في المساء تركت خلفها حشدًا صوفيًا تجمّع قرب مسجد الحسين؛ لتستلقي بجسدها داخل سيارة صديقتها الشابة حديثة التصوف التي انتشلتهما بصعوبة من الزحام إلى طريق صلاح سالم حيث مسجد لأحد الطرق الصوفية.
لا تعرف السبب الذي يأخذها من هذا الحشد الروحي لتذهب إلى مسجد بعيد عن هذه الأجواء، وهناك هدأت الأنفاس منذ أسلمت ظهرها إلى عمود امتص المتبقي من حرارة الأجواء.
بعد دقائق بدأ شيخ صوفي معروف اعتاد الظهور على الشاشات في الحديث عن الإحسان، قال: "والاحسان هو أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك"، وهنا طفرت دموع من عينها، وقالت: "شعرت بمدى ضآلتنا لماذا لا نخجل حين نرتكب معصية وندرك أن الله يرانا".
الواقع أن الحديث عن رؤية الله لنا أو حتى عبارة "فإن لم تكن تراه فهو يراك" أخذت من الاستهلاك ما يجعلها ضئيلة التأثير في النفوس، هذا الوضع لم تعرفه بعد زينب الصوفية الإدريسية ذات الأربعين التي جاءت إلى القاهرة من أسوان لتسكن حي إمبابة وتقضي أغلب أيامها قرب أضرحة آل البيت والأولياء.
يغطي سمار لونها سماحة تلمحها بقوة حين تراقب تجاعيدها التي تتضاعف كلما دخلت في نوبة بكاء، لماذا هذه الروح الخفيفة وكيف لهذه السماحة أن ترتسم على وجه يعاني كما نعاني الحياة؟ إنها الصوفية، حب الله لا الخوف منه، الوصول إليه والاستقرار إلى جواره، المرأة تحديدًا لها في هذا نصيب أكبر ربما لرهافة قلبها أو غزارة مشاعر تحميها من ضغوط الأيام.
المرأة الصوفية..."الوَليّة"
ليست هي "العورة" التي عرفتها السلفية، ولا تلك التي تأخذ بآدم من يده لتلقي به في نار الأرض، هؤلاء قوم تجاوزوا قصة التفاحة وحواء الشريرة ناقصة العقل والدين، لديهم المرأة صاحبة كمال خاص بها يضاهي كمال الرجال، وتلك التي رأى ابن عربي حبها أثرًا من آثار الحب الإلهي.
يفسر ذلك الفلسفة التي تعتبر جوهر التصوف وهي تجنيب الجسد والتعويض عنه بالروح، ومن أعظم ما ارتقت فوقه الصوفية هو ارتقائها فوق التصنيف البيولوجي للمرأة، والرجل، فهي حالة روحانية لا تقم وزنًا للجسد أصلًا، فكيف تفرق بين أبدان العارفين ذكورًا وإناثًا؟
وعرفت السيدة الصوفية بـ"الولية" وهو اللفظ الذي تم تحويره في الموروث الشعبي المصري لتتحول إلى إشارة استهانة بالمرأة إلا أن المصطلح في الأصل فصيح تم استخدامه في الصوفية، وهو تأنيث لكلمة "والي"، ما يعني أن للمرأة ولاية هي الآخر.
وهو ما اتفق معه ابن عربي الذي استند إلى أهليتها الروحية في قدراتها في مجال الرياضيات والمجاهدات، ومن ثم جدارتها بالمشاركة في الولاية بالأصالة.
تدرّج ابن عربي لأن تتكون لديه قناعة بأنه لا مانع تكوينيًا أو كونيًا من وصول المرأة إلى أعلى مراتب الولاية، وإن لم يقع ضمن خبرته لقاء بامرأة في موقع القطب. فالنساء والرجال، لديه، يشتركون في جميع مراتب الولاية حتّى في "القطبية"؛ فكل ما صح أن ينال الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لنظيره من النساء، هذا النص لابن عربي يجعل طريق الولاية أمام المرأة مفتوحًا، لا سقف يحدّها إلا مرتبة النبوة وشخص النبي (صلى الله عليه وسلم)، فالمرأة وإن لم تظهر بالفعل في دنيا الناس في موقع القطبية إلا أنّه في قدرتها ذلك، وبالتالي في عالم الروح تتساوى الحظوظ بين المرأة والرجل، وينعكس هذا التساوي في نظرة أعلام الصوفية لها.
ولو أصبحت المرأة قطبًا خليفة تكون في وجهة نظر ابن عربي هي صاحبة الوقت، وسيدة الزمان، خليفة اللّه في أرضه، ونائبة سيد المرسلين في أمته، وارثة للاصطفاء والخصوصية الآدمية.
ورغم أن التاريخ لم يقف على واقعة واحدة تثبت مجيء سيدة في مشيخة أي من الطرق الصوفية البالغ عددها 77 طريقة، إلا أن ذلك ليس ذي أهمية إذ ما قورن بدفنها في أضرحة وإقامة الموالد حولها، من أبرز الأسماء الحديثة التي يقام لها موالد السيدة نور الصباح "جارة السيدة البدوي" والمعروفة لدى الصوفية بـ"ست الحبايب".
نور الصباح هي واحدة من أهل الله المشهورين في مصر، تم دفنها بمدينة طنطا وتلقب بالشيخة صباح، تبدأ قصتها من قرية ميت السودان بالدقهلية، حيث مولدها في أسرة صوفية ضمت ثلاثة أبناء وبنتا، شاركت البنت التي بقت دون زواج حتى سن الثمانين في إحياء الندوات الدينية التي يقيمها والدها وما يتلى من الذكر الحكيم والإنشاد، وكانت تحب السيد البدوي فبقت إلى جواره تقيم أعمال الخير إلى أن ماتت ودفنت هناك بطنطا، يحج كل عام إليها الآلاف الذين يعتبرونها القطب الصوفي الأبرز في طنطا بعد السيد البدوي.
مولد السيدة صباح ليس مفارقة إذ يأتي امتداد لاحتفالات الصوفية بمولد السيدة زينب التي يتعامل معها المصريين بـ"عشم" ويقولون إن علاقة خاصة تربطهم بأم العواجز صاحبة الشورى، أيضًا يحتشد المصريون كل عام قرب مسجد السيدة نفسية "نفيسة العلم"، التي يتباركون بها ويأتون من بيوتهم من أجلها.
سيدات أخريات وقعنا من الذاكرة إلا أن شهادات دونت في حقهن منهن فاطمة النيسابورية أستاذة ذي النون المصري؛ كذا قال الصوفي الذي يرجع تاريخه إلى القرن الثالث الهجري، أبو يزيد البسطامي والملقب بـ"سلطان العارفين" لشيخ الملامتية: "تعلّم الفتوة من زوجتك".. فالمرأة هنا، بشهادة "البسطامي"، وضعت قدمها في مقام يقصّر عنه أبطال الرجال، لأن الفتوة اقتحام وقوة ونصرة.
الحسن البصري هو الآخر يقول لصحبه مدللًا على شخص السيدة رابعة العدوية: هيّا بنا إلى المؤدبة.. وفي مجلسها تتداول مع أهل النخبة من الحضور، فنرى من طرحهم جميعًا لمفاهيمهم الصوفية علو تجربتها على تجربتهم، وبالتالي يصبح نصها هدفًا لمجاهدة رجل وتحققه من أمثال الحسن البصري ومالك بن دينار. ويقول عنها محيي الدين بن عربي: رابعة العدوية المشهورة التي أربت على الرجال حالًا ومقامًا.
وعن سؤال كيف تكون "الولية" مرشدة لمريد، تدله على الطريق، وترتقي به في معارج العارفين؟ أجابت الولية عائشة بنت أحمد الطويل المروزية ببساطة شديدة وعفوية على هذه الإشكالية حين قيل لها: "إن فلانًا لم يقبل رفقتك" وقال: "في قبول أرفاق النسوان مذلة ونقصان"، فقالت: "إذا طلب العبد التعزز في عبوديته، فقد أظهر رعونته".
هذا المكانة التي وصلت لها المرأة لا يمكن تخيلها في مجتمعات ذكورية إلا بفضل منهج صوفي ساوى بين الجنسين حين جعل الأفضلية للأرواح لا الأجساد.