لم يشتهر كتابٌ صوفىٌّ بين الشُّعراء فى الأربعين سنة الأخيرة مثلما اشتُهِر كتاب «المواقف والمخاطبات» للنفرى، والمدهش أن هذا الكتاب ليس للنفرى،
وإنَّما هو لمتصوف يُدْعى أبو عبد الله محمد بن عبد الله، وما محمد بن عبد الجبار النفرى المنسوب إليه الكتاب سوى حفيد مؤلف الكتاب،
الذى اقتصر جهده - فقط - على جمع وترتيب كتاب جدِّه والتأليف بين مادته وقت أن كان حيًّا وحتى بعد رحيله.
ولم يكن النفرى (الجد) يمسك قلمًا ليُدوِّن، وما كتابه المعجز «المواقف- سبعة وسبعون موقفًا- والمخاطبات- ست وخمسون مخاطبةً»
الذى اكتشفه ونشره المستشرق البريطانى أرثر يوحنا أربرى (1905- 1969ميلادية ) سنة 1934 ميلادية
إلا تأليفٌ شفاهىٌّ قاله أو أملاه أو فاض به وأشرقَ على مريديه وهم من حفظوه من الضياع، ودوَّنوه،
وقد أشار إليه محيى الدين بن العربى أربع مرات فى كتابه الأبرز «الفتوحات المكية»، كأنه كان يقول لابن عربى:
[تــــــلكَ آثـــَـــارُنا تــــــدُلُّ علينا
فانظــــــرُوا بعـــدَنا إلى الآثارِ]
ولولا هذه الإشاراتُ لغاب النِّفَّرى، وطُمس وحُذِف من المشهد الصوفى التاريخى، فقبل ابن العربى ظل النفرى منسيًّا مُهملًا قرابة ثلاثمئة سنة.
ولقد أعاد ابن عربى النفرى إلى المشهد، ولكن سيظلُّ الغموضُ ملازمًا لحياته وسيرته سواء فى مصر أو فى العراق،
وتصمتُ المصادرُ- للأسف- عن مدِّنا بتفاصيل ووقائع ومواقف فى حياته، وهو النادر فى حذفه للزائد من الكلام فى الكتابة، المُقصِى للشروح والباحث فقط عن الجوهر فى المتن الأساسى.
وظنِّى- ولعلَّ فى الظن بعض الخطأ- أن النفرى قد يكونُ خشى تسجيل فيوضاته وإشراقاته وتجلياته وشطحاته،
كى لا يُقتل مثل الحلَّاج الذى قُتِل سنة 309 هـجرية أى قبل خمسٍ وأربعين سنة من وفاة النفرى،
الذى أراد أن لا يكونَ مصيرُه كمصير الحلاج خُصوصًا أنَّ بينهما متشابهات فى الكتابة والشكل والشَّطح وقلة الإنتاج الفلسفى والصوفى والشِّعْرى،
وما يندرج تحت باب الشذُور أو الشذرات والمُناجيات
( كتب 2130 سطرا أى 213 ورقة طبقًا لمُجمل أعماله الموجودة مخطوطة فى استنبول،
وهى التى كتبها فى النيل «مصر»، والبصرة، والمدائن وهى مدينة عراقية تقع على بعد بضعة كيلومترات جنوب شرق بغداد،
وفيها قبر الصحابى سلمان الفارسى، ومنها المتصوف القطب عبد القادر الجيلانى وهو من أعمال جيلان التابعة للمدائن).