27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي
كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكمالجزء الأول
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
هذا فص الحكمة المحمدية ، ذكره بعد حكمة خالد بن سنان عليه السلام ، لأنه كان قريبا من زمانه ، ولأنه صلى اللّه عليه وسلم آخر الأنبياء وخاتم المرسلين ، فناسب أن يختم الكتاب كما بدىء بآدم عليه السلام ، ولأنه عليه السلام جامع لمشارب النبيين والمرسلين كلهم عليهم السلام ، فكان ذكره بعد تمام ذكرهم كالإجمال بعد التفصيل ، وكالفذلكة في الحساب الطويل .
قال رضي الله عنه : (فص حكمة فردية) ، أي منسوبة إلى الفرد وهو الواحد الذي لا نظير له في كماله (في كلمة محمدية . )
إنما اختصت حكمة محمد صلى اللّه عليه وسلم بكونها فردية لانفراده صلى اللّه عليه وسلم بالفضيلة التامة والكرامة العامة والمرتبة السامية على الجميع ، والمزية التي من انتسب إليها بالمتابعة لا يضيع ، والشرف العالي في الدارين ، والقدر الرفيع الذي نصبت أعلامه في الخافقين ، ولقول المصنف قدس اللّه سره ولم يعلل حكمة غيرها إفرادا لها بالاعتناء والاهتمام بشأنها .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إنّما كانت حكمته فرديّة لأنّه أكمل موجود في هذا النّوع الإنسانيّ ، ولهذا بدئ به الأمر وختم ، فكان نبيّا وآدم بين الماء والطّين ، ثمّ كان بنشأته العنصريّة خاتم النبيّين .
وأوّل الأفراد الثّلاثة ، وما زاد على هذه الأوّليّة من الأفراد فإنّها عنها .
فكان صلى اللّه عليه وسلم أدلّ دليل على ربّه، فإنّه أوتي جوامع الكلم الّتي هي مسمّيات أسماء آدم . فأشبه الدّليل في تثليثه . والدّليل دليل لنفسه.)
(إنما كانت حكمته) ، أي محمد صلى اللّه عليه وسلم (فردية لأنه) عليه السلام (أكمل موجود) على الإطلاق (في هذا النوع الإنساني) بالاتفاق (ولهذا بدىء) ، أي بدأ اللّه (به) صلى اللّه عليه وسلم الأمر الإلهي فهو أوّل مخلوق من حيث كونه نورا كما ورد في حديث جابر الذي أخرجه عبد الرزاق في مسنده : يا رسول اللّه أخبرني عن أوّل شيء خلقه اللّه تعالى قبل الأشياء ، قال : « يا جابر إن اللّه خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره » إلى آخر الحديث الطويل (وختم) ، أي به الأمر أيضا صلى اللّه عليه وسلم فلا نبي بعده ولا رسول بعده إلى يوم القيامة (فكان) صلى اللّه عليه وسلم (نبيا وآدم بين الماء والطين) كما ورد في الحديث وفي رواية : " كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد " . رواه الترمذي والطبراني عن ابن عباس .
وفي رواية : « كنت أوّل الناس في الخلق وآخرهم في البعث » رواه ابن سعد عن قتادة مرسلا و رواه الحاكم في المستدرك و روى نحوه ابن أبي شيبة.
وفي رواية : « كنت أوّل النبيين في الخلق وآخرهم في البعث » رواه الحاكم في مستدركه ، يعني أنه صلى اللّه عليه وسلم كامل الخلقة شريف المقام والمرتبة من حين خلقه اللّه تعالى نورا إلى أن فصل مجمله ظهورا ، فخلق له القالب الآدمي ، واستعمله في ظهور صورته العظيمة ، ثم صفاه في مصافي قوالب الكاملين من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ، حتى أخرجه في هذا الوجود ، وأفاض به إناء المكارم والجود ، فكان في الآخر كما كان في الأوّل ، فهو الفرد الكامل الذي عليه المعول .
ثم كان صلى اللّه عليه وسلم بنشأته ، أي خلقته العنصرية ، أي المركبة من العناصر الأربعة : الماء والنار والتراب والهواء التي هي آخر الأصول المادية لخلق المولدات الأربعة الجمادية والنباتية والحيوانية والإنسانية .
قال رضي الله عنه : (خاتم) بكسر التاء المثناة الفوقية وفتحها (النبيين) عليهم السلام كما قال تعالى :"ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ" [ الأحزاب:40 ].
(و) لأنه (أوّل الأفراد) جمع فرد (الثلاثة) التي قام بها كل شيء من محسوس أو معقول أو موهوم ، فإن كل شيء مما ذكر له عندنا روح نورانية ونفس برزخية وصورة ظلمانية ، فروح كل شيء في الملأ الأعلى العرش ، ونفسه في الحضرات الفلكية السماوية ، وصورته في العالم السفلي الأرضي ،
وهي أفراد ثلاثة على هذا الترتيب :
روح وجسم ونفس ، قلم ولوح وكتابة ، آخرة وبرزخ ودنيا ، جنة وأعراف ونار ، ذات وصفات أو أسماء وأفعال ، فهو صلى اللّه عليه وسلم أوّل هذه الأفراد الثلاثة .
(وما زاد على هذه الأوّلية من الأفراد) وهما الفردان الباقيان (فإنه) ، أي ذلك الزائد ناشيء (عنها) ، أي عن تلك الأولية من الثلاثة :
فالجسم من النفس ، والنفس من الروح ، والكتابة من اللوح ، واللوح من القلم ، والدنيا من البرزخ ، والبرزخ من الآخرة ، والنار من الأعراف ، والأعراف من الجنة ، والأفعال من الصفات أو الأسماء ، والصفات أو الأسماء من الذات ، فرجعت الأفراد إلى الفرد الواحد ، ثم رجعت الآخرة إلى الجنة ، والجنة إلى القلم ، والقلم إلى الروح ، والروح إلى الذات ، فهو الذات الجامعة ، والحضرة النورانية اللامعة .
وهذا الفصل يطول بيانه ويتفرع على أصله أغصانه ، وصاحب الذوق تكفيه الإشارة ، والمحجوب الغافل لا يفهم ولا بألف عبارة (فكان) ، أي النبي عليه السلام أول دليل على معرفة ربه سبحانه بأقواله وأحواله فإنه عليه السلام أوتي ،
أي آتاه اللّه تعالى جوامع الكلم ، أي الكلمات الجوامع التي هي مسميات أسماء آدم عليه السلام ، فقد علم اللّه تعالى آدم الأسماء كلها ، يعني أسماء كل شيء ، وعلم محمدا صلى اللّه عليه وسلم مسميات تلك الأسماء ،
فكان آدم عليه السلام مظهر الأسماء ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم مظهر الذوات ، والأسماء داخلة في الذوات ، فآدم عليه السلام حافظ الأسماء على الذوات ،
ومحمد صلى اللّه عليه وسلم حافظ الذوات مع الأسماء واسم آدم من جملة الأسماء ، وذاته من جملة الذوات كما أن اسم محمد من جملة الأسماء ، وذاته من جملة الذوات ، فآدم عليه السلام أبو الأسماء ومحمد صلى اللّه عليه وسلم أبو الذوات ، والأسماء صور الكلمات والذوات معانيها ، والأسماء عالم الأجسام ، والذوات عالم الأرواح ، والأجسام من الأرواح ، والأرواح من نور محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وهو من نور اللّه تعالى .
قال تعالى :"اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"، وهذا هو الأصل مثل نوره ، أي الذي خلق اللّه تعالى منه كل شيء كما ورد في الحديث السابق ذكره وهو نور محمد صلى اللّه عليه وسلمكَمِشْكاةٍهي آدم عليه السلامفِيها مِصْباحٌهو روحانية محمد صلى اللّه عليه وسلم "الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ" [ النور : 35 ] هي روح العبد المؤمن .
قال اللّه تعالى :"إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً"[ مريم : 93 ] ، وفي الحديث القدسي : " ما وسعتني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ".
قال اللّه تعالى :" إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ" [ الكوثر : 1 ] ، وهو نهر في الجنة ، وهو الكثرة في الوحدة ، وهي جوامع الكلم التي قال تعالى عنها : " قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً" [ الكهف : 109 ] ، وقال تعالى : " وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ[ لقمان : 27 ] وإن كان الأمر منقسما إلى قسمين .
كما قال تعالى :"مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ" [ إبراهيم : 24 ] ، ثم قال سبحانه : " وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ" [ إبراهيم : 26 ] وشبههما بالشجرة للتشاجر وكثرة التفريع واختلاف الجهات .
وقد قال تعالى :"وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ"[ هود118 - 119 ]
، أي للاختلاف أو للرحمة ، والاختلاف رحمة كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " اختلاف أمتي رحمة " . رواه نصر المقدسي في كتاب الحجة .
وفي رواية : « اختلاف أصحابي رحمة » .أخرجه الديلمي في مسند الفردوس فهم أصحابه بالنور الذي خلقوا منه .
قال رضي الله عنه : (فأشبه) صلى اللّه عليه وسلم (الدليل) العقلي (في تثليثه) حيث هو مركب من أمرين وثالث مكرر بينهما محمول في الأوّل ، موضوع في الثاني
كما نقول : العالم متغير فالعالم أمر ومتغير أمر آخر حمل على الأوّل ثم تقول وكل متغير حادث ، فتكرر متغير وتجعله موضوعا وتحمل عليه قولك حادث وهو أمر آخر ، فتصدق النتيجة من هذا الدليل العقلي التام ، وهو الموضوع في الأوّل المحمول في الثاني ،
وذلك قولك : العالم حادث .
قال رضي الله عنه : (والدليل دليل لنفسه) يدل عليها ويوضحها عند المستدل به كما أنه دليل لغيره .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولمّا كانت حقيقته تعطي الفرديّة الأولى بما هو مثلّث النشأة لذلك قال في باب المحبة التي هي أصل الوجود : «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» بما فيه من التّثليث . ثمّ ذكر النّساء والطّيب وجعلت قرّة عينه في الصّلاة .
فابتدأ بذكر النّساء وأخّر الصّلاة ، وذلك لأنّ المرأة جزء من الرّجل في أصل ظهور عينها .
ومعرفة الإنسان بنفسه مقدّمة على معرفته بربّه ، فإنّ معرفته بربّه نتيجة عن معرفته بنفسه لذلك قال صلى اللّه عليه وسلم : " من عرف نفسه فقد عرف ربّه ") .
قال رضي الله عنه : (ولما كانت حقيقته) صلى اللّه عليه وسلم (تعطي الفردية الأولى) الروحية (بما) ، أي بسبب المظهر الواحد الذي (هو مثلث النشأة) ، أي الخلقة يعني خلقته قائمة على ثلاثة أصول هي أفراد في العالم ، وهي الأطباق الثلاث التي قال اللّه تعالى: "لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ" [ الانشقاق : 19 ] وهو الهيكل الشريف الذي ظاهره جسماني ، وباطنه روحاني ، وبرزخه نفساني ، وكل واحد من الثلاثة التي فيه عين الآخر من وجه ، وغيره من وجه وهي النقطة التي تركبت منها الحروف فكانت الكلمات .
قال رضي الله عنه : (لذلك) ، أي لكونه عليه السلام مثلث النشء (قال الشيخ رضي الله عنه : ) النبي صلى اللّه عليه وسلم (في المحبة) الإلهية السارية بالتوجه الرباني من المقام الصمداني في جميع الكلمات والمعاني (التي هي أصل هذا الوجود) وداعية للمعاينة والشهود حبّب بالبناء للمفعول للعلم بالفاعل وهو اللّه تعالى المتجلي بكل شيء إليّ ولم يقل : أحببت لأنه عليه السلام محبوب اللّه تعالى ، والمحبوب محب باطنا ومحبوب ظاهرا ، والمحب محبوب باطنا ومحب ظاهرا .
قال تعالى :"يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ"[ المائدة : 54 ] فمن زادت معرفته باللّه تعالى عرف أن اللّه تعالى يحبه فهو محبوب اللّه تعالى ، ومن نقصت معرفته عن الأول وجد فيه المحبة المتوجهة من اللّه تعالى عليه .
وفي التحقيق توجهها منه تعالى على نفسه ، فظن أنها محبته هو للّه تعالى فادعاها باطنا ، فكان محبا للّه تعالى من عدم تحقيقه في ذلك وكل مدّع ممتحن .
وبهذا السبب ابتلى اللّه تعالى المحبين وامتحنهم ، وباعتبار كونهم في التحقيق محبوبين له سبحانه أكرمهم ونعمهم وحفظهم وحرسهم .
قال رضي الله عنه : (من دنياكم) معشر الأغيار المحجوبين بالحظوظ النفسانية تحت الأستار عن لوامع الأنوار واستجلاء وجوه الأسرار ، وقد تبرأ صلى اللّه عليه وسلم من الدنيا ونسبها إليهم لزيادة معرفته النافية للجهالة والماحية للتوهم والتخيل والضلالة .
قال صلى اللّه عليه وسلم الدنيا موقوفة بين السماء والأرض كالشن البالي ، تنادي ربها تعالى منذ يوم خلقها : « يا رب لم تبغضني فيقول اللّه : اسكتي يا لا شيء اسكتي يا لا شيء » . رواه عبد اللّه بن الإمام أحمد بن حنبل في فوائد الزهد لأبيه عن أبي هريرة مرفوعا (ثلاث) « 1 » من الخصال وفى كتاب الزهد لابي دنيا .
وقال القسطلاني في مواهبه : إنه وقع في الإحياء للغزالي ، وتفسير آل عمران من الكشاف ، وكثير من كتب الفقهاء : « حبب إليّ من دنياكم ثلاث ، وقالوا أنه عليه السلام قال : ثلاث ولم يقل اثنتين : الطيب والنساء .
وذكرها ابن فورك في جزء مفرد ووجهها وأطنب في ذلك ، وهذا يسمى عندهم طي ، وهو أن يذكر جمع ثم يؤتى ببعضه ويسكت عن ذكر باقيه لغرض المتكلم ، وأنشد الزمخشري عليه قول الشاعر :كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم * من العبيد وثلث من مواليها وفائدة هذا الطي عندهم تكثير ذلك الشيء .
وقال ابن القيم وغيره : من رواه : حبب إليّ من دنياكم ثلاث فقد وهم ، ولم يقل صلى اللّه عليه وسلم : ثلاث ، والصلاة ليست من أمور الدنيا التي تضاف إليها .
وقال الحافظ ابن حجر في مخاريج الكشاف : إن لفظ ثلاث لم يقع في شيء من طرقه ، وزيادته تفسد المعنى . وقال العراقي في أماليه : ليست هذه اللفظة وهي ثلاث في شيء من كتب الحديث ، وهي مفسدة المعنى ، فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا ، وكذا صرح به الزركشي وغيره . انتهى .
وأقول : أما كون الصلاة ليست من أمور الدنيا ، لأنها عبادة مقصودة فظاهر ، وذكرها مع الطيب والنساء والإطلاق على الثلاثة أنها من أمور الدنيا بطريق التغليب في الكلام ليس بممنوع ، كما غلب من لا يعقل على من يعقل في قوله تعالى :سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ[ الحديد : 1 ] وبالعكس في قوله تعالى :وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً[ الرعد : 5 ] والكل مسبح للّه تعالى بدليل قوله :وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ[ الإسراء : 44 ] والكل ساجد بدليل قوله تعالى :"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ"[ الحج : 18 ] .
وإذا كان الحديث مخرجا من باب التغليب في الكلام ، فلا إشكال فيه بشيء ، وأيضا لم يقل النبي عليه السلام في الثلاث إنها :
الطيب والنساء والصلاة حتى يلزم ما ذكروا ، وإنما قال : « وجعلت قرة عيني في الصلاة » كما يأتي في الثالث قرة عينه في الصلاة لا الصلاة نفسها ، وقرة عينه فرحه بالصلاة ، وذلك الفرح من أمور الدنيا وإذا لم تثبت لفظة ثلاث في الرواية عند من نفاها ، فهي ثابتة عند من أثبتها كالغزالي والزمخشري وكثير من الفقهاء ،
والمصنف قدس اللّه سره ومن حفظ حجة على من لم يحفظ بما ، أي بسبب فيه ، أي في خلقته من التثليث المذكور .
ثم ذكر صلى اللّه عليه وسلم في بيان الثلاث الواقعة في كلامه النساء والطيب وجعلت قرة ، أي برد عينيه عليه السلام من حرارة دمع حزنهما كناية عن وجود الفرح في الصلاة ؛ ولهذا كان يقول عليه السلام لبلال : « أرحنا بها يا بلال ». رواه أبو داود في سننه والطبراني في الكبير ورواه غيرهما في الراحة بالصلاة والفرح فيها فابتدأ صلى اللّه عليه وسلم بذكر النساء وأخّر ذكر الصلاة وذلك ، أي تقديم النساء لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها ، أي ذاتها ،
لأن المرأة مخلوقة من الرجل وهي حوّاء خلقت من آدم عليه السلام ومعرفة الإنسان بجزئه مقدمة على معرفته بنفسه كلها ومعرفته بنفسه مقدمة على معرفته ،
أي الإنسان بربه تعالى فإن معرفته بربه سبحانه نتيجة عن معرفته ، أي الإنسان بنفسه والنتيجة مؤخرة عن مقدمتها لذلك ،
أي لكون الأمر كذلك قال النبي عليه السلام « من عرف نفسه بالفناء والاضمحلال عرف ربه » بالبقاء والوجود المحقق في كل حال ، أو من عرفها بالقيود والحدود عرفه بالإطلاق الحقيقي وكمال الوجود ، ومن عرفها بالتغير والتبدل بالأمثال عرفه بالدوام والثبوت من غير زوال ، ومن عرفها بالافتقار والاحتياج عرفه بالغنى المطلق وكمال الابتهاج ، أو من عرفها بالعجز عن معرفتها لأنها سر اللّه تعالى الظاهر عرفه بعجزه عنه بالأولى وإن ظهر في المظاهر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن شئت قلت بمنع المعرفة في الخبر والعجز عن الوصول فإنّه سائغ فيه ، وإن شئت قلت بثبوت المعرفة . فالأوّل أن تعرف أنّ نفسك لا تعرفها فلا تعرف ربّك ؛ والثّاني أن تعرفها فتعرف ربّك .
فكان محمّد صلى اللّه عليه وسلم أوضح دليل على ربّه ، فإنّ كلّ جزء من العالم دليل على أصله الّذي هو ربّه فافهم . )
قال رضي الله عنه : (فإن شئت) يا أيها السالك (قلت بمنع المعرفة) للّه تعالى مطلقا (في هذا الخبر) الوارد (و) بحصول (العجز) من كل مؤمن (عن الوصول إلى جنابه) تعالى كما قال الصديق الأكبر رضي اللّه عنه « العجز عن درك الإدراك إدراك » .
وورد قول الملائكة عليهم السلام : « سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروف » ، أي المعرفة اللائقة بك لعجزنا عن ذلك فإنه ، أي هذا المعنى سائغ ، أي مستقيم صحيح فيه ، أي في هذا الخبر المذكور وإن شئت يا أيها السالك قلت بثبوت المعرفة للّه تعالى في هذا الخبر .
فالأوّل وهو منع المعرفة معناه أن تعرف يا أيها السالك أن نفسك لا تعرفها لامتناع معرفتها عنك بكثرة تنوّع أحوالها الباطنية والظاهرية وسرعة تغيرها وانتقالها في الأطوار على التوالي كما قال تعالى :وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [ نوح : 14].
فلا تعرف ربك المتجلي عليك بنفسك ، فإنك إذا لم تعرف آثار التجلي لا تعرف المتجلي بالطريق الأولى .
والثاني ، أي ثبوت المعرفة باللّه تعالى أن (تعرفها) ، أي نفسك بوجه من وجوهها في كل حال تكون فيه ولا تغفل عنها وتضبط الطور التي هي فيه قبل أن تنتقل إلى غيره وهكذا بالذوق والوجدان (فتعرف) بسبب ذلك (ربك) من وجه تجليه عليك في حال بعد حال وشأن بعد شأن ، كما قال تعالى :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ الرحمن : 29 ]
وقال :وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ[ يونس : 61 ] .
)فكان محمد صلى اللّه عليه وسلم أوضح دليل على ربه( تعالى لجمعيته الكلية للأفراد الثلاثة الأصلية جمعية كشف وشهود في جميع ذوات الوجود ، وإن كان كل شيء أيضا جامعا لكل شيء باعتبار وجود الأصول الثلاثة فيه كما ذكرناه ، ولكن لا يلزم منه تحققه بذلك في نفسه وخروجه عن توهمه وحسه .
قال تعالى :لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( 4 ) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ( 5 ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ( 6 ) [ التين : 4 - 6 ] .
ودخل في الإنسان المؤمن والكافر والمطيع والعاصي ؛ ولهذا صح الاستثناء بعده ، فليس في كل من خلق في أحسن تقويم يكشف له أنه مخلوق في أحسن تقويم بل يعرف ما معنى أحسن تقويم ؛ ولهذا قال تعالى باعتبار أهل الخصوص :وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ[ الإسراء : 105 ] .
وهو اللّه تعالى الذي قال سبحانه :مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ( 21 ) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ( 22 ) [ البروج: 20 - 22 ] .
وهي الأمثال التي قال تعالى :وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ( 43 )
قال رضي الله عنه : )فإن كل جزء من( أجزاء )العالم( المحسوس والمعقول والموهوم )دليل( واضح عند أهله )على( ثبوت )أصله الذي هو ربه( تعالى والجامع لجميع الأجزاء عن حس ووجدان وشهود وعيان دليل لا أوضح منه على ثبوت الأصل لتضمنه كل الأدلة )فافهم( يا أيها السالك معنى الحقيقة المحمدية السارية في كل شيء عند من تحقق بها بمعونة القدير المالك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإنّما حبّب إليه النّساء فحنّ إليهنّ لأنّه من باب حنين الكلّ إلى جزئه ، فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحقّ في قوله في هذه النّشأة الإنسانيّة العنصريّة وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي[ الحجر : 29 ] .
ثمّ وصف نفسه بشدّة الشّوق إلى لقائه فقال للمشتاقين : « يا داود إنّي أشدّ شوقا إليهم » يعني للمشتاقين إليه . وهو لقاء خاصّ .
فإنّه صلى اللّه عليه وسلم قال في حديث الدّجّال إنّ أحدكم لن يرى ربّه حتّى يموت ؛ فلا بدّ من الشّوق لمن هذه صفته . )
) قال رضي الله عنه : وإنما حبب إليه صلى اللّه عليه وسلم النساء فحنّ( ، أي شفق واشتاق إليهنّ لأنه ، أي ذلك الحنين )من باب حنين الكل إلى جزئه( ، كحنين النفس إلى نفسها فأبان ، أي أوضح وكشف صلى اللّه عليه وسلم بذلك الحنين المذكور )عن الأمر( الإلهي )في نفسه من جانب الحق( تعالى )في قوله( سبحانه )في( حق )هذه النشأة( ، أي الخلقة )الإنسانية العنصرية( ، أي المركبة من العناصر الأربعة ("فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي")[ الحجر : 29 ] فالروح مظهر معلوميته تعالى من نفسه لأنه تعالى عالم ومعلوم ، فمعلومه منه ظهر له بظهور ما يميزه عنه تعالى وهو الروح المنسوب إليه سبحانه كحوّاء عن آدم عليه السلام من قبل آدم ، وحوّاء عليها السلام كالروح الكلي والنفس الكلية والقلم الأعلى واللوح المحفوظ والعرش العظيم والكرسي والطبيعة الكلية والعناصر الأربعة والأركان والمواليد الأربعة .
قال تعالى :"وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"[ الروم : 27 ] فهو تعالى علم نفسه فعلم العالم ، فهو العالم والمعلوم والشاهد والمشهود ، وكل ما عداه تعالى فهو مراتب عدمية تميز بين حضراته سبحانه والأمر في نفسه على ما هو عليه لم يتغير أصلا ، والكلام كله بحسب المراتب لا غير .
قال رضي الله عنه : (ثم وصف) تعالى (نفسه بشدة الشوق إلى لقائه) ، أي لقاء هذا الإنسان المنفوخ فيه من روحه تعالى (فقال) تعالى (للمشتاقين) إليه من عباده الصالحين فيما أوحى إلى داود عليه السلام كما ورد في الخبر عن نبينا صلى اللّه عليه وسلم : " يا داود إني أشد" ، أي أكثر ("شوقا إليهم ") .
"" أضاف المحقق :
لفظه عند الديلمي : « يقول اللّه عز وجل طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إليهم أشد شوقا » عن أبي الدرداء ""
قال رضي الله عنه : ( يعني للمشتاقين إليه) تعالى من عباده وهو ، أي الشوق المذكور (لقاء) إلهي (خاص) غير اللقاء العام في حصول كل شيء عنده تعالى من غير غيبة أصلا وإن غاب بعض الأشياء عن حضوره مع اللّه تعالى (فإنه) سبحانه لا يغيب عنه شيء فإنه ، أي الشأن أو نبينا صلى اللّه عليه وسلم .
(قال في حديث) خروج (الدجال) المشتمل على قصته (إن أحدكم) يا عباد اللّه المؤمنين (لن يرى ربه) تعالى (حتى يموت) بالموت الاضطراري أو الموت الاختياري .
وفي رواية : إنكم تروا ربكم عز وجل حتى تموتوا . أخرجه الطبراني عن أبي أمامة (فلا بد من الشوق) الشديد أيضا من العبد المؤمن (لمن هذه) ، أي صفته الشوق الجديد (صفته) لعبده المؤمن .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فشوق الحقّ لهؤلاء المقرّبين مع كونه يراهم فيحبّ أن يروه ويأبى المقام ذلك . فأشبه قوله :حَتَّى نَعْلَمَ [ محمد : 31 ] مع كونه عالما فهو سبحانه وتعالى يشتاق لهذه الصّفة الخاصّة الّتي لا وجود لها إلّا عند الموت .
فيبلّ بها شوقهم إليه كما قال تعالى في حديث التّردّد وهو من هذا الباب :
« ما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بدّ له من لقائي » فبشّره بلقائه .
وما قال له ولا بدّ له من الموت لئلا يغمّه بذكر الموت . )
قال رضي الله عنه : (فشوق الحق) تعالى أي محبته العظيمة (لهؤلاء المقربين) إلى جنابه الشريف (مع كونه) تعالى (يراهم كما يرى غيرهم) ، من كل شيء واللّه بكل شيء بصير (فيحب) سبحانه (أن يروه) هم أيضا كما يراهم هو (ويأبى) ، أي يمتنع (المقام) في الحياة الدنيا على مقتضى التقدير الإلهي الأزلي (ذلك) ، أي أن يروه فإنهم لا يرونه إلا بعد موتهم اضطرارا واختيارا كما ذكر فأشبه ، أي هذا الشوق منه تعالى لمن يراهم قوله تعالى :"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ" [ محمد : 31 ] (مع كونه تعالى عالما) بذلك .
قال رضي الله عنه : (فهو سبحانه وتعالى يشتاق) إليهم (لهذه الصفة) له تعالى (الخاصة التي) هي محبته سبحانه أن يروه (لا وجود لها) ، أي لهذه الصفة (إلا عند الموت) ، أي موتهم الاضطراري أو الاختياري (فيبلّ) ، أي يبرد من البلل وهو الرطوبة (بها) ، أي بالصفة المذكورة (شوقهم) ، أي العباد (إليه تعالى كما قال) النبي صلى اللّه عليه وسلم (في حديث التردد وهو من هذا الباب) ، أي باب شوقه تعالى إلى عباده المؤمنين (ما ترددت) ، أي فعلت فعل المتردد من التأني في الأمر وعدم الإقدام عليه من كمال اللطف والعناية (في شيء) من الأشياء (أنا فاعله) ، أي فاعل ذلك الشيء (مثل ترددي) ، أي لطفي وعنايتي (في قبض) روح (عبدي المؤمن يكره الموت) بنفسه البشرية لأنه يوحشها ويبطل ما هي مستأنسة به من أحوال الدنيا ، ويقطع عليها شهواتها وإن قلبه يحن إلى الموت ، لأنه تحفته كما ورد في الحديث (وأكره) من كمال اللطف والمحبة
قال رضي الله عنه : (مساءته) ، أي حال السوء على العبد المؤمن كما قال سبحانه :اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ[ الشورى : 19 ] ، وهم عباد الاختصاص المضافون إليه تعالى ليخرج عبيد الهوى والدنيا وعبد الدرهم وعبد الدينار وعبد الخميصة وعبد الزوجة ، كما قال تعالى :إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا[ الحج : 38 ] ، أي الكاملين في الإيمان .
قال رضي الله عنه : (ولا بد له) ، أي لذلك العبد المؤمن ("من لقائي" ) . رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في سننه الكبرى.
أي بذلك اللقاء الخاص (بشره بلقائه) ، أي بشر اللّه تعالى عبده المؤمن باللقاء الذي هو مطلوب المحب على كل حال . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من أحب لقاء اللّه لقاءه ومن كره لقاء اللّه كره اللّه تعالى لقاءه ». أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عائشة وعن عبادة بن الصامت ورواه غيرهما .
قال رضي الله عنه : (وما قال) تعالى في الحديث المذكور(له) ، أي لعبده المؤمن (ولا بد له) ، أي لذلك العبد (من الموت لئلا يغمّه) ، أي يدخل عليه الغم (بذكر الموت) ، لأن ذكره مما يغم الإنسان باعتبار طبعه البشري .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولمّا كان لا يلقى الحقّ إلّا بعد الموت كما قال عليه السّلام : « إنّ أحدكم لا يرى ربّه حتّى يموت » لذلك قال تعالى : « ولا بدّ له من لقائي » .
فاشتياق الحقّ لوجود هذه النّسبة .
يحنّ الحبيب إلى رؤيتي .... وإني إليه أشدّ حنينا
وتهفو النّفوس ويأبى القضا .... فأشكو الأنين ويشكو الأنينا
فلمّا أبان أنّه نفخ فيه من روحه ، فما اشتاق إلّا لنفسه .
ألا تراه خلقه على صورته لأنّه من روحه ؟ ).
قال رضي الله عنه : (ولما كان) ، أي العبد المؤمن (لا يلقى الحق) تعالى باللقاء المذكور (إلا بعد) ذوقه (الموت) الاضطراري أو الاختياري (كما قال عليه السلام) في الحديث المذكور (" إن أحدكم") ، أي الواحد منكم يا عباد اللّه المؤمنين (لا يرى ربه حتى يموت) كما ذكرنا .
(لذلك) ، أي لأجل ذلك (قال تعالى ولا بد له) ، أي للعبد المؤمن ("من لقائي ") ، أي رؤيتي وشهودي ومعاينتي على التنزيه العام والتقديس التام (فاشتياق الحق) تعالى لعبده المؤمن قال رضي الله عنه : (لوجود هذه النسبة) التي هي محبة أن يراه عبده المؤمن كما أنه هو يرى عبده المؤمن ومن نظم المصنف قدس اللّه سره في ترجمان أشواقه قوله من أبيات .
قال رضي الله عنه : (يحن) ، أي يشتاق (الحبيب) ، أي المحبوب لي وهو اللّه تعالى من قوله تعالى :"يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ"[ المائدة : 54 ] (إلى رؤيتي له) ، أي كوني أراه أو رؤيته لي بي التي هي رؤيته لنفسه (وإني إليه) سبحانه (أشد) ، أي أكثر (حنينا) ، أي شوقا قبل انكشاف الأمر ، لأنه حال المحب من خلق حجاب المحبة فإذا انكشف الأمر وجد العبد المحب شوقه إلى ربه عين شوق الرب إليه فكانت الأشديّة في شوق الرب لا في شوق العبد كما مر في خبر داود عليه السلام يا داود إني أشد شوقا إليهم .
قال رضي الله عنه : (وتهفو) ، أي تميل وتطلب تعجيل اللقاء من شدة الشوق وكثرة المحبة النفوس ، أي نفس المحبوب الحق ونفوس المحبين الذين هم عباده المؤمنون أو بالعكس ، لأنهم حضراته الكمالية ومظاهر تجلياته الجمالية (ويأبى) ، أي يمتنع من ذلك الأمر (القضاء) الأزلي والتقدير الإلهي لأنه تعالى لا تبديل لكلماته (فأشكو الأنين) ، أي كثرة الشوق إلى المحبوب (ويشكو) ، أي المحبوب أيضا (الأنينا) ، أي كثرة الشوق كذلك .
قال رضي الله عنه : (فلما أبان) ، أي أوضح سبحانه (أنه نفخ فيه) ، أي في ذلك الإنسان الذي سوّاه (من روحه) وقد اشتاق إليه أيضا ، (فما اشتاق) تعالى (إلا لنفسه) الظاهرة له في مقدار ما تجلى بفاعليته بصورة عبده المؤمن (ألا تراه) سبحانه كما ورد في الحديث أنه تعالى (خلقه) ، أي خلق آدم الذي هو أوّل هذه النشأة الإنسانية (على صورته) سبحانه (لأنه) ، أي الإنسان منفوخ فيه (من روحه) تعالى فهو معلومه من نفسه ، فهو صورة نفسه في نفسه ، من غير اعتبار الجمود الوهمي ، المقتضي للالتباس في الخلق الجديد .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولمّا كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسمّاة في جسده أخلاطا ، حدث عن نفخه اشتعال بما في جسده من الرّطوبة ، فكان روح الإنسان نارا لأجل نشأته ، ولهذا ما كلّم اللّه موسى إلّا في صورة النّار وجعل حاجته فيها ،
فلو كانت نشأته طبيعيّة لكان روحه نورا .
وكنّى عنه بالنّفخ يشير إلى أنّه من نفس الرّحمن ، فإنّه بهذا النّفس الّذي هو النّفخة ظهر عينه ، وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارا لا نورا ، فبطن نفس الحقّ فيما كان به الإنسان إنسانا .
ثمّ اشتقّ له شخصا على صورته سمّاه امرأة ، فظهرت بصورته فحنّ إليها حنين الشّيء إلى نفسه وحنّت إليه حنين الشّيء إلى وطنه . )
قال رضي الله عنه : (ولما كانت نشأته) ، أي الإنسان من حيث جسمانيته (من هذه الأركان الأربعة) المتولدة في الجسد من مادة الغذاء وهي الدم والصفراء والسوداء والبلغم (المسماة في جسده) ، أي الإنسان (أخلاطا) جمع خلط بكسر الخاء المعجمة (حدث عن نفخه) ، أي الروح فيه (اشتعال بما) ، أي بسبب ما (في جسده) ، أي الإنسان (من الرطوبة) القابلة للتحلل بالحرارة التي فيه .
قال رضي الله عنه : (فكان روح الإنسان) المنفوخ فيه (نارا) باعتبار ذلك وإلا فإن الروح منزهة عن أحكام الطبائع والعناصر لعلوها عن قيود الكيفيات الطبيعية وإن لبست صورة ذلك في نزولها لتدبير الجسد بمقتضياته (لأجل نشأته) ، أي خلقة الجسد (ولهذا) ، أي لكون الأمر كذلك (ما كلم اللّه) تعالى (موسى) عليه السلام إلا بعد ظهوره له (في صورة النار) من حيث تجليه عليه بها ، وهو تعالى على ما هو عليه ، ليعلمه بتجليه في روحه .
كذلك (وجعل) تعالى (حاجته) ، أي موسى عليه السلام (فيها) ، أي في النار لتتوفر دواعيه إلى طلبها ويرغب في تحصيلها فيجد مطلوبه ويواصل محبوبه (فلو كانت نشأته) ، أي الإنسان (طبيعية) كالملائكة عليهم السلام (لكان روحه) المنفوخ فيه نورا مناسبة للطافة نشأته لا نارا مناسبة لكثافتها .
قال رضي الله عنه : (وكنى) تعالى (عنه) أي عن الإنسان (بالنفخ) الروحي (يشير) تعالى بذلك (إلى أنه) ، أي الإنسان مخلوق (من نفس) بفتح الفاء (الرحمن) المستوي على العرش أي المتجلي به ، فإنه أي الإنسان (بهذا النفس) بفتح الفاء (الذي هو النفخة ظهر عينه) ، أي الإنسان (وباستعداد) ، أي تهيؤ (المنفوخ فيه) ، وهو الجسد باشتماله على الأخلاط الأربعة كما سبق كان ذلك الاشتعال الحاصل بالنفخ (نارا لا نورا فبطن نفس) بفتح الفاء الحق تعالى أي أمره تعالى وظهر خلقه (فيما كان الإنسان به إنسانا) وهو النشأة العنصرية الممتدة من الأخلاط الأربعة المذكورة .
قال رضي الله عنه : (ثم اشتق) تعالى ، أي استخرج (له) ، أي للإنسان منه (شخصا) إنسانيا (على صورته سماه) ، أي ذلك الشخص (امرأة فظهرت) ، أي الامرأة له منه (بصورته) ، أي الإنسان (فحنّ) ذلك الإنسان (إليها) مثل (حنين الشيء إلى نفسه وحنت) هي أيضا (إليه) مثل (حنين الشيء إلى وطنه) الذي تولد فيه وخرج منه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فحبّب إليه النّساء ، فإنّ اللّه أحبّ من خلقه على صورته وأسجد له ملائكته النّوريّين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلوّ نشأتهم الطّبيعيّة. فمن هناك وقعت المناسبة.
والصّورة أعظم مناسبة وأجلّها وأكملها : فإنّها زوج أي شفعت وجود الحقّ ، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرّجل فصيّرته زوجا .
فظهرت الثّلاثة : حقّ ورجل وامرأة ؛ فحنّ الرّجل إلى ربّه الّذي هو أصله حنين المرأة إليه . فحبّب إليه ربّه النّساء كما أحبّ اللّه من هو على صورته . )
قال رضي الله عنه : (فحبّب إليه) صلى اللّه عليه وسلم (النساء) لهذا الأمر تخلقا بالصفة الإلهية (فإن اللّه) تعالى (أحب من خلقه على صورته) ، وهو آدم عليه السلام (وأسجد له ملائكته) عليهم السلام (النورانيين) وإن أبى عن السجود له الناري وهو إبليس حرمانا له من نيل الكمال بمعرفته المتجلي بأشرف المظاهر بين الجلال والجمال (على عظم قدرهم) ، أي الملائكة المذكورين ورفعة منزلتهم عند اللّه تعالى وعلو نشأتهم ، أي خلقتهم (الطبيعية فمن هناك)
، أي من هذا الشرف الذي جعله اللّه تعالى للإنسان (وقعت المناسبة) بينه تعالى وبين الإنسان مناسبة جعلية ، هي مقتضى الحكم الإلهي ، لا حقيقة المناسبة ، لأنها محال مطلقا (والصورة) الإلهية التي هي مجموع الذات والصفات والأسماء والأفعال والأحكام المخلوق عليها الإنسان بالقضاء والتقدير (أعظم مناسبة) بينهما (وأجلها) ، أي المناسبة (وأكملها) ،
أي أتمها إذ لا فرق بين صورة الرجل وصورة المرأة إلا بالفعل والانفعال ، وآلتهما المعدة لذلك ، كالصورة الآدمية في الإنسان الكامل المخلوق على طبق الحضرات الإلهية والمراتب الربانية قال رضي الله عنه : (فإنها) ، أي تلك الصورة (زوج أي شفعت وجود الحق) تعالى المطلق حيث هي تقديره العدمي الظاهر بجميع حضراته ومراتبه (كما كانت المرأة شفعت بوجودها) وجود (الرجل فصيرته) ، أي الرجل بها (زوجا فظهرت) بسبب ذلك (الثلاثة) :
(حق ورجل وامرأة) أصلهما آدم وحواء عليهما السلام (فحن) ، أي اشتاق (الرجل) ، أي الإنسان الكامل في مرتبتي العلم والعمل
قال رضي الله عنه : (إلى ربه) تعالى (الذي هو أصله) ، لأنه الظاهر عن أمره الكشف والشهود ، لا عن خلقه المحجوب بأستار الحدود مثل (حنين المرأة إليه) ، أي الرجل لظهورها منه وصدورها عنه (فحبب إليه) ، أي إلى ذلك الرجل الذي هو الإنسان الكامل ربه تعالى (النساء كما أحب اللّه) تعالى (من هو على صورته) الذي هو ذلك الإنسان الكامل .
.
يتبع