الهوامش والشروح 1915 - 2382 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء السادس ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
الهوامش والشروح 1915 - 2382 على مدونة عبدالله المسافر بالله
الهوامش والشروح 1915 - 2382 فى المثنوي المعنوي الجزء السادس د. أبراهيم الدسوقي شتا
شرح قصة تلك الخريطة للكنز
( 1915 - 1928 ) : الحديث عن الكنوز المخبوءة كثير في أعمال الصوفية ، ولعل النظر هنا إلى الحديث القدسي " كنت كنزا مخفيا ، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبى عرفوني " ، ( انظر البيت 2541 وما بعده من الترجمة العربية للكتاب الرابع ) ( استعلامى 6 / 316 ) إن ما رآه الفقير المتوسل لم يره في النوم ، فأين منه النوم وهذه الأحوال تتوالى عليه والواقعة هي التحول الباطني الذي تنتج عن الأحوال ، وهذا الكنز مقسوم لذلك الذي داوم على الطاعة والضراعة ، ولو فشا أمره فلن ينال أحد منه مقدار حبة ، لكن الأمر قد يطول ، فلا تيأس ، واجعل وردك الدائملا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ( الزمر / 53 ) .
قال المولوي " فأراد بالكنز وبكتاب الكنز مرتبة الوحدة وخزينة الحقيقة ، وأراد بالرقعة الكتاب الذي كتبت فيه المعاني متعلقة بالحقيقة وأسرارها التي هي كنز الحقيقة ، وأراد بالدرويش الذي هو طالب الأرزاق المعنوية بلا تعب وهو إما أن يلاقى مرشداً يرشده وهذا لا يحتاج إلى كتاب كنز الحقيقة فإن المرشد له كتاب كنز الحقيقة ، وإما يحتاج إلى كتاب كنز الحقيقة ولا يجد من يرشده إليه فهذا يتوجه إلى قاضى الحاجات لييسر له الأرزاق المعنوية " ( مولوى 6 / 274 ) .
لكن البشير لم يمض عن الدرويش إلا بعد أن أوصاه بأن يجاهد وألا يعتمد كل الاعتماد على هذه البشارات بل عليه أن يمضى ويجاهد .
« 521 »
( 1924 - 1929 ) : بالرغم من أن الشاب لم يكن نائما ، إلا أن هذه الوقائع لا تظهر إلا في حالة الغيبة ، لم يسعه جلده من الفرح ، لا لأنه وجد خريطة كنز بل لأن الله تعالى استجاب لدعائه من وراء الحجب ( عن الدعاء والاستجابة وفرح العبد بالاستجابة لا بالعطاء ، انظر الترجمة العربية للكتاب الثالث ، الأبيات 2333 - 2335 والبيت 2389 وشروحها )
بهذا الدليل أن الله سمع الدعاء يرتفع العبد من حضيض التراب إلى أوج الأفلاك ، لقد وجد الدليل على أن أذن الباطن وعين الباطن صارتا نافذتين من وراء الحجب وأن هذا الخطاب وهذه العلاقة سوف تستمر ولن تقتصر على هذه المرة الوحيدة .
( 1935 - 1945 ) : لا يزال الفقير في حالة تردد : كيف يحفظ الله تعالى مثل هذه الخريطة في مسودات الوراق ؟ !
" كيف يحفظ الأرواح العظيمة أرواح الأولياء والمرشدين في الخلق والخرق ؟ ! كيف يحفظ الكنوز في الخرابات ؟ !
وكيف حصل عليها اعتباطاً ، مهما جاهد العبد فإنه لابد وإلا يدرك في نفسه أهليته لعطايا الله الممتدة المتواترة التي لا تعد ولا تحصى ؟ ! !
إنها إرادة الخالق الذي يغمر بنور المعرفة قلب المؤمن دون أن يقرأ كتاباً من الكتب ، وانظر إلى موسى عليه السّلام ، ألم يكن يبحث عن الدليل والبرهان من الله لكي يصدقه فرعون والدليل في جيبه ، الدليل اليد البيضاء ، ( انظر آية 32 سورة القصص ، والعبارة 6 من السفر الرابع ، سفر الخروج من التوراة ) ،
لكن : لا شئ يستبعد عن الإنسان ، بل إن هذه السماوات السامية ما هي إلا مجرد انعكاس لمدركات الإنسان ( كل ما هو معروف عنها إنما هو من تصور الإنسان لها ) .
يقول السبزواري ( شرح مثنوى ، ص 450 ) :
" أي أن حقيقة الأمر بخلاف ما يقوله بعض أهل العلم الذين يعتبرون مدركات الإنسان موجوداً ظلياً للأجسام ويعتبرونها انعكاسا لها وأمر الانعكاس على عكس هذا تماما لأن الإدراك والتعقل لا يكونان بأن تترقى صورهما وتحذف بالنفس الناطقة كما يقول بعضهم ، ولا هي تتأتى للعقل بالمشاركة أو عن
« 522 »
طريق نزول النفس على الشكل الباقي والصوري من العقل الفعال أو عالم الذكر الحكيم في الباطن بل إن النفس الناطقة تصعد وتتصل بل وتتحد وتفنى في الأرواح المرجدة وتصير عالمة بعلمها وتلك العلوم قبل الكون ومنشأ الكون وخصوصاً عند أهل الإشراق القديم والمتألهة والإشراقيين الإسلاميين مثل صدر المتألهين الشيرازي صاحب الأسفار إن إدراك الكليات العقلية بمشاهدة العقل ذوات نورية وبالنسبة لعقول الطبقة المكافئة وجود محيط بكل كلى عقلي وذات نورانية ومجردة أزلية وأبدية
وباقية ببقاء الحق تعالى " وبعبارة أخرى : أليست من مدركات عقل الإنسان الذي فاض عن العقل الكلى الذي هو أول خلق الله ( أول ما خلق الله العقل )
إياك أن تظن أن هذا الكلام واضح ، وإلا فكيف أفشى أسرار العنقاء أمام الذباب ؟ ! ( في شعر حافظ : ليست العنقاء صيدا لأحد فلملم شبكتك ) ( عن استعلامى 6 / 317 ) .
( 1973 - 1981 ) : إن العقل هو الذي ييأس ويحبط ويمضى عن طريق لا فائدة ميسرة منه ، أما العشق ، فهو لا يبالي وصل أو فصل ، فاللذة في الطريق وليست في الوصول ، في مجرد الطلب والرجاء ، في الصبر والمشقة ، فالعقل باحث عن النفع والعشق باحث عن البلاء ،
روى عن العطار : " أن رجلين أحدهما عاقل والثاني عاشق قرآ كتاباً بأن في المحل الفلاني خزينة لا تفنى ، وعندها محبوب أوصافه لا تشرح وإن لم يوجد هناك ، اذهب يا هذا من هذا المقام تجد : الطريق على ثلاثة أحجار ،
مكتوب على الأول : يا ذاهب الطريق إن ذهبت على هذا الطريق لا تجد خزينة ولا محبوباً لكن قدامك بلدة إن ذهبت إليها تجد كارا ( أي عملا ) ،
وعلى الثاني إما ما لا تجد محبوبك أو لا تجده ، وعلى الثالث : إن ذهبت على هذا الطريق تمحى ، فتشاورا ، فقال العاقل لا أذهب إلى طريق الفناء ، لأن نتيجته غير معلومة ،
« 523 »
فأنا أذهب جانب ذاك الطريق الذي نتيجته بلدة عظيمة ، وقال العاشق : أنا متضجر من نفسي بعلة العشق لأنى لم أجد محبوبى ، فأذهب جانب الفناء والمحو فذهب ووجد محبوبه والكنز " ( مولوى 6 / 381 ) ولأن العاشق هكذا فإن الحق يعطيه بلا سبب طاهر ولا دليل ولا وسيلة أي خرقا للأسباب والعلل ، ولذلك فالعاشق يقامر بكل وجوده بطهر ( لا ينبغي عوضا ولا منفعة ) وربما يكون المعنى مشتقاً من الحديث القدسي : الفتوة أن ترد نفسك إلى طاهرة كما قبلتها منى طاهرة " .
وهذه المقامرة بطهر ينبغي أن تكون خارجة عن أي مذهب ( التعصب للمذهب عقبة في الطريق ) ، إنه بحث عن الخلاص لا عن المخلص ، كما أن العشاق لا يمتحنون ربهم ، ( عن امتحان العبد لله انظر الترجمة العربية للكتاب الرابع ، الأبيات 353 - 386 وشروحها ) إنهم يضحون فحسب لأنهم يعلمون أن في فنائهم بقاء بالحق ( انظر البقاء في الفناء مقدمة الترجمة العربية للكتاب الثالث ) .
( 1984 - 1990 ) : فرق إذن بين الملك ( العاقل ) والفقير ( العاشق ) ، فإن الملك سرعان ما مل برغم انه لم يكن يعمل بنفسه ، الفقير لم يمل ، كان يستعذب الألم ، مثلما يلعق كلب جراحه بلسانه ليقوم بتسكينها ، والعاشق يعكف على آلامه لا يستطيع حتى أن يبوح بها : فمن يا ترى يمكن أن يكون مقدرا لآلام العاشق والوجد لا يدركه إلا من يكابده ؟ !
وأي دواء يمكن أن يقدمه طبيب لجنون العشق ، والطبيب نفسه إن أصيب بهذا المرض لكفر بكل كتب الطب ولحاها بدمه ؟ !
وكيف والطب ناتج عن العقل والعقول كلها من تصوير هذا المعشوق ؟ !
والحسان كلهم مجرد قناع حسن أمام حسنه ( لجرعة الحسن التي تمثل بها البشر وتشربها كل الحسان ، انظر الكتاب الخامس ، الترجمة العربية ، الأبيات 372 - 379 وشروحها ) فليس أمامك إذن أيها العاشق إلا أن تشكو حزنك وهمك لنفسك .
( 1991 - 1996 ) : ومن هنا فأن ذلك الفقير قد أخذ في الدعاء ، والدعاء سعى ( انظر الكتاب الثالث الترجمة العربية ، الأبيات 2320 - 2340 وشروحها ) وكان
« 524 »
يسمع الاستجابة في قلبه ( انظر بيان أن قول المتضرع يا الله هو عين قول الحق لبيك ، الترجمة العربية للكتاب الثالث ، الأبيات 189 - 199 وشروحها ) ، إن الداعي للحق يظل على دعائه مهما لم يستجب له ، إنه تماما مثل الحمامة التي ألفت سطح منزل مهما تزجرها تعود إليه .
( 1997 - 2004 ) : الخطاب من مولانا جلال الدين لمريديه وملهمه وخليفته على الطريقة حسن حسام الدين : يا حسام الدين از جر ذلك المريد الذي ألف صحبتك كما تألف الحمامة سطح منزل من المنازل ( يفسر استعلامى 6 / 321 بأن جلال الدين يقصد بالحمامة هنا نفسه ، وهذا ليس معقولا إلا من قبيل التعبير المعكوس الذي يلجأ إليه مولانا أحيانا )
ثم يخاطب المستمع عموماً : إن طائر الروح لا يزال يحوم حولك مهما زجرته ما دمت من أهل الروح . إنها لا تستطيع إلا تعكف عليه وإلا كانت مستحقة للعقاب في قانون العشق حتى تعود من عشق التراب ( الجسد ) إلى عشق القمر ، إلى مليك العشق .
( 2005 - 2103 ) : يقول مولانا مخاطباً حسن حسام الدين : أنت منتهى سيرى مثلما كانت السدرة في ليلة المعراج منتهى سير جبريل عليه السّلام ، فقال للرسول صلى اللَّه عليه وسلّم : تقدم فلو تقدمت أنا قيد أنملة لاحترقت ، وأنت عيسى الطريق وأنا سقيم وهو هنا يعبر عن حسن حسام الدين الواسطة والوسيلة إلى عالم اللاهوت تجدد فيه الحياة وتحيى موات قلبه ، ( مثلما كان عيسى عليه السّلام يحيى الموتى ) ،
وأنت يا حسن تستطيع بجذبك أن تجعل بحر المعاني يجيش ويغلى في داخلي ويتحول إلى أشعار ، إنني في بحران ، وعندما تكون أنت لي فإن بحر المعاني يكون لي ، إن هذا الأنين يظهر بعض المعاني ، لكن الغياث يا الله من معان لا يستطيع البيان أن يعبر عنها ،
عن أبي هريرة رضي اللّه عنه : حفظت من رسول الله صلى اللَّه عليه وسلّم وعاءين من العلوم فبثثت أحدهما ولم أبث الآخر ، فلو بثثته لقطع هذا البلعوم منى " ( مولوى 6 / 386 ) .
ولا تستطيع الألفاظ أن تستوعبها ، ونحن كالناى ، له
« 525 »
طرفان ، طرف في الفم ( افتتاحية المثنوى : بشنو از نى : استمع إلى الناى ) وطرف آخر هو ما تسمع منه هذه الأنعام ، لكن حذار : إنني أقصد بالناحيتين الناحية التي تكون في فم نافخ الناى ، وناحية أخرى في الطرف الآخر ، فكل ما يبثه الناى قادم من الطرف الآخر ، هو من أنفاسه ، وإن لم يكن لهذا الناى حديث معه لما فاض منه هذه الشهد الزلال .
( 2014 - 2031 ) : يقطع مولانا استرساله كالعادة خشية الانزلاق إلى التعبير عما لا ينبغي التعبير عنه ، ما الباعث يا ترى إلى أن ينفجر هذا البحر من المعاني منك ؟ ! تراك بت بالأمس عند ربك يطعمك ويسقيك مصداقا للحديث النوبى الشريف [ أنا لست كأحدكم فأنى أبيت عند ربى يطعمني ويسقيني ] ( انظر البيت 1642 من الكتاب الرابع )
وكان من نتيجة ذلك أن سقت بحر عالم الغيب ، بحر النار في بحر المعاني ، فانقلبت كنار إبراهيم عليه السّلام بردا وسلاما ؟ !
إن أحد لا يستطيع أن ينكرك يا حسام الدين فمثله كمثل من يخفى الشمس بقبضة من الطين ، وهل يستطيع البشر العاديون العاكفون على الطين إخفاء الشمس ؟ !
ومن شمسك يتحرك الحجر في الجبل إلى ياقوت ، وإن أبطالا من أمثال رستم هم الذين يستطيعون تقدير بطولتك حق قدرها ، وكيف أتحدث بأسرارك إلى الناس ، وما أحوجني إن أردت أن افصح عن أسرارك أن ألجأ إلى فعل على رضي اللّه عنه عندما أراد أن يثبت سرا فطأطأ رأسه في بئر وأخفى بالسر ،
( يقول استعلامى أن الرواية سقطت إلى مولانا جلال الدين من العطار في منطق الطير وانظر البيت 2233 من الكتاب الرابع وشروحه وأضيف هنا أن هناك إشارة أخرى لسنائى على الحادثة وردت في الحديقة في البيت 3302 )
أما أنا وقلبي ينوء بهذه الأسرار إلا أنني أضرب بها بين الغوغاء وما أحوجني إلى أن أبثها في الخلاء ، فاعطني شراب العشق ثم انظر إلى حالي ، ولا تخرجني من هذا السياق طالبا منى أن أكمل لك حكاية الفقير والكنز ، فنحن الأن غارقون في الشراب الإلهى ، ويا أيها الفقير الذي تود أن تصل عن
« 526 »
طريق إكمالى الحكاية إلى كنزك ، لتعلم أنى لا أحس بذاتى ، فهذا الشراب الذي أحتسيه لا يستوعب شعرة من حطام الدنيا إلى جواره ، فقدمه أيها الساقي يا حسام الدين ، وأهزأ بأولئك الذين يتفنجون عليك ، إنه يقاوم ما لا سبيل إلى مقاومته ويقتلع لحيته عبثا ، فليخسأ عاذلك ، إن حيله واضحة وتزويره ظاهر للعيان .
( 2032 - 2050 ) : إن ما يتأتى من عالم الغيب بعد مائة عام يراه الشيخ بحذافيره ( إشارة إلى قصة تنبؤ أبى يزيد البسطامي بمولد أبى الحسن الخرقانى وصفاته وأماراته وشكله قبل مولده بأكثر من مائة عام ، أنظر الترجمة العربية للكتاب الرابع ، الأبيات 1802 - 1850 و 1925 - 1934 وشروحها ) ومن هنا يكرر مولانا جلال الدين أن ما يراه العامي في المرآة يراه الشيخ في قطعة من الطوب اللبن ، والأجرد كناية عن المتجرد عن الدنيا والملتحى المنصرف عنها والبيت مثل سائر ( انظر البيت 3566 من الكتاب الثالث )
فدعك من كل هذا وامض إلى بحر المعاني ، ألست ابنا لآدم فما بالك تتحدث عن اللحى كثيرا وكأنك قذى اشتبك بشعرها ؟ ! ولست قذى ، فأنت جوهرة عظيمة بل إنك تزرى بالجواهر العظيمة ( لقيمة الإنسان انظر مقدمة الترجمة العربية للكتاب الرابع ) ، إنني أقصد بالبحر بحر الوحدانية ، ( افتتاحية المثنوى : ملّ هذا الماء من ليس بحوته ، البيت 17 ) وبما أن بحر الوحدانية لا يقبل الشرك فإن أسماكه ودرره سواء
( ما للأنبياء للأولياء ) والذي يرى تميزا بين فئة وأخرى هو الأحول ، لكننا مع ذلك نذكرهم كاثنين لفظا لأننا نخاطب مصابين بالحول لا يعرفون لغتنا ، والأحدية تبدو لك عندما تتجه إلى منطقة الأحدية ، فإما أن تحدث مرة حديث العامة ، واصمت مرة ،
فليس الخواص في حاجة إلى حديث ، أو تحدث حديث الخواص عندما تراهم ، واصمت أمام الجهال ، وكن كالدن المختوم الفوهة ، وإلا حطمتك حجارة جهلهم ،
وتعامل مع هؤلاء الجهال بالمداراة ، واستخدم عقلك الموهوب من الله ، واصبر على ما يحيق بك من أذى الجهال
« 527 »
، فالصبر يصفى منك القلب ، ولتعتبر بنوح عليه السّلام الذي كلما كان يمر على قومه سخروا منه ، فكان هذا الصبر جلاءً لمرآة قلبه وتجلى فيها النصر الإلهى .
( 2051 ) : الحكاية التي تبدأ بهذا البيت قال فروزانفر ونيكلسون ( مآخذ / 209 ) أن مصدرها كتاب تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ويرى استعلامى أن ما ورد بعد الحلاج في تذكرة الأولياء يعد من إضافات النساخ ولا يمكن أن يحتوى على سيرة لأبى الحسن الخرقانى المتوفى سنة 425 ( 6 / 322 - 323 ) وهذا غريب ، فما العجب في أن يضمن العطار
( المتوفى سنة 618 ) سيرة الخرقانى المتوفى سنة 425 ؟ !
وفي رواية العطار يذكر أن الزائر كان أبا علي بن سينا ، ولعل من المناسب أن يجعل مولانا الزائر مجرد درويش ، والحكاية تذكر هنا بنماذج عديدة في الأدب العالمي وفي تراث الإنسانية عن عظماء كانت آثارهم تملأ الآفاق وقعيدة المنزل لا ترى فيهم ما يراه الآخرون
( زوجة سقراط مثلا - ولأندريه جيد رواية عما كتبته زوجتان لأديب عظيم في سيرته بعد وفاته )
ويضرب القرآن الكريم مثلا بالمرأة التي لا تدرك عظمة زوجها بامرأة نوح وامرأة لوط ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ( التحريم / 10 ) .
كما يذكر جلبنازلى ( 333 - 330 / 6 ) نماذج أخرى من تاريخ المتصوفين الترك ، كما يذكر أسماء متصوفة آخرين اعتلوا الأسد .
( 2068 ) : انظر الأية رقم 68 من سورة طه ، والبيت 1797 من الكتاب الذي بين أيدينا والبيت 3323 من الكتاب الرابع .
( 2075 - 2090 ) : يتحدث الشاب عن قيمة الشيخ ، والعسس هنا كناية عن أولئك الذين يقفون في طريق العاشقين ، أفي وجود ضياء الشيخ يوجد العسس الذين يتجولون في ليل الظلمات ، ولهذا النور تسجد السماوات ، إنه نور يفوق نور شمس الفلك فهو نور
« 528 »
شمس الحق وشمس الشمس ، التي تحل في كوكب حمل المعرفة ، فتصبح الدنيا بأجمعها ربيعا نضراً ، فمتى يحولنى الشيطان عن الطريق ؟ ! إن ما دفعني إلى رحلتي رؤية الشيخ ليس هباء حتى يحولنى عنه مجرد حديث عابث فارغ ( ريح ) ،
أي عجل ؟ ! وأي سامرى ؟ ! هذا الذي تسمينه عجلا من جهلك سطعت عليه الأنوار الإلهية فصار قبلة للكرم ، إن العجل صار معبودا لا لأنه عجل بل لأن السامري نثر عليه قبضة من أثر الرسول ( انظر البيت 3334 من الكتاب الرابع )
وألم تكن القبلة بيتا للأصنام قبل أن يسطع عليها النور المحمدي ؟ !
وهذا الكلام الذي تقولينه لو أنه جرى على لسان أحد الكمل لما كان كفراً ؟ !
وألم يسلم الشيطان نفسه طبقاً للحديث النبوي [ أسلم شيطانى على يدي ] ( انظر البيتين 289 و 290 من الكتاب الخامس ) وهذا الذي تتحدثين عنه بهذه الاستهانة هو الخبير بحب الله على الحقيقة ، وهو مظهر للعزة الإلهية ، إنه أسمى من الملائكة المقربين
( الإنسان أن تغلب على جانب الطين صار أسمى من الملائكة لأن الملائكة خير محض من الخليقة ولا فضل لهم على عبادتهم )
وهكذا لم يكن سجود الملائكة لآدم عبثا بل لهذا السبب " والقشر يسجد للب " أي أن التجليات الصورية وهي بمثابة القشر تسجد خضوعاً للتجليات المعنوية ( يكون القشر عادة متعفنا حول اللب وكأنه ساجد ) ( استعلامى 6 / 325 )
روى عن نجم الدين كبرى " قال أبو الحسن الخرقانى : صعدت إلى العرش لأطوف به فطفت عليه ألف طواف ورأيت قوما يطوفون حول العرش فعجبوا من سرعة طوافى وما أعجبني طوافهم ، فقلت من أنتم وما هذه البرودة في الطواف ؟ ! قالوا :
نحن ملائكة ونحن نور وهذا طبعنا ، فقالوا : ومن أنت وما هذه السرعة ؟ ! فقلت :
أنا آدمي فىّ نار ونور وهذه السرعة من نتائج نار الشوق ( مولوى : 6 / 398 ) .
والبيت 2085 إشارة إلى مضمون الآية 8 من سورة الصف ، والبحر لا يصير نجسا من فم كلب مثل فارسي سائر ، غريب حقا أن ينكر إنسان هذا النور ، لأنه في حالة الشيخ
« 529 »
أظهر من أن يحتاج إلى عين باطنة أو سير وسلوك ، لكن هذا هو حال الخفاش لا يستطيع أن يخرج في ضوء الشمس ، فينكر هذه الشمس مع أن نورها يملأ الآفاق
( تكرر المثال كثيرا في المثنوى ، انظر على سبيل المثال لا الحصر الأبيات 107 و 184 و 686 وشروحها من الكتاب الذي بين أيدينا ) .
( 2091 - 2099 ) : يستمر جواب الدرويش على زوجة الشيخ ، وهو في الحقيقة إفاضات مولانا جلال الدين ، إن أرواح رجال الحق هي بمثابة الأمواج العالية التي تبلغ أضعاف أضعاف طوفان نوح ، ومع ذلك فقد أنكرها واستهان بها ابن نوح
( انظر الترجمة العربية للكتاب الرابع ، الأبيات 3361 - 3367 ) ، " والكلاب تنبح والقافلة تسير " مثل عربى تكرر في المثنوى أكثر من مرة ( انظر 1465 - 1467 من الكتاب الرابع والبيت 14 من الكتاب الذي بين أيدينا ) ،
والجزء هو الروح الباحثة عن الله وهي مقام الشيخ الخرقانى ، " وعجوز في الغابرين " ، هي زوجة الشيخ وهنا إيماءة إلى زوج لوط التي لم تؤمن به ، فنجى وقومه إلا إياها ، إن العارف هو روح الشرع وروح التقوى أي هو المنتهى والحقيقة للتقوى ، ولم يصل إلى ما وصل إليه إلا بعد عمر من الزهد ، وما وصله إلى الحقيقة إلا حصاد غرس الزهد الذي غرسه .
( 2100 - 2110 ) : لا يزال مولانا في الحقيقة هو الذي يتحدث على لسان الدرويش عن مقام الشيخ : إن الشيخ هو الأمر بالمعروف ، بل هو المعروف نفسه ، إنه هو الذي يكشف أسرار الغيب ، بل هو نفسه سر الغيب ، ولعله ناظر إلى الحديث القدسي " الإنسان سر من أسرارى " ( استعلامى 6 / 325 )
إنه ملك الدنيا وملك الآخرة ، هو اللب وما سواه قشر وغثاء ، إنه المعبر عن الوحدة مع الحق بقوله " أنا الحق " ( الحسين بن منصور الحلاج ) ( انظر لتفصيلات أخرى عن الفكرة الترجمة العربية للكتاب الرابع الأبيات 2102 - 2134 وشروحها ) وما ذا يبقى بعد فناء العبد إلا الحق ؟ ! ( انظر مقدمة الترجمة
« 530 »
العربية على الكتاب الثالث ، وانظر عن لا وإلا الكتاب الأول ، البيت 3067 والترجمة العربية للكتاب الخامس البيت 590 ) ،
ثم يعود إلى المرأة ، وإلى كل منكر لمقام المعارف متطاولا عليه ، فكأنه يبصق على القمر ، فترتد بصقته إلى وجهه ولا يلحق بمقام القمر أدنى أذى ، ومن الإله تنهمر عليه اللعنات وكأنها زوج أبى لهب التي لا يفتأ المؤمنون في ترديد اللعنة عليها حتى يوم الدين كلما قرأواتَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، إن علامات العظمة وإمارات النور الإلهى بادية على الولي ، وكل من يعتبره شرها وأكولا ، لا يزيد عن كلب ، وبما أن ما هو للنبي يكون للولي ،
فأن الأفلاك إنما تدور من أجله ، بل وخلقت من أجله ، ألم يقل الله لنبيه " لولاك ما خلقت الأفلاك " ( انظر 1668 من الكتاب الذي بين أيدينا ) ، أنه رحمة العالمين ، وبأمثالهم ترزقون ، فكأن العالم كله يطلب منه القوت ، فكيف يكون متسولا وآكلا بالمجان ؟ !
( انظر الكتاب الخامس الأبيات 2341 - 2362 وشروحها ) .
( 2111 - 2118 ) : إنك تزينه متسولا شحاذا وذلك لأن الأمور معكوسة ( انظر لتفصيل الفكرة الولي الشحاذ ، الكتاب الخامس ، الترجمة العربية من 2700 - 2710 وشروحها ) إنه زبدة الأرواح كما تجد به كل المخلوقات زبدتها وكمالها ( تجد البحار الدر والأرض الكنوز والزهور ) إن إعطاء الصدقة ليس دليلا على غنى المتصدق وعلى فقر المتصدق عليه ، فالأغنياء في حاجة إلى عناية الدراويش .
ولحافظ :
أيها الغنى لا تبد كل هذه العنجهية والكبرياء فالرأس والذهب في كنف همة الدرويش ( عن استعلامى 6 / 326 ) فالزكاة في الحقيقة تزكية للغنى وليست للفقير ، ومن هنا اشتق اسمها .
( 2136 - 2138 ) : المقصود أن كل رجال الله يتميزون بهذه القدرات الروحانية ، كرامات الأولياء حينا محسوسة ومنظورة وحينا مكتومة وخفية " فالأنبياء مأمورون بإظهار
« 531 »
المعجزة والأولياء مأمورن بإخفاء الكرامة " ( أسر التوحيد في مقامات أبي سعيد ، تأليف محمد بن المنور ، عن استعلامى 6 / 327 ) .
( 2144 ) : أي أن تحمله للمرأة ليس من أجل إشباع الشهوة ، ( في البيت 2150 تصريح بالمعنى ) وكل ما يتوجه به الشيخ أبى الحسن الخرقانى إلى المريد ، لأن المريد وهو في الطريق إليه داخل الوسواس عن كيفية تحمل الشيخ لمثل هذه المرأة .
( 2146 - 2159 ) : عن سكر الجمل ، انظر الأبيات 818 - 827 من الترجمة العربية للكتاب الثالث وشروحها ، والعوام هنا المقصود بهم زوجة أبى الحسن الخرقانى التي لا تدرك سر عظمة الشيخ بالرغم من أنها تعيش معه تحت سقف واحد ، والولي الحقيقي هو الذي لا يهتم بالعوام أو بالخواص ، بل يكون سره وصحوه وسكره وغيبته وحضوره مع الله ، وهذه العوالم التي يقطعها الشيخ ، ملحمة ذات كر وفر لا نهاية لها ، إلا ذلك المتضوع الذي يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ( النور / 243 ) ،
فما بالك بوجوده وذاته وهو نور خالص ، وهذا النور لا يقبل الوصف ، بل كل ما نقدمه نحن عند الحديث عنه مجرد أقوال تنزل بمستواها من أجل أن يفهم المريد ، ويتعلم ، ويتحمل أثقال الخلق ، ويصل عن طريقها إلى سنن الأنبياء ، أولئك الذين ذاقوا من بلايا الكفار والأخساء الكثير ، ولولا هذا ما نصروا ، ولولا هذا ما تجلت الحقيقة الإلهية ، لأن الضد يتجلى بالضد وليس للحقيقة الإلهية ضد ، وإنما يظهر ضد عطاياه في البلايا التي يصبها أعداؤه على أصفيائه ، فيكون تجليه في قلوب أصفيائه رد فعل لهذه البلايا من أولئك وصبر هؤلاء ( أنظر الأبيات 100 - 109 وشروحها ) .
( 2160 - 2176 ) : وفيما عدا الحقيقة الإلهية ( التي لا ضد لها ولا ند ) فإن الله سبحانه وتعالى يظهر كل شئ بضده ، هذه هي سنة الله في خلقه ، لقد خلق الإنسان مظهرا لتجليه ، فهو الخليفة ، وهو صاحب الصدر في كل المخلوقات ، نفخ فيه من روحه ،
« 532 »
وهذا هو الصفاء الذي لا حدود له ، لكنه في الوقت نفسه جعل له ضد من إبليس وظلمه وكدره وعصيانه ، يقف له كل مرصد ويجرى فيه مجرى الدم ، ولذلك حتى قوم الصراع المستمر الذي يظهر فيه جوهر الإنسان ، وتنجلى فيه قدراته ، وهكذا تستمر الأضداد في كل دورة من دورات الخق ، هابيل وقابيل ، إبراهيم عليه السّلام والنمرود ،
ثم موسى عليه السّلام وفرعون ، ثم محمد المصطفى صلى اللَّه عليه وسلم وأبى جهل ، ولكي يفصل الله تعالى في هذه الحروب ، كان لا بد وأن ينصر أنبياءه بوسائل غير دنيوية وغير صورية ( فالله يتجلى في مقابل جفاء الكفار وغلظتهم وعدتهم وعتادهم ) فسلب من النار صفة الإحراق فلم تحرق إبراهيم عليه السّلام ، وجعل الصيحة نكرا على قوم ثمود ، وأرسل الصرصر على قوم عاد ، والأرض المستوية التي تحفظ ما عليها ساخت بقارون ،
إنها كلها تجليات لغضب الله ، وميدانها الإنسان وهذه الحرب المستمرة بين الخير والشر ، هي نفس الفكرة التي أقام عليها الفليسوف المعاصر على شريعتي فلسفة التاريخ عنده على أساس أنه صراع بين التوحيد والشرك أو بين الأنبياء الرعاة والفراعين والملأ والمترفين ، انظر ( إسلام شناسى 1 / 41 ) .
ويقول مولانا جلال الدين أن الولاية بعد النبوة إذن ففي كل دورة ولى قائم ( الكتاب الثاني ، البيت 818 )
( 2177 - 2186 ) : ولا يكون تجلى الحق في هذه الحروب المصيرية فحسب ، بل انظر إلى قهره عندما يحل بسائر البشر ، فيحول الدواء إلى داء ، وما يمد الجسد بالحياة إلى سبب للموت ، فيغص الحلق باللقمة ، ويختنق آكلها ، وتصبح الملابس التي تقى الحر والبرد والبأس ثقلا على الجسد فتيجرد منها لابسها ، وماذا تجديك هذه الأمثال وأنت لم تنضج بعد ( لم تصل إلى مستوى جرتى ماء لا تنجس إذا غسل فيها شئ نجس كما يقول الفقهاء ، بل أنت جرة واحدة ) ،
ولو كنت ممن يعتبرون ويتعظون لاعتبرت بعذاب يوم الظلمة الذي حاق بقوم شعيب ( انظر 189 من سورة الشعراء ) حيث سطعت عليهم شمس حامية سبعة
« 533 »
أيام ، ثم أظلتهم سحابة ، فلما احتموا بها أمطرتهم نارا ، فلما لجأوا إلى بيوتهم لم تمنحهم الظل الذي كانوا يرجون ( مولوى 6 / 310 ) ، وأهر عوا إلى شعيب عليه السّلام ولكن هيهات ، وإن كنت تريد تفصيلات عما حاق بهم فارجع إلى كتب التفاسير ، وإن لم يكن ثم قهر الله ، فمتى كان لعصا أن تلحق بفرعون على جبروته كل هذا العذاب والهوان ، وألا يكفيك هذا المثال ؟ ! .
( 2187 - 2197 ) : إن فعل الله يحدث بشكل قد لا يستطيع أن تدركه ، إنه سريع ولا يصدق ، بحيث أنك لا تستطيع أن تبصره ، إن لك نظرا وإدراكا باطنا لكنه صدىء من قلة الاستخدام ، عين آسنة متجمدة فارجع البصر ، تحرك ، وارجع البصر كرتين ، وإلا فإن استخدامك لهذه العين الآسنة لا يوصلك لشئ ، وإمعان النظر يحتاج إلى إيمان بالغيب ، وبدون هذا تكون كل أعمالك دقا للحديد البارد ، فاحمل حديدك إلى داود الإرشاد والطريق فقد ( ألنا له الحديد ) ،
فالمرشد هو النار للحديد البارد ، وهو إسرافيل نافخ الصور للأجساد الميتة ، وهو شمس الروح للقلوب المتجمدة ، تذيب ما ران عليها من صدأ الجسد ، لكنك مع كل ما أقوله لك تترك كل ذلك ، ومن الأوهام والخيالات التي التفت بك وطمست عين إدراكك ، وختمت على قلبك ، لتسرع نحو ذلك الذي تجد عنده علم المحسوسات ، مع أنه نفسه أعمى مثلك وقد يكون أكثر ضلالا منك ، فيها أيها السوفسطائى ، أو أيها المستنجد به ، املأ فمك الكلمات الضخمة ، وتفيهق ، واهزل ، لكن لا تتحدث بهذا إلى الخلق وإلا كان الأمر فضيحة ، ويعود مولانا فبين أن النظر بالحركة وإمعان النظر أي تحريكه ، فالروح عندما تكون في البدن تسمى ( جان ) لكنها عندما تخرج من البدن تسمى روان ( ومن معانيها في الفارسية الجاري والسائل والماشي ) ، وهذا هو الفرق بين الجمود والحركة ،
هكذا قال الحكيم ، ( قال استعلامى 6 / 330 أن بعض المفسرين ذكروا أن الحكيم المقصود هنا هو ابن سينا الذي سمى الروح ( جان ) بالروح
« 534 »
الحيوانية والروح ( روان ) بالنفس الناطقة ) ويرى مولوى ( 6 / 312 أن المقصود هو سنائى ) ، وذلك أن كل من هو متصل بالأمر فإنما تخرق له الأسباب والعلل ، فلو أراد الورد من الشوك لكان له ، وليس له أن يطلب الأشياء من أسبابها كما يفعل سائر البشر غير الواصلين .
( 2198 - 2210 ) : إن معجزة هو عليه السّلام دليل على قدرة رجال الحق الممنوحة لهم من الله ، فعندما سلطت عليهم الريح الصرصر ، رسم هود دائرة حول المؤمنين ، فلم تكن الريح تصيبهم بأدنى أذى ،
وهكذا فاعلم أن سفينة نوح عليه السّلام ليست على سبيل النجاة الوحيد ، كما أن طوفان نوح ليس الطوفان الوحيد فهناك أنواع عديدة من الطوفانات ولطف الله لا حق بكل شئ ، والملك في الأرض أمان لها ،
فالجنود يصطفون بناءً على حرص الملك للفتوح ولتثبيت الملك ، فيكون الأمان للخلق ، ومن قصد الملك رسوخ الملك ،
إذ لا رسوخ للملك دون أمان للناس ، وفي خوف حمار الطاحون من الضرب يكون لك الماء ، ويكون لك طحن الحبوب واستخراج الزيت منها ، والخوف هو الذي يحرك الثور لجر المتاع وليس بهدف جر المتاع ،
وهكذا من الخوف جعل الله لك المنافع في هذه الدنيا ، هذا الخوف والرجاء هما عماد العالم ، فرجاء التاجر في الكسب هو الذي " يسمره " في حانوته ،
وليس إصلاح العالم هدفا له ، إن كل العالم ملىء بالراجين في النفع والخائفين من العقاب ، وإذا قام كل منهم بواجبه لانتظمت أمور هذا العالم تلقائياً ، ولا تظنن أن الطالح فقط هو الذي يخاف فالصالح أيضاً يخاف ، ولولا ذلك ما قال سيد الصالحين [ إلا أن يتغمدني الله برحمته ] ، والخوف هو أيضاً عطية من الله تعالى ، وإلا فهل يخاف الإنسان من نفسه ؟ !
( 2211 - 2224 ) : إن ذلك الذي بعث هذا الخوف في نفوسنا لا يدرك بالحواس الظاهرة ، لكنه أقرب إلينا من حبل الوريد ، ولا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار وهو
« 535 »
اللطيف الخبير ، ولو كان الأمر بالبصر الحدسي لكان لكل دابة ما أدركه ولى عظيم مثل أبى اليزيد البسطامي ، فذلك الذي جعل هذا الجسد مركبا للروح ، وجعل من السفينة مركبا لنوح ونجاة له ، لكن إرادة الله الغالبة قد تجعل من وسيلة النجاة التي تتوسل بها هلاكا لك ،
وهكذا فحزنك وسرورك وخوفك ورجاؤك اللذان يتواليان عليك بمثابة الطوفان والسفينة ، وإن جذور هذا الخوف لا تستطيع أن تدركها ،
فما أشبهك بأعمى لكمه فظ ، وكان في نفس الوقت يسمع صوت بعير فظن أن البعير قد رفسه ، فهذا الأعمى يصف الشئ بقدر إدراكه له ، ولأن هذا الإدراك غير حاسم فإنه يتردد في وصف ما حاق به ، ولأن هذا الخوف - كأي خوف - لا بد أن يكون من خارج الإنسان إلا أن الإدراك الباطني هو الذي يستطيع أن يحدد كنهه ، ويعرف معالمه ، ثم يدرك أن أصله ليس من هذا العالم بل من العالم الباقي .
( 2225 - 2231 ) : يقصد بالذي يدعو نفسه حكيما أهل الاستدلال وحكماء المدرسة الذين يعتبرون الخوف من الوهم والخيال ، ويقول مولانا : إنه لا وجود حقيقي للوهم لكنه كل وهم يستمد من حقيقة أو واقع ، فحتى الناس يشترون النقد الزائف أملا في أن يكون حقيقة ( انظر 2939 من الكتاب الثاني )
الأبله يشترى الزائف على أمل أنه ذهب ، وعلى هذا فحتى الكذاب عندما يخلق ، فإنما يختلق لكي يحمل الناس اختلاقه محمل الجد ، فإذا كان الكذاب يرى للصدق كل هذا الضياء والرواج ، فأولى به أن يكون شاكرا للصدق لا منكرا له ، لكن هل لدى الوقت أيها المتفلسف للرد عليك ؟
إن ذلك يصرفنى عن الحديث عن ألطاف الله بعباده ، الذي تندرج تحته كل هذه الأجزاء .
( 2232 - 2254 ) : والولي هو نوح بالنسبة لك ، وصحبته هي السفينة ، فاطلب هذه الصحبة ، وأنج من طوفان أهل الدنيا ، وأهرب من أهلك وأقاربك وأصدقائك هروبك من الأسد والحية ( انظر باب الأقارب في حديقة سنائى وانظر أيضا جلبنارلى 363 / 6 . ) إنهم
« 536 »
يصرفونك إلى الدنيا ، ويمتصون زادك المعنوي ، وإن كانت لك قطرة من ماء الحياة والبحر الروحاني امتصوها منك ، وتركوك غصنا جافا لا تصلح لشئ ، فلا يمكن أن يصنع منه سلة ، ولا يمكن أن يصنع منه قوس ، فحتى الرجل الذي يصير على مثال هذا الغصن الجاف ، لا تتأتى منه عبادة بحرارة وخشوع
وإلا فما معنى :وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى ( النساء / 142 )
قال نجم الدين كبرى : لأنهم يذكرونه بلسان الظاهر القالبى لا بلسان الباطن القلبي ( مولوى 6 / 319 )
وإن ما أتحدث عنه عن أولياء الله بمثابة النار من أدركه حق إدراكه احترق ، وأولى بي أن اترك هذه الإفاضات وأعود إلى قصة الفقير والكنز ، فهذه النار التي أتحدث عنها لا تفرق بين غصن وغصن ، ولا تفرق بين واقع وخيال ، إنها النار التي تندلع من الروح ولا تقنع بأقل من الفناء الكامل ، فكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ( القصص / 88 )
وما أشبه فناء السالك في الحقيقة الإلهية بانمحاء حرف الألف ( الوحدة ) في كلمة بسم ، إن الحروف الصماء لم تتحمل الوحدة فكيف تتحملها أنت ؟ لكن هذه الألف وإن حذفت من كلمة بسم ، لكي يتم الوصال بين الباء والسين ، متضمنة فيها وأولى بها أن تصمت ولا تنطقها ،
فإنك إن قلت " ما رميت إذ رميت " دون أن تقول : قال الله ، لا بأس فإنها متضمنة فيها ، فكن فانيا مثلما يفنى الدواء ويدق فيدفع العلل
( انظر لتفصيلات الفكرة الترجمة العربية للكتاب الرابع ، الأبيات 2341 - 2352 وشروحها ) .
( 2255 - 2263 ) : يقتبس مولانا الآية رقم 37 من سورة لقمان وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، والحديث عن المثنوى بأنه لا غاية له ولا نهاية من ناحية المعنى ،
وإن كانت له نهاية من ناحية الألفاظ ، لأنه شرح لكلمات الله ولا نهاية لكلمات الله ، وهكذا فما دام الخالق يصور القالب الترابى فإنه ييسر لي تقطيع عروض المثنوى ، وهكذا فحتى عندما يفنى
« 537 »
التراب ( الصورة الشعرية ) فإن بحار المعاني لا تزال تجيش بالزيد ، والخلق دائما في تجديد ، فالغابات تحترق وتنمحى ثم تنمو في مكانها غابات أخرى ، فبحار الخلق لا تنفد ، فكم من الكتب سوف تظهر فتسد النقص وتزيد على ما فات ،
ومن هنا قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلّم [ حدثوا عن البحر ولا حرج حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج - حدثوا عنى ولا حرج فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، حدثوا عنى بما تسمعون ولا تقولوا إلا حقا ومن كذب على بنى له بيت في جهنم يرتع فيه . ] ( أحاديث مثنوى / 204 ) - انقروى ( 6 - 2 / 30 ) . وعند السبزواري ( ص 460 ) : [ تكلموا في آلاء الله ما استطعتم ، فإن البحر لا ينزف وسر الغيب لا يعرف وكلمة الله لا توصف ]
بحر العطاء المستمر الذي لا ينقطع ، ثم يخاطب مولانا نفسه : عد من حديث البحر ، فليس كل الحاضرين ممن يتحملونه ، وعد إلى قصة صاحب خريطة الكنز ، ويرى استعلامى أنه يقصد باللعبة الفقير صاحب الكنز ، ( 6 / 333 ) لكن المقصود هنا حديث المجاز عموما وهو ما يقوى عليه المريدون ، والفكرة مأخوذة من حديقة سنائى على أن البداية تكون من المجاز ،
فالطفلة لا تصلح للأمومة ، ومن ثم تشغل بالدمية حتى تصل إلى دور أمومتها ، والطفل يهلو بسيف خشبى لكي يصبح غازيا حين يكبر ويمسك بالسيف الحقيقي ، فالطفولة هي عالم الصورة ، والرجولة وطور النضج هو عالم الروح والمعنى ( انظر الترجمة العربية لحديقة الحقيقة ، الأبيات 6962 - 6970 وشروحها )
فكأن مولانا يقول هنا : دعك من عالم المعنى وعد إلى عالم الصورة ، حتى يشغل هؤلاء الأطفال باللعب ومن اللعب يصلون إلى الجد ( فالمجاز قنطرة الحقيقة ) .
( 2264 - 2273 ) : يتعامل مولانا مع أبطال حكاياته كشخوص حية ، فعندما يبتعد عن الحكاية ، يصور لمريديه أن بطل الحكاية لا يزال يناديه ويطلب منه أن يتم قصته ، إن صوته في ضمير مولانا وإن لم يسمعه المريد ، هذا التعاطف وحس المشاركة بين
« 538 »
مولانا جلال الدين وبين شخوصه سمة من أهم السمات التي تمنح حكاياته جانبا من الواقعية ، ولعله سبق في رفع الحائط الوهمي بين الكاتب وبين موضوعاته ، ومن المظنون انه إبداع من إبداعات مدارس الكتابة المعاصرة . وقد ترك مولانا هذه الحكاية من البيت 1997 ،
ويعبر مولانا عن بطل حكايته بأنه صار بخياله شريكا له في أسراره ، إنه مثله ينصرف عن كنوز المادة إلى كنوز المعنى ، إنه - أي الفقير طالب الكنز - كنز في حد ذاته لأنه باحث عن الحبيب ، والباحث عن الحبيب متصل به ، والوجود كله مرآة أمامه وما تجليه المرآة هو جمال الحق ،
انظر البيت رقم 34 من الكتاب الأول :إن مرآتك غامت دنسا * صداً الطبع عليها طمسافإن مدحت ما تراه في المرآة فإنك تمدح الحق ، وإذا نظرت في المرآة دون خيال أي دون تفكير في وجودك الفردى والصوري ، فإنك إن أدركت قبسا من الحقيقة ، لما بقي شئ من وجودك .
ويقول الأنقروى : أن هذا أشبه بما قاله ابن الفارض ( 6 - 2 / 33 ) :سلامي مجازى عليه لإنما * حقيقته منى إلى تحيتي
لها صلواتي بالقيام أقيمها * وأشهد فيها أنها بي صلتولما بقي شئ من معرفتك ، وعندما تصبح جاهلا بعالم الصورة تطل المعرفة الحقيقية ، حيث يسمع الواصل من اللهإِنِّي أَنَا اللَّهُ، ففي عالم الحقيقة لا متحدث في الحقيقة إلا الله ، إن مدح انعكاس الصورة في المرآة هو في الحقيقة مدح لأصلها ، ومن هنا لم يتردد الملائكة في السجود لآدم عندما أمروا بذلك ، لأن الله تعالى محا عن أبصارهم الحول فلم يعتبروا الحق ورجل الحق اثنين بل اعتبروهما واحدا ، والشهادة نفسها لا تطرح وجودا آخر ، ولا إله إلا الله هي كل الوجود الصوري والمعنوي ، ( انظر 2104 من الكتاب الذي بين أيدينا ) .
( 2274 - 2284 ) : يدرك مولانا أن الحديث سوف يتجه منه إلى وجهة أخرى ، وها هو الحبيب يجرى من آذاني ، ينبهنى ، يأمرني بأن اكشف عن الأسرار ، فلن تكشف ،
« 539 »
وربما حاق بك الأذى ، مثلما حاق بآخرين كالحلاج مثلا الذي ابتلاه الله بالشنق لأنه وضع الأسرار أمام من لا يستحقونها ( استعلامى 6 / 334 ) ،
لكني أنا الذي أقول وأنا الذي اسمع ، فمن يقول أنني أبوح أمام أحد بالأسرار ؟ ، لكن هيا تحدث عن مشقة الطلب ، وعن قسوة الطريق وآلامه ، وعن صاحب الكنز ، فإن همم من يجلسون إليك ، لا تصل إلى ما هو أكثر من هذا ، فهم يتجرعون من سم الدنيا القاتل كأساً بعد كأس ، وحرمت عليهم الراحة ، وهم يزيدون في آلام أنفسهم ، وكل ما يقومون به من عمل إنما يقومون به من أجل ابتعاد أكثر وأكثر عن عين الراحة ، عين الفيض الإلهى والمعاني السامية ، وكل هذه السدود واهية لا تدوم ، فهل تستطيع قبضة من التراب أن تطمس البحر الإلهى ؟ ! إن هذه العين الفياضة بالمعاني لا تزال تقول : أنا معكم ، متصلة بكم ، ومتصلة به في ذات الوقت ، ومائي لا نفاد له ، فماذا حدث لكم ؟ ! أيأكل المرء التراب ويترك الماء ؟ !
.
الهوامش والشروح المجمعة فى المثنوي المعنوي الجزء السادس د. أبراهيم الدسوقي شتا
* * *
أبيات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء السادس ترجمة د. إبراهيم الدسوقي شتا
* * *