وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يلقبه بلقمان الحكيم سئل عنه بعد موته فقال
ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت من لكم بمثل لقمان الحكيم؟
أوتي العلم الأول، والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف
ولقد بلغ في نفوس أصحاب الرسول عليه السلام جميعا المنزلة الرفيعة والمكان الأسمى
ففي خلافة عمر جاء المدينة زائرا، فصنع عمر ما لا نعرف أنه صنعه مع أحد غيره أبدا، اذ جمع أصحابه وقال لهم
هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان
وخرج بهم لاستقباله عند مشارف المدينة
لقد عاش سلمان مع الرسول منذ التقى به وآمن معه مسلما حرّا، ومجاهدا وعابدا
وعاش مع خليفته أبي بكر، ثم أمير المؤمنين عمر، ثم الخليفة عثمان حيث لقي ربه أثناء خلافته
وفي معظم هذه السنوات، كانت رايات الإسلام تملأ الأفق، وكانت الكنوز والأموال تحمل الى المدينة فيئا وجزية، فتورّع الانس في صورة أعطيت منتظمة، ومرتبات ثابتة
وكثرت مسؤوليات الحكم على كافة مستوياتها، فكثرت الأعمال والمناصب تبعا لها
فأين كان سلمان في هذا الخضم ؟ وأين نجده في أيام الرخاء والثراء والنعمة تلك؟
**
افتحوا ابصاركم جيدا
أترون هذا الشيخ المهيب الجالس هناك في الظل يضفر الخوص ويجدله ويصنع منه أوعية ومكاتل؟
إنه سلمان
انظروه جيدا
انظروه جيدا في ثوبه القصير الذي انحسر من قصره الشديد الى ركبته
إنه هو، في جلال مشيبه، وبساطة إهابه
لقد كان عطاؤه وفير
كان بين أربعة وستة آلاف في العام، بيد أنه كان يوزعه
جميعا، ويرفض أن يناله منه درهم واحد، ويقول
أشتري خوصا بدرهم، فأعمله، ثم أبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهما فيه، وأنفق درهما على عيالي، وأتصدّق بالثالث ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيت
**
ثم ماذا يا أتباع محمد؟
ثم ماذا يا شرف الانسانية في كل عصورها وواطنها؟
لقد كان بعضنا يظن حين يسمع عن تقشف بعض الصحابة وورعهم، مثل أبي بكر الصديق وعمر وأبي ذر واخوانهم، أن مرجع ذلك كله طبيعة الحياة في الجزيرة العربية حيث يجد العربي متاع نفسه في البساطة
فها نحن أمام رجل من فارس بلاد البذخ والترف والمدنية، ولم يكن من الفقراء بل من صفوة الناس ما باله يرفض هذا المال والثروة والنعيم، ويصر أن يكتفي في يومه بدرهم يكسبه من عمل يده؟
ما باله يرفض اامارة ويهرب منها ويقول
ان استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين؛ فافعل
ما باله يهرب من الامارة والمنصب، الا أن تكون امارة على سريّة ذاهبة الى الجهاد والا أن تكون في ظروف لا يصلح لها سواه، فيكره عليها اكراها، ويمضي اليها باكيا وجلا؟
ثم ما باله حين يلي على الامارة المفروضة عليه فرضا يأبى أن يأخذ عطاءها الحلال؟؟
روى هشام عن حسان عن الحسن
كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان على ثلاثين ألفا من الناس يخطب في عباءة يفترش نصفها، ويلبس نصفها
وكان اذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من عمل يديه
ما باله يصنع كل هذا الصنيع، ويزهد كل ذلك الزهد، وه الفارسي، ابن النعمة، وربيب الحضارة؟
لنستمع الجواب منه وهو على فراش الموت تتهيأ روحه العظيمة للقاء ربها العلي الرحيم
دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده فبكى سلمان
قال له سعد ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض
فأجابه سلمان
والله ما أبكي جزعا من الموت، ولاحرصا على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد الينا عهدا، فقال ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، وهأنذا حولي هذه الأساود
يعني بالأساود الأشياء الكثيرة
قال سعد فنظرت، فلم أرى حوله الا جفنة ومطهرة، فقلت له يا أبا عبد الله اعهد الينا بعهد نأخذه عنك، فقال
يا سعد
اذكر عند الله همّتك اذا هممت
وعند حكمتك اذا حكمت
وعند يدك اذا قسمت
هذا هو اذن الذي ملأ نفسه غنى، بقدر ما ملأها عزوفا عن الدنيا بأموالها، ومناصبها وجاهها عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليه والى أصحابه جميعا ألا يدعو الدنيا تتملكهم، وألا يأخذ أحدهم منها الا مثل زاد الركب
ولقد حفظ سلمان العهد ومع هذا فقد هطلت دموعه حين رأى روحه تتهيأ للرحيل، مخافة أن يكون قد جاوز المدى
ليس حوله الا جفنة يأكل فيها، ومطهرة يشرب منها ويتوضأ ومع هذا يحسب نفسه مترفا
وفي الأيام التي كان فيها أميرا على المدائن، لم يتغير من حاله شيء فقد رفض أن يناله من مكافأة الامارة درهم وظل يأكل من عمل الخوص ولباسه ليس الا عباءة تنافس ثوبه القديم في تواضعها
وذات يوم وهو سائر على الطريق لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل تين وتمر
كان الحمل يؤد الشامي ويتعبه، فلم يكد يبصر أمامه رجلا يبدو أنه من عامة الناس وفقرائهم، حتى بدا له أن يضع الحمل على كاهله، حتى اذا أبلغه وجهته أعطاه شيئا نظير حمله
وأشار للرجل فأقبل عليه، وقال له الشامي احمل عني هذا فحمله ومضيا معا
واذ هما على الطريق بلغا جماعة من الانس، فسلم عليهم، فأجابوا واقفين وعلى الأمير السلام
وعلى الأمير السلام؟
أي أمير يعنون؟
هكذا سأل الشامي نفسه
ولقد زادت دهشته حين رأى بعض هؤلاء يسارع صوب سلمان ليحمل عنه قائلين
عنك أيها الأمير
فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي، فسقط في يده، وهربت كلمات الاعتذار والأسف من بين شفتيه، واقترب ينتزع الحمل ولكن سلمان هز رأسه رافضا وهو يقول
لا، حتى أبلغك منزلك
**
سئل يوما ما الذي يبغض الامارة الى نفسك؟
فأجاب حلاوة رضاعها، ومرارة فطامها
ويدخل عليه صاحبه يوما بيته، فاذا هو يعجن، فيسأله
أين الخادم؟
فيجيبه قائلا
لقد بعثناها في حاجة، فكرهنا أن نجمع عليها عملين
وحين نقول بيته فلنذكر تماما، ماذا كان ذاك البيت؟ فحين همّ سلمان ببناء هذا الذي يسمّى مع التجوّز بيتا، سأل البنّاء كيف ستبنيه؟
وكان البنّاء حصيفا ذكيا، يعرف زهد سلمان وورعه فأجابه قائلا لا تخف انها بناية تستظل بها من الحر، وتسكن فيها من البرد، اذا وقفت فيها أصابت رأسك، واذا اضطجعت فيها أصابت رجلك
فقال له سلمان نعم هكذا فاصنع
لم يكن هناك من طيبات الحياة الدنيا شيء ما يركن اليه سلمان لحظة، أو تتعلق به نفسه اثارة، الا شيئا كان يحرص عليه أبلغ الحرص، ولقد ائتمن عليه زوجته، وطلب اليها أن تخفيه في مكان بعيد وأمين
وفي مرض موته وفي صبيحة اليوم الذي قبض فيه، ناداها
هلمي خبيّك التي استخبأتك
فجاءت بها، واذا هي صرة مسك، كان قد أصابها يوم فتح جلولاء فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته
ثم دعا بقدح ماء نثر المسك فيه، ثم ماثه بيده، وقال لزوجته
انضجيه حولي فانه يحصرني الآن خلق من خلق الله، لا يأكلون الطعام، وانما يحبون الطيب
فلما فعلت قال لها اجفئي علي الباب وانزلي ففعلت ما أمرها به
وبعد حين صعدت اليه، فاذا روحه المباركة قد فارقت جسده ودنياه
قد لحقت بالملأ الأعلى، وصعدت على أجنحة الشوق اليه، اذ كانت على موعد هناك مع الرسول محمد، وصاحبيه أبي بكر وعمر ومع ثلة مجيدة من الشهداء والأبرار
**
لطالما برّح الشوق الظامئ بسلمان
وآن اليوم أن يرتوي، وينهل
تأليف وكلمات
خالد محمد خالد
رجال حول الرسول