أي أداء العثور على ذلك (عن حكم عقله) عليه بالكلية إلى حكم (شهوته) عليه بما تقتضيه في التناول المباح دون المحظور عليه وليكن في ذلك الحال (حيوانا مطلقا) ،

أي في جميع أموره الظاهرة والباطنة (حتى يكشف) من غيب الملكوت (ما تكشفه كل دابة من الحيوانات (ما عدا الثقلين) ، أي الإنس والجن (فحينئذ يعلم) ، أي ذلك الذي يريد العثور والاطلاع إذا فعل كذلك أنه قد تحقق بحيوانيته في نفسه وخرج عن حكم عقله بالكلية (وعلامته) ،

أي علامة من تحقق بحيوانيته (علامتان) العلامة (الواحدة هذا الكشف) المذكور عما تكشفه كل دابة ما عدا الثقلين (فترى من يعذب في قبره ومن ينعم) في قبره ولا يحجبه عن شهود ذلك إدراك عقله ، لأنه قد تجرد عن حكمه ، ولا يحجب العقلاء عن أمور الغيب والملكوت إلا دخولهم تحت أحكام عقولهم في ظواهرهم وبواطنهم .

(ويرى الميت) المقبور وغيره (حيا و) يرى (الصامت) من حجر أو شجر (متكلما) بنطق عربي فصيح ويرى (القاعد) من الناس وغيرهم (ماشيا) قبل إتيان الزمان الذي قدر مشيه فيه (والعلامة الثانية من ذلك الخرس ، أي عدم القدرة على النطق بالكلية مع سلامة آلة النطق (بحيث أنه لو أراد أن (ينطق بما رآه) من تلك الأمور الملكوتية (لم يقدر) على ذلك من غلبة الحيوانية عليه (فحينئذ) ، أي إذا كان بهذه المثابة فإنه (يتحقق بحيوانيته) كما ذكر .

وقال المصنف قدس اللّه سره : (كان لنا تلميذ) ، أي مريد خادم لطريقنا طالب لعلمنا منا (قد حصل له هذا الكشف) المذكور في العلامة الأولى للتحقق بالحيوانية (غير أنه) ، أي ذلك التلميذ (لم يحفظ عليه الخرس) فكان ينطق ببعض ما يرى من ذلك لفوت العلامة الثانية منه (فلم يتحقق بحيوانيته) على الوجه التام (ولما أقامني اللّه) تعالى .

قال المصنف عن نفسه قدس اللّه سره (في هذا المقام ، أي مقام الكشف المذكور (تحققت بحيوانيتي) في (نفسي تحققا كليا) فكنت في تلك الحال أرى ببصري وببصيرتي (وأريد أن أنطق بما أشاهده) من تلك الأمور (فلا أستطيع) لكمال تحققي بالحيوانية (فكنت لا أفرّق بيني وبين) القوم (الخرس) جمع أخرس (الذين لا يتكلمون) لعدم قدرتهم على الكلام .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا تحقّق بما ذكرناه انتقل إلى أن يكون عقلا مجرّدا في غير مادّة طبيعيّة ، فيشهد أمورا هي أصول لما يظهر في الصّور الطّبيعيّة فيعلم من أين ظهر هذا الحكم في الصّور الطّبيعيّة علما ذوقيّا .
فإن كوشف على أنّ الطّبيعيّة عين نفس الرّحمن فقد أوتي خيرا كثيرا .
وإن اقتصر معه على ما ذكرناه فهذا القدر يكفيه من المعرفة الحاكمة على عقله : فيلحق بالعارفين ويعرف عند ذلك ذوقا :فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ[ الأنفال : 17 ] .
وما قتلهم إلّا الحديد والضّارب والّذي خلف هذه الصّور . فبالمجموع وقع القتل والرّمي ، فيشاهد الأمور بأصولها وصورها .
فيكون تامّا . فإن شهد النّفس كان مع التّمام كاملا : فلا يرى إلّا اللّه سبحانه عين ما يرى . فيرى الرّائي عين المرئيّ . وهذا القدر كاف ، واللّه الموفّق الهادي .)


(فإذا تحقق) السالك (بما ذكرنا) من حيوانيته على التمام انتقل بعد ذلك إلى أن يكون عقلا مجردا ، أي خالصا قائما (في غير مادة )، أي صورة طبيعية عنصرية فيشهد عند ذلك أمورا كثيرة ملكوتية هي أصول لما يظهر في الصور الطبيعية العنصرية كأرواح الكواكب المسلطة على تدبير الأجسام الإنسانية والحيوانية والنباتية والجمادية وأسرار الحفظة الكرام الكاتبين الذين هم في مواد الأعمال الإنسانية ، وأنوار القبض والبسط والجلال والجمال الساري في عالم القلوب والنفوس البشرية وغير ذلك .

(فيعلم) بذلك (من أين يظهر هذا الحكم) الإلهي المطلق (في الصور الطبيعية) العنصرية مع بعد المناسبة بينهما (علما ذوقيا) ، أي مستندا إلى الذوق وهو الوجدان (فإن كوشف) في هذا المقام بأن كاشفه الحق تعالى أي كشف له (على أن الطبيعة) الكلية السارية في مجموع العالم مادة له في جميع الصور الحسية والعقلية (عين نفس) بفتح الفاء (الرحمن) الوارد في الحديث كما مر ذكره (فقد أوتي) ، آتاه اللّه تعالى (خيرا كثيرا) ، لأن ذلك الكشف حصل له بالنور الذاتي الذي قال تعالى :اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ[ النور : 35 ].

 وهذا النور الذاتي إذا سرى في كلية العبد أبطلها وقام بنفسه فيها ، فكان هيولى كل شيء وتحقيق بالغيب غيبا وبالشهادة شهادة وحاز مرتبة الكمال المطلق للحق بالنقص المحقق للعبد .

(وإن اقتصر) ، أي السالك (معه) ، أي مع عقله المجرد (على ما ذكرنا) من ذلك الكشف السابق (فهذا القدر يكفيه من المعرفة) باللّه تعالى الصحيحة (الحاكمة على عقله) في رتبة التنزيه بالكشف عن حكم الظهور في صور الطبيعة (فيلحق) ، أي صاحب هذه المعرفة المذكورة (بالعارفين) الكاملين (ويعرف عند ذلك ذوقا) ، أي وجدانا من نفسه معنى قوله تعالى : ("فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ") [ الأنفال : 17 ] ،

أي المشركين والخطاب للصحابة رضي اللّه عنهم مع أنهم قتلوهم في الظاهر للحس (ولكن الله قتلهم) بكم وبأسلحتكم (وما قتلهم) بحسب ما يظهر لكل أحد (إلا الحديد) وهو السيف والرمح ونحو ذلك (والضارب) بالحديد وهم الصحابة رضي اللّه عنهم ، والعالم النفساني والروحاني والأمر الإلهي الرباني (والذي خلق هذه الصور) . " وفي نسخة : والذي خلف هذه الصور بدل  الذي خلق هذه الصور".

المذكورة (فبالمجموع) من ذلك كله (وقع القتل) للمشركين من الصحابة رضي اللّه عنهم (و) كذلك (الرمي) من النبي صلى اللّه عليه وسلم .

(فيشاهد) صاحب هذه المعرفة المذكورة جميع (الأمور بأصولها) الروحانية (وصورها) الطبيعية والعنصرية (فيكون) عارفا (تاما) ، أي غير ناقص المعرفة (فإن شهد) مع ذلك عين (النفس) بفتح الفاء الرحماني كما ذكر (كان مع التمام) في المعرفة (كاملا )،

أي زائدا المعرفة فائضا مكملا لغيره (فلا يرى) في هذا الوجود (إلا اللّه تعالى) فيرى (عين ما يرى) من كل محسوس ومعقول وموهوم مع تميزه تعالى عنده عنها بالوجود المطلق على ما هو عليه أزلا وأبدا ،

وتميزها عنه تعالى بصورها الثابتة في حضرة علمه القديم من غير وجود لها أصلا (فيرى) ببصره وبصيرته الرائي منه ومن غيره هو (عين المرئي) منه ومن غيره ويتحقق بالجمع والفرق (وهذا القدر كاف) في المعرفة (واللّه الموفق والهادي) في النهايات والمبادئ .  

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مارس 12, 2020 2:19 am

23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي  

الفص اللقماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية                    الجزء الأول              
هذا فص الحكمة اللقمانية ، ذكره بعد حكمة إلياس الذي هو إدريس عليه السلام لأن الكلام فيه عن ظهور الحق تعالى في عين كل معلوم ، وتقرير ذلك بإشارات القرآن وعبارات الفرقان ، وحكمة إلياس عليه السلام مشتملة على ذلك ، فهي تكميل لها وتتميم لبيان ما ذكر فيها ، ولأن إلياس عليه السلام مختلف فيه بل هو إدريس عليه السلام أولا ، وهل إدريس عليه السلام رسول أو لا؟
فناسب تعقيبه بلقمان عليه السلام المختلف في نبوّته أيضا بين العلماء .
(فص حكمة إحسانية) ، أي منسوبة إلى الإحسان وهو أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، وهكذا ورد تفسيره في الحديث الشريف (في كلمة لقمانية).
 
إنما اختصت حكمة لقمان عليه السلام بكونها إحسانية ، لأن الكلام فيها عن مقام الإحسان في العبادة بشهود الحق تعالى في كل ما هو ظاهر من الأعيان ، وما هو متجدد في كل آن من الأكوان والألوان ، والتحقق بذلك على وجه الحكمة في حقيقة لقمان ، وعند المحمديين مقام الإحسان
[ شعر ]
قال الشيخ رضي الله عنه : ( 
إذا شاء الإله يريد رزقا  ... له فالكون أجمعه غذاء
وإن شاء الإله يريد رزقا  ... لنا فهو الغذاء كما يشاء
مشيئته إرادته فقولوا  ... بها قد شاءها فهي المشاء
يريد زيادة ويريد نقصا  ... وليس مشاءه إلّا المشاء
فهذا الفرق بينهما فحقّق  ... ومن وجه فعينهما سواء ).
 
(إذا شاء الإله) سبحانه وتعالى ، أي المعبود بالحق في السماوات والأرض ، فهو حضرة أسمائه القائمة بذاته وهي الطالبة للغذاء ، أي المادة للظهور (يريد رزقا له) تعالى ، أي مادة لظهوره بها من حيث أسماؤه الحسنى لا من حيث ذاته فإنها غنية عن العالمين (فالكون) ، أي المخلوق (أجمعه) محسوسه ومعقوله غذاء له تعالى
 
مادة لظهوره سبحانه فيظهر به بحيث إذا تم ذلك المخلوق بطن تعالى من ظهوره به واستأنف له ظهور آخر بمخلوق آخر وهكذا فالكون له تعالى بمنزلة الغذاء للجسد الحيواني يمده في البقاء في الدنيا بوصف الحياة .
 
(وإن شاء الإله) تعالى (يريد رزقا لنا) معشر الكائنات المخلوقة (فهو) تعالى من حيث كونه ممدا لنا بقيوميته علينا (الغذاء) الذي نتغذى به فظهوره بصفة قيوميته لنا من حضرة اسمه القيوم والحفيظ والمقيت بكل مأكول ومشروب هو غذاؤنا (كما) هو على الوصف والمقدار والزمان والمكان الذي (يشاء) تعالى ثم لما وقع في الكلام شاء يريد في الموضعين ذكر قوله .
 
(مشيئته) تعالى (إرادته) بالنصب مفعول مشيئته يعني مشيئته لإرادته سبحانه (فقولوا) يا معشر المسترشدين بها ، أي بالمشيئة للإرادة قد شاءها ، أي الإرادة سبحانه في الأزل (فهي) ، أي الإرادة (المشاء) بالضم بصيغة اسم المفعول التي وقعت عليها المشيئة فهي مشيوء له تعالى ، أي مرادها مشيوء له سبحانه ،
فالمشيئة كأنها الحاكمة بطريق الإلزام من الأزل بما اقتضته الإرادة من الأمور المختلفة ، فاختلاف الأشياء راجع إلى تأثير الإرادة ، ولزوم ذلك الاختلاف راجع إلى تأثير المشيئة وليست الإرادة أثرا عن المشيئة وإنما تأثير الإرادة تأثير أيضا للمشيئة من وجه آخر غير وجه كونها تأثير الإرادة فقد اتحدت المشيئة والإرادة في صدور التأثير الواحد واشتراكهما في التعلق به واختلفتا في جهة التعلق به ، فالإرادة متعلقة به من جهة اختلافه في نفسه وزيادته ونقصانه ، والمشيئة متعلقة به من جهة إلزامه بما اقتضته الإرادة فيه ،
 
ولهذا قال :
(يريد) تعالى (زيادة) في بعض الأمور (ويريد) أيضا (نقصا) في بعض آخر من الأمور عن تلك الأمور الزائدة بالنسبة إلى هذه الناقصة ، هذا مقتضى الإرادة الإلهية من الأزل (وليس مشاءه) تعالى بالفتح أي موضع وقوع مشيئته ومظهر حصول تعلقها في الأزل (إلا المشاء) بالفتح أيضا ، أي موضعها ذلك ومظهر تعلقها المذكور من غير اعتبار الزيادة ولا النقصان في كل ما تعلقت به ، فيرجع تعلقها إلى الإلزام فقط كما ذكرنا .
 
(فهذا) الأمر المذكور وهو (الفرق بينهما) ، أي بين المشيئة والإرادة وهو فرق اعتباري ، لأن متعلقهما واحد وهو جهة التخصيص في الممكن ويختلف ذلك التخصيص باعتبار الزيادة والنقصان فيه ووقوع التفاوت بين المخصوصات ، وهو وجه تعلق الإرادة واعتبار قطعية التخصيص وإلزامه وعدم التردد فيه من الأزل ، لأنه محال وهو وجه تعلق المشيئة .
 
(فحقق) يا أيها السالك معرفة هذا الفرق المذكور (ومن وجه) آخر غير وجه الفرق بينهما (فعينهما) ، أي عين كل واحدة منهما (سواء) وهو وجه اشتراكهما في تخصيص الممكن ؛ ولهذا لما كان النظر في الأشياء من جهة لزومها بالإيجاد مع عدم اعتبار اختلافها بالزيادة والنقصان وغيرهما ، سميت أشياء جمع شيء وأصله شيء فعيل بمعنى مفعول ، أي مشيوء ، لأن المشيئة تعلقت به فألزمته بما هو فيه من زيادة أو نقصان من غير اعتبار تلك الزيادة ولا النقصان ، وبسبب ذلك كان الشيء أنكر النكرات لعموم مفهومه في كل كائن ، ولم يسم مرادا إلا باعتبار وجه خصوصه بما يميزه عن غيره من الأشياء .
 
قال الشيخ رضي الله عنه:  (قال اللّه تعالى :" وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ" [لقمان : 12] " وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" [البقرة : 269] .  فلقمان بالنّصّ ذو الخير الكثير بشهادة اللّه تعالى له بذلك . والحكمة قد تكون متلفّظا بها وقد تكون مسكوتا عنها .
مثل قول لقمان لابنه :" يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ" [ لقمان : 6 ] . فهذه حكمة منطوق بها ، وهي أن جعل اللّه هو الآتي بها ، وقرّر ذلك اللّه في كتابه ، ولم يردّ هذا القول على قائله . )
 
(قال اللّه)  تعالى : (" وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ") [ لقمان : 12]. وهو عبد حبشي لداود عليه السلام أعطاه اللّه تعالى الحكمة لا النبوّة على الأكثر ، وقيل : النبوّة ، ويؤيده ذكره هنا مع الأنبياء عليهم السلام .
 
وقد قال تعالى في الحكمة : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ ("وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً") [ البقرة: 269 ].  أي لا نهاية له لظهوره إلى الأبد فلقمان عليه السلام (بالنص) من القرآن (ذو) ، أي صاحب (الخير الكثير بشهادة اللّه تعالى بذلك) في أنه آتاه الحكمة وكل من آتاه الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرا (والحكمة) المذكورة (قد تكون متلفظا) بصيغة اسم المفعول (بها) ، أي قد تكلم بها صاحبها (وقد تكون مسكوتا عنها) بأن لا يتكلم بها صاحبها .
 
فالحكمة الأولى (مثل قول لقمان عليه السلام لابنه) كما حكى تعالى ذلك عنه فقال سبحانه : ("يا بُنَيَّ إِنَّها ") هو ضمير القصة نظير ضمير الشأن المذكور ("إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ ") ، أي تلك الحبة (" فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا") ، أي بتلك الحبة ("اللَّهُ [ لقمان : 16 ] فهذه حكمة منطوق بها") حيث تكلم بها لقمان عليه السلام .
 
(وهي) ، أي تلك الحكمة (أن جعل اللّه) تعالى (هو الآتي بها) ، أي بتلك الحبة المذكورة (وقرر) ، أي أثبت وحقق (اللّه) تعالى (ذلك) ، أي قول لقمان عليه السلام هذه الحكمة (في كتابه) تعالى وهو القرآن العظيم (ولم يرد) تعالى (هذا القول) المذكور (على قائله) لقمان عليه السلام .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا الحكمة المسكوت عنها وقد علمت بقرينة الحال ، فكونه سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبّة ، فما ذكره وما قال لابنه يأت بها اللّه إليك ولا إلى غيرك ، فأرسل الإتيان عاما وجعل المؤتى به في السّموات إن كان ، أو في الأرض تنبيها لينظر النّاظر في قوله :وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ[ الأنعام :3 ].
فنبّه لقمان بما تكلّم به وبما سكت عنه أنّ الحقّ عين كلّ معلوم ، لأنّ المعلوم أعمّ من الشّيء فهو أنكر النّكرات .  )
 
(وأما الحكمة) الثانية (المسكوت عنها) ، أي لم يتكلم بها صاحبها (وعلمت منه (بقرينة الحال) من كلامه أو غيره (فكونه) ، أي لقمان عليه السلام (سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبة) المذكورة من هو من الناس .
(فما ذكره) ، أي لقمان عليه السلام في كلامه ذلك (وما قال) ، أي لقمان عليه السلام لابنه يأت بها) أي بالحبة (اللّه) تعالى (إليك ولا) قال (إلى غيرك) من الناس قصدا منه للعموم (فأرسل) أي لقمان عليه السلام الإتيان من اللّه تعالى (عاما) في كل من تنسب إليه تلك الحبة من العمل الصالح أو القبيح .
(وجعل) أي لقمان عليه السلام المؤتى به وهو الحبة (في السماوات إن كان أو في الأرض تنبيها) منه لابنه ولغيره (لينظر الناظر) من الناس (في) مضمون (قوله) تعالى المتأخر النزول عنه لوجود المعنى من قبل (وهو) ، أي الشأن اللّه سبحانه ظاهر بطريق التجلي (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ") [ الأنعام : 3 ] .
 
وفي آية أخرى : "قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" [ يونس : 101 ] وهي مفسرة بالأولى .
(فنبه لقمان) عليه السلام (بما تكلم به) من الحكمة (وبما سكت عنه) منها أن (الحق) تعالى (عين كل معلوم) سواء كان موجودا في نفسه كالذي في الأرض ، أو غير موجود في نفسه بل موجود في غيره كالذي في الصخرة ، أو كان معلوما لغيره كالذي في السماوات مما هو من علوم الملا الأعلى في تدبير ما يوجد في الأرض ،
 
والكل معلوم للأسباب الأول العالية كاللوح والقلم فهو أصل للكل لأن المعلوم أعم من الشيء الذي هو اسم للموجود فهو ، أي المعلوم أنكر النكرات ههنا لعمومه بالنسبة إلى الشيء الموجود وإن كان الشيء أنكر النكرات أيضا باعتبار آخر فهو أعم مما دونه لكن المعلوم أعم منه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ تمّم الحكمة واستوفاها لتكون النّشأة كاملة فيها فقال : " إنّ اللّه لطيف " فمن لطفه ولطافته أنّه في الشّيء المسمّى بكذا المحدود بكذا عين ذلك الشّيء ، حتّى لا يقال فيه إلّا ما يدلّ عليه اسمه بالتّواطؤ والاصطلاح . فيقال هذا سماء وأرض وصخرة وشجر وحيوان وملك ورزق وطعام . والعين واحدة من كلّ شيء وفيه . )
 
(ثم) ، أي لقمان عليه السلام (تمم الحكمة) التي ذكرها لابنه (واستوفاها لتكون النشأة) ، أي الخلقة التي تركبت عليها هذه الحكمة (كاملة فيها) ، أي في هذه الحكمة (فقال) ، أي لقمان عليه السلام إن اللّه ، أي الساري بالظهور في كل معلوم (لطيف) ، أي ذو لطف عظيم بحيث لا يشعر به أحد في شيء أصلا ما لم يكن بإشعار منه تعالى بنفسه وهو قوله : كنت كنزا مخفيا ، أي في كل شيء وكان للدوام والاستمرار في حق اللّه تعالى والمخفي لا يمكن الشعور به إلا إذا تبين ، وما تبينه إلا بالمحبة فإن بها ينفك رصد هذا الكنز وينفتح كما قال : « فأحببت أن أعرف » .
 
فلا بد أن تكون المحبة محبته من غير دعوى لها من العبد حتى تكون بخور هذا الكنز والعزيمة قوله : فخلقت خلقا تعرفت إليهم فبي عرفوني .
 
(فمن لطافته) تعالى ، أي عدم كثافته ولهذا كان منزها عن مشابهة كل محسوس ومعقول وموهوم وقالوا : كل ما خطر في بالك فاللّه بخلاف ذلك ، فألطف الكائنات كلها الأرواح وهي بالنسبة إلى لطافته تعالى أكثف من الأجسام بالنسبة إلى الأرواح .
وذكر بعضهم في قوله تعالى :" لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" [ الأنعام : 103 ].
 
أن هذا تعليل بطريق اللف والنشر المرتب ، أي لا تدركه الأبصار ، لأنه لطيف وهو يدرك الأبصار ، لأنه خبير . (و) من (لطفه) تعالى أيضا ، أي حسن معاملته سبحانه مع مخلوقاته فالأوّل باعتباره تعالى في ذاته ، والثاني باعتباره مع خلقه الظاهر بهم
(أنه) ، أي اللّه تعالى ظاهر (في الشيء) الفلاني (المسمى بكذا) من محسوس أو معقول (المحدود) ، أي المعرف يذكر ذاتياته التي قامت ماهيته بها (بكذا) كالحيوان الناطق مثلا في تعريف الإنسان (عين ذلك الشيء) المسمى المحدود من حيث الوجود ، لأنه ما ثم غيره ، وخصوص الإلهية والصورة والحال أمور عدمية ظاهرة بالوجود الحق (حتى لا يقال فيه) ، أي في ذلك الشيء (إلا ما يدل عليه) ،
أي على ذلك الشيء هو (اسمه) ، أي اسم ذلك الشيء (بالتواطؤ) ، أي الاتفاق مع قوم مخصوصين ، أو بتساوي الأفراد فيما أطلق عليه ذلك الاسم (والاصطلاح) كاللغات المختلفة والأوضاع المخصوصة في الشرائع والمذاهب والصنائع وغير ذلك .
 
(فيقال) فيه (هذا سماء) وكذلك هذا (أرض) وهذه صخرة وهذه شجرة (و) هذا (حيوان) وهذا (ملك و) هذا (رزق و) هذا (طعام) ولا يقال اللّه في شيء من ذلك ولا في غيره من الأشياء ، لأن خصوص الوصف الحادث الزائد الحي القيوم القديم اقتضى خصوص ذلك الاسم ، فلا يطلق عليه إلا بإزائه كما يقال على الحجر أنه شجر وبالعكس ، لخصوص الوصف المميز وإن كان القائم بالوجود عليهما واحدا .
 
(والعين) ، أي الذات والماهية الكونية (واحدة من كل شيء) محسوس أو معقول لا تعدد لها أصلا (و) العين ، أي الذات الإلهية واحدة كذلك (فيه) ، أي في كل شيء بطريق الظهور منه وبه لا الحلول فيه والاتحاد معه ، لأن الوجود لا يحل في العدم ولا يتحد معه ونظير ذلك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما تقول الأشاعرة : إنّ العالم كلّه متماثل بالجوهر : فهو جوهر واحد ، فهو عين قولنا العين واحدة .
ثمّ قالت : ويختلف بالأعراض ، وهو قولنا ويختلف ويتكرّر بالصّور والنسب حتّى يتميّز فيقال : هذا ليس هذا من حيث صورته أو عرضه أو مزاجه كيف شئت فقل . وهذا عين هذا من حيث جوهره .
ولهذا يؤخذ عين الجوهر في حدّ كلّ صورة ومزاج ، فنقول نحن إنّه ليس سوى الحقّ ؛ ويظنّ المتكلّم أنّ مسمّى الجوهر وإن كان حقّا ، ما هو عين الحقّ الّذي يطلقه أهل الكشف والتّجلّي ، فهذا حكمة كونه لطيفا . )
 
(كما تقول) ، أي كقول الطائفة (الأشاعرة) من المتكلمين (إن العالم) بفتح اللام (كله) محسوسه ومعقوله وموهومه (متماثل) ، أي بعضه يماثل بعضا يعني يشابهه (بالجوهر) ، أي العين التي لا تنقسم فجواهره كلها من جنس واحد
(فهو جوهر واحد) وتعداده بالعرض المباين له كالزمان والمكان (فهو عين قولنا) المذكوران العين المقومة لكل شيء بوجودها الواحد الساري بصفة قيوميتها (واحدة) لا تعدد لها .
 
(ثم قالت) ، أي الأشاعرة (ويختلف) ، أي العالم (بالأعراض) جمع عرض بالتحريك ، وهو ما لا قيام له بنفسه منه كالألوان والطعوم والروائح والصور والكيفيات والكميات والزمان والمكان ونحو ذلك (وهو) ، أي هذا القول (عين قولنا) أيضا (ويختلف) ، أي الذي قلنا عنه أنه عين واحدة ويتكثر ، أي يصير كثيرا (بالصور) جمع صورة (والنسب) جمع نسبة (حتى يتميز) بذلك بعضه عن بعض (فيقال) في ذلك (هذا) الشيء (ليس) هو (هذا) الشيء الآخر (من حيث صورته) الظاهر بها (أو عرضه) كحركته أو سكونه أو مزاجه ، أي تركيب أخلاطه المخصوصة (كيف شئت) يا أيها الإنسان.
 
 (فقل) فيما تتميز به الأشياء بعضها عن بعض من أنواع الخصوصيات (و) يقال أيضا مع ذلك (هذا) الشيء (عين هذا) الشيء الآخر (من حيث جوهره) ، أي ذاته المعروضة لجميع تلك الأعراض ؛ (ولهذا) ، أي لكون الأشياء كلها واحدة في الجوهر (يؤخذ عين الجوهر) المشترك بالأعراض المختلفة (في حد كل صورة ومزاج) من صور الأشياء كلها (فنقول نحن) معشر العارفين المحققين إنه ، أي ذلك الجوهر الذي تذكره الأشاعرة (ليس سوى الحق) تعالى عندنا الحي القيوم على كل شيء لا من حيث ما تتصوّره العقول بأفكارها وتتخيله بأنه مادة لكل شيء ، بل من حيث ما الأمر عليه في نفسه ما لا يعرف إلا كشفا وذوقا .
 
(ويظن المتكلم) ، أي الخائض في علم الكلام بعقله في شرعه من الأشاعرة وغيرهم (أن مسمى الجوهر) ، أي ما يسمى بالجوهر (وإن كان عنده (حقا) ، أي أمرا متحققا في نفسه من غير شبهة فيه أصلا لكنه (ما هو عين الحق) تعالى عنده (الذي يطّلعه أهل الكشف والتجلي) " وفي نسخة : يطلقه بدل  يطّلعه  ".
 
من العارفين المحققين بل هو عينه لكن المخالفون جهلوا ذلك ، لنظرهم العقل الغالب عليهم واستعمالهم الفكر في الأمور الإلهية وغيرها وتركهم تطهير القلوب بالإيمان بالغيب والإسلام له في كل ما ورد في الكتاب والسنة ،
وإعراضهم عن تصفية أحوالهم بالتقوى والعمل الصالح مع الإخلاص والزهد والخشوع حتى تتنوّر بصائرهم وتتنبه أبصارهم ، فيرون الحق حقا ويرزقون اتباعه ، ويرون الباطل باطلا ويرزقون اجتنابه كما ورد في دعائه صلى اللّه عليه وسلم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ " [ البقرة : 220 ] فهذه المعاني المذكورة هنا هي حكمة كونه تعالى لطيفا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ نعت فقال :خَبِيرٌ[ لقمان : 16 ] أي عالم عن اختبار وهو قوله :وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ [ محمد : 31 ] . وهذا هو علم الأذواق . فجعل الحقّ نفسه مع علمه بما هو الأمر عليه مستفيدا علما . ولا تقدر على إنكار ما نصّ الحقّ عليه في حقّ نفسه . ففرّق تعالى ما بين علم الذّوق والعلم المطلق . فعلم الذّوق مقيّد بالقوى . وقد قال عن نفسه إنّه عين قوى عبده في قوله :
"كنت سمعه " ، وهو قوّة من قوى العبد ، « وبصره » وهو قوّة من قوى العبد ، " ولسانه " وهو عضو من أعضاء العبد ، « ورجله ويده » فما اقتصر في التّعريف على القوى فحسب حتّى ذكر الأعضاء : وليس العبد بغير هذه الأعضاء والقوى . فعين مسمّى العبد هو الحقّ ، لا عين العبد هو السّيّد . )
 
(ثم نعت) ، أي لقمان عليه السلام ربه تعالى (فقال : خبير ، أي عالم) بكل شيء علما صادرا (عن اختبار) ، أي امتحان منه تعالى لكل شيء (وهو) معنى (قوله) تعالى : (" وَلَنَبْلُوَنَّكُم")  ْيا معشر المكلفين ( "حَتَّى نَعْلَمَ") الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [ محمد : 31 ] ، فنبلوكم ، أي نختبركم ونمتحنكم ليظهر لكم عندكم اسمنا الخبير كما ظهر بإيجادكم ابتداء اسمنا العليم وبقية أسمائنا عندكم .
 
(وهذا) المعنى الحاصل بالبلاء (هو علم الأذواق) الذي يفتح اللّه تعالى به على قلوب الصديقين فيتخلقون باسمه تعالى العليم الخبير بعد أن يتحققوا به ويتعلقوا بأثره ومظهره (فجعل الحق) تعالى في هذه الآية (نفسه ) سبحانه (مع) كمال (علمه بما هو الأمر عليه) من حال كل شيء (مستفيدا علما) من غيره باعتبار ظهور أثر اسمه الخبير بامتحان العبد وابتلائه شيئا فشيئا لطفا منه تعالى بعباده ، حتى يتم ظهور اسمه الخبير من حيث استعداد ذلك العبد فيحصل علم الذوق والوجدان لذلك العبد على حسب ظهور الاسم الخبير بكثير المحنة وقليلها وحقيرها وجليلها .
 
ولا يقدر أحد من الناس على إنكار ، أي جحود ما نص الحق تعالى عليه في كلامه القديم في حق نفسه تعالى مما ذكر هنا وأمثاله (ففرق تعالى)


بمقتضى هذه الآية (ما بين علم الذوق) الذي يفتح به على قلوب الأولياء أثرا عن ظهور اسمه تعالى الخبير على حسب استعدادهم لذلك ؛ ولهذا لا يكون إلا بعد المحنة والفتنة والبلاء والصبر من العبد والاحتساب فيه لوجه اللّه تعالى (و) بين (العلم المطلق) عن قيد الذوق وهو علم الرسوم الظاهرة الحاصل في خيال العبد وفهمه وحفظه دون ذوقه وجدانه وكشفه الذي هو أثر عن ظهور اسمه تعالى العليم بحسب استعداد العبد لذلك ولا يلزم أن يكون بعد محنة وبلاء .
 
(فعلم الذوق) والوجدان (مقيد) إدراكه (بالقوى) جمع قوّة ، لأنه ذوقي وجداني لا بالخيال والفكر والتصوّر في الذهن كالعلم المطلق (وقد قال) تعالى (عن نفسه) بلسان نبيه عليه السلام في حديث : « لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به » إلى آخره .
 
(إنه) تعالى بوجوده القيوم القديم (عين قوى عبده) المؤمن به (في قوله) في الحديث المذكور (كنت سمعه) الذي يسمع به (وهو) ، أي سمع (قوة) روحانية منفوخة في جسد العبد من روح اللّه القائم بأمره سبحانه (من) جملة (قوى العبد) المؤمن (و) كنت (بصره) الذي يبصر به (وهو) أي البصر (قوّة) أيضا روحانية منفوخة في الجسد من جملة (قوى العبد) أيضا وكنت (لسانه) الذي ينطق به (وهو) ، أي اللسان (عضو) جسماني فيه قوة روحانية أيضا منفوخة من روح اللّه تعالى القائم بأمره تعالى من جملة (أعضاء العبد) المؤمن وكنت (رجله ويده) أيضا كما ورد في لفظ الحديث .
 
(فما اقتصر) تعالى (في التعريف) ، أي تعريف عبده به (على) أنه تعالى هو (القوى) ، أي قوى العبد الروحانية المذكورة (فحسب) ، أي فقط حتى أنه تعالى (ذكر الأعضاء) الجسمانية أيضا (وليس العبد بغير) ، أي بشيء زائد مغاير (هذه الأعضاء) الجسمانية (والقوى) الروحانية ، وقد ذكر في الحديث أمهات ذلك وأصوله وهي اللسان واليد والرجل ، ولم يذكر الفرج ولا الأنف ولا الأذن ونحوها لتبعيتها لما ذكر ، والسمع والبصر من أشرف القوى الروحانية فذكرتا ، والبقية تبع لذلك ، والمراد الجميع .
 
(فعين مسمى العبد) ، أي مجموع ما يسمى بالعبد من الأعضاء والقوى (هو الحق) تعالى من حيث التجلي بالوجود ، ولهذا قال : الذي يسمع به والذي يبصر به يبطش بها ، احترازا عن الصورة المسماة بسمعه وبصره ويده ورجله مما لا تأثير لها دون اللّه تعالى ، فكأنه قال : المؤثر من ذلك ، وليس هو إلا الحق تعالى (لا) أن (عين العبد) الذي هو مجموع صور تلك الأعضاء والقوى (هو السيد) ، أي الرب تعالى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنّ النّسب متميّزه لذاتها ؛ وليس المنسوب إليه متميّزا ، فإنّه ليس ثمّة سوى عينه في جميع النّسب . فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وصفات .
فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهيّين : لطيف خبير سمّى بهما اللّه تعالى . فلو جعل ذلك في الكون - وهو الوجود - فقال : « كان » لكان أتمّ في الحكمة وأبلغ. فحكى اللّه تعالى قول لقمان على المعنى كما قال لم يزد عليه شيئا .
وإن كان قوله :إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [ لقمان : 16 ] من قول اللّه - فلما علم اللّه تعالى من لقمان أنّه لو نطق متمّما لتمّم بهذا . )
 
(فإن النّسب) جمع نسبة أي نسبة السمع مثلا ونسبة البصر ، وكذلك نسبة اللسان واليد والرجل بالنظر إلى كونها حضرات أسمائية (متميزة) بعضها عن بعض (لذاتها) بالصور والهيئات القائمة بها لها ، فإذا كان الحق تعالى عين كل واحدة منها بانفرادها كان متميزا عنها أيضا بما تميز به بعضها عن بعض ، فلا يكون الحق تعالى عين العبد وإن كان تعالى عين كل عضو منه وكل قوة من قواه .
 
(وليس) الحق تعالى (المنسوب إليه) كل عضو وقواه العبد (متميزا) عن ذلك المنسوب إليه حتى يكون عين العبد الذي هو مجموع ما به التمييز من الصور الجسمانية والروحانية ، بل هو تعالى عين كل عضو وقوة (فإنه ليس ثم) ، أي هناك في ظاهر العبد وباطنه سوى عينه تعالى في جميع النسب الجسمانية والروحانية .
 
(فهو) تعالى (عين واحدة ذات نسب وإضافات) كثيرة (وصفات) مختلفة وتلك النسب والإضافات والصفات تتميز عنه ويتميز بعضها عن بعض بمسمى العبد في الظاهر من الصور الحسية والعقلية .
(فمن تمام حكمة لقمان) عليه السلام (في تعليمه ابنه ما جاء به) من العلم الإلهي (في هذه الآية) المذكورة (من هذين الاسمين الإلهيين) وهما كونه تعالى (لطيفا خبيرا سمّى) ، أي لقمان عليه السلام (بهما) ، أي بهذين الاسمين (اللّه تعالى) في آخر حكمته تتميما لها بوحي من اللّه تعالى إليه بذلك
 
 (فلو جعل) ، أي لقمان عليه السلام (ذلك) ، أي تسميته للّه تعالى (في الكون وهو) ، أي الكون (الوجود) على وجه الدوام والاستمرار (فقال) ، أي لقمان عليه السلام (كان) اللّه لطيفا خبيرا (لكان) هذا (أتم) من عدم ذلك (في) بيان (الحكمة وأبلغ) منه (فحكى اللّه تعالى قول لقمان) عليه السلام (على المعنى) دون اللفظ (كما قال) ، أي مثل قوله عليه السلام (لم يزد عليه) تعالى (شيئا) وحاشا للّه تعالى من الزيادة والنقصان في حكاية قول أحد :
وما أصدق من اللّه تعالى (وإن كان قوله) ، أي لقمان عليه السلام (إن اللّه لطيف خبير من قول اللّه) تعالى لأنه حكاية منه تعالى عن لقمان عليه السلام (لما علم اللّه تعالى) في الأزل (من لقمان) عليه السلام (أنه لو نطق متمما) لحكمته (لتمم) لقمان عليه السلام حكمته (بهذا) التمميم المذكور ، فلهذا تممها اللّه تعالى بذلك في كلامه القديم حكاية عنه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا قوله :إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ[ لقمان : 16 ] لمن هي له غذاء ، وليس إلّا الذّرّة المذكورة في قوله تعالى  :فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ( 7 ) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7-8] فهي أصغر متغذّ والحبّة من الخردل أصغر غذاء.
ولو كان ثمّة أصغر لجاء به كما جاء بقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً ثمّ لمّا علم أنّه ثمّ ما هو أصغر من البعوضة قال : فَما فَوْقَها[ البقرة : 26 ] يعني في الصّغر . وهذا قول اللّه - والّتي في « الزّلزلة » قول اللّه أيضا . فاعلم ذلك فنحن نعلم أنّ اللّه تعالى ما اقتصر على وزن الذّرّة وثمّ ما هو أصغر منها ، فإنّه جاء بذلك على المبالغة واللّه أعلم).
 
(وأما قوله) ، أي لقمان عليه السلام في جملته المذكورة ("إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ")[ لقمان : 16 ] وذلك المقدار (لمن هي) ، أي حبة الخردل (له غذاء) وهو الحيوان الصغير الذي يغتذي بها (وليس) ذلك (إلا الذرة) واحدة الذر وهي صغار النمل المذكورة في قوله تعالى :" فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ( 7 ) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"( 8 ) [ الزلزلة : 7 - 8 ] .

فهي ، أي الذرة المذكورة أصغر حيوان (متغذ) بالغذاء (والحبة من الخردل) بمفردها (أصغر غذاء) يغتذي به الحيوان الصغير جدا وهو الذرة (ولو كان ثمة) ، أي هناك في الوجود حيوان (أصغر) الذرة (لجاء) ، أي اللّه تعالى (به) ، أي بذلك الحيوان في كلامه .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مارس 12, 2020 2:20 am

23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي  

الفص اللقماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية                    الجزء الثاني 
  (كما جاء) تعالى (بقوله) سبحانه: ("إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً " ) [ البقرة : 26 ] .
سميت بذلك لأنها نصف ذبابة من صغرها ثم لما علم ، أي اللّه تعالى أنه ، أي الشأن ثم ، أي هناك في الحيوان (ما هو أصغر من البعوضة) وهي الذرة (قال) تعالى : (فَما فَوْقَها يعني) أزيد منها في صفة (الصغر) ، أي أصغر منها (وهذا) القول في البعوضة هو (قول اللّه) تعالى عن نفسه لا حكاية قول غيره تعالى والذرة التي ذكرت في سورة (الزلزلة قول اللّه) تعالى (أيضا) لم يحكها عن غيره سبحانه .

(فاعلم) يا أيها السالك (ذلك) وتحقق به (فنحن) معشر العارفين المحققين (نعلم) قطعا (أن اللّه تعالى ما اقتصر على وزن الذرة) في سورة الزلزلة والحال (أن ثم) ، أي هناك (ما) ، أي حيوان (هو أصغر منها) ، أي من الذرة (فإنه) تعالى (جاء بذلك) ، أي بوزن الذرة في مجازاة الأعمال (على) طريق المبالغة) في الكلام (واللّه) سبحانه (أعلم) بأنه لا أصغر من الذرة في الحيوانات .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا تصغيره اسم ابنه فتصغير رحمة ولهذا وصّاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك .  وأمّا حكمة وصيّته في نهيه إيّاه أن "لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" [ لقمان : 13 ] . والمظلوم المقام حيث نعته بالانقسام .
وهو عين واحدة فإنّه لا يشرك معه إلّا عينه وهذا غاية الجهل . وسبب ذلك أنّ الشّخص الّذي لا معرفة له بالأمر على ما هو عليه ولا بحقيقة الشّيء إذا اختلفت عليه الصّور في العين الواحدة ، وهو لا يعرف أنّ ذلك الاختلاف في عين واحدة ، جعل الصّورة مشاركة للأخرى في ذلك المقام فجعل لكلّ صورة جزءا من ذلك المقام . )

(وأما تصغيره) ، أي لقمان عليه السلام (اسم ابنه) في قوله في الآية السابقة وغيرها :يا بُنَيَّ (فتصغير رحمة) ، أي عطف وشفقة عليه (ولهذا) ، أي لكون الأمر كذلك وصاه ، أي وصى ابنه (بما فيه سعادته) من حسن الحال والاتصاف بصفات الكمال (إذا عمل) ، أي ابنه (بذلك) الذي وصاه به .

(وأما حكمة وصيته) ، أي لقمان عليه السلام لابنه (في نهيه) ، أي نهي لقمان عليه السلام (إياه) ، أي ابنه (أن لا يشرك باللّه) تعالى (فإن الشرك) باللّه تعالى (لظلم عظيم) كما حكى اللّه تعالى ذلك عنه بقوله سبحانه :" وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " ( 13 ) [ لقمان : 13 ] .

(والمظلوم) بهذا الظلم العظيم الذي هو الشرك (المقام) الإلهي الصادر عنه كل شيء وهو مقام الألوهية حيث نعته ، أي وصف المشرك (بالانقسام) إلى مقامين فأكثر (وهو) ، أي ذلك المقام (عين واحدة) لا انقسام لها أصلا وإن صدر عنها ما لا يتناهى من الكثرة (فإنه) ، أي المشرك (لا يشرك معه) تعالى (إلا عينه) الواحدة حيث ظهرت في كثير وقد جهلها فعددها بتعدد المظاهر (وهذا غاية الجهل) باللّه تعالى وغاية الظلم له سبحانه وسبب ذلك ، أي الشرك المذكور (أن الشخص الذي لا معرفة له بالأمر) الإلهي (على ما هو) أي ذلك الأمر الإلهي عليه من الوحدة الحقيقة أزلا وأبدا ولا معرفة له أيضا (بحقيقة الشيء) الظاهر بظهور وجه الأمر إليه وهو فإن مضمحل كما قال تعالى : " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ"  [ القصص: 88].

وقد ورد أنه قرن إسرافيل عليه السلام بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ثلاث سنين يعلمه الكلمة والشيء ، ثم نزل عليه جبريل بالوحي عشرين سنة عشر سنين في مكة وعشر سنين في المدينة ، وكان ذلك بعد بلوغه الأربعين سنة من عمره ، وقد عاش صلى اللّه عليه وسلم ثلاثا وستين سنة .
ومعرفة الكلمة والشيء هو مقام الولاية والنبوّة بوحي جبريل عليه السلام إذا اختلفت عليه ، أي على ذلك الأمر أو الشيء (الصور) الكثيرة (في العين الواحدة) التي له (وهو) أي الشخص (لا يعرف أن ذلك الاختلاف) حاصل (في عين واحدة جعل) جواب إذا (الصورة) الواحدة مشاركة للأخرى من الصور (في ذلك المقام) الواحد الإلهي (فجعل لكل صورة) من صور تلك العين الواحدة (جزأ من ذلك المقام) الإلهي المذكور ، فينقسم المقام الإلهي عنه بالضرورة إلى أقسام كثيرة.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومعلوم في الشّريك أنّ الأمر الّذي يخصّه ممّا وقعت فيه المشاركة ليس عين الآخر الّذي شاركه إذ هو للآخر . فإذن ما ثمّة شريك على الحقيقة ، فإنّ كلّ واحد على حظّه ممّا قيل فيه إنّ بينهما مشاركة فيه .
وسبب ذلك ، الشّركة المشاعة ، وإن كانت مشاعة فإنّ التّصرف من أحدهما يزيل الإشاعة . "قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ" [ الإسراء : 110 ] هذا روح المسألة .)

(ومعلوم) على حسب هذا الانقسام وحدة المقام الإلهي المذكور (في) حق (الشريك) الواحد أن (الأمر) ، أي الجزء (الذي يخصه) ، أي يخص هذا الشريك (مما وقعت فيه المشاركة) من المقام الإلهي المذكور (ليس عين الأمر) ، أي الجزء (الآخر الذي شاركه) ، أي صار شريكا له في زعم المشرك (إذ هو) ، أي الأمر الآخر (للآخر) ، أي للشريك الآخر .

(فإذن) ، أي حينئذ (ما ثم) بالفتح ، أي هناك (شريك) للمقام الإلهي المذكور أصلا (على الحقيقة) ، أي في حقيقة الأمر ، بل كل مدعي الشركة في شيء حسي أو عقلي متوهم جاهل بما الأمر عليه في نفسه ، فلو عقل وجد الحق تعالى ظاهرا في ذلك الشيء الذي جعله شريكا له تعالى وزالت عنه الشركة (فإن كل واحد) من المتشاركين في المقام الإلهي المذكور حاصل (على حظه) ، أي نصيبه الذي قد استعد له (مما) ، أي من المقام الذي (قيل) ، أي قال المشرك (فيه) ، أي في ذلك المقام أن (بينهما) ، أي بين المتشاركين (مشاركة فيه) ، أي في ذلك المقام المذكور .

(وسبب ذلك) ، أي حصول الحظ له من ذلك المقام (الشركة المشاعة) فيه من غير قسمة فيها بين المشاركين (وإن كانت مشاعة) بحيث لا يملك المقام أحدهما وحده (فإن التصريف) بحكم المقام الذي يصدر (من أحدهما) ، أي أحد المتشاركين (يزيل الإشاعة) من ذلك المقام بينهما فيقتضي اختصاص أحدهما به دون الآخر .
قال اللّه تعالى : (" قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ") [ الإسراء : 110 ] .

فأوقع تعالى المغايرة الاعتبارية في حضرات الأسماء الإلهية ، وأمر بدعاء كل واحدة على وجه التخيير للشركة المشاعة في المتجلي بذلك ، فإن التصريف له بالإجابة في كلا الحضرتين بمقتضى اختيار الداعي على حسب استعداده في الدنيا ، فكذلك خيره بين الاسم اللّه أو الاسم الرحمن وأخبر تعالى بعد ذلك بقوله :" أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى " ، فاللّه له الأسماء الحسنى ، والرحمن له الأسماء الحسنى وليس إلا ظهور التصريف بمقتضى التجلي العام .
(هذا) ، أي ما ذكر هنا هو (روح) ، أي سر هذه (المسألة) في أمر الشركة والشرك وسبب ظهوره في العالم وإن ترتب عليه الظلم العظيم والعذاب الأليم .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مارس 12, 2020 2:21 am

24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص الهاروني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الجزء الأول  

24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية
" إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً " [ البقرة : 124 ] أي خليفة عليهم .
هذا فص الحكمة الهارونية ، ذكره بعد حكمة لقمان عليه السلام لاشتمال حكمة هارون عليه السلام على بيان ظهور العين الواحدة في صور كثيرة ، فناسب ما ذكر من ذلك في حكمة لقمان عليه السلام على طريق زيادة البيان والإيضاح لذلك .
(فص حكمة إمامية) ، أي منسوبة إلى الإمام وهو المقتدى به ولو في نوع من الكمال (في كلمة هارونية) إنما اختصت حكمة هارون عليه السلام بكونها إمامية ، لأنه عليه السلام كان خليفة عن أخيه موسى عليه السلام في قومه لما ذهب إلى ميقات ربه لقوله سبحانه :" وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ " [ الأعراف : 142 ] ، والخليفة إمام يقتدى به .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أنّ وجود هارون عليه السّلام كان من حضرة الرّحموت بقوله تعالى :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا يعني لموسى :أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا[ مريم : 53 ] . فكانت نبوّته من حضرة الرّحموت .
فإنّه أكبر من موسى سنّا ، وكان موسى أكبر منه نبوّة . ولمّا كانت نبوّة هارون من حضرة الرّحمة ، لذلك قال لأخيه موسى - عليهما السلام - :يَا بْنَ أُمَّ، فناداه بأمّه لا بأبيه إذ كانت الرّحمة للأمّ دون الأب أوفر في الحكم .
ولولا تلك الرّحمة ما صبرت على مباشرة التّربية .
ثمّ قال :لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي[ طه : 94 ] ،فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ[ الأعراف : 150 ] فهذا كلّه نفس من أنفاس الرّحمة . وسبب ذلك عدم التّثبّت في النّظر فيما كان في يديه من الألواح الّتي ألقاها من يديه . )
 
(اعلم )يا أيها السالك (أن وجود هارون عليه السلام) في الدنيا (كان من حضرة الرحموت) ، أي الرحمة العظيمة الإلهية (بقوله تعالى :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا يعني لموسى) عليه السلام (أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [ مريم : 53 ] فكانت نبوّته) ، أي هارون عليه السلام (من حضرة الرحموت) ، أي الرحمة الإلهية (فإنه) ، أي هارون عليه السلام (أكبر من موسى) عليه السلام (سنا) ، أي عمرا (وكان موسى) عليه السلام (أكبر منه) ، أي من أخيه هارون عليه السلام (نبوّة) ، لأنه المقصود بالإرسال إلى فرعون وبني إسرائيل وأخوه هارون عليه السلام مساعد له في ذلك كما قال تعالى :" سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً " [ القصص: 35] ، أي في الأرض .
 
(ولما كانت نبوّة هارون) عليه السلام (من حضرة الرحمة) الإلهية بموسى عليه السلام ، لأنه موهوب له من قبل اللّه تعالى بدليل الآية السابقة (لذلك) ، أي لأجل ما ذكر (قال) ، أي هارون عليه السلام (لأخيه موسى) عليهما السلام حين أخذ بلحيته وبرأسه يضربه على تمكين بني إسرائيل من عبادة العجل في غيبة موسى عليه السلام في ميقات ربه تعالى : " يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي[ طه : 49 ] ،
وفي آية أخرى :وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "[ الأعراف : 150 ] ،
 
فناداه ، أي نادى أخاه ، لأنه كان شقيقه بأمه لا بأبيه إذ كانت الرحمة ، والشفقة للأم على الولد دون الأب ، فإن رحمته أقل من رحمة الأم بولدها أوفر ، أي أزيد وأكثر في الحكم الإلهي ولولا زيادة تلك الرحمة في الأم ما صبرت ، أي الأم على مباشرة مشقة التربية ، أي تربية الولد .
ثم قال ، أي هارون عليه السلام لأخيه موسى عليه السلام ("لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي") ، أي تقبض عليها ("وَلا بِرَأْسِي") وقال أيضا له (فلا تشمت بي الأعداء )، أي من بني إسرائيل الذين نهاهم عن ذلك فعادوه لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ( 90 ) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) ( 91 ) [ طه : 90 - 91 ] ،
 
(فهذا) القول من هارون عليه السلام لأخيه موسى عليه السلام (كله نفس) بالفتح ، أي تنفس ما يجده في صدره (من أنفاس الرحمة) ، أي التذكير بالشفقة المقتضية تربيتهما من أمهما اليسرى حكمها بينهما أيضا (وسبب ذلك) ، أي سرعة معاتبة موسى لأخيه هارون عليهما السلام في عبادة بني إسرائيل العجل وضربه له وهذا التعطف والتلطف والتذكير بالرحمة والشفقة من هارون لأخيه موسى عليه السلام (عدم التثبت) ، أي التأني والتأمل في النظر ، أي نظر موسى عليه السلام فيما كان في يده من الألواح ، أي ألواح التوراة التي ألقاها من بين يديه وأخذ برأس أخيه يجره إليه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلو نظر فيها نظر تثبّت لوجد فيها الهدى والرّحمة . فالهدى بيان ما وقع من الأمر الّذي أغضبه ممّا هو هارون بريء منه . والرّحمة بأخيه ، فكان لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه مع كبره وأنّه أسنّ منه . فكان ذلك من هارون شفقة على موسى لأنّ نبوّة هارون من رحمة اللّه ، فلا يصدر منه إلّا مثل هذا . ثمّ قال هارون لموسى عليهما السّلام :إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ [ طه : 94 ] فتجعلني سببا في تفريقهم فإنّ عبادة العجل فرّقت بينهم ، فكان منهم من عبده اتّباعا للسّامريّ وتقليدا له ، ومنهم من توقّف عن عبادته حتّى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك . )
 
فلو نظر موسى عليه السلام فيها ، أي في تلك الألواح نظر التثبت أي التأني والتأمل لوجد أي موسى عليه السلام فيها أي في تلك الألواح الهدى ، أي الدلالة على الحق من اللّه تعالى والرحمة الإلهية من موسى بأخيه عليه السلام فالهدى بيان ما ، أي الذي وقع من الأمر الذي أغضبه ، أي موسى عليه السلام مما هو ، أي ذلك الأمر هارون عليه السلام بريء منه والرحمة من موسى عليه السلام بأخيه هارون عليه السلام كما قال تعالى :" وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ " [ الأعراف : 145 ] .
وقال تعالى : "وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ( 154 ) [ الأعراف : 154 ] ،
فكان ، أي موسى عليه السلام لا يأخذ بلحيته ، أي لحية أخيه عليه السلام بمرأى من قومه ، أي بحيث يراه قومه مع كبره ، أي كونه أكبر وأنه ، أي هارون عليه السلام أسنّ منه ، أي من موسى عليه السلام كما مر فكان ذلك القول الحاصل من هارون عليه السلام شفقة على أخيه موسى عليه السلام لأنّ نبوّة هارون عليه السلام كانت من رحمة اللّه تعالى كما سبق فلا يصدر منه ، أي من هارون عليه السلام إلا مثل هذا القول المذكور .
(ثم قال هارون لموسى عليه السلام :إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ)[ طه : 94 ] ، أي أوقعت الفرقة بينهم فتجعلني سببا في تفريقهم إلى فرق كثيرة فإن عبادة العجل فرقت بينهم حتى كانوا فرقا فكان منهم ، أي من بني إسرائيل من عبده ، أي العجل اتباعا ، أي على وجه الاتباع للسامري الذي دعاهم إلى ذلك في غيبة موسى عليه السلام وتقليدا له ، لأنهم أحسنوا ظنهم فتبعوه ومنهم ، أي من بني إسرائيل من توقف عن عبادته ، أي العجل حتى يرجع موسى عليه السلام إليهم فيسألونه في ذلك هل هو صواب أم لا ؟
 
ثم قيل : إن الذين عكفوا على عبادة العجل منهم ثمانية ألف رجل وقيل : كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل ، وهذا أصح .
وقال الحسن : كلهم عبدوه إلا هارون وحده .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه ، فكان موسى أعلم من هارون لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأنّ اللّه قد قضى أن لا يعبد إلّا إيّاه : وما حكم اللّه بشيء إلّا وقع . فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتّساعه ، فإنّ العارف من يرى الحقّ في كلّ شيء ، بل يراه عين كلّ شيء . فكان موسى يربّي هارون تربية علم وإن كان أصغر منه في السّنّ . ولذلك لمّا قال له هارون ما قال ، رجع إلى السّامريّ فقال له :فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ [ طه : 95 ] ؟
يعني فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل على الاختصاص ، وصنعك هذا الشّبح من حليّ القوم حتّى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم . فإنّ عيسى يقول لبني إسرائيل : « يا بني إسرائيل قلب كلّ إنسان حيث ماله ، فاجعلوا أموالكم في السّماء تكن قلوبكم في السّماء ) .
 
فخشي هارون عليه السلام أن ينسب عند أخيه موسى عليه السلام ذلك الفرقان ، أي التفرق الذي وقع بينهم إليه ، أي إلى هارون عليه السلام فكان موسى عليه السلام أعلم بالأمر الإلهي على ما هو عليه في نفسه من أخيه هارون عليه السلام لأنه ، أي موسى عليه السلام علم ما عبده في نفس الأمر أصحاب العجل وكانوا هم لا يعلمون فكفروا بعبادتهم لغير اللّه تعالى في نظرهم وإن قالوا :هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى[ طه : 88 ] .
كما حكاه تعالى من قول السامري وهم تبعوه في ذلك ، فإنه عجل عندهم من حيث ما هم ناظرون وعارفون حتى لو سألتهم عنه لقالوا : هو عجل ، واللّه تعالى ليس بعجل تعالى عن ذلك علوا كبيرا لعلمه ، أي علم موسى عليه السلام بأن اللّه تعالى قد قضى ، أي حكم وألزم أن لا يعبد ، أي يعبد أحد إلا إياه سبحانه وما حكم اللّه تعالى بشيء وألزم به إلا وقع ، أي ذلك الشيء وقد نزل هذا العلم قرآنا على نبينا صلى اللّه عليه وسلم .


قال تعالى :وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [ الإسراء : 23 ] ،
(فكان عتب موسى أخاه هارون) عليه السلام (لما) ، أي لأجل الذي (وقع الأمر في إنكاره ) من عبادة العجل وعدم اتساعه ، أي هارون عليه السلام له فإن العارف باللّه تعالى هو من يرى ، أي يشهد الحق تعالى ظاهرا في كل شيء محسوس أو معقول أو
  
موهوم بل يراه تعالى عين كل شيء كذلك باعتبار الوجود القيوم لما عداه من الصور الفانية المعدومة بالعدم الأصلي وهو قوله تعالى :كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[ القصص : 88 ] ،
فكان موسى عليه السلام يربي ، أي يرشد ويعلم أخاه هارون عليه السلام تربية علم ، أي ذوق وتحقيق وإن كان ، أي موسى عليه السلام أصغر منه ، أي من أخيه هارون عليه السلام في السن ، أي العمر ، وإن كان هارون عليه السلام أيضا ليس خاليا من ذلك ، لأن له طور الولاية وهو نبي ، فطوره فوق ذلك الطور ، ولكنه لما عبر عنه إلى طور النبوّة غلب عليه مقتضى شهود الكثرة خصوصا ، وهو رسول إلى بني إسرائيل مع أخيه موسى عليه السلام ، واقتضت مخالطة قومه التكلم بكلامهم والسلوك في أطوارهم ومشاركتهم في مشاربهم العامية ، فكان إرشاد موسى له عليه السلام تذكيرا وتنبيها ، أو حثا على تلك الملاحظة التي أصلها بمقتضى نظره في أمور قومه ،
كما أن موسى عليه السلام ، كان يعلم في ضمن طور نبوته ما كان في طور ولاية الخضر عليه السلام لأن الأنبياء عليهم السلام أولياء قبل كونهم أنبياء ، ولكن إذا خوطبوا من مقام النبوّة كان عملهم مثل أعمال قومهم لإرسالهم إليهم ، وأما الأنبياء عليهم السلام الذين هم ليسوا بمرسلين كالخضر عليه السلام فإنهم مخاطبون بالعبادة من مقام ولايتهم ، فشرعهم الحقيقة ومن هنا قول الخضر لموسى عليه السلام :إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً( 68 ) [ الكهف : 67 - 68 ] ،
 
والحضرة التي لم يخاطب منها الكامل لا اعتناء له بها ولا اشتغال لقلبه بمكابدتها وإن كانت عنده في ضمن مقامه ، ومن هنا قال : من قال خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله ، ومراده المرسلون منهم لعدم خوضهم في بحر الولاية المندرجة في ضمن مقامهم لخطابهم بما خوطب به قومهم من قوم نبواتهم ، فاعلم ذلك فإنه نفس من فتوح لوقت ، وهو محتاج إلى زيادة بيان بما لا يسعه هذا المكان ، وربما يمر في غير موضع من كلامنا فنبسط الكلام فيه ؛
 
ولذلك ، أي لأجل ما ذكر من التربية المذكورة لما قال له ، أي لموسى هارون عليه السلام ما قال من اعتذاره بخشية التفريق بينهم رجع ، أي موسى عليه السلام إلى السامري فقال له ("فَما خَطْبُكَ") الخطب سبب الأمر نقول ما خطبك ، أي ما سبب أمرك ("يا سامِرِيُّ" يعني فيما صنعت) ، أي في صنعك (من عدولك) عن الحق المطلق إلى صورة العجل الذي هو وجه من وجوه التجلي الإلهي على الاختصاص بالتقييد المخصوص و من صنعك هذا الشّبح ، أي الشخص من حليّ القوم ، أي قوم موسى عليه السلام وهو ما كانوا يتحلون به من الذهب الذي استعاروه من القبط .
 
وروي أنه تعالى لما أراد غرق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم اللّه تعالى أنه لا يؤمن منهم أحد ، أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ،
وذلك لغرضين :
أحدهما أن يخرجوا خلفهم لأجل المال ،
والثاني أن تبقى أموالهم في أيديهم ،
ثم نزل جبريل عليه السلام بالعشي فقال لموسى : أخرج قومك ليلا حتى أخذت مخاطبا للسامري بقلوبهم ، أي قوم موسى عليه السلام من أجل أموالهم التي جعلها لهم عجلا ، ووضعت فيه القبضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام فخار ذلك العجل فإن عيسى عليه السلام يقول لبني إسرائيل : "يا بَنِي إِسْرائِيلَ" وهم أولاد يعقوب عليه السلام قلب كل إنسان حيث ماله ، أي ما يملك من النقود وغيرها فاجعلوا أموالكم في السماء ، أي تصدقوا بها على الفقراء حتى ترفع لكم فتكون في صحائف الملائكة الحفظة عليهم السلام فيصعدون بها إلى السماء التي هي مسكنهم تكن قلوبكم في السماء حيث كانت أموالكم تبعا لها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما سمّي المال مالا إلّا لكونه بالذّات تميل القلوب إليه بالعبادة . فهو المقصود الأعظم المعظّم في القلوب لما فيها من الافتقار إليه .
وليس للصّور بقاء ، فلا بدّ من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه . فغلبت عليه الغيرة فحرّقه ثمّ نسف رماد تلك الصّورة في اليمّ نسفا وقال له :وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَوسمّاه إلها بطريق التّنبيه للتّعليم ، لما علم أنّه بعض المجالي الإلهيّة .
« لأحرقناه » فإنّ حيوانيّة الإنسان لها التّصرّف في حيوانيّة الحيوان لكون اللّه سخّرها للإنسان ، ولا سيّما وأصله ليس من حيوان ، فكان أعظم في التّسخير لأنّ غير الحيوان ما له إرادة بل هو بحكم من يتصرّف فيه من غير إباءة . )
 
وما سمي في لغة العرب المال مالا إلا لكونه ، أي المال بالذات من غير تكلف تميل القلوب ، أي قلوب الناس إليه بالعبادة وهي غاية الذل لأجله من الغافلين كما ورد في الحديث : « تعس عبد الدرهم وتعس عبد الدينار وتعس عبد الخميصة »
فهو ، أي المال المقصود الأعظم للنفوس المعظم في القلوب المحجوبة لما فيها ، أي القلوب من الافتقار، أي الاحتياج إليه ، أي إلى المال في جميع الأمور.
 
وليس للصور ، أي صور الأشياء بقاء أصلا لأنها أعراض زائلة فلا بدّ من ذهاب صورة العجل في كل حين من جملة الأعراض الذاهبة لو لم يستعجل موسى عليه السلام بحرقه ، أي العجل فغلبت عليه ، أي على موسى عليه السلام الغيرة في انتهاك حرمة اللّه تعالى فحرقه ، أي العجل ثم نسف بالتفريق رماد تلك الصورة التي هي صورة العجل من الذهب في اليم ، أي البحر نسفا تأكيد للفعل وقال ، أي موسى عليه السلام له ، أي للسامري (" وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ") [طه : 97 ] الذي عبدته وهو العجل فسماه ، أي موسى عليه السلام إلها بطريق التنبيه ،
أي إيقاظ الغافلين للتعليم ، أي تعليمهم لما علم ، أي موسى عليه السلام أنه ، أي ذلك العجل بعض المجالي جمع مجلى ، أي المظاهر الإلهية فقد علم ما علم السامري من ذلك فأداه إلى عبادته من كثرة قصوره عن كمال علم موسى عليه السلام (لأحرقنه) ، أي العجل وقيل إنه برده بالمبرد فذراه في البحر .
فإن حيوانية الإنسان لها التصرف بطريق القهر والغلبة في حيوانية الحيوان الذي ذلك العجل من جملته لكون اللّه تعالى سخرها ، أي حيوانية الحيوان للإنسان تنقاد إليه في كل ما يريد ولا سيما ، أي خصوصا وأصله ، أي ذلك العجل ليس متولدا من حيوان بل سرت فيه الحياة ابتداء من إلقاء القبضة التي هي من أثر فرس جبريل عليه السلام فكان ، أي ذلك العجل أعظم في التسخير من جميع الحيوانات للإنسان (لأن غير الحيوان) من الجمادات كالعجل من الذهب ، فإن الذي خار وتحرك هو القبضة الملقاة فيه بحكم صورته وهو العجل ، وقد بقي فيه حكم الجمادية ، فكان حيوانا بالصوت والحركة فقط ، لا بالأكل والشرب والنكاح والنوم والموت ونحو ذلك ، ولهذا حرقه موسى عليه السلام ، ولو كان حيوانا حقيقة ما حرقه ، لأنه تعذيب له ولم يرد أنه ذبحه قبل الحرق إذ هو جماد لا يقبل الذبح ما له إرادة يأبى ويمتنع بها ممن يريده أحيانا وينقاد بها أحيانا كالحيوان المطلق (بل هو) ، أي غير الحيوان من ذلك العجل (بحكم من يتصرف فيه) من الناس كالجمادات والنباتات (من غير إباءة) ، أي امتناعه من ذلك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا الحيوان فهو ذو إرادة وغرض فقد يقع منه الإباءة في بعض التّصريف .
فإن كان فيه قوّة إظهار ذلك ظهر منه الجموح لما يريده منه الإنسان . وإن لم تكن له هذه القوّة ، أو يصادف غرض الحيوان انقاد مذلّلا لما يريده منه ، كما ينقاد الإنسان مثله لأمر فيما رفعه اللّه به - من أجل المال الّذي يرجوه منه - المعبّر عنه في بعض الأحوال بالأجرة في قوله :وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا فما يسخّر له من هو مثله إلّا من حيوانيّته لا من إنسانيّته .
فإنّ المثلين ضدّان ، فيسخّره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيّته ويتسخّر له ذلك الآخر - إمّا خوفا أو طمعا - من حيوانيّته لا من إنسانيّته .
فما يسخّر له من هو مثله ألا ترى ما بين البهائم من التّحريش لأنّها أمثال ؟
فالمثلان ضدّان ولذلك قال :وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ) [ الزخرف : 32].
 
فما هو معه في درجته ، فوقع التّسخير من أجل الدّرجات .
وأما الحيوان المطلق فهو ذو ، أي صاحب إرادة وغرض بالغين المعجمة ، أي حظ فقد يقع منه ، أي من الحيوان الإباءة ، أي الامتناع من صاحبه في بعض التصريف به فإن كان فيه ، أي في ذلك الحيوان قوّة إظهار ذلك الإباء والامتناع ظهر منه ، أي من ذلك الحيوان الجموح ، أي الحران والامتناع لما يريده منه الإنسان وإن لم تكن له ، أي ذلك الحيوان هذه القوّة ، أي قوّة إظهار الإباء والامتناع أو كانت ولكن صادف ، أي وافق ذلك الإنسان بإرادته غرض ، أي حظ الحيوان انقاد ،
أي أطاع ذلك الحيوان له مذللا بصيغة اسم المفعول لما يريده ، أي الإنسان منه ، أي من ذلك الحيوان كما ينقاد ، أي يطيع مثله ، أي مثل ذلك الحيوان وهو الحيوانية بين الإنسان لأمر ، أي لأجل أمر من الأمور فيما ، أي في حق الأمر الذي رفعه اللّه تعالى على جميع الحيوان به ، أي بذلك الأمر وهو الإنسانية من أجل المال الذي يرجوه ذلك الإنسان منه ، أي من فعل ذلك الأمر المعبر عنه ، أي عن ذلك المال في بعض الأحوال ، إذا توفرت الشروط في الشرع بالأجرة في قوله تعالى متعلق برفعه اللّه تعالى وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ[ الزخرف : 32 ] ، أي الناس فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ متفاوتة لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ، أي الناس بَعْضاً سُخْرِيًّا، أي متسخرا .
 
(فما يسخّر له) ، أي للإنسان (من هو مثله) في الإنسانية (إلا من) جهة (حيوانيته) ، أي المتسخر (لا من) جهة (إنسانية) المتماثلين فيها (فإن المثلين) من كل شيء (ضدان) باعتبار أن المحل كما لا يقبل الضدين كالسواد والبياض مثلا فيكون في وقت واحد أسود وأبيض معا ، كذلك لا يقبل المثلين فيكون فيه أبيضان أو أسودان في وقت واحد معا بل هو بياض واحد وسواد واحد وإن زاد على ما كان إذ لو كان بياضان أو سوادان في محل واحد لصح زوال أحدهما ويخلفه ضده فيجتمع ضدان ،
فالشيء لا يسخر مثله من حيث ما هو مثله ولا يتسخر لمثله من حيث ما هو مثله فيسخّره ، أي الإنسان من حيث ما هو السفل الأرفع منه ، أي الإنسان من حيث ما هو أرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه والمنصب بإنسانيته ، أي بوجه كونه إنسانا ويتسخر له ، أي يقبل التسخر منه له ذلك الإنسان الآخر إما خوفا منه باعتبار الجاه أو طمعا فيه باعتبار المال من جهة حيوانيته ، أي كونه حيوانا لا من جهة (إنسانيته فما يسخر).
 
، أي قبل التسخير له ، أي للإنسان من هو مثله ، أي الإنسان الآخر الذي يماثله وإنما تسخر له من دونه ولو من وجه كما ذكر ألا ترى ، يا أيها السالك ما بين البهائم من السباع والوحوش وغيرها من التحريش ، أي اعتداء بعضها على بعض من غير انقياد لأنها ، أي البهائم أمثال ، أي بعضها مثل لبعض في الحيوانية من غير تفاوت بوصف فاضل فيها ذاتي لها فالمثلان من الإنسانين والحيوانين ضدان فلا يفضل أحدهما على الآخر حتى يسخر ولذلك ، أي لأجل ما ذكر قال اللّه تعالى ("وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ") [ الزّخرف : 32 ] .
 
باعتبار أن التفاوت في النوع فما هو ، أي من تسخر معه ، أي مع من تسخر له في درجته التي هو فيها فوقع التسخير في نوع الإنسان من أجل الدرجات المختلفة التي رفعه اللّه تعالى بها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (والتّسخير على قسمين :
تسخير مراد للمسخّر ، اسم فاعل قاهر في تسخيره لهذا الشّخص المسخّر كتسخير السّيّد لعبده ، وإن كان مثله في الإنسانيّة ، وكتسخير السّلطان لرعاياه ، وإن كانوا أمثالا له في الإنسانيّة فيسخّرهم بالدّرجة .
والقسم الآخر تسخير بالحال كتسخير الرّعايا للملك القائم بأمرهم في الذّبّ عنهم وحمايتهم وقتال من عاداهم وحفظه أموالهم وأنفسهم عليهم . )
 
والتسخير الواقع بين الناس من بعضهم لبعض على قسمين:
القسم الأول تسخير مراد أي مقصود للمسخّر بصيغة اسم فاعل قاهر ذلك المسخر في تسخيره لهذا الشخص المسخر له كتسخير السيد لعبده وإن كان ذلك العبد مثله ، أي السيد في الإنسانية وكتسخير السلطان والحاكم لرعاياه وإن كانوا ، أي  الرعايا أمثالا له ، أي للسلطان والحاكم في صفة الإنسانية مع الحيوانية أيضا فيسخرهم ، أي السلطان الرعية بالدرجة التي له عليهم وهي رتبة السلطنة والحكم .
 
والقسم الآخر تسخير بالحال الظاهر من المسخر كتسخير الرعايا للملك ، أي السلطان القائم بأمرهم في الذب ، أي الطرد والمنع لشر الأعداء عنهم ، أي عن الرعايا وحمايتهم ،
أي حفظهم وحراستهم ممن يريدهم بسوء وقتال من عاداهم من أهل الحرب والبغي وحفظ أموالهم عن السراق والغاصبين والناهبين في المدن والقرى وقطاع الطريق في الصحراء وحفظ أنفسهم عليهم من كل معتد داعر أو ظالم مكابر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهذا كلّه تسخير بالحال من الرّعايا يسخّرون بذلك ملكهم ، ويسمّى على الحقيقة تسخير المرتبة .
فالمرتبة حكمت عليه بذلك . فمن الملوك من سعى لنفسه ، ومنهم من عرف الأمر فعلم أنّه بالمرتبة في تسخير رعاياه ، فعلم قدرهم وحقّهم ، فآجره اللّه على ذلك أجر العلماء بالأمر على ما هو عليه وأجر مثل هذا يكون على اللّه في كون اللّه في شؤون عباده .
فالعالم كلّه مسخّر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه أنّه مسخّر . قال تعالى :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ") [ الرحمن : 29 ] .


(وهذا) المذكور (كله تسخير بالحال) الظاهر (من) جميع (الرعايا يسخرون بذلك) المذكور (ملكهم) ، أي سلطانهم الذي عاهدوه وعقدوا معه بيعة السلطنة على كل ذلك (ويسمى) ، أي هذا التسخير (على الحقيقة) ، أي حقيقة الأمر (تسخير المرتبة) فالمرتبة ، التي للواحد من الرعايا (حكمت عليه) ، أي على ذلك الواحد (بذلك) ، أي بتسخيره للملك والحاكم .
 
(فمن الملوك) غير العارف بأنه مسخر لرعاياه وهو من سعى في خدمة الرعية لنفسه ببلوغ حظها من إظهار الصولة والحمية وحفظ البلاء ليمدح على ذلك ومنهم ، أي الملوك من عرف الأمر وهو كونه مسخرا للرعايا فعلم في نفسه أنه ، أي ذلك الملك متسخر لرعاياه بالمرتبة المقتضية لذلك في تسخير رعاياه ، أي كونهم يسخرونه في جميع أمورهم فعلم من ذلك قدرهم
وعرف حقهم عليه فآجره اللّه ، أي إعطاء اللّه تعالى على ذلك الأمر القائم به مثل أجر العلماء العارفون (بالأمر على ما هو عليه) من الأنبياء وورثتهم وأجر مثل هذا المتسخر للمرتبة يكون أجره ذلك على اللّه تعالى كما قال نوح عليه السلام لقومه : (" فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ") [ يونس : 72 ] ،
وقال أيضا في موضع آخر : (" وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ") [ هود : 29 ] ،
وقال هود عليه السلام : (" يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلا تَعْقِلُونَ ") ( 51 ) [ هود : 51 ] في كون اللّه ظاهرا في شؤون جمع شأن وهو الحال ، أي أحوال عباده المؤمنين به على الكشف منهم عن ذلك .
قال تعالى : ("وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ")[ يونس : 61 ] ،
 
(فالعالم) يفتح اللام (كله) محسوسه ومعقوله وموهومه (مسخر بالحال) الظاهر منه وهو الافتقار والاحتياج من لا يمكن شرعا (أن يطلق عليه) عندنا (اسم مسخّر) بصيغة اسم المفعول وهو اللّه تعالى لعدم ورود هذا الاسم له في الشرع (قال تعالى) مشيرا إلى ذلك ( " كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ") [ الرحمن : 29 ] ، أي هو قائم بالشؤون كلها .
وقال سبحانه : (" سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ") ( 31 ) [ الرحمن : 31 ] ، يعني من القيام بجميع أحوالكم في الدنيا فيفرغ خلقنا لشؤونكم كلها ثم تقوم الساعة فنحاسبكم على جميع ما هو منسوب إليكم عندكم من أعمالكم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان عدم قوّة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتّسليط على العجل كما سلّط موسى عليه ، حكمة من اللّه ظاهرة في الوجود ، ليعبد في كل صورة . وإن ذهبت تلك الصّورة بعد ذلك فما ذهبت إلّا بعدما تلبّست عند عابدها بالألوهيّة .
ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلّا وعبد إمّا عبادة تألّه وإمّا عبادة تسخير فلا بدّ من ذلك لمن عقل).
 
(فكان عدم قوّة إرداع) ، أي منع وزجر (هارون) عليه السلام لعابدي العجل من قومه (بالفعل) المقتضي للكف عن ذلك أن تنفذ تلك القوة منه (في أصحاب العجل بالتسليط) ، أي التوجه بالقهر والاستيلاء والقدرة والغضبية (على العجل كما سلط موسى) عليه السلام ، أي سلط اللّه تعالى عليه ، أي على العجل فحرقه ونسفه في البحر نسفا حكمة خبر كان من اللّه تعالى ظاهرة لكل من له بصيرة في هذا الوجود ليعبد ،
 
أي اللّه تعالى متجليا ظاهرا في كل صورة وإن ذهبت ، أي فنيت واضمحلت تلك الصورة التي ظهر بها وعبد فيها بعد ذلك ، أي بعد عبادته فيها فما ذهبت ، أي تلك الصورة إلا بعد ما تلبست ، أي اتصفت عند عابدها بالألوهية ولهذا ، أي لكون الأمر كذلك ما بقي نوع من الأنواع المخلوقة من أنواع الحيوان والنبات والجماد إلا وعبد بالبناء للمفعول ، أي عبده العابدون إما عبادة تأله ، أي كونه إلها من دون اللّه تعالى وإما عبادة تسخير كما سبق في القسمين المذكورين ولا بد من ذلك الأمر الذي وقع لمن عقل باعتبار ظهور اللّه تعالى في كل شيء واستتاره بحكم النفوس ، فالقلب يقول إنه الإله الموجود والتأثير الظاهرين في كل شيء والنفس تقول ليس هو الإله للصورة الحسية والمعنوية ، فإذا غلب القلب عرف فاعترف ومن بحر المعرفة اغترف وإذا غلبت النفس أنكر فكره ووجه الحق عنه استتر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما عبد شيء من العالم إلّا بعد التّلبّس بالرّفعة عند العابد والظهور بالدّرجة في قلبه . ولذلك يسمّى الحقّ لنا برفيع الدّرجات ، ولم يقل رفيع الدّرجة . فكثّر الدّرجات في عين واحدة . فإنّه قضى أن لا نعبد إلّا إيّاه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كلّ درجة مجلى إليها عبد فيها . وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه « الهوى » كما قال :أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُفهو أعظم معبود ، فإنّه لا يعبد شيء إلّا به ، ولا يعبد هو إلّا بذاته . )


(وما عبد شيء من العالم) بفتح اللام أي المخلوق إلا بعد التلبس أي الاتصاف بالرفعة وعظمة الشأن والشرف عند العابد لذلك الشيء والظهور بالدرجة العالية في قلبه ، أي قلب ذلك العابد ؛ ولذلك ، أي لأجل ما ذكر تسمى الحق تعالى لنا في القرآن برفيع الدرجات .
قال تعالى : (" فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ( 14 ) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ") [ غافر : 14 -15 ].
ولم يقل تعالى رفيع الدرجة بالإفراد فكثر بالتشديد الدرجات ، أي جعلها كثيرة في عين ، أي ذات واحدة فإنه تعالى قضى ، أي حكم وألزم أن لا يعبد بالبناء للمفعول إلا إياه سبحانه كما قال تعالى : " وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ " [ الإسراء : 23 ] ،
وما قضى به وحكم وألزم واقع لا محالة عبادة واقعة عليه تعالى من جميع العابدين في درجات له كثيرة مختلفة في الحس والعقل والوهم أعطت كل درجة منها أي من تلك الدرجات مجلى ، أي مظهرا إلهيا ، أي منسوبا إلى الإله تعالى عبد ، أي اللّه تعالى فيه ، أي في ذلك المجلى الإلهي وأعظم مجلى ، أي مظهر عبد سبحانه وتعالى فيه لكمال ظهوره به وأعلاه ، أي أعلى مجلى وأرفعه الهوى ، أي الميل النفساني بقصد الحظوظ العاجلة
 
 كما قال تعالى أفرأيت بالخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم تنبيها على ما يعجب منه غاية العجب من اتخذ ، أي جعل في نفسه إلهه ، أي معبوده الذي يعبده أي ينقاد إليه ويطيعه ويذل له غاية الذل هواه ،

أي ميله النفساني إلى أغراضه العاجلة ، فإذا حكم عليه هواه بالميل إلى شيء أطاع هواه ، وانقاد إليه وذل لحكمه غاية الذل ولا يقدر على مخالفته ولا الامتناع منه أصلا وهم أهل الغفلة عن شهود اللّه تعالى في كل شيء المحجوبون بحجب الأغيار عن رؤية وجوه الأسرار واستجلاء لوامع الأنوار فهو ، أي الهوى أعظم معبود من دون اللّه تعالى في قلوب أهل الاغترار باللّه تعالى الذين يظنون أنهم يعبدون اللّه تعالى وهم لا يعبدون إلا الهوى فإنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا فإنه ، أي الهوى لا يعبد شيء من الأشياء إلا به فكل شيء معبود من دون اللّه تعالى ما عبد إلا بالهوى ولا يعبد هو ، أي الهوى إلا بذاته لا بشيء غيره لأحدية ذاته وعدم تركبها كما سيأتي .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مارس 12, 2020 2:22 am

24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص الهاروني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الجزء الثاني  

24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وفيه أقول :
وحقّ الهوى إنّ الهوى سبب الهوى .... ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى
ألا ترى علم اللّه بالأشياء ما أكمله ، كيف تمّم في حقّ من عبد هواه واتّخذه إلها فقال :" وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ " والضّلالة الحيرة ، وذلك أنّه لمّا رأى هذا العابد ما عبد إلّا هواه بانقياده لطاعته فيما يأمره من عبادة من عبده من الأشخاص .
حتّى أنّ عبادته للّه كانت عن هوى أيضا ، لأنّه لو لم يقع له في ذلك الجانب المقدّس هوى - وهو الإرادة بمحبّته ما عبد اللّه ولا آثره على غيره .
وكذلك كلّ من عبد صورة ما من صور العالم واتّخذها إلها ما اتّخذها إلّا بالهوى فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه . )

(وفيه) ، أي في الهوى (أقول) ، أي يقول المصنف قدس اللّه سره .
(وحق) بواو القسم (الهوى) أقسم به لعظمته في ملك اللّه تعالى حيث جعل اللّه تعالى له هذه السلطنة والقهر والاستيلاء على النفوس البشرية بحيث لا يمكنها التخلف عن أمره في الغالب (إن الهوى) المذكور (سبب) وجود (الهوى) ، أي وجود نفسه إذ لا سبب لوجوده في النفوس البشرية إلا نفسه لأنه لا سبب أعظم منه حتى يكون سببا لوجوده ولولا وجود (الهوى في القلب ما عبد) بالبناء للمفعول الهوى ، أي صار معبودا من دون اللّه تعالى .

(ألا ترى) يا أيها السالك علم اللّه تعالى بالأشياء ما أكمله ، أي ما أكثر كماله كيف تمم ، أي علمه تعالى بقوله سبحانه في حق من عبد هواه من أهل الغفلة والحجاب واتخذه ، أي الهوى إلها ، أي معبودا من دون اللّه تعالى فقال سبحانه وأضله اللّه تعالى ، أي جعله ضالا على علم منه بذلك والضلالة هي الحيرة ، أي تردد في الأمر من غير جزم به (و) بيان (ذلك أنه) ، أي الشأن لما رأى هذا العابد في نفسه بأنه ما عبد إلا هواه بانقياده ، أي بسبب انقياده لطاعته ، أي طاعة هواه فيما ، أي في كل شيء يأمره ، أي هواه به من عبادة من عبده هذا العابد من الأشخاص الكونية كالصنم ونحوه في الكفر .

(حتى أن عبادته) ، أي العابد الغافل للّه تعالى في الإسلام (كانت عن هوى أيضا) فيمن لم تهذبه الرياضة الشرعية ولم تتطهر مرآة بصيرته من حيث الأكوان (لأنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس) ، وهو حضرة الحق تعالى (هوى) إلى دخول الجنة التي أمن بها في الدنيا فيتشوق إلى نعيمها والنجاة من النار من أحوالها وجحيمها وهو ، أي الهوى الإرادة للشيء (بمحبة) له (ما عبد) ذلك العابد (اللّه) تعالى بامتثال أوامره سبحانه واجتناب نواهيه (ولا آثره) ، أي قدمه تعالى (على غيره) في الطاعة وترك المعصية .

ولهذا قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي قدس اللّه سره :
من أقطع القواطع عن اللّه شهوة الوصول إلى اللّه . وذلك لأنه هوى يعتري السالكين في طريق اللّه تعالى فيقطعهم عن سلوكهم (وكذلك كل من عبد صورة مّا) ، يعني ، أي صورة كانت (من صور العالم) بالكفر (واتخذها) ، أي تلك الصورة (إلها) من دون اللّه تعالى (ما اتخذها) كذلك (إلا بالهوى) القائم بنفسه (فالعابد) مسلما كان أو كافرا (لا يزال تحت) قهر (سلطان هواه) له أي لا يستطيع مخالفته بخلاف الشاكر فإنه تحت قهر أمر ربه في تصريف القدرة الإلهية .
قال تعالى : " اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ" [ سبأ : 13 ]
ونبينا صلى اللّه عليه وسلم قام الليل حتى تورمت قدماه قيل له في ذلك ، فقال : « أفلا أكون عبدا شكورا » . رواه البخاري و مسلم و غيرهما.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ رأى المعبودات تتنوّع في العابدين ، فكلّ عابد أمرا ما يكفّر من يعبد سواه ؛ والّذي عنده أدنى تنبّه يحار لاتّحاد الهوى ، بل لأحديّة الهوى ، فإنّه عين واحدة في كلّ عابد ."وَأَضَلَّهُ اللَّهُ" أي حيّره "عَلى عِلْمٍ" [ الجاثية : 23 ] بأنّ كلّ عابد ما عبد إلّا هواه ولا استعبده إلّا هواه سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف .
والعارف المكمّل من رأى كلّ معبود مجلى للحقّ يعبد فيه .
ولذلك سمّوه كلهم إلها مع اسمه الخاصّ بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك . هذا اسم الشّخصيّة فيه . ).

ثم رأى ذلك العابد المعبودات من دون اللّه تعالى تتنوّع في قلوب العابدين لها فكل قلب لعابد له معبود مخصوص اقتضاه هواه وكل عابد من تلك العابدين أمرا مّا يعني ، أي أمر كان .
والمراد أي معبود كان يكفر بالتشديد ، أي ينسب إلى الكفر من يعبد سواه ، أي غير ذلك الأمر من بقية المعبودين وهو قوله تعالى :"كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها "[ الأعراف : 38 ].

وسماها أختها لمساواتها لها في الهوى الداعي إلى عبادة غير اللّه تعالى من كل ما عبده العابد والعابد الذي عنده أدنى تنبه للحق في ذلك يحار ، أي يقع في الحيرة لاتحاد الهوى الداعي في الكل أي كونه جنسا واحدا ظاهرا في قلب كل عابد بنوع مخصوص تقتضيه طبيعة ذلك العابد بل لأحدية الهوى ، أي وحدته الذاتية كما ذكر فيما مر من قوله ولا يعبد هو يعني الهوى إلا بذاته فإنه ، أي الهوى عين ، أي حقيقة واحدة ولا تنقسم ولا تتبعض موجود بتمامه في قلوب كل عابد يقتضي تحريك كل طبيعة نحو ما يلائمها من أحوال المعبودات من الأشياء .


فأضله ، أي أضل عابد هواه اللّه تعالى ، أي حيره فلم يهده إلى وجه الصواب على علم منه بأن كل عابد من العابدين ما عبد إلا هواه من دون اللّه تعالى ولا استعبده ،
أي جعله له عبدا قهرا عنه إلا هواه سواء صادف ، أي وافق ذلك الهوى الأمر المشروع في حق المسلم الذي عبد ربه تعالى بهوى نفسه ، وهو من نفس الأمر ما عبد إلا هوى نفسه لكن صادف هواه أمرا مشروعا وهو صورة طاعة ربه تعالى أو لم يصادف ، أي يوافق هواه الأمر المشروع في حق الكافر كعابد الصنم والكوكب ونحو ذلك .

والعارف باللّه تعالى المكمل ، أي الذي كمله اللّه تعالى في مرتبتي العلم والعمل باطنا وظاهرا من رأى ، أي شهودا عيانا كل معبود من دون اللّه تعالى مجلى ، أي مظهرا للحق تعالى يتجلى به له يعبد بالبناء للمفعول سبحانه فيه ، أي في ذلك المجلى ولذلك ، أي لكونه مجلى سموه ، أي سمى العابدون كلهم كل معبود إلها والإله هو اللّه تعالى في الحقيقة مع ذكرهم اسمه ، أي اسم ذلك المعبود الخاص به فإنه مسمى بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك ، أو نحو ذلك من كل من عبد من دون اللّه تعالى هذا الاسم المذكور هو اسم الهيئة الشخصية ، أي المشخصة وهي الصورة الحسية والمعنوية فيه ، أي في ذلك المعبود من دون اللّه تعالى .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والألوهيّة مرتبة تخيّل العابد له أنّها مرتبة معبوده ، وهي على الحقيقة مجلى للحقّ لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختصّ .
ولهذا قال بعض من عرف مقالة جهالة ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [ الزمر : 3 ] مع تسميتهم إيّاهم آلهة .
حتّى قالوا : "أجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ " [ ص : 5 ] ، فما أنكروه بل تعجّبوا من ذلك ، فإنّهم وقفوا مع كثرة الصّور ونسبة الألوهيّة لها . )


والألوهية في ذلك المعبود مرتبة عقلية تخيل توهم العابد له ، أي لذلك المعبود أنها ، أي تلك المرتبة الألوهية مرتبة معبوده ذلك ، أي هو يستحقها مع اللّه تعالى وهي ، أي مرتبة الألوهية المتوهمة في ذلك المعبود على الحقيقة ، أي في نفس الأمر مجلى ، أي مظهر الحق تعالى وإن لم يعرف ذلك العابد لانحجابه بكفر لبصر هذا العابد الخاص ، الذي يبصر به معبوده فإنه الحق تعالى أيضا وإن جهل ذلك بحكم قوله عليه السلام كنت بصره الذي يبصر به

(المعتكف) ذلك العابد على هذا المعبود في هذا المجلى ، أي المظهر المختص بحجر أو شجر ونحو ذلك ؛ (ولهذا) ، أي لكون ذلك مجلى الحق تعالى قال بعض من لم يعرف مقاله ،
أي قوله الذي قاله عن نفسه وهم بعض الأقوام الماضية الذين كانوا يعبدون الأصنام (جهالة).

أي على وجه الجهالة منهم بذلك كما حكاه تعالى بقوله ("ما نَعْبُدُهُمْ") ، أي الأصنام ("إِلَّا لِيُقَرِّبُونا") ، أي يجعلون مقربين ("إِلَى اللَّهِ") تعالى ("زُلْفى") ، أي قربة عظيمة (مع تسميتهم) ، أي ذلك القوم (إياهم) ، أي الأصنام (آلهة) لهم من دون اللّه تعالى (كما قالوا) ، أي ذلك القوم الكافرون فيما حكاه اللّه عنهم (أجعل) ، أي رسولهم الذي أمرهم بالتوحيد (الآلهة) الكثيرة عندهم (إلها واحدا) ، أي معبودا واحدا أمر بعبادته وحده وترك ما سواه إنّ هذا الجعل المذكور (لشيء عجاب) ، أي عجيب (فما أنكروه) ، أي جعل الآلهة إلها واحدا يعني التوحيد (بل تعجبوا من ذلك) الجعل المذكور (فإنهم وقفوا مع كثرة الصور) في الحس والعقل ومع (نسبة الألوهية لها) ، أي لتلك الصور .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فجاء الرّسول ودعاهم إلى واحد يعرف ولا يشهد ، بشهادتهم أنّهم أثبتوه عندهم واعتقدوه في قولهم : "ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى."
لعلمهم بأنّ تلك الصّور حجارة ، ولذلك قامت الحجّة عليهم بقوله :قُلْ سَمُّوهُمْ [ الرعد : 33 ] فما يسمّونهم إلّا بما يعلمون أنّ تلك الأسماء لهم حقيقة . ).

فجاء الرسول من اللّه تعالى إليهم ودعاهم إلى عبادة إله واحد يعرف بالبناء للمفعول أي يعرفه المؤمن به والكافر ولا يشهد بالبناء للمفعول أيضا لا للمؤمن به ولا للكافر بشهادتهم التي يشهدونها بمجرد قولهم أنهم أثبتوه ، أي ذلك الإله الواحد عندهم واعتقدوه إلها حقا بالتصريح به (في قولهم "ما نَعْبُدُهُمْ ")، أي الأصنام بصيغة العقلاء لأنهم كانوا ينحتونها على صور العقلاء ("إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى") [ الزمر : 3 ] .

فقد صرحوا بثبوت الإلهية للّه تعالى ، ولم يشهدوه بهذا الثبوت وإن اعتقدوه ، لأن شهوده تعالى الذي في قلوب المؤمنين به لا يكون في الشهود شيء غيره معه ، تعالى أصلا ولا يمكن ذلك أبدا ، وهم في قلوبهم شهود الأغيار ، فكيف تنكشف لهم وجوه الأسرار وتشرق الأنوار .

(لعلمهم) ، أي الكافرين (بأن تلك الصور) التي عبدوها (حجارة) لا تضر ولا تنفع والضار النافع هو اللّه تعالى وحده ، ولكنهم اعتقدوا أن لها عند اللّه تعالى مزيد شرف ورفعة قدر ، فعبدوها وتركوا عبادة اللّه تعالى لتقربهم إليه سبحانه لظنهم بأنها مشاركة له تعالى في صفة الألوهية ، فإنها كانت صور رجال عابدين اللّه تعالى في الملل السابقة ، وربما خرقت لهم العادة في حياتهم أو بعد مماتهم بأمور كان أولئك العابدون لهم يعرفونها ، فظنوا أنهم شاركوا بذلك التأثير اللّه تعالى في الألوهية ، فكانوا آلهة مع اللّه تعالى ، فصوروهم بعد موتهم وعبدوهم وغابوا عن شهود اللّه تعالى فيهم عنهم ، وكون صدور ذلك التأثير بعينه عن اللّه تعالى لطمس بصائرهم بظلمة الكفر وزيغهم عن الصراط المستقيم .

قال تعالى :"إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ" [ المائدة : 67 ] .
(ولذلك) ، أي لعلمهم بأن معبودهم حجارة (قامت الحجة) القاطعة (عليهم) بكفرهم وزيغهم عن الحق المبين (بقوله) تعالى الذي أمر به نبيه المرسل إليهم أن يقول لهم حيث قال تعالى : (" قُلْ سَمُّوهُمْ") ، أي سموا ما عبدتم من دون اللّه تعالى ولو سموهم (فما يسمونهم) ، أي يذكرون الأسماء لهم (إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة) لغوية عندهم كحجر وخشب وكوكب وأمثالها كإنسان وحيوان وملك فيظهر عند ذلك كفرهم بإقرارهم لو عقلوا أنهم عبدوا ما لا ينفع ولا يضر أصلا .

ولهذا لما قال لهم إبراهيم عليه السلام "فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ( 63 ) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ( 64 ) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ" [ الأنبياء : 63 - 65 ] ،
أي رجعوا إلى قولهم الأوّل ، وتخيل لهم رؤية تأثيرهم من دون اللّه تعالى ،
فقالوا له :" لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ "[ الأنبياء : 65 ] ،
أي إنك تعلم أنهم لا ينطقون ، ونحن نعبدهم كذلك لظهور تأثير الألوهية منهم ، فعدل عليه السلام إلى الاحتجاج برد ما تخيلوه فيهم من النفع والضر ،

قالَ: " أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ( 66 ) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ " [ الأنبياء : 66 - 67 ] ،
أي حيث وجدتم ذلك النفع والضر صادرا لكم من الأصنام دون اللّه تعالى : "أَفَلا تَعْقِلُونَ " إن ذلك صادر من اللّه تعالى لا من الأصنام ، فظهر الحق على لسان إبراهيم عليه السلام ، فلم يمكنهم رده إلا بالفعل فعند ذلك قالُوا :" حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ " [ الأنبياء : 68 ] إلى آخره .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا العارفون بالأمر على ما هو عليه فيظهرون بصورة الإنكا لما عبد من الصّور لأنّ مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت لحكم الرّسول الّذي آمنوا به عليهم الّذي به سمّوا مؤمنين .
فهم عبّاد الوقت مع علمهم بأنّهم ما عبدوا من تلك الصّور أعيانها ، وإنّما عبدوا اللّه فيها بحكم سلطان التّجلّي الّذي عرفوه منهم ، وجهله المنكر الّذي لا علم له بما تجلّى .
وستره العارف المكمّل من نبيّ ورسول ووارث عنهم . )

(وأما العارفون) من أهل اللّه تعالى (بالأمر) الإلهي (على ما هو عليه) في نفسه (فيظهرون) بين الناس كما ظهرت الأنبياء والمرسلون عليهم السلام (بصورة الإنكار لما عبد) بالبناء للمفعول (من الصور) من دون اللّه تعالى وإن عرفوا نفس الأمر على ما هو عليه كما سبق (لأن مرتبتهم) ، أي العارفين (في العلم) الإلهي (تعطيهم أن يكونوا) قائمين (بحكم الوقت) ، أي الزمان الذي هم فيه موجودون تابعين (لحكم الرسول الذي آمنوا) ،

أي صدقوا به ، أي بذلك الحكم (عليهم) متعلق بحكم الذي نعت الحكم (به) ، أي بسببه (سموا مؤمنين) ، أي مصدقين مذعنين ويجوز كون الموصولين نعتا للرسول (فهم) ، أي العارفون (عبّاد) بالتشديد جمع عابد (الوقت) ،
أي الزمان الذي هم بحكمه قائمون لتنفيذهم مقتضاه في ظواهرهم والمراد أنهم عباد اللّه تعالى الكاملون في الوقت (مع علمهم) ، أي العارفين (بأنهم) ، أي عباد الصور من دون اللّه تعالى (ما عبدوا من تلك الصور) من الأصنام وغيرها (أعيانها) ، أي ذواتها


(وإنما عبدوا اللّه) تعالى الظاهر (فيها) ، أي في تلك الصور (بحكم سلطان التجلي) الإلهي ، أي الانكشاف (الذي عرفوه) ، أي العارفون (منهم) ، أي من عباد الصور (وجهله) ، أي ذلك التجلي (المنكر الذي لا علم له بما تجلى) ، أي ظهر وانكشف من الحق تعالى في تلك الصور المعبودة وستره ، أي ذلك التجلي العارف المكمل في المعرفة من رسول ، أي صاحب كتاب وشريعة (ونبي) مقرر شريعة من قبله (ووارث) من الأولياء للعلم الإلهي (عنهم) ، أي عن المرسلين والأنبياء صلوات اللّه عليهم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصّور لما انتزح عنها رسول الوقت اتّباعا للرّسول طمعا في محبّة اللّه إيّاهم بقوله : " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهَ " [ آل عمران : 31 ] .
فدعا إلى إله يصمد إليه ويعلم من حيث الجملة ، ولا يشهد ولا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُبلوَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَللطفه وسريانه في أعيان الأشياء . فلا تدركه الأبصار كما أنّها لا تدرك أرواحها المدبّرة أشباحها وصورها الظّاهرة .  "فهو اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " [ الأنعام : 103 ] .
والخبرة ذوق ، والذّوق تجلّ ، والتّجلّي في الصّور . فلا بدّ منها ولا بدّ منه .
فلا بدّ أن يعبده من رآه بهواه إن فهمت ." وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ " [ النحل : 9 ] . )

فأمرهم ، أي أمر ذلك العارف المكمل لعباد الصور بالانتزاح ، أي التباعد والتجنب عن تلك الصور التي يعبدونها من دون اللّه تعالى لما انتزح ، أي تباعد واجتنب عنها ، أي عن تلك الصور رسول الوقت هو المقر للشريعة والدين في ذلك الوقت من الأولياء ميراثا نبويا اتباعا ، أي على وجه المتابعة منه للرسول النبي صاحب الكتاب والشريعة طمعا من رسول الوقت في حصول محبة اللّه تعالى إياهم ، أي عباد الصور بزوال كفرهم الذي اقتضته عبادتهم لها من دون اللّه تعالى بقوله تعالى أي بسبب قوله : ("قُلْ") ، أي يا محمد للكافرين " إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ " وتطمعون في حصول محبته سبحانه لكم (" فَاتَّبِعُونِي") ، أي اقتدوا بي في جميع ما آمركم به وأنهاكم عنه ظاهرا وباطنا (" يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ " فدعا) [ آل عمران : 31].


أي الرسول النبي المأمور بذلك إلى عبادة إله ، أي معبود حق يصمد بالبناء للمفعول ، أي يقصد إليه في تحصيل جميع الحوائج ويعلم بالبناء للمفعول أيضا أي يعلمه المؤمنون به من حيث الجملة ، أي بطريق الإجمال في حضراته وما يجب له من الكمال ولا يشهد بالبناء للمفعول أيضا يعني من حيث ذاته المطلقة وإن شهد من حيث تجليات أسمائه وصفاته ولا تدركه سبحانه من حيث ذاته أيضا الأبصار جمع بصر من حيث هي أبصار (بل "وَهُوَ") سبحانه (" يُدْرِكُ الْأَبْصارَ") [ الأنعام : 103 ] من حيث هو عين الإبصار كما ورد : « كنت بصره الذي يبصر به »  .

وإذا أدرك الأبصار أدرك ذاته حينئذ ، لأنه يكون عين الإبصار لا من حيث هي صور مشتملة على قوى حساسة بل من حيث ما هي موصوفة بالوجود فهي نفس الوجود مثل كل شيء والصور العدمية علامة على الحضرة البصرية المخصوصة للطفه تعالى وكل ما سواه بالنسبة إليه سبحانه كثيف جدا وسريانه بصفة القيومية في أعيان الأشياء من غير حلول لعدم تصوره في حقه تعالى ،


فإن الموجود لا يحل في المعدوم وإن ظهر به وتقيد بقيوده عنده في نفس الأمر (فلا تدركه) تعالى (الأبصار) لأجل ذلك (كما أنها) ، أي الأبصار (لا تدرك أرواحها) ، أي أرواح الأبصار ، المدبرة أشباحها ، أي أجسامها الإنسانية وصورها الظاهرة فالأرواح (المدبرة للأجسام) ألطف من الأبصار فلا تقدر الأبصار أن تدركها لأنها ألطف منها ، والكثيف لا يدركه اللطيف واللطيف يدرك الكثيف .


(فهو) ، أي اللّه تعالى (اللطيف) ، أي الموصوف بكمال اللطف فكيف تدركه الأبصار (الخبير) ، أي الموصوف بكمال الخبرة ، فكيف لا يدرك الأبصار (والخبرة ذوق) ، أي علم كشف ومعاينة وإحساس ، لأنه العلم المستفاد من الاختبار والامتحان كما مر (والذوق تجل) ، أي ظهور وانكشاف (والتجلي) من اللّه تعالى إنما يكون (في الصور) فيتجلى بها فيعرف من يعرف ويجهل من يجهل وينكر من ينكر والأمر في نفسه لا يتغير (فلا بد منها) ، أي من الصور (ولا بد منه) ، أي التجلي فيها (فلا بد أن يعبده) تعالى من رآه في الصور من مقام الإحسان الذي هو أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (بهواه) ،

أي بميل نفسه إلى عين ما رأى (إن فهمت) يا أيها السالك سر المعرفة الإلهية الذوقية فإن فيها يطيب الهوى وبعدمها عند ظهور المعرفة الخيالية الوهمية في القاصرين يخبث الهوى ، ومن هنا قيل للجنيد رضي اللّه عنه : متى يصير داء النفس دواها فقال : إذا تركت هواها صادر داؤها دواها .

(وعلى اللّه) تعالى فضلا منه ورحمة كما قال سبحانه :"كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" [ الأنعام : 54 ] ، أي ألزم نفسه لكم بها (قصد) ، أي إرادة المريد بصدق وعزم للسلوك في (السبيل) ، أي طريق اللّه تعالى المستقيم وهو صراط الذين أنعم اللّه عليهم .


وفيه إشارة إلى أنه لا وصول إلى اللّه تعالى أصلا في الدنيا والآخرة ، وإنما هناك سلوك فقط في صراط اللّه المستقيم ، فمن دخل الطريق وسلك فيه فهو الواصل والخروج عنه انقطاع . 
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:39 am

25 -  فص حكمة علوية في كلمة موسوية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
25 -  فص حكمة علوية في كلمة موسوية
هذا فص الحكمة الموسوية ، ذكره بعد حكمة هارون عليه السلام ، لأن اللّه تعالى وهبه رحمة لأخيه موسى عليهما السلام كما قال تعالى :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا( 53 ) [ مريم:53].
والرحمة سابقة على المرحوم بها ولأنه أكبر من موسى عليه السلام في السن فهو مقدم عليه في الذكر فيوجد قبله في الرسم .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « الأكبر من الأخوة بمنزلة الأب » . رواه الطبراني في المعجم الكبير ورواه ابن عبد البر في الاسيتعاب ورواه غيرهما .
فص حكمة علوية منسوبة إلى العلو وهو الرفعة والشرف في كلمة موسوية .
قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) سورة طه "
إنما اختصت حكمة موسى عليه السلام بكونها علوية لارتفاعها على حكمة أخيه وشرفها عليها ، فإن نبوة موسى عليه السلام أكبر وأعظم من نبوة أخيه هارون عليه السلام لتبعيته له .
قال تعالى : سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [ القصص : 35 ] وما شد به العضد كان تابعا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حكمة قتل الأبناء من أجل موسى عليه السلام لتعود إليه بالإمداد حياة كلّ من قتل لأجله لأنّه قتل على أنّه موسى . وما ثمّ جهل ، فلا بدّ أن تعود حياته على موسى عليه السّلام أعني حياة المقتول من أجله وهي حياة طاهرة على الفطرة لم تدنّسها الأغراض النّفسيّة ، بل هي على فطرة " بلى " . فكان موسى مجموع حياة من قتل على أنّه هو؛ فكلّ ما كان مهيّئا لذلك المقتول ممّا كان استعداد روحه له، كان في موسى عليه السّلام . وهذا اختصاص إلهيّ لموسى لم يكن لأحد قبله .
فإنّ حكم موسى كثيرة فأنا إن شاء اللّه تعالى أسرد منها في هذا الباب على قدر ما يقع به الأمر الإلهيّ في خاطري )
 
(حكمة) تقدير اللّه تعالى (قتل الأبناء) جمع ابن بأمر فرعون ، فإن الكهنة قالوا لفرعون إنه يولد مولود يكون هلاكك وهلاك قومك على يديه ، فكان يقتل كل مولود يولد حتى قتل أولاد كثيرون لاحتمال أن يكون واحد منهم هو الغلام المذكور ، ثم سلم اللّه تعالى موسى عليه السلام ، ووضعته أمه وحفظه اللّه تعالى من شر عدوّه حتى كان سبب هلاك فرعون وقومه وإغراقهم في البحر بإذن اللّه تعالى ، ولم يمنع الحذر من القدر (من أجل) ظهور (موسى عليه السلام لتعود إليه) ، أي إلى موسى عليه السلام بالإمداد له أي تقوية الروحانية (حياة كل من قتل) من أبناء المذكورين (من أجله) ، أي موسى عليه السلام (لأنه) ، أي كل من قتل إنما قتل بناء (على أنه) ، أي ذلك المقتول (موسى) عليه السلام (وما ثم) ، أي هناك في نفس الأمر (جهل) للحق تعالى بموسى عليه السلام بل قدر اللّه تعالى ذلك على علم منه سبحانه بأن كل مقتول هو غير موسى عليه السلام وتقدير اللّه تعالى ليس بعبث بل كل أفعاله جارية على الحكمة (فلا بد أن تعود حياته) ، أي كل مقتول (على موسى) عليه السلام (أعني حياة المقتول من أجله) ، أي موسى عليه السلام (وهي) ، أي تلك الحياة التي لكل مقتول (حياة طاهرة) من الطهارة التي هي ضد الدنس ، أي نظيفة كائنة (على الفطرة) ، أي على الخلقة الأصلية وهي فطرة الإسلام لأنهم كانوا كلما ولد مولود حي ذبحوه .
 
قال تعالى :فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ[ الروم : 30 ] .
وفي الحديث : كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يهوّداته أو ينصرانه أو يمجسانه » .
رواه البخاري ورواه مسلم ورواه غيرهما .
 لم تدنسها ، أي تلك الحياة الأغراض بالمعجمة أي الحظوظ والمقاصد النفسية ، أي المنسوبة إلى النفس بل هي ، أي تلك الحياة على فطرة أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى أي نعم أنت ربنا كما قال تعالى : أي خلقة عالم الذر حين جمع اللّه تعالى ذرية آدم عليه السلام وهم كالذر فتجلى عليهم
وقال لهم : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ( 173 ) [ الأعراف : 172 - 173 ] .
فكان موسى عليه السلام مجموع حياة كل من قتل ، من الأبناء المذكورين بناء على أنه ، أي
ذلك المقتول هو ، أي موسى عليه السلام فكل ما كان مهيئا بطريق الإمكان لذلك المقتول من الأبناء مما كان استعداد روحه ، أي روح ذلك المقتول له من أنواع الكمال التي لو عاش في الدنيا ذلك المقتول لنافسها ووصل إليها بقوّة روحانيته وقبلتها حقيقته من الجناب المقدس .
 
كان ذلك في موسى عليه السلام وهذا الأمر المذكور اختصاص إلهي بموسى عليه السلام لم يكن لأحد من الأنبياء عليهم السلام قبله ، أي موسى عليه السلام ،
ولعل هذه هي الحكمة في كثرة الأنبياء في بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام ، وكانوا يحكمون بالتوراة فكأنما موسى عليه السلام لما كان مجموع حياة كل من قتل تفرق ذلك المجموع بموت موسى عليه السلام
فكانت كل حياة في نبي من الأنبياء الذين جاؤوا بعد موسى عليه السلام ممدة من تلك الحياة المجموعة ،
فقد روي أن اللّه تعالى بعث بعد موسى عليه السلام إلى عصر عيسى عليه السلام أربعة آلاف نبي ، وقيل : سبعين ألف نبي وكلهم كانوا على دين موسى عليه السلام .
حتى روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال : "كل الأنبياء عليهم السلام من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمد صلى اللّه عليه وسلم" . رواه الحاكم في المستدرك ورواه الطبراني في الكبير وضياء المقديسي في المختارة والبيهقي وغيرهم.
ولا يذهب عليك أن هذا هو التناسخ الباطل ، فإنه مجرد إمداد من حضرة الروح الكل بدلا عن إمداد تلك الأرواح التي انقصرت عن التصرف في أجسامها لعروض الفساد في الأجسام ، وليس هذا انتقال الأرواح كما يزعم أهل التناسخ ؛ ولهذا كانت العبارة هنا بلفظ الحياة والإمداد .
 
فإنّ حكم جمع حكمة موسى عليه السلام أو ما أودع اللّه تعالى في أحواله ووقائعه من الأسرار كثيرة لا تحصى وأنا إن شاء اللّه تعالى أسرد ، أي أذكر منها ، أي من تلك الحكم في هذا الباب ، أي النوع من أنواع العلم الإلهي على قدر ما يقع به الأمر الإلهي ، أي الإلهام الرباني في خاطري من غير فكر أصلا ، لأن الفكر ظلمة النفس فلا يمكن أن يكتسب بها أحد نور العلم الرباني فكان هذا ، أي ما ذكر من حكمة قتل الأبناء من أجل موسى عليه السلام أوّل ما شوفهت ، أي خوطبت من حضرة الإلهية به في قلبي من هذا الباب ، أي النوع من أنواع العلم الإلهي .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما ولد موسى إلّا وهو مجموع أرواح كثيرة وجمع قوى فعّالة لأنّ الصّغير يفعل في الكبير .
ألا ترى الطّفل يفعل في الكبير بالخاصيّة فينزّل الكبير من رياسته إليه فيلاعبه ويزقزق له ويظهر له بعقله .
فهو تحت تسخيره وهو لا يشعر ؛ ثمّ يشغله بتربيته وحمايته وتفقّد مصالحه وتأنيسه حتّى لا يضيق صدره . هذا كلّه من فعل الصّغير بالكبير وذلك لقوّة المقام فإنّ الصّغير حديث عهد بربه لأنّه حديث التّكوين والكبير أبعد . فمن كان من اللّه أقرب سخّر من كان من اللّه أبعد .
كخواصّ الملك للقرب منه يسخّرون الأبعدين . )
 
فما ولد موسى عليه السلام إلا وهو مجموع أرواح ، أي قوى أرواح لو بقيت في الدنيا تدبر أجسامها لظهرت لها هذه القوى المذكورة بطريق الإمكان كثيرة بعدد استعداد من قتل من الأبناء المذكورين ولهذا قال جمع قوى واحدها قوّة لا أنه عليه السلام مجموع تلك الأرواح بعينها وإلا كان تناسخا ، فإن تلك القتلى تحشر يوم القيامة كلها بأرواحها المنفوخة في أجسامها على حسب ما قتلت عليه من أحوال الفطرة لم ينقص منها شيء ، وموسى عليه السلام يحشر أيضا بروحه المنفوخة في جسمه الترابي ولكن روحه مجموعة من قوى فعالة طاهرة من كل دنس ، لأنها كانت قابلة أن تكون قوى لتلك الأرواح الكثيرة المنفوخة في أجسام القتلى من الأبناء المذكورين ، فصرفها اللّه عنها وجعلها لروحانية موسى عليه السلام وإطلاق الأرواح على القوى الفعالة سائغ في الكلام ، فإن قوّة البصر روح العين وقوّة السمع روح الأذن ، وقوّة البطش روح اليد وقوّة المشي روح الرجل ، ونحو ذلك ، فسرها بها قدس اللّه سره بعد ذلك .
 
فعالة ، تلك القوى بطريق التسخير لا المباشرة لأن الصغير من الأطفال يفعل ، أي يؤثر في نفس الكبير ألا ترى يا أيها السالك الطفل الصغير يفعل ، أي يؤثر في الإنسان الكبير ما يقتضيه حاله بالخاصية المودوعة فيه فينزل الإنسان الكبير في القدر من مقام رياسته وجاهه إليه ، أي إلى ذلك الطفل فيلاعبه بأفعال مخصوصة تعجب ذلك الطفل فيضحك منها ويزقزق ، أي يصوت له ، أي للطفل بصوت يفرحه ويضحكه ويظهر ، أي ذلك الكبير له ، أي للطفل بعقله ، أي بفعل يناسب أفعال عقل ذلك الطفل .
فهو ، أي الكبير تحت تسخيره ، أي تسخير الصغير يسعى في خدمته وإدخال السرور عليه وهو ، أي الكبير لا يشعر بذلك ثم يشغله ، 


أي الصغير يشغل الكبير بتربيته حتى يكبر في طعامه وشرابه وكسوته وغسل ثيابه وبدنه من النجاسات والأوساخ وحمايته ، أي حفظه من كل ما يؤذيه وتفقد مصالحه ، أي حوائجه التي تقوم بها مؤونته في كل أحواله وتأنيسه بالكلام وغيره مع محبة بقائه وسلامته حتى لا يضيق صدره ، أي الصغير من أمر من الأمور ومتى أصابه وجع أو مرض أو موت تأسف عليه غاية الأسف وحزن غاية الحزن هذا كله الذي ذكر وغيره أيضا أكثر من ذلك من فعل الصغير بالكبير وقد يخرج بعد ذلك عدوا له كما قال تعالى :يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [ التغابن : 14 ] .
وذلك ، أي فعل الصغير إنما كان منه لقوة المقام الذي فيه الصغير والقرب الإلهي الذي هو عليه فإن الصغير حديث ، أي قريب عهد بربه تعالى لأنه حديث جديد التكوين ، أي الخلقة والكبير أبعد منه عهدا بربه ولحدوث معنى الغيرية واستحكامها في نفس الكبير حتى أوجب ذلك بعدا عن خلقته ولا وجود لذلك في نفس الصغير بربه فمن كان من اللّه تعالى أقرب ، أي أكثر قربا سخر من كان من اللّه تعالى أبعد ، أي أكثر بعدا ، والقرب من اللّه تعالى هو قرب الخلقة في الصغير ، والكبير أيضا إذا كان من أولي الأمر القائمين بأمر اللّه تعالى بأن غلبت عليه روحانيته وضعفت فيه جسمانيته وزال عنه الالتباس الطبيعي من الخلق الجديد وهي فطرة الإسلام التي فطر عليها الناس كما قال تعالى فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها[ الروم : 30 ] .
وهي التي غيرها على الصغير صحبة أبويه وأمثاله بوسواس القرين من الشياطين في أنه يريهم ما يرى من جمود الكائنات والتباس الخلق الجديد عليهم ، والبعد من اللّه تعالى هو بعد الالتباس والجهل بالأمر الإلهي والوقوف مع عالم الخلق الظاهر كخواص الملك ، أي السلطان يعني المقربين عنده للقرب ، أي لأجل القرب منه والحظوة لديه يسخرون الأبعدين جمع البعد من بقية الناس فينقادون إليهم رغبة في القرب إلى الملك وقضاء حوائجهم عنده .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبرز بنفسه للمطر إذا نزل ويكشف رأسه له حتّى يصيب منه ويقول إنّه حديث عهد بربّه . فانظر إلى هذه المعرفة باللّه من هذا النّبيّ ما أجلّها وما أعلاها وأوضحها . فقد سخّر المطر أفضل البشر لقربه من ربّه فكان مثل الرّسول الّذي ينزل إليه بالوحي فدعاه بالحال بذاته إليه ليصيب منه ما أتاه به من ربّه .فلولا ما حصّلت له منه الفائدة الإلهيّة بما أصاب منه ، ما برز بنفسه إليه .  فهذه رسالة ماء جعل اللّه منه كلّ شيء حيّ فافهم . )
 
كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما ورد عنه في الحديث يبرز ، أي يظهر بنفسه للمطر أوّل ما يكون في السنة إذا نزل من السماء ويكشف رأسه عليه السلام له ، أي لذلك المطر حتى يصيب رأسه منه ويقول عليه السلام إنه ، أي ذلك المطر حديث ، أي "قريب (عهد بربه ") تعالى ، رواه مسلم وأبو داود .
أي هو مخلوق جديد يعلمهم الاحتفال بالخلق الجديد والاحترام له والتبرك به
فانظر يا أيها السالك إلى هذه المعرفة باللّه تعالى من هذا النبي الجليل العظيم صلى اللّه عليه وسلم ما أجلها ، أي هذه المعرفة وما أعظمها وما أوضحها ،
أي أبينها وأكشفها لكل من عنده أدنى ذوق من مشارب أهل اللّه تعالى وما يصدف "يعرض" عنها إلا المتكبرون عن طريق الفقراء الصادقين جهلا منهم بهم .
 
فقد سخر المطر النازل من السماء أفضل البشر وهو نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم حيث أبرزه له من بيته بنفسه وحمله على كشف رأسه لقربه ،
أي المطر من ربه وحدوث عهده بالخلقة فكان ، أي ذلك المطر مثل الرسول ، أي الملك الذي ينزل من السماء إليه ،
أي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بالوحي من اللّه تعالى فدعاه ، أي المطر دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم بالحال ،
أي بحال المتلبس به ذلك المطر بذاته التي هو عليها في نفس الأمر مما يعلمه النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يعلمه غيره من الحاضرين كما كان يأتيه الملك في صورة رجل أعرابي وفي صورة دحية بن خليفة الكلبي ، فيكون ذلك وحيا إليه من اللّه تعالى ، ولا يعلم به الحاضرون فبرز ، أي ظهر صلى اللّه عليه وسلم إليه ،
أي إلى المطر بنفسه ليصيب عليه السلام منه ، أي من ذلك المطر ما أتاه ، أي ذلك المطر به من ربه تعالى من الوحي العلمي .
فلولا ما حصّلت له صلى اللّه عليه وسلم منه ، أي المطر الفائدة الإلهية ، أي المنسوبة إلى الإله تعالى بما ، أي بالجزء المطر الذي أصاب صلى اللّه عليه وسلم منه ، أي من ذلك المطر ما برز ، أي ظهر صلى اللّه عليه وسلم بنفسه إليه ،
أي إلى ذلك المطر فهذه ، أي الحكمة المستفادة له صلى اللّه عليه وسلم من المطر رسالة ماء من اللّه تعالى إليه عليه السلام (جعل اللّه تعالى منه)، أي من ذلك الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [ الأنبياء : 30 ].
 
كما قال تعالى : وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، والحي هو اللّه تعالى .
كما قال سبحانه : هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ[ غافر : 65 ] .
فحصر الحياة فيه تعالى بتعريف الخبر فكل شيء مجعول من الماء هالك إلا وجهه والوجه هو الحي تعالى (فافهم) يا أيها السالك ما تضمنته هذه الرسالة المائية إلى الحضرة المحمدية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا حكمة إلقائه في التّابوت ورميه في اليمّ : فالتّابوت ناسوته ، واليمّ ما حصل له من العلم بواسطة هذا الجسم مما أعطته القوّة النّظريّة الفكريّة والقوى الحسيّة والخياليّة الّتي لا يكون شيء منها ولا من أمثالها لهذه النّفس الإنسانيّة إلا بوجود هذا الجسم العنصريّ .
فلما حصلت النّفس في هذا الجسم وأمرت بالتّصرّف فيه وتدبيره ، جعل اللّه لها هذه القوى آلات تتوصّل بها إلى ما أراده اللّه منها في تدبير هذا التّابوت الّذي فيه سكينة الرّبّ .
فرمي به في اليمّ ليحصل بهذه القوى على فنون العلم .
فأعلمه بذلك أنّه وإن كان الرّوح المدبّر له هو الملك ؛ فإنّه لا يدبّره إلّا به ، فأصحبه هذه القوى الكائنة في هذا النّاسوت الّذي عبّر عنه بالتّابوت في باب الإشارات والحكم . )
 
وأما حكمة إلقائه ، أي موسى عليه السلام وهو صغير في التابوت من الخشب الذي ألهم اللّه تعالى أمه أن تصنعه له وترضعه وتضعه فيه وحكمة رميه ، أي ذلك التابوت الذي فيه موسى عليه السلام بعد ذلك في اليم ، أي البحر .
كما قال تعالى :وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ( 7 ) [ القصص  :7].
وقال تعالى : وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى ( 37 ) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى ( 38 ) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ[ طه : 37 – 39].
 
(فالتابوت) بطريق الإشارة (ناسوته) ، أي جسم موسى عليه السلام واليم ، أي البحر ما حصل له ، أي لموسى عليه السلام من العلم الإلهي الشرعي والعقلي بواسطة هذا الجسم الطبيعي العنصري مما أعطته القوّة النظرية ، أي الحاصلة بنظر العقل الفكرية ، أي المنسوبة إلى الفكر والقوى الحسية ، أي الظاهرة في الحواس الخمس والقوى الخيالية كالمصورة والموهمة التي نعت للقوى كلها لا يكون شيء ، أي إدراك وغيره منها ،
 
أي من تلك القوى ولا من أمثالها من بقية القوى السارية في مواضع في البدن كالقوّة الجاذبة والدافعة والماسكة وغير ذلك لهذه النفس الإنسانية الناطقة التي بها يتميز الإنسان عن بقية الحيوان إلا بوجد هذا الجسم العنصري ، أي المركب من العناصر الأربعة .
 
فلما حصلت النفس الإنسانية المذكورة في هذا الجسم بالنفخ الإلهي من الروح الأمري وأمرت النفس المذكورة ، أي أذن لها اللّه تعالى بالتصرف فيه ، أي في هذا الجسم وتدبيره في أمر معاشه ومعاده على وفق الحكمة الشرعية جعل اللّه تعالى لها ، أي لتلك النفس هذه القوى المذكورة آلات جمع آلة وهي الأداة التي يستعان بها في العمل المقصود تتوصل تلك النفس بها ، أي بتلك الأداة إلى ما أراده اللّه تعالى منها من الأحوال النافعة في تدبير هذا التابوت ، أي الجسم الإنساني الذي فيه ، أي في ذلك التابوت سكينة ، أي هيبة وعظمة الرب تعالى كما حكى تعالى عن فتى موسى يوشع بن نون عليهما السلام لما أخبر بني إسرائيل عن طالوت الملك : وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [ البقرة : 248 ] .
 
فرمى تعالى به ، أي بهذا التابوت في اليم ، أي بحر العلم ليحصل ، أي موسى عليه السلام بهذه القوى المذكورة على فنون العلم الإلهي فأعلمه ، أي اعلم تعالى موسى عليه السلام بذلك ، أي برميه في اليم أنه ، أي موسى عليه السلام وإن كان الروح ، أي روحه المدبر له هو الملك القائم بأمر اللّه تعالى فإنه ، أي ذلك الملك لا يدبره إلا به ، أي بموسى عليه السلام فأصحبه ، أي اصحب اللّه تعالى موسى عليه السلام ، أي أبقى له إلى آخر عمره هذه القوى الكائنة ، أي الموجودة في هذا الناسوت ، أي الجسم الذي عبر عنه بالتابوت في الآية المذكورة من باب الإشارات القرآنية والحكم الربانية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كذلك تدبير الحقّ العالم فإنّه ما دبّره إلّا به أو بصورته .
فما دبّره إلّا به كتوقّف الولد على إيجاد الوالد ، والمسبّبات على أسبابها ، والمشروطات على شروطها ، والمعلولات على عللها ، والمدلولات على أدلّتها ، والمحقّقات على حقائقها . وكلّ ذلك من العالم . وهو تدبير الحقّ فيه فما دبّره إلّا به .
وأمّا قولنا أو بصورته - أعني صورة العالم - فأعني به الأسماء الحسنى والصّفات العلى الّتي تسمّى الحقّ بها واتّصف بها . )
 
كذلك ، أي مثل ذلك تدبير الحق تعالى العالم بفتح اللام بأسره محسوسه ومعقوله وموهومه فإنه ما دبره تعالى إلا به ، أي بالعالم نفسه على حسب ما يقتضيه حاله من القوى المختلفة فيه أو بصورته ، أي العالم التي تسمى اللّه تعالى بها واتصف بها فما دبره أي دبر اللّه تعالى العالم به أي العالم نفسه بل العالم دبر من حيث إنه صورته تعالى نفسه من حيث إنه عالم فإذا دبر الحق تعالى العالم بالعالم توقف بعض العالم على بعض كتوقف وجود الولد على إيجاد الوالد من كل نوع من أنواع الحيوان وتوقف وجود المسببات العادية والشرعية والعقلية على وجود أسبابها كذلك وتوقف وجود المشروطات الشرعية وغيرها على وجود شروطها ، كذلك وتوقف وجود المعلولات العقلية وغيرها على وجود عللها ، كذلك وتوقف وجود المدلولات من كل نوع من حيث هي مدلولات لثبوتها عند المستدل على وجود أدلتها كذلك وتوقف وجود المحققات من كل شيء على وجود حقائقها ، أي ماهياتها ولوازمها الذاتية .
وكل ذلك ، أي المسببات والأسباب والمشروطات والشروط والمعلولات والعلل والمدلولات والأدلة والمحققات والحقائق من جملة العالم بفتح اللام بل هي العالم لا غير ، فالعالم منقسم إلى مؤثر ومتأثر باللّه تعالى لا بنفسه وهو ، أي هذا التدبير من بعض العالم في بعض تدبير الحق تعالى فيه ، أي في العالم فما دبره ، أي دبر اللّه تعالى العالم إلا به ، أي بالعالم من حيث قيام الكل باللّه تعالى .
وأما قولنا فيما مر قريبا أو بصورته أعني صورة العالم يعني أن اللّه تعالى ما دبر العالم إلا بصورة العالم فأعني به ، أي بالمدبر من صورة العالم الأسماء الحسنى الجميلة الجليلة والصفات العلى ، أي المنزهة المقدسة التي تسمى الحق تعالى بها واتصف بها من حيث مراتبه تعالى الوجودية المعتبرة أزلا وأبدا بالنسبة إلى الأعيان الثابتة بأنفسها في العدم الأصلي الموجودة مرتبة كما هي عليه بتلك المراتب الوجودية المذكورة ، فالأعيان عينت المراتب الأسمائية والحضرات الصفاتية من الذات العلية ، والمراتب المذكورة عينت الوجود للأعيان على حسب ما تقتضيه تلك الأعيان فالأزل للمراتب والأبد للأعيان .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما وصل إلينا من اسم يسمّى به إلّا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في العالم . فما دبّر العالم أيضا إلّا بصورة العالم .
ولذلك قال في آدم الّذي هو البرنامج الجامع لنعوت الحضرة الإلهيّة الّتي هي الذات والصّفات والأفعال : « إنّ اللّه خلق آدم على صورته » وليست صورته سوى الحضرة الإلهيّة . فأوجد في هذا المختصر الشّريف الّذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهيّة وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل ( * ) ، وجعله روحا للعالم فسخّر له العلو والسّفل لكمال الصّورة)
 
فما وصل إلينا معشر المكلفين من اسم تسمى به الحق تعالى في القرآن والسنة إلا ووجدنا معنى ذلك الاسم ، أي مقتضاه الظاهر بآثاره كالعليم والقدير ، فإن معناهما الكشف عن الأثر المعدوم ، ثم إفاضة الوجود عليه بحسبه وروحه ، أي سر ذلك الاسم وهو خصوصية الموقوف عليها تأثير الاسم الآخر كجعل الأثر متميزا عما سواه في نفسه الثابتة في العدم الأصلي بالاسم العليم ، فإن ذلك روح ، أي سر الاسم العليم زيادة على معناه الذي هو مجرد الكشف عن ذلك وكتحقيق معنى الوجود في الأثر بالاسم القدير فإنه روح ،
أي سر الاسم القدير زيادة على معناه الذي هو مجرد إفاضة الوجود على الأثر المعدوم في هذا العالم المحسوس والمعقول ،
فكل عليم قدير ممن يصنع معنى الاسم العليم ظاهر فيه بالكشف عن معلومه وروح الاسم بتميزه عما سواه ، ومعنى الاسم القدير بإضافة الوجود عليه بنقله من حالة مادية إلى حالة غائية ، كالنجار يفيض الوجود بالصنع للكرسي المقدر في نفسه وهو في مادته التي هي الخشب ، فينتقل ذلك الكرسي من بطون مادته الخشبية إلى ظهور عينه الصورية ، وروح الاسم بتحقيق معنى ذلك الصنع وإثبات صورة الكرسي تامة الهيئة في الحس ، وهكذا في كل صانع وفي جميع الأسماء .
 
فما دبر ، أي الحق تعالى العالم كله أيضا ، أي زيادة على مجرد تدبيره إلا وهو ظاهر للعالم بصورة العالم ، أي مجموع أسماء العالم وصفاته .
ولذلك ، أي لكون الأمر كذلك قال عليه السلام كما ورد في الحديث في حق آدم عليه السلام الذي هو ، أي آدم عليه السلام الأنموذج وهي كلمة معربة وقد تسمى بالفهرست ومعناها مجموع ما اشتمل عليه الشيء من كل عنوان فيه على نوع من أنواعه الجامع ذلك لنعوت الحضرة الإلهية ، أي عنوانات أنواع مراتبها التي هي ، أي تلك النعوت الذات الواحدة والصفات والأسماء الكثيرة والأفعال الكثيرة إن اللّه تعالى خلق آدم عليه السلام على صورته ، أي صورة اللّه تعالى على التنزيه المطلق ، ويؤيده الرواية الأخرى على صورة الرحمن وليست صورته ،
 
""ونصه : ( لا تقبحوا الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن ) . رواه الطبراني في الكبير
ورواه الدارقطني ولفظه عنده : ( لا تقبحوا الوجه فإن اللّه خلق آدم على صورة الرحمن عز وجل ) .""
 
أي اللّه تعالى سوى الحضرة الإلهية التي هي مجمع ذاته تعالى وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه ؛ خمس مراتب بعضها أعلى من بعض في حقيقة الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي المنزه عن معرفة العارفين به وجهل الجاهلين له ، لأنه من حيث هو لا يعرف ولا يجهل .
 
فأوجد سبحانه في هذا المختصر من العالم الكبير الشريف من قوله تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [ الإسراء : 70 ] .
(الذي هو الإنسان الكامل) في الظاهر والباطن (جميع الأسماء الإلهية) ، التي هي مجموع المراتب الخمس المذكورة فله ذات وله صفات وله أسماء وله أفعال وله أحكام مضاهاة للحضرة الإلهية وأوجد تعالى فيه أيضا (حقائق) ، أي ماهيات وأعيان مثل جميع ما خرج عنه ،
أي عن ذلك الإنسان من الأشياء الموجودة (في العالم الكبير المنفصل) عنه عنه ففيه:
سماوات وهي دماغه ،
ونجوم وهي حواسه الظاهرة والباطنة ،
وعرش وهو روحه ،
وكرسي وهو نفسه ،
وقلم هو عقله ،
ولوح هو ذهنه ،
وعوالم ملائكة وهي قواه السارية في بدنه ،
وجن وهي قواه الباطنة منها مطيع ومنها عاص ،
وشياطين وهي قواه الخبيثة في أفعال المعاصي ،
وفيه أرضون وهي جسمه ،
وفيه بحر محيط وهو دمه ،
وجبال وهي عظامه ،
وتلال وهي عروقه ،
ونبات هو شعره ،
وماء حلو في فمه ،
وماء مر في أذنه ،
 وماء وسخ في أنفه ،
وماء قذر في بوله ،
وفيه عناصر أربعة :
صفراء هي ناره ،
ودم هو هواه ،
وبلغم هو ماؤه ،
وسوداء هي ترابه ،
وهكذا مما يطول بيانه مضاهاة للعالم الكبير بأسره (وجعله) ، أي جعل اللّه تعالى هذا الإنسان الكامل (روحا للعالم) الكبير جميعه (فسخر اللّه) تعالى (له) ، أي لهذا الإنسان الكامل (العلو) من السماوات وما فيها والسفل من الأرضين وما فيهن لكمال الصورة التي هو فيها مضاه للحضرة الإلهية وللعوالم الإمكانية كلها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكما أنّه ليس شيء في العالم إلّا وهو يسبّح اللّه بحمده ، كذلك ليس شيء في العالم إلّا وهو مسخّر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته .
فقال تعالى :" وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ " [ الجاثية : 13 ] فكلّ ما في العالم تحت تسخير الإنسان علم ذلك من علمه - وهو الإنسان الكامل - وجهل ذلك من جهله ، وهو الإنسان الحيوان . )
 
فكما أنه ، أي الشأن ليس شيء من هذا العالم إلا وهو ، أي ذلك الشيء يسبح اللّه تعالى ، أي ينزهه بحمده ، أي يوصفه تعالى بجميل صفاته وجليلها كما قال تعالى :تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ[ الإسراء :44].
كذلك ليس شيء من العالم المسبح للّه تعالى بحمده إلا وهو ، أي ذلك الشيء مسخر لهذا الإنسان الكامل لما ، أي لأجل الذي تعطيه حقيقة صورته ، أي صورة هذا الإنسان الكامل من الجمعية الذاتية والحضرة الإحاطية .
 
(قال اللّه تعالى :وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ ) من فلك أو ملك ("وَما فِي الْأَرْضِ") من جماد أو نبات أو حيوانات ، وغير ذلك أيضا من عالم الحس والمعاني ، ومن المركبات والمباني جميعا تأكيد لذلك (" مِنْهُ" ) [ الجاثية :13].
أي صادر ذلك من الحق تعالى ، لأنه القيوم على كل شيء فمفهومه شرط للتسخير ، إذ من لم يعرف الحق تعالى في كل شيء فليس بإنسان كامل ، فلا يسخر له ذلك فكل ما في العالم العلوي والسفلي تحت تسخير الإنسان الكامل علم ذلك الأمر من علمه من الناس وهو ، أي الذي يعلمه الإنسان الكامل لا غير وجهل ذلك الأمر من جهله منهم وهو ، أي الذي يجهله الإنسان الناقص الذي غلبت عليه حيوانيته فهو الحيوان
وهو قسمان :
قسم مع جهله مؤمن به مذعن لأهله على الغيب وله السعادة بالتبعية لا بالإضافة ، لأن السعادة بالأصالة للإنسان الكامل لا غير ، ومن ذلك قول الجنيد رضي اللّه عنه : الإيمان بكلام هذه الطائفة ولاية يعني ولاية بطريق التبعية والالتحاق لا الاستقلال .
وقسم مع جهله منكر جاحد ينفي ما لا يعرفه من أحوال أهل الصدق وهو كافر عند اللّه تعالى ، وإن حكم بإسلامه ظاهرا في معاملة الدنيا بين الجاهلين مثله الذين لا يعرفون .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكانت صورة إلقاء موسى في التّابوت ، وإلقاء التّابوت في اليمّ صورة هلاك في الظّاهر وفي الباطن كانت نجاة له من القتل . فحيّي كما تحيا النّفوس بالعلم من موت الجهل .
 كما قال :أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً يعني بالجهل فَأَحْيَيْناهُ يعني بالعلم وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ[ الأنعام : 122 ] وهو الهدى كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ[ الأنعام : 122 ] وهي الضّلال لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها[ الأنعام : 122 ] أي لا يهتدي أبدا : فإنّ الأمر في نفسه لا غاية له يوقف عندها . )

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:39 am

25 -  فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
25 -  فص حكمة علوية في كلمة موسوية
فكانت صورة إلقاء موسى عليه السلام في التابوت وبعد ذلك إلقاء التابوت في اليم ، أي البحر صورة هلاك لموسى عليه السلام مرتين : مرة بإلقائه مع صغره في التابوت ومرة مع إلقائه في البحر وفي الباطن ، أي في سر هذا الأمر كانت تلك الفعلة نجاة له ، أي لموسى عليه السلام من القتل لو ظفر به جماعة فرعون فإنهم كانوا يقتلونه لأمر فرعون وتشديده في ذلك فيحيى موسى عليه السلام بذلك الفعل ، فإنه لما جاء به الموج إلى تحت قصر فرعون أمر بإخراجه ، فإذا فيه غلام صغير فألقى اللّه تعالى الشفقة والمحبة له في قلب فرعون ، فلم يقتله ورباه إلى أن كان منه ما كان .
قال تعالى :وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي[ طه : 39 ] كما تحيا النفوس البشرية بالعلم من موت الجهل كما سبق في معنى إشارة الآية أن
التابوت : جسد موسى عليه السلام ،
والبحر : ما حصل له من العلم بواسطة هذا الجسد فهي حياة علمية ، وفي العبارة حياة حسية
( كما قال)  تعالى : (" أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً " [ الأنعام : 122 ] يعني بالجهل "فَأَحْيَيْناهُ " بالعلم ) وهو العلم الإلهي ، لأنه اليقين وكل ما سوى الحق تعالى ظن فليس بعلم لعدم اليقين فيه .
 
ولهذا قال المفسرون من أهل الظاهر في آيات العلم : إن المراد به العلم باللّه تعالى فقالوا في قوله تعالى :إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ[ فاطر : 28 ] ،
أي العلماء باللّه دون غيرهم . وقال بعضهم : متى شهد نفسه احتجب اللّه عنه بنور وحدانيته المنزهة عن شهود غير معها أصلا ، فلا يكون عارفا بل هو جاهل ، وإن حمل أوقارا من أسفار العلوم ، وإنسانيته إنما هي بنور معرفته ، فمتى ثبت له الجهل انتفت عنه الإنسانية نوبة واحدة .
 
وجعلنا له ، أي للذي أحييناه بالعلم نورا وهو نور اللّه تعالى وجعله ظهور تعلقه به فقيوميته عليه (" يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ ") [ الأنعام : 122 ] كقوله عليه السلام : « اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه عز وجل » . أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الحكيم والطبراني وابن عدي عن أبي أمامة .
 
وفي رواية ابن جرير عن ثوبان قال عليه السلام : « احذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه وينطق بتوفيق اللّه ». رواه الطبراني والديلمي في الفردوس ورواه غيرهما.
 
وهو ، أي جعل ذلك النور الهدى ، أي الإرشاد إلى الحق في كل أمر كمن ، أي كالذي مثله ، أي مثاله يعني حاله يشبه حال من هو في الظلمات الحسية كالإنسان في بيت لا منفذ له تحت الأرض بالليل ، فهي ثلاث ظلمات لو انفردت واحدة منها لكانت ظلمة مستقلة وهي ، أي تلك الظلمات الضلال في الاعتقاد والقول والعمل (" لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ") [ الأنعام : 122].
 
أي من الظلمات يعني لا يهتدي أبدا لاستحكام الضلال منه حيث كان في اعتقاده فصار على لسانه ثم ظهر في علمه فإن الأمر الإلهي في نفسه لا غاية له من حيث هو أمر اللّه تعالى والغاية للحق القائم به ، فإذا التبس الأمر على أحد فكان ضلالا ، فلم يزل صاحب ذلك الضلال يتقلب في أنواع من ذلك الضلال إلى الأبد إذ لا نهاية لما دخل فيه يوقف عندها ، أي عند تلك الغاية . وفي الهدى كذلك إذا انكشف له أمر اللّه تعالى لا نهاية لهدايته أيضا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالهدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة ، فيعلم أنّ الأمر حيرة .
والحيرة قلق وحركة ، والحركة حياة ، فلا سكون ، فلا موت ؛ ووجود ، فلا عدم .
وكذلك في الماء الّذي به حياة الأرض ، وحركتها ، قوله تعالى :اهْتَزَّتْوحملها ، قوله :وَرَبَتْ[ الحج : 5 ] وولادتها قوله :وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ الحج : 5 ] . أي أنّها ما ولدت إلّا من يشبهها أي طبيعيّا مثلها . فكانت الزّوجيّة الّتي هي الشّفعيّة لها بما تولّد منها وظهر عنها ).
 
(فالهدى) المذكور (هو أن يهتدي الإنسان) ، أي يصل (إلى الحيرة) في الحق تعالى ، هل هو الظاهر أو هو الباطن فلا يذهب إلى واحدة منهما وينكر الآخر لورودهما معا في قوله تعالى :"هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ"[ الحديد : 3 ] .
والعقل ينفي اجتماع الضدين والإيمان يقتضي ذلك حيث ثبت بقول الصادق ، فيتجاذب العقل والإيمان طرفي القضية ، فتقع الحيرة في قلب الإنسان بالتنزيه العقلي والتشبيه الإيماني (فيعلم) ،
 
أي الإنسان أن الأمر الإلهي كله (حيرة) في اللّه تعالى (والحيرة قلق) ، أي انزعاج واضطراب وحركة دائما لعدم القطع بحال يجده المخلوق من صورة أو نفيها في الحس أو العقل أو الوهم ، لأن الكل قائم بالأمر الإلهي الواحد سواء كان صورة حسية أو عقلية أو وهمية أو نفي شيء من ذلك ، لأن النفي صورة أيضا ، لأنه أحد قسمي الحكم العقلي وهما النفي والإثبات والحركة في شيء حياة ، والكل متحرك لأنه يتحرك إلى الوجود ويتحرك إلى العدم فالكل حي فلا سكون لشيء أصلا في الحس والعقل والوهم وإن كانت الأجسام جامدة في نظر العقل والحس ، فهو حسبان كما قال تعالى :وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً[ النمل : 88 ] وهذا ليس مخصوصا بيوم القيامة وإنما المخصوص ظهوره للكل ، فإن أمر اللّه تعالى كلمح بالبصر كما قال سبحانه :وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [ القمر : 50 ] .
 
وقال تعالى :وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ[ الروم : 25 ] فالسماوات والأرض كلمح بالبصر فلا موت لشيء أصلا إذ الكل مسبح كما قال تعالى :وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ[ الإسراء : 44 ] ،
والمسبح حي وكل مسبح ملك من الملائكة كما قال تعالى :وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [ الصافات : 166 ] .
وتعريف الخبر يفيد الحصر والحركة وجود أيضا لأنها كون جديد في كل لمحة بالبصر فكل متحرك موجود والكل متحرك فهو موجود فلا عدم لشيء أصلا من وجه حركته وله العدم من وجه سكونه ، لأنه تعالى الظاهر بالوجود ، فأمره الذي هو كلمح بالبصر ظهوره ، والكل باطن فهو ساكن في عين حركة الأمر الإلهي . قال تعالى :وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ[ الأنعام : 13 ] . وهذا الوجه ليس هو صورة الحيرة وإنما صورة الحيرة هو الأوّل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كذلك وجود الحقّ كانت الكثرة له وتعدّد الأسماء أنّه كذا وكذا ، بما ظهر عنه من العالم الّذي يطلب بنشأته حقائق الأسماء الإلهيّة .
فثبت به وبخالقه أحديّة الكثرة .
وقد كان أحديّ العين من حيث ذاته كالجوهر الهيولانيّ أحديّ العين من حيث ذاته كثير بالصّور الظّاهرة فيه الذي هو حامل لها بذاته .
كذلك الحقّ بما ظهر منه من صور التّجلّي ، فكان الحقّ مجلى صور العالم مع الأحديّة المعقولة)
 
وكذلك الحكم في الماء لأنه من جملة الأشياء الذي به ، أي الماء حياة الأرض بالحياة النباتية فإن به تتحرك الأرض حركة حياة وحركتها ، أي الأرض لأن الحركة حياة كما ذكر قوله تعالى :"وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ"[ الحج : 5 ] .
فاهتزت تحركت وحملها قوله تعالى بعد ذلك ("وَرَبَتْ") ، أي زادت وولادتها قوله تعالى بعده ("وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ") ، أي مبتهج من البهجة وهي الحسن أي أنها يعني الأرض (ما ولدت إلا من يشبهها) بعد نزول الماء عليها فإنها صارت به زوجا كأنها أنثى والماء ذكر (أي) مولودا طبيعيا ، أي منسوبا إلى الطبيعة لتركبه منها كالنباتات المختلفة وغيرها من أنواع الحيوانات فإنها مخلوقة من الأرض أيضا بسبب مادة المأكل والمشرب الذي هو أصل النطفة . قال تعالى :وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [ نوح : 17 ] (مثلها) ، أي مثل الأرض في كونه زوجا ، وهو ظاهر في الحيوانات ، كلها وفي النباتات أيضا ، كالتمر يشتمل على النواة في وسطه والحشيش والساق والورق وشرشه في الأرض ، والسنبل فيه الحب بحيث لا ينبت بشيء من الأرض إلا وهو زوج لا يكون فردا أصلا .
 
(فكانت الزوجية التي هي الشفعية لما يولد منها) ، أي من الأرض كأنواع الحيوانات كلها (وظهر عنها) ، أي عن الأرض كأنواع النباتات والمعادن والأحجار ، فإن منها المليح وضده فهما زوج كذلك ، أي نظير ما ذكر (وجود الحق) تعالى المطلق بالإطلاق الحقيقي كانت ، أي ثبتت الكثرة في المظاهر له ، أي لوجوده تعالى وكان له أيضا (تعداد الأسماء) الإلهية أنه تعالى كذا وكذا ، أي حي عليم قدير إلى آخر الأسماء الحسنى بما متعلق بكانت أي بسبب الذي ظهر عنه تعالى من العالم المختلف بالجنس والنوع والشخص (الذي يطلب بنشأته) ، أي خلقته حقائق الأسماء الإلهية أن يكون آثارا لها وتكون مؤثرة فيه فثبتت أي حقائق الأسماء الإلهية يعني تعينت من ذات الوجود المطلق به ، أي بالعالم الثابت في العدم الأصلي من غير وجود ، فقد ظهرت الأسماء الإلهية عن الوجود المطلق ، وتفرعت حضراتها وتكثرت باعتبار إضافة أعيان العالم الثابتة في عدمها الأصلي إلى ذلك الوجود المطلق وظهر للأسماء الإلهية أيضا آثارا مضافة إليها (ويخالفه) .  "" وفي نسخة وبخالقه  بدل  ويخالفه .""
 
أي العالم المقتضي للكثرة أحدية تلك الكثرة ، أي كونها واحدة باعتبار صدوره عن الوجود المطلق فإنه واحد أحد ، وهو بهذا الوصف في كل فرد من أجزاء العالم .
(وقد كان) ، أي العالم قبل أن تظهر كثرته المختلفة للحس والعقل والوهم (أحديّ العين) ، أي عينه واحدة كقول من قال : لا يصدر عن الواحد إلا الواحد وكان الأمر كذلك ، وقد صدر عن الواحد واحد ولكن من غير لزوم عليه لأنه يمكن صدور الكثرة عن الواحد ابتداء عندنا لأمر يقتضيه وسع الواجب وعدم القيد فيه لإطلاقه الحقيقي (من حيث ذاته) ، أي العالم يعني مادته الأصلية التي تفرعت أصوله وأركانه منها (كالجوهر) الفرد (الهيولاني أحديّ العين من حيث ذاته) المسمى بنور محمد صلى اللّه عليه وسلم باعتبار كما ورد في مسند عبد الرزاق بسنده عن جابر ،
قال : يا رسول اللّه أخبرني عن أوّل شيء خلقه اللّه تعالى قبل الأشياء .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « يا جابر إن اللّه خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره » إلى آخر الحديث .
ويسمى بالقلم الأعلى أيضا باعتبار كما صح في الحديث : « أوّل ما خلق اللّه القلم » .
ويسمى بالعقل كما ورد « أوّل ما خلق اللّه العقل الحديث »  .
وللقوم فيه أسماء مختلفة :
منهم من يسميه الجوهر الهيولاني ،
ومنهم من يسميه المادة الأولى ،
ومنهم من يسميه العلم الأوّل ،
ومنهم من يسميه المرآة الحق والحقيقة ،
ومنهم من يسميه المفيض ،
ومنهم من يسميه مركز الدائرة ،
وغير ذلك مما يطول ذكره كثير كثرة مختلفة بالصور الظاهرة فيه حسا وعقلا ووهما الذي نعت للصور هو ،
أي ذلك الجوهر الهيولاني حامل لها ، أي لتلك الصور بذاته ، أي بسبب كون ذاته عين كل صورة مع زيادة تشخص تلك الصورة .
 
كذلك أي نظير ذلك الحق تعالى بما ، أي بسبب الذي ظهر منه تعالى من صور التجلي الإلهي والانكشاف الرباني فإنه تعالى واحد بذاته كثير بصور تجلياته التي هي مقتضى كثرة أسمائه وصفاته فكان ،
أي الحق تعالى مجلى ، أي موضع انجلاء ظهور وانكشاف صور العالم كلها لها بحيث يرى بعضها بعضا فيه تعالى كالمرآة يرى الإنسان نفسه فيها من غير أن يحل فيها شيء منه ولا يحل فيه شيء منها ولا يتحد كذلك مع ثبوت الأحدية للحق تعالى المعقولة بحيث يؤمن بها العقل غيبا في حال شهوده كثرتها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فانظر ما أحسن هذا التّعليم الإلهيّ الّذي خصّ اللّه بالاطلاع عليه من شاء من عباده .
ولمّا وجده آل فرعون في اليمّ عند الشّجرة سمّاه فرعون موسى : والمو هو الماء بالقبطيّة ، والسّا هو الشّجر فسمّاه بما وجده عنده ، فإنّ التّابوت وقف عند الشّجرة في اليمّ . فأراد قتله فقالت امرأته - وكانت منطقة بالنّطق الإلهيّ - فيما قالت لفرعون ، إذ كان اللّه خلقها للكمال كما قال عليه السّلام عنها حيث شهد لها ولمريم بنت عمران بالكمال الّذي هو للذّكران ، فقالت لفرعون في حقّ موسى : " قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ " [ القصص : 9 ] . )
 
فانظر يا أيها السالك ما أحسن هذا التعليم الإلهي من اللّه تعالى ومنا لغيرنا الذي خص اللّه تعالى بالاطلاع عليه ، أي بفهمه ومعرفته والتحقق به من شاء ، أي أراده سبحانه من عباده المؤمنين.
 
(ولما وجده) ، أي موسى عليه السلام وهو موضوع في التابوت (آل فرعون) ، أي قومه (في اليم ) ، أي البحر (عند الشجرة) في حافة البحر (سماه فرعون موسى والمو هو الماء) ، أي اسم الماء بالقبطية ، أي لغة فرعون وقومه والسا هو الشجر فسماه ، أي فرعون بما وجده ، أي موسى عليه السلام عنده من الماء والشجر بلغته لغة القبط فإن التابوت ، أي تابوت موسى عليه السلام الذي وضعته فيه أمه وألقته في اليم وقف عند الشجر في شط اليم ، أي البحر .
قال الشيخ زاده رحمه اللّه في حاشية البيضاوي ، موسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام .
وقيل : أن موسى اسم مركب من كلمتين بالعبرانية وهما : مووشا بالشين المعجمة فمو هو الماء بلسانهم وشا هي الشجر فعربته العرب فقالوا : موسى وقالوا : إنما سمي به لأن أمه جعلته في التابوت حين خافت عليه من فرعون وألقته في البحر ، فدفعته أمواج البحر حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون ، فخرجت جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدن التابوت ، فأخذنه فسمي عليه السلام باسم المكان الذي أصيب فيه وهو الماء والشجر .
فأراد فرعون قتله ، أي موسى عليه السلام فقالت امرأته ، أي آسية امرأة فرعون وكانت منطقة ، أي تنطق بالنطق الإلهي لا بالنطق النفساني لإيمانها باللّه تعالى وكفرها بفرعون باطنا فيما قالت ، أي في قولها لفرعون من الكلام الآتي إذ كان اللّه تعالى من قبل خلقها ، أي امرأة فرعون للكمال ، أي متهيئة له مستعدة لقبوله كما قال ، أي نبينا عليه السلام عنها ، أي عن آسية امرأة فرعون في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة عن أبي موسى الأشعري .
 
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ».
رواه البخاري ورواه مسلم والترمذي وابن ماجة ورواه غيرهم .
 
حيث شهد صلى اللّه عليه وسلم لها ، أي لآسية امرأة فرعون ولمريم بنت عمران بالكمال الإلهي الذي هو للذكران ، أي حاصل للكاملين منهم فقالت ، أي آسية لفرعون في حق موسى عليه السلام إنه ، أي موسى عليه السلام ("قُرَّتُ عَيْنٍ") ، أي سرور دائم ("لِي وَلَك َأيضا") [ القصص : 9 ] .
قال تعالى : "وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" [ القصص : 9 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فبه قرّت عينها بالكمال الّذي حصل لها كما قلنا ؛ وكان قرّة عين لفرعون بالإيمان الّذي أعطاه اللّه عند الغرق .
فقبضه طاهرا مطهّرا ليس فيه شيء من الخبث لأنّه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام . والإسلام يجبّ ما قبله . وجعله آية على عنايته سبحانه لمن شاء حتّى لا ييأس أحد من رحمة اللّه إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ[ يوسف : 87 ] فلو كان فرعون ممّن ييأس ما بادر إلى الإيمان . )
 
(فبه) ، أي بموسى عليه السلام (قرت عيناها) ، أي آسية بالكمال الإلهي الذي حصل لها ببركة تربية موسى عليه السلام وحفظه وحمايته ممن يريده بسوء كما قلنا ، أنه شهد لها بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان أيضا (قرة عين لفرعون بالإيمان) ، أي الإذعان والتصديق بدين موسى عليه السلام ونبوته ورسالته (الذي أعطاه اللّه) تعالى (عند الغرق) في البحر أي قبله ، لما شاهد أسباب الهلاك ، وقد رأى موسى وقومه من بني إسرائيل نجوا من الغرق في البحر والهلاك فيه بإيمانهم وإسلامهم ،
 
وتحقق بأن ذلك حق فأمن وأسلم طمعا في اللحاق بهم ورجاء في السلامة والنجاة من الغرق لا يأسا من الحياة ، كما قال بعضهم بأن : إيمان اليأس غير مقبول كما سيأتي ؛ ولهذا قال لما أدركه الغرق :آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ[ يونس : 90 ] وخص بني إسرائيل لعله يلتحق بهم وينجيه اللّه تعالى من الغرق كما أنجاهم وكانت قد حضرت منيته واستكملت حياته ولن يؤخر اللّه نفسا إذا جاء أجلها .
 
(فقبضه) ، أي فرعون ، يعني أماته اللّه تعالى (طاهرا) من دنس الكفر ، أي مؤمنا مسلما بإيمان وإسلام ثابت في النص المتواتر وهو القرآن العظيم فيجب الإيمان به وتصديقه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا[ النساء : 122 ] ، وأما كون ذلك لم يقبل منه وليس بصريح الآية ولا مفهوما أيضا فإن قوله تعالى :آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ[ يونس : 91 ] .
يقتضي المعاتبة له في تأخير إيمانه إلى ذلك الوقت لا عدم قبوله ، وقد خص عصيانه بعدم إيمانه بكونه قبل ، أي عصيت قبل الآن لا الآن ، والآن لم تعص فأطعت .
وقوله تعالى :فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ[ يونس : 92 ] ، أي وحدك ولا ننجي معك أحدا من قومك لكونك آمنت إيمان طمع ورجاء كما ذكرنا ،
ومن قال أن نجاته بكون حيتان البحر لم تأكل جسده فليس هذا المعنى بنجاة ، وإن وقع فإن النجاة المعتبرة عند حلول الأجل إنما هي نجاة الإيمان والإسلام خصوصا ، وقد أضافها اللّه تعالى إليه بنون العظمة ، وقرنها بقوله سبحانه لتكون لمن خلفك آية للأمم المتأخرين علامة على سعة رحمة اللّه تعالى في كل من جاءها مؤمنا مسلما مثلك طامعا فيها بمراده راجيا منها حصول مقصوده حتى لا ييأس أحد من رحمة اللّه تعالى ، ولا يقنط من إحسانه وقبول توبته ، وما ذكره البغوي في المصابيح وذكره غيره أيضا من حديث أن جبريل عليه السلام كان يأخذ من طين البحر ويضع في فم فرعون لئلا يتوب لم يصح .
 
قال الفخر الرازي في تفسيره :
الأقرب أنه لا يصح ، لأن في تلك الحالة إما أن يقال إن كان التكليف ثابتا لم يجز لجبريل عليه السلام أن يمنعه من التوبة ، بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى الطاعة لقوله تعالى :وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ[ المائدة : 2 ] ،
وأيضا لو منعه بما منعه من الطين كانت التوبة ممكنة لأن الأخرس قد يتوب بأن يندم بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح ، وحينئذ لا يبقى لما فعله جبريل عليه السلام فائدة .
وأيضا لو منعه لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضى بالكفر كفر وأيضا ،
 
فكيف يليق باللّه تعالى أن يقول لموسى وهارون عليهما السلام :فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [ طه : 44 ] ، ثم يأمر جبريل بأن يمنعه من الإيمان ،
(ولو قيل) : إن جبريل عليه السلام إنما فعل ذلك عن نفسه لا بأمر اللّه تعالى ، فهذا يبطله قول جبريل عليه السلام عن نفسه وعن الملائكة وما نتنزل إلا بأمر ربك ، وقوله تعالى في صفتهم :وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ[ الأنبياء : 28 ] .
(وقوله تعالى) :لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [ الأنبياء : 27 ] .
وأما إن قيل : التكليف كان زائلا عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى لهذا الفعل الذي نسب جبرائيل عليه السلام إليه فائدة أصلا .
وذكر أبو عيسى الترمذي في جامعه بإسناده عن ابن عباس إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قال :
"لما أغرق اللّه تعالى فرعون قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل فقال جبريل عليه السلام : يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة " هذا حديث حسن . سنن الترمذي .
وروي بإسناده أيضا عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه ذكر أن جبريل عليه السلام جعل يدس في في فرعون الطين خشية أن يقول : لا إله إلا اللّه فيرحمه اللّه أو خشية أن يرحمه اللّه . هذا حديث حسن غريب صحيح انتهى .
 
(فقوله) : خشية أن يرحمه اللّه مخافة أن تدركه الرحمة يعني في الحياة الدنيا فينجو من الغرق فيكون فتنة لبني إسرائيل أو فيعود إلى ما كان عليه من الكفر قال تعالى :وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ[ الأنعام :28] الآية .
ولا يتصوّر أحد أن المعنى مخافة أن تدركه الرحمة في الآخرة فيموت على الإيمان فإن هذا أمر بعيد من قصد جبريل له الملك المعصوم عليه السلام كما ذكرناه عن الرازي (مطهرا )،
أي مغسولا بماء البحر (ليس فيه) ، أي فرعون في ذلك الوقت (شيء من الخبث) ،
أي النجاسة المعنوية والحسية (لأنه) ، أي اللّه تعالى (قبضه) ، أي مات فرعون (عند إيمانه) ،
أي في وقت حصول الإيمان منه والإسلام للّه تعالى بإخلاص قلبه وصدق لبه كما قال تعالى :فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[ العنكبوت : 65 ] .
 
وهذا حالهم وهم في السفينة مشرفون على الهلاك ، فكيف بمن هو في وسط البحر وقد أشرف على الهلاك وطمع في النجاة والسلامة لمعاينة وقوع ذلك لغيره في ذلك الوقت فإن إخلاصه للّه تعالى في إيمانه وتوبته أبلغ وأكثر (قبل أن يكتسب) ، أي فرعون (شيئا من الآثام) ، أي الذنوب (والإسلام) إذا حصل من المكلف (يجبّ) ، أي يقطع حكم (ما) كان (قبله) من جميع المعاصي والمخالفات .
 
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « الإسلام يجبّ ما كان قبله » . رواه ابن سعد عن الزبير وعن جبير بن مطعم وهذا في حقوق اللّه تعالى . رواه ابن سعد في طبقاته ورواه أحمد الطبراني
 
وأما في حقوق العباد فيبقى عليه بعد الإسلام أمر التبعات والمظالم كتسخيره لقومه قهرا عنهم في البعض وغصب أموالهم وإضلالهم بعبادته كما قال تعالى :وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [ طه : 79 ] ،
وقد يكون في ضمن إيمانه وإسلامه ندم على صدور ذلك منه كله ولم يعش بعده زمانا يتيسر فيه الاستحلال من قومه في مظالمهم والهداية لهم بدلالتهم على الإيمان بموسى عليه السلام فيكون مات تائبا أيضا من حقوق العبد والاستحلال بإرضاء الخصوم شرط التوبة من حقوق العباد إذا أمكنه ذلك وإذا لم يمكنه فالندم يكفيه كما ورد في الحديث : « الندم توبة » أخرجه ابن ماجة « 2 » والحاكم في مستدركه عن ابن مسعود والبيهقي عن أنس بن مالك .
 
وفي رواية الطبراني وأبي نعيم في الحلية عن أبي سعيد الأنصاري : « الندم توبة ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ».
وفي الفتاوى البزارية أوائل كتاب الزكاة : من مات وعليه ديون وكان من قصده الأداء لا يؤاخذ به يوم القيامة ، لأنه يتحقق المطل انتهى .
وذكر اللقاني المالكي في شرح جوهرته .
قال : وأما رد المظالم والخروج عنها برد المال أو الإبراء منه أو الاعتراف إلى المغتاب واسترضائه إن بلغته الغيبة ونحو ذلك فواجب عندنا في نفسه لا يدخل له في الندم على ذنب آخر لما قاله إمام الحرمين في الشامل وهو مذهب الجمهور
 
قال الآمدي : إذا أتى المظلمة كالقتل والضرب مثلا فقد وجب عليه أمران :
التوبة والخروج عن المظلمة بتسليم نفسه مع الإمكان ليقتص منه ، ومن أتى بأحد الواجبين لم تكن صحة ما أتى به لتوقفه على الإتيان بالواجب الآخر ، كمن وجب  عليه صلاتان فأتى بإحداهما دون الأخرى ،
 
نعم إذا أراد أن يتوب من تلك الظلامة نفسها فلا بد من ردها أو التحليل ممن هي له ، إن وجد فيه شرط التحليل وأمن عند الطلب ذلك مما هو أعظم من المعصية التي ارتكبها انتهى . وتمامه هناك .
 
وغرضنا من هذا الكلام أن حقوق العباد إذا تاب منها العبد بالندم بقلبه صحت توبته من معصية التجري على الغير والتعدي عليه في حقه ، وبقي عين الحق في ذمة التائب دينا عليه يلزمه أداؤه ، فإذا كان ناويا أداءه لو عاش زمانا وتمكن من ذلك فإنه لا يؤاخذ به أيضا يوم القيامة ، خصوصا وقد مات فرعون غرقا في البحر ، فحصل له رتبة شهيد البحر بعد قبول إيمانه ، واللّه على كل شيء قدير .
 
وفي حديث الطبراني وابن ماجة عن أبي أمامة : « شهيد البحر مثل شهيد البر والميت في البحر كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجتين في البحر كقاطع الدنيا في طاعة اللّه وأن اللّه عز وجل وكّل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ويغفر لشهيد البحر الذنوب كلها والدين ». المزي في تهذيب الكمال
 
فاعتنى اللّه تعالى به وجعل حاله بعكس حال إبليس في سعادته آخرا وسعادة إبليس أوّلا . وكان ذلك ببركة تربية موسى عليه السلام وصبره على انتهاك حرمته حين قبض على لحيته وهو رئيس قومه ، وكانت لحية فرعون منظومة بالجواهر واللآلىء وموسى عليه السلام صغير في حجره حتى أراد فرعون قتله لفعله ذلك فقالوا لفرعون إنه لا يفرق بين التمرة والجمرة ، ولما عرض عليه ذلك أخذ الجمرة ووضعها في فمه فأحرقت لسانه ،
فقيل : إن اللكنة التي كانت في لسان موسى عليه السلام كانت من ذلك كما قال :وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ( 27 ) يَفْقَهُوا قَوْلِي ( 28 )[ طه : 27 - 28 ] . وقال : أخي هارون هو أفصح مني لسانا .
 
(وجعله) ، أي جعل اللّه تعالى فرعون آية كما قال تعالى لتكون لمن خلفك آية أي علامة واضحة (على عنايته) ، أي اعتنائه (سبحانه بمن شاء) من عباده (حتى لا ييأس واحد من رحمة اللّه) تعالى (فإنه) ، أي الشأن كما قال تعالى :"لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ،" أي رحمته "إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ"[ يوسف : 87 ].
 فلو كان فرعون ممن ييأس من رحمة اللّه تعالى ما بادر إلى الإيمان وأسرع إليه حين أدركه الغرق معرفة منه وتحققا أن الإيمان ينجيه لا نجاة له سواه وقد واجهه من اللّه تعالى صريح النجاة بقوله سبحانه :فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ[ يونس : 92 ] .
 
ولم ينقل عنه أنه سلم من الغرق ولم يمت من ذلك ، فتعين أن تكون نجاته هي النجاة التي أرادها بإيمانه وإسلامه ، أعني نجاة القبول له من اللّه تعالى وإلحاقه ببني إسرائيل في إيمانهم وإسلامهم وسلامتهم من الغرق .
 
وفي تقدير اللّه تعالى أنه يموت غريقا ، وقد حل أجله فمات ، وكذلك وبنو إسرائيل أطول معه عمرا فعاشوا بعده وقد حصل له اللحاق بهم في إيمانهم وإسلامهم كما ورد في صريح الآية :آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ[ يونس : 90 ] ، والأصل القبول حتى يأتي قاطع من الأدلة ينفيه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان موسى عليه السلام كما قالت امرأة فرعون فيه :قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا [ القصص : 12 ].
وكذلك وقع فإنّ اللّه نفعهما به عليه السّلام وإن كانا ما شعرا بأنّه هو النّبيّ الّذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون وهلاك آله .
ولمّا عصمه اللّه من فرعون وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً[ القصص : 10 ] من الهمّ الّذي كان قد أصابها . )
فكان موسى عليه السلام كما قالت آسية امرأة فرعون فيه ، أي في موسى عليه السلام أنه ، أي موسى عليه السلام ("قُرَّتُ عَيْنٍ") ، أي فرح دائم وسرور لازم ("لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا") [ القصص : 12 ] ، أي في وقت الشدة وكذلك وقع فإن اللّه تعالى نفعهما به ، أي بموسى عليه السلام وحقق رجاءهما وطمعمهما في ذلك ،
كما حقق اللّه تعالى رجاء عبد المطلب جد نبينا صلى اللّه عليه وسلم لما وضعته آمنة بعد موت أبيه عبد اللّه ، فسماه جده محمدا حتى قيل له : لم سميت ابنك محمدا وليس من أسماء آبائك ولا قومك ؟
فقال : رجوت أن يحمد في السماء والأرض ، فكان الأمر كذلك ، ولو رجى أن ينتفع به لحقق اللّه تعالى رجاءه بالأولى .
 
وإن كانا ، أي فرعون وآسية امرأته ما شعرا ، أي علما بأنه ، أي موسى عليه السلام هو النبي الذي يكون على يديه هلاك ملك ، أي سلطنة فرعون في مصر ونواحيها وهلاك آله ، أي آل فرعون يعني قومه وأتباعه كما قال تعالى :وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ[ القصص : 9 ]
ولا يرد على القول بقبول إيمان فرعون وإسلامه كما ذكرنا ذكره تعالى لفرعون في القرآن بالذم والتقبيح عليه في صريح الآيات كقوله تعالى :وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [ طه : 79 ]
وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ[ الأعراف : 137 ]
وما أشبه ذلك ، فإنه كان قبل توبته وإيمانه وإسلامه ، وأما قوله تعالى :وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ( 96 ) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [ هود : 96 - 97 ].
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ( 98 ) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ( 99 ) [ هود : 98 - 99 ]
 
فلا يخفى أن قوله وما أمر فرعون برشيد حكاية حاله قبل توبته ، وقوله : يقدم قومه يوم القيامة .
أي يتقدم عليهم ، لأنه كان في الدنيا أمامهم في الكفر ، وكان سبب كفرهم بمتابعتهم له فيقدمهم ، أي يتقدم عليهم في يوم القيامة من حيث صورته وشخصه الذي كانوا يعبدون ، لأنهم كانوا يرونه إلها مع اللّه تعالى وهو في نفسه عبد مخلوق مبرأ من وصف الألوهية ، فالذي يقدمهم يوم القيامة بل يكون معهم في النار صورته التي عبدوها كما قال تعالى :إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ[ الأنبياء : 98 ]
 
وقال تعالى :وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ[ البقرة : 24 ] ، وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها تكون معهم في النار يعذبون بها لا هي تعذب معهم ، وكذلك عباد الملائكة وعباد عيسى ابن مريم والعزير عليهم السلام يكون معهم في النار عين ما عبدوا ، وهم إنما عبدوا الصور التي تخيلوها في نفوسهم آلهة من الملائكة وعيسى والعزير عليهم السلام لا أن الملائكة وعيسى وعزيرا عليه السلام يكون معهم في النار ، وكذلك فرعون بمقتضى قولنا بقبول إيمانه .
 
ولهذا قال تعالى :"فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ" بصيغة الماضي يعني فعل ذلك بهم في الدنيا قبل توبته ولم يقل تعالى : فيوردهم بصيغة المضارع كما قال : يقدم قومه ، وإيرادهم النار كناية عن إيقاعهم فيما يقتضي خلودهم فيها ، ويؤيده قوله تعالى :وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً[ هود : 99 ] ،
أي في الدنيا ، ولئن كان أوردهم في الآخرة ما ذكر أنه يرد معهم ،
وقال تعالى في حق فرعون :وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ ( 39 ) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ( 40 ) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ ( 41 ) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ( 42 )  [ القصص: 39- 42].
 
ولا يخفى عليك أن استكباره وظنه ونبذه في اليم كان قبل توبته ، وباقي الآية في حق قومه خصوصا بعد قوله : وجعلناهم ، أي قوم فرعون ، أئمة يدعون إلى النار ، يعني كانوا يدعون بعضهم بعضا إلى عبادة فرعون التي هي كفر ، فهي نار يوم القيامة .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:40 am

25 -  فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
25 -  فص حكمة علوية في كلمة موسوية
وقال تعالى :فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى( 25 ) [ النازعات ] ، أي أخذه أخذا يقتضي النكال عليه والتقبيح في الدنيا والآخرة ، وأصل النكال القيد ، وهو إغراقه في البحر هو وقومه ، فإنه عقاب واحد جمع اللّه تعالى عليه عقاب الدنيا والآخرة ، وآية إيمانه وإسلامه السابق ، بيانها تقتضي أن ما وقع له من الغرق ما ذكر ههنا من نكال الآخرة والدنيا ، ولهذا قدم الآخرة على الدنيا لتقدم نكالها عليها ، وجمعه مع نكال الدنيا والآيات يفسر بعضها بعضا .
 
(ولما عصمه) ، أي موسى عليه السلام حفظه (اللّه) تعالى (من) شر عدوّه (فرعون "وَأَصْبَحَ فُؤادُ")، أي قلب
 ("أُمِّ مُوسى فارِغاً") ، أي خاليا من الهم والحزن الذي كان قد أصابها خوفا على موسى عليه السلام من فرعون أن يقتله .
قال تعالى :وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[ القصص : 10 ] ، أي كادت أن تخبر أنه ولدها من عدم خوفها عليه لما رأت من الحظوظ عند فرعون ، لكن اللّه تعالى ربط قلبها عن ذلك لئلا يفتنها فرعون بقتل ولدها فيفوتها الإيمان بالحق .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّ اللّه حرّم عليه المراضع حتّى أقبل على ثدي أمّه فأرضعته ليكمّل اللّه لها سرورها به .
كذلك علم الشّرائع ، كما قال تعالى :لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً- أي طريقا -وَمِنْهاجاً[ المائدة : 5 ] . أي من تلك الطّريقة جاء . فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الّذي منه جاء .
فهو غذاؤه كما أنّ فرع الشّجرة لا يتغذّى إلّا من أصله . )
 
ثم إن اللّه تعالى حرم عليه ، أي موسى عليه السلام النساء المراضع ، فكان لا يقبل ثدي واحدة منهنّ حتى جيء له بأمه لترضعه ولم يعلم أحدا أنها أمه فقبلها أقبل على ثدي أمّه فأرضعته ، أي أمه ليكمل اللّه تعالى لها ، أي لأمه سرورها به ، أي بموسى عليه السلام .
كذلك ، أي مثل المراضع بالنسبة إلى المكلفين علم الشرائع ، فإنه يختلف باختلاف أحوال المكلفين كما قال تعالى  ("لِكُلّ") ٍأي لكل واحد ("جَعَلْنا مِنْكُمْ") [ المائدة : 48 ] يا معشر المكلفين ("شِرْعَةً") أي طريقا يسلكه بمقتضى أحواله عليه من دين الحق ("وَمِنْهاجاً") [ المائدة : 48 ] أي من تلك الشرعة والطريق جاء أي كل واحد منكم أي من تلك الطريقة جاء فهو متولد فهي أمه التي ترضعه ، أي تمده بمقتضاها ، وقد حرمت عليه المراضع غيرها فكان هذا القول في معنى الآية إشارة لا عبارة إلى الأصل الذي منه ، أي من ذلك الأصل جاء ، أي ذلك المكلف فهو ، أي ذلك الأصل غذاؤه ، أي غذاء ذلك المكلف كما أن فرع الشجرة جاء من أصلها فالفرع لا يتغذى ، أي يصل إليه الغذاء أي المادة إلا من أصله .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما كان حراما في شرع يكون حلالا في شرع آخر يعني في الصّورة : أعني قولي يكون حلالا ، وفي نفس الأمر ما هو عين ما مضى ، لأنّ الأمر خلق جديد ولا تكرار . فلهذا نبّهناك . فكنّى عن هذا في حقّ موسى بتحريم المراضع . )
 
فما كان من أفعال المكلفين حراما في شرع من الشرائع الماضية يكون ذلك الفعل حلالا في شرع آخر غير الشرع الأوّل يعني بذلك الفعل أنه عين الأوّل في مثل الصورة الأولى لا أنه عين الفعل الأوّل المحكوم عليه أوّلا من حيث كليته بكونه حراما حكم عليه ثانيا بأنه حلال إلا من حيث صورته أعني بكونه في الصورة قولي يكون حلالا ، وهو ذلك الفعل الكلي المحكوم عليه بالحرمة وفي نفس الأمر ما هو ، أي المحكوم عليه بالحل ثانيا عين ما مضى فحكم عليه بالحرمة أوّلا لأن الأمر الإلهي دائما ("خلق جديد") بالصورة المتشابهة ولا تكرار في ذلك الخلق الجديد بل كان لمحة يذهب الأمر بخلق ويأتي بخلق آخر غير الأول فلهذا ، أي لكون الأمر كذلك نبهناك يا أيها السالك على ما ذكرناها هنا .
وكنّي بالبناء للمفعول ، أي كنى اللّه تعالى عن هذا الأمر الذي هو اختلاف الشرائع للأمم فكل جاءت شريعتها ممدة لها لأنها أصلها فهي ترضعها وتغذوها وقد حرم عليها غيرها في حق موسى عليه السلام بتحريم المراضع عليه ، لأنه يأتي بشريعة ناسخة للشرائع قبله فشريعته هي أمه التي ترضعه بطريق الإشارة .
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأمّه على الحقيقة من أرضعته لا من ولدته ، فإنّ أمّ الولادة حملته على جهة الأمانة فتكوّن فيها وتغذّى بدم طمثها من غير إرادة لها في ذلك حتى لا يكون لها عليه امتنان ، فإنّه ما تغذي إلّا بما لو لم يتغذّ به ولم يخرج عنها ذلك الدّم لأهلكها ، وأمرضها ، فللجنين المنّة على أمّه بكونه تغذّى بذلك الدّم فوقاها بنفسه من الضّرر الّذي كانت تجده لو امتسك هذا الدّم عندها ولا يخرج ولا يتغذّى به جنينها والمرضعة ليست كذلك . فإنّها قصدت برضاعته حياته وإبقاءه . )
 
(فأمه في الحقيقة هي من أرضعته) ، لأنها تغذيه بجزء منها ولهذا حرمت عليه المراضع لئلا ينتسب إلى غير أمه التي ولدته ، فيفوت حظها منه وقد تعبت في حمله ووضعه وحمل همه وحزنه خوفا من أذية فرعون ، فهي أحق به من غيرها ؛ ولهذا قال تعالى :فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ[ طه : 40 ]
(لا) أمه في الحقيقة (من ولدته فإن أم الولادة حملته) ، أي ولدها فهو (على جهة الأمانة) فيها لأبيه لا لها كما قال تعالى :ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ[ الأحزاب : 5 ] ، وقال تعالى :وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ[ البقرة : 233 ] ،
وقال تعالى :وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها[ هود : 6 ] وهو الموضع الذي تستقر فيه ، أي تسكين ومستودعها ، أي الموضع الذي أودعت فيه وهو رحم أمها فيرزقها ولا ينساها .
 
(فتكوّن) بالتشديد ، أي أنشىء وخلق (فيها) ، أي في أمه يعني في بطنها (وتغذى) ، أي اقتات (بدم طمثها) بالمثلثة ، أي حيضها ، ولهذا كانت الحامل لا تحيض ، وما رأته من الدم من زمن حملها فهو استحاضة وليس بحيض ، لأن الجنين يأكل دم الحيض في بطنها (من غير إرادة لها) ، أي لأمه (في ذلك) ، أي في التغذي بدمها (حتى لا يكون لها )، أي للام (عليه) ،
 
أي على ولدها (امتنان) ، أي فضل وإنعام بذلك (فإنه) ، أي الجنين (ما تغذى) في بطن أمه (إلا بما) ، أي بدم (لو لم يتغذ ذلك) الجنين (به و) لو (لم يخرج عنها) ، أي عن الأم (ذلك الدم) الفاسد المحتبس في رحمها (لأهلكها) باستيلائه على قلبها (وأمرضها) بأمر آخر من أمور تصرفه في بطنها .
 
(فللجنين المنة) ، أي الفضل (على أمه) الحاملة به (بكونه) ، أي الجنين (تغذى بذلك الدم) في رحمها ولم يتركه يضرها (فوقاها) ، أي حفظ أمه (بنفسه) حيث أكل دمها (من الضرر الذي كانت) ، أي أمه (تجده لو امتسك) بالبناء للمفعول أي بقي (ذلك الدم عندها) في بطنها (ولا) كان (يخرج) منها ولا كان (يتغذى به) ، أي بذلك الدم (جنينها والمرضعة) للولد (ليست كذلك) ، أي ما هي كأم الولادة (فإنها قصدت برضاعته) لبنها الذي هو جزء منها (حياته) ، أي الولد (وإبقاءه) في الدنيا بوصف الصحة والعافية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فجعل اللّه تعالى ذلك لموسى في أمّ ولادته ، فلم يكن لامرأة عليه فضل إلّا لأمّ ولادته لتقرّ عينها أيضا بتربيته وتشاهد انتشاءه في حجرها ،وَلا تَحْزَنَ [ طه : 40 ] .
ونجّاه اللّه تعالى من غمّ التّابوت ، فخرق ظلمة الطّبيعة بما أعطاه اللّه من العلم الإلهيّ وإن لم يخرج عنها .
وفتنه فتونا أي اختبره في مواطن كثيرة ليتحقّق في نفسه صبره على ما ابتلاه اللّه به .)
 
فجعل اللّه تعالى ذلك الأمر الذي في المرضعة لموسى عليه السلام في أمّ ولادته فكانت مرضعته دون غيرها فلم يكن لامرأة أجنبية عليه ، أي على موسى عليه السلام فضل ومنة إلا لأم ولادته حيث جعلها اللّه تعالى ترضعه لتقر عينها ، أي أم ولادته أيضا بتربيته كما قرت عينها بولادته وتشاهد انتشاءه ، أي كبره شيئا فشيئا في حجرها الحجر مثلث الحاء المهملة فالجيم الساكنة حضن الإنسان ولا تحزن عليه ونجاه ، أي سلم موسى عليه السلام اللّه تعالى من غم التابوت الذي وضعته أمه فيه بإلهام من اللّه تعالى ، وأما في إشارة التابوت .
فخرق موسى عليه السلام حجاب ظلمة الطبيعة الجسمانية بما أعطاه اللّه تعالى لروحه النورانية من العلم الإلهي وإن لم يخرج ، أي موسى عليه السلام عنها ، أي عن ظلمة طبيعته بالكلية لأنه بشر ولكن غلب عليها بنورانيته وفتنه ، أي فتن اللّه تعالى موسى عليه السلام فتونا مصدر مؤكد للفعل أي اختبره وامتحنه في مواطن كثيرة من أحوال الدنيا ووقائعها ليتحقق ، أي موسى عليه السلام يصير متحققا في نفسه ، أي نفس موسى عليه السلام صبره ، أي موسى عليه السلام مفعول يتحقق على ما ابتلاه اللّه تعالى به من أنواع البلاء فيكمل فيه مقام الصبر بالتحقق به في نفسه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأوّل ما ابتلاه اللّه قتله القبطيّ بما ألهمه اللّه ووفّقه له في سرّه وإن لم يعلم بذلك ، ولكن لم يجد في نفسه اكتراثا بقتله مع كونه ما توقّف حتّى يأتيه أمر ربّه بذلك ، لأنّ النّبيّ معصوم الباطن من حيث لا يشعر حتّى ينبّا أي يخبر بذلك .
ولهذا أراه الخضر قتل الغلام فأنكر عليه قتله ولم يتذكّر قتله القبطيّ فقال له الخضروَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي[ الكهف : 82 ] ينبّهه على مرتبته قبل أن ينبّأ أنّه كان معصوم الحركة في نفس الأمر وإن لم يشعر بذلك وأراه أيضا خرق السّفينة الّتي ظاهرها هلاك وباطنها نجاة من يد الغاصب . جعل له ذلك في مقابلة التّابوت الّذي كان في اليمّ مطبقا عليه . فظاهره هلاك وباطنه نجاة . )
 
(فأوّل ما ابتلاه اللّه) تعالى (به) من البلاء (قتله) ، أي موسى عليه السلام (القبطي) الذي هو من آل فرعون وكزه موسى عليه السلام فقضى عليه بما ألهمه اللّه تعالى فعل ذلك ووفقه ، أي أرشده له في سره ، أي قلبه وإن لم يعلم ، أي موسى عليه السلام بذلك ، أي أنه بإلهام له من اللّه تعالى وتوفيق ؛ ولهذا قال إنه من عمل الشيطان إنه عدو مضلّ مبين
(ولكن لم يجد) ، أي موسى عليه السلام في نفسه اكتراثا بالمثلثة ، أي استعظاما ومبالاة بقتله ، أي القبطي مع كونه ، أي موسى عليه السلام ما توقف في القتل حتى يأتيه أمر ربه ، تعالى له بذلك القتل بل بادر إليه بالإلهام والتوفيق لأن النبي معصوم ، أي محفوظ الباطن خصه ، لأنه منشأ الحركة الاختيارية من حيث لا يشعر بعصمة باطنه عن جميع المخالفات حتى ينبأ أي يخبر ، مبنيان للمفعول بذلك ، أي أنه معصوم الباطن .
 
ولهذا ، أي لكون الأمر كذلك أراه ، أي موسى عليه السلام الخضر عليه السلام قتل الغلام كما قال تعالى :حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ[ الكهف : 74 ] .
فأنكر ، أي موسى عليه ، أي على الخضر عليه السلام قتله ، أي الغلام كما قال تعالى : قال :أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً[ الكهف : 74 ] ولم يتذكر ، أي موسى عليه السلام قتله القبطي من قوم فرعون فقال له ، أي لموسى عليه السلام الخضر عليه السلام في آخر قوله ("وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي") [ الكهف : 82].
يعني بل عن أمر اللّه تعالى بذلك في باطن ينبهه ، أي يوقظ موسى عليه السلام على مرتبته وهي عصمته لما قتل القبطي قبل أن ينبأ ، أي يخبره اللّه تعالى أنه كان معصوم الحركة في نفس الأمر عن كل مخالفة لأمر اللّه تعالى وإن لم يشعر بذلك ، أي بكون الخضر عليه السلام ينبهه كما ذكر .
 
وأراه ، أي الخضر أرى موسى عليه السلام أيضا خرق السفينة التي ركبا فيها وهي ظاهرها هلاك ، لكل من فيها والقياس ظاهره ، أي خرقها وتأنيث الضمير باعتبار المضاف إليه نحو قول الشاعر :
كما شرقت صدر القناة من الدم
وكذلك قوله : (وباطنها نجاة) ، أي سلامة وخلاص (من يد الغاصب) ، وهو الملك الذي يأخذ كل سفينة غضبا (جعل له) ، أي لموسى عليه السلام (ذلك) ، أي السفينة التي خرقها (في (مقابلة التابوت له) ، أي لموسى عليه السلام الذي كان في اليم ، أي البحر (مطبقا) بصيغة اسم المفعول (عليه) ، أي على موسى عليه السلام فظاهره ، أي التابوت (هلاك) ، لأنه حبس لطفل صغير في داخل صندوق مقفل ، وقد ألقى في البحر (وباطنه) ، أي التابوت (نجاة) من الهلاك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنّما فعلت به أمّه ذلك خوفا من يد الغاصب فرعون أن يذبحه صبرا وهي تنظر إليه .
مع الوحي الّذي ألهمها اللّه تعالى به من حيث لا تشعر . فوجدت في نفسها أنّها ترضعه .
فإذا خافت عليه ألقته في اليمّ فإنّ في المثل « عين لا ترى قلب لا يفجع » فلم تخف عليه خوف مشاهدة عين ، ولا حزنت عليه حزن رؤية بصر ، وغلب على ظنّها أنّ اللّه ربّما ردّه إليها لحسن ظنّها به ، فعاشت بهذا الظّن في نفسها ، والرّجاء يقابل الخوف واليأس ، وقالت حين ألهمت لذلك لعلّ هذا هو الرّسول الّذي يهلك فرعون والقبط على يديه . فعاشت وسرّت بهذا التّوهم والظّنّ بالنّظر إليها ؛ وهو علم في نفس الأمر . )
 
(وإنما فعلت به) أي بموسى عليه السلام (أمه ذلك) بأن ألقته في التابوت فألقته في اليم (خوفا) عليه (من يد الغاصب) له الذي هو (فرعون أن يذبحه صبرا) ، أي على وجه الصبر منه عليه السلام وهي ، أي أمه (تنظر إليه) ، أي على موسى عليه السلام ولا يمكنها الدفع عنه (مع الوحي) الإلهامي (الذي ألهمها اللّه تعالى به من حيث لا تشعر) ، أي أم موسى بأنه وحي إلهامي (فوجدت) ، أي أم موسى عليه السلام (في نفسها أنها ترضعه) ،
أي موسى عليه السلام (فإذا خافت عليه السلام ) من عدوّه فرعون (ألقته في اليم) ، أي البحر ليذهب خوفها عنها بعدم علمها بحاله ، كأنها قالت في نفسها إن كان هذا هو صاحب الشأن فهو محفوظ ، وإن لم يكن فلا يبقى فإن في المثل المشهور (عين لا ترى قلب لا يفجع) ، أي لا يشتد حزنه وأسفه (فلم تخف) ، أي أم موسى عليه السلام (عليه )، أي موسى عليه السلام (خوف مشاهدة عين) باصرة ، وإن خافت عليه في أمر مغيب عنها .
 
وقد (غلب على ظنها) ، أي أم موسى عليه السلام أن اللّه تعالى ربما رده ، أي موسى عليه السلام إليها في خير وعافية (لحسن ظنها به) ، أي باللّه تعالى فعاشت ، أي أم موسى عليه السلام بهذا الظن المذكور في نفسها والرجاء ، أي المتأمل والطمع في حصول الشيء يقابل ، أي يضادد الخوف ويضادد اليأس ، أي القنوط من الشيء ، فقد جمعت بين أمرين متقابلين :
خوفها على موسى عليه السلام ، ورجائها من اللّه تعالى سلامته وحفظه وعدم يأسها من ذلك وقالت في نفسها (حين ألهمت) ، أي ألهمها اللّه تعالى لذلك الفعل الذي هو جعله في التابوت ثم إلقاؤه في اليم (لعل هذا) المولود
(هو الرسول الذي يهلك فرعون والقبط )وهم قوم فرعون (على يديه) كما اشتهر من ذلك قول الكهنة ، فقتل فرعون بسبب كل مولود ولد (فعاشت) ، أي أم موسى عليه السلام ، أي بقيت في الدنيا منتعشة وسرت ، أي فرحت (بهذا التوهم والظن) في نفسها الموجود (بالنظر إليها) مما لا يشعر به أحد غيرها (وهو) ، أي ذلك التوهم والظن (علم) مطابق للواقع (في نفس الأمر) من غير شعور بذلك منها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ أنّه لمّا وقع عليه الطّلب خرج فارّا خوفا في الظّاهر وكان في المعنى حبّا في النّجاة ، فإنّ الحركة أبدا إنّما هي حبّيّة ، ويحجب النّاظر فيها بأسباب أخر ، وليست تلك .
وذلك لأنّ الأصل حركة العالم من العدم الّذي كان ساكنا فيه إلى الوجود ، ولذلك يقال إنّ الأمر حركة عن سكون : فكانت الحركة الّتي هي وجود العالم حركة حبّ . وقد نبّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك بقوله : " كنت كنزا مخفيّا لم أعرف فأحببت أن أعرف" ).
(ثم إنه) ، أي موسى عليه السلام (لما وقع عليه الطلب) بالقتل من قوم فرعون حين قتل القبطي (خرج) من مصر (فارا) ، أي هاربا من فرعون وقومه لما علم بذلك قال تعالى :وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ( 20 ) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ( 21 ) [ القصص : 20 21 ] .
وكان خروجه (خوفا في الظاهر) من القتل (وإن كان في المعنى حبا) ، أي رجاء وطمعا (في النجاة) والسلامة (فإن الحركة) خصوصا السريعة (أبدا إنما هي حبية) ، أي منسوبة إلى الحب بمعنى المحبة ، فإن مبدأها الشوق إلى التحرك إليه من كل أمر (ويحجب الناظر فيها) ، أي في الحركة عن معرفة كونها حبية (بأسباب أخر) غير الحب الداعي إليها تسمى بها مقاصد الحركة كالأكل والشرب والكلام والمشي ونحو ذلك (وليست تلك) الأسباب بحاجبة في نفس الأمر للمتأمل .
 
(وذلك) ، أي بيان كون الحركة حبية (لأن الأصل) في التكوين (حركة العالم) ، أي المخلوقات (من العدم الذي كان) ذلك العالم (ساكنا فيه) على معنى التوهم إذ العالم كان عدما صرفا في نفسه (إلى الوجود) الذي اتصف به ظاهرا وهي حركة أمر اللّه تعالى الذي قام به خلقه كلمح بالبصر وهو قوله :”كُنْ فَيَكُونُ”؛
 
(ولذلك) ، أي لأجل ما ذكر (يقال) عند المحققين (إن الأمر) الإلهي (حركة) تصدر (عن سكون) متقدم فيها فيتحرك الساكن الذي هو المأمور بالحركة التي هي ذلك الأمر ، كالانفعال الذي هو عين ظهور فعل الفاعل كقولهم : كسرت الإناء فانكسر ، فحركة الكسر هي بعينها حركة الانكسار ، ظهرت على المنفعل لها ، وكانت ساكنة فيه .
 
(فكانت الحركة التي هي) نفس (وجود العالم) ، لأنها عين الأمر الإلهي (حركة حب) ، أي محبة من صاحب الأمر تعالى (وقد نبّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك) ، أي كون حركة وجود العالم حبية بقوله في الحديث القدسي (" كنت كنزا مخفيّا لم أعرف") بالبناء للمفعول ("فأحببت أن أعرف ") بالبناء للمفعول أيضا وبقية الحديث : " فخلقت خلقا تعرفت إليهم فبي عرفوني ".
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلولا هذه المحبّة ما ظهر العالم في عينه . فحركته من العدم إلى الوجود حبّ الموجد لذلك ، ولأنّ العالم أيضا يحبّ شهود نفسه وجودا كما شهدها ثبوتا ، فكانت بكلّ وجه حركته من العدم الثّبوتي إلى الوجود حركة حبّ من جانب الحقّ ومن جانبه فإنّ الكمال محبوب لذاته .
وعلمه تعالى بنفسه من حيث هو غنيّ عن العالمين هو له وما بقي له إلّا تمام مرتبة العلم بالعلم الحادث الّذي يكون من هذه الأعيان ، أعيان العالم ، إذا وجدت . فتظهر صورة الكمال بالعلم المحدث والقديم فتكمل مرتبة العلم بالوجهين . )
(فلولا هذه المحبة) من الحق تعالى (ما ظهر) هذا (العالم في عينه) ، أي عين العالم إذ العالم ظاهر للحق تعالى من الأزل وليس بظاهر لنفسه فظهر بالمحبة القديمة (فحركته) ، أي حركة المحبة للعالم (من العدم) الذي هو فيه (إلى الوجود) الذي اتصف به ظاهرا (حركة حب) ، أي محبة (الموجد) ، أي الحق تعالى الذي أوجد العالم (لذلك) ، أي لإيجاد العالم ليعرف به (ولأن العالم أيضا يحب شهود) ، أي معاينة (نفسه وجودا) ، أي موجودة (كما شهدها )، أي نفسه (ثبوتا) أي ثابتة في عدمها الأصلي (فأنت بكل وجه) من الوجوه (حركته) أي العالم (من العدم الثبوتي) الأصلي (إلى الوجود) الذي اتصف به (حركة حب) أي لمحبة (من جانب الحق) تعالى (ومن جانبه) اي العالم أيضا فإن الكمال الذي هو الموجود (محبوب لذاته) أي من حيث هو وجود فيحبه الحق تعالى للعالم ويحبه العالم لنفسه .
 
(وعلمه تعالى بنفسه من حيث هو غني عن العالمين) أي من حيث ذاته المجردة عن اعتبار مراتب أسمائه وصفاته هو أي ذلك العلم ثابت له تعالى فهو عالم بذاته أزلا أبدا ، وأما علمه تعالى بنفسه من حيث مراتب أسمائه وصفاته فقد أشار إليه بقوله (وما بقي له إلا تمام مرتبة العلم) الإلهي (بالعلم الحادث) في الظهور لا في الثبوت (الذي يكون من هذه الأعيان) الكونية بنفسها وبغيرها على قدر استعدادها في معرفة الغير ومقدار طاقتها ، فكان علمها هو علمها بنفسها عند التحقيق (أعيان) بدل من الأعيان (العالم) كالملك والإنس والجن ، بل كل المخلوقات ذات علم عندنا كما تقتضيه العبارة هنا (إذا وجدت) أي تلك الأعيان من عدم نفسها ، فإن العلم القديم بها من حيث إنها حضرات الأسماء والصفات يتفرق عليها بحسبها معلومة فيه (فتظهر صورة الكمال) الإلهي للحق تعالى (بالعلم المحدث) وهو علمه تعالى بمظاهر مراتب أسمائه وصفاته ، وذلك قوله تعالى :أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ[ النساء : 166 ] وقوله :ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( 2 ) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ[ الأنبياء : 2 - 3 ] .
(و) العلم (القديم) وهو علمه تعالى بذاته المجردة من كل مرتبة (فتكمل) حينئذ من حيث الظهور إذ هي من حيث الثبوت كاملة للّه تعالى (مرتبة العلم) الإلهي (بالوجهين) وجه الذات ووجه الأسماء والصفات .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك تكمل مراتب الوجود ؛ فإنّ الوجود منه أزليّ وغير أزلي وهو الحادث . فالأزليّ وجود الحقّ لنفسه ، وغير الأزليّ وجود الحقّ بصور العالم الثّابت . فيسمّى حدوثا لأنّه ظهر بعضه لبعضه وظهر لنفسه بصور العالم فكمل الوجود فكانت حركة العالم حبّية للكمال فافهم . )
 
(وكذلك تكمل مراتب الوجود) التي هي مراتب الأسماء والصفات بظهور آثارها (فإن الوجود منه أزلي) أي قديم ومنه (غير أزلي وهو) أي غير الأزلي (الحادث فالأزلي) من الوجود (وجود الحق) تعالى (لنفسه) وهو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي المنزه عن مشابهة كل شيء (وغير الأزلي) من الوجود هو (وجود الحق) تعالى أيضا لا لنفسه بل لما سواه وهو وجوده تعالى القائم (بصور العالم الثابت) ذلك العالم في العدم الأصلي (فيسمى) أي هذا الوجود المذكور (حدوثا لأنه) أي هذا الوجود (ظهر بعضه لبعضه) من حيث أنواع مراتب أسمائه وصفاته ، وترتب في الظهور بالتقدم والتأخر والزيادة والنقصان .
 
(فظهر) أي هذا الوجود (لنفسه) متجليا (بصور العالم) المختلفة كما هو ظاهر لها من الأزل بغير تلك الصور (فكمل الوجود) في ظهوره بمراتب أسمائه وصفاته ، وهو كامل في ظهوره بذاته لذاته من الأزل (فكانت حركة) وجود (العالم) في كل لمحة حركة (حبية) أي منبعثة عن المحبة من الحق تعالى ومن أعيان العالم أيضا كما مر ، وهي حركة إيجاد للعالم بالنسبة إلى الحق تعالى ، وحركة عمل خير أو شر أو إباحة في المكلف ،
وغير ذلك في غيره بالنسبة إلى أعيان العالم ، وهي حركة واحدة في نفس الأمر للأمر الإلهي لا لغيره ، ولكنها كثرت وتنوعت نسبتها إلى أنواع كثيرة كما كثر الأمر مع وحدته في نفسه ، وكثرت المحبة لكثرة أنواع الحركة الواحدة ، فكانت أنواع المحبة كلها (للكمال) أي لطلبه وتحصيله وهو الوجود المتنوع بالصور (فافهم) يا أيها السالك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا تراه كيف نفّس عن الأسماء الإلهيّة ما كانت تجده من عدم ظهور آثارها في عين مسمّى العالم فكانت الرّاحة محبوبة له .
ولم يوصل إليها إلّا بالوجود الصّوريّ الأعلى والأسفل . فثبت أنّ الحركة كانت للحبّ ، فما ثمّ حركة في الكون إلّا وهي حبيّة .
فمن العلماء من يعلم ذلك ومنهم من يحجبه السّبب الأقرب لحكمه في الحال واستيلائه على النّفس . )
 
(ألا تراه) أي لوجود الحق (كيف نفّس) بتشديد الفاء من قوله عليه السلام : " نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن " .
فكان الأنصار ، والنفس : بفتح الفاء يحصل التنفيس به أي التعريج عما في القلوب الحيوانية من حرارة الروح المنفوخ على جهة المثال للمقصود ، فإذا أراد الحيوان أخرج ذلك النفس بالتنفيس صوتا فإن كان إنسانا يظهره صور حروف وكلمات تحمل معاني مقصودة له أو غير مقصودة كما قال تعالى :فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ[ الذاريات : 23 ] .
(عن الأسماء الإلهية ما كانت تجده) أي الأسماء من الكرب (من عدم ظهور آثارها) المقدرة لها (في عين مسمى العالم) على اختلافه ، فلم يزل ذلك التنفيس أبدا ، ومنه إجابة الدعاء لكل داع خصوصا المسلم والمؤمن والمحسن لانكشاف ذلك له ولو إسلاما ولو إيمانا
 
(فكانت الراحة) من تعب التوجه بالآثار على الظهور والتحقق كتعب الداعي في قضاء حاجة بطريق التشبيه في تقريب المعاني البعيدة عن الأفهام (محبوبة له) أي للحق تعالى (ولم يوصل) أي يتوصل الحق تعالى لاقتضاء التقدير الأزلي ذلك (إليها) أي إلى تلك الراحة المحبوبة له كمحبة الراحة بالحاجة للداعي في قضائها بل هو منه لو (عرف إلا بالوجود الصوري) أي المصوّر بالصورة المخصوصة في العالم (الأعلى والأسفل) ولا يكون غير ذلك (فثبت) مما ذكر (أن الحركة) الوجودية الإيجادية بالنظر إليها وإلى غيرها (كانت للحب) أي لأجل المحبة الباعثة لها من الأصل والفرع (فما ثمّ) بالفتح أي هناك (حركة في الكون) ظاهرا أو باطنا مطلقا 
إلا (وهي) أي تلك الحركة حركة (حبية) أي مبدؤها المحبة من القديم والحادث والمحبة واحدة أيضا وتختلف باختلاف النسب في صور الأعيان والتجرد عنها .
(فمن العلماء) باللّه تعالى (من يعلم ذلك) التعميم في الحركة الحبية ، فيعرف استقامة العالم في حالة اعوجاجه وكماله في حالة نقصه ، ويشهد الاعتبارات التي بها يظهر الكمال والنقص في العالم ، ويصدق بها لسان الشريعة والحقيقة .
(ومنهم) أي العلماء باللّه تعالى (من يحجبه) عن علم ذلك شهود (السبب الأقرب) للحركة في العالم فيعتبر داعي النية في كل حركة ويسميها باسمها المخصوص في الظاهر (لحكمه) أي لأجل حكم ذلك النسب (في الحال) الذي هو فيه (واستيلائه) أي السبب (على النفس) الإنسانية بمقتضاه المخصوص .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكان الخوف لموسى مشهودا له بما وقع من قتله القبطيّ ، وتضمّن الخوف حبّ النّجاة من القتل . ففرّ لمّا خاف ؛ وفي المعنى ففرّ لمّا أحبّ النّجاة من فرعون وعمله به . فذكر السّبب الأقرب المشهود له في الوقت الّذي هو كصورة الجسم للبشر . وحبّ النّجاة مضمّن فيه تضمين الجسد للرّوح المدبّر له . )
 
فكان الخوف من القتل لموسى عليه السلام وهو السبب الأقرب للحركة مشهودا له في ذلك الحين بما وقع منه من قتل القبطي الذي هو من قوم فرعون وتضمن ذلك الخوف من القتل حب النجاة منه والسلامة لموسى عليه السلام من القتل ففر أي هرب لما خاف من ذلك كما قال ففررت منكم لما خفتكم
 
(والمعنى ففر لمّا أحب النجاة من فرعون وعمله به) وهو القتل (فذكر) في كلامه (السبب الأقرب) لتلك الحركة الحبية (المشهود) أي ذلك السبب (له) أي لموسى عليه السلام في ذلك (الوقت الذي هو) أي ذلك السبب للسبب الحبي (كصورة الجسم للبشر) يظهر بها الواحد من البشر وتظهر به وحب النجاة الذي هو السبب الأصلي الحبي للحركة الفرارية (مضمن فيه) ، أي في ذلك السبب الأقرب الذي هو الخوف من القتل مثل (تضمين الجسد) البشري (للروح المدبر له) ، وهو كمال الظهور .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والأنبياء صلوات اللّه عليهم لهم لسان الظّاهر به يتكلّمون لعموم الخطاب ، واعتمادهم على فهم السّامع العالم . فلا يعتبر الرّسل إلّا العامّة لعلمهم بمرتبة أهل الفهم ؛ كما نبّه عليه السّلام على هذه الرّتبة في العطايا فقال : « إنّي لأعطي الرّجل وغيره أحبّ إليّ منه مخافة أن يكبّه اللّه في النّار ) .
(والأنبياء) عليهم السلام (لهم لسان الظاهر) ، أي التعبير عن المعاني الظاهرة به ، أي بلسان الظاهر المفهوم لكل أحد (يتكلمون) ، فينزلون البواطن في صور الظواهر ويأتون بالأسرار الغيبية في قوالب الأشياء الحسية (لعموم الخطاب) في خواص أممهم وعوامهم كما قال تعالى :وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ[ إبراهيم : 4 ] .
(واعتمادهم) ، أي الأنبياء عليهم السلام في معرفة المراد (على فهم) الإنسان (العالم) ، أي صاحب العلم (السامع) لذلك الخطاب كما قال نبينا عليه السلام « فليبلغ الشاهد منكم الغائب » . رواه الطبراني في المعجم الكبير ورواه أحمد في المسند ورواه غيرهما .
 
مثل أولاد المكتب يقري بعضهم بعضا ينسبون في التعليم إلى الشيخ (فلا تعتبر الرسل) عليهم السلام ، أي لا اعتبار لهم في خطابهم (إلا العامة) من أممهم دون الخاصة فيراعونهم في الفهم ليفهموا عنهم ما يخاطبونهم (لعلمهم) ، أي الرسل عليهم السلام (بمرتبة أهل الفهم) ، من خواص أممهم (كما نبّه) نبينا (عليه السلام على هذه المرتبة) التي هي الاعتماد على فهم أهل الخصوص من الأمم (في) أمر (العطايا) الدنيوية في الغنائم وغيرها (فقال) صلى اللّه عليه وسلم (إني لأعطي الرجل) من مال اللّه تعالى الذي تحت يدي (وغيره) ، ممن أحرمه من العطايا وأعطيه أقل من الأوّل (أحب) ، أي أكثر حبا (إلي منه) ، أي
من ذلك الرجل (مخافة) ، أي خوفا مني عليه من ضعف يقينه بأمر الآخرة وكثرة حبه للدنيا أن (يكبّه) ، أي يسقطه ويلقيه (اللّه) تعالى على وجهه (في النار) بإساءة أدبه ظاهرا وباطنا في حقي.
 
والحديث برواية « أما بعد فو اللّه إني لأعطي الرجل وأدع الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي ولكن أعطي أقواما لما يرى في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل أقواما إلى ما جعل اللّه في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن ثعلب » رواه البخاري عن عمرو بن ثعلب .
 
وفي حديث آخر أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده  والنسائي عن سعد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إني أعطي رجالا وأدع من أحب إلي منهم لا أعطيه شيئا مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم » .
وفي حديث البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « رحم اللّه موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر » ،
وهذا ما قاله النبي صلى اللّه عليه وسلم حين قال رجل يوم حنين :" واللّه إن هذه لقسمة ما عدل فيها ولا أريد بها وجه اللّه فتغير وجهه صلى اللّه عليه وسلم " ثم ذكره ، وكان كلامه هذا شفقة عليهم ونصحا في الدين لا تهديدا ولا تثريبا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فاعتبر الضّعيف العقل والنّظر الّذي غلب عليه الطّمع والطّبع .
فكذا ما جاؤوا به من العلوم جاؤوا به وعليه خلعة أدنى الفهوم ليقف من لا غوص له عند الخلعة ، فيقول ما أحسن هذه الخلعة ! ويراها غاية الدّرجة . ويقول صاحب الفهم الدّقيق الغائص على درر الحكم - بما استوجب هذا - « هذه الخلعة من الملك » . فينظر في قدر الخلعة وصنفها من الثّياب ، فيعلم منها قدر من خلعت عليه ، فيعثر على علم لم يحصل لغيره ممّن لا علم له بمثل هذا . )
 
فاعتبر صلى اللّه عليه وسلم في تفريقه المال الرجل الضعيف العقل والضعيف النظر ، أي الرأي والفكر الذي غلب عليه الطمع في الدنيا وغلب عليه الطبع الخسيس ، فأعطاه وأجزل نصيبه من المال ، ولم يعتبر أهل القوة الإيمانية واليقين الصادق ، فربما حرمهم من ذلك ، كما كان عليه السلام يقسم الغنائم على بعض المهاجرين
 
ويحرم الأنصار منها وهم أحوج منهم لمعرفته بقلوبهم فكذا ، أي مثل العطايا ما جاؤوا ، أي الأنبياء عليهم السلام به فبلغوه إلى الناس من العلوم الإلهية جاؤوا به من عند اللّه تعالى بالوحي وعليه خلعة أدنى الفهوم من الناس يعني بعبارات العامة فيما اصطلحوا عليه من الكلام ليقف ، أي يطلع على ذلك من لا غوص له ، أي لا معرفة عنده بدقائق الأمور وغوامض الأسرار عند الخلعة التي هي خلعة أدنى الفهوم المناسبة له لكونه من عامة الناس فيقول عند ذلك ما أحسن هذه الخلعة ، أي العبارة التي لبسها ذلك المعنى فظهر بها له ويراها غاية الدرجة فيما يمكن بالنسبة إليه من الكلام ويقول عند ذلك صاحب الفهم الدقيق من خواص الأمّة ،
(الغائص) في بحر الكلم النبوية على درر الحكم جمع حكمة بما يعني بأي سبب استوجب ، أي استحق هذا المعنى العظيم أن يلبس هذه الخلعة التي هي أدنى منه فيظهر بها بين المكلفين من الخاص والعام من الملك الحق الذي منه كل شيء فينظر ، أي صاحب الفهم في قدر ، أي مرتبة الخلعة التي لبسها ذلك المعنى الوارد عن الحق تعالى بلسان الرسول عليه السلام وفي صنفها يعني من أي نوع هي من أنواع الثياب المعتبرة عند الناس فيعلم ، أي صاحب الفهم منها ، أي من تلك الخلعة قدر ، أي مرتبة ومزية من ، أي المعنى الإلهي الذي خلعت تلك الخلعة عليه فترتفع عنده مزايا الأمور المخفوضة عند العامة لعدم علمهم بها ، ويعرف مقدار قصور العامة عن إدراك ما عندهم من الظواهر الإلهية والأحوال الربانية فيعثر ، أي يطلع على علم إلهي عظيم شريف لم يحصل لغيره ممن لا علم له بمثل هذا العلم الرباني الشريف .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا علمت الأنبياء والرّسل والورثة أنّ في العالم وفي أمّتهم من هو بهذه المثابة ، عمدوا في العبارة إلى اللّسان الظّاهر الّذي يقع فيه إشتراك الخاصّ والعامّ ، فيفهم منه الخاصّ ما فهم العامّة منه وزيادة ممّا صحّ له به اسم أنّه خاصّ فتميّز به عن العامّي . فاكتفى المبلّغون العلوم بهذا .
فهذا حكمة قوله : عليه السلام :فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ [ الشعراء : 21 ] ولم يقل ففررت منكم حبّا في السّلامة والعافية . )
 
ولما علمت الأنبياء والرسل عليهم السلام والأولياء الورثة لعلومهم كما قال تعالى :ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا[ فاطر : 32 ] ، وقال تعالى :أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ [ المؤمنون : 10 ] .
وفي الحديث : " العلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء وورثتي وورثة الأنبياء " أخرجه السيوطي في الجامع الصغير أخرجه أيضًا: الرافعى وأورده العجلوني في كشف الخفاء وقال رواه ابن عدي عن علي رضي اللّه عنه ، وهو حديث صحيح كما قال المناوي .  
وفي رواية : " العلماء ورثة الأنبياء يحبهم أهل السماء وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة ". رواه ابن النجار عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه . وأبو نعيم، والديلمى، وابن النجار عن البراء. و روى نحوه ابن ماجة في سننه

وفي رواية العلم : " ميراثي وميراث الأنبياء قبلي ". السيوطي في الجامع الصغير ورواه أبو حنيفة في المسند ، روايته عن إسماعيل بن عبد الملك و أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أم هانىء رضي اللّه عنها و أخرجه أبو نعيم.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:40 am

25 -  فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الرابع
25 -  فص حكمة علوية في كلمة موسوية
أن في جملة العالم بالفتح أي المخلوقات وفي أمتهم ، أي اتباعهم المؤمنين بهم من هو بهذه المثابة من أصحاب الفهم الدقيق والذوق الأنيق عمدوا في العبارة التي يكشفون بها عما عندهم من العلوم الإلهية والأسرار الربانية إلى اللسان الظاهر المفهوم للكل الذي يقع فيه اشتراك الخاص والعام من الناس فيفهم منه الخاص من الناس ما فهم العامة منه وزيادة اختصوا بها دون العامة مما ، أي من الأمر الذي صح له ، أي للواحد من الخاص به ،
أي بسبب ذلك الأمر اسم فاعل أنه ، أي ذلك الواحد منهم خاص فيتميز ذلك الخاص به ، أي بذلك الأمر عن العامي من الناس فاكتفى المبلغون الذين يبلغون العلوم الإلهية إلى الناس من الأنبياء وورثتهم كما مر بهذا بمراعاة اللسان الظاهر المفهوم للكل .
 
فهذا الأمر هو حكمة قوله ، أي موسى ("عليه السلام فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ")[ الشعراء : 21 ] والخوف من غير اللّه تعالى مذموم كما قال سبحانه :فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[ آل عمران : 175 ] . وقال تعالى :وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ[ الأحزاب : 37 ] .
وحاشا الأنبياء عليهم السلام والورثة على طريقهم من الخوف من غير اللّه تعالى في باطن الأمر كما قال سبحانه :وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ[ الأحزاب : 39 ] .
ولكن لهم لسان الظاهر كما تقرر هنا ولم يقل ، أي موسى عليه السلام ففررت منكم حبا ، أي محبة مني في السلامة والعافية ستر للمعاني الإلهية بالأمور الظاهرة الكونية .
 
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  فجاء إلى مدين فوجد الجاريتين "فَسَقى لَهُما" من غير أجر ."ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ" الإلهيّ فقال :"رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" [ القصص : 24 ] فجعل عين عمله السقي عين الخير الذي أنزل اللّه إليه ، ووصف نفسه بالفقر إلى اللّه في الخير الذي عنده) .
 
فجاء ، أي موسى عليه السلام إلى مدين بلاد شعيب عليه السلام وهي قريبة من مصر فوجد الجاريتين ، أي البنتين هما لشعيب عليه السلام ("فَسَقى لَهُما") غنم شعيب عليه السلام التي كانت معهما من غير أجر ، أي أجرة يأخذها على ذلك ("ثُمَّ تَوَلَّى")، (أي عدل "إِلَى الظِّلِّ" الإلهي) وهو قيامه بالمراتب الإلهية والحضرات الربانية وخروجه عن شهود نفسه بالكلية في شهود ربه المتجلي عليه في صورته الروحانية والجسمانية فكان ربانيا لا نفسانيا فأظله اللّه تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله بسبب محبته البنات في اللّه تعالى والمتحابان في اللّه تعالى في ظله كما ورد في الحديث .
 
وقد يكون لعدوله عن مقتضى نفسه إلى به كما في حديث السبعة الذين يظلهم اللّه تعالى في ظله أن منهم رجلّا عرضت عليه امرأة ذات منصب وجمال فتركها لجلال اللّه تعالى .
وفي رواية : « رجل غض عينه عن محارم اللّه تعالى » .  رواه الطبراني في الكبير و أبو يعلى والسيوطي في الجامع الصغير و الحافظ العراقي في تخريح احاديث الإحياء .
 
وعلى هذا فاللام في الظل للعهد الذهني فَقالَ: ، أي موسى عليه السلام ("رَبِّ")، أي يا رب ("إِنِّي لِما")، أي لأجل الذي ("أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ") [ القصص:24 ].
 
إليك في إنزال غيره فجعل عليه السلام (عين عمله السقي ) لبنات شعيب عليه السلام عين الخير ، أي العمل الصالح الذي أنزله اللّه تعالى إليه ، أي إلى موسى عليه السلام ثم رفعه تعالى له في صحيفته ووصف ، أي موسى عليه السلام نفسه بالفقر ، أي الاحتياج إلى اللّه تعالى في حصول الخير الذي عنده ، أي اللّه تعالى أيضا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأراه الخضر إقامة الجدار من غير أجر فعتبه على ذلك فذكّره سقايته من غير أجر ، إلي غير ذلك ممّا لم نذكر حتّى تمنّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم - أن يسكت موسى عليه السّلام ولا يعترض حتّى يقصّ اللّه عليه من أمرهما ، فيعلم بذلك ما وفّق إليه موسى عليه السّلام من غير علم منه .
إذ لو كان عن علم ما أنكر مثل ذلك على الخضر الّذي قد شهد اللّه له عند موسى وزكّاه وعدّله ومع هذا غفل موسى عن تزكية اللّه وعمّا شرطه عليه في اتّباعه، رحمة بنا إذ نسينا أمر اللّه.
ولو كان موسى عالما بذلك لما قال له الخضر ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً[ الكهف : 68 ] أي إنّي على علم لم يحصل لك عن ذوق كما أنت على علم لا أعلمه أنا . فأنصف . )
 
فأراه ، أي موسى عليه السلام أراه الخضر عليه السلام في زمان متابعته له ليعلمه مما علم رشدا إقامة ، أي تعمير الجدار في القرية التي استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما من غير أجر ، أي أجرة أخذها الخضر عليه السلام منهم فعتبه ، أي موسى عتب على الخضر عليه السلام على ذلك الفعل بقوله :"لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً"[ الكهف : 77 ] ، أي أجرة تأكل بها بدل ما منعونا منه حين استطعمناهم .


فذكّره بالتشديد لأن موسى عليه السلام نسي بسقايته ، أي موسى عليه السلام الغنم لبنات شعيب عليه السلام من غير أجر ، أي أجرة يأخذها على ذلك ، ولم يتذكر موسى عليه السلام فاعترضه فيما صدر منه ، وهكذا السالك الملتزم بالعهد متابعة الكامل يجد منه ما وقع له من المخالفات قبل سلوكه التي لم يتب منها تذكرا له بها ،
فإن تذكر وتاب وجد ما صدر من شيخه خيرا محضا ، وإن لم يتب وأصر في إنكاره عليه ، فإنما هو في نفس الأمر منكر على نفسه ولم يشعر بذلك ، فيفارقه شيخه لعدم قابليته في السلوك وعدم استعداده لمعارف الرجل ،
وهي عبرة عظيمة قصها اللّه تعالى لنا في القرآن إلى يوم القيامة ، وإن كانت من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين (إلى غير ذلك مما لم يذكر) في القرآن منه وقائع وقعت لموسى عليه السلام لو صبر مع الخضر عليه السلام لذكره الخظر بها كلها .
(حتى تمنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يسكت موسى ولا يعترض على الخضر حتى يقص اللّه) تعالى (عليه) ، أي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (من أمرهما) ، أي موسى والخضر عليهم السلام في بيان الخضر له جميع ما وقع منه بمثاله ليختبر قوة إدراكه في معرفة الحقائق الإلهية الطالب معرفتها ،
 
كما قال نبينا صلى اللّه عليه وسلم ، رحمة اللّه علينا وعلى أخي موسى لو صبر لرأى من صاحبه العجب . » أخرجه أبو داود والنسائي ذكره السيوطي في الجامع الصغير .
 
فيعلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك ، أي بما يقصه اللّه تعالى عليه من أمرهما ما وفّق ، أي وفق اللّه تعالى إليه موسى عليه السلام مما يصدر منه مع الخضر عليه السلام من الوقائع العجبية من غير علم منه ، أي من موسى عليه السلام بما وقع له من ذلك إذ لو كان ما وقف له عن علم منه به ما أنكر مثل ذلك الذي رآه على الخضر مثالا لما صدر منه قبله الذي نعت للخضر قد شهد اللّه تعالى له بزيادة العلم عند موسى عليه السلام كما ورد في حديث البخاري وغيره وزكّاه اللّه تعالى وعدّله حيث مدحه بقوله سبحانه :فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً( 65 ) [ الكهف : 65 ] ،
 
(ومع هذا) التعديل والمدح من اللّه تعالى له (غفل موسى) عليه السلام عن تزكية اللّه تعالى وتعديله للحضر عليه السلام وغفل أيضا عما شرطه ، أي الخضر عليه السلام عليه ، أي على موسى عليه السلام في اتباعه له "قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66)  قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ( 67 ) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ( 68 ) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ( 69 ) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً( 70 ) [ الكهف : 66 - 70 ] .
رحمة بنا معشر المكلفين إذا نسينا أمر اللّه تعالى في حال من الأحوال ، فنتأسى بموسى عليه السلام ، وأنه رفع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه كما ورد في الحديث ولو كان موسى عليه السلام عالما بذلك ، أي بما أنكره على الخضر عليه السلام لما قال له الخضر عليه السلام ما لم تحط به خبرا وتقدير كلامه أي إني على علم حاصل لي من ذوق ولم يحصل لك ، أنت هذا العلم عن ذوق كما أنك أنت على علم ذائق له لا أعلمه أنا فلست على ذوق منه فأنصف ، أي الخضر في قوله ذلك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا حكمة فراقه فلأنّ الرّسول يقول اللّه فيه :وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[ الحشر : 7 ] فوقف العلماء باللّه الّذين يعرفون قدر الرّسالة والرّسول عند هذا القول . وقد علم الخضر أنّ موسى رسول اللّه فأخذ يرقب ما يكون منه ليوفّي الأدب حقّه مع الرّسول .
فقال له :" إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي" [ الكهف : 76 ] ، فنهاه عن صحبته . فلما وقعت منه الثّالثة قال :هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [ الكهف : 78 ] . ولم يقل له موسى لا تفعل ولا طلب صحبته لعلمه بقدر الرّتبة الّتي هو فيها الّتي أنطقته بالنّهي عن أن يصحبه . )
 
(وأما حكمة فراقه) ، أي الخضر لموسى عليه السلام (فلأن الرسول يقول اللّه) تعالى وفيه (" وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا") [ الحشر : 7 ] ، أي كونوا له في الأمر والنهي (فوقف اللّه العلماء باللّه) تعالى كالخضر ونحوه (الذين يعرفون قدر الرسالة) من اللّه تعالى إلى الخلق وقدر (الرسول) المبعوث بالهدى والنور (عند هذا القول) الإلهي في حق (الرسول وقد علم الخضر) عليه السلام (أن موسى) عليه السلام (رسول اللّه) إلى فرعون وبني إسرائيل (فأخذ يرقب) ، أي يضبط ويحفظ (ما يكون منه) ، أي من موسى عليه السلام ليوفي ، أي يتم (الأدب حقه مع الرسول) الذي أمر الحق تعالى بإطاعته .
 
(فقال )، أي موسى عليه السلام له ، أي للخضر عليه السلام (" إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها")، أي بعد هذه المرة ("فَلا تُصاحِبْنِي") [ الكهف :76 ].
 
 قد بلغت من لدني عذرا (فنهاه) ، أي موسى نهى الخضر عليه السلام عن صحبته فلما وقعت منه المرة الثالثة وهي قوله في إقامة الجدار لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال ، أي الخضر عليه السلام : ("هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ") [ الكهف : 78 ] ،
(ولم يقل له) أي للخضر (موسى) عليه السلام (لا تفعل) ، أي لا تفارقني (ولا طلب صحبته لعلمه) ، أي موسى عليه السلام (بقدر الرتبة) النبوية الرسالية (التي هو) ، أي موسى عليه السلام (فيها) وهي ما اختصه اللّه تعالى به من علوم الشريعة الظاهرة الإلهية (التي أنطقته بالنهي عن أن يصحبه) بعد ذلك لظهور الفرق بينه وبينه ، فإن علوم الخضر عليه السلام باطنية حقيقية ، وعلوم موسى عليه السلام ظاهرية شرعية ، والإشارة بمجمع البحرين الذي كان اجتماعهما فيه يقتضي أنه اجتمع بحر العلوم الظاهرية وبحر العلوم الباطنية وهما :
موسى والخضر عليهما السلام ، ثم افترقا بسبب إقامة الجدار بينهما ولا هذا علم ما عند هذا ولا هذا علم ما عند هذا .
قال تعالى :"مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ( 19 ) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ" [الرحمن : 19 - 20 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فسكت موسى ووقع الفراق . فانظر إلى كمال هذين الرّجلين في العلم وتوفية الأدب الإلهيّ حقّه .
وإنصاف الخضر عليه السّلام فيما اعترف به عند موسى عليه السّلام حيث قال له : « أنا على علم علّمنيه اللّه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علّمكه اللّه لا أعلمه أنا » . فكان هذا الإعلام من الخضر دواء لما جرّحه به في قوله :وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً( 68 )[ الكهف : 68 ] مع علمه بعلوّ رتبته بالرّسالة ، وليست تلك الرّتبة للخضر ، وظهر ذلك في الأمّة المحمّديّة في حديث إبار النّخل ، فقال عليه السّلام لأصحابه : « أنتم أعلم بمصالح دنياكم » ولا شكّ أنّ العلم بالشّيء خير من الجهل به : ولهذا مدح اللّه نفسه بأنّه بكلّ شيء عليم .
فقد اعترف صلى اللّه عليه وسلم بأنّهم أعلم بمصالح دنياهم منه لكونه لا خبرة له بذلك فإنّه علم ذوق وتجربة ولم يتفرّغ عليه السّلام لعلم ذلك ، بل كان شغله بالأهمّ فالأهمّ . )
 
(فسكت موسى) عليه السلام عن الكلام معه ، وكذا الخضر عليه السلام (ووقع الفراق) بينهما بعد ذلك فلا يجتمعان أصلا (فانظر) يا أيها السالك (إلى كمال هذين الرجلين) موسى والخضر عليهما السلام (في العلم) الإلهي الظاهري في هذا والباطني في هذا (وفي توفية الأدب الإلهي حقه) من كل واحد منهما للآخر (وإنصافه الخضر عليه السلام فيما اعترف به عند موسى عليه السلام حيث قال له) ، كما ورد في حديث البخاري وغيره (أنا على علم إلهي) باطني (علمنيه الله) تعالى كما قال تعالى : "وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً" (لا تعلمه) ، أي ذلك (أنت ، وأنت على علم) إلهي ظاهري (علمكه) ، أي علمك (اللّه) تعالى إياه (لا أعلمه أنا) وصدور هذا من الخضر دون موسى عليه السلام دليل على زيادة علم الخضر على علم موسى عليه السلام وهو أعلم منه بنص الخبر في صحيح البخاري لما قال موسى عليه السلام لبني إسرائيل وقد قالوا له : هل في الأرض أعلم منك فقال : لا ، فأوحى اللّه تعالى إليه أن في مجمع البحرين رجلا أعلم منك ودله على الخضر عليهما السلام حتى وقع منهما ما وقع ، لأن الظاهر من خصائص النسبة النفسانية وهي حال الدنيا لا غير ، وعلم الباطن من خصائص النسبة الإلهية وهي حال الآخرة ، والدنيا سريعة الزوال فهي قليلة بالنظر إلى الآخرة ، والآخرة أبقى فعلمها أعظم .
 
(فكان هذا الإعلام من الخضر لموسى) عليهما السلام (دواء) ، أي مداواة منه لما جرّحه ، أي جرح الخضر عليه السلام به من الكلام في قوله له أوّل ما اجتمع به ("وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً") [ الكهف : 68 ] مع علمه) ، أي الخضر عليه السلام (بعلو رتبته) ، أي موسى عليه السلام عليه (بالرسالة وليست تلك الرتبة) التي لموسى (للخضر) عليه السلام (وظهر ذلك) ، أي الإعلام بأنه على علم لا يعلمه الآخر وبالعكس (في) هذه (الأمة المحمدية) ، أي المنسوبة إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم (في حديث إبار) ، أي تلقيح القوم (النخل) لما مر عليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : « لو تركوها أصلحت فتركوها فلم تثمر تلك السنة وأخبروه (فقال) عليه السلام لأصحابه (أنتم أعلم) ، أي مني ("بأمور دنياكم") » . روى نحوه ابن ماجة ورواه ابن حبان في صحيحه ورواه غيرهما .
 
فهم على علم لا يعلمه هو كما هو على علم لا يعلموه هم (ولا شك أن العلم بالشيء) ، أي شيء كان (خير من الجهل به) ، فعلمهم خير في الجملة من الجهل به ، والأعلمية زيادة علم ، وتلك الزيادة لم تكن للنبي صلى اللّه عليه وسلم فهي علمهم الذي هو خير من الجهل بها ؛
ولهذا ، أي لكون العلم مطلقا صفة كمال (مدح اللّه) تعالى (نفسه بأنه بكل شيء عليم ، فقد اعترف) النبي (صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه بأنهم أعلم بمصالح الدنيا منه) صلى اللّه عليه وسلم ، أي أكثر علما مع مشاركته لهم في الأصل فلا يرد أنه صلى اللّه عليه وسلم علم علم الأوّلين والآخرين كما ورد في الحديث (لكونه) صلى اللّه عليه وسلم (لا خبرة له بذلك) ، أي بمصالح الدنيا ، وإن كان له بذلك علم (فإنه) ، أي علم الخبرة (علم ذوق وتجربة) ، أي حاصل عنها (ولم يتفرغ عليه السلام لعلم ذلك) بطريق الخبرة والتجربة مثلهم حتى تثبت له الأعلمية به (بل كان) صلى اللّه عليه وسلم (شغله بالأهم فالأهم) من أمور الدين والإسلام .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقد نبّهتك على أدب عظيم تنتفع به إن استعملت نفسك فيه .
وقوله :فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً يريد الخلافة ؛وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ[ الشعراء : 21].
يريد الرّسالة : فما كلّ رسول خليفة . فالخليفة صاحب السّيف والعزل والولاية . والرّسول ليس كذلك : إنّما عليه بلاغ ما أرسل به . فإن قاتل عليه وحماه بالسّيف فذلك الخليفة الرّسول . فكما أنّه ما كلّ نبيّ رسولا ، كذلك ما كلّ رسول خليفة أي ما أعطي الملك ولا التّحكّم فيه .
وأمّا حكمة سؤال فرعون عن الماهيّة الإلهيّة فلم يكن عن جهل ، وإنّما كان عن اختبار حتّى يرى جوابه مع دعواه الرّسالة عن ربّه - وقد علم فرعون مرتبة المرسلين في العلم - فيستدلّ بجوابه على صدق دعواه . )
 
(فقد نبهتك) يا أيها السالك (على أدب عظيم) من الأعلى في حق الأدنى إذا كان للأدنى في وصف أعلميته في شيء على الأعلى على أن لا يضيعها له (تنتفع به) ، أي بذلك الأدب إن (استعملت نفسك فيه) ، أي في ذلك الأدب الذي هو من أدب الأنبياء والمرسلين عليهم السلام .
(وقوله) ، أي موسى عليه السلام بعد ذكره فراره من القتل ("فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً [ الشّعراء : 21 ] يريد الخلافة") الإلهية في الأرض
("وَجَعَلَنِي")، أي ربي ("مِنَ الْمُرْسَلِينَ") إلى فرعون وبني إسرائيل (يريد الرسالة) النبوية (فما كل رسول) من اللّه تعالى (خليفة) في الأرض عن اللّه تعالى (فالخليفة) عن اللّه تعالى (صاحب السيف) ، أي الحكم القاهر وصاحب (العزل) لمن يشاء في المناصب الدينية والدنيوية وصاحب (الولاية) كذلك لمن يشاء على رفق الحكمة الإلهية ، فهو صاحب حكم وحكمة في الظاهر والباطن
(والرسول) من اللّه تعالى (ليس كذلك إنما عليه السلام ) ، أي الرسول (البلاغ) فقط (لما أرسل به) من الأحكام إلى من أرسل إليه (فإن قاتل) ، أي الرسول (عليه) ، أي على ما أرسل به (وحماه) ، أي حفظ ما أرسل به من أحكام اللّه تعالى (بالسيف فذلك) المذكور هو (الخليفة الرسول) ، أي الجامع بين الوصفين (فكما أنّه) ، أي الشأن (ما كل نبي رسولا) إذ بعض الأنبياء رسل ، والبعض أنبياء من غير رسالة فبينهما عموم مطلق (كذلك ما كل رسول خليفة) ، أي (أعطاه اللّه تعالى الملك) ، أي الحكم والسلطنة (والتحكم فيه )، أي في الملك .
 
ولهذا قال بعض الأنبياء :"رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" [ الشعراء : 83 ] ، فطلب الخلافة الإلهية ، فقد يكون رسولا وليس بخليفة ، كما أنه قد يكون خليفة وليس بنبي ولا رسول ، كالأولياء المستخلفين في الأرض والملوك ، فبينهما عموم من وجه .
 
(وأما حكمة سؤال فرعون) لموسى عليه السلام (عن الماهية الإلهية) بقوله :
وما رب العالمين فلم يكن ، أي ذلك السؤال له (عن جهل) منه برب العالمين ؛ ولهذا ورد أنه لما انقطع النيل في مصر دعا فرعون اللّه تعالى وتضرع إليه أن لا يفضحه بين قومه ، فأجرى اللّه تعالى له النيل ، ولولا معرفته به ما دعاه ، وإن قال :ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي[ القصص : 38 ] فإنه كاذب في ذلك (وإنما كان) ذلك السؤال منه (عن اختبار) ، أي امتحان لموسى عليه السلام (حتى يرى جوابه) ،
 
أي موسى عليه السلام عن ذلك مع دعواه ، أي موسى عليه السلام الرسالة إلى قومه عن ربه تعالى .
(وقد علم فرعون مرتبة المرسلين في العلم) باللّه تعالى (فيستدل) ، أي فرعون (بجوابه) ، أي جواب موسى عليه السلام (على صدق دعواه) ، أي موسى عليه السلام رسالة اللّه تعالى .
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسأل سؤال إيهام من أجل الحاضرين حتّى يعرّفهم من حيث لا يشعرون بما شعر هو في نفسه في سؤاله .
فإذا أجابه جواب العلماء بالأمر ، أظهر فرعون - إبقاء لمنصبه - أنّ موسى ما أجابه على سؤاله .
فيتبيّن عند الحاضرين - لقصور فهمهم - أنّ فرعون أعلم من موسى . ولهذا لمّا قال له في الجواب ما ينبغي وهو في الظّاهر غير جواب ما سئل عنه . )
 
(وسأل) فرعون (سؤال إيهام) للغير خلاف الحق ليتم له باطله الذي يدعيه (من أجل الحاضرين) من قومه المؤمنين به (حتى يعرفهم) ، أي فرعون (من حيث لا يشعرون) أنه يعرفهم (بما شعر هو) ، أي فرعون به (في نفسه في سؤاله) ذلك والذي شعر به في نفسه هو عجز موسى عليه السلام عن جواب سؤاله عن الماهية .
 
(فإذا أجابه) ، أي موسى عليه السلام (جواب العلماء بالأمر) الإلهي على ما هو عليه (أظهر فرعون) للحاضرين من قومه (إبقاء لمنصبه) وهو ألوهيته بينهم (أن موسى) عليه السلام (ما أجابه عن سؤاله) ذلك (فيتبين عند الحاضرين) من قوم فرعون( لقصور فهمهم) من كثرة جهلهم باللّه تعالى (أن فرعون أعلم) بالأمور من موسى عليه السلام (ولهذا لما قال) ، أي موسى عليه السلام له ، أي لفرعون في الجواب عن سؤاله (ما ينبغي) ، أي يليق أن يكون هذا الجواب وهو ، أي جواب موسى عليه السلام (في الظاهر) ، أي بحسب ما تقتضيه كلمة ما الاستفهامية من معنى السؤال عن الماهية (غير جواب ما سئل) ، أي موسى عليه السلام (عنه) فإنه لا جواب لذلك السؤال أصلا ، إذ ماهية الحق تعالى يستحيل أن تكون من شيء من الحوادث ، أو تكون معرفة من حيث هي ماهية لأحد من الخلق ، وإنما عرف تعالى وتميز عن خلقه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد علم فرعون أنّه لا يجيبه إلّا بذلك - فقال لأصحابه "إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ" [ الشعراء : 27 ] أي مستور عنه علم ما سألته عنه ، إذ لا يتصوّر أن يعلم أصلا .
فالسّؤال صحيح ؛ فإنّ السّؤال عن الماهيّة سؤال عن حقيقة المطلوب ، ولا بد أن يكون على حقيقة في نفسه . وأمّا الّذين جعلوا الحدود مركّبة من جنس وفصل ، فذلك في كلّ ما يقع فيه الاشتراك ، ومن لا جنس له لا يلزم أن لا يكون على حقيقة في نفسه لا تكون لغيره . فالسّؤال صحيح على مذهب أهل الحقّ والعلم الصّحيح والعقل السّليم ، والجواب عنه لا يكون إلّا بما أجاب به موسى عليه السّلام . )
 
وقد علم فرعون أنه ، أي موسى عليه السلام لا يجيبه ، أي فرعون إلا بذلك ، أي بذكر الأوصاف كما قال تعالى :"قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ( 23 ) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ( 24 ) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ ( 25 ) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ" [ الشعراء  :23-26].
 فقال ، أي فرعون لأصحابه الحاضرين عنده ("إِنَّ رَسُولَكُمُ") على طريق الاستهزاء به والتهكم عليه ، وإلا فلا يريد أن يصدقه أنه رسولهم ، لأنه مكذب له ("الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ") أي مستور عنه ، أي عن عقله (علم ما سألته عنه) من الماهية الإلهية (إذ لا يتصوّر أن يعلم) بالبناء للمفعول ،
 
أي علم ما سأله (أصلا فالسؤال) عن ذلك صحيح لا شبهة فيه فإن السؤال عن الماهية ، أي ماهية الإله سؤال عن حقيقة الأمر المطلوب ولا بد أن يكون ذلك المطلوب على حقيقة ،
أي ماهية متحققة (في نفسه وأما الذين جعلوا الحدود) ، أي التعاريف الذاتية (مركبة من جنس) عام (وفصل) خاص كالحيوان الناطق مثلا في تعريف الإنسان
 
(فذلك) ، أي التركيب في الحد (في كل ما يقع فيه الاشتراك) بين الأنواع الداخلة تحت جنس واحد (ومن لا جنس له) إذ لا قدر مشترك بينه وبين غيره أصلا وهو اللّه تعالى لا يلزم منه (أن لا يكون على حقيقة في نفسه) حيث لم تكن حقيقة مشاركة لغيرها في قدر عام هو الجنس بحيث ينفرد بتلك الحقيقة حتى ( لا تكون لغيره) بل من لا جنس له وهو اللّه تعالى له حقيقة في نفسه انفرد بها فلا تكون لغيره أصلا ( فالسؤال ) عن ماهية اللّه تعالى وحقيقته ( صحيح على مذهب أهل الحق و) أهل ( العلم الصحيح و) أهل (العقل السليم والجواب عنه) ، أي عن ذلك السؤال (لا يكون إلا بما أجاب به موسى) عليه السلام كما ذكر في القرآن من قوله :"رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما"[ مريم : 65 ] ،
وقوله :"رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ"[ الشعراء : 26 ] ،
وقوله :"رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما"[ الشعراء : 28 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهنا سرّ كبير ، فإنّه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحدّ الذّاتي ، فجعل الحدّ الذّاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم ، أو إلى ما ظهر فيه من صور العالم . فكأنّه قال له في جواب قوله :وَما رَبُّ الْعالَمِينَ[ الشعراء : 23 ]
قال الّذي يظهر فيه صور العالمين من علو وهو السماء وسفل وهو الأرض إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ[ الشعراء : 24 ] أو يظهر هو بها .
فلمّا قال فرعون لأصحابه :إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [ القلم : 51 ] كما قلنا في معنى كونه مجنونا .
زاد موسى في البيان ليعلم فرعون مرتبته في العلم الإلهيّ ، لعلمه بأنّ فرعون يعلم ذلك ،
فقال :رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فجاء بما يظهر ويستتر وهو الظّاهر والباطن ، وما بينهما وهو قوله :بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ البقرة : 29 ] .إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[ الشعراء : 28 ] أي إن كنتم أصحاب تقييد ؛ فإنّ العقل يقيّد . )
 
(وهنا) في ذكر الربوبية المضافة التي هي كناية عن العقل الإلهي (سر كبير) من أسرار اللّه تعالى (فإنه) ، أي موسى عليه السلام (أجاب بالفعل لمن سأل) وهو فرعون (عن الحد) ، أي التعريف (الذاتي) بقوله :"وَما رَبُّ الْعالَمِينَ"[ الشعراء : 23].
 
(فجعل) ، أي موسى عليه السلام (الحد الذاتي) لماهية اللّه تعالى وحقيقته (عين إضافته) ، أي نسبته تعالى (إلى ما) ، أي الذي (ظهر) تعالى (به من صور العالم) ، أي المخلوقات (أو إلى ما ظهر) ، أي تبين (فيه) ، أي في الحق تعالى (من صور العالم فكأنه) ، أي موسى عليه السلام (قال له) ، أي لفرعون في جواب قوله ، أي فرعون ("وَما رَبُّ الْعالَمِينَ" قال) ، أي موسى عليه السلام (الذي تظهر فيه صور العالمين) من غير حلول فيه ، لأنها عدم وهو وجود صرف مطلق ،
والعدم لا يحل في الوجود والوجود لا يحل في العدم من علو بيان للصور وهو ، أي العلو السماء ومن سفل وهو ، أي السفل الأرض إن كنتم موقنين باللّه تعالى أو الذي يظهر هو تعالى بها ، أي بصور العالمين من علو وسفل كما ذكر فلما قال فرعون لأصحابه الحاضرين عنده إنه ، أي موسى عليه السلام (" لَمَجْنُونٌ" [ الحجر : 6 ] كما قلنا)
 
فيما مر قريبا (في معنى كونه) ، أي موسى عليه السلام (مجنونا) ، أي مستورا عنه علم ما سئل عنه من الماهية الإلهية ولهذا أجاب بما ليس بجواب عن الماهية (زاد موسى) عليه السلام (في البيان) ، أي بيان الجواب (ليعلم فرعون رتبته) ، أي رتبة موسى عليه السلام (في العلم الإلهي لعلمه) ، أي موسى عليه السلام (بأن فرعون يعلم ذلك) ، أي العلم الإلهي لكن علمه باللّه على وجه الزندقة من عدم انقياده لموسى عليه السلام وإسلامه له
 
(فقال) ، أي موسى عليه السلام ("رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ " فجاء بما يظهر) وهو المشرق يظهر الشمس و ما يستتر وهو المغرب يستر الشمس وهو ، أي اللّه تعالى (الظاهر والباطن) فتظهر شمس الأحدية من مشرق الصور الكونية ، ثم تغرب في غيب الهوية الذاتية ، فتخفي تلك الصور في حقائقها العدمية وما بينهما ، أي بين المشرق والمغرب وهو قوله تعالى
 
وهو ، أي اللّه تعالى ("بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ") [ البقرة : 29 ] فحصره العلم الإلهي إذ ظهر في العبد السالك كان بين الظهور والبطون وبين المشرق والمغرب ("إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ" [ الشعراء : 28 ] ، أي إن كنتم أصحاب تقييد ) في الجناب الإلهي لا إطلاق (فإن للعقل التقييد) بالصور في التشبيه والتنزيه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالجواب الأوّل جواب الموقنين وهم أهل الكشف والوجود . فقال لهم :إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ[ الشعراء : 24 ] أي أهل كشف ووجود ، فقد أعلمتكم بما تيقّنتموه في شهودكم ووجودكم .
فإن لم تكونوا من هذا الصّنف ، فقد أجبتكم في الجواب الثّاني إن كنتم أهل عقل وتقييد وحصرتم الحقّ فيما تعطيه أدلّة عقولكم فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون فضله وصدقه ، وعلم موسى أنّ فرعون علم ذلك - أو يعلم ذلك لكونه سأل عن الماهيّة ، فعلم أنّه ليس سؤاله على اصطلاح القدماء في السؤال بما ، فلذلك أجاب فلو علم منه غير ذلك لخطّأه في السّؤال . )
 
فالجواب الأوّل وهو قول موسى عليه السلام " رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ" [ الشعراء : 24 ] . (جواب الموقنين وهم أهل الكشف) عن الحضرات الإلهية (والوجود) المطلق (فقال لهم : )، أي موسى عليه السلام لفرعون وقومه ("إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " [ الشعراء:24]  أي إن كنتم أهل كشف إلهي وأهل وجود عيني فقد أعلمتكم بما تيقنتموه ، أي عرفتموه يقينا في شهودكم لكل شيء وفي
 
(وجودكم) لكم (فإن لم تكونوا من هذا الصنف) المذكور (فقد أجبتكم في الجواب الثاني) وهو قول موسى عليه السلام :قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ( 28 ) [ الشعراء : 28 ] ، يعني (إن كنتم أهل عقل وتقييد وحصرتم الحق) تعالى (فيما تعطيه أدلة) جمع دليل (عقولكم ) من المعاني والصور الخيالية .
(فظهر موسى) عليه السلام (بالوجهين) ، أي وجه الإطلاق في المعرفة لأهل اليقين ، ووجه التقييد فيها لأهل العقول (ليعلم فرعون فضله) ، أي موسى عليه السلام في المعرفة (وصدقه) في النصح للأمة (وعلم موسى) عليه السلام (أن فرعون يعلم ذلك) ، أي الذي ذكره موسى عليه السلام له (لكونه) ، أي فرعون (سأل عن الماهية) ، أي ماهية الإله من حيث لوازمها الفعلية .
(فعلم) ، أي موسى عليه السلام (أن سؤاله) ، أي فرعون (ليس على) مقتضى (اصطلاح القدماء) من حكماء الفلاسفة (في السؤال بما )، أي عن ماهية الشيء من حيث هي ماهية (فلذلك أجاب) ، أي موسى عليه السلام عن السؤال (فلو علم) ، أي موسى عليه السلام (منه) ، أي من فرعون (غير ذلك) ، أي غير سؤاله عن الماهية من حيث اللوازم الفعلية لها (لخطأه في السؤال) إذ ليست ماهيته تعالى بمركبة من عام وخاص كماهيات الأشياء ، فلا يمكن معرفتها أصلا ، فالسؤال عنها من هذه الحيثية عبث لأنه لا يتحصل للأفهام فيه شيء .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلمّا جعل موسى المسؤول عنه عين العالم ، خاطبه فرعون بهذا اللسان والقوم لا يشعرون . فقال له :لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ[ الشعراء : 29 ] .
والسّين في « السّجن » من حروف الزّوائد : أي لأسترنّك فإنّك أجبتني بما أيّدتني به أن أقول لك مثل هذا القول .
فإن قلت لي : فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إيّاي ، والعين واحدة ، فكيف فرقت فيقول فرعون إنّما فرقت المراتب العين ما تفرّقت العين ولا انقسمت في ذاتها . ومرتبتي الآن التّحكّم فيك يا موسى بالفعل ، وأنا أنت بالعين وغيرك بالرّتبة . )
 
(فلما جعل موسى) عليه السلام (المسؤول عنه) وهو ماهية الإله من حيث لوازمها الفعلية (عين العالم) ، لأنه تعالى هو الظاهر بصور العالم أو صور العالم ظاهرة به
 
(خاطبه فرعون بهذا اللسان) الذي كلم به موسى عليه السلام وهو لسان المعرفة الباطنية الذوقية (والقوم) الحاضرون من آل موسى وأتباعه (لا يشعرون) بما جرى بينهما من الكلام (فقال) ، أي فرعون له ، أي لموسى عليه السلام ("لَئِنِ اتَّخَذْتَ") يا موسى ("إِلهَاً")، أي معبودا ("غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ" [ الشعراء : 29] والسين في السجن من حروف الزوائد)
المجموعة في قولك سألتمونيها أو قولك هويت السمان ، فهو مشتق من الجيم والنون وهي مادة الترقي في كل ما وقعت (كالجن والمجن والجنة والجنان والجنون) ،
 
(أي لأسترنّك )، عن شهود عين الوجود المطلق وهو وعيد له على عدم إيمانه به (فإنك) يا موسى (أجبت بما أيدتني) به من دعوى ظهور الربوبية في صورتي لأني من جملة ما قلترَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما[ مريم : 65 ] ، ورَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما[ الشعراء : 28 ] فإني أنا من حيث العين الواحدة ذاك الذي أشرت إليه فقد أغنيتني (أن أقول لك مثل هذا القول) الذي قلته لي .
 
(فإن قلت) ، أي يا موسى (لي بلسان الإشارة فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي) بأن تسترني عن هذا الشهود وتجعلني غافلا عنه مثل هؤلاء القوم الغافلين الجاهلين المحجوبين (والعين) ، أي الذات الإلهية الظاهرة بالصورة مني ومنك واحدة لا تعدد لها (فكيف فرقت) وأنت تزعم الجمع (فيقول فرعون) لموسى عليه السلام (إنما فرقت المراتب) الاعتبارية بالصور الامكانية (العين) الواحدة الإلهية فتكثر الواحد بالمراتب (ما تفرقت العين) الواحدة بل هي واحدة في جميع المراتب لم تتغير (ولا انقسمت) ، أي العين (في ذاتها) أصلا (ومرتبتي الآن) ، أي في ذلك الوقت هي (التحكم) بصورتي (فيك) ، أي في صورتك يا موسى بالفعل لاقتضائها ذلك في الظهور (وأنا أنت بالعين) الواحدة (وأنا غيرك بالرتبة) لتلك العين الواحدة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما فهم ذلك موسى منه أعطاه حقّه في كونه يقول له لا تقدر على ذلك ، والرّتبة تشهد له بالقدرة عليه وإظهار الأثر فيه : لأنّ الحقّ في رتبة فرعون من الصّورة الظّاهرة ، لها التّحكّم على الرّتبة الّتي كان فيها ظهور موسى في ذلك المجلس .
فقال له يظهر له المانع من تعدّيه عليهأَ وَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ[ الشعراء : 30].
فلم يسع فرعون إلّا أن يقول له :فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ[ الشعراء : 31 ] حتّى لا يظهر فرعون عند الضّعفاء الرّاي من قومه بعدم الإنصاف فكانوا يرتابون فيه ، وهي الطّائفة الّتي استخفّها فرعون فأطاعوهإِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ[ الأنبياء : 74 ] أي خارجين عمّا تعطيه العقول الصّحيحة من إنكار ما ادّعاه فرعون باللّسان الظّاهر في العقل ، فإنّ له حدا يقف عنده إذا جاوزه صاحب الكشف واليقين . )
 
(فلما فهم ذلك) المعنى المذكور (موسى) عليه السلام (منه) ، أي من فرعون بقرائن الأحوال ومحاورات الكلام (أعطاه) ، أي أعطى موسى عليه السلام فرعون حقه الظاهر به في كونه ، أي موسى عليه السلام يقول له ، أي لفرعون بمقتضى إشارة الكلام لا تقدر من حيث رتبتك على ذلك الفعل الذي توعدتني به من ستري عن شهود العين الإلهية وسلبي مقام جمعيتي ، لأنه تصرف من حيث الباطن ولا يكون الزنديق أصلا إنما هو للصديقين خاصة ، وإن كان للزنديق التصرف من حيث الظاهر والتحكم بالصورة الظاهرة في كل ما دخل تحت يده .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:42 am

25 -  فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الخامس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الخامس
25 -  فص حكمة علوية في كلمة موسوية
والمرتبة التي كان فرعون ظاهرا بها في العين الواحدة تشهد له ، أي لفرعون بالقدرة من حيث التحكم الظاهر عليه ، أي على موسى عليه السلام وإظهار الأثر من حيث الظاهر فيه ، أي في موسى عليه السلام لأن الحق تعالى ، أي العين الواحدة الإلهية الظاهرة في رتبة فرعون من الصورة المحسوسة الظاهرة لفرعون لها التحكم على ظاهر الرتبة التي كان فيها ظهور موسى عليه السلام في ذلك المجلس ، أي مجلس فرعون وقومه فقال ، أي موسى عليه السلام له ، أي لفرعون يظهر ، أي موسى عليه السلام وهو حال من فاعل قال له ، أي لفرعون المانع لفرعون من حيث رتبة موسى عليه السلام من تعديه ، أي فرعون عليه ، أي على موسى عليه السلام وإنفاذ ما توعده بهأَ وَلَوْ جِئْتُكَيا فرعون ("بِشَيْءٍ مُبِينٍ") [ الشعراء : 30 ] ، أي واضح من البراهين القاطعة الدالة على صدق دعواي .
(فلم يسع) عند ذلك فرعون إلا أن يقول له ، أي لموسى عليه السلام ("فَأْتِ بِهِ") [ الشعراء : 31 ] ، أي بذلك الشيء المبين ("إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ") [ الأعراف : 70 ] في دعوى مجيئك بالحق حتى لا يظهر فرعون في ذلك المجلس عند الضعفاء الرأي ، أي الفكر والنظر من قومه الحاضرين بعدم الإنصاف في رد أدلة خصومه وعدم الالتفات إليها فكانوا حينئذ يرتابون ، أي يشكون ويترددون فيه ، أي في فرعون وهي ، أي الضعفاء الرأي من قومه الطائفة التي استخفها فرعون ، أي طلب خفة عقلها بما أظهره لها من زخارف الغرور فأطاعوه
في كل ما زعم ("إِنَّهُمْ") [ الأنبياء : 74 ] ، أي تلك الطائفة ("كانُوا قوما فاسِقِينَ") [ الأنبياء : 74 ] كما قال تعالى : فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ( 54 ) [ الزخرف :54] أي خارجين عما تعطيه العقول البشرية الصحيحة من إنكار ما ادعاه فرعون من الربوبية لهم باللسان الظاهر في العقل المقتضي للفرق دون الجمع فإن له ،
أي للعقل حدا يقف عنده فلا يجاوزه إذا جاوزه ، أي ذلك الحد صاحب الكشف الذوقي واليقين العيني من أهل التحقيق .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا جاء موسى في الجواب بما يقبله الموقن والعاقل خاصّة .فَأَلْقى عَصاهُوهي صورة ما عصى به فرعون موسى في إبائه عن إجابة دعوتهفَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ[ الشعراء : 32 ] أي حيّة ظاهرة .
فانقلبت المعصية الّتي هي السّيّئة طاعة أي حسنة كما قال :يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ[ الفرقان : 70 ] يعني في الحكم .
فظهر الحكم ههنا عينا متميّزة في جوهر واحد . فهي العصا وهي الحيّة والثّعبان الظّاهر ، فالتقم أمثاله من الحيّات من كونها حيّة والعصيّ من كونها عصا . فظهرت حجّة موسى على حجج فرعون في صورة عصيّ وحيّات وحبال .
فكانت للسّحرة حبال ولم يكن لموسى حبل . والحبل التّلّ الصّغير أي مقاديرهم بالنّسبة إلى قدر موسى عند اللّه كنسبة التّلال الصّغيرة إلى الجبال الشّامخة . )
 
(ولهذا) ، أي لكون الأمر كذلك (جاء موسى) عليه السلام (في الجواب) عن سؤال فرعون (بما يقبله) العبد (الموقن) ، أي صاحب اليقين (والعاقل) ، أي صاحب العقل فقال:
أوّلا : إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ
وثانيا : إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ خاصة ،
أي لا غيرهما ، فإن من لم يكن له يقين ولا عقل فلا جواب له من موسى عليه السلام ("فَأَلْقى") موسى عليه السلام عند ذلك ("عَصاهُ") التي كانت في يده وهي ، أي تلك العصا صورة ما ، أي الأمر الذي (عصى به فرعون) رسوله (موسى) عليه السلام ، وذلك مثال نفس فرعون العاصية في إبائه ، أي امتناعه (عن إجابة دعوته) ، أي دعوة موسى عليه السلام ("فَإِذا هِيَ") ، أي تلك العصا ("ثُعْبانٌ مُبِينٌ") [ الشعراء : 32 ] ، أي واضح مكشوف بحيث يعرفه كل أحد يعني (حية ظاهرة فانقلبت المعصية التي هي السيئة) التي عصى بها فرعون لموسى عليه السلام (طاعة)
 
لو فعل ذلك فرعون أي حسنة يثاب عليها كما قال اللّه تعالى : أولئك (" يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ") [ الفرقان : 70 ] يعني ) بذلك في الحكم الإلهي فبعد أن يكون الحكم عليها بأنها سيئات يصير بأنها حسنات .
 
(فظهر الحكم) الإلهي (هنا) ، أي في العصا (عينا متميزة) عما سواها (في جوهر واحد) وهو ماهيتها الأصلية التي كانت فيها في حال كونها عصا (فهي العصا) ومع ذلك (هي الحية والثعبان الظاهر) ، وقد ظهر لفرعون من موسى عليه السلام ما كان عنه فرعون من طاعة العين الواحدة لمقتضى رتبة موسى عليه السلام في إظهار ما شاء من المراتب ،
 
ثم قال موسى عليه السلام : بمرتبة عينه على مرتبة فرعون لإبطال دعواه وإظهار عجزه عما يحاول (فالتقم )ذلك الثعبان (أمثاله من الحيات) التي جاءت بها السحرة (من كونها) ، أي عصا موسى عليه السلام (حية و) التقم (العصي) بالتشديد جمع عصاة ، أي ما جاء السحرة من عصيهم (من كونها) ، أي عصا موسى عليه السلام (عصا) ولم يبق لحيات السحرة ولا لعصيهم أثر في الوجود أصلا كل هذا ولم تتغير حية موسى عليه السلام ولا عصاه كما كانت عليه .
 
(فظهرت) ، أي انتصرت عند ذلك (حجة موسى) عليه السلام أي آيته ودليله وبرهانه (على حجج) ، أي أدلة (فرعون) وكان ذلك (في صورة عصي) جمع عصا (وحيات وحبال فكانت للسحرة الحبال) ، لأنهم أثوابها (ولم يكن لموسى) عليه السلام (حبل) وإنما له العصا (والحبل) بالباء الموحدة التحتية قبلها حاء مهملة يطلق في اللغة على التل الصغير فهو إشارة إلى قدرهم (أي مقاديرهم) يعني السحرة في العلم (بالنسبة إلى قدر موسى) عليه السلام (بمنزلة الحبال) بالحاء المهملة ، أي التلال المستطيلة من الرمل (من الجبال) بالجيم جمع جبل (الشامخة) العالية العظيمة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلمّا رأت السّحرة ذلك علموا رتبة موسى في العلم ، وأنّ الّذي رأوه ليس من مقدور البشر وإن كان من مقدور البشر فلا يكون إلّا ممّن له تميز في العلم المحقّق عن التّخيّل والإيهام ، فآمنوا بربّ العالمين ربّ موسى وهارون : أي الرّبّ الّذي يدعو إليه موسى وهارون ، لعلمهم بأنّ القوم يعلمون أنّه ما دعا لفرعون .
ولمّا كان فرعون في منصب التّحكّم صاحب الوقت ، وأنّه الخليفة بالسّيف - وإن جار في العرف النّاموسي - لذلك قال :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلىأي وإن كان الكلّ أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظّاهر من التّحكّم فيكم .)
 
(فلما رأت السحرة ذلك) ، أي عظم ما جاء به موسى عليه السلام من الحق المبين (علموا) ، أي السحرة (رتبة موسى) عليه السلام (في العلم) باللّه تعالى (وأن الذي رأوه) من عصا موسى عليه السلام وما تلقفه من حبالهم وعصيهم (ليس من مقدور) ، أي من الأمر الذي تقدر عليه قوّة (البشر و) إن (كان) ذلك (من مقدور) بعض (البشر فلا يكون إلا ممن له تمييز) ، أي رفعة وشرف (في العلم) الإلهي (المحقق) ، أي الكاشف عن حقيقة الأمر البعيد (عن التخيل والإيهام) ، أي التمويه والزخرفة الباطلة .
("فآمنوا") ، أي السحرة عند ذلك كما قالوا (برب العالمين رب موسى وهارون أي الرب الذي يدعو إليه )، أي إلى عبادته وطاعته دون غيره من الأرباب الباطلة (موسى وهارون) عليهما السلام (لعلمهم) ، أي السحرة (بأن القوم) ، أي قوم فرعون الحاضرين (يعلمون أنه) ، أي موسى عليه السلام (ما دعا) ، أي طلب الطاعة والانقياد (لفرعون) وإنما كان يدعو إلى اللّه رب العالمين .
(ولما كان فرعون في منصب التحكم الظاهر صاحب ذلك الوقت وأنه الخليفة) عن الحق تعالى في الأرض (بالسيف وإن جار) ، أي ظلم وتعدى (في العرف) ، أي الاصطلاح (الناموسي) ، أي الشرعي الذي يعرفه موسى عليه السلام ومن تبعه ، لا في عرفه هو ، فإن اللّه تعالى يستخلف في الظاهر المؤمن والكافر والمطيع والعاصي ، ويجعله بحيث ينفذ أمره ونهيه طوعا وكرها في كل ما يريد ،
كما قال تعالى عن قوم صالح عليه السلام وهم ثمود :وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ[ الأعراف : 74 ] وهو كثير في القرآن لذلك ، أي لأجل ما ذكر قال : ، أي فرعون لقومه لما جمعهم كما قال تعالى :فَحَشَرَ فَنادى ( 23 ) فَقالَأَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى( 24 ) [ النازعات : 24 ] .
وإن كان الكل من بني آدم أربابا لما تحت أيديهم من الأملاك بنسبة مّا ، فلهم التحكم في أملاكهم فأنا الأعلى منهم ، أي من الأرباب كلهم بما ، أي بسبب الأمر الذي أعطيته بالبناء للمفعول أي اقتضاه مقامي ومنزلتي في الظاهر من التحكم فيكم بحيث ينفذ أمري ونهيي .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا علمت السّحرة صدقه فيما قاله لم ينكروه وأقرّوا له بذلك فقالوا له :فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا[ طه : 72 ] فالدّولة لك .
فصحّ قوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى[ النازعات : 24 ] وإن كان عين الحقّ فالصّورة لفرعون ، فقطّع الأيدي والأرجل وصلب بعين حقّ في صورة باطل لنيل مراتب لا تنال إلّا بذلك الفعل .
فإنّ الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها لأنّ الأعيان الثّابتة اقتضتها ؛ فلا تظهر في الوجود إلّا بصورة ما هي عليه في الثّبوت إذ لا تبديل لكلمات اللّه . وليست كلمات اللّه سوى أعيان الموجودات ، فينسب إليها القدم من حيث ثبوتها وينسب إليها الحدوث من حيث وجودها وظهورها كما تقول حدث اليوم عندنا إنسان أو ضيف ولا يلزم من حدوثه أنّه ما كان له وجود قبل هذا الحدوث . ولذلك قال تعالى في كلامه العزيز أي في إتيانه مع قدم كلامه :ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ( 2 ) [ الأنبياء : 2 ] وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ( 5 ) [ الشعراء :5].
والرّحمن لا يأتي إلّا بالرّحمة . ومن أعرض عن الرّحمة استقبل العذاب الّذي هو عدم الرّحمة.)
 
(ولما علمت السحرة) بعد إيمانهم (صدقه) ، أي فرعون (فيما قال لهم) كما حكاه تعالى :" قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى"( 71 ) [ طه : 71].
(لم ينكروه )، أي قوله (وأقروا له بذلك) ، بنفوذ تحكمه في الحياة الدنيا (فقالوا له) ،قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا( 72 ) [ طه : 72 ] .
وفي معنى الآية تقديم وتأخير وتقديره كما قال : ("فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ"[ طه : 72 ] فالدولة) ، أي السلطنة والمنصب (لك فصح قوله) ، أي فرعون حينئذ ("أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ") أنا نافذ الأمر في جميع أحوالكم وإن كان ، أي فرعون لما قال ذلك (عين الحق) تعالى من حيث الوجود الظاهر بالفعل .
 
(فالصورة) الظاهرة (لفرعون) فنفذ أمره (فقطع الأيدي والأرجل) من السحرة (وصلب) لهم كما توعدهم بذلك (بعين حق) ظاهر (في صورة باطل) وهو فرعون لنيل ، أي حصول (مراتب) ، أي مزايا ومقامات في الآخرة للسحرة (لا تنال) تلك المراتب (إلا بذلك) الفعل الذي فعله فرعون بالسحرة من القطع والصلب .
 
فإن الأسباب التي جعلها اللّه تعالى بحيث يترتب عليها المسببات (لا سبيل إلى تعطيلها) أصلا ، كما قتل اليهود أنبياءهم وقطع رأس يحيى ونشر زكريا عليهم السلام ، فهي أسباب لمسببات شريفة عظيمة جعلها اللّه تعالى وسائل إليها (لأن الأعيان الثابتة) في العلم الإلهي المعدومة بالعدم الأصلي (اقتضتها) ، أي تلك الأسباب فهي مرتبة معها كذلك (فلا تظهر) ، أي تلك الأعيان الثابتة (في ) هذا (الوجود إلا بصورة ما هي عليه في حال الثبوت) العلمي مطابقة لذلك إذ لا تبديل  لكمات اللّه تعالى كما قال سبحانه :لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ[ يونس : 64 ] .
 
وليست كلمات اللّه تعالى (سوى أعيان الموجودات) المحسوسة والمعقولة والموهومة (فينسب) بالبناء للمفعول (إليها) ، أي إلى الأعيان الموجودات (القدم) فيصح أن يقال أنها قديمة (من حيث ثبوتها) بالعدم الأصلي في حضرة العلم الإلهي القديم (وينسب) أيضا (إليها) ، أي إلى الأعيان الموجودات (الحدوث) فيصح أن يقال إنها حادث (من حيث وجودها) المرئي لها (وظهورها به كما تقول حدث عندنا اليوم إنسان أو) حدث (ضيف زائر) ، أي حدثت له صفة العندية والضيفية لا حدث هو في نفسه (ولا يلزم من حدوثه أنه ما كان له وجود قبل هذا الحدوث الذي وقع الإخبار عنه.
 
(ولذلك) ، أي لأجل ما ذكر (قال تعالى في حق كلامه العزيز ، أي في إتيانه) بإنزاله على النبي صلى اللّه عليه وسلم (مع قدم كلامه) تعالى ، أي كونه قديما وليس بحادث (ما يَأْتِيهِمْ)، أي الكافرين (مِنْ ذَكَرٍ)، أي قرآن (مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) إتيانه عندهم مع قدمه (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) بآذانهم (وَهُمْ يَلْعَبُونَ)[ الأنبياء : 2 ] بقلوبهم وعقولهم في أحوال دنياهم ويلعبون به بأن يترنموا بكلماته ويطربوا بها من غير تدبر للمعاني ولا عمل بها .
 
وقال تعالى أيضا : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ)[ الشعراء : 5 ] ،
إتيانه أيضا مع قدمه (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) لاشتغالهم بدنياهم أو بتحسين كلماته وتجويد ألفاظه من غير التفات إلى تدبر معانيه والعمل به (والرحمن سبحانه لا يأتي إلا بالرحمة) لأن العالم كله ما ظهر إلا بها وهي التي وسعت كل شيء ومن أعرض عن الرحمة كما قال إلا كانوا عنه معرضين (استقبل العذاب الذي هو عدم الرحمة) ، لأنه نقمة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا قوله :فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ [ غافر :85 ]. إلّا قوم يونس ، فلم يدلّ ذلك على أنّه لا ينفعهم في الآخرة بقوله في الاستثناء إلّا قوم يونس .
فأراد أنّ ذلك لا يدفع عنهم الأخذ في الدنيا ، فلذلك أخذ فرعون مع وجود الإيمان منه .
هذا إن كان أمره أمر من تيقّن بالانتقال في تلك السّاعة . وقرينة الحال تعطي أنّه ما كان على يقين من الانتقال أنّه عاين المؤمنين يمشون على الطّريق اليبس الّذي ظهر بضرب موسى بعصاه البحر . فلم يتيقّن فرعون بالهلاك إذ آمن ، بخلاف المحتضر حتى لا يلحق به .
فآمن بالّذي آمنت به بنو إسرائيل على التّيقّن بالنّجاة ، فكان كما تيقّن لكن على غير الصّورة الّتي أراد ، فنجّاه اللّه من عذاب الآخرة في نفسه ، ونجّا بدنه كما قال تعالى : فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [ يونس : 92 ] .
لأنّه لو غاب بصورته ربّما قال قومه احتجب . فظهر بالصّورة المعهودة ميّتا ليعلم أنّه هو . فقد عمته النّجاة حسّا ومعنى . )
 
(وأما) الإيمان في وقت اليأس والشدة واليأس من الحياة المشار إليه بمقتضى (قوله) تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ)، أي الكافرين بحيث ينقذهم من العذاب لما رَأَوْا بَأْسَنا، أي شدتنا عليهم بنزول العذاب فيهم (سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي)، أي عادته تعالى (قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ) [غافر : 85 ] .
 
المتقدمين كان إيمانهم لا ينفعهم عند معاينة أسباب الموت القريبة ، ولا ينقذهم من الهلاك وخسر هنالك المبطلون وقوله تعالى : " فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها (إلّا قوم يونس) لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ[ يونس : 98 ] (فلم يدل ذلك) ، أي انتفى نفع الإيمان في وقت نزول العذاب (على أنه) ، أي الإيمان في ذلك الوقت (لا ينفعهم في الآخرة) ، لأن معناه لا ينفعهم ، أي لا يرفع عنهم ذلك العذاب النازل بهم ، وإذا لم ينفعهم برفع العذاب عنهم لا يلزم منه أن لا ينفعهم في الآخرة ،
 
وكون المعنى بأنه لا ينفعهم برفع العذاب النازل بهم يستدل عليه (بقوله) تعالى( في الاستثناء) من عدم النفع في الإيمان (إلا قوم يونس فأراد) تعالى أن (ذلك) الإيمان في ذلك الوقت (لا يرفع عنهم) ، أي عن الكفار (الأخذ) ، أي الإهلاك والتدمير (في الدنيا) ولم يستثن تعالى من هذا الأمر العام إلا قوم يونس كما قال سبحانه لما آمنوا :كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ[ يونس : 98 ] ، وملة بني إسرائيل التي مات عليها فرعون لما قال حين أدركه الغرق أنه :آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ[ يونس : 90 ] كانت هي وصية إبراهيم ويعقوب بالإيمان حين الموت ، قال تعالى :وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( 132 ) [ البقرة : 132 ] .
 
والجملة حال والحال مقارنة للموت فإيمان اليأس مقبول في ملة بني إسرائيل فافهم ؛ (فلذلك) ، أي لأجل ما ذكر (أخذ فرعون) ، أي أهلكه اللّه تعالى بالغرق في البحر (مع وجود الإيمان منه) وصحة قبوله ونفعه في الآخرة ، كل إيمان يحصل في الحياة الدنيا مقبول من صاحبه ، وإن لم ينجه من العذاب الواقع يقال :
(هذا إن كان أمره) ، أي فرعون (أمر من تيقن بالانتقال) ، أي الموت والهلاك
(في تلك الساعة) بالغرق في البحر (وقرينة الحال) من فرعون (تعطي أنه ما كان على يقين من الانتقال) بالموت والهلاك إلى الآخرة (لأنه عاين) ، أي رأى وشاهد (المؤمنين) من قوم موسى عليه السلام (يمشون على الطريق اليبس) ، أي اليابس (الذي ظهر) في أرض البحر (بضرب موسى) عليه السلام (بعصاه البحر فلم يتيقن) حينئذ (فرعون بالهلاك إذا آمن بخلاف المحتضر) بصيغة اسم المفعول ،
 
أي الذي حضرته الوفاة وهو في النزع (حتى لا يلحق) ، أي فرعون (به) ، أي بالمحتضر ليأسه من الحياة ورجاء فرعون للحياة (فآمن) ، أي فرعون (بالذي آمنت به بنو إسرائيل) ،
كما حكاه تعالى عنه أن قال :"آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ"[ يونس : 90 ] (على التيقن بالنجاة) من الهلاك بالغرق (فكان) الأمر (كما تيقن) فحصلت له النجاة (لكن على غير الصورة التي أراد) وهي النجاة من الهلاك بالغرق .
 
(فنجاه اللّه) تعالى (من عذاب الآخرة في نفسه) التي هي داخل بدنه بحصول الإيمان له وقبوله منه ، فإنه لا مانع من القبول لأنه الأصل حتى يوجد دليل قاطع يمنعه (ونجّى) اللّه تعالى أيضا (بدنه كما قال تعالى :فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) [ يونس : 92 ] ،
أي علامة (لأنه لو غاب بصورته ربما قال قومه) الباقون في مصر بلا غرق (احتجب) عن الناس بالصعود إلى السماء ونحوه (فظهر) ، أي فرعون (بالصورة المعهودة) له عندهم (ميتا) لا حياة فيه (ليعلم) بالبناء للمفعول أنه ، أي فرعون هو ، أي فرعون لا غيره فقد عمته النجاة ، أي السلامة حسا في بدنه ومعنى في نفسه بحصول الإيمان له
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن حقّت عليه كلمة العذاب الأخراوي لا يؤمن ولو جاءته كلّ آية حتّى يروا العذاب الأليم ، أي يذوقوا العذاب الأخراوي .
فخرج فرعون من هذا الصّنف . هذا هو الظّاهر الّذي ورد به القرآن . ثمّ إنّا نقول بعد ذلك والأمر فيه إلى اللّه ، لما استقرّ في نفوس عامّة الخلق من شقائه ، وما لهم نصّ في ذلك يستندون إليه . وأمّا آله فلهم حكم آخر ليس هذا موضعه .
ثمّ ليعلم أنّه لا يقبض اللّه أحدا إلّا وهو مؤمن أي مصدّق بما جاءت به الأخبار الإلهيّة : وأعني من المختضرين ولهذا يكره موت الفجأة وقتل الغفلة . )
 
(ومن حقت) ، أي تحققت (عليه كلمة العذاب الأخروي) وهي كلمة الرب المقطوع بها في علم اللّه تعالى القديم وتقديره الأزلي .
قال تعالى :أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ( 19 ) [ الزمر : 19].
فذكر النار دليل على أنه العذاب الأخروي (لا يؤمن) في الدنيا أصلا (ولو جاءته) ظهرت له (كل آية ).
قال تعالى في حق فرعون :وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى [ طه : 56].
يعني في حياته الدنيا قبل نزوله في البحر بدليل قوله بعده: " قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى"  [ طه : 57 ] ثم آمن بعد ذلك بعد نزوله في البحر وأدرك الغرق كما مر ذكره .
 
وقال تعالى :" إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ( 96 ) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ" [ يونس : 96 - 97 ] ،
أي ( حتى يذوقوا العذاب الأخروي فخرج فرعون من هذا الصنف) المذكورين لأنه آمن قبل أن تحق عليه كلمة ربك التي هي كلمة العذاب الأخروي وقبل أن يذوق العذاب الأليم الأخروي ، بل قبل أن يذوق الغرق الذي هو عذاب الدنيا ومن حقت عليه الكلمة لا يؤمن حتى يرى ، أي يذوق العذاب الأليم ، وهو العذاب الأخروي ، لأنه لا أكثر منه في الألم فيدل أنه يؤمن بعد الموت ، والإيمان بعد الموت غير مقبول إجماعا وفرعون لم يفعل كذلك إلا أنه آمن قبل الموت .
 
هذا الكلام المذكور هنا المقتضي بصحة إيمان فرعون وقبوله هو الظاهر الذي ورد به القرآن كما علمت بيانه ولم يرد في السنة النبوية ما يرده ولا في الإجماع أيضا ، لأنه قال بصحة إيمان فرعون جماعة من المجتهدين .
 
ذكرهم الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه اللّه تعالى في أوائل كتابه اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر والمصنف قدس اللّه سره من جملتهم
"" أضاف الجامع :
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في اليواقيت والجواهر الجزء الأول ص 33 :-
"ومن دعوى المنكر أن الشيخ يقول بقبول إيمان فرعون وذلك كذب وافتراء على الشيخ فقد صرح الشيخ في الباب الثاني والستين من «الفتوحات» بأن فرعون من أهل النار الذين لا يخرجون منها أبد الآبدين و «الفتوحات» من أواخر مؤلفاته فإنه فرغ منها قبل موته بنحو ثلاث سنين.
قال شيخ الإسلام الخالدي رحمه اللّه:
والشيخ محيي الدين بتقدير صدور ذلك عنه لم ينفرد به بل ذهب جمع كثير من السلف إلى قبول إيمانه لما حكى اللّه عنه أنه قال:" حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [يونس: 90] وكان ذلك آخر عهده بالدنيا،
 
وقال الشيخ أبو بكر الباقلاني:
قبول إيمانه هو الأقوى من حيث الاستدلال ولم يرد لنا نص صريح أنه مات على كفره انتهى.
ودليل جمهور السلف والخلف على كفره )أنه آمن عند اليأس( وإيمان أهل اليأس لا يقبل واللّه أعلم. أهـ ""
 
(ثم إنا نقول بعد ذلك) ، أي بعد تقرير ما ذكر )والأمر فيه( ، أي في حق فرعون موكول إلى اللّه تعالى لما ، أي لأجل الأمر )الذي استقر في نفوس عامة الخلق( ، أي العامة من الخلق دون الخاصة منهم أو الأكثرون الأقل )من شقائه( ، أي فرعون يعني هلاكه على الكفر وتخليده في النار ،
بناء على ذكر اللّه تعالى في حقه في القرآن من الأحوال التي كان عليها في حياته في الدنيا ، من الكفر ودعوى الربوبية والظلم والتعدي واتباع السحر وقتل النفوس بلا حق ، والتكذيب بالأنبياء عليهم السلام وإضلال قومه ، إلى غير ذلك من الأوصاف القبيحة ،
 
ولم يلتفتوا إلى ما ذكره اللّه تعالى أيضا عنه من إيمانه في آخر الأمر قبل أن يهلك بالغرق في البحر وقطعوا بأن ذلك إيمان غير مقبول منه ولم يبحثوا عنه في ذلك الوقت كيف كان حاله مع اللّه تعالى والكل مجمعون على أن الأمور معتبرة بخواتيمها والسعيد من مات على السعادة والشقي من مات على الشقاوة ولو صدر منه في الدنيا من الأعمال كيفما صدر من كفر وغيره .
 
)وما لهم( ، أي العامة المذكورين )نص في ذلك (، أي في أن فرعون مات شقيا )يستندون إليه( ، أي إلى ذلك في آية أو حديث غير بعض احتمالات في آياتنا قابلة للتأويل بسهولة كما قدمنا بعضها .
 
والحاصل أن المؤيدات من النصوص لإيمان فرعون كثيرة ، وقول المصنف قدس اللّه سره هنا : والأمر فيه إلى اللّه ، لا يدل على أنه غير قاطع في حقه بشيء ، وأنه متوقف في شأنه باعتبار ما بعده من قوله : لما استقر في نفوس عامة الخلق من شقائه ، يعني أنا نقول بتفويض أمر فرعون إلى اللّه تعالى لأجل الذي استقر في النفوس من شقائه لا باعتبار ما عندنا من ذلك ، فإن مسألة إيمان فرعون لا شبهة فيها عند أحد من أهل الكشف والبصيرة ،
 
لأن أصحاب القلوب المهذبة بالرياضة الشرعية أهل التحقيق والمعرفة الإلهية لا شك عندهم في أمر من الأمور أصلا ولا شبهة ، ولكن هم في تقرير العلم لأهل الظاهر مع ما تفيده الأدلة اللفظية والنصوص الكلامية ، ومع الكشف الصحيح والذوق المستقيم في تقدير ذلك لأنفسهم وأمثالهم إن كانوا ،
 
وليس ببعيد أن اللّه تعالى يجعل فرعون آية على سعة رحمته وكمال عنايته بمن يشاء من عباده لا سيما ، وفي الآية ما يشير إلى ذلك من قوله تعالى : " لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ "[يونس : 92 ].
 
فتنبه يا أخي لهذه الآية ولا تكن من الناس الغافلين عنها فإن فرعون عاش في الدنيا من أوّل عمره فاسقا ، فاجرا ، كافرا ، ضالا ، وادعى الربوبية مع اللّه ونازع اللّه تعالى وأنبياءه ورسله ، ثم آمن وأسلم فتقبل منه ذلك ،
 
وغفر اللّه تعالى له جميع ما عمله من الشر ، وأماته طاهرا مطهرا ، فيبقى كل من وصل إلى غاية الشقاء بارتكاب الكثير من الذنوب والمعاصي ومتعارفه الفواحش ، بل من خاض في جميع عمره في أنواع الكفر والزندقة وبالغ في الضلال بحيث فعل جميع ما فعله فرعون وزاد عليه في ذلك إن أمكنه الزيادة ، ثم أسلم وآمن وتاب بقلبه ولسانه ،
وصدق في رجوعه عن كل ما كان فيه ، فإن اللّه تعالى يقبل منه إسلامه وإيمانه وتوبته ، ولو صدر منه ذلك في آخر أجزاء حياته قبيل موته ولو بوقت يسير ، حتى لا ييأس من رحمة اللّه تعالى أحد ، ولا يقنط من روح اللّه مخلوق .
وفي ضد ذلك قد جعل اللّه تعالى إبليس آية على غضبه وسخطه وكمال انتقامه وعظيم مكره واستدراجه ، فأحياه اللّه تعالى في الدنيا في ابتداء خلقه مسلما ، مؤمنا ، صالحا ، عابدا ، زاهدا ، عالما ، عاملا لم يبق بقعة في الأرض إلا وقد عبد اللّه تعالى فيها ، ثم صعد إلى السماء ، فكان يعبد اللّه تعالى مع الملائكة عليهم السلام ،
 
وكان أعبدهم وأعرفهم وأكملهم وأشرفهم ، بحيث كان يعلمهم ويرشدهم إلى كيفية الخضوع والخشوع ، ثم إن اللّه تعالى بعد ذلك أشقاه وأضله وغضب عليه ومكر به وانتقم منه ،
فكفر وعاند واستخف بحرمة اللّه تعالى ، وأبغض ربه وعاداه وأبغض إخوان الإيمان والصدق وعاداهم ،
وآذاهم وأضرهم حتى يكون عبرة وموعظة للمؤمنين الصالحين العابدين الزاهدين الكاملين في العلم والعمل ، فيخافون من اللّه تعالى أن يمكر بهم ويجعلهم مثل إبليس في الشقاء ، فلا يأمنون من مكر اللّه تعالى ولا من استدراجه لهم ، واللّه على كل شيء قدير ، واللّه يحكم لا معقب لحكمه.
 
وأما آله ، أي فرعون يعني قومه الذين كانوا يعبدونه من دون اللّه تعالى فلهم حكم آخر غير حكمه هو ، فإنهم ماتوا على الكفر باللّه تعالى وأنبيائه ورسله وعلى التكذيب بالحق ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه أسلم وآمن قبل موته .
وقال تعالى في حقهم :" النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ " [ غافر : 46 ] .
فإن في بيان عذابهم الآن في النار غدوّا وعشيا ، وكيفيته ، وذكر قبورهم المتنقلة في بطون الحيتان البحرية والحيوانات البرية ، وتنويع عذابهم فيها إلى يوم القيامة ، ثم دخلوا لهم في يوم القيامة إلى أشد العذاب .
وما المراد بذلك العذاب الأشد ؟
وما حكمة ذلك كله ، إلى غير ذلك من بيان أحوالهم البرزخية والأخروية ليس هذا موضع ذكره ، فإنه يحتاج إلى بسط كلام كثير .
ثم ليعلم ، أي السالك أنه ، أي الشأن لا يقبض اللّه تعالى أي يتوفى ويميت أحدا من الناس مؤمنا كان ذلك المقبوض أو كافرا إلا وهو ، أي ذلك المقبوض مؤمن بينه وبين اللّه تعالى في حال قبضه وموته أي مصدق بما جاءت به الأخبار الإلهية في الكتاب والسنة من الحق كما يشير إليه قوله تعالى : "وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ " [ الأنعام : 3 ] ، وإذا عاينوا ذلك فكيف لا يؤمنون بقلوبهم ويصدقون .
 
(وأعني) بهذا التعميم في كل مقبوض إذا كان (من المحتضرين) ، أي الذين حضرتهم ملائكة الموت ، وماتوا بالنزع الكثير أو القليل ؛ (ولهذا) ، أي لكون الأمر كما ذكر (يكره موت الفجاءة) بالضم والمد وتفتح وتقصر أي البغتة ، وهي الموت بلا مرض ولا نزاع ولا ضرب ولا قتل ولا غيرها ، بل من خالص الصحة والعافية ، أو مشوبها ببعض مرض لا يحصل منه الموت عادة .
وكراهته إنما هي في حق المسرفين على أنفسهم والكافرين لتفويت التوبة والإسلام عليهم ، وهو خير في الصالحين ، كما ورد أن إبراهيم الخليل عليه السلام مات بلا مرض كما بينه جمع ، وتوفي داود عليه السلام فجأة ، وكذلك الصالحون وهو تخفيف عن المؤمن .
و يكره (قتل الغفلة) أيضا في حق غير الصالحين أيضا كالفجأة .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:42 am

25 -  فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء السادس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء السادس
25 -  فص حكمة علوية في كلمة موسوية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأمّا موت الفجأة فحدّه أن يخرج النّفس الداخل ولا يدخل النّفس الخارج . فهذا موت الفجأة . وهذا غير المحتضر .
وكذلك قتل الغفلة بضرب عنقه من ورائه وهو لا يشعر : فيقبض على ما كان عليه من إيمان وكفر . ولذلك قال عليه السّلام : " ويحشر على ما عليه مات " .
كما أنّه يقبض على ما كان عليه :
والمحتضر ما يكون إلّا صاحب شهود ، فهو صاحب إيمان بما ثمّ فلا يقبض إلّا على ما كان عليه ، لأنّ « كان » حرف وجوديّ لا ينجرّ معه الزّمان إلّا بقرائن الأحوال : فيفرق بين الكافر المحتضر في الموت وبين الكافر المقتول غفلة أو الميّت فجأة كما قلنا في حدّ الفجأة . )

 
(فأما موت الفجأة فحده) ، أي بيانه (أن يخرج) من الإنسان (النفس الداخل) في جسده (ولا يدخل) ذلك (النفس الخارج) ، أي عوده في جسده (فهذا موت الفجأة).

والمراد في حال الصحة والعافية ، أو قليل المرض وعدم السبب كما ذكرنا ، وإلا فكل موت كذلك (وهذا) ، أي صاحب موت الفجأة (غير المحتضر) ، أي الميت بالمرض والنزع (وكذلك قتل الغفلة بضرب عنقه من ورائه وهو لا يشعر) ونحو ذلك ، فإنه غير المحتضر أيضا (فيقبض) ، أي الميت فجأة والمقتول غفلة (على ما كان عليه) في حال الموت والقتل من إيمان (أو كفر ولذلك ) ، أي لكون الأمر كما ذكر


(قال عليه) الصلاة و(السلام) في الحديث (ويحشر) ، أي العبد (على ما عليه مات .)،
أي الحالة التي مات عليها من طاعة أو معصية أو إيمان أو كفر .
وفي رواية مسلم يبعث كل عبد على ما عليه مات كما أنه ، أي العبد يقبض على ما كان عليه من الأحوال في الحياة الدنيا .

(والمحتضر) ، أي الميت بالمرض والنزع (ما يكون إلا صاحب شهود)  ومعاينة للحق المبين عند موته مؤمنا أو كافرا (فهو صاحب إيمان بما ثم) بالفتح أي هناك مما شاهد وعاين من الحق (فلا يقبض) ، أي يموت (إلا على ما كان عليه) من الإيمان والكفر (لأن كان حرف وجودي) ، أي معناه وجود خبره لاسمه ، أي ثبوته له ، فإذا قلت : كان زيد قائما ، فمعناه وجود القيام لزيد وثبوته له ، وإطلاق الحرف عليه باعتبار تجرده عن الحدث ، فقد خالف الأفعال في دلالتها على الحدث والزمان ، وخالف الأسماء لعدم دلالته على معنى في نفسه ، فكان حرفا لا يقيد إلا بذكر الخبر كالحرف لا يفيد إلا بضم ضميمة إليه . وهذا في حال استعماله ناقصا والتام فعل بمعنى وجد (لا ينجر) ، أي لا ينسحب (معه الزمان) الماضي المفهوم منه في حال استعماله إلى زمان الحال


(إلا بقرائن الأحوال) في تراكيب الكلام كما في هذا الحديث ، فإن قوله : يقبض على ما كان عليه أي كان من قبل في الماضي واستمر إلى حال القبض (فقبض عليه فيفرق) بما ذكر (بين الكافر المحتضر) في الموت بأن مرض ونازع ومات (وبين الكافر المقتول غفلة أو الميت فجأة) كما قلنا في حد الفجأة ، أي تعريفها وتبيينها ، فالكافر المحتضر يموت مؤمنا ، وغير المحتضر يموت كافرا لعدم إيمانه في وقت الموت ،


وإذا مات الكافر المحتضر مؤمنا لا يلزم من ذلك أن يظهر حكم إيمانه في الدنيا ، وإنما إذا لم يعرف منه الإسلام والإيمان عند موته بالصريح ثم مات وهو محتضر بمرض ونزع عومل في الدنيا معاملة الكافر وكان مؤمنا في الآخرة ، وإذا علم إيمانه كان مؤمنا من غير شبهة .
وكون إيمان اليأس غير نافع يعني في رفع العذاب والنجاة من الهلاك في الدنيا لا في حق نجاة الآخرة كما تقدم بيانه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا حكمة التّجلّي والكلام في صورة النّار ، فلأنّها كانت بغية موسى عليه السّلام ، فتجلّى له في مطلوبه ليقبل عليه ولا يعرض عنه . فإنّه لو تجلّى له في غير صورة مطلوبه أعرض عنه لاجتماع همّه على مطلوب خاصّ .
ولو أعرض لعاد عليه فأعرض عنه الحقّ ، وهو مصطفى مقرّب . فمن قربه أنّه تجلّى له في مطلوبه وهو لا يعلم .
كنار موسى رآها عين حاجته * وهو الإله ولكن ليس يدريه)

(وأما حكمة التجلي) الإلهي ، أي انكشافه تعالى وظهوره لموسى عليه السلام (و) حكمة (الكلام) الإلهي أيضا لموسى عليه السلام (في صورة النار) التي رآها بطور سيناء وكان ليلا فقال لأهله :امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى ( 11 ) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً( 12 ) [ طه : 10 - 12 ] ،

(فلأنها) ، أي النار (كانت بغية) ، أي حاجة (موسى عليه السلام) تلك الليلة مع أهله لأجل برد أو طبخ أراده (فتجلى له) الحق تعالى في صورة (مطلوبه) وظهر له في هيئة مرغوبه ومحبوبه (ليقبل) ، أي موسى (عليه) السلام عليه ، أي على الحق تعالى إقبالا بكليته (ولا يعرض عنه) ، أي عن الحق تعالى (فإنه) ، أي الحق تعالى (لو تجلى له) ، أي لموسى عليه السلام (في غير صورة مطلوبه) في ذلك الوقت أعرض ، أي موسى عليه السلام عنه ، أي عن الحق تعالى (لاجتماع همه) ، أي هم موسى عليه السلام يعني همته وعزمه (على مطلوب) له خاص غير ذلك المتجلي له لتجليه في غير المطلوب (ولو أعرض) ، أي موسى عليه السلام عن الحق تعالى (لعاد عمله) أي إعراضه ذلك عليه أي على موسى عليه السلام (فأعرض عنه) ، أي عن موسى عليه السلام (الحق) تعالى أيضا ، لأنه تعالى الملك الديان كما يدين يدان ، وهذا من حيث الظاهر .
 

وفي الباطن أن الفعل واحد ، ينسب إلى العبد باعتبار وإلى الرب باعتبار ، كما قال تعالى :ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[ التوبة : 118 ].
وهو) ، أي موسى عليه السلام (مصطفى) ، أي اصطفاه اللّه تعالى واختاره على جميع أهل زمانه (مقرب) بصيغة اسم المفعول فيهما ، أي قربه اللّه تعالى وأدناه من جنابه وأكرمه بمناجاته وخطابه (فمن) جملة (قربه) ، أي موسى عليه السلام من حضرة ربه تعالى (أنه) تعالى (تجلى) ، أي انكشف وظهر (له) ،
أي موسى عليه السلام (في) صورة (مطلوبه) الخاص في ذلك الوقت يعني النار وهو ، أي موسى عليه السلام لا يعلم بذلك ولهذا سماه نارا فقال لأهله :" امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً" .


"" أضاف الجامع :
"أن من التحقيق أن تعطي المغالطة في موضعها حقها"
عنها قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب السادس والعشرون ومائة :-
فاعلم أيدك الله أن من التحقيق أن تعطي المغالطة في موضعها حقها فإن لها في كتاب الله موضعا وهو قوله في أعمال الكفار" كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً "
والحق هو الذي أعطاه في عين هذا الرائي صورة الماء وهو ليس بالماء الذي يطلبه هذا الظمآن فتجلى له في عين حاجته " حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ".
فنكر وما قال لم يجده الماء فإن السراب لم يكن ذلك المحل الذي جاء إليه محل السراب ولو كان لقال وجد السراب وما كان سرابا إلا في عين الرائي طالب الماء فرجع هذا الرائي لنفسه
لما لم يجد مطلوبه في تلك البقعة ، فوجد الله عنده فلجأ إليه في إغاثته بالماء أو بالمزيل
لذلك الظماء القائم به ، فبأي أمر أزاله ،
فهو المعبر عنه بالماء فلما نفى عنه اسم الشيء جعل الوجود له سبحانه "لأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" فما هو شيء بل هو وجود
فانظر ما أدق هذا التحقيق فهذا كنار موسى فتجلى له في عين حاجته فلم تكن نارا كما قلنا
كنار موسى يراها عين حاجته ..... وهو الإله ولكن ليس يدريه .أهـ ""

وإلى ذلك أشار المصنف قدس اللّه سره إلى ذلك بقوله : [ شعرا ]
كنار موسى يراها عين حاجته ..... وهو الإله ولكن ليس يدريه
(كنار موسى) عليه السلام يعني أن الحق تعالى يتجلى للسالك في طريقه بالصورة التي ينصرف إليها عزمه وهمته في كل حين (رآها) ، أي رأي النار موسى عليه السلام (عين حاجته) ، أي بغيته ومطلوبه في ذلك الحين (وهو) ، أي المتجلي له في صورة النار (الإله) سبحانه من غير حلول ولا اتحاد في الصورة بها ،

لأن كل ما سوى الوجود الإلهي الحق عدم باطل ، فلا يمكن أن يحل أحدهما في الآخر أصلا كما مر بيانه غير مرة (ولكن) كان موسى عليه السلام (ليس يدريه) ، أي لا يعلمه ، يعني لا يعلم أن الحق تعالى تجلى له في صورة تلك النار التي رآها .
 

تم الفص الموسوي
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:44 am

26 - فص حكمة صمدية في كلمة خالدية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص الخالدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم  
26 - فص حكمة صمدية في كلمة خالدية
هذا فص الحكمة الخالدية ، ذكره بعد حكمة موسى عليه السلام لأنه آخر أنبياء بني إسرائيل كما أن موسى عليه السلام أوّلهم .
(فص حكمة صمدية) ، أي منسوبة إلى الصمد من أسماء اللّه تعالى ، وهو الذي يصمد إليه بالحوائج ، أي يقصد فيها (في كلمة خالدية .)
إنما اختصت حكمة خالد بن سنان بكونها صمدية لأن نبوّته كانت برزخية ، ففيها الكشف عن أحوال البرزخ الأخروي ، والجميع محتاجون إلى معرفة ذلك وبيانه لهم ، فهو مصمود إليه بذلك ومقصود في بيانه من حيث نفس الأمر ، وإن أضاعه قومه ، ولم يعتبروا منه ما هم محتاجون إليه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأمّا حكمة خالد بن سنان فإنّه أظهر بدعواه النّبوّة البرزخيّة.
فإنّه ما ادّعى الإخبار بما هنالك إلّا بعد الموت ، فأمر أن ينبش عليه ويسأل فيخبر أنّ الحكم في البرزخ على صورة الحياة الدّنيا ، فيعلم بذلك صدق الرّسل كلّهم فيما أخبروا به في حياتهم الدّنيا.
فكان غرض خالد عليه السّلام إيمان العالم كلّه بما جاءت به الرّسل ليكون رحمة للجميع .
فإنّه تشرّف بقرب نبوّته من نبوّة محمّد صلى اللّه عليه وسلم ، وعلم أنّ اللّه أرسله رحمة للعالمين. ولم يكن خالد برسول ، فأراد أن يحصل من هذه الرّحمة في الرّسالة المحمّديّة على حظّ وافر. ولم يؤمر بالتّبليغ ، فأراد أن يحظى بذلك في البرزخ ليكون أقوى في العلم في حقّ الخلق فأضاعه قومه . )
 
(وأما حكمة خالد بن سنان) عليه السلام العبسي من بني عبس . روي أن ابنته سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ :"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"[ الإخلاص : 1 ] .
فقالت : كان أبي يقرأ هذا . ذكره الدميري في حياة الحيوان في التفسير وقصته : أنه كان مع قومه يسكنون بلاد عدن من اليمن ، فخرجت نار عظيمة من مغارة هناك فأهلكت الزرع والضرع ، فالتجأ إليه قومه في دفع ذلك عنهم ، فأخذ خالد عليه السلام يضرب تلك النار بعصاه حتى رجعت هاربة منه إلى المغارة التي خرجت منها ،
 
ثم قال لأولاده : إني أدخل المغارة خلف هذه النار حتى أطفئها وأمرهم أن ينادوه بعد ثلاثة أيام تامة ، فإنهم إن نادوه قبل ثلاثة أيام فإنه يخرج ويموت ،
وإن صبروا ثلاثة أيام ونادوه يخرج سالما .
فلما دخل صبروا يومين واستفزهم الشيطان فلم يصبروا تمام ثلاثة أيام ، وظنوا أنه هلك ، فنادوا به فخرج عليه السلام من المغارة وعلى رأسه ألم حصل له من صياحهم به قبل الوقت
فقال : ضيعتموني وأضعتم قولي ووصيتي وأخبرهم بأنه يموت وأمرهم أن يقبروه ويرقبوه أربعين يوما ،
فإنه يأتيهم قطيع من الغنم يقدمها حمار أبتر ، أي مقطوع الذنب ، فإذا حاذى قبره ووقف فلينبشوا عليه قبره ، فإنه يقوم ويخبرهم بأحوال البرزخ وأحوال القبور عن يقين ورؤية ،
فانتظروا بعد موته أربعين يوما ، فجاء القطيع ويقدمه حمار أبتر فوقف حذاء قبره ، فأراد المؤمنون من قومه أن ينبشوا عليه كما أمر فامتنع أولاده من ذلك خوفا من العار لئلا يقال لهم أولاد المنبوش فحملتهم الحمية الجاهلية على ذلك فضيعوا وصيته وأضاعوه  . رواه الحاكم في المستدرك
 
فلما بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاءت بنت خالد فقال لها صلى اللّه عليه وسلم : " مرحبا يا بنت نبي أضاعه قومه " . رواه الحاكم في المستدرك
وروى الدارقطني : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : " كان نبيا فضيعه قومه " ، يعني خالد بن سنان .
وذكر غيره من العلماء : أن ابنته أتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فبسط لها رداءه فقال : " أهلا ببنت خير نبي " أو نحو ذلك .
 
ذكره الكواشي والزمخشري وغيرهما أنه كان بين محمد وعيسى عليهم السلام أربعة أنبياء من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي . وذكر البغوي أنه لا نبي بينهما . وقيل : إن خالد بن سنان هو النبي الذي دعا على العنقاء الطير الكبير المشهور لما شكا إليه قومه ما يلقون منها ، فانقطع نسلها وانقرضت ، فلا توجد إلى يوم القيامة .
 
وقيل : إنه كان وكّل به من الملائكة مالك خازن النار ، ذكره الدميري في حياة الحيوان في العنقاء (فإنه) ، أي خالدا عليه السلام (أظهر بدعواه) إلى اللّه تعالى (النبوّة) مفعول أظهر (البرزخية) ، أي المقتضية للأخبار عن أحوال البرزخ وهو العالم الذي بين الدنيا والآخرة الذي تنتقل إليه نفوس الأموات بعد موتهم ويبقون فيه على مراتب ما كانوا عليه في الدنيا إلى أن ينفخ في الصور وينتقلوا إلى الآخرة فيكونون في جنة أو في نار وإظهار ذلك منه بقوله : إنه يخبرهم بأحوال البرزخ والقبور ،
 
(فإنه) ، أي خالدا عليه السلام (ما ادعى الإخبار بما هنالك) ، أي بأحوال البرزخ والقبور (إلا بعد الموت) ، أي بعد موته ووضعه في القبر
(فأمر أن ينبش عنه) قبره ويسأل عن ذلك حتى يكون إخباره عن ذوق حقيقي وكشف حسي .
وقد أخبرت الأنبياء عليهم السلام عن أحوال البرزخ والقبور ، ولكن بطريق الوحي والخبر الإلهي الواصل إليهم ، لأن ذلك كان منهم قبل موتهم ،
وخالد عليه السلام أراد أن يخبر بعد موته وعوده إلى الدنيا ثانيا (فيخبر أن الحكم) الواقع (في البرزخ) من أحوال الموتى (على صورة) ما كانوا عليه من نتائج الأعمال والأحوال (الحياة الدنيا) طبق ما أمرتهم به الرسل عليهم السلام ونهتهم عنه من أحكام اللّه تعالى ،
وإن لم يشعروا بذلك وهم في الحياة الدنيا ، وإنما المؤمنون به بالغيب والكافرون كافرون به حتى يموتوا فيذوقونه ويشهدونه حسا وكشفا .
 
(فيعلم) بالبناء للمفعول (بذلك) ، أي بما يخبر عنه (صدق الرسل كلهم) من آدم إليه عليهم السلام (فيما أخبروا) ، أي الرسل عليهم السلام (به في حياتهم الدنيا) قبل موتهم مما هو نافع للمكلفين في أمور آخرتهم عند اللّه تعالى أو ضار لهم فيها من الأعمال والأقوال والأحوال ظاهرا وباطنا
(فكان غرض خالد صلى اللّه عليه وسلم) حصول إيمان ، أي تصديق العالم كله ، أي جميع المكلفين (بما جاءت به الرسل) عليهم السلام من عند اللّه تعالى وإزالة شبه الجميع عن أقوال الرسل وإخباراتهم عليهم السلام (ليكون) ، أي خالد عليه السلام (رحمة للجميع) ، أي الرسل وأممهم حيث اقتضت نبوّته تصديق الكل بالحق وزوال التكذيب به عنهم .
 
(فإنه) ، أي خالدا عليه السلام (تشرف) ، أي صار شريفا فارتفعت همته إلى هذا الأمر العظيم الشأن الجسيم ، الذي لم تتطاول إليه يد نبي من الأنبياء الماضين عليهم السلام أصلا (بقرب) ، أي بسبب قرب (نبوّته) ، أي خالد عليه السلام (من نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم) ، الذي قال اللّه تعالى فيه ":وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ" [ الأنبياء  : 107].
 
(وعلم) ، أي خالد عليه السلام بالوحي الكشفي (أن اللّه) تعالى (أرسله) ، أي أرسل محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وإن لم يظهر زمان إرساله لأنه حق كائن في وقته (رحمة للعالمين) .
(ولم يكن خالد) عليه السلام (برسول اللّه) وإنما كان نبيا من أنبياء بني إسرائيل ، ولهذا أضاعه قومه ، لأن اللّه تعالى أوحى إليه ولم يأمره بالتبليغ ، ولو أمره لما قدر على إضاعته أحد كما أمر المرسلين من أولي العزم وغيرهم عليهم السلام وتعرض لهم قومهم بالتكذيب والجحود وإبطال الحق الذي جاؤوا به والمنع من متابعتهم ، ولم يقدروا وقد أعجزهم اللّه تعالى وردهم مخذولين خاسرين خائبين في الدنيا والآخرة كما قال تعالى :"وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ( 171 ) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ( 172 ) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ" [ الصافات : 171 - 173 ] .
 
وكذلك اتباع المرسلين عليهم السلام من ورثتهم الذين هم خاصة أممهم ملحقون بهم أيضا أهل دعوة إلى اللّه تعالى صحيحة مأمورا بها كما قال تعالى :" قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي " [ يوسف : 108 ] ،
فلا يمكن رد دعواهم ولا إضاعتهم أصلا ، وإنما هم منصورون نافذ أمرهم ونهيهم على كل حال لقوله صلى اللّه عليه وسلم " فليبلغ الشاهد منكم الغائب ".
 
وقوله عليه السلام : « الشيخ في جماعته كالنبي في أمته » .  
""حديث : بجلوا المشايخ، فإن تبجيل المشايخ من إجلال الله، فمن لم يبجلهم فليس مني". رواه ابن حبان في التاريخ ، والديلمى عن أنس .""
 
ولكنهم كما يرثون الأنبياء في علومهم الإلهية وأحوالهم الكمالية يرثونهم أيضا في وقائعهم وقت التبليغ من تكذيب الناس لهم وأذيتهم والسخرية عليهم ، واللّه تعالى حافظهم وناصرهم على كل حال . والأنبياء الذين ليسوا بمرسلين لم يؤمروا بالتبليغ إلى الناس،
وإنما هم مأمورون بالعمل الصالح في أنفسهم والاستقامة عليه ونصح من تابعهم برضى خاطره وانقاد إليهم من الأمم ، فإذا خالفوهم وعصوهم فإنهم لم يؤمروا بمحاربتهم ولا قتالهم ولا التعرض لهم في شيء أصلا ولم يخبر تعالى أنه ناصرهم ولا حافظهم ممن كذبهم ، فلهذا قتل يحيى ونشر زكريا وكثير من بني إسرائيل عليهم السلام لتعرضهم للعصاة والكافرين وهم لا يؤمرون بذلك ، وخالد بن سنان عليه السلام كان كذلك فلهذا أضاعه قومه .
 
(فأراد) ، أي خالد عليه السلام (أن يحصل من هذه الرحمة) الواسعة لجميع العالمين الكائنة (في) زمان (الرسالة المحمدية) إلى كافة البرية (على حظ وافر) ونصيب متكاثر حيث يكون ممهدا لقواعدها ومشيدا لأركانها قبل مجيء زمانها .
 
وهذه كانت نيته وهي من أكبر الطاعات لكن لا خصوص إذن له بذلك من اللّه تعالى ، وإنما معه في ذلك الإذن العام بعمل الخير والطاعة فله ثواب ذلك ويحشر يوم القيامة على نيته وفعل طاعته .
 
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " يبعث الناس على نياتهم" . رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي هريرة رضي اللّه عنه وابن ماجه في سننه.
 
ولم يؤمر ، أي خالد عليه السلام بالتبليغ ، أي تبليغ ما أوحى اللّه تعالى إليه إلى قومه كما أمرت المرسلون عليهم السلام وورثتهم كما ذكرنا .
 
(فأراد) ، أي خالد عليه السلام (أن يحظى) ، أي يفوز (بذلك) ، أي بالحظ الوافر من الرحمة العامة في الرسالة المحمدية (في) بيان (أحوال البرزخ) والقبور (ليكون) ذلك (أقوى في العلم) الإلهي (في حق الخلق) فيعلمون به إذا بلغه إليهم صدق المرسلين عليهم السلام في جميع ما بلغوه عن اللّه تعالى من الحق (فأضاعه) ، أي خالدا عليه السلام (قومه) ، ولم يحفظوا وصيته كما سبق بيانه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولم يصف النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم قومه بأنّهم ضاعوا وإنّما وصفهم بأنّهم أضاعوا نبيّهم حيث لم يبلّغوه مراده .
فهل بلّغه اللّه أجر أمنيته ؟ فلا شكّ ولا خلاف أنّ له أجر أمنيته . وإنّما الشكّ والخلاف في أجر المطلوب ؛ هل يساوي تمنّي وقوعه عدم وقوعه بالوجود أم لا ؟
فإنّ في الشّرع ما يؤيّد التّساوي في مواضع كثيرة : كالآتي للصّلاة في الجماعة فتفوته الجماعة فله أجر من حضر الجماعة ؛ وكالمتمنّي مع فقره ما همّ عليه أصحاب الثّروة والمال من فعل الخيرات فله مثل أجورهم . ولكنّ مثل أجورهم في نيّاتهم أو في عملهم فإنّهم جمعوا بين العمل والنّيّة ؟ ولم ينصّ النّبيّ عليهما ولا على واحد منهما . والظّاهر أنّه لا تساوي بينهما . ولذلك طلب خالد بن سنان الإبلاغ حتّى يصحّ له مقام الجمع بين الأمرين فيحصل على الأجرين ، واللّه أعلم . )
 
(ولم يصف النبي صلى اللّه عليه وسلم قومه) ، أي قوم خالد عليه السلام (بأنهم ضاعوا وإنما وصفهم) ، أي قوم خالد عليه السلام (بأنهم أضاعوا نبيهم) خالدا عليه السلام (حيث لم يبلغوه) ، أي يوصلوه ويحققوا له (مراده) ، أي الذي أراده من ظهور أحكام نبوّة البرزخية (فهل بلغه) ، أي حقق (اللّه) تعالى في يوم القيامة (أجر) ، أي ثواب (أمنيته) ، أي قصده الحسن ومراده المطلوب له الذي هو من أشرف الطاعات .
(فلا شك ولا خلاف) لأحد أصلا (في أن له) ، أي لخالد عليه السلام (أجر أمنيته) ، أي ثواب قصده وإرادته لغرضه المذكور ، لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى كما مر (وإنما الشك والخلاف في) أن (الأجر المطلوب) ، أي المراد والمقصود (هل يساوي) ، أي يجعل سواء (تمنّي) فاعل يساوي أي إرادة (وقوعه) ونية ذلك بالقلب (عدم) مفعول يساوي (وقوعه) ، أي وقوع ذلك المطلوب
 
(بالوجود) ، أي وجود ذلك المطلوب (أم لا) ، يساوي التمني عدمه بالوجود (فإن في الشرع) المحمدي (ما يؤيد التساوي) بينهما من النصوص (في مواضع كثيرة كالآتي) ،
أي الساعي (للصلاة بالجماعة) في المسجد (فتفوته الجماعة) ، فيصلي وحده (فله أجر من حضر الجماعة) وكما قالوا إنه لا يشترط للثواب صحة العبادة ، بل يثاب على نيته وإن كانت عبادته فاسدة بغير تعمده كما لو صلى محدثا على ظن طهارته ،
وقالوا : إنه يستحب للحائض أن تتوضأ وقت الصلاة وتجلس في مسجد بيتها تسبح وتهلل كيلا تنسى العادة ، ويكتب لها ثواب أحسن صلاة كانت تصلي .
(وكالمتمني) من الناس (مع) وجود (فقره) ، وقلة في يده وإلا كان تمنيه كاذبا (ما) ، أي الذي (هم عليه أصحاب الثروة) ، أي الغنى الكثير والمال الوافر (من فعل الخيرات) كالصدقات والمبرات (فله)،
أي لذلك المتمني مع فقره (مثل أجورهم) ، أي أجور تلك الأغنياء في خيراتهم التي يفعلونها .
 
(ولكن له مثل أجورهم في نياتهم) لفعل تلك الخيرات أو مثل أجورهم (في عملهم) لتلك الخيرات (فإنهم) ، أي الأغنياء (جمعوا) في ذلك (بين العمل) للخيرات (والنية) لها (ولم ينص النبي صلى اللّه عليه وسلم عليهما) في الأخبار الواردة عنه في مثل ذلك (ولا على واحد منهما)، أي من الوجهين المذكورين (والظاهر) في ذلك (أنه) ،
أي الشأن (لا تساوي بينهما) ، أي بين نية العمل والعمل ، وربما يقال بالتساوي من وجه الثواب ليوافق ما ذكر ولو بعدم التساوي في المضاعفة ،
فإن العمل يضاعف والنية لا تضاعف لمن قال : لا إله إلا اللّه وهو يعدها مرة بعد مرة حتى قالها مائة مرة أو ألف مرة .
ومن قال بلسانه مرة واحدة لا إله إلا اللّه أو مائة مرة أو ألف مرة ، فإنه يساوي ذلك في الثواب ولا يساويه في المضاعفة ، وعلى كل حال فلا مساواة (ولذلك) ،
أي لأجل عدم المساواة (طلب خالد بن سنان) عليه السلام حصول (الإبلاغ ) له ،
أي توصيل ما أراده إلى قومه بالفعل مع نيته (حتى يصح له مقام الجمع بين الأمرين) الفعل والنية (فيحصل على الأجرين) ،
أي أجر الفعل المضاعف له أضعافا كثيرة وأجر النية غير المضاعف ويأبى اللّه تعالى إلا ما يريد ، لأنه موالي العبيد (واللّه أعلم) بحقائق الأحوال وإليه المرجع والمآل . 


.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:45 am

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الجزء الأول  

 27   - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
هذا فص الحكمة المحمدية ، ذكره بعد حكمة خالد بن سنان عليه السلام ، لأنه كان قريبا من زمانه ، ولأنه صلى اللّه عليه وسلم آخر الأنبياء وخاتم المرسلين ، فناسب أن يختم الكتاب كما بدىء بآدم عليه السلام ، ولأنه عليه السلام جامع لمشارب النبيين والمرسلين كلهم عليهم السلام ، فكان ذكره بعد تمام ذكرهم كالإجمال بعد التفصيل ، وكالفذلكة في الحساب الطويل .
قال رضي الله عنه :  (فص حكمة فردية) ، أي منسوبة إلى الفرد وهو الواحد الذي لا نظير له في كماله (في كلمة محمدية . )
إنما اختصت حكمة محمد صلى اللّه عليه وسلم بكونها فردية لانفراده صلى اللّه عليه وسلم بالفضيلة التامة والكرامة العامة والمرتبة السامية على الجميع ، والمزية التي من انتسب إليها بالمتابعة لا يضيع ، والشرف العالي في الدارين ، والقدر الرفيع الذي نصبت أعلامه في الخافقين ، ولقول المصنف قدس اللّه سره ولم يعلل حكمة غيرها إفرادا لها بالاعتناء والاهتمام بشأنها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إنّما كانت حكمته فرديّة لأنّه أكمل موجود في هذا النّوع الإنسانيّ ، ولهذا بدئ به الأمر وختم ، فكان نبيّا وآدم بين الماء والطّين ، ثمّ كان بنشأته العنصريّة خاتم النبيّين .
وأوّل الأفراد الثّلاثة ، وما زاد على هذه الأوّليّة من الأفراد فإنّها عنها .
فكان صلى اللّه عليه وسلم أدلّ دليل على ربّه، فإنّه أوتي جوامع الكلم الّتي هي مسمّيات أسماء آدم . فأشبه الدّليل في تثليثه . والدّليل دليل لنفسه.)
 
(إنما كانت حكمته) ، أي محمد صلى اللّه عليه وسلم (فردية لأنه) عليه السلام (أكمل موجود) على الإطلاق (في هذا النوع الإنساني) بالاتفاق (ولهذا بدىء) ، أي بدأ اللّه (به) صلى اللّه عليه وسلم الأمر الإلهي فهو أوّل مخلوق من حيث كونه نورا كما ورد في حديث جابر الذي أخرجه عبد الرزاق في مسنده : يا رسول اللّه أخبرني عن أوّل شيء خلقه اللّه تعالى قبل الأشياء ، قال : « يا جابر إن اللّه خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره » إلى آخر الحديث الطويل (وختم) ، أي به الأمر أيضا صلى اللّه عليه وسلم فلا نبي بعده ولا رسول بعده إلى يوم القيامة (فكان) صلى اللّه عليه وسلم (نبيا وآدم بين الماء والطين) كما ورد في الحديث وفي رواية : " كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد " . رواه الترمذي والطبراني عن ابن عباس .
 
وفي رواية : « كنت أوّل الناس في الخلق وآخرهم في البعث » رواه ابن سعد عن قتادة مرسلا و رواه الحاكم في المستدرك  و روى نحوه ابن أبي شيبة.
وفي رواية : « كنت أوّل النبيين في الخلق وآخرهم في البعث » رواه الحاكم في مستدركه ، يعني أنه صلى اللّه عليه وسلم كامل الخلقة شريف المقام والمرتبة من حين خلقه اللّه تعالى نورا إلى أن فصل مجمله ظهورا ، فخلق له القالب الآدمي ، واستعمله في ظهور صورته العظيمة ، ثم صفاه في مصافي قوالب الكاملين من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ، حتى أخرجه في هذا الوجود ، وأفاض به إناء المكارم والجود ، فكان في الآخر كما كان في الأوّل ، فهو الفرد الكامل الذي عليه المعول .
 
ثم كان صلى اللّه عليه وسلم بنشأته ، أي خلقته العنصرية ، أي المركبة من العناصر الأربعة : الماء والنار والتراب والهواء التي هي آخر الأصول المادية لخلق المولدات الأربعة الجمادية والنباتية والحيوانية والإنسانية .
قال رضي الله عنه :  (خاتم) بكسر التاء المثناة الفوقية وفتحها (النبيين) عليهم السلام كما قال تعالى :"ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ" [ الأحزاب:40 ].
(و) لأنه (أوّل الأفراد) جمع فرد (الثلاثة) التي قام بها كل شيء من محسوس أو معقول أو موهوم ، فإن كل شيء مما ذكر له عندنا روح نورانية ونفس برزخية وصورة ظلمانية ، فروح كل شيء في الملأ الأعلى العرش ، ونفسه في الحضرات الفلكية السماوية ، وصورته في العالم السفلي الأرضي ،
وهي أفراد ثلاثة على هذا الترتيب :
روح وجسم ونفس ، قلم ولوح وكتابة ، آخرة وبرزخ ودنيا ، جنة وأعراف ونار ، ذات وصفات أو أسماء وأفعال ، فهو صلى اللّه عليه وسلم أوّل هذه الأفراد الثلاثة .
(وما زاد على هذه الأوّلية من الأفراد) وهما الفردان الباقيان (فإنه) ، أي ذلك الزائد ناشيء (عنها) ، أي عن تلك الأولية من الثلاثة :
فالجسم من النفس ، والنفس من الروح ، والكتابة من اللوح ، واللوح من القلم ، والدنيا من البرزخ ، والبرزخ من الآخرة ، والنار من الأعراف ، والأعراف من الجنة ، والأفعال من الصفات أو الأسماء ، والصفات أو الأسماء من الذات ، فرجعت الأفراد إلى الفرد الواحد ، ثم رجعت الآخرة إلى الجنة ، والجنة إلى القلم ، والقلم إلى الروح ، والروح إلى الذات ، فهو الذات الجامعة ، والحضرة النورانية اللامعة .
 
وهذا الفصل يطول بيانه ويتفرع على أصله أغصانه ، وصاحب الذوق تكفيه الإشارة ، والمحجوب الغافل لا يفهم ولا بألف عبارة (فكان) ، أي النبي عليه السلام أول دليل على معرفة ربه سبحانه بأقواله وأحواله فإنه عليه السلام أوتي ،
أي آتاه اللّه تعالى جوامع الكلم ، أي الكلمات الجوامع التي هي مسميات أسماء آدم عليه السلام ، فقد علم اللّه تعالى آدم الأسماء كلها ، يعني أسماء كل شيء ، وعلم محمدا صلى اللّه عليه وسلم مسميات تلك الأسماء ،
فكان آدم عليه السلام مظهر الأسماء ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم مظهر الذوات ، والأسماء داخلة في الذوات ، فآدم عليه السلام حافظ الأسماء على الذوات ،
ومحمد صلى اللّه عليه وسلم حافظ الذوات مع الأسماء واسم آدم من جملة الأسماء ، وذاته من جملة الذوات كما أن اسم محمد من جملة الأسماء ، وذاته من جملة الذوات ، فآدم عليه السلام أبو الأسماء ومحمد صلى اللّه عليه وسلم أبو الذوات ، والأسماء صور الكلمات والذوات معانيها ، والأسماء عالم الأجسام ، والذوات عالم الأرواح ، والأجسام من الأرواح ، والأرواح من نور محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وهو من نور اللّه تعالى .
 
قال تعالى :"اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"، وهذا هو الأصل مثل نوره ، أي الذي خلق اللّه تعالى منه كل شيء كما ورد في الحديث السابق ذكره وهو نور محمد صلى اللّه عليه وسلمكَمِشْكاةٍهي آدم عليه السلامفِيها مِصْباحٌهو روحانية محمد صلى اللّه عليه وسلم "الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ" [ النور : 35 ] هي روح العبد المؤمن .
قال اللّه تعالى :"إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً"[ مريم : 93 ] ، وفي الحديث القدسي : " ما وسعتني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ".
قال اللّه تعالى :" إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ" [ الكوثر : 1 ] ، وهو نهر في الجنة ، وهو الكثرة في الوحدة ، وهي جوامع الكلم التي قال تعالى عنها : " قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً" [ الكهف : 109 ] ، وقال تعالى : " وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ[ لقمان : 27 ] وإن كان الأمر منقسما إلى قسمين .
 
كما قال تعالى :"مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ" [ إبراهيم : 24 ] ، ثم قال سبحانه : " وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ" [ إبراهيم : 26 ] وشبههما بالشجرة للتشاجر وكثرة التفريع واختلاف الجهات .
وقد قال تعالى :"وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ"[ هود118 - 119 ]
، أي للاختلاف أو للرحمة ، والاختلاف رحمة كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " اختلاف أمتي رحمة " . رواه نصر المقدسي في كتاب الحجة .
وفي رواية : « اختلاف أصحابي رحمة » .أخرجه الديلمي في مسند الفردوس فهم أصحابه بالنور الذي خلقوا منه .  


قال رضي الله عنه :  (فأشبه) صلى اللّه عليه وسلم (الدليل) العقلي (في تثليثه) حيث هو مركب من أمرين وثالث مكرر بينهما محمول في الأوّل ، موضوع في الثاني
كما نقول : العالم متغير فالعالم أمر ومتغير أمر آخر حمل على الأوّل ثم تقول وكل متغير حادث ، فتكرر متغير وتجعله موضوعا وتحمل عليه قولك حادث وهو أمر آخر ، فتصدق النتيجة من هذا الدليل العقلي التام ، وهو الموضوع في الأوّل المحمول في الثاني ،
وذلك قولك : العالم حادث .
قال رضي الله عنه :  (والدليل دليل لنفسه) يدل عليها ويوضحها عند المستدل به كما أنه دليل لغيره .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا كانت حقيقته تعطي الفرديّة الأولى بما هو مثلّث النشأة لذلك قال في باب المحبة التي هي أصل الوجود : «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» بما فيه من التّثليث . ثمّ ذكر النّساء والطّيب وجعلت قرّة عينه في الصّلاة .
فابتدأ بذكر النّساء وأخّر الصّلاة ، وذلك لأنّ المرأة جزء من الرّجل في أصل ظهور عينها .
ومعرفة الإنسان بنفسه مقدّمة على معرفته بربّه ، فإنّ معرفته بربّه نتيجة عن معرفته بنفسه لذلك قال صلى اللّه عليه وسلم : " من عرف نفسه فقد عرف ربّه ") .
 
قال رضي الله عنه :  (ولما كانت حقيقته) صلى اللّه عليه وسلم (تعطي الفردية الأولى) الروحية (بما) ، أي بسبب المظهر الواحد الذي (هو مثلث النشأة) ، أي الخلقة يعني خلقته قائمة على ثلاثة أصول هي أفراد في العالم ، وهي الأطباق الثلاث التي قال اللّه تعالى: "لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ" [ الانشقاق : 19 ] وهو الهيكل الشريف الذي ظاهره جسماني ، وباطنه روحاني ، وبرزخه نفساني ، وكل واحد من الثلاثة التي فيه عين الآخر من وجه ، وغيره من وجه وهي النقطة التي تركبت منها الحروف فكانت الكلمات .
 
قال رضي الله عنه :  (لذلك) ، أي لكونه عليه السلام مثلث النشء (قال الشيخ رضي الله عنه : ) النبي صلى اللّه عليه وسلم (في المحبة) الإلهية السارية بالتوجه الرباني من المقام الصمداني في جميع الكلمات والمعاني (التي هي أصل هذا الوجود) وداعية للمعاينة والشهود حبّب بالبناء للمفعول للعلم بالفاعل وهو اللّه تعالى المتجلي بكل شيء إليّ ولم يقل : أحببت لأنه عليه السلام محبوب اللّه تعالى ، والمحبوب محب باطنا ومحبوب ظاهرا ، والمحب محبوب باطنا ومحب ظاهرا .
 
قال تعالى :"يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ"[ المائدة : 54 ] فمن زادت معرفته باللّه تعالى عرف أن اللّه تعالى يحبه فهو محبوب اللّه تعالى ، ومن نقصت معرفته عن الأول وجد فيه المحبة المتوجهة من اللّه تعالى عليه .
وفي التحقيق توجهها منه تعالى على نفسه ، فظن أنها محبته هو للّه تعالى فادعاها باطنا ، فكان محبا للّه تعالى من عدم تحقيقه في ذلك وكل مدّع ممتحن .
وبهذا السبب ابتلى اللّه تعالى المحبين وامتحنهم ، وباعتبار كونهم في التحقيق محبوبين له سبحانه أكرمهم ونعمهم وحفظهم وحرسهم .
قال رضي الله عنه :  (من دنياكم) معشر الأغيار المحجوبين بالحظوظ النفسانية تحت الأستار عن لوامع الأنوار واستجلاء وجوه الأسرار ، وقد تبرأ صلى اللّه عليه وسلم من الدنيا ونسبها إليهم لزيادة معرفته النافية للجهالة والماحية للتوهم والتخيل والضلالة .
قال صلى اللّه عليه وسلم الدنيا موقوفة بين السماء والأرض كالشن البالي ، تنادي ربها تعالى منذ يوم خلقها : « يا رب لم تبغضني فيقول اللّه : اسكتي يا لا شيء اسكتي يا لا شيء » . رواه عبد اللّه بن الإمام أحمد بن حنبل في فوائد الزهد لأبيه عن أبي هريرة مرفوعا (ثلاث) « 1 » من الخصال وفى كتاب الزهد لابي دنيا .
وقال القسطلاني في مواهبه : إنه وقع في الإحياء للغزالي ، وتفسير آل عمران من الكشاف ، وكثير من كتب الفقهاء : « حبب إليّ من دنياكم ثلاث ، وقالوا أنه عليه السلام قال : ثلاث ولم يقل اثنتين : الطيب والنساء .
وذكرها ابن فورك في جزء مفرد ووجهها وأطنب في ذلك ، وهذا يسمى عندهم طي ، وهو أن يذكر جمع ثم يؤتى ببعضه ويسكت عن ذكر باقيه لغرض المتكلم ، وأنشد الزمخشري عليه قول الشاعر :كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم * من العبيد وثلث من مواليها وفائدة هذا الطي عندهم تكثير ذلك الشيء .
 
وقال ابن القيم وغيره : من رواه : حبب إليّ من دنياكم ثلاث فقد وهم ، ولم يقل صلى اللّه عليه وسلم : ثلاث ، والصلاة ليست من أمور الدنيا التي تضاف إليها .
 
وقال الحافظ ابن حجر في مخاريج الكشاف : إن لفظ ثلاث لم يقع في شيء من طرقه ، وزيادته تفسد المعنى . وقال العراقي في أماليه : ليست هذه اللفظة وهي ثلاث في شيء من كتب الحديث ، وهي مفسدة المعنى ، فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا ، وكذا صرح به الزركشي وغيره . انتهى .
 
وأقول : أما كون الصلاة ليست من أمور الدنيا ، لأنها عبادة مقصودة فظاهر ، وذكرها مع الطيب والنساء والإطلاق على الثلاثة أنها من أمور الدنيا بطريق التغليب في الكلام ليس بممنوع ، كما غلب من لا يعقل على من يعقل في قوله تعالى :سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ[ الحديد : 1 ] وبالعكس في قوله تعالى :وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً[ الرعد : 5 ] والكل مسبح للّه تعالى بدليل قوله :وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ[ الإسراء : 44 ] والكل ساجد بدليل قوله تعالى :"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ"[ الحج : 18 ] .
 
وإذا كان الحديث مخرجا من باب التغليب في الكلام ، فلا إشكال فيه بشيء ، وأيضا لم يقل النبي عليه السلام في الثلاث إنها :
الطيب والنساء والصلاة حتى يلزم ما ذكروا ، وإنما قال : « وجعلت قرة عيني في الصلاة » كما يأتي في الثالث قرة عينه في الصلاة لا الصلاة نفسها ، وقرة عينه فرحه بالصلاة ، وذلك الفرح من أمور الدنيا وإذا لم تثبت لفظة ثلاث في الرواية عند من نفاها ، فهي ثابتة عند من أثبتها كالغزالي والزمخشري وكثير من الفقهاء ،
والمصنف قدس اللّه سره ومن حفظ حجة على من لم يحفظ بما ، أي بسبب فيه ، أي في خلقته من التثليث المذكور .
 
ثم ذكر صلى اللّه عليه وسلم في بيان الثلاث الواقعة في كلامه النساء والطيب وجعلت قرة ، أي برد عينيه عليه السلام من حرارة دمع حزنهما كناية عن وجود الفرح في الصلاة ؛ ولهذا كان يقول عليه السلام لبلال : « أرحنا بها يا بلال ». رواه أبو داود في سننه والطبراني في الكبير ورواه غيرهما في الراحة بالصلاة والفرح فيها فابتدأ صلى اللّه عليه وسلم بذكر النساء وأخّر ذكر الصلاة وذلك ، أي تقديم النساء لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها ، أي ذاتها ،
لأن المرأة مخلوقة من الرجل وهي حوّاء خلقت من آدم عليه السلام ومعرفة الإنسان بجزئه مقدمة على معرفته بنفسه كلها ومعرفته بنفسه مقدمة على معرفته ،
أي الإنسان بربه تعالى فإن معرفته بربه سبحانه نتيجة عن معرفته ، أي الإنسان بنفسه والنتيجة مؤخرة عن مقدمتها لذلك ،
أي لكون الأمر كذلك قال النبي عليه السلام « من عرف نفسه بالفناء والاضمحلال عرف ربه » بالبقاء والوجود المحقق في كل حال ، أو من عرفها بالقيود والحدود عرفه بالإطلاق الحقيقي وكمال الوجود ، ومن عرفها بالتغير والتبدل بالأمثال عرفه بالدوام والثبوت من غير زوال ، ومن عرفها بالافتقار والاحتياج عرفه بالغنى المطلق وكمال الابتهاج ، أو من عرفها بالعجز عن معرفتها لأنها سر اللّه تعالى الظاهر عرفه بعجزه عنه بالأولى وإن ظهر في المظاهر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن شئت قلت بمنع المعرفة في الخبر والعجز عن الوصول فإنّه سائغ فيه ، وإن شئت قلت بثبوت المعرفة . فالأوّل أن تعرف أنّ نفسك لا تعرفها فلا تعرف ربّك ؛ والثّاني أن تعرفها فتعرف ربّك .
فكان محمّد صلى اللّه عليه وسلم أوضح دليل على ربّه ، فإنّ كلّ جزء من العالم دليل على أصله الّذي هو ربّه فافهم . )
 
قال رضي الله عنه :  (فإن شئت) يا أيها السالك (قلت بمنع المعرفة) للّه تعالى مطلقا (في هذا الخبر) الوارد (و) بحصول (العجز) من كل مؤمن (عن الوصول إلى جنابه) تعالى كما قال الصديق الأكبر رضي اللّه عنه « العجز عن درك الإدراك إدراك » .
وورد قول الملائكة عليهم السلام : « سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروف » ، أي المعرفة اللائقة بك لعجزنا عن ذلك فإنه ، أي هذا المعنى سائغ ، أي مستقيم صحيح فيه ، أي في هذا الخبر المذكور وإن شئت يا أيها السالك قلت بثبوت المعرفة للّه تعالى في هذا الخبر .
 
فالأوّل وهو منع المعرفة معناه أن تعرف يا أيها السالك أن نفسك لا تعرفها لامتناع معرفتها عنك بكثرة تنوّع أحوالها الباطنية والظاهرية وسرعة تغيرها وانتقالها في الأطوار على التوالي كما قال تعالى :وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [ نوح : 14].
فلا تعرف ربك المتجلي عليك بنفسك ، فإنك إذا لم تعرف آثار التجلي لا تعرف المتجلي بالطريق الأولى .
 
والثاني ، أي ثبوت المعرفة باللّه تعالى أن (تعرفها) ، أي نفسك بوجه من وجوهها في كل حال تكون فيه ولا تغفل عنها وتضبط الطور التي هي فيه قبل أن تنتقل إلى غيره وهكذا بالذوق والوجدان (فتعرف) بسبب ذلك (ربك) من وجه تجليه عليك في حال بعد حال وشأن بعد شأن ، كما قال تعالى :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ الرحمن : 29 ]
وقال :وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ[ يونس : 61 ] .
)فكان محمد صلى اللّه عليه وسلم أوضح دليل على ربه( تعالى لجمعيته الكلية للأفراد الثلاثة الأصلية جمعية كشف وشهود في جميع ذوات الوجود ، وإن كان كل شيء أيضا جامعا لكل شيء باعتبار وجود الأصول الثلاثة فيه كما ذكرناه ، ولكن لا يلزم منه تحققه بذلك في نفسه وخروجه عن توهمه وحسه .
 
قال تعالى :لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( 4 ) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ( 5 ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ( 6 ) [ التين : 4 - 6 ] .
ودخل في الإنسان المؤمن والكافر والمطيع والعاصي ؛ ولهذا صح الاستثناء بعده ، فليس في كل من خلق في أحسن تقويم يكشف له أنه مخلوق في أحسن تقويم بل يعرف ما معنى أحسن تقويم ؛ ولهذا قال تعالى باعتبار أهل الخصوص :وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ[ الإسراء : 105 ] .
وهو اللّه تعالى الذي قال سبحانه :مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ( 21 ) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ( 22 ) [ البروج: 20 - 22 ] .
 وهي الأمثال التي قال تعالى :وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ( 43 )
 
قال رضي الله عنه :  )فإن كل جزء من( أجزاء )العالم( المحسوس والمعقول والموهوم )دليل( واضح عند أهله )على( ثبوت )أصله الذي هو ربه( تعالى والجامع لجميع الأجزاء عن حس ووجدان وشهود وعيان دليل لا أوضح منه على ثبوت الأصل لتضمنه كل الأدلة )فافهم( يا أيها السالك معنى الحقيقة المحمدية السارية في كل شيء عند من تحقق بها بمعونة القدير المالك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنّما حبّب إليه النّساء فحنّ إليهنّ لأنّه من باب حنين الكلّ إلى جزئه ، فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحقّ في قوله في هذه النّشأة الإنسانيّة العنصريّة وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي[ الحجر : 29 ] .
ثمّ وصف نفسه بشدّة الشّوق إلى لقائه فقال للمشتاقين : « يا داود إنّي أشدّ شوقا إليهم » يعني للمشتاقين إليه . وهو لقاء خاصّ .
فإنّه صلى اللّه عليه وسلم قال في حديث الدّجّال إنّ أحدكم لن يرى ربّه حتّى يموت ؛ فلا بدّ من الشّوق لمن هذه صفته . )
 
) قال رضي الله عنه :  وإنما حبب إليه صلى اللّه عليه وسلم النساء فحنّ( ، أي شفق واشتاق إليهنّ لأنه ، أي ذلك الحنين )من باب حنين الكل إلى جزئه( ، كحنين النفس إلى نفسها فأبان ، أي أوضح وكشف صلى اللّه عليه وسلم بذلك الحنين المذكور )عن الأمر( الإلهي )في نفسه من جانب الحق( تعالى )في قوله( سبحانه )في( حق )هذه النشأة( ، أي الخلقة )الإنسانية العنصرية( ، أي المركبة من العناصر الأربعة ("فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي")[ الحجر : 29 ] فالروح مظهر معلوميته تعالى من نفسه لأنه تعالى عالم ومعلوم ، فمعلومه منه ظهر له بظهور ما يميزه عنه تعالى وهو الروح المنسوب إليه سبحانه كحوّاء عن آدم عليه السلام من قبل آدم ، وحوّاء عليها السلام كالروح الكلي والنفس الكلية والقلم الأعلى واللوح المحفوظ والعرش العظيم والكرسي والطبيعة الكلية والعناصر الأربعة والأركان والمواليد الأربعة .
 
قال تعالى :"وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"[ الروم : 27 ] فهو تعالى علم نفسه فعلم العالم ، فهو العالم والمعلوم والشاهد والمشهود ، وكل ما عداه تعالى فهو مراتب عدمية تميز بين حضراته سبحانه والأمر في نفسه على ما هو عليه لم يتغير أصلا ، والكلام كله بحسب المراتب لا غير .
 
قال رضي الله عنه :  (ثم وصف) تعالى (نفسه بشدة الشوق إلى لقائه) ، أي لقاء هذا الإنسان المنفوخ فيه من روحه تعالى (فقال) تعالى (للمشتاقين) إليه من عباده الصالحين فيما أوحى إلى داود عليه السلام كما ورد في الخبر عن نبينا صلى اللّه عليه وسلم : " يا داود إني أشد" ، أي أكثر ("شوقا إليهم ") .
"" أضاف المحقق :
لفظه عند الديلمي : « يقول اللّه عز وجل طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إليهم أشد شوقا » عن أبي الدرداء  ""
 
قال رضي الله عنه :  ( يعني للمشتاقين إليه) تعالى من عباده وهو ، أي الشوق المذكور (لقاء) إلهي (خاص) غير اللقاء العام في حصول كل شيء عنده تعالى من غير غيبة أصلا وإن غاب بعض الأشياء عن حضوره مع اللّه تعالى (فإنه) سبحانه لا يغيب عنه شيء فإنه ، أي الشأن أو نبينا صلى اللّه عليه وسلم .
(قال في حديث) خروج (الدجال) المشتمل على قصته (إن أحدكم) يا عباد اللّه المؤمنين (لن يرى ربه) تعالى (حتى يموت) بالموت الاضطراري أو الموت الاختياري .
 
وفي رواية : إنكم تروا ربكم عز وجل حتى تموتوا . أخرجه الطبراني عن أبي أمامة (فلا بد من الشوق) الشديد أيضا من العبد المؤمن (لمن هذه) ، أي صفته الشوق الجديد (صفته) لعبده المؤمن .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فشوق الحقّ لهؤلاء المقرّبين مع كونه يراهم فيحبّ أن يروه ويأبى المقام ذلك . فأشبه قوله :حَتَّى نَعْلَمَ [ محمد : 31 ] مع كونه عالما فهو سبحانه وتعالى يشتاق لهذه الصّفة الخاصّة الّتي لا وجود لها إلّا عند الموت .
فيبلّ بها شوقهم إليه كما قال تعالى في حديث التّردّد وهو من هذا الباب :
« ما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بدّ له من لقائي » فبشّره بلقائه .
وما قال له ولا بدّ له من الموت لئلا يغمّه بذكر الموت . )
 
قال رضي الله عنه :  (فشوق الحق) تعالى أي محبته العظيمة (لهؤلاء المقربين) إلى جنابه الشريف (مع كونه) تعالى (يراهم كما يرى غيرهم) ، من كل شيء واللّه بكل شيء بصير (فيحب) سبحانه (أن يروه) هم أيضا كما يراهم هو (ويأبى) ، أي يمتنع (المقام) في الحياة الدنيا على مقتضى التقدير الإلهي الأزلي (ذلك) ، أي أن يروه فإنهم لا يرونه إلا بعد موتهم اضطرارا واختيارا كما ذكر فأشبه ، أي هذا الشوق منه تعالى لمن يراهم قوله تعالى :"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ" [ محمد : 31 ] (مع كونه تعالى عالما) بذلك .
 
قال رضي الله عنه :  (فهو سبحانه وتعالى يشتاق) إليهم (لهذه الصفة) له تعالى (الخاصة التي) هي محبته سبحانه أن يروه (لا وجود لها) ، أي لهذه الصفة (إلا عند الموت) ، أي موتهم الاضطراري أو الاختياري (فيبلّ) ، أي يبرد من البلل وهو الرطوبة (بها) ، أي بالصفة المذكورة (شوقهم) ، أي العباد (إليه تعالى كما قال) النبي صلى اللّه عليه وسلم (في حديث التردد وهو من هذا الباب) ، أي باب شوقه تعالى إلى عباده المؤمنين (ما ترددت) ، أي فعلت فعل المتردد من التأني في الأمر وعدم الإقدام عليه من كمال اللطف والعناية (في شيء) من الأشياء (أنا فاعله) ، أي فاعل ذلك الشيء (مثل ترددي) ، أي لطفي وعنايتي (في قبض) روح (عبدي المؤمن يكره الموت) بنفسه البشرية لأنه يوحشها ويبطل ما هي مستأنسة به من أحوال الدنيا ، ويقطع عليها شهواتها وإن قلبه يحن إلى الموت ، لأنه تحفته كما ورد في الحديث (وأكره) من كمال اللطف والمحبة
 
قال رضي الله عنه :  (مساءته) ، أي حال السوء على العبد المؤمن كما قال سبحانه :اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ[ الشورى : 19 ] ، وهم عباد الاختصاص المضافون إليه تعالى ليخرج عبيد الهوى والدنيا وعبد الدرهم وعبد الدينار وعبد الخميصة وعبد الزوجة ، كما قال تعالى :إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا[ الحج : 38 ] ، أي الكاملين في الإيمان .
 
قال رضي الله عنه :  (ولا بد له) ، أي لذلك العبد المؤمن ("من لقائي" ) . رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في سننه الكبرى.
 
أي بذلك اللقاء الخاص (بشره بلقائه) ، أي بشر اللّه تعالى عبده المؤمن باللقاء الذي هو مطلوب المحب على كل حال . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من أحب لقاء اللّه لقاءه ومن كره لقاء اللّه كره اللّه تعالى لقاءه ». أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عائشة وعن عبادة بن الصامت ورواه غيرهما .
 
قال رضي الله عنه :  (وما قال) تعالى في الحديث المذكور(له) ، أي لعبده المؤمن (ولا بد له) ، أي لذلك العبد (من الموت لئلا يغمّه) ، أي يدخل عليه الغم (بذكر الموت) ، لأن ذكره مما يغم الإنسان باعتبار طبعه البشري .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا كان لا يلقى الحقّ إلّا بعد الموت كما قال عليه السّلام : « إنّ أحدكم لا يرى ربّه حتّى يموت » لذلك قال تعالى : « ولا بدّ له من لقائي » .
فاشتياق الحقّ لوجود هذه النّسبة .
يحنّ الحبيب إلى رؤيتي  .... وإني إليه أشدّ حنينا
وتهفو النّفوس ويأبى القضا   .... فأشكو الأنين ويشكو الأنينا
فلمّا أبان أنّه نفخ فيه من روحه ، فما اشتاق إلّا لنفسه .
ألا تراه خلقه على صورته لأنّه من روحه ؟ ).
 
قال رضي الله عنه :  (ولما كان) ، أي العبد المؤمن (لا يلقى الحق) تعالى باللقاء المذكور (إلا بعد) ذوقه (الموت) الاضطراري أو الاختياري (كما قال عليه السلام) في الحديث المذكور (" إن أحدكم") ، أي الواحد منكم يا عباد اللّه المؤمنين (لا يرى ربه حتى يموت) كما ذكرنا .
(لذلك) ، أي لأجل ذلك (قال تعالى ولا بد له) ، أي للعبد المؤمن ("من لقائي ") ، أي رؤيتي وشهودي ومعاينتي على التنزيه العام والتقديس التام (فاشتياق الحق) تعالى لعبده المؤمن قال رضي الله عنه :  (لوجود هذه النسبة) التي هي محبة أن يراه عبده المؤمن كما أنه هو يرى عبده المؤمن ومن نظم المصنف قدس اللّه سره في ترجمان أشواقه قوله من أبيات .
 
قال رضي الله عنه :  (يحن) ، أي يشتاق (الحبيب) ، أي المحبوب لي وهو اللّه تعالى من قوله تعالى :"يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ"[ المائدة : 54 ] (إلى رؤيتي له) ، أي كوني أراه أو رؤيته لي بي التي هي رؤيته لنفسه (وإني إليه) سبحانه (أشد) ، أي أكثر (حنينا) ، أي شوقا قبل انكشاف الأمر ، لأنه حال المحب من خلق حجاب المحبة فإذا انكشف الأمر وجد العبد المحب شوقه إلى ربه عين شوق الرب إليه فكانت الأشديّة في شوق الرب لا في شوق العبد كما مر في خبر داود عليه السلام يا داود إني أشد شوقا إليهم .
 
قال رضي الله عنه :  (وتهفو) ، أي تميل وتطلب تعجيل اللقاء من شدة الشوق وكثرة المحبة النفوس ، أي نفس المحبوب الحق ونفوس المحبين الذين هم عباده المؤمنون أو بالعكس ، لأنهم حضراته الكمالية ومظاهر تجلياته الجمالية (ويأبى) ، أي يمتنع من ذلك الأمر (القضاء) الأزلي والتقدير الإلهي لأنه تعالى لا تبديل لكلماته (فأشكو الأنين) ، أي كثرة الشوق إلى المحبوب (ويشكو) ، أي المحبوب أيضا (الأنينا) ، أي كثرة الشوق كذلك .
 
قال رضي الله عنه :  (فلما أبان) ، أي أوضح سبحانه (أنه نفخ فيه) ، أي في ذلك الإنسان الذي سوّاه (من روحه) وقد اشتاق إليه أيضا ، (فما اشتاق) تعالى (إلا لنفسه) الظاهرة له في مقدار ما تجلى بفاعليته بصورة عبده المؤمن (ألا تراه) سبحانه كما ورد في الحديث أنه تعالى (خلقه) ، أي خلق آدم الذي هو أوّل هذه النشأة الإنسانية (على صورته) سبحانه (لأنه) ، أي الإنسان منفوخ فيه (من روحه) تعالى فهو معلومه من نفسه ، فهو صورة نفسه في نفسه ، من غير اعتبار الجمود الوهمي ، المقتضي للالتباس في الخلق الجديد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسمّاة في جسده أخلاطا ، حدث عن نفخه اشتعال بما في جسده من الرّطوبة ، فكان روح الإنسان نارا لأجل نشأته ، ولهذا ما كلّم اللّه موسى إلّا في صورة النّار وجعل حاجته فيها ،
فلو كانت نشأته طبيعيّة لكان روحه نورا .
وكنّى عنه بالنّفخ يشير إلى أنّه من نفس الرّحمن ، فإنّه بهذا النّفس الّذي هو النّفخة ظهر عينه ، وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارا لا نورا ، فبطن نفس الحقّ فيما كان به الإنسان إنسانا .
ثمّ اشتقّ له شخصا على صورته سمّاه امرأة ، فظهرت بصورته فحنّ إليها حنين الشّيء إلى نفسه وحنّت إليه حنين الشّيء إلى وطنه . )
 
قال رضي الله عنه :  (ولما كانت نشأته) ، أي الإنسان من حيث جسمانيته (من هذه الأركان الأربعة) المتولدة في الجسد من مادة الغذاء وهي الدم والصفراء والسوداء والبلغم (المسماة في جسده) ، أي الإنسان (أخلاطا) جمع خلط بكسر الخاء المعجمة (حدث عن نفخه) ، أي الروح فيه (اشتعال بما) ، أي بسبب ما (في جسده) ، أي الإنسان (من الرطوبة) القابلة للتحلل بالحرارة التي فيه .
قال رضي الله عنه :  (فكان روح الإنسان) المنفوخ فيه (نارا) باعتبار ذلك وإلا فإن الروح منزهة عن أحكام الطبائع والعناصر لعلوها عن قيود الكيفيات الطبيعية وإن لبست صورة ذلك في نزولها لتدبير الجسد بمقتضياته (لأجل نشأته) ، أي خلقة الجسد (ولهذا) ، أي لكون الأمر كذلك (ما كلم اللّه) تعالى (موسى) عليه السلام إلا بعد ظهوره له (في صورة النار) من حيث تجليه عليه بها ، وهو تعالى على ما هو عليه ، ليعلمه بتجليه في روحه .
 
كذلك (وجعل) تعالى (حاجته) ، أي موسى عليه السلام (فيها) ، أي في النار لتتوفر دواعيه إلى طلبها ويرغب في تحصيلها فيجد مطلوبه ويواصل محبوبه (فلو كانت نشأته) ، أي الإنسان (طبيعية) كالملائكة عليهم السلام (لكان روحه) المنفوخ فيه نورا مناسبة للطافة نشأته لا نارا مناسبة لكثافتها .
 
قال رضي الله عنه :  (وكنى) تعالى (عنه) أي عن الإنسان (بالنفخ) الروحي (يشير) تعالى بذلك (إلى أنه) ، أي الإنسان مخلوق (من نفس) بفتح الفاء (الرحمن) المستوي على العرش أي المتجلي به ، فإنه أي الإنسان (بهذا النفس) بفتح الفاء (الذي هو النفخة ظهر عينه) ، أي الإنسان (وباستعداد) ، أي تهيؤ (المنفوخ فيه) ، وهو الجسد باشتماله على الأخلاط الأربعة كما سبق كان ذلك الاشتعال الحاصل بالنفخ (نارا لا نورا فبطن نفس) بفتح الفاء الحق تعالى أي أمره تعالى وظهر خلقه (فيما كان الإنسان به إنسانا) وهو النشأة العنصرية الممتدة من الأخلاط الأربعة المذكورة .
 
قال رضي الله عنه :  (ثم اشتق) تعالى ، أي استخرج (له) ، أي للإنسان منه (شخصا) إنسانيا (على صورته سماه) ، أي ذلك الشخص (امرأة فظهرت) ، أي الامرأة له منه (بصورته) ، أي الإنسان (فحنّ) ذلك الإنسان (إليها) مثل (حنين الشيء إلى نفسه وحنت) هي أيضا (إليه) مثل (حنين الشيء إلى وطنه) الذي تولد فيه وخرج منه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فحبّب إليه النّساء ، فإنّ اللّه أحبّ من خلقه على صورته وأسجد له ملائكته النّوريّين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلوّ نشأتهم الطّبيعيّة. فمن هناك وقعت المناسبة.
والصّورة أعظم مناسبة وأجلّها وأكملها : فإنّها زوج أي شفعت وجود الحقّ ، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرّجل فصيّرته زوجا .
فظهرت الثّلاثة : حقّ ورجل وامرأة ؛ فحنّ الرّجل إلى ربّه الّذي هو أصله حنين المرأة إليه . فحبّب إليه ربّه النّساء كما أحبّ اللّه من هو على صورته . )
 
قال رضي الله عنه :  (فحبّب إليه) صلى اللّه عليه وسلم (النساء) لهذا الأمر تخلقا بالصفة الإلهية (فإن اللّه) تعالى (أحب من خلقه على صورته) ، وهو آدم عليه السلام (وأسجد له ملائكته) عليهم السلام (النورانيين) وإن أبى عن السجود له الناري وهو إبليس حرمانا له من نيل الكمال بمعرفته المتجلي بأشرف المظاهر بين الجلال والجمال (على عظم قدرهم) ، أي الملائكة المذكورين ورفعة منزلتهم عند اللّه تعالى وعلو نشأتهم ، أي خلقتهم (الطبيعية فمن هناك)
، أي من هذا الشرف الذي جعله اللّه تعالى للإنسان (وقعت المناسبة) بينه تعالى وبين الإنسان مناسبة جعلية ، هي مقتضى الحكم الإلهي ، لا حقيقة المناسبة ، لأنها محال مطلقا (والصورة) الإلهية التي هي مجموع الذات والصفات والأسماء والأفعال والأحكام المخلوق عليها الإنسان بالقضاء والتقدير (أعظم مناسبة) بينهما (وأجلها) ، أي المناسبة (وأكملها) ،
 
أي أتمها إذ لا فرق بين صورة الرجل وصورة المرأة إلا بالفعل والانفعال ، وآلتهما المعدة لذلك ، كالصورة الآدمية في الإنسان الكامل المخلوق على طبق الحضرات الإلهية والمراتب الربانية قال رضي الله عنه :  (فإنها) ، أي تلك الصورة (زوج أي شفعت وجود الحق) تعالى المطلق حيث هي تقديره العدمي الظاهر بجميع حضراته ومراتبه (كما كانت المرأة شفعت بوجودها) وجود (الرجل فصيرته) ، أي الرجل بها (زوجا فظهرت) بسبب ذلك (الثلاثة) :
(حق ورجل وامرأة) أصلهما آدم وحواء عليهما السلام (فحن) ، أي اشتاق (الرجل) ، أي الإنسان الكامل في مرتبتي العلم والعمل
 
قال رضي الله عنه :  (إلى ربه) تعالى (الذي هو أصله) ، لأنه الظاهر عن أمره الكشف والشهود ، لا عن خلقه المحجوب بأستار الحدود مثل (حنين المرأة إليه) ، أي الرجل لظهورها منه وصدورها عنه (فحبب إليه) ، أي إلى ذلك الرجل الذي هو الإنسان الكامل ربه تعالى (النساء كما أحب اللّه) تعالى (من هو على صورته) الذي هو ذلك الإنسان الكامل .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:45 am

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الجزء الثاني  

 27   - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما وقع الحبّ إلّا لمن تكوّن عنه ، وقد كان حبه لمن تكوّن منه وهو الحقّ .
فلهذا قال : « حبّب » ولم يقل أحببت من نفسه لتعلّق حبّه بربّه الّذي هو على صورته حتّى في محبّته لامرأته ؛ فإنّه أحبّها بحبّ اللّه إيّاه تخلّقا إلهيا .
ولمّا أحبّ الرّجل المرأة طلب الوصلة أي غاية الوصلة الّتي تكون في المحبّة فلم يكن في صورة النّشأة العنصريّة أعظم وصلة من النّكاح ، ولهذا تعمّ الشّهوة أجزاءه كلّها ، ولذلك أمر بالاغتسال منه ، فعمّت الطّهارة كما عمّ الفناء فيها عند حصول الشّهوة . )
 
قال رضي الله عنه :  (فما وقع الحب) من الحق تعالى من الإنسان الكامل (إلا لمن تكوّن) بالتشديد ، أي خلق (عنه) ، فالإنسان الكامل خلق من الحق تعالى والمرأة من الإنسان الكامل فأحب الحق الإنسان الكامل وأحب الإنسان الكامل المرأة .
 
قال رضي الله عنه :  (وقد كان حبه) ، أي الإنسان الكامل (لمن تكوّن) ، أي خلق (منه وهو) ، أي ذلك المتكون منه ، أي من أمره سبحانه (الحق) تعالى (فلهذا) ، أي لما ذكر (قال) صلى اللّه عليه وسلم (حبّب) بالبناء للمفعول (ولم يقل أحببت من نفسه) ، أي بحب ناشىء منها لغرض من أغراضها وهذا هو الفارق بين الحب النفساني والحب الروحاني فإن الأوّل بقصد من النفس والثاني بوضع من الرب ، فيمكن الامتناع من الأوّل في ابتدائه دون الثاني (لتعلق حبه) ، أي محبته صلى اللّه عليه وسلم (بربه الذي هو) صلى اللّه عليه وسلم (على صورته) ، أي الرب سبحانه في كل شيء يحبه (حتى في محبته) عليه السلام (لامرأته فإنه) عليه السلام (أحبها) أي امرأته (بحب) ، أي بسبب محبته (اللّه) تعالى (إياه تخلقا إلهيا) في محبته تعالى لمن خلق على صورته كما ذكرنا (ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة) بينه وبينها ،
 
قال رضي الله عنه :  (أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة فلم تكن في صورة النشأة )، أي الخلقة (العنصرية) الجسمانية (أعظم وصلة من النكاح) ، أي الجماع الحاصل بين الرجل والمرأة ؛ (ولهذا) ، أي لكونه أعظم وصلة (تعم الشهوة) في حال النكاح (أجزاءه) ،
 
أي الرجل وكذا المرأة (كلها) ، أي الأجزاء (ولذلك) ، أي لكون الأمر كما ذكر (أمر) بالبناء للمفعول أي الرجل (بالاغتسال منه) ، أي من النكاح الذي هو غاية الوصلة في المحبة (فعمت الطهارة) من ذلك جميع البدن بالماء الطهور الذي هو أصل الخلقة الآدمية وغيرها (كما عم) جميع البدن أيضا (الفناء) ، أي استغراق الرجل (فيها) ، أي في المرأة (عند حصول الشهوة) حال الجماع .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنّ الحقّ غيور على عبده أن يعتقد أنّه يلتذّ بغيره . فطهّره بالغسل ليرجع بالنّظر إليه فيمن فني فيه ، إذ لا يكون إلّا ذلك .
فإذا شاهد الرّجل الحقّ في المرأة كان شهودا في منفعل ، وإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل .
وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكوّن عنه كان شهوده في منفعل عن الحقّ بلا واسطة .
فشهوده للحقّ في المرأة أتمّ وأكمل ، لأنّه يشاهد الحقّ من حيث هو فاعل منفعل ؛ ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصّة . )
 
قال رضي الله عنه :  (فإن الحق) تعالى (غيور) ، أي كثير الغيرة (على عبده) المؤمن أن (يعتقد) في نفسه ذلك العبد المؤمن (أنه يلتذ بغيره) تعالى وإن كان في الواقع لم يلتذ بغيره تعالى (فطهره) ، أي حكم تعالى بما أمره به من الطهارة أنه طاهر (بالغسل) بالماء المطلق وعند فقده بالصعيد الطيب ، لأنه مخلوق من الماء والإنسان مخلوق منهما ففي استعمالهما رجوع إلى أصله وتذكير من نسيانه وجهله (ليرجع) ، أي ذلك العبد (بالنظر إليه) تعالى
قال رضي الله عنه :  (فيمن) ، أي في الشخص الذي (فني) ذلك العبد (فيه) فيتحقق به ويكشف عن التباسه عليه بالصورة الظاهرة (إذ لا يكون) في ظهور الحق تعالى للحس (إلا ذلك) الأمر المجهول للعامة المكشوف للخاصة (فإذا شاهد الرجل الحق) تعالى ظاهرا متجليا (في) صورة (المرأة) ، لأنه القيوم عليها ، أي الممسك بقدرته لها من غير حلول ولا اتحاد ولا أمر من الأمور الباطلة التي يتوهمها القاصرون الناقصون عن معارف الكاملين المحققين (كان شهوده) ، أي ذلك الرجل للحق تعالى (في) مظهر للحق تعالى (منفعل) عن ذلك الرجل لأن المرأة مخلوقة من الرجل (وإذا شاهده) ، أي ذلك الرجل الحق تعالى (في نفسه) ، أي نفس ذلك الرجل (من حيث ظهور المرأة عنه) ، أي عن ذلك الرجل ، لأنها مخلوقة منه (شاهده) ، أي شاهد الحق تعالى (في) مظهر الحق تعالى (فاعل) لتلك المرأة لخلقها منه .
 
قال رضي الله عنه :  (وإذا شاهده) ، أي ذلك الرجل للحق تعالى (من نفسه) ، أي نفس ذلك الرجل (من غير استحضار صورة ما) ، أي الشخص الذي (تكوّن) بالتشديد ، أي خلق (عنه) ، أي عن ذلك الرجل وهي المرأة (كان شهوده) ، أي شهود ذلك الرجل للحق تعالى (في) مظهر (منفعل عن الحق) تعالى (بلا واسطة) ، وهي نفسه (فشهوده) ، أي الرجل (للحق) تعالى (في المرأة) المنفعلة عنه (أتم وأكمل) من الشهودين الآخرين.
 
قال رضي الله عنه :  (لأنه) ، أي الرجل حينئذ (يشاهد الحق) تعالى (من حيث هو) تعالى (فاعل) بصورة نفس ذلك الرجل لصورة المرأة (منفعل) بصورة المرأة فيكون هذا الشهود جامعا لشهود كونه فاعلا فقط في الأول ومنفعلا فقط في الثالث فهو نظير شهود الحق تعالى للإنسان الكامل المنفعل عنه سبحانه ، فإنه يشهد تعالى فيه نفسه من حيث هو فاعل منفعل (و) شهوده للحق تعالى (من نفسه) بلا امرأة فشهوده (من حيث هو منفعل) عنه تعالى (خاصة) كما أن شهوده للحق تعالى من حيث صدور المرأة عنه شهوده من حيث هو فاعل فقط كما سبق وفيهما القصور في الشهود .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلهذا أحبّ صلى اللّه عليه وسلم النّساء لكمال شهود الحقّ فيهنّ ، إذ لا يشاهد الحقّ مجرّدا عن الموادّ أبدا . فإنّ اللّه بالذّات غنيّ عن العالمين .
فإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ، ولم تكن الشّهادة إلّا في مادّة ، فشهود الحقّ في النّساء أعظم الشّهود وأكمله . )
 
قال رضي الله عنه :  (فلهذا) السبب (أحبّ صلى اللّه عليه وسلم النساء لكمال شهوده) عليه السلام (الحق) تعالى (فيهنّ) ، أي في النساء (إذ لا يشاهد) بالبناء للمفعول (الحق) تعالى (مجردا عن المواد) ، أي المظاهر الحسية أو المعنوية (أبدا) فإنه تعالى لكمال إطلاقه الحقيقي لا ينضبط في العقل والحس منه شيء أصلا فإذا انضبط كان ذلك مادة عقلية أو حسية فهي مظهر لتجليه تعالى ، غير ذلك لا يكون أصلا في الدنيا والآخرة . ولهذا ورد في حديث مسلم : « إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر » . رواه الترمذي في سننه ، ورواه الدارقطني ورواه غيرهما .
وفي رواية : « كما ترون الشمس ». رواية الدارقطني .
 
وهو تشبيه للمادة التي يكون بها التجلي ، وكذلك حديث التحول في الصور لأهل المحشر .
فهو ظهور في مادة ، أرأيت بأن هذه الرؤية الأخروية الواردة ثبوتها في الكتاب والسنة مقرونة باسم الرب تعالى دون غيره من الأسماء .
 
قال تعالى :" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ( 22 ) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ( 23 )" [ القيامة : 22 - 23 ] ،
وقال موسى عليه السلام في الدنيا : " رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ"[ الأعراف : 143 ] ،
وقال تعالى في الكافرين : " كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ"( 15 ) [ المطفّفين : 15].
وقال عليه السلام : « إنكم سترون ربكم » . واسم الرب من أسماء الإضافة فلا بد فيه من مربوب .
ففي حالة الرؤية يكون الحق تعالى ظاهرا بصفة ربوبيته شيء فذلك الشيء هو مادة ظهوره تعالى وأثر تجليه فتقع رؤية الحق تعالى فيه غير أن المظاهر مختلفة ولا أتم وأكمل مما ورد عن الشارع صلى اللّه عليه وسلم فإنه ورد عنه حديث : " حبب إليّ من دنياكم ثلاث " المذكور هنا وحديث : « رأيت ربي في صورة شاب أمرد » .
 
 وكان يأتي إليه جبريل عليه السلام في صورة دحية بن خليفة الكلبي وهو من أحسن أهل زمانه ، فمظاهر الحسن أكمل في الشهود من جميع المواد .
 
قال رضي الله عنه :  (فإن اللّه) تعالى (بالذات) ، أي من حيث هو بلا مظهر يكون أثرا من آثار أسمائه تعالى يتجلى به لعباده العارفين (غني عن العالمين) فلا ظهور له من هذا الوجه الذاتي من حيث ما هو عليه في نفسه للعالمين أصلا ولا يعرفه أحد من هذا الوجه لإفنائه كل شيء فلا عارف ولا معروف ، وهذا الكشف أوّل مقامات السالكين وهو آخرها وفيه قال صلى اللّه عليه وسلم : " كان اللّه ولا شيء معه وهو الآن على ما هو عليه ".
فإذا كان ظهور الأمر الإلهي من هذا الوجه الذاتي من غير مادة تكون مظهرا للحق تعالى عند العبد العارف به تعالى ممتنعا بحيث لا مطمع في ذلك أصلا لاقتضائه مساواة الرتب العدمية الاعتبارية للذات الوجودية .
 
قال تعالى :قُلْ جاءَ الْحَقُّ[ سبأ : 49 ] ، أي اتصف الصرف المطلق بتحققه لذاته من غير حدوث اتصاف له وزهق الباطل ، وهو مراتبه العدمية الاعتبارية الأزلية الأسمائية والإمكانية ، وهو الفناء في الوجود والاضمحلال في الشهود أن الباطل المذكور كان زهوقا ، وهذا معنى كونه زهق ، أي ظهر أنه زهوق من قبل ولا قبل ولا ظهور ولا بطون بل "هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ"[ ص:67] هم فيه مختلفون "كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ( 4 ) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ( 5 )"[ النبأ : 4 - 5 ] .
 
قال رضي الله عنه :  (ولم تكن الشهادة) والكشف عن الحق تعالى (إلا في مادة) كونية يتجلى بها للسالك (فشهود الحق) تعالى (في) مادة (النساء) وخصوص صورهنّ الجميلة (أعظم الشهود وأكمله) عند العارف المحقق .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأعظم الوصلة النّكاح وهو نظير التّوجّه الإلهيّ على من خلقه على صورته ليخلفه فيرى فيه صورته بل نفسه فسوّاه وعدله ونفخ فيه من روحه الّذي هو نفسه ، فظاهره خلق وباطنه حقّ .
ولهذا وصفه بالتّدبير لهذا الهيكل ، فإنّه تعالى :يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِوهو العلوّ ،إِلَى الْأَرْضِ[ السجدة : 5 ] وهو أسفل السّافلين ، لأنّها أسفل الأركان كلّها )
.
قال رضي الله عنه :  (وأعظم الوصلة) في هذا الشهود المقتضي للمحبة (النكاح ).
قال تعالى : " فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ" [ النساء :3]. أي ما أوجب لكم الكشف الإلهي ، لأن اللذة حينئذ روحانية جسمانية ، ثم قال تعالى :"مَثْنى" وهو الظهور الغيب في الشهادة والعالم الروحاني في الجسماني ("وَثُلاثَ") وهو توسط العالم البرزخي النفساني" وَرُباعَ"[ النساء : 2 ] ، وهو استجلاء برق الوجود الذاتي بالمحو والإثبات .
 
قال رضي الله عنه :  (وهو) ، أي النكاح في عالم الكون (نظير التوجه) الإلهي (الإرادي) في عالم العين الأزلية الإلهية (على) إيجاد (من خلقه) تعالى (على صورته) ، وهو الإنسان الكامل (ليخلفه) ، أي يخلف الحق تعالى في الأرض النفسانية (فيرى) الحق تعالى (فيه) ، أي في ذلك الخليفة (نفسه) سبحانه في مادة كونية (فسوّاه) ، أي جعله خلقا سويا وضعيفا قويا (وعدله) ، أي جعله معتدلا لتساوي أوصافه بجمعه بين الأضداد ، فهو موجود معدوم قديم حادث قادر عاجز حي ميت مريد مقهور سميع بصير أعمى متكلم أخرس .
 
وهكذا في إحصائه لجميع الأسماء الحسنى الإلهية (ونفخ فيه من روحه) تعالى (الذي هو) ، أي ذلك الروح (نفسه) ، بفتح الفاء أي نفس الحق تعالى . والنفخ هو اقتران صفاته تعالى القديمة الكاملة بصفات العبد الحادثة الناقصة (فظاهره) ، أي الإنسان الكامل (خلق) ، أي عدم وحدوث وعجز وموت وقهر وصمم وعمى وخرس ونحو ذلك (وباطنه) ، أي الإنسان الكامل (حق) ، أي وجود وقدم وقدرة وحياة وإرادة وسمع وبصر وكلام وغير ذلك .
 
قال رضي الله عنه :  (ولهذا) ، أي لكون الأمر كذلك (وصفه) ، أي وصف اللّه تعالى الإنسان الكامل على حسب الظاهر (بالتدبير لهذا الهيكل) ، أي جسده في أمر معاشه ومعاده فقال تعالى :"وَكُلُوا وَاشْرَبُوا" [ الأعراف : 31 ] ،
وقال :" وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" [ البقرة : 195 ] ، وقال :" وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ"[ الحشر : 18 ] ، إلى غير ذلك مما هو مطلوب من هذا الإنسان على وجه تدبيره لنفسه في أمور الدنيا وأمور الآخرة فإنه تعالى يدبر الأمر ،
 
كما قال سبحانه من السماء وهو العلو مما غاب عن الإنسان ولم يدخل تحت تصريفه كأحوال التقدير الأزلي الجاري عليه بمراد اللّه تعالى في كل حال من أحواله إلى الأرض وهو أسفل سافلين موضع النفوس ودواعيها والغفلة والحجاب لأنها ، أي الأرض أسفل الأركان الأربعة النار والهواء والماء والأرض كلها فلا أسفل من الأرض ، فلهذا ذكرت هنا ، فالمدبر في الكل هو اللّه تعالى بصور الأسباب السماوية والأرضية ،"فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً( 5 ) "[ النّازعات : 5 ] هي الأسباب السماوية والأرضية باللّه تعالى أيضا ، وهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن ثم لما تمّم مقام الجمع في هذه الآية أشار إلى مقام الفرق بقوله : وهو أي اللّه تعالى "بِكُلِّ شَيْءٍ" وهو العالم "عَلِيمٌ"[ البقرة : 29 ] وهو عالم صفاته وأسمائه ، فالقضية جمع وفرق ، لا بد من ذلك للمريد السالك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسمّاهنّ بالنّساء وهو جمع لا واحد له من لفظه ، ولذلك قال عليه السّلام : " حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : النّساء " ولم يقل المرأة .
فراعى تأخّرهنّ في الوجود عنه ، فإنّ النّسأة هي التّأخير قال تعالى :إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ[ التوبة : 37 ] والبيع بنسيئة يقول بتأخير . فلذلك ذكر النّساء .
فما أحبّهنّ إلّا بالمرتبة وأنّهنّ محلّ الانفعال . فهنّ له كالطّبيعة للحقّ الّتي فتح فيها صور العالم بالتّوجه الإرادي والأمر الإلهيّ الّذي هو نكاح في عالم الصّور العنصريّة ، وهمّة في عالم الأرواح النّوريّة ، وترتيب مقدّمات في المعاني للإنتاج . وكلّ ذلك نكاح الفرديّة الأولى في كلّ وجه من هذه الوجوه . )
 
قال رضي الله عنه :  (وسماهنّ) تعالى (بالنساء وهو) ، أي لفظ النساء (جمع لا واحد له من لفظه) إشارة إلى عدم اختلافهن في المظهرية الانفعالية وإلى تساويهن في نقصان الدرجة عن لفظ الرجال ، الذي هو جمع وله واحد من لفظه ، فيقال رجل (ولذلك) ، أي لعدم الواحد من لفظ النساء (قال النبي) عليه السلام (حبب إليّ من دنياكم ثلاث : النساء) .
 
(ولم يقل) عليه السلام (المرأة لأنه ) ليس واحد من لفظ النساء فيفوت ما يفهم من لفظ النساء .
 
قال رضي الله عنه :  (فراعى) صلى اللّه عليه وسلم بذكر النساء (تأخرهنّ في الوجود عنه) ، أي عن الرجل ، كما ورد : « أخروهن من حيث أخرهنّ اللّه » . رواه عبد الرزاق في المصنف والطبراني في المعجم الكبير ، عن عبد اللّه بن مسعود .
قال رضي الله عنه :  (فإن النساء) في اللغة (هي التأخير قال اللّه تعالى إنما النسيء ) فعيل والنساء بالفتح والمد .
 
والنّسء بفتح وسكون ، والنّسأ بفتحتين مصدر نسأه إذا أخره ، وكان الجاهلية يؤخرون حرمة الشهر إلى شهر آخر ، حتى كانوا إذا جاء شهر حرام وهم يتحاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر ، حتى رفضوا خصوص الشهر واعتبروا مجرد العدد زيادة في الكفر ، لأنه تحريم ما أحله اللّه تعالى وتحليل ما حرمه اللّه تعالى ، فهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم والبيع بنسيئة يقول قائل ذلك في بيانه أي بتأخير وتأجيل لثمنه .
 
فلذلك أي لأجله ذكر صلى اللّه عليه وسلم النساء في حديثه فما أحبهنّ ، أي النساء إلا بالمرتبة ، أي بسببها وهي كونهن تحت الرجال ، وللرجال عليهن درجة وأنهن ، أي النساء محل الانفعال ، أي قبول الفعل أو التأثر فهن ، أي النساء له ،
 
أي للنبي صلى اللّه عليه وسلم وكذلك لكل إنسان كامل (كالطبيعة) الكلية (للحق) تعالى ، أي لنزول أمره التي نعت للطبيعة (فتح) ، أي الحق تعالى (فيها) ، أي في الطبيعة (صور العالم) ،
أي المخلوقات كلها عاليها وسافلها محسوسها ومعقولها وموهومها (بالتوجه الإرادي) من الأزل
قال رضي الله عنه :  (والأمر الإلهي) الواحد (الذي هو نكاح في عالم الصور العنصرية) الحيوانية والإنسانية إن علم وإن لم يعلم (وهمة في عالم الأرواح النورية) منبعثة على التدبير أو التسخير في الملائكة والكاملين من البشر (وترتيب مقدمات) عقلية وقياسات يقينية (في) عالم (المعاني للإنتاج) ، أي استنباط العلوم الفكرية عند أهلها وكل ذلك المذكور بأنواعه الثلاثة (نكاح) الحضرة (الفردية الأولى) من مقام الروح الأعظم الكلي وهو روح اللّه تعالى الذي ملأ الوجود بأنواع الجود بل بنفسه في أشكال مختلفة كما ورد في الحديث :" إن للّه ملكا يملأ ثلث الكون ، وملكا يملأ ثلثيه وملكا يملأ الكون كله ". أورده المناوي في فيض القدير
(في كل وجه من هذه الوجوه) المذكورة كلياتها وجزئياتها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أحبّ النّساء على هذا الحدّ فهو حبّ إلهيّ ، ومن أحبّهنّ على جهة الشّهوة الطّبيعيّة خاصّة نقصه علم هذه الشّهوة ، فكان صورة بلا روح عنده ، وإن كانت تلك الصّورة في نفس الأمر ذات روح ولكنّها غير مشهودة .
لمن جاء امرأته أو أنثى حيث كانت لمجرّد الإلتذاذ ولكن لا يدري لمن فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ما لم يسمّه هو بلسانه حتّى يعلم كما قال بعضهم :
صحّ عند النّاس أنّي عاشق .... غير أن لم يعرفوا عشقي لمن
كذلك هذا أحبّ الالتذاذ فأحبّ المحلّ الّذي يكون فيه وهو المرأة ولكن غاب عنه روح المسألة ، فلو علمها لعلم بمن التذّ ومن التذّ . وكان كاملا . )
 
فمن أحب النساء على هذا الحد المذكور فهو إنسان كامل وحبه حب إلهي ظاهر فيه له ومنه للنساء ، (ومن أحبهنّ) ، أي النساء (على جهة الشوق الطبيعية خاصة) ، أي من غير انضمام معرفة إلهية كشفية إلى ذلك (نقصه) في نفسه (علم هذه الشهوة) التي يجدها فكان منه صورة نكاح (بلا روح )، أي أمر إلهي (عنده) ، أي في وجدانه وإن كانت تلك الصورة النكاحية في نفس الأمر من حيث لا يشعر هو بها (ذات روح )، أي أمر إلهي ، وكذلك عند كل ما في الوجود من محسوس ومعقول وموهوم ولكنها ، أي تلك الصور النكاحية (غير مشهودة) ذوقا وكشفا لمن جاء ، أي جامع امرأته أو أنثى غيرها كأمته حيث كانت ، أي تلك الأنثى مرادة عنده لمجرد الالتذاذ بنكاحها (ولكن لا يدري) ، أي ذلك المجامع للمرأة لمن كان ميله وحبه في ذلك الحال
 
قال رضي الله عنه :  (فجهل من نفسه) ، قبل أن يجهل من المرأة حيث لم يعرف نفسه ليعرف المتجلى عليه بها ، فيعرف المتجلي بالمرأة (ما) ، أي الأمر الذي (يجهل) ، أي يجهله (الغير منه) ، إذا رآه ولم يكن من العارفين ، فإن العارف يعرف من الجاهل ما لا يعرفه الجاهل من نفسه ، والجاهل يجهل من العارف ما يجهله الجاهل من نفسه (ما لم يسمه) ، أي ذلك الأمر (هو) ، أي الجاهل (بلسانه حتى يعلم) ذلك الغير منه ما جهله كما (قال بعضهم) ، أي بعض الشعراء من هذا المعنى المذكور .
 
قال رضي الله عنه :  (صح) ، أي ثبت وتحقق (عند الناس أني عاشق) لمحبوب لما وجدوا من المحبة والتولع (غير أنهم لم يعرفوا) ، أي الناس (عشقي لمن) ، أي لأي محبوب هو (كذلك هذا) ، أي المجامع للمرأة (أحب) مجرد (الالتذاذ) بالمرأة (فأحب المحل الذي يكون فيه) ذلك الالتذاذ
 
قال رضي الله عنه :  (وهو المرأة ولكن غاب عنه) فجهل (روح المسألة) النكاحية الصادرة منه لغلبة حيوانيته على إنسانيته ، فشارك البهائم في انهماكه في الشهوات وحرمانه علوم الأسرار الإلهية والمعارف الربانية (فلو علمها) ، أي روح المسألة لعلم في نفسه ذوقا إلهيا وكشفا ربانيا بمن التذ وكانت المرأة مظهرا للسر المكتوم (و) العالم المعلوم وعلم أيضا (من التذ) بذلك منه .
 
قال تعالى :" أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ" [ الرعد : 33 ]. وكان إنسانا كاملا لا حيوانا حاملا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكما نزلت المرأة عن درجة الرّجل بقوله :وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [ البقرة : 228 ] نزل المخلوق على الصّورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته .
فبتلك الدّرجة الّتي تميّز بها عنه ، بها كان غنيّا عن العالمين وفاعلا أوّلا ، فإنّ الصّورة فاعل ثان .
فما له الأوّليّة الّتي للحقّ . فتميّزت الأعيان بالمراتب : فأعطى كلّ ذي حقّ حقّه كلّ عارف .
فلهذا كان حبّ النّساء لمحمّد صلى اللّه عليه وسلم عن تحبّب إلهيّ وأنّ اللّه تعالى :أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [ طه : 50 ] وهو عين حقّه .
فما أعطاه إلّا باستحقاق استحقّه بمسمّاه ؛ أي بذات ذلك المستحقّ . )
 
قال رضي الله عنه :  (وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل) في أصل الخلقة بقوله تعالى ":وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ" [ البقرة : 228 ] ، أي على النساء (درجة) ، وهي رتبة الذكورة الفاعلة في رتبة الأنوثة المنفعلة لها (نزل) الإنسان الكامل (المخلوق على الصورة) الإلهية (عن درجة) ، أي رتبة (من أنشأه على صورته) وهو الحق تعالى لأن له رتبة الفاعلية وللإنسان رتبة المفعولية (مع كونه) ، أي الإنسان (على صورته) تعالى كما ورد في الحديث السابق ذكره .
 
قال رضي الله عنه :  (فتلك الدرجة التي تميز) ، أي الحق تعالى (بها) ، أي بتلك الدرجة (عنه) ، أي عن الإنسان الكامل بها ، أي بسببها كان ، أي الحق تعالى (غنيا عن) جميع (العالمين) من حيث ذاته ، فلا افتقار فيه إلى شيء أصلا (و) كان الحق تعالى أيضا (فاعلا أولا) ، أي في الرتبة الفاعلية الأولى الحقيقة من حيث أسماؤه (فإن الصورة) الإنسانية الكاملة فاعل ثان بالنظر إلى المراتب فما له ، أي للإنسان الكامل رتبة الفاعلية (الأوّلية التي) هي (للحق) تعالى وإن كان له رتبة الفاعلية الثانية المجازية.
 
قال رضي الله عنه :  (فتميزت الأعيان) كلها الكونية مع العين الإلهية (بالمراتب) الاعتبارية التقديرية ، والعين المطلقة الوجودية السارية في الكل قام بها الكل واتصفت بالكل وهي واحدة غنية عن العالمين (فأعطى كل ذي حق) من رب أو عبد (حقه) الواجب له (كل عارف) ، أي إنسان كامل لانفعاله عما هو فوقه في الدرجة وفعله لما هو تحته في الدرجة .
 
قال تعالى :"أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ" وهو أعم" ثُمَّ هَدى"[ طه: 50 ] وهو أخص فهو الإنسان الكامل والعالم المتحقق العامل (فلهذا كان حب النساء لمحمد صلى اللّه عليه وسلم) حاصلا فيه
 
قال رضي الله عنه :  (عن تحبّب إلهي) لا غرض نفساني، وكذلك الحال في كل وارث محمدي كامل إلى يوم القيامة .
قال تعالى :"قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ"( 108 ) [ يوسف : 108 ] .
 
تقديره : ومن اتبعني أيضا ليس من المشركين . ولم يصرح به لوجود الاتحاد في البصيرة الواحدة التي هما عليها بواسطة الاتباع ، فإنها مقتضية لذلك أيضا ، ولهذا نقل عن الإمام الشافعي رحمه اللّه تعالى : أنه كان يختار في الإيمان أن يقول : آمنت باللّه وبما جاء عن اللّه على مراد اللّه ، وآمنت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على مراد رسول اللّه ، ليلتحق باتحاد البصيرة واستكمال البريرة (وأن اللّه) تعالى: ("أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ")[ طه : 50 ] .
كما ورد في الآية المذكورة قريبا في كلامنا (وهو) ، أي الخلق الذي أعطاه تعالى كل شيء (عين حقه) ، أي حق ذلك الشيء ، ولكن لا يقال فيه تعالى أن الشيء عليه حقا ويقال خلق وفي غيره تعالى يقال ذلك (فما أعطاه) ، أي اللّه تعالى للشيء (إلا باستحقاق استحقه) ذلك الشيء (بمسمّاه أي بذات ذلك المستحق) ، يعني بما اقتضته ذاته من الاستحقاق للوجود من حيث افتقاره إليه أزلا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما قدّم النساء لأنّهنّ محلّ الانفعال ، كما تقدّمت الطبيعة على من وجد منها بالصّورة .
وليست الطّبيعة على الحقيقة إلّا النّفس الرّحمانيّ ، فإنّه فيه انفتحت صور العالم أعلاه وأسفله لسريان النّفخة في الجوهر الهيولانيّ في عالم الأجرام خاصّة .
وأمّا سريانها لوجود الأرواح النّوريّة والأعراض فذلك سريان آخر . )
 
قال رضي الله عنه :  (وإنما قدم) صلى اللّه عليه وسلم (النساء) على بقية الثلاث التي حببت إليه (لأنهن) ، أي النساء
 
قال رضي الله عنه :  (محل الانفعال) عن الرجال (كما تقدمت الطبيعة) الكلية التي هي محل الانفعال عن الأمر الإلهي (على من وجد منها) ، أي من الطبيعة (بالصورة) الزائدة عليها في كل ما وجد (وليست الطبيعة) المذكورة (على الحقيقة إلا النّفس) بفتح الفاء (الرحماني) ، أي المنسوب إلى الرحمن كما ورد به الحديث المذكور فيما سبق (فإنه) ، أي النفس الرحماني (فيه انفتحت) من طي عدمها صور العالم كله أعلاه وأسفله لسريان النفخة الروحية الإلهية في الجوهر الهيولاني العنصري المنقسم إلى أربعة أقسام وهي الأركان الأربعة التي هي مادة في عالم الأجرام كلها خاصة فيسمى ذلك السريان روحا جماديا ونباتيا وحيوانيا وإنسانيا .
 
قال رضي الله عنه :  (وأما سريانها) ، أي النفخة المذكورة في عالم الطبيعة (لوجود الأرواح النورية الملكية و) لوجود (الأعراض) بالعين المهملة والضاد المعجمة جمع عرض بفتحتين ، وهي الصفات المتنقلة بالحوادث كالألوان والطعوم والروائح والأضواء والظلم ، ونحو ذلك مما هو من تدبيرات الأرواح النورية العلوية في العوالم السفلية .
(فذلك) السريان المذكور (سريان آخر) مرتب على الأوّل ومنفتح معه من النفس الرحماني وبه تم التدبير وكمل التسخير .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّه صلى اللّه عليه وسلم غلّب في هذا الخبر التّأنيث على التّذكير لأنّه قصد التّهمّم بالنّساء فقال : « ثلاث » ولم يقل « ثلاثة » بالهاء الّذي هو لعدد الذّكران ، إذ همّه فيها .
ذكر الطّيب وهو مذكّر . وعادة العرب أن تغلّب التّذكير على التأنيث فتقول « الفواطم وزيد خرجوا » ولا تقول خرجن . فغلّبوا التّذكير - وإن كان واحدا - على التّأنيث وإن كنّ جماعة ؛ وهو عربيّ صلى اللّه عليه وسلم فراعى المعنى الّذي قصد به في التّحبّب ما لم يكن يؤثر حبّه.)
 
قال رضي الله عنه :  (ثم إنه) ، أي النبي (عليه السلام غلّب) بالتشديد (في هذا الخبر) ، أي الحديث المذكور (التأنيث على التذكير) في إشارة العدد (لأنه) عليه السلام (قصد التهمّم) ، أي الاعتناء (بالنساء فقال) في التغليب المذكور (ثلاث) من غير هاء لإرادة المعدود المؤنث (ولم يقل ثلاثة بالهاء الذي هو لعدد الذكران) بعكس القاعدة (وفيها) ، أي الثلاث (ذكر الطيب وهو مذكر وعادة العرب أن تغلب التذكير على التأنيث) في الكلام (فتقول الفواطم) جمع فاطمة اسم امرأة (وزيد خرجوا) بتغليب المذكر وإن كان واحدا وهو زيد فتأتي بواو جماعة المذكر كما تقول الرجال خرجوا
 
) قال رضي الله عنه :  ولا تقول( الفواطم وزيد )خرجن( بتغليب المؤنث على المذكر كما تقول النسوة خرجن فغلبوا ، أي العرب التذكير وإن كان واحدا على التأنيث وإن كن جماعة وهو ، أي هذا القول عربي فصيح فراعى ، أي اعتبر (صلى اللّه عليه وسلم المعنى الذي قصد) بالبناء للمفعول ، أي قصده للّه تعالى يعني أراده عليه السلام )به( ، أي بذلك المعنى )في( ذكر )التحبيب( ، أي تحبيب اللّه تعالى إليه صلى اللّه عليه وسلم في قوله : حبب إلي ما ، أي الأمر الذي لم يكن صلى اللّه عليه وسلم يؤثر ، أي يقدم ويختار حبّه على غيره من قبل نفسه باعتبار غرضها أصلا وذلك المعنى هو ما تقدم من شهود الحق تعالى في المرأة من حيث هو فاعل منفعل مما هو أكمل ما يكون .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعلّمه اللّه ما لم يكن يعلم وكان فضل اللّه عليه عظيما . فغلّب التّأنيث على التّذكير بقوله : « ثلاث » بغير هاء فما أعلمه صلى اللّه عليه وسلم بالحقائق ، وما أشدّ رعايته للحقوق !
ثمّ إنّه جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التّأنيث وأدرج بينهما التّذكير ، فبدأ بالنّساء وختم بالصّلاة وكلتاهما تأنيث ، والطّيب بينهما كهو في وجوده ، فإنّ الرّجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه ، فهو بين مؤنّثين : تأنيث ذات ، وتأنيث حقيقيّ .
كذلك النّساء تأنيث حقيقيّ والصّلاة تأنيث غير حقيقيّ والطّيب مذكّر بينهما كآدم بين الذّات الموجود هو عنها وبين حواء الموجودة عنه ، وإن شئت قلت الصّفة فمؤنثة أيضا ، وإن شئت قلت القدرة فمؤنّثة أيضا ، فكن على أيّ مذهب شئت ، فإنك لا تجد إلّا التّأنيث يتقدّم حتّى عند أصحاب العلّة الّذين جعلوا الحقّ علّة في وجود العالم والعلّة مؤنّثة . )
 
قال رضي الله عنه :  (فعلمه) صلى (اللّه) عليه وسلم اللّه تعالى (ما لم يكن يعلم) من الأسرار والعلوم (وكان فضل اللّه) ، أي إكرامه وإنعامه وإحسانه عليه صلى اللّه (عليه) وسلم (عظيما) كما قال له تعالى في القرآن وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً[ النساء : 113 ] قال رضي الله عنه :  (فغلّب) إشارة (التأنيث) في العدد (على) إشارة (التذكير فيه بقوله : ثلاث بغير هاء) لما علمه اللّه تعالى من السر العظيم والنبأ الجسيم (فما أعلمه) ، أي أكثر علمه (صلى اللّه عليه وسلم بالحقائق الإلهية وما أشد رعايته للحقوق) الربانية ثم إنه صلى اللّه عليه وسلم (جعل الخاتمة )، أي آخر الثلاث في الذكر وهي الصلاة (نظيرة الأولى) ، أي النساء (في التأنيث وأدرج بينهما) ، أي بين الأولى والأخيرة التذكير بذكر الطيب (فبدأ) صلى اللّه عليه وسلم (بالنساء وختم بالصلاة وكلتاهما تأنيث) ، كما هو الظاهر (والطيب بينهما) ، أي بين النساء والصلاة
 
قال رضي الله عنه :  (كهو) ، أي كالنبي صلى اللّه عليه وسلم من حيث هو إنسان كامل (في وجوده) وأما بيانه .
قال رضي الله عنه :  (فإن الرجل مندرج) ، أي واقع في الوسط بين ذات الإلهية (ظهر هو) ، أي ذلك الرجل (عنها) ، أي عن تلك الذات باعتبار أوصافها وأسمائها (وبين امرأة ظهرت) تلك المرأة (عنه) أي عن ذلك الرجل يعني عن سببية وبواسطة (فهو) ، أي الرجل مدرج بين مؤنثين تأنيث لفظ ذات وهو مجازي (وتأنيث حقيقي كذلك النساء) الواقع في الحديث (تأنيث حقيقي) لأنهنّ ذوات فروج والصلاة تأنيث غير حقيقي) .
وإن كان بالتاء فإن التأنيث الحقيقي ما له فرج كالأنثى (والطيب مذكر بينهما ، أي بين المؤنثين.
 
قال رضي الله عنه :  (كآدم) عليه السلام (بين الذات) الإلهية (الموجود هو) ، أي آدم عليه السلام (عنها وبين حوّاء الموجودة) هي (عنه وإن شئت قلت) عوض الذات الموجود آدم عليه السلام عنها (الصفة) الإلهية التي توجهت على إيجاده (فمؤنثه أيضا) بالتاء (وإن شئت قلت القدرة) أيضا (فمؤنثة أيضا فكن ).
 
يا أيها السالك فيما وجد عنه آدم عليه السلام (على أي مذهب شئت) من مذاهب الناس ، أي اعتبر ذلك (فإنك لا تجد إلا التأنيث) في ذلك (يتقدم) لك (حتى عند أصحاب العلة) وهم حكماء الفلاسفة (الذين جعلوا الحق) تعالى (علة في وجود العالم) ، أي صدور المخلوقات عنه ، وسموه عندهم علة العلل والعلة مؤنثة في اللفظ أيضا .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:46 am

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الجزء الثالث 

 27   - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا حكمة الطّيب وجعله بعد النّساء فلما في النّساء من روائح التّكوين ، فإنّه أطيب الطّيب عناق الحبيب . كذا قالوا في المثل السائر .
ولمّا خلق عبدا بالأصالة لم يرفع رأسه قطّ إلى السّيادة ، بل لم يزل ساجدا واقفا مع كونه منفعلا حتّى كوّن اللّه عنه ما كوّن . فأعطاه رتبة الفاعليّة في عالم الأنفاس الّتي هي الأعراف الطّيّبة . فحبّب إليه الطّيب : فلذلك جعله بعد النّساء . )
 
قال رضي الله عنه :  (وأما حكمة) ذكر (الطيب وجعله بعد) ذكر (النساء فلما في النساء من روائح التكوين) ، أي الإيجاد الإلهي للمخلوقات (فإنه) ، أي الشأن (أطيب الطيب) ، أي ما يكون منه (عناق) ، أي التزام (الحبيب) خصوصا الحبيب الحقيقي (كذا قالوا في المثل) بفتحتين (السائر) بين الناس لمعنى العام (ولما خلق) نبيا صلى اللّه عليه وسلم (عبدا) خالصا للّه تعالى (بالأصالة) ، أي الاستقلال دون التبعية لشيء من الدنيا والآخرة أي لاعتبار احتياجه إلى اللّه تعالى في أمر من الأمور مطلقا .
 
قال تعالى : وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) سورة الجن .
 
فسماه عبدا للاسم الذاتي الجامع (لم يرفع رأسه) صلى اللّه عليه وسلم (قط) ، أي لم يلتفت ولم يرغب (إلى) شائبة من (السيادة) فعبوديته للّه تعالى محضة (بل لم يزل) عليه السلام (ساجدا) بين يدي اللّه تعالى كما قال تعالى :وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ( 219 ) [ الشعراء : 219 ] .
 
قال رضي الله عنه :  (واقفا) في خدمة مولاه كما قام من الليل حتى تورمت قدماه فأنزل اللّه تعالى عليه :" طه ( 1 ) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ( 2 ) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى( 3 )"[ طه : 1 - 3 ] ،
أي إلا أن تذكر بالقرآن تذكرة لكل من يخشى اللّه تعالى من الناس (من كونه) صلى اللّه عليه وسلم (منفعلا) أي مخلوقا عن قدرة اللّه تعالى (حتى كوّن) بالتشديد أي خلق (اللّه) تعالى (عنه) صلى اللّه عليه وسلم ما كوّن ، أي خلق من نسائه عليه السلام كما أشار إليه صلى اللّه عليه وسلم بقوله : « استوصوا بالنساء خيرا ، فإن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء خيرا » . رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة .
 
(فأعطاه) اللّه تعالى لنبينا عليه السلام (رتبة الفاعلية في عالم الأنفاس) ، وهو الخلق الجديد المتكرر مع اللمحات من غير التباس ، كما أعطى تعالى ذلك لمن هو دونه عليه السلام آصف بن برخيا وزير سليمان عليه السلام ، فقال :أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ[ النمل:40 ].
 وأتى به كما قال بأمر اللّه تعالى الذي هو "كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ"[ القمر : 50 ] .
بأنه كان من أولي الأمر التي هي ، أي الأنفاس الأعراف جمع عرف بالفتح وهو الرائحة الطيبة الفائحة من حضرة الحق تعالى .
 
(فحبب إليه) صلى اللّه عليه وسلم (الطيب) ، لأنه يذكر ذلك في الجملة ، ويشبهه عنده على قرب منه وعدم غفلة عنه (فلذلك جعله) ، أي الطيب في الذكر (بعد النساء) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه:  (فراعى الدّرجات الّتي للحقّ في قوله :رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ[ غافر :15].  لاستوائه عليه باسمه الرّحمن .
فلا يبقى فيمن حوى عليه العرش من لا تصيبه الرّحمة الإلهيّة : وهو قوله تعالى :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[ الأعراف : 156 ] ، والعرش وسع كلّ شيء .
والمستوي الرّحمن فبحقيقته يكون سريان الرّحمة في العالم كما قد بيّناه في غير موضع من هذا الكتاب ومن الفتوح المكّي . )
 
قال رضي الله عنه :  (فراعى) صلى اللّه عليه وسلم (الدرجات التي للحق) تعالى فإن عالم الأمر الذي كني عنه بالأنفاس لا يتبين وتفوح به روائح الإيجاد الإلهي إلا بعد عالم الخلق لأنها درجات بعضها فوق بعض وإن كان الأعلى مقدما على الأسفل (في قوله) تعالى (رفيع الدرجات ذو) ، أي صاحب (العرش) وهو غاية الدرجات في الرفعة (لاستوائه تعالى عليه) ، أي على العرش (باسمه الرحمن) الجامع لجميع الأسماء الحسنى كما قال تعالى :الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى( 5 ) [ طه : 5 ] .
 
وقال تعالى :"قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى"[الإسراء:110].
(فلا يبقى فيما حواه العرش) الحاوي لكل مخلوق من ، أي شيء (لا تصيبه الرحمة الإلهية) المتجلي بها الرحمن تعالى (وهو) ، أي هذا المعنى هو معنى (قوله تعالى :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[ الأعراف : 156 ] والعرش وسع كل شيء )، إذ لا شيء خارج عنه أصلا (والمستوي) ، أي المستولي والمتجلي عليه هو (الرحمن) سبحانه كما في الآية .
 
قال رضي الله عنه :  (فبحقيقته) ، أي الاسم الرحمن (يكون سريان) ، أي شمول (الرحمة) الإلهية (في العالم) جميعه (كما قدمنا في غير موضع) واحد بل في مواضع متعددة (في هذا الكتاب) الذي هو فصوص الحكم (ومن) كتاب (الفتوح المكية) ، أي الفتوحات المكية أيضا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد جعل الطّيب في هذا الالتحام النّكاحي في براءة عائشة فقال :الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ[ النور : 26 ] . فجعل روائحهم طيّبة وأقوالهم صادقة لأنّ القول نفس ، وهو عين الرّائحة فيخرج بالطّيّب والخبيث على حسب ما يظهر في صورة النّطق .
فمن حيث إنه إلهيّ بالأصالة كلّه طيّب : فهو طيّب ؛ ومن حيث ما يحمد ويذمّ فهو طيّب وخبيث . )
 
وقد جعل الطيب اللّه تعالى في هذا الالتحام ، أي الانضمام والاتحاد النكاحي ، فإن النكاح معناه الضم والجمع والالتحام بين الأشياء .
 
قال الشاعر :إن القبور تنكح الأيامى  .... النسوة الأرامل اليتامى
أي تجمعهن ، وتضمهن ، وتسترهن بالتحامها عليهن ، حيث ذكر تعالى الطيب (في) بيان (براءة عائشة) أم المؤمنين زوجة النبي صلى اللّه عليه وسلم مما رماها به المنافقون مما هي مطهرة منه (رضي اللّه عنها) فقال تعالى : ("الْخَبِيثاتُ") من النساء ("لِلْخَبِيثِينَ") من الرجال أي كائن ذلك في تقدير اللّه تعالى وخلقه على طبق تقديره سبحانه ولا بد من المناسبة في ذلك لأنها العدل الإلهي والوزن المستقيم كما قال تعالى : ("وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ") [الحجر : 19 ] فالمناسبة كائنة من النساء للرجال وبالعكس أيضا .
كما قال الشيخ رضي الله عنه :  ("وَالْخَبِيثُونَ") من الرجال ("لِلْخَبِيثاتِ") من النساء ("وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ") كذلك ("أُولئِكَ")، أي الطيبات من النساء والطيبون من الرجال (" مُبَرَّؤُنَ") بتغليب الرجال لشرفهم ("مِمَّا يَقُولُونَ") [ النور : 26 ] ، أي المنافقون .
(فجعل) اللّه تعالى (روائحهم) ، أي الطيبات والطيبين المبرئين (طيبة) ، أي زكية حسنة لا خبث فيها ولا قبح (لأن القول نفس) المتكلم بفتح الفاء ، أي الهواء الخارج من فمه (وهو) ، أي النفس (عين الرائحة فيخرج) ، أي النفس من التنفس به (بالطيب) من القول (وبالخبيث) منه (على حسب ما يظهر) ، أي ذلك القول متصفا (به في صورة النطق فمن حيث هو) ، أي ذلك النطق إلهي كما قال تعالى الذي أنطق كل شيء بالأصالة ، أي من دون شائبة دعوى نفسانية إذ الأصل نسبة الأمور إلى خالقها كله ، أي القول (طيب) لأنه صادر عن الحق تعالى (فهو) ، أي القول (طيب) فقط ولا خبيث منه أصلا (ومن حيث ما يحمد) من ذلك النطق باعتبار معناه وما يذم منه بذلك الاعتبار (فهو) ، أي القول قسمان (طيب) لطيب معناه (وخبيث) لخبث معناه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال في خبث الثّوم هي شجرة أكره ريحها ولم يقل أكرهها . فالعين لا تكره ، وإنّما يكره ما يظهر منها . والكراهة لذلك إمّا عرفا أو بعدم ملاءمة طبع أو غرض أو شرع ، أو شرع ، أو نقص عن كمال مطلوب وما ثمّ غير ما ذكرناه .
ولمّا انقسم الأمر إلى خبيث وطيّب كما قرّرناه ، حبّب إليه الطّيّب دون الخبيث ووصف الملائكة بأنّها تتأذّى بالرّوائح الخبيثة لما في هذه النّشأة العنصريّة من التّعفين فإنّه مخلوق من صلصال من حمأ مسنون أي متغيّر الرّيح ، فتكرهه الملائكة بالذّات .)
 
قال رضي الله عنه :  (فقال) النبي صلى اللّه عليه وسلم (في خبث الثوم هي) ، أي شجرة الثوم باعتبار ما يبقى من ساقها بعد أخذ ثمرته (شجرة أكره ريحها) . رواه مسلم و البيهقي في سننه الكبرى ورواه غيرهما.
 
أي ما ينبعث عنها من الرائحة ، فهي خبيثة ، كالقول المنبعث عن المتكلم يطيب ويخبث (ولم يقل) صلى اللّه عليه وسلم (أكرهها) ، أي شجرة الثوم (فالعين لا تكره) لطيبها مطلقا لأنها منسوبة إلى من هي صادرة عنه ، وهو الحق تعالى ، وهو طيب فهي طيبة (وإنما يكره ما ظهر عنها) ، أي من العين من الأوصاف ، لأن ذلك منسوب إلى العين لصدوره عنها بالحكم الإلهي ونسبة السببية .
 
قال رضي الله عنه :  (والكراهة لذلك) الظاهر من العين المذكورة (إما عرفا) ، أي بحسب العرف ، أي الاصطلاح كما لو اصطلح قوم على كراهة شيء أو أمر من الأمور بينهم (أو بملائمة طبع) لأمر فيكره ذلك الطبع مفارقة ما يلائمه أو ضد ما يلائمه أو ما يلائمه غرض ، أي حظ نفساني كذلك أو شرع ، أي بيان إلهي اقتضى ذلك (أو نقص عن كمال مطلوب) فإنه يقتضي الكراهة أيضا وما ثم بالفتح ، أي هناك من أوجه الكراهة (غير ما ذكرناه) في ذلك. " وفي نسخة أخرى : أو بعدم ملائمة طبع".
 
قال رضي الله عنه :  (ولما انقسم الأمر) الإلهي وهو القول الحق والكلام المفصل باعتبار معناه المفهوم منه (إلى خبيث) لقبح دلالته ونسبته (وطيب) لحسن دلالته ونسبته (كما قررناه) قريبا (حبب إليه) صلى اللّه عليه وسلم (الطيب) من كل شيء (دون الخبيث) من ذلك (ووصف) صلى اللّه عليه وسلم (الملائكة) عليهم السلام (بأنها) ، أي الملائكة (تتأذى) ، أي تتضرر لطيب نشأتها النورانية (بالروائح الخبيثة) مثل تضرر الضد بضده ثم (لما في هذه النشأة) ، أي الخلقة الإنسانية (العنصرية من التعفين) ، أي تغيير خلقة العناصر بمزجها (فإنه) ، أي صاحب هذه النشأة وهو الإنسان (مخلوق) كما قال تعالى :" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ")[ الحجر : 26 ] طين أسود (متغير الريح) ، أي الرائحة (فتكرهه) ، أي هذا الإنسان باعتبار خلقته الملائكة عليهم السلام (بالذات) ، أي بمقتضى ذاتها وذاته هو أيضا ، وإن أحبته بسبب ما اتصف به من الإيمان والانقياد لأمر اللّه تعالى وطاعته وما اتصف هو به أيضا من ذلك ، فإن خلقته الذاتية تقتضي النفرة عن خلقته الذاتية وكراهتها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما أنّ مزاج الجعل يتضرّر برائحة الورد وهي الرّوائح الطّيبة . فليس ريح الورد عند الجعل بريح طيبة . ومن كان على مثل هذا المزاج معنى وصورة أضرّ بالحقّ إذا سمعه وسرّ بالباطل : وهو قوله :وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ؛ ووصفهم بالخسران فقال :أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [ العنكبوت : 52 ] الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [ الأنعام : 12 ] فإنّه من لم يدرك الطّيّب من الخبيث فلا إدراك له .
فما حبّب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلّا الطّيّب من كلّ شيء وما ثمّة إلّا هو . وهل يتصوّر أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلّا الطيّب من كلّ شيء ولا يعرف الخبيث أم لا ؟ قلنا هذا لا يكون : فإنّا ما وجدناه في الأصل الّذي ظهر العالم منه وهو الحقّ ، فوجدناه يكره ويحبّ ؛ وليس الخبيث إلّا ما يكره ولا الطّيب إلّا ما يحبّ . )
 
قال رضي الله عنه :  (كما أن مزاج الجعل) بضم الجيم وفتح العين المهملة دابة مولدة من الزبل والنجاسة يتضرر برائحة الورد ، فإذا وضع في الورد يكاد يموت من ريح ذلك وهي ، أي رائحة الورد من الروائح الطيبة دون الخبيثة (فليس ريح الورد عند الجعل بريح طيبة) لعدم ملاءمتها لمزاجه .
قال رضي الله عنه :  (ومن كان) من الناس (على مثل هذا المزاج) ، أي مزاج الجعل (معنى) من حيث تولده في المخالفات وإنشاؤه في قبائح الأحوال حتى انطبع على المآثم والفواحش والضلال والغي.
 
قال رضي الله عنه :  (وصورة) من حيث إنه صار يتضرر بضد ذلك الذي انتشى عليه وانطبع فيه (أضرّ به) ، أي بخلقته (الحق) من الأقوال والأعمال والأحوال (إذا سمعه) من أحد وسر ، أي دخل عليه السرور (بالباطل) من ذلك (وهو) ، أي ما ذكر معنى (قوله) تعالى (والذين آمنوا) ، أي صدقوا وأذعنوا واعترفوا (بالباطل) من الأديان والآلهة (وكفروا باللّه تعالى الحق وما فعلوا ذلك مع وجود عقولهم إلا للمناسبة التي عليها فيما انطبعوا فيه من الغي والضلال وظنوه رشدا وهداية بل قطعوا بأنه كذلك .
قال رضي الله عنه :  (ووصفهم) اللّه تعالى (بالخسران) فيما فعلوا (فقال) تعالى ("أُولئِكَ")، أي الذين فعلوا ما ذكر (هم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم) حيث لم يقدروا من ضعف بصائرهم وأبصارهم بما هم فيه من الضلال أن يفرقوا بين الحق والباطل ، فكأنهم لا نفوس لهم لعدم إمكانهم الانتفاع بها في الفرق المذكور فقد خسروها.
قال رضي الله عنه :  (فإنه) ، أي الشأن من (لم يدرك) بنفسه (الطيب من الخبيث فلا إدراك له) أصلا (فما حبب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا الطيب من كل شيء) لصحة مزاجه صلى اللّه عليه وسلم وكمال نشأته (وما ثم) ، أي هناك في العالم (إلا هو) ، أي الطيب كما سبق في القول إنه من حيث هو إلهي بالأصالة كله طيب .
 
قال رضي الله عنه :  (وهل يتصوّر) ، أي يجوز أن يكون في هذا العالم مزاج لأحد من المخلوقين (لا يجد إلا الطيب من كل شيء لا يعرف) ، أي ذلك المزاج الأمر (الخبيث ، أم لا) يكون ذلك قلنا في الجواب عن ذلك هذا الأمر المذكور لا يكون أبدا فإنا ما وجدناه ، أي المذكور معشر المحققين في معرفة اللّه تعالى (في الأصل الذي ظهر) جميع هذا العالم منه وهو ، أي ذلك الأصل الحق تعالى فكيف نجده في غيره سبحانه فوجدناه تعالى كما ورد في النصوص يكره أشياء ويحب أشياء .
 
قال تعالى :"وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ"[ التوبة : 46 ] .  وقال :" فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ"[ المائدة : 54 ] .
وفي الحديث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه يكره من الرجال الرفيع الصوت ويحب الخفيض من الصوت » . رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي أمامة .
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه يكره فوق سمائه أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض » . رواه الطبراني في الكبير ومسند الشاميين عن معاذ .
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه يحب العطاس ويكره التشاؤب » . رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة .
وليس الخبيث من الأشياء إلا ما يكره سبحانه ولا الطيب منها إلا ما يحبه تعالى.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والعالم على صورة الحقّ والإنسان على الصّورتين فلا يكون ثمّة مزاج لا يدرك إلّا الأمر الواحد من كلّ شيء ، بل ثمّة مزاج يدرك الطّيّب من الخبيث ،
مع علمه بأنّه خبيث بالذّوق طيّب بغير الذّوق، فيشغله إدراك الطّيّب منه عن الإحساس بخبثه.
هذا قد يكون . وأمّا رفع الخبيث من العالم - أي من الكون - فإنّه لا يصحّ .
ورحمة اللّه في الخبيث والطّيب . والخبيث عند نفسه طيّب والطيّب عنده خبيث . فما ثمّة شيء طيّب إلّا وهو من وجه في حقّ مزاج ما خبيث : وكذلك بالعكس . )
 
قال رضي الله عنه :  (والعالم) جميعه ما عدا الإنسان الكامل مخلوق (على صورة الحق) تعالى من حيث ظهور محسوسات العالم ومعنوياته كلها كلياتها وجزئياتها عنه تعالى ، فهي آثار أسمائه الحسنى المختلفة التي هي صورته سبحانه ، وقد ظهرت في العالم مسميات تلك الأسماء كلها (والإنسان) الكامل وحده مخلوق (على الصورتين) ، أي صورة الحق تعالى التي هي مجموع أسمائه الحسنى في باطنه وصورة العالم التي هي آثار تلك الأسماء الحسنى في ظاهره .
 
قال رضي الله عنه :  (فلا يكون ثمة) ، أي هناك (مزاج) في العالم . وفي الإنسان الكامل (لا يدرك إلا الأمر الواحد) الذي هو الطيب (من كل شيء) ولا يدرك الخبيث ، ولا بالعكس أيضا لما تقرر (بل ثم) بالفتح ، أي هناك (مزاج يدرك الطيب من) الأمر (الخبيث مع علمه بأنه) ، أي ذلك الخبيث (خبيث بالذوق) ، أي بالحس والوجدان والمعاناة له (طيب) ، أي ذلك الأمر الخبيث (بغير الذوق) له بل بالمعرفة الإلهية (فيشغله) ، أي الإنسان (إدراك الطيب منه) ، أي من ذلك الأمر الخبيث (عن الإحساس بخبثه) ، أي إدراكه (ذلك) هذا الشيء (قد يكون) في الصالحين (وأما رفع) ، أي إزالة (الخبيث) مطلقا (من العالم أي من الكون) كله بحيث لا يبقى له فيه وجود (فإنه) ، أي هذا الأمر (لا يصح) أصلا .
 
قال رضي الله عنه :  (ورحمة اللّه) تعالى التي وسعت كل شيء (ظاهرة في الخبيث والطيب) أوجدتهما حتى لا يخلو عنها شيء وسعته (والخبيث عند نفسه) ليس بخبيث وإنما هو (طيب والطيب عنده) ، أي عند الخبيث (خبيث فما ثم) ، أي هناك (شيء طيب إلا وهو) ، أي ذلك الطيب (من وجه) آخر في حق مزاج ما ، أي بعض الأمزجة خبيث ، وكذلك بالعكس ، أي ليس شيء خبيث إلا وهو طيب في حق مزاج آخر كما مر آنفا ، أي قريبا في تضررها بالوجود للجعل ، وإن على هذا المزاج من يحصل له السرور بالباطل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمّا الثالث الّذي به كملت الفرديّة فالصّلاة .
فقال : « وجعلت قرّة عيني في الصّلاة » لأنّها مشاهدة : وذلك لأنّها مناجاة بين اللّه وبين عبده كما قال :فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.
وهي عبادة مقسومة بين اللّه وبين عبده بنصفين : فنصفها للّه ونصفها للعبد كما ورد في الخبر الصّحيح عن اللّه تعالى أنّه قال : « قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين : فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل.
يقول العبد :بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ( 1 ) يقول اللّه : ذكرني عبدي . يقول العبد :الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ( 2 ) يقول اللّه حمدني عبدي . يقول العبد :الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ( 3 ) يقول اللّه : أثنى عليّ عبدي . يقول العبد :مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ( 4 ) يقول اللّه : مجّدني عبدي ، فوّض إليّ عبدي . فهذا النّصف كلّه للّه تعالى خالص . ثمّ يقول العبد :إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( 5 ) يقول اللّه : هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل . فأوقع الاشتراك في هذه الآية . يقول العبد :اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 6 ) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ( 7 ) [ الفاتحة : 1 - 7 ] يقول اللّه : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل .
فخلص هؤلاء لعبده كما خلص الأوّل له تعالى . فعلم من هذا وجوب قراءةالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ( 2 ) . فمن لم يقرأها فما صلّى الصّلاة المقسومة بين اللّه وبين عبده " ).
 
قال رضي الله عنه :  (وأما) الشيء (الثالث الذي به كملت الفردية) في الشيئين المذكورين : النساء والطيب ، فإنها موجودة في كل واحد بانفراده ، وعند انضمامهما تختفي بالزوجية ، فإذا ضم إليها هذا الشيء الثالث ظهرت تلك الفردية وتقررت (فالصلاة ، فقال) صلى اللّه عليه وسلم في الحديث المذكور
 
قال رضي الله عنه :  (وجعلت) بالبناء للمفعول (قرة عيني في الصلاة لأنها) ، أي الصلاة (مشاهدة) للحق تعالى فيها وبيان (ذلك لأنها) ، أي الصلاة (مناجاة )، أي مخاطبة في السر (بين اللّه) تعالى (وبين عبده) المؤمن كما قال تعالى في حصول معنى المفاعلة (فاذكروني) بالحضور (أذكركم) بالتجلي والظهور ، واذكروني بالوصول أذكركم بالقبول ، واذكروني بإزالة القيود أذكركم بكشف الوجود ، واذكروني بمراعاة حقوقي أذكركم بالحفظ في غروبي وشروقي ، واذكروني بالقلب واللسان أذكركم بإفاضة أنواع الإحسان .
 
قال رضي الله عنه :  (وهي) ، أي الصلاة (عبادة مقسومة بين اللّه) تعالى (وبين عبده) المؤمن (بنصفين فنصفها) الأوّل (للّه) تعالى باعتبار اشتمالها على الثناء والمجد للّه تعالى
 
قال رضي الله عنه :  (ونصفها) الثاني (للعبد) باعتبار اشتمالها على الدعاء والسؤال منه تعالى كما ورد هذا (في الخبر الصحيح) الذي تكلم به النبي صلى اللّه عليه وسلم (عن اللّه تعالى) أنه سبحانه (قال قسمت الصلاة ذات الركوع والسجود باعتبار قراءة الفاتحة فيها بيني وبين عبدي المصلي نصفين فنصفها الأوّل من كل ركعة منها لي ونصفها الثاني كذلك لعبدي ومع ذلك لعبدي ما سأل، أي أجيبه في كل ما دعاني به فيها.
 
وبيان ذلك أنه (يقول العبد) في الصلاة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ  يقول اللّه") تعالى عند ذلك (ذكرني عبدي) فكل من غاب عن قوله ذلك بنفسه في الصلاة وشهد قيومية الحق تعالى عليه في جميع شؤونه تلك ،
سمع بأذن قلبه قول الحق تعالى : ذكرني عبدي ، فكشف له أن قوله هو عين قوله تعالى ، بزوال النسبة وانقلاب الشؤون كما قال سبحانه :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ الرحمن :29].
ثم خاطب عقل العبد وإيمانه بقوله تعالى :فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ( 13 ) [ الرحمن : 13 ] من التباس الحس عليكما وبعد الحقيقة عنكما .
 
وهكذا بقية أحوال الصلاة وقد أخبرني بعض من اجتمعت به أنه كان إذا صلى سمع الحق تعالى يقول ذلك من أوّله إلى آخره على طبق هذا الحديث . وكان رجلا من ضعف الحال رحمه اللّه تعالى .
قال رضي الله عنه :  (يقول العبد : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يقول اللّه) تعالى بعين قول عبده لذلك عند من يسمعه اللّه تعالى كما قال سبحانه:"واللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ"[ فاطر : 22 ] (حمدني عبدي) ، أي شكرني
قال رضي الله عنه :  (يقول العبد الرَّحْمنِ الرَّحِيم ) ِتعالى كذلك (أثنى علي عبدي) ، أي مدحني بالرحمة العامة والخاصة
قال رضي الله عنه :  (يقول العبد :مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ") ، أي يوم القيامة (يقول اللّه) تعالى بذلك (مجدني) ، أي ذكر مجدي وفخري وجاهي (عبدي) أو يقول : (فوّض إلي عبدي) ، أي اتكل في جميع أموره على قدرتي وإرادتي (فهذا النصف) من الصلاة باعتبار قراءتها كما ذكرنا (كله للّه تعالى خالص) ليس فيه ذكر العبد أصلا .
 
قال رضي الله عنه :  (ثم يقول العبد) في النصف الثاني ("إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" يقول اللّه) تعالى (هذه) ، أي المقالة (بيني وبين عبدي) ، لأن فيها ذكر اللّه تعالى بالخطاب وذكر العبد بالعبادة والاستعانة (ولعبدي ما سأل) ، أي من قبول عبادته والإعانة له (فأوقع) تعالى (الاشتراك في هذه الآية) بينه وبين عبده .


قال رضي الله عنه :  (يقول العبد :اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 6 ) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ( 7 ) يقول اللّه) تعالى (هؤلاء) الكلمات كلهن (لعبدي) لأن فيهن طلب الهداية والوقاية من أحوال أهل الغواية (ولعبدي ما سأل) باستجابة دعائه فيما ذكر (فخلص) اللّه تعالى (هؤلاء) الكلمات المذكورات (لعبده) المصلي (كما خلص) الكلمات (الأولى له تعالى .)
 
والحديث في صحيح مسلم وموطأ مالك ومسند أبي داود والترمذي والنسائي بإسنادهم إلى أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : قال اللّه عز وجل : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل " . وفي رواية : « فنصفها لي ونصفها لعبدي » ،
فإذا قال العبد : "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ"( 2 ) قال اللّه عز وجل : حمدني عبدي .
وإذا قال :الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ( 3 ) قال اللّه عز وجل : أثنى علي عبدي
وإذا قال :مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ( 4 ) قال : مجدني عبدي وقال مرة : فوّض إليّ عبدي ،
وإذا قال :إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( 5 ) قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل
فإذا قال :اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 6 ) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ( 7 ) [ الفاتحة ] ،
قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل » . أخرج هذه الرواية مسلم ومالك والترمذي والنسائي .
وفي رواية لأبي داود والترمذي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام » . قال أبو السائب مولى هشام بن زهرة قلت : يا أبا هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام قال : فغمز ذراعي .
ثم قال : اقرأها في نفسك يا فارسي وساق الحديث نحو ما تقدم .
وقال في آخرها : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل . انتهى .
أقول : وهذه الزيادة محمولة عند الحنفية على وجوب الفاتحة في الصلاة لا الفرضية ، فترك الواجب يقتضي النقصان لا البطلان ، وهو معنى الخداج ومعنى قوله غير تمام ،
وقوله : اقرأها في نفسك يا فارسي زيادة من فقه الراوي ، فإن مذهب أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى منع المقتدي عن القراءة بأحاديث أخرى صريحة في ذلك لا تحتمل التأويل ذكرناها في كتابنا في فقه الفروع المذهبية .
 
فعلم من هذا المذكور في هذا الحديث وجوب قراءة "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ"( 2 ) إلى آخر الفاتحة في الصلاة فمن لم يقرأها في صلاته فما صلى الصلاة المقسومة ، كما ورد في هذا الحديث بين اللّه تعالى وبين عبده فهي صلاة ناقصة وليست بتامة ولا كاملة .
 
 .
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:48 am

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي


كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الجزء الرابع 


 27   - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولمّا كانت مناجاة فهي ذكر ، ومن ذكر الحقّ فقد جالس الحقّ وجالسه الحقّ . فإنّه صحّ في الخبر الإلهيّ أنّه تعالى قال : « أنا جليس من ذكرني » . ومن جالس من ذكره وهو ذو بصر حديد رأى جليسه .
فهذه مشاهدة ورؤية . فإن لم يكن ذا بصر لم يره . فمن ههنا يعلم المصلّي رتبته هل يرى الحقّ هذه الرّؤية في هذه الصّلاة ، أم لا ؟ فإن لم يره فليعبده بالإيمان كأنّه يراه فيخيّله في قبلته عند مناجاته ، ويلقي السّمع لما يرد به عليه من الحقّ .
فإن كان إماما لعالمه الخاصّ به وللملائكة المصلّين معه - فإنّ كلّ مصلّ فهو إمام بلا شكّ ، فإنّ الملائكة تصلّي خلف العبد ؛ إذا صلّى وحده كما ورد في الخبر - فقد حصل له رتبة الرّسول في الصّلاة .
وهي النّيابة عن اللّه . وإذا قال سمع اللّه لمن حمده. فيخبر نفسه ومن خلفه بإنّ اللّه قد سمعه .
فتقول الملائكة والحاضرون ربّنا ولك الحمد. فإنّ اللّه قال على لسان عبده: سمع اللّه لمن حمده.)

قال رضي الله عنه :  (ولما كانت) الصلاة (مناجاة) بين اللّه تعالى وبين عبده (فهي ذكر للّه) تعالى بجميع الأعضاء على كيفيات مختلفة .
(و) كل (من ذكر الحق) تعالى (فقد جالس الحق) تعالى (وجالسه الحق) تعالى والمعنى حضر مع الحق تعالى كما أن الحق تعالى حاضر معه والحضور ضد الغيبة وهي الغفلة يعني زالت عنه الغفلة واشتغال الخاطر بغير اللّه تعالى فوجد اللّه تعالى ظاهرا بكل شيء حاضرا عند كل شيء غير غائب عن شيء (فإنه صح) ، أي ثبت وتحقق (في الخبر الإلهي) ،

أي الحديث القدسي (أنه تعالى قال : أنا جليس) ، أي مجالس كل (من ذكرني) ، لأنه تعالى حاضر لا يغيب أصلا وإنما العبد يغيب عنه لغفلته ويحضر بين يديه ليقظته فإذا ذكره ، أي تذكره وجده حاضرا ، فيكون اللّه تعالى جليسه .

قال رضي الله عنه :  (و) كل (من جالس من) ، أي أحدا (ذكره وهو) ، أي الذي يجالس (ذو) ، أي صاحب (بصر) بأن كان يرى وليس بأعمى (رأى جليسه) من غير شبهة أصلا والذي لا يرى فهو أعمى .
قال رضي الله عنه :  (فهذه) الحالة التي هي حالة الذكر (مشاهدة) للحق تعالى (ورؤية) له (فإن لم يكن) ذلك الذي جالس من ذكره (ذا بصر) فإنه (لم يره) ، أي لا يرى من يجالسه لكونه أعمى .


قال رضي الله عنه :  (فمن هنا يعلم المصلي رتبته) في الدين والمعرفة (هل يرى الحق) تعالى (هذه الرؤية) ، أي رؤية الجليس من يجالسه (في هذه الصلاة) التي صلاها (أم لا فإن لم يره) ، أي الحق تعالى وهو في صلاته (فليعبده) ، أي الحق تعالى (بالإيمان) له بالغيب في تلك الصلاة (كأنه) ، أي مثل الذي (يراه فيخيله) بعقله ، أي يتصوّر الحق تعالى (في قبلته عند مناجاته) كما ورد : « أن اللّه في قبلة أحدكم » .
 وهذا التصوّر لا يضره في اعتقاده إذا كان عارفا بقصوره وعجزه عنه تعالى ،

قال سبحانه :لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها[ البقرة : 286 ] (ويلقي) ، أي يهيىء (السمع) منه (لما يرد به عليه الحق) تعالى في نفسه من الإلهام (فإن كان إماما لعالمه) بفتح اللام (الخاص به) وهي أعضاؤه وجوارحه (وللملائكة) الحفظة وغيرهم (المصلين معه) ، (فإن كل مصل) وحده (فهو إمام بلا شك) لغيره (فإن الملائكة) عليهم السلام (تصلي) بالاقتداء (خلف العبد) المؤمن (إذا صلى وحده كما ورد في الخبر) ، أي الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم .

وذكر السبكي من الشافعية : أن الجماعة تحصل بالملائكة ، وفرّع على ذلك :
لو صلى في قضاء بأذان وإقامة منفردا ، ثم حلف أنه صلى بالجماعة لم يحنث . وقد ورد في حديث أحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الجن وفيه : فلما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي أدركه شخصان منهم فقالا : يا رسول اللّه إنا نحب أن تؤمنا في صلاتنا . قال : فصفهما خلفه ثم صلى بهما ثم انصرف . ذكره في الأشباه والنظائر (فقد حصل له) ، أي للذي يصلي وحده (رتبة الرسول) صلى اللّه عليه وسلم (في الصلاة) ، فإنه كان الإمام المقدم فيها (وهي) ، أي تلك الرتبة (النيابة عن اللّه) تعالى في وجوب متابعته على المقتدين به ممن خلفه .

قال رضي الله عنه :  (وإذا قال) ذلك المصلي (سمع اللّه لمن حمده فيخبر نفسه ومن خلفه بأن اللّه ) تعالى (قد سمعه) في كل ما قال من سورة الحمد وغيرها من الثناء عليه تعالى (فتقول الملائكة) عليهم السلام عند ذلك (و) كذلك (الحاضرون) من المقتدين إن كانوا (ربنا) أي يا ربنا (ولك الحمد) وكان هذا القول عقيب سماعهم من الإمام قوله : سمع اللّه لمن حمده فحمدهم امتثال لما حثهم عليه من الحمد ( فإن اللّه قال على لسان عبده) المصلي (سمع اللّه لمن حمده) كما ورد في الحديث : " المصلي مظهر إلهي"  .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فانظر علوّ رتبة الصّلاة وإلى أين تنتهي بصاحبها . فمن لم يحصّل درجة الرّؤية في الصّلاة فما بلغ غايتها ولا كان له قرّة عين ، لأنّه لم ير من يناجيه .
فإن لم يسمع ما يرد من الحقّ عليه فيها فما هو ممّن ألقى السّمع . ولا سمعه . ومن لم يحضر فيها مع ربّه مع كونه لم يسمع ولم ير ، فليس بمصلّ أصلا ، ولا هو ممّن ألقى السّمع وهو شهيد .
وما ثمّة عبادة تمنع من التّصرّف في غيرها - ما دامت - سوى الصّلاة . وذكر اللّه فيها أكبر ما فيها لما تشتمل عليه من أقوال وأفعال . وقد ذكرنا صفة الرّجل الكامل في الصّلاة في الفتوحات المكيّة كيف تكون لأنّ اللّه تعالى يقول :إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، لأنّه شرع للمصلّي أن لا يتصرّف في غير هذه العبادة ما دام فيها ويقال له مصلّ .وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُيعني فيها : أي الذّكر الّذي يكون من اللّه لعبده حين يجيبه في سؤاله . والثّناء عليه أكبر من ذكر العبد ربّه فيها ، لأنّ الكبرياء للّه تعالى . ولذلك قال :وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ[ العنكبوت : 45 ] .  وقال :أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ ق : 37 ] فإلقاؤه السّمع هو لما يكون من ذكر اللّه إيّاه فيها .)


قال رضي الله عنه :  (فانظر) يا أيها السالك (علو رتبة الصلاة) عند اللّه تعالى (وإلى أين تنتهي) ، أي تصل (بصاحبها) من مقامات القرب إلى اللّه تعالى .

قال رضي الله عنه :  (فمن لم يحصل) بتوفيق اللّه تعالى له (درجة الرؤية) الإلهية (في الصلاة فما بلغ غايتها) ، أي الصلاة (ولا كان له) ، أي لذلك المصلي (فيها) ، أي في الصلاة (قرة عين) برؤية المحبوب الحق لأنه لم ير من يناجيه لما في قلبه من العمى عنه .


قال تعالى :فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[ الحج : 46 ] .
وهذه فروع الإيمان الأربعة لكل واحد منها رتبة خاصة إلهية ، فالصلاة الرؤية الإلهية بقوله عليه السلام : « وجعلت قرة عيني في الصلاة » .
 وللصوم لقاء اللّه تعالى لقوله عليه السلام : « للصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه » . رواه مسلم و الترمذي في سننه ورواه غيرهما.
 وللزكاة طيب النفس ، لقوله عليه السلام في حديث : « صلوا خمسكم » إلى أن قال : « وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم » . رواه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة الباهلي ورواه أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء ، ترجمة يزيد بن مرثد .

 وللحج الزيارة إلى بيت اللّه تعالى ومصافحته سبحانه لقوله عليه السلام : " الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض " . رواه عبد الرزاق في المصنف ورواه الديلمي في الفردوس .


 ، والشهادتان إخبار عن المعاينة والشهود والرؤية ، فهذه أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها ، فالإسلام أحوال قلبية لها في الظاهر الإشارة الفعلية ، وأصل هذا كله التصديق بالقلب ، وهو الإيمان ، فمن لم يتيقن الإيمان ويتحقق بالإيقان لم يتوصل إلى مقام الإسلام .


قال رضي الله عنه :  (وإن لم يسمع) هذا المصلي (ما يرد به الحق) تعالى (عليه) من المخاطبات الأنسية والمناجاة القدسية (فيها) ، أي في الصلاة (فما هو) ، أي ذلك المصلي (ممن ألقى) ، أي هيأ (السمع) لما يرد به الحق تعالى (ولا سمعه) ، أي ما يرد به الحق تعالى (ومن لم يحضر فيها) ، أي في الصلاة (مع ربه) تعالى باليقظة وزوال الغفلة عن قلبه (مع كونه) أيضا (لم يسمع) ما يرد به عليه ربه تعالى في صلاته كما مر (فليس بمصل أصلا) بل هو مشبه بالمصلي في أداء الأركان وقلبه فيما هو فيه من أحوال الدنيا كما كان (ولا هو) ، أي ذلك المصلي ممنأَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ ق  :37]. لصممه وعماه عمن يناجيه ويتجلى عليه بحسب ما يريد .

 
قال رضي الله عنه :  (وما ثم) ، أي هناك (عبادة) للّه تعالى (تمنع من التصرف في غيرها) من العبادات أو العادات (ما دامت) قائمة تلك العبادة (سوى الصلاة) فإنها خلوة شرعية وحظوة إلهية (وذكر اللّه) تعالى (فيها) ، أي في الصلاة (أكبر ما فيها) ، أي الصلاة من الأعمال .

قال تعالى :وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ[العنكبوت :45] ، والذكر شامل لقراءة القرآن وغيرها (لما تشتمل) ، أي الصلاة (عليه من أقوال وأفعال) وتجليات وأحوال ، وعلوم إلهية ، وإلهامات ربانية ، وإشارات لائحة ، وحقائق معارف فائحة (وقد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة) على أتمّ الوجوه (في) كتاب (الفتوحات المكية كيف يكون) في ظاهره وباطنه (لأن اللّه) تعالى يقول عن هذه الصلاة المذكورة إِنَّ الصَّلاةَ[ النّساء : 103 ] ،

أي الكاملة وهي لا تكون إلا من الكامل (" تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ")[ العنكبوت : 45 ] فتحفظ صاحبها مدة عمره من مهالك الدنيا والآخرة .

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إذا أراد اللّه بقوم عاهة نظر إلى أهل المساجد فصرف عنهم » . رواه ابن عدي والديلمي في مسند الفردوس وأهل المساجد هم المصلون (لأنه) ، أي الشأن (شرع) بالبناء للمفعول (للمصلي أن لا يتصرف في غير هذه العبادة) التي هي الصلاة (ما دام) ذلك المصلي فيها ، أي في الصلاة (ويقال له) في الشرع (مصل) لإتيانه بأفعال الصلاة وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ[ العنكبوت : 45 ] .

كما قال تعالى (يعني فيها) أي في الصلاة وهو (الذكر الذي يكون من اللّه) تعالى (لعبده حين يجيبه) ، أي يجيب اللّه تعالى عبده (في سؤاله) ، أي دعائه وطلبه منه والثناء عليه كما سبق في الحديث (أكبر من ذكر العبد ربه) تعالى (فيها) ، أي في الصلاة (لأن) أكبر مشتق من الكبرياء ، أي العظمة وذلك (للّه تعالى) لا لغيره فهي لذكره لا لذكر غيره (ولذلك قال) تعالى ("يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ") [ العنكبوت : 45 ] .

أي لا يخفى عليه صنعكم ومنه ذكركم فهو دون ذكره (وقال) تعالى (" أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" [ ق :37] فإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر اللّه) تعالى (إياه) ، أي العبد (فيها) ، أي في الصلاة لعظمة الذكر .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن ذلك أنّ الوجود لمّا كان عن حركة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود عمّت الصّلاة جميع الحركات وهي ثلاث : حركة مستقيمة وهي حال قيام المصلّي ، وحركة أفقيّة وهي حال ركوع المصلّي ، وحركة منكوسة ؛ وهي حال سجوده فحركة الإنسان مستقيمة وحركة الحيوان أفقيّة وحركة النّبات منكوسة ؛ وليس للجماد حركة من ذاته : فإذا تحرّك حجر فإنّما يتحرّك بغيره .
وأمّا قوله : « وجعلت قرّة عيني في الصّلاة » - ولم ينسب الجعل إلى نفسه - فإنّ تجلّي الحقّ للمصلّي إنّما هو راجع إليه تعالى لا إلى المصلّي .  فإنّه لو لم يذكر هذه الصّفة عن نفسه لأمره بالصّلاة على غير تجلّ منه له . )

قال رضي الله عنه :  (ومن ذلك) ، أي عظمة ذكره تعالى (أن) هذا (الوجود لما كان) صادرا (عن حركة) فلكية ملكية (معقولة) من المدبرات أمرا (نقلت العالم) كله (من العدم) الذي هو ثابت فيه غير منفي (إلى الوجود) في كل لمحة (عمت الصلاة) لكونها جامعة أنواع العبادات كجمعية الوجود أنواع المخلوقات جميع أقسام الحركات وهي ، أي الحركات ثلاث الأولى حركة مستقيمة وهي حال قيام المصلي واقفا على قدميه في الصلاة (و) الثانية (حركة أفقيه) ، أي في الأفق بين السماء والأرض (وهي) حركة في

 
قال رضي الله عنه :   (حال ركوع المصلي) في الصلاة (و) الثالثة (حركة منكوسة وهي) الحركة في (حال سجوده) ، أي المصلي (فحركة الإنسان مستقيمة) ، لأنه يمشي على قدميه مستقيم القامة (وحركة الحيوان أفقية) لأنها بين السماء والأرض (وحركة النبات منكوسة) ، أي في الأرض أي كل ما ينبت من الأرض فيتحرك نابتا فيها (وليس للجماد حركة من ذاته) أصلا لأنه ساكن خلقة ( فإذا تحرك حجر فإنما يتحرك بغيره) كإنسان يحركه أو ريح أو نحو ذلك .


قال رضي الله عنه :   (وأما قوله) صلى اللّه عليه وسلم (وجعلت) بالبناء للمفعول (قرة عيني في الصلاة ولم ينسب الجعل) المذكور (إلى نفسه) صلى اللّه عليه وسلم فيقول : حبب إلى من دنياكم ثلاث النساء والطيب و "جعلت قرة عينى فى الصلاة " . مسند أحمد، والنسائى، وابن سعد، وأبو يعلى، والحاكم ووافقه الذهبى والألباني، والبيهقى، وسمويه الإصفهاني، والضياء في المختارة عن أنس.

قال رضي الله عنه :   (فإنّ تجلي) ، أي انكشاف (الحق) تعالى (للمصلي) في صلاته بحيث يراه يتمتع برؤيته (إنما هو راجع إليه تعالى) فهو الذي يتجلى إذا أراد (لا إلى المصلي) إذ ليس للمصلي شيء من أمره  فإنه صلى اللّه عليه وسلم لو لم يذكر هذه الصفة وهي جعل الصلاة قرة عينه (عن نفسه) عليه السلام .

قال رضي الله عنه :   (لأمره) ، أي اللّه تعالى (بالصلاة على غير تجل) ، أي انكشاف وظهور (منه) تعالى (له) عليه السلام .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلمّا كان منه ذلك بطريق الامتنان ، كانت المشاهدة بطريق الامتنان . فقال : وجعلت قرّة عيني في الصّلاة .
وليست قرّة عينه إلّا مشاهدة المحبوب الّتي تقرّ بها عين المحبّ ، من الاستقرار فتستقرّ العين عند رؤيته فلا تنظر معه إلى شيء غيره في شيء وفي غير شيء .
ولذلك نهي عن الالتفات في الصّلاة ، فإن الالتفات شيء يختلسه الشّيطان من صلاة العبد فيحرمه مشاهدة محبوبه . بل لو كان محبوب هذا الملتفت ، ما التفت في صلاته إلى غير قبلته بوجهه .
والإنسان يعلم حاله في نفسه هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصّة أم لا ، فإنّ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( 14 ) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ( 15 ) [ القيامة : 14 - 15 ] فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه ، لأنّ الشّيء لا يجهل حاله فإنّ حاله له ذوقيّ . )


(فلما كان منه) تعالى (ذلك) ، أي التجلي في الصلاة (بطريق الامتنان) على النبي صلى اللّه عليه وسلم كما قال تعالى :وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً[ النساء : 113 ] . (كانت المشاهدة بطريق الامتنان فقال) صلى اللّه عليه وسلم عند ذلك : (« وجعلت قرة عيني في الصلاة ») من باب التحدث بالنعمة شكرا لها . قال تعالى :وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ( 11 ) [ الضحى : 11].

(وليست) قرة العين في الصلاة (إلا مشاهدة المحبوب) الحق سبحانه في الصلاة بحضور القلب (التي) نعت للمشاهدة (تقرّ بها) ، أي بالمشاهدة (عين المحبوب) له مشتق ذلك (من الاستقرار فتستقرّ العين) ، أي عين المحب (عند رؤيته) ، أي المحبوب (فلا ينظر) ، أي المحب بعينه أو بقلبه (معه) ، أي مع المحبوب (إلى شيء) آخر (غيره في) سبب (شيء) ، أي أمر ضروري داع إلى ذلك النظر (وفي غير شيء) أيضا ، أي من غير حاجة ولا غرض صحيح (ولذلك) ، أي لأجل ما ذكر (نهي) بالبناء للمفعول (عن الالتفات) بعينه أو بقلبه (في الصلاة) إلى شيء مطلقا (فإن الالتفات شيء يختلسه) ، أي يسرقه (الشيطان) بخفية من حيث لا يشعر به المصلي (من صلاة العبد) فتنقص صلاته .


والحديث في صحيح البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال : " هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد " .
وفي رواية الطبراني : « لا تلتفتوا في صلاتكم فإنه لا صلاة للملتفت » .

(فيحرمه) ، أي الشيطان يحرم العبد لذلك (مشاهدة محبوبه) الحق سبحانه (بل لو كان) الحق تعالى (محبوب هذا الملتفت ما التفت في صلاته إلى غير قبلته بوجهه) ، أي وجه صورته في الظاهر ووجه قلبه في الباطن ، فإن الكعبة قبلة الظاهر والحضرة الإلهية قبلة الباطن (والإنسان يعلم حاله) الذي هو عليه (في نفسه هل هو بهذه المثابة) ، أي المرتبة المذكورة في الحضور في صلاته وزوال الغفلة عن قلبه (في هذه العبادة الخاصة أم لا) ، أي ليس هو كذلك .

 

(فإن الإنسان على نفسه بصيرة) ، أي يعرف نفسه أكثر من معرفة غيره به (ولو ألقى) ، أي هيأ وأعد للغير (معاذيره) ، أي أعذاره في كل حال من أحواله ، فإنه لا يغتر بما يظهر له من غيره في حقه فإن الغير لا يتكلم إلا بمقدار ما يعلم (فهو) ، أي الإنسان (يعرف كذبه) ، أي كذب نفسه في الصلاة وغيرها (من صدقه في نفسه) بذلك (لأن الشيء لا يجهل حاله) الذي هو فيه (فإن حاله) ، أي حال الشيء (له) ، أي للشيء (ذوقي) ، أي مكشوف له ذوقا فهو يحس بما هو فيه ما لا يحس منه غيره وقد يستولي عليه الجهل والغباوة فلا يعرف نفسه فيغتر بمدح الناس له فيهلك من حيث لا يشعر .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّ مسمّى الصّلاة له قسمة أخرى ؛ فإنّه تعالى أمرنا أن نصلّي له وأخبرنا أنّه يصلّي علينا . فالصّلاة منّا ومنه .
فإذا كان هو المصلّي فأنّما يصلّي باسمه الآخر ، فيتأخّر عن وجود العبد :
وهو عين الحقّ الّذي يخلقه العبد في قلبه ، بنظره الفكريّ أو بتقليده وهو الإله المعتقد .
ويتنوّع بحسب ما قام بذلك المحلّ من الاستعداد كما قال الجنيد حين سئل عن المعرفة باللّه والمعارف .
فقال لون الماء لون إنائه . . وهو جواب سادّ أخبر عن الأمر بما هو عليه . )

قال رضي الله عنه :  (ثم إن مسمى الصلاة) ، أي ما يسمى صلاة من الفعل المخصوص (له قسمة أخرى) غير قسمته بين اللّه تعالى وعبده كما مر في الحديث (فإنه تعالى أمرنا) معشر المكلفين أن نصلي له بقوله تعالى :وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ[ البقرة :110] ، وقوله :وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [ البقرة : 238 ] .

قال رضي الله عنه :  (وأخبرنا) سبحانه (أنه يصلي علينا) بقوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ[ الأحزاب : 43 ] .
(فالصلاة) حاصلة (منا ومنه) تعالى أيضا (فإذا كان تعالى هو المصلي فإنما يصلي) متجليا (باسمه) تعالى (الآخر فيتأخر) ظهوره تعالى (عن وجود العبد) ، لأن العبد مظهره ، والظاهر بالمظهر متأخر الظهور عن وجود المظهر (وهو) ، أي ذلك المتجلي باسمه الآخر (عين الحق الذي يخلقه) ، أي يقدر صورته (العبد في قبلته) ، كما ورد أن اللّه في قبلة أحدكم (بنظره الفكري) وخياله العقلي (أو بتقليده) لغيره من أصحاب العقائد (وهو) ، أي الحق المذكور (إله) ، أي معبود (المعتقد) بصيغة اسم المفعول ، أي الاعتقاد .

قال رضي الله عنه :  (ويتنوّع) إلى أنواع كثيرة (بحسب ما قام بذلك المحل) ، أي اعتقاد الإنسان (من الاستعداد) ، أي القوّة النورانية الكشفية وضعفها .

وهذا أمر لازم في اعتقاد كل معتقد من الناس في الكاملين والقاصرين ، وما بينهما من المراتب في طبقات العقلاء ، وصاحب هذا الإله المذكور إن عرف إطلاق الإله الحق عن جميع القيود والصور في حال تجليه بتلك القيود كلها والصور فهو من العارفين ، وإن جهل الإطلاق وحصر الحق تعالى في إله المعتقد المذكور ونفى ما عداه ، خصوصا إذا ظن أن ذلك التحديد والتقييد الذي في خياله وعقله إطلاق للحق تعالى ، فهو جاهل به تعالى ، وليس بعارف .

قال رضي الله عنه :  (كما قال) أبو القاسم (الجنيد) رضي اللّه عنه (حين سئل) ، أي سأله سائل (عن المعرفة باللّه) تعالى ما هي (و) عن (العارف) باللّه تعالى ما هو (فقال) :أي الجنيد رحمه اللّه تعالى في الجواب (لون الماء لون إنائه) يعني أن

المعرفة باللّه تعالى : هي أن تعرف أنه تعالى مطلق لا صورة له في الحس ولا في العقل والخيال أصلا ، ولكن العارف به هو الذي يكشف عما في حسه وعقله وخياله ، فيرى الحق تعالى المطلق ظاهرا له بحسب استعداده في الحس والعقل والخيال في جميع تلك الصور ظهورا باعتبار الرائي والمرئي ، لأن المرئي على ما هو عليه لم يتغير ، والرائي يتغير بالأطوار والأحوال ، فتتنوع عليه المعرفة ، ويختلف عليه تجلي المعروف الحق سبحانه على الأبد في الدنيا والآخرة .

فالماء من حيث هو ماء مطلقا لا لون له أصلا ولا صورة له ، ومن حيث هو في الأواني المختلفة فلونه لون الإناء وصورته صورة الإناء ، ولا تفهم الحلول في هذا المثال ، فإن الأواني لها وجود في نفسها مع الماء المتلون بألوانها ، وليس وجود الأواني تابعا لوجود الماء بحيث يكون صادرا عنه ، بل كل واحد من الماء والأواني موجود بوجود آخر مستقل ، واللّه تعالى الموجود الحق بوجود مستقل يستحيل عقلا وشرعا أن يكون معه شيء آخر غيره من محسوس أو معقول أو موهوم ، موجود أيضا مثله بوجود آخر مستقل غير تابع له تعالى في الإيجاد حتى يلزم ما يفهم القاصر من الحلول في هذا المثال ، فإن الماء حل في الإناء ، لأن الإناء له وجود مستقل ليس صادرا عن توجه قدرة الماء ، ولأجل هذا ثبت الحلول في كون الماء في الإناء .

وأما جميع المخلوقات الصادرة عن قدرة اللّه تعالى وتوجه أمره القديم الواحد سبحانه ، فإنها لا وجود لها من نفسها أصلا ، وإلا لاستغنت عن اللّه تعالى وقامت بنفسها وبطل وصف القيومية للّه تعالى ، وذلك ممتنع لثبوت القيومية له تعالى في الشرع ،

فكما أنه تعالى خالق لكل شيء ، فهو قيوم على كل شيء ، فكل شيء لولا توجه أمر اللّه تعالى عليه في كل طرفة عين بالإيجاد لما وجد ، فكل شيء موجود بإيجاد اللّه تعالى على الدوام في الكليات والجزئيات ، والأشياء كلها في أنفسها مع قطع النظر عن إيجاد اللّه تعالى لها معدومة بالعدم الأصلي ، لا وجود لها ولا شمت رائحة الوجود أصلا ،

ثم إنك إذا اعتبرتها كذلك معدومة بالعدم الأصلي ، وأردت أن تعرف كيف أوجدها اللّه تعالى ، فاعتبر أنها أواني مقدرة مختلفة ، وأن وجود الحق تعالى الواحد المطلق بإطلاقه الحقيقي ظهر في تلك الأواني المعدومة المقدرة ،

فكان لونه لونها وصورته صورتها من غير أن يحل هو فيها ، لأن الوجود لا يحل في العدم من غير أن يتحد معها أيضا ، فأين الحادث ممن له وصف القدم بل هو في تلك الحالة غيرها وهي غيره ،

ولكن شدة القرب بينهما أوجبت الالتباس على عقول الناس ، فهلك بالجهل منهم كثيرون ، وحار كثيرون فتوقفوا ولم يهتدوا ، وتحقق كثيرون ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور ( وهو ) ، أي قول الجنيد قدس اللّه سره (جواب ساد) ، أي قوي (أخبر عن الأمر) الإلهي المسؤول عنه (بما هو) ، أي ذلك الأمر (عليه) في نفسه .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهذا هو اللّه الّذي يصلّي علينا .
وإذا صلّينا نحن كان لنا الاسم الآخر فكنّا فيه كما ذكرناه في حال من له هذا الاسم ، فنكون عنده بحسب حالنا ، فلا ينظر إلينا إلّا بصورة ما جئناه بها فإنّ المصلّي هو المتأخّر عن السّابق في الحلبة .
وقوله تعالى :كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [ النور : 41 ] أي رتبته في التّأخّر في عبادته ربّه ، وتسبيحه الّذي يعطيه من التّنزيه استعداده .
فما من شيء إلّا وهو يسبّح بحمد ربّه الحليم الغفور . ولذلك لا نفقه تسبيح العالم على التّفصيل واحدا واحدا . )

قال رضي الله عنه :  (فهذا)، أي إله المعتقدات المختلفة الظاهر لنا بصورنا ، وهو على ما هو عليه ، ونحن على ما نحن عليه (هو اللّه) تعالى (الذي يصلي علينا) كما أخبر في الآية المذكورة سابقا (وإذا صلينا نحن كان لنا الاسم الآخر) أيضا الذي كان له تعالى لما صلى علينا كما مر (فكنا) نحن حينئذ (فيه) ، أي في باطن هذا الاسم بحيث يظهر هذا الاسم بنا (كما ذكرناه) قريبا (في حال من له هذا الاسم) الآخر وهو الحق تعالى ، فإن هذا الاسم له سبحانه ، وحاله إذا كان هو المصلي تعالى أن يظهر بهذا الاسم فيتأخر عن وجود العبد ليتحقق له الاسم الآخر ، وإن كان لنا هذا الاسم نتأخر نحن في الظهور عنه تعالى كذلك ليتحقق لنا اسم الآخر .
 

قال رضي الله عنه :  (فنكون) نحن (عنده) تعالى (بحسب حالنا) الذي نحن عليه في حضرة علمه القديم وتقديره الأزلي (فلا ينظر) سبحانه حين اتصافنا بالاسم الآخر (إلينا إلا بصورة ما جئناه) تعالى في عدمنا إلى الوجود (بها) ، أي بتلك الصورة لأن لنا الاسم الآخر عنه سبحانه به (فإن المصلي) منا ومنه (هو المتأخر) على كل حال (عن السابق في الحلبة) بالفتح ، أي الميدان ،لأن من أسماء الخيل في السابق:

المجلّي وهو السابق في الحلبة ثم يليه المصلي ، لأن رأسه عند صلوي المجلّي تثنية صلى وهو ما من يمين الذنب وشماله من الظهر ثم يليه المسلي ثم التالي ثم المرتاح ثم الخطى ، ثم العاطف ، ثم المؤمل ثم اللطيم ثم السكيت ويقال له : الفسكل والناشور
، فهذه عشرة أنواع من الخيل كانت العرب تعتد بها ولا يعتدون بالجائي بعد ذلك .

قال رضي الله عنه :  (وقوله تعالى) :أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ)[ النور : 41 ] ، واللّه عليم بما يفعلون فصلاته (أي رتبته في التأخر عن عبادة ربه) تعالى يعني قصوره عن السبق فيها بإتيان ما يستطيع فيها ، فإن الإتيان بالمستطاع كشف للتأخر عن غير المستطاع وبيان لمقدار الاستعداد القابل لذلك

قال رضي الله عنه :  (وتسبيحه) هو المقدار (الذي يعطيه من التنزيه) للحق تعالى عما لا يليق به (استعداده) فاعل يعطيه (فما من شيء) محسوس أو معقول أو موهوم (إلا وهو) ، أي ذلك الشيء (يسبح بحمد ربه) تعالى (الحليم الغفور) كما قال عز وجل :"وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً"[ الإسراء : 44 ] .


قال رضي الله عنه :  (ولذلك) رأى لكونه تعالى حليما يحلم علينا فلا يعجل يتنفيذ مراده فينا ، غفورا أي ستارا يسترنا عن المؤاخذة أو يسترها عنا (لا نفقه) ، أي لا نفهم (تسبيح العالم) كله (على التفصيل واحدا واحدا) فالحلم يقتضي التأني بنا فيورثنا الغباوة وقلة الفهم ، والغفر كذلك ، لأنه ستر لنا وهو الحجاب يحجب بصائرنا عن المعرفة ، وذلك من كمال الرحمة بنا كالمطر الذي ينزل من السماء فتحيا به الأرض بعد موتها ، فإذا زاد أغرق فكان سببا لموت الأرض وعدم إنباتها النبات المختلف ، وليس ذلك منه تعالى لنا إلا على حسب استعدادنا لقبول ذلك ، فهو عدل منه تعالى لأنه أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ[ طه : 50 ] فأعطانا خلقنا ،


.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية الجزء الخامس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:48 am

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية الجزء الخامس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الجزء الخامس 

 27   - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
فكان ذلك عدم فهم منا لتفصيل ذلك التسبيح العام من كل شيء ، وأخبرنا تعالى أن سبب ذلك تجلي اسمه تعالى الحليم واسمه الغفور علينا ، وهما اسمان جميلان ولكن اقتضيا ظهور الجلال فينا لأجل استعدادنا لظهور ذلك ، فانقلبا في حقنا اسمين جميلين لإظهارهما الجلال فينا نظير قوله تعالى :يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً[ البقرة : 26 ] ، أي بالقرآن العظيم مع أنه حق كله وهو واحد ، وكمن ظهر عند كل أحد بمقتضى استعداده ، فكان أساطير الأولين وإفكا افتراه وأعانه عليه قوم آخرون عند طائفة من الناس ، وكان قرآنا عظيما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد عند طائفة أخرى من الناس .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وثمّة مرتبة يعود الضّمير على العبد المسبّح فيها في قوله :وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ أي بحمد ذلك الشّيء . فالضّمير الّذي في قوله"بِحَمْدِهِ"[الإسراء:44]
يعود على الشّيء أي بالثّناء الّذي يكون عليه .
كما قلنا في المعتقد إنّه إنّما يثني على الإله الّذي في معتقده وربط به نفسه ، وما كان من عمله فهو راجع إليه ، فما أثنى إلّا على نفسه ، فإنّه من مدح الصّنعة فإنّما مدح الصّانع بلا شكّ ، فإنّ حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها . وإله   المعتقد مصنوع للنّاظر فيه ، فهو صنعته فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه . ولهذا يذم معتقد غيره ، ولو أنصف لم يكن له ذلك .
إلّا أنّ صاحب هذا المعبود الخاصّ جاهل بلا شكّ في ذلك لاعتراضه على غيره فيما اعتقده في اللّه . )
 
قال رضي الله عنه :  (وثم) بالفتح ، أي هناك (مرتبة) أخرى (يعود الضمير) وهو الهاء في قوله بحمده (على العبد) ، أي الشيء كما قال تعالى أن :إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً[ مريم : 93 ] فالأشياء كلها عبيد اللّه تعالى (المسبّح فيها) ، أي في تلك المرتبة في قوله تعالى : ("وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ")[ الإسراء : 44 ] ، أي يسبح (بحمد ذلك الشيء فالضمير الذي في قوله) تعالى (بحمده يعود على الشيء) المذكور في قوله وإن من شيء (أي) يسبح (بالثناء الذي يكون عليه) ذلك الشيء ، أي مقدار استعداده ، أي ثنائه على اللّه تعالى
 
قال رضي الله عنه :  (كما قلنا) قريبا (في) حق الإنسان (المعتقد) بصيغة اسم الفاعل ، أي الذي يعتقد الألوهية في ربه تعالى وباقي حضراته سبحانه (إنه) ، أي ذلك المعتقد (إنما يثني على الإله الذي في معتقده) بصيغة اسم المفعول ، أي اعتقاده بحسب استعداده في معرفته به (فيربط) ذلك المعتقد (نفسه) في تصويره له على أكمل ما تقدر من أنوع الكمال ، ولا يترك من جهده شيئا في تحسين ذلك (به) ، أي بالذي اعتقد أنه إلهه الحق تعالى .
 
قال رضي الله عنه :  (وما كان من عمله) في الطاعات واجتناب المنهيات (فهو راجع إليه) ، أي إلى ذلك الذي اعتقد أنه إلهه الحق سبحانه (فما أثنى) في حقيقة الأمر (إلا على نفسه) ، إن عرف من نفسه ذلك فإنه ، أي الشأن (من مدح الصنعة فإنما مدح الصانع) لها (بلا شك) في ذلك فإنّ حسنها ، أي الصنعة (وعدم حسنها) ، أي الصنعة (راجع) بحسب مقتضى ذلك من المدح أو الذم إلى (صانعها) ، أي تلك الصنعة والإله المعتقد بصيغة اسم المفعول مصنوع للناظر فيه يعتقده في نفسه .
 
قال رضي الله عنه :  (فهو) من حيث الصورة القائمة بخيال المعتقد له (صنعته) ، أي صنعة ذلك المعتقد له ، صنعه بفكره وعقله ليصرف إليه جميع أعماله باعتبار الضرورة اللازمة في ذلك ، لأنه لو نفاه لعطل الإله الحق وأنكره من الوجود وهو كفر ، فلهذا جاء الشرع بقبول هذا الإله المصنوع في الاعتقادات عند الكل ، إذ هو مما لا يمكن الامتناع منه فإثباته في النفس فرض على كل مكلف ، ولكن مع معرفة العجز عن معرفة الحق المطلق بالإطلاق الحقيقي الذي هذا الإله المصنوع في النفس مقدار الاستعداد من معرفته ، فذلك لا يعرف من حيث هو أصلا ،
 
وإنما يعرف من حيث هذا الإله المصنوع في النفس كيفما كان ، وكل من حصر الحق المطلق بالإطلاق الحقيقي في هذا المصنوع عنده في نفسه فقد جهل وخرج عن المعرفة الإلهية الصحيحة الواردة في الكتاب والسنة ، وكان من المجسمين المشبهين المبتدعة الخارجين عن مذهب أهل السنة والجماعة ولا يكفر لتأويله نصوص الإطلاق الحقيقي بالإطلاق المجازي العقلي كقوله تعالى :لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ الشورى : 11 ] ، أي شيء من هذه المحسوسات ونحو ذلك .
 
قال رضي الله عنه :  (فثناؤه) ، أي ذلك المعتقد (على ما اعتقده) في نفسه أنه إلهه الحق (ثناؤه على نفسه) التي صورت فيها هذا الاعتقاد المذكور (ولهذا) ، أي لكون الأمر كذلك يذمّ ذلك المعتقد بصيغة اسم الفاعل (معتقد) بصيغة اسم المفعول ، أي ما يعتقده (غيره) من الناس (ولو انصف) ذلك المعتقد الذام (لم يكن له ذلك) ، أي الذم لمعتقد غيره ، لأن كل المعتقدات سواء من جهة كونها مخلوقة للّه تعالى بواسطة المعتقدين لها ، وكونها غير مطابقة للحق تعالى المطلق بالإطلاق الحقيقي ، فلا معنى لترجيح بعضها على بعض في حسن أو قبح ، وإنما الترجيح بمعرفة أنها مقدار استعداد كل معتقد من الناس ، وأن الإله الحق المطلق بالإطلاق الحقيقي غيب أبدا معجوز عن معرفته للكل من وجه ما هو عليه في نفسه .
 
قال تعالى :وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ[ المطففين : 26 ] ، وإياك أن تظن أن هذا الكلام يقتضي إثبات إلهين اثنين ، فتكون افتريت علينا وعلى المصنف قدس اللّه سره بما لا تفهمه بعقلك ولا أنت من أهله ، واللّه على ما نقول وكيل (إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص) الذي ضبطه في نفسه بصورة خيالية منسوبة عنده إلى الحق تعالى المطلق بالإطلاق الحقيقي ، محكوم عليه تعالى أنه هكذا كما اعتقده خصوصا مع اعتقاده أنه تعالى لا تتصوّره العقول والأفكار ، حيث جزم بما عنده وحكم بالخطأ فيما عند غيره من ذلك (جاهل بلا شك) أصلا (في ذلك) ، أي في جهله المذكور لاعتراضه على غيره ، أي إنكاره ما يعتقده غيره مما هو مقتضى استعداد ذلك الغير (فيما) ، أي في الاعتقاد الذي (اعتقده في) حق (اللّه) تعالى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ لو عرف ما قال الجنيد لون الماء لون إنائه لسلّم لكلّ ذي اعتقاد ما اعتقده ، وعرف اللّه في كلّ صورة وكلّ معتقد .
فهو ظان ليس بعالم ، فلذلك قال : « أنا عند ظنّ عبدي بي » أي لا أظهر له إلّا في صورة معتقده : فإن شاء أطلق وإن شاء قيّد .
فإلّه المعتقدات تأخذه الحدود وهو الإله الّذي وسعه قلب عبده ، فإنّ الإله المطلق لا يسعه شيء لأنّه عين الأشياء وعين نفسه : والشّيء لا يقال فيه يسع نفسه ولا لا يسعها فافهم ،وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ[ الأحزاب : 4 ] .)
 
قال رضي الله عنه :  (إذ) ، أي لأنه (لو عرف) ذلك المعترض على غيره (ما قال) ، أي قول (الجنيد) رضي اللّه عنه السابق ذكره لون الماء لون إنائه كما قدمنا بيانه قريبا لسلّم لكل ذي اعتقاد في اللّه تعالى ما اعتقده ، لأن الكل مخلوق في النفوس فهو سواه ، والاختلاف في ذلك إنما هو بحسب استعداد كل أحد في قوّة بصيرته ، والحق تعالى المطلق بالإطلاق الحقيقي غيب عن الكل ، مطلقا على حسب ما هو عليه في الأزل (وعرف اللّه) تعالى ظاهرا متجليا له في كل صورة حسية أو عقلية أو )و( همية وفي (كل معتقد) بصيغة اسم المفعول أي ما يعتقده كل أحد على حسب ما قررنا سابقا .
 
) قال رضي الله عنه :  فهو( ، أي ذلك المعترض على غيره في الاعتقاد ظان ، أي صاحب ظن في اللّه تعالى كما قال سبحانه :وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا[ الأحزاب :10].، وقال تعالى :إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ[ الأنعام : 116 ] وإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً[ يونس :36].
، ثم قال تعالى بعد ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا[ النجم : 29 ] ، أي من حيث الإطلاق الحقيقي ليس ذلك بعالم باللّه تعالى أصلا لعدم عجزه بالذوق والوجدان عن ذلك الغيب المطلق .
 
قال رضي الله عنه :  (فلذلك) ، أي لأجله (قال) تعالى كما ورد في الحديث القدسي (" أنا عند ظن عبدي بي") فليظن بي ما شاء » . رواه الطبراني والحاكم عن واثلة بن الأسقع.
وفي رواية : " أنا عند ظن عبدي بي فإن ظن خيرا فله وإن ظن شرا فله " . رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة .
 
قال رضي الله عنه :  (أي لا أظهر له) ، أي لذلك العبد (إلا في صورة معتقده) ، أي ما يعتقده في حق اللّه تعالى (فإن شاء أطلق) في معتقده من حيث ما يدري ذلك العبد من عدم التخصيص بصورة في نفسه ، وهو الإطلاق المجازي العقلي لا الإطلاق الحقيقي ، الذي هو عليه الحق تعالى في نفسه ، لأن ذلك ليس بإطلاق أحد (وإن شاء قيد) في معتقده صورة خاصة ولكنه لا يبقي ما عداها لئلا يفتري على غيره فيفتري الغير عليه ظاهرا أو باطنا أو بلسان الحال (فإله المعتقدات) ،
أي الذي في الاعتقادات المختلفة على حسب استعداد كل استعداد منها تأخذه الحدود ، أي المقادير والصور والهيئات بحسب العقول المختلفة (وهو الإله الذي) ورد في الحديث القدسي أنه قال رضي الله عنه :  (وسعه قلب عبده) المؤمن في قول النبي صلى اللّه عليه وسلم عن اللّه تعالى : " وما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن " .  والعبد المؤمن هو كل من في السماوات والأرض .
قال تعالى :إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً[ مريم : 93 ]
لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ( 94 ) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً( 95 ) [ مريم : 94 - 95 ].
 
قال رضي الله عنه :  (فإن الإله) الحق (المطلق) بالإطلاق الحقيقي (لا يسعه شيء) أصلا ، فإن الأشياء كلها بالنسبة إليه عدم صرف وهو الوجود الحق الحقيقي (لأنه) ، أي الإله المطلق (عين الأشياء) كلها المحسوسة المعقولة والموهومة من حيث التجلي والانكشاف بالوجود الحق المطلق ، لا من حيث الصور الممكنة العدمية الظاهرة بذلك التجلي الإلهي والانكشاف الرباني
 
قال رضي الله عنه :  (و) هو أيضا تعالى من تلك الحيثية المذكورة (عين نفسه) ، أي ذاته (والشيء لا يقال فيه) ، أي في حقه أنه (يسع نفسه) إذ لا مغايرة بينه وبين نفسه ولا يقال فيه أيضا (أنه لا يسعها) ، أي نفسه لأن النفي مرتب على الإثبات ، فإذا لم يمكن الإثبات في أمر فلا معنى لاعتبار النفي فيه حينئذ .
 
قال رضي الله عنه :  (فافهم) يا أيها السالك جميع ما ذكرناه لك في هذا الكتاب مفصلا ومجملا (واللّه سبحانه يقول الحق ) بلسان عبده المؤمن (وهو) تعالى الذي ("يَهْدِي السَّبِيلَ")، أي الطريق المستقيم والدين المحمدي القويم لا هادي سواه ولا إله إلا اللّه .
 
وقال شارحه سامحه اللّه تعالى : وهذا آخر ما يسره اللّه تعالى لنا من الشرح على كتاب فصوص الحكم ، الذي ناوله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي رضي اللّه عنه في منامه المشتمل على رؤيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحق الصدق ،
الذي من رآه في منامه فقد رآه حقا كما ورد عنه صلى اللّه عليه وسلم في الحديث الشريف .
وقال له : " اخرج به إلى الناس ينتفعون به " .
فخرج به رضي اللّه عنه في بلادنا هذه دمشق الشام المحروسة إن شاء اللّه تعالى من كل سوء على مدى الأيام ، وانتفع الناس به كما قال صلى اللّه عليه وسلم ، "وما تضرر به إلا من غلبت عليه الحيوانية ، وضعفت إنسانيته فليس من الناس إلا في الصورة دون المعنى " .
 
وقد سبق بيان هذه الرؤيا المبشرة في أوّل هذا الكتاب تلطيف ذلك الكلام المستطاب ، واللّه تعالى قد تفضل الآن بإتمام شرحنا هذا الذي خدمنا به ألفاظ المتن بحسب فتوح الوقت من غير مراجعة شرح من شروحه أصلا من أوّله إلى آخره ، واتكلنا فيه على معونة اللّه تعالى لنا وحسن توفيقه .
وقد كشفنا فيه عن العبارات المغلقة وحررنا ما يحتاج إليه في بيان ما أشكل من معانيه التي هي عند كثير من الناس مغلقة ، وكان هذا التحرير من أوّله إلى آخره في بلادنا هذه دمشق الشام ، التي كان تصنيف المتن فيها بمعونة الملك العلام .
وقد فرغنا منه بعد صلاة الجمعة بالجامع الأموي نهار الجمعة الخامس والعشرين من شعبان المبارك من شهور سنة ست وتسعين بعد الألف .
قال هذا مصنفه العبد الحقير والعاجز الفقير عبد الغني بن إسماعيل بن النابلسي
 
عفا اللّه تعالى عنه ولطف به في الدارين ، وختم له بالحسنى وجعله من خير الفريقين .
وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، والحمد للّه رب العالمين ، ورضوان اللّه تعالى على جميع الصحابة والتابعين إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين .
قال شارحه سامحه اللّه تعالى وقد أحببنا هذا الشرح المبارك بأبيات ثلاثة عشر ، نظمناها بعد فراغنا من تصنيفه بيومين ، تشتمل في آخرها على تاريخ إتمام هذا الشرح إذا حسبت الجملة الواقعة بعد قولي : " أرخت " وهي : « صار شرح الفصوص » .
وذلك قولي :
بعلوم حوى كتاب الفصوص  ... تنتهي قلوب أهل الخصوص
نور حي مؤيد هو فينا   ... من كتاب وسنة بالنصوص
لكن الحق باطل بالتعامي   ... عنه ممن في دينهم كاللصوص
ويرى المؤمن الأذى من سواه   ... ولو انحاز عنه في أفحوص
"" أفحوص : مشتق من فحصت القطاة والدجاجة إذا بحثت في التراب موضعا تبيض فيه ، والأفحوص مبيض القطا وعش الطائر ( لسان العرب )""
إن هذا الكتاب للّه باب   ... يا هنا أهل بيته المخصوص
فيه دين الإله أحياه محيي ال   ... دين بحر الكمال روض الخلوص
كيف لا والرسول ناوله ذا   ... وله قال في مساق الشخوص
خذه واخرج به إلى الناس حتى   ... يقتفوا نفعه بزجر القلوص
"" القلوص : كل أنثى من الإبل ، الشّابة أو الباقية على السير ( القاموس المحيط ) .""
عصبة الحق في معانيه قاموا   ... كبناء عن الهوى مرصوص
والجهول الذي له حرمان   ... من بداه بحظه المنقوص
أذهب العمر منكرا بجناح   ... عن نهوض إلى العلى مقصوص
وفق اللّه حيث قمنا بنصر   ... للهدى في مراده المنصوص
وعليه لنا تيسر شرح   ... فيه أرخت صار شرح الفصوص
* * *

تم الفص المحمدي
. 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 2انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب الشيخ نور الدين عبد الرحمن الجامي نقد النصوص فى شرح نقش فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي
» كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص لأبي المعالي صدر الدين القونوي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» شرح أبو المعالي صدر الدين القونوي كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» كتاب شرح كلمات فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربى الطائي الحاتمي أ.محمود محمود الغراب
» كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: