كتاب أخبار الحلاج لابي المغيث الحسين بن منصور الحلاج
الحسين بن منصور الحلاج
قال ابن أنجب الساعي:
اللهم إنك أنت، ولك الحمد دائما أبدا، والصلاة على رسولك. وبعد .
عن إبراهيم بن فاتك قال:
لما أُتي بالحسين بن منصور ليصلب رأى الخشبة والمسامير فضحك كثيراً حتى دمعت عيناه. ثم التفت إلى القوم فرأى الشبليّ فيما بينهم
فقال له: يا أبا بكر هل معك سجادتك.
فقال: بلى يا شيخ. قال: افرشها لي. ففرشها فصلى الحسين بن منصور عليها ركعتين وكنت قريباً منه.
فقرأ في الأولى فاتحة الكتاب وقوله تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ،
وقرأ في الثانية فاتحة الكتاب وقوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) ،
فلما سلم عنها ذكر أشياء لم أحفظها وكان مما حفظته: اللهم إنك المتجلي عن كل جهة، المتخلي من كل جهة. بحق قيامك بحقي، وبحق قيامي بحقك.
وقيامي بحقك يخالف قيامك بحقي. فإنّ قيامي بحقك ناسوتيّة، وقيامك بحقي لاهوتيّة.
وكما أنّ ناسوتيّتي مستهلكة في لاهوتيّتك غير ممازجة إياها فلاهوتيتك مستولية على ناسوتياتي غير مماسّة لها.
وبحق قِدَمك على حدثي، وحق حدثي تحت ملابس قدمك، أن ترزقني شكر هذه النعمة التي أنعمت بها عليَّ حيث غيّبت أغياري عمّا كشفت لي من مطالع وجهك وحرمت على غيري ما أبحت لي من النظر في مكنونات سرّك، وهؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصُّباً لدينك وتقرُّباً إليك.
فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لَما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم لَما ابتُليتُ.
فلك الحمد فيما تفعل ولك الحمد فيما تريد، ثم سكت وناجى سراً. فتقدم أبو الحارث السياف فلطمه لطمةً هشم أنفه وسال الدم على شيبه.
فصاح الشبليّ ومزق ثوبه وغشى على أبي الحسين الواسطيّ وعلى جماعة من الفقراء المشهورين.
وكادت الفتنة تهيج ففعل أصحاب الحرس ما فعلوا.
ذكر عن قاضي القضاة أبي بكر بن الحدّاد المصريّ قال:
لمّا كانت الليلة التي قُتل في صبيحتها الحلاّج قام واستقبل القبلة متوشحاً بردائه ورفع يديه وتكلم بكلام كثير جاوز الحفظ. فكان مما حفظته منه أن قال: نحن بشواهدك نلوذ.
وبسنا عزتك نستضيء، لتبدي ما شئت من شأنك.
وأنت الذي في السماء عرشك، وأنت (الذي في السماء إله وفي الأرض إله).
تتجلى كما تشاء مثل تجلّيك في مشيئتك كأحسن صورة، والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة والبرهان.
ثم أوعزتَ إلى شاهدك الأنيّ في ذاتك الهويّ.
كيف أنت إذا مثّلت بذاتي، عند عقيب كرّاتي، ودعوت إلى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي، صاعداً في معارجي إلى عروش أزلياتي، عند القول من بريّاتي.
إني أُخذت وحُبست وأُحضرت وصُلبت وقُتلت وأُحرقت واحتملت السافيات الذاريات أجزائي.
"وإنّ لذرّةً من ينجوج مظانَّ هاكول متجليّاتي اعظم من الراسيات".
ثم أنشأ يقول:
أنعَي إليك نفوساً طاح شـاهـدُهـا . . . فيما ورا الحيثِ بل في شاهد القِدَمِ
أنعي إليك قلوباً طالما هـطَـلـت . . . سحائبُ الوحي فيها أبحُرَ الحِكَـمِ
أنعي إليك لسانَ الحـقّ مـذ زَمَـنٍ . . . أوْدَى وتذكارُه في الوهمِ كالعـدمِ
أنعي إليك بياناً تـسـتـكـين لـه . . . أقوالُ كلّ فصيحٍ مقـوَلٍ فَـهِـمِ
أنعي إليك إِشاراتِ العقـول مـعـاً . . . لم يبقَ منهنّ إِلاّ دارسُ الـرِمَـمِ
أنعي وحُبِّـك أخـلاقـاً لـطـائفةٍ . . . كانت مطاياهمُ من مُكمِد الكَظَـمِ
مضى الجميعُ فلا عـينٌ ولا أثـرٌ . . . مُضِيَّ عادٍ وفُـقـدانَ الأُلـي إِرَمِ
وخلّفوا معشراً يحذون لُـبـسَـهـمُ . . . أعمى من البَهْم بل أعمى من النَعَمِ
وقال إبراهيم بن فاتك:
دخلت يوماً على الحلاّج في بيت له على غفلة منه فرأيته قائماً على هامة رأسه وهو يقول: يا من لازمني في خَلَدي قرباً، وباعدني بُعد القِدَم من الحدث غيباً. تتجلّى عليَّ حتى ظننتك الكل، وتُسلَب عنّي حتى أشهد بنفيك. فلا بُعدك يبقى، ولا قُربك ينفع، ولا حربك يغني، ولا سِلْمك يؤمن. فلمّا أحسّ بي قعد مستوياً وقال: أدخل ولا عليك.
فدخلت وجلست بين يديه، فإذا عيناه كشعلتي نار.
ثم قال: يا بنيّ إنّ بعض الناس يشهدون لي بالكفر، وبعضهم يشهدون لي بالولاية. والذين يشهدون عليّ بالكفر أحبّ إليّ وإلى الله من الذين يقرّون لي بالولاية. فقلت: يا شيخ ولِمَ ذلك.
فقال: لأنّ الذين يشهدون لي بالولاية من حُسن ظنهم بي. والذين يشهدون عليّ بالكفر تعصّباً لدينهم، ومن تعصّب لدينه أحبّ إلى الله ممّن أحسن الظن بأحدٍ.
ثم قال لي: وكيف أنت يا إبراهيم حين تراني وقد صُلبت وقُتلت وأحرقت وذلك أسعد يوم من أيام عمري جميعةً. ثم قال لي: لا تجلس واخرج في أمان الله.
وعن الشيخ إبراهيم بن عمران النيلي أنه قال:
سمعت الحلاج يقول: النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنىً للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط.
وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين.
وهذا دليل على تجلّي الحقّ من كل ما يُشاهَد وترائيه عن كل ما يُعايَن.
ومن هذا قُلت: ما رأيتُ شيئاً إلاّ ورأيت الله فيه.
وعن بن الحدّاد المصري قال:
خرجت في ليلة مُقمرة إلى قبر أحمد بن حنبل رحمه الله، فرأيت هناك من بعيد رجلاً قائماً مستقبلاً القبلة.
فدنوت منه من غير أن يعلم، فإذا هو الحسين بن منصور وهو يبكي ويقول: يا من أسكرني بحُبه، وحيّرني في ميادين قُربه، أنت المنفرد بالقِدَم، والمتوحّد بالقيام على مقعد الصدق، قيامك بالعدل لا بالاعتدال، وبُعدك بالعزل لا بالاعتزال، وحضورك بالعلم لا بالانتقال، وغيبتك بالاحتجاب لا بالارتحال.
فلا شيء فوقك فيُظلَّك، ولا شيء تحتك فيُقلّك.
ولا أمامك شيء فيجدك، ولا وراءَك شيء فيدركك.
أسئلك بحرمة هذه التُرَب المقبولة والمراتب المسئولة، أن لا تردّني إليّ بعد ما اختطفتني منّي، ولا تُريني نفسي بعد ما حجبتها عنّي، وأكثر أعدائي في بلادك، والقائمين لقتلي من عبادك.
فلمّا أحسّ بي التفت وضحك في وجهي ورجع وقال لي: يا أبا الحسن، هذا الذي أنا فيه أوّل مقام المريدين.
فقلت تعجّباً: ما تقول يا شيخ، إن كان هذا أول مقام المريدين فما مقام من هو فوق ذلك؟
قال: كذبتُ هو أول مقام المسلمين لا بل كذبت هو أول مقام الكافرين.
ثم زعق ثلث زعقات وسقط وسال الدم من حلقه.
وأشار إليّ بكفّه أن أذهب، فذهبت وتركته.
فلما أصبحت رأيته في جامع المنصور فأخذ بيدي ومال بي إلى زاوية
وقال: بالله عليك لا تُعلم أحداً بما رأيت منّي البارحة.
وعن أبي إسحق إبراهيم بن عبد الكريم الحلواني قال:
خدمت الحلاّج عشر سنين وكنت من أقرب الناس إليه.
ومن كثرة ما سمعت الناس يقولون فيه ويقولون إنه زنديق توهمتُ في نفسي فأخبرته. فقلت له يوماً: يا شيخ أريد أن أعلم شيئاً من مذهب الباطن.
فقال: باطن الباطل أو باطن الحق؟ فبقيت متفكراً !؟
فقال: أمّا باطن الحقّ فظاهره الشريعة، ومن يحقق في ظاهر الشريعة ينكشف له باطنها، وباطنها المعرفة بالله.
وأما باطن الباطل فباطنه أقبح من ظاهره.
وظاهره أشنع من باطنه، فلا تشتغل به.
يا بني أذكر لك شيئاً من تحقيقي في ظاهر الشريعة.
ما تمذهبتُ بمذهب أحد من الأئمة جملةً وإنما أخذت من كل مذهب أصعبه وأشدّه وأنا الآن على ذلك.
وما صلّيتُ صلاة الفرض قطُّ إلا وقد اغتسلت أولاً ثم توضّأت لها.
وها أنا ابن سبعين سنة وفي خمسين سنة صلّيت صلاة ألفي سنة، كل صلاة قضاء لما قبلها.
وقال إبراهيم الحلوانيّ:
دخلت على الحلاج بين المغرب والعشاء فوجدته يصلّي. فجلست في زاوية البيت كأنه لم يحسّ بي لاشتغاله بالصلاة.
فقرأ سورة البقرة في الركعة الأولى وفي الركعة الثانية آل عمران. فلما سلّم سجد وتكلّم بأشياء لم أسمع بمثلها.
فلمّا خاض في الدعاء رفع صوته كأنه مأخوذ عن نفسه ثم قال: يا إله الآلهة، و يا ربّ الأرباب، و يا من (لا تأخذه سِنةٌ ولا نومُ) رُدّ إليّ نفسي لئلا يفتنن بي عبادك.
يا هو أنا وأنا هو، لا فرق بين أنيّتي وهويّتك إلاّ الحدث والقِدَم.
ثم رفع رأسه ونظر إليّ وضحك في وجهي ضحكات، ثم قال: يا أبا إسحق أما ترى أن ربّي قِدَمه في حدثي حتى استهلك حدثي في قدمه، فلم يبقَ لي صفة إلاّ صفة القديم، ونُطقي في تلك الصفة. والخلق كلّهم أحداث ينطقون عن حدث.
ثم إذا نطقتُ عن القدم ينكرون عليّ ويشهدون بكفري ويسعَون إلى قتلي.
وهم بذلك معذورون، بكل ما يفعلون بي مأجورون.
وقال الحلواني:
كنت مع الحلاج وثلاثة نفر من تلاميذه وواسطت قافلتي من واسط إلى بغداد.
وكان الحلاّج يتكلم فجرى في كلامه حديث الحلاوة.
فقلنا: على الشيخ الحلاوة.
فرفع رأسه وقال: يا من لم تصل إليه الضمائر، ولم تمسّه شُبه الخواطر والظنون، وهو المترائي عن كل هيكل وصورة، من غير مماسّة ومزاج.
وأنت المتجلّي عن كل أحد، والمتجلي بالأزل والأبد.
لا توجد إلاّ عند اليأس، ولا تظهر إلا حال الالتباس.
إن كان لقربي عندك قيمة، ولإعراضي لديك عن الخلق مزيّة، فأتنا بحلاوة يرتضيها أصحابي.
ثم مال عن الطريق مقدار ميل فرأينا هناك قطعاً من الحلاوة المتلونة، فأكلنا ولم يأكل منه. فلمّا استوفينا ورجعنا خطر ببالي سوء ظنّ بحاله، وكنت لا أقطع النظر عن ذلك المكان وحافظته أحوَط ما يحافظ مثله.
ثم عدلت عن الطريق للطهارة وهم ذاهبون، ورجعت إلى المكان فلم أرَ شيئاً.
فصلّيت ركعتين وقلت: اللهم خلّصني من هذه التهمة الدنيّة.
فهتف لي هاتف: يا هذا أكلتم الحلاوة على جبل قاف وتطلب القِطَع ههنا أحسن همّك، فما هذا الشيخ إلاّ ملك الدنيا والآخرة.
وعن علي بن مردويه قال:
سمعت الحسين بن منصور قد سلّم عن الصلاة
فقال: اللهم، أنت الواحد الذي لا يتم به عدد ناقص، والأحد الذي لا تدركه فطنة غائض، وأنت (في السماء إِله الأرض إِله) أسئلك بنور وجهك الذي أضاءت به قلوب العارفين، وأظلمت منه أرواح المتمرّدين، وأسألك بقدسك الذي تخصصت به عن غيرك،
وتفرّدت به عمّن سواك، أن لا تُسرحني في ميادين الحيرة، وتنجيني من غمرات التفكّر،
وتوحشني عن العالم، وتؤنسني بمناجاتك، يا أرحم الراحمين.
ثم سكت ساعةً وترنّم، ورفع صوته في ذلك الترنّم وقال: يا من استهلك المحبّون فيه، واغترّ الظالمون بأياديه.
لا يبلغ كنه ذاتك أوهام العباد، ولا يصل إلى غاية معرفتك أهل البلاد.
فلا فرق بيني وبينك إلاّ الالهيّة والربوبية. وكانت عيناه في خلال الكلام تقطر دماً.
فلمّا التفت إلي ضحك فقال: يا أبا الحسن خذ من كلامي ما يبلغ إليه علمك، وما أنكره علمك فاضرب بوجهي ولا تتعلّق به، فتضلّ عن الطريق.
وعن أبي الحسن عليّ بن أحمد بن مردويه قال:
رأيت الحلاج في سوق القطيعة ببغداد باكياً يصيح: أيها الناس أغيثوني عن الله، ثلاث مرات، فإنه اختطفني منّي وليس يردّني عليّ، ولا أطيق مراعاة تلك الحضرة، وأخاف الهجران فأكون غائباً محروماً.
والويل لمن يغيب بعد الحضور، ويهجر بعد الوصل.
فبكى الناس لبكائه حتى بلغ مسجد عتّاب فوقف على بابه وأخذ في كلامٍ فهم الناس بعضه وأشكل عليهم بعضه. فكان مما فهمه الناس أنه قال: أيها الناس.
إنه يحدّث الخلق تلطّفاً فيتجلّى لهم، ثم يستتر عنهم تربيةً لهم.
فلولا تجليه لكفروا جملةً، ولولا ستره لفُتنوا جميعاً، فلا يديم عليهم إحدى الحالتين.
لكني ليس يستتر عني لحظةً فأستريح حتى استهلكت ناسوتيتي في لاهوتيته وتلاشى جسمي في أنوار ذاته، فلا عين لي ولا أثر، ولا وجه ولا خبر.
وكان مما أشكل على الناس معناه أنه قال: إعلموا أن الهياكل قائمة بياهوه، والأجسام متحرّكة بياسينه، والهو والسين طريقان إلى معرفة النقطة الأصلية.
ثم أنشأ يقول:
عقْدُ النبوّةِ مِصباحٌ من الـنـورِ . . . مُعَلَّقُ الوحيِ في مِشكاة تأمورِ
باللهِ يَنْفَخُ نَفْخُ الرُّوحِ فـي خَـلَـدي . . . لِخَاطِرِي نَفْخَ إسرافيلَ في الصـورِ
إذا تجلّى بِطـوري أن يُكـلّـمـنـي . . . رأيتُ في غَيبتي موسى على الطُورِ
وقال عبد الكريم بن عبد الواحد الزعفراني:
دخلت على الحلاج وهو في مسجد وحوله جماعة وهو يتكلم فأوّل ما اتصل بي من كلامه أنه قال: لو أُلقيَ مما في قلبي ذرة على الأرض لذابت، وإنيّ لو كنت يوم القيامة في النار لأُحرقت النار، ولو دخلت الجنة لانهدم بنيانها.
ثم أنشأ يقول:
عجِبتُ لِكلّي كيف يحملُه بَـعـضِـي . . . ومِن ثِقلِ بعضي ليس تحملني أرضي
لئن كان في بسطٍ من الأرض مَضجعٌ . . . فقلبي على بسطٍ من الخَلق في قبضِ "1"
(1) وردت هذه المناجاة في كتاب: (حل الرموز:30) لعز الدين المقدسي.
دون أن يذكر الأبيات. كما وذكرها نفس المؤلف في كتاب : شرح حال الأولياء: 252) وزاد قائلا. «وقد ذكر إن الخضر عليه السلام عبر على الحلاج وهو مصلوب، فقال له الحلاج: هذا جزاء أولياء الله، فقال له الخضر: نحن كتمنا فسلمنا، وأنت بحت فمت يا حلاج، كيف أصبحت؟ قال: أصبحت لو طارت مني شرارة لا حرقت مالكا وناره».
" وقد ذكرت هذه الأبيات : (الطواسين : الفصل السادس) باختلاف يسو:
جحودي بك تقديس . . . وعقلي فيك تهويس
وما آدم إلاك "إلا إياك" . . . ومن في البين إبليس "
وقال أحمد ابن أبي الفتح بن عاصم البيضاوي:
سمعت الحلاج يملي على بعض تلامذته: إن الله تبارك وتعالى وله الحمد ذات واحد قائم بنفسه، منفرد عن غيره بقدمه، متوحد عمّن سواه بربوبيته. لا يمازجه شيء، ولا يخالطه غير، ولا يحويه مكان، ولا يدركه زمان، ولا تقدّره فكرة، ولا تصوّره خطرة، ولا تدركه نظرة، ولا تعتريه فترة. ثم طاب وقته وأنشأ يقول:
جنوني لك تـقـديسُ وظنّي فيك تهويسُ
وقد حيّرنـي حـبٌّ وطَرْفٌ فيه تقويسُ
وقد دلّ دلـيلُ الـحُب بّأنّ القربَ تلبيسُ
ثم قال: يا ولدي، صُن قلبك عن فكره، ولسانك عن ذكره، واستعملهما بإدامة شكره.
فإن الفكرة في ذاته والخطرة في صفاته والنطق في إثباته من الذنب العظيم والتكبّر الكبير.
وعن أبي نصر أحمد بن سعيد الاسبينجاني يقول:1
سمعت الحلاج يقول: ألزم الكلّ الحدث لأن القدم له. فالذي بالجسم ظهوره فالعرض يلزمه، والذي بالإرادة اجتماعه فقواها تمسكه، والذي يؤلّفه وقت يفرّقه وقت.
والذي يقيمه غيره فالضرورة تمسه، والذي الوهم يظفر به فالتصوير يرتقي إليه. ومن آواه محلّ أدركه أين. ومن كان له جنس طالبه كيف.
إنه تعالى لايظلّه فوق، ولا يُقلّه فوق، ولا يُقلّه تحت، ولا يقابله حدّ، ولا يزاحمه عند، ولا يأخذه خلف، ولا يحدّه أمام، ولا يظهره قبل. ولا يُفيته قبل. ولا يُفيته بعد.
ولا يجمعه كلّ، ولا يوجده كان، ولا يُفقده ليس. وصفُه لا صفة له، وفعله لا علة له، وكونه لا أمد له.
تنزه عن أحوال خلقه، ليس له من خلقه مزاج، ولا في فعله علاج. باينهم بِقدَمه كما باينوه بحدوثهم.
إن قلت متى فقد سبق الوقت كونه، وإن قلت هو فالهاء والواو خلقه، وإن قلت أين فقد تقدّم المكان وجوده، فالحروف آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، ما تصوّر في الأوهام فهو بخلافه. كيف يحلّ به ما منه بدأ، أو يعود ما هو أنشأه.
لا تماثله العيون، ولا تقابله الظنون.
قُربه كرامته، وبعده إهانته، علوّه من غير توقُّل، ومجيئه من غير تنقُّل.
(هو الأوَّل والآخر والظاهر والباطن) القريب البعيد (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
(1) ذكرها أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري في كتاب:(الرسالة القشيرية في علم التصوف). وقال الشيخ محيي الدين بن العربي الحاتمي الطائي في: (الفتوحات المكية: 214/4) «وقد فعل مثل هذا القشيري في رسالته، حيث ذكر أولئك الرجال في أول رسالته. وما ذكر فيهم الحلاج للخلاف الذي وقع فيه ، حتى لا تتطرق التهمة عن وقع ذكره من الرجال في رسالته، ثم أنه ساق عقيدته في التوحيد، في صدر الرسالة، يزيل بذلك ما في نفس الناس منه من سوء الطوية».
عن يونس بن الخضر الحلواني قال:
سمعت الحلاّج يقول: دعوى العلم جهل، توالي الخدمة سقوط الحرمة.
الاحتراز من حربه جنون، الاغترار بصلحه حماقة.
النطق في صفاته هَوَس. السكوت عن ثباته خرس.
طلب القرب منه جسارة، والرضى ببعده من دنائه الهمّة.
عن موسى بن أبي ذرّ البيضاويّ قال:
كنت أمشي خلف الحلاج في سكك البيضاء فوقع ظلّ شخص من بعض السطوح عليه، فرفع الحلاج رأسه فوقع بصره على امرأة حسناء فالتفت إليّ وقال: سَتَرى وبالَ هذا عليّ ولو بعد حين.
فلما كان يوم صلبه كنتُ بين القوم أبكي فوقع بصره عليّ من رأس الخشبة فقال: يا موسى. مَن رفع رأسه كما رأيتَ وأشرف إلى ما لا يحلّ له أُشرِفَ على الخلق هكذا وأشار إلى الخشبة.
وعن أبي الحسن الحلواني قال:
حضرت الحلاج يوم وقعته فأُتي به مسلسلاً مقيَّداً وهو يتبختر في قيده وهو يضحك ويقول:
نديمي غير منـسـوبٍ . . . إلى شيءٍ من الحـيفِ
دَعانـي ثـم حـيّانـي . . . كفعل الضيفِ بالضيفِ
فلمّـا دارتِ الـكـأسُ . . . دعا بالنطع والسـيفِ
كذا مَن يشربُ الـراحَ . . . مع التنينِ في الصيفِ
وعن أبي بكر الشبلي قال:
قصدتُ الحلاج وقد قُطعت يداه ورجلاه وصلب على جذع فقلت له: ما التصوف. فقال: أهون مرقاة منه ما ترى. فقلت له: ما أعلاه.
فقال: ليس لك به سبيل، ولكن سترى غداً، فإنّ في الغيب ما شهدته وغاب عنك. فلما كان وقت العشاء جاء الإذن من الخليفة أن تضرب رقبته.
فقال الحرس: قد أمسينا: نؤخّر إلى الغد. فلما كان من الغد أُنزل من الجذع وقُدّم لتُضرب عنقه فقال بأعلى صوته: حسب الواحد إفراد الواحد له. ثم قرأ (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) الآية.
وقيل هذا آخر شيء سُمع منه.
ثم ضربت عنقه ولفّ في بارية وصُبّ عليه النفط وأُحرق وحمل رماده على رأس منارة لتنسفه الريح. 1
(1)جاء في كتاب: (مناقب الأبرار، لابن خميس الكعبي: 81). «أنه لما سئل عن التصوف، نظر إليه شزرا، وقال: ابتداؤه ما ترى، وانتهاؤه ما ترى غدا» والسائل ليس الشبلي إنما بندار ابـن الحسين صاحب الشبلي.
وفي رواية آخري: «فقال الشبلي: ما التصوف؟ فقال له: ظاهره ما ترى، وباطنه دق عن الورى». وكذلك جاء في كتاب (تهذيب الأسرار، لأبي سعيد الحركوشي: 7) «وسئل عن التصوف وهو مصلوب، فقال : "هو كما ترى". وفي رواية : "وأهونه ما ترى".
عن أبي محمد الجسري قال:
رأيت الجنيد ينكر على الحلاّج وكذلك عمرو بن عثمان المكي وأبو يعقوب النهرجوري وعليّ بن سهل الأصبهاني ومحمد بن داود الأصبهاني
وأما أبو يعقوب فقد رجع عن إنكاره في آخر عمره.
وأما عمرو بن عثمان فكان علّة إنكاره أن الحلاج دخل مكة ولقي عمراً فلما دخل عليه
قال له: الفتى من أين؟
فقال الحلاج. لو كانت رؤيتك بالله لرأيت كل شيء مكانه فإن الله تعالى يرى كل شيء. فخجل عمرو وحَرِد عليه ولم يُظهر وحشته حتى مضت مدّة.
ثم أشاع عنه أنه قال: يمكنني أن أتكلم بمثل هذا القرآن.
وأما عليّ بن سهل فدخل الحلاج أصفهان وكان علي بن سهل مقبولاً عند أهلها فأخذ عليّ بن سهل يتكلم في المعرفة
فقال الحسين بن منصور: يا سوقيّ، تتكلم في المعرفة وأنا حيّ.
فقال عليّ بن سهل: هذا زنديق. فاجتمعوا عليه وأخرجوه منها.
وأما الجنيد فكنت عنده إذ دخل شاب حسن الوجه والمنظر وعليه قميصان وجلس سويعةً
ثم قال للجنيد: ما الذي يصدّ الخلق عن رسوم الطبيعة.
فقال الجنيد: أرى في كلامك فضولاً أيّ خشبة تفسدها.
فخرج الشاب باكياً وخرجت على أثره وقلت: رجل غريب قد أوحشه الشيخ.
فدخل المقابر وقعد فب زاوية ووضع رأسه على ركبته.
فرأيت صديقاً لي فقلت له: رأيت بالعجلة شيئاً من الشواء والفالوذج والسكر وخبزاً حُواريَ وماء مبرّداً والخَلال وقدراً من الأشنان وأنا في الموضع الفلانيّ.
فأتيت الشابّ وجلست بين يديه أُلاطفه وأُداريه حتى جاء بما التمست منه فوضعته بين يديه وقلت له: تفضّل. فمدّ يده وتناول.
ثم قلت: الفتى من أين؟.
قال: من بيضاء فارس إلاّ أنني رُبيت بالبصرة.
فاعتذرت منه للجنيد فقال: ليس له إلاّ الشيخوخة وإنما منزلة الرجال تُعطى ولا تتعاطى.
وأمّا محمد بن داود فكان فقيهاً والفقيه من شأنه الإنكار على التصوّف. إلا ما شاء الله.
أبو يعقوب النهرجوري قال:
دخل الحسين بن منصور مكّة في المرة الثانية ومعه أربعمائة رجل. فلمّا وصلوا إلى مكة تفرّقوا عنه وبقى معه شرذمة قليلة. فلما أمسوا قلت له: دبّر في عشاء القوم. فقال: أخرج بهم إلى أبي قبيس. فخرجت بهم ومعنا ما نفطر عليه. فلما أكلنا قال الحلاج: ألا تأكلون الحلاوة. قلنا: قد أكلنا التمر. فقال: أريد شيئاً مسته النار.
فغاب لحظة ثم رجع ومعه طبق عليه من الحلواء شيء كثير. فوقع في قلبي شبهة فأمسكت من الحلواء قطعة ودخلت السوق فأريتها الحلوانيين فلم يعرفوها.
فقالوا: هذه لا تتخذ بمكة. فرأيت امرأة طباخة فأريتها فقالت: هذه تتخذ بزبيد ولكن لا يمكن حملها ولا أدري كيف حُملت.
فتأكدت تلك الشبهة. وكانت المرأة عازمة على الخروج إلى زبيد فأوصيتها أن تفحص وتسأل الحلوانيين هل ضاع لأحد منهم طبق حلواء.
فلما كان بعد أيام كاتبتني أنّ أحد الحلوانيين بزبيد ضاع له طبق حلواء فتيقنت أنه ساحر ليس يحترز من المظالم.
حتى ورد عليّ كتاب آخر من المرأة أن الحسين بن منصور نفذ إلى الحلواني ثمن الحلواء وقيمة الطبق وأكثر من ذلك.
فزال من قلبي الإنكار عليه وعلمت أنّ ذلك من كراماته.
قال أحمد بن فاتك:
لما قُطعت يدا الحلاج ورجلاه قال: إلهي أصبحت في دار الرغائب، أنظر إلى العجائب. إلهي إنك تتودّد إلى من يؤذيك، فكيف لا تتودّد إلى من يُؤذَى فيك.
عن أبي يعقوب النهرجوري قال:
دخل الحلاج مكة أول دخله وجلس في صحن المسجد سنةً لم يبرح من موضعه إلاّ للطهارة والطواف ولم يحترز من الشمس ولا من المطر.
وكان يُحمل إليه في كل عشية كوز ماء وقرص من أقراص مكة، وكان عند الصباح يُرى القرص على رأس الكوز وقد عضّ منه ثلث عضّات أو أربعاً فيحمل من عنده.
وقال أحمد بن فاتك:
كنا بنهاوند مع الحلاج وكان يوم النيروز فسمعنا صوت البوق فقال الحلاج: أيّ شيء هذا. فقلت: يوم النيروز. فتأوّه وقال: متى نُنَورَز. فقلت: متى تعني.
قال: يوم أُصلب. فلما كان يوم صلبه بعد ثلث عشرة سنةً نظر إليّ من رأس الجذع وقال: يا أحمد نُورِزْنا.
فقلت: أيها الشيخ. هل أُتحفتَ. قال: بلى أُتحفتُ بالكشف واليقين، وأنا مما أُتحفت به خَجِل غير أني تعجّلت الفرح.
وعن أحمد بن كوكب بن عمر الواسطي قال:
صحبت الحلاج سبع سنين فما رأيته ذاق من الأُدم سوى الملح والخلّ، ولم يكن عليه غير مرقّعة واحدة وكان على رأسه برنس. وكلما فُتح عليه بإزار قبله وآثر به.
ولم ينم الليل أصلاً إلاّ سويعةً من النهار.
عن خور اوزاد بن فيروز البيضاوي وكان من أخصّ الجيران وأقربهم إلى الحلاج أنه قال:
كان الحلاج ينوي في أول رمضان ويفطر يوم العيد وكان يختم القرآن كل ليلة في ركعتين وكل يوم في مائتي ركعة.
وكان يلبس السواد يوم العيد ويقول: هذا لباس من يُردّ عليه عمله.
وقال أحمد بن فاتك قال الحلاج:
من ظنّ أن الالهيّة تمتزج بالبشريّة أو البشرية بالإلهية فقد كفر. فإن الله تعالى تفرّد بذاته وصفاته عن ذوات الخلق وصفاتهم، فلا يشبههم بوجه من الوجوه، ولا يشبهونه بشيء من الأشياء. وكيف يُتصوَّر الشبه بين القديم والمحدَث.
ومن زعم أن الباري في كل مكان أو على مكان أو متصل بمكان أو يُتصوّر على الضمير أو يتخايل في الأوهام أو يدخل تحت الصفة والنعت فقد أشرك.
عن عثمان بن معاوية أنه قال:
بات الحلاج في جامع دِينَور ومعه جماعة. فسأله واحد منهم
وقال: يا شيخ ما تقول فيما قال فرعون؟.
قال: كلمة حقّ.
فقال: ما تقول فيما قال موسى؟.
قال: كلمة حقّ، لأنهما كلمتان جرتا في الأبد كما جرتا في الأزل.
وعنه أيضاً أنه قال:
ما ظهرت النقطة الأصلية إلاّ لقيام الحجّة بتصحيح عين الحقيقة، وما قامت الحجّة بتصحيح عين الحقيقة إلاّ لثبوت الدليل على أمر الحقيقة.
وقال: سين ياسين وموسى هما لوح أنوار الحقيقة وإلى الحقّ أقرب من يا ومو
وقال أيضاً:
صفات البشرية لسان الحجة لثبوت صفات الصمديّة وصفات الصمديّة لسان الإشارة إلى فناء صفات البشرية. وهما طريقان إلى معرفة الأصل الذي هو قوام التوحيد.
وقال: نزول الجمع ورطة وغبطة، وحلول الفرق فكاك وهلاك. وبينهما يتردد الخاطران، إما متعلّق بأستار القِدَم، أو مستهلك في بحار العدم.
وقال: من لاحظ الأزليّة والأبديّة وغمض عينيه عمّا بينهما فقد أثبت التوحيد. ومن غمض عينيه عن الأزلية والأبدية ولاحظ ما بينهما فقد أتى بالعبادة.
ومن أعرض عن البين والطرفين فقد تمسك بعروة الحقيقة.
وقال: من طلب التوحيد في غير لام ألف فقد تعرّض للخَوَضان في الكفر، ومن تعرّف هو الهويّة في غير خطّ الاستواء فقد جاس خلال الحيرة المذمومة التي لا استراحة بعدها.
وقال: عين التوحيد مودعة في السرّ مودع بين الخاطرين، والخاطران مودَعان بين الفكرتين، والفكرة أسرع من لواحظ العيون ثم أنشأ يقول:
لأنوارِ نور النور في الخلق أنوارُ . . . وللسرّ في سرّ المُسرّين أسرارُ
وللكون في الأكوان كونُ مُكـوّنٍ . . . يكنّ له قلبي ويهدى ويخـتـارُ
تأمّل بعين العقل ما أنا واصـفٌ . . . فللعقل أسماعٌ وُعاةٌ وأبصـارٌ
وقال: القرآن لسان كل علم، ولسان القرآن الأحرف المؤلّفة، وهب مأخوذة من خطّ الاستواء، أصله ثابت وفرعه في السماء، وهو ما دار عليه التوحيد.
وقال: الكفر والإيمان يفترقان من حيث الاسم، وأما من حيث الحقيقة فلا فرق بينهما.
وقال أحمد بن فارس:
رأيت الحلاج في سوق القطيعة قائماً على باب المسجد وهو يقول: يا أيها الناس، إذا استولى الحقّ على قلبٍ أخلاه عن غيره، وإذا لازم أحداً أفناه عمّن سواه، وإذا أحبّ عبداً حثّ عباده بالعداوة عليه، حتى يتقرّب العبد مقبلاً عليه. فكيف لي ولم أجد من الله شمّةً، ولا قرباً منه لمحةً، وقد ظلّ الناس يعادونني. ثم بكى حتى أخذ أهل السوق بالبكاء. فلما بكوا عاد ضاحكاً وكاد يقهقه، ثم أخذ في الصياح صيحاتٍ متوالياتٍ مزعجات وأنشأ يقول:
مَواجيدُ حقٍّ أَوجَدَ الحقُّ كلَّـهـا . . . وإن عجزت عنها فهومُ الأكابرِ
وما الوجدُ إلاّ خَطرةٌ ثمّ نَظـرةٌ . . . تُنّشى لهيباً بين تلك الـسـرائرِ
ذا سَكَن الحق السَّريرةَ ضُوعِفَت . . . ثلاثةَ أحوالٍ لأهلِ البـصـائرِ
فحالٌ يُبيدُ السِرَّ عن كُنهِ وَصفـهِ . . . ويُحضِرهُ لِلوَجدِ في حال حائرِ
وحالٌ بِه زُمَّت ذُرَى السرّ فانثَنَت . . . إلى مَنظرٍ أفناهُ عن كلّ ناظرِ
يروى عن مسعود بن الحارث الواسطي أنه قال:
سمعت الحسين بن منصور الحلاج يقول لابراهيم بن فاتك وأنا أسمع وكنت منزوعاً: يا إبراهيم، إن الله تعالى لا تحيط به القلوب، ولا تدركه الأبصار، ولا تمسكه الأماكن، ولا تحويه الجهات.
ولا يتصوّر في الأوهام، ولا يتخايل للفكر، ولا يدخل تحت كيف، ولا يُنعت بالشرح والوصف.
ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتنفّس إلاّ وهو معك، فانظر كيف تعيش.
وهذا لسان العوامّ، وأما لسان الخواصّ فلا نطق له.
والحقّ حقّ والعبد باطل، وإذا اجتمع الحقّ والباطل فيضرب (الحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل ممّا تصفون).
وقال أحمد بن القاسم الزاهد:
سمعت الحلاج في سوق بغداد يصيح: يا أهل الإسلام أغيثوني. فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أُطيقه.
ثم أنشأ يقول:
حَويتُ بكلّي كلَّ كـلّـك يا قُـدسـي . . . تُكاشفُنِي حتّى كأنّك في نـفـسـي
أُقلّب قلبـي فـي سِـواك فـلا أُرَى . . . سِوى وَحشتي منه وأنت به أُنسـي
فها أَنا في حبس الحـيوة مُـمَـنَّـعٌ . . . عن الأُنس فاقبِضني إليك من الحَبسِ
وقال أبو القاسم عبد الله بن جعفر المحبّ:
لما دخل الحلاج بغداد واجتمع حوله أهلها حضر بعض الشيوخ عند بعض رؤساء بغداد يقال له أبو طاهر الساوي وكان محبّاً للفقراء
فسأله الشيخ أن يعمل دعوة ويحضر فيها الحلاج. فأجابه إلى ذلك وجمع المشايخ في داره وحضر الحلاج.
فقال للقوّال: قل ما يختار الشيخ، يعني به الحلاج.
فقال الحلاج: إنما يوقظ النائم وقوّال الفقراء ليس بنائم.
فقال القوّال وطلب وقت القوم. ووثب الحلاج وسطهم وتواجد تواجداً تلألأت منه أنوار الحقيقة
وأنشد:
ثلاثة أحرُف لا عُجمَ فـيهـا . . . ومعجومان وانقطع الكلامُ
فمعجومٌ يُشـاكـل وَاجِـدِيهِ . . . ومتروكٌ يصدّقـهُ الأنـامُ
وباقِي الحرفِ مرموزٌ مُعَمّى . . . فلا سَفَرٌ هناك ولا مُـقـامُ
ويروى عنه أيضاً أن رجلاً من الأكابر بُسمى ابن هرون المدايني استحضر الحلاج وجماعة من مشايخ بغداد ليناظروه.
فلما اجتمعوا تفرس الحسين بن منصور فيهم النكارة فأنشأ يقول:
يا غافلاً لِجـهـالةٍ عـن شـاْنـي . . . هلاّ عرفتَ حقيقتـي وبـيانـي
أَ عِبَادتـي لـلـه سـتّةُ أحـرُفٍ . . . من بينها حرفانِ معـجـومـانِ
حرفان أصليٌّ وآخَـرُ شـكـلـه . . . في العُجم منسوبٌ إلى إيمـانـي
فإذا بدا رأسَ الحروفِ أمـامَـهـا . . . حرفٌ يقوم مقامَ حرفٍ ثـانـي
أبصرتَني بمكان موسـى قـائمـاً . . . في النور فوق الطور حين تراني
فبهت القوم.
وكان لابن هارون ابنٌ مريض مشرف على الموت فقال للحلاج ادعُ له.
فقال الحلاج: قد عوفي فلا تخف. فدخل الابن كأنه لم يمرض قط.
فتعجّب الحاضرون من ذلك.!!
فأتى ابن هرون بكيس مختوم وقال: يا شيخ فيه ثلاثة آلف دينار أصرفها فيما تريد.
وكان القوم في غرفة على الشطّ فأخذ الحلاج الكيس ورمى به إلى دجلة
وقال للمشايخ: تريدون مناظرتي، على ماذا أناظر أنا أعرف أنكم على الحقّ وأنا على الباطل، وخرج.
فلمّا أصبحنا استحضر ابن هرون الجماعة ووضع الكيس بين أيديهم وقال: البارحة كنت أتفكر فيما أعطيت الحلاج وندمت على ذلك.
فلم تمضِ ساعة على ذلك إذ جاء فقير من أصحاب الحلاج
وقال: الشيخ يُقرئك السلام ويقول: لا تندم فإنّ هذا كيسك، فإنّ من أطاع الله أطاعه البرّ والبحر.
عن جندب بن زادان الواسطي وكان من تلامذة الحلاّج، قال:
كتب الحسين بن منصور كتاباً هذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم المتجلي عن كل شيء لمن يشاء.
السلام عليك يا ولدي، ستر الله عنك ظاهر الشريعة، وكشف لك حقيقة الكفر. فإنّ ظاهر الشريعة كفر خفيّ، وحقيقة الكفر معرفة جليّة.
أما بعد حمد لله الذي يتجلّى على رأس إبرة لمن يشاء، ويستتر في السموات والأرضين عمّن يشاء، حتى يشهد هذا بأن لا هو، ويشهد ذلك بأن لا غيره.
فلا الشاهد على نفيه مردود، ولا الشاهد بإثباته محمود.
والمقصود من هذا الكتاب أني أوصيك أن لا تغتر بالله ولا تيأس منه، ولا ترغب في محبنه ولا ترض أن تكون غير محبّ، ولا تقل بإثباته ولا تَمِلْ إلى نفيه، وإيّاك والتوحيد. والسلام.
وقال جندب:
دخل عليّ في نصف الليل ببغداد بهرام بن مرزبان المجوسيّ وكان مُكثراً ومعه كيس فيه ألفا دينار
وقال لي: تذهب معي إلى الحلاج فلعلّه يحتشمك فتعطيه هذا الكيس.
فذهبت معه ودخلنا عليه وكان قاعداً على سجادته يقرأ القرآن ظاهراً.
فأجلسنا وقال: ما الحاجة في هذا الوقت. فتكلمت في ذلك فأبي أن يقبل.
فألححت عليه وكان يُحبّني فقبل.
وقال لي: لا تخرج. فوقفت وخرج المجوسيّ.
فلما ذهب المجوسي قام الحلاج وخرجت معه حتى دخل جامع المنصور ومعه الكيس والفقراء نيام. فأيقظهم وفرّق الدنانير عليهم بعد أن يفضّهم حتى لم يبق في الكيس شيء. فقلت: يا شيخ هلاّ صبرت إلى الغد.
فقال: الفقير إذا بات في عقارب نصيبين خير له من أن يبيت مع المعلوم.
عن إبراهيم بن فاتك قال:
دخلت على الحلاج ليلةً وهو في الصلاة مبتدئاً بقراءة سورة البقرة. فصلّى ركعاتٍ حتى غلبني النوم.
فلما انتبهت سمعته يقرأ سورة (حم عسق) فعلمت أنه يريد الختم. فختم القرآن في ركعة واحدة وقرأ في الثانية ما قرأ
فضحك إلي وقال: ألا ترى أنيّ أصلّي أراضيه، من ظنّ أنه يُرضيه بالخدمة فقد جعل لرضاه ثمناً.
ثم ضحك وأنشأ يقول:
إذا بلغ الصبُّ الكمالَ مَن الـفـتـى . . . ويذهل عن وصل الحبيبِ من السّكرِ
فيَشهَدُ صدقاً حيثُ أَشهـدَهُ الـهَـوَى . . . بأنّ صلوةَ العاشقين مِنَ الـكُـفـر
وقال ابن فاتك:
قصدت الحلاج ليلةً فرأيته يصلي فقمت خلفه.
فلما سلّم قال: اللهم أنت المأمول بكل خير، والمسئول عند كل مهم، المرجو منك قضاء كل حاجة، والمطلوب من فضلك الواسع كل عفو ورحمة.
وأنت تعلم ولا تُعلم، وترى ولا تُرى، وتخبر عن كوامن أسرار ضمائر خلقك، وأنت على كل شيء قدير.
وأنا بما وجدتُ من ورائح نسيم حبّك، وعواطر فربك أستحقر الراسيات، وأستخفّ الأرضين والسموات.
وبحقك لو بعتَ مني الجنة بلمحة من وقتي، أو بطرفة من أحرّ أنفاسي لما اشتريتها. ولو عرضتَ عليّ النار بما فيها من ألوان عذابك لاستهونتُها في مقابلة ما أنا فيه من حال استتارك منّي. فاعف عن الخلق ولا نعفو عنّي، وارحمهم ولا ترحمني.
فلا أُخاصمك لنفسي، ولا أُسائلك بحقّي، فافعل بي ما تريد.
فلما فرغ قام إلى صلوة أخرى وقرأ الفاتحة وافتتح بسورة النور وبلغ إلى حد سورة النمل.
فلما بلغ إلى قوله تعالى (ألاّ يسجدوا لله الذي يُخرج الحبَّ في السماوات والأرض) صاح صيحة وقال: هذه صيحة الجاهل به.
ومن وُدّ المُحبّ المُحقّ أن لا يعبد ما حُدّ.
يتبع