بسم الله الرحمن الرحيم
يقول ابن العربي رضي الله عنه:
..اعلم أن التعينات اللاحقة للوجود المطلق بعضها كلية معنوية كالتعينات الجنسية والنوعية والصنفية ، والنسب التي تحصل بها اسماء الله الحسنى المرتبة الشاملة بعضها لبعض شمول اسم الله والرحمن سائر الاسماء ، وبعضها جزئية كالتعينات الغير المتناهية المندرجة تحت الاولى ، فتحصل من نسبة الاولى إليها أسماء غير متناهية في حضرات الاسماء المتناهية ، والتعينات الاولية تقتضي في عالم الارواح حقائق روحانية مجردة وطبائع كلية ، فالتعيين الاول هو العقل الاول المسمى أم الكتاب ، والقلم الاعلى والعين الواحدة والنور المحمدي كما ورد قي الحديث (أول ماخلق الله العقل) وفي رواية (نوري وروحي) وهو يتفصل بحسب التعينات الروحانية إلى العقول السماوية والارواح العلوية والكروبيين وأرواح الكل من الانبياء والاولياء ، فالعقل الاول هو متعين كل طبيعي ، يشمل جميع المتعينات ، ويمدها ويقومها ويفيض عليها النور والحياة دائما" ، ثم يتنزل مراتب التعينات إلى تعين النفس الكلية المسماة باللوح المحفوظ ، ونسبتها الى النفوس الناطقة المجردة الطاهرة في مظاهر جميع الاجرام السماوية أفلاكها وكواكبها ، وإلى النفوس الناطقة الانسية بعينها نسبة العقل الاول الى الانواع والاصناف التي هي تحتها في عالمها ، وهذه النفس الكلية أيضا" مراتب تعيناته أيضا في التنزل ، ثم مراتب النفوس المنطبعة في الاجرام التي يسمى عالمها عالم المثل ، ثم مراتب العناصر التي هي آخر مراتب التنزلات ، وكلها تعينات الوجود الحق المتجلي في مراتب النفوس بصور التعينات الخلقية وشؤونها الذاتية كما مر كذا مرة ، فالارواح المتعينة بالتعينات الكلية من المجردات العقلية والنفس السماوية والارواح النبوية مفيضات وممدات لما تحتها من الارواح المتعينة بالتعينات الجزئية البشرية ، ومقومات لها تقويم الحقائق النوعية أشخاصها ، ومدبرات وحاكمات عليها سياسة لها سياسة الانبياء أممها والسلاطين خولها ، ومن هذا يعرف سر قوله : وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين . ويفهم معنى قوله : (إن إبراهيم كان أمة) والارواح المتعينة بالتعينات الجزئية والهيئات المزاجية الشخصية تحت قهرها وسياستها وتصريفها بحسب إرادتها ، فهي بالنسبة إليها كالقوى الجسمانية والنفسانية والروحانية على اختلاف مراتبها بالنسبة إلى روحنا المدبرة لابداننا ، وكالخدم والاعوان والعبيد بالنسبة إلى المخادم والسلاطين والموالي ، وكالامم والاتباع بالنسبة إلى الانبياء والمتبوعين . إذا تقرر هذا فنقول : أرواح الانبياء هم المتعينات بالتعينات الكلية في الصف الاول ، وأرواح أممهم بل أكثر الملائكة والارواح والنفوس الفلكية كالقوى والاعوان والخدم بالنسبة إليهم ، زمن هذا يعرف سر سجود الملائكة لآدم ، وسر طاعة أهل العالم العلوي والجن والانس لسليمان ولذي القرنين وسر امداد الملائكة للنبي عليه الصلاة والسلامفي قوله تعالى: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثةآلاف من الملائكة.. الآية ، فعلى هذا كانت الابناء الذين قتلوا في زمان ولادة موسى هي الارواح التي تحت حيطة روح موسى عليه السلام وفي حكم أمته وأعوانه ، فلما أراد الله إظهار آيات الكلمة الموسوية ومعجزاتها وحكمها وأحكامها ، وقدر الاسباب العلوية والسفلية من الاوضاع الفلكية والحركات السماوية المعدة لمواد العالم ، والامتزاجات العنصرية والاستعدادات القابلة المهيأة لظهور ذلك وقرب زمان ظهوره ، تعينت أمزجة قابلة لتلك الارواح فتعلقت بأبدانها ، وكان علماء القبط وحكمائهم أخبروا قومهم أنه يولد في ذلك الزمان مولود من بني إسرائيل يكون هلاك فرعون وذهاب ملكه على يده ، فأمر فرعون بقتل كل من يولد من الابناء في ذلك الزمان حذرا مما قضى الله وقدر ، ولم يعلم أن لامرد لقضائه ولامعقب لحكمه فكان ذلك سببا لاجتماع تلك الارواح في عالمها وانضمامها لروح موسى ، وعدم تفرقها وانبثاثها عنه بالتعلق البدني والانفراد في عالم الطبيعة فيتقوى بهم ويجتمع فيه خواصهم ويعتضد بقواهم ، وذلك اختصاص من الله لموسى وتأييد بإمداده بتلك الارواح كإمداده بالارواح السماوية وقوى النيران الناظرة إلى طاعته فلما تعلق الروح الموسوي ببدنه تعاضدت تلك الارواح والارواح السماوية في امداده بالحياة والقوة والايد والنصرة ، وكل ماهو مهيأ لتلك الارواح الطاهرة من الكمالات فكان مؤيدا بهم بتلك الارواح كلها ، ونظير ذلك ماقال أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب رضي الله عنه ، حين قال له بعض أصحابه عند ظفره بأصحاب الجمل : وددت أن أخي فلانا" كان شاهنا ليرى مانصرك الله عليه ظن فقال : أهوى أخيك معنا ؟ قال : نعم ، قالفقد شهدنا ، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرجال وقرارات النساء سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الايمان .
فالحكمة فيما دبره الله من قتلهم أن أرواحهم تتلاحق في إمداد موسى حتى يبلغ أشده بما ذكر ، ثم تتلاحق عند دعوته بالتعلق بأبدانها وتتكامل في القوة والشدة متفقين في تصرفه ، كما قال : سيرعف بهم الزمان ، ويقوى بهم الايمان ( فما ولد موسى إلا وهو مجموع أرواح كثيرة ) باتصال تلك الارواح به متوجهة إليه مقبلة نحوه بهواها ومحبتها ونوريتها خادمة له ، ولذلك كان محبوبا الى كل من يراه لنوريته بتشفيع أنوار تلك الارواح (جمع قوى فعالة لأن الصغير يفعل بالكبير ، ألا ترى الطفل يفعل في الكبير بالخاصية فينزل الكبير من رياسته إليه فيلاعبه ويزقزق له ويظهر له بعقله : أي ينزل إلى مبلغ عقله فهو تحت تسخيره وهو لايشعر ، ثم شغله بتربيته وحمايته وتفقد مصالحه وتأنيسه حتى لايضيق صدره هذا كله من فعل الصغير بالكبير وذلك لقوة المقام ، فإن الصغير حديث عهد بربه لأنه حديث التكوين والكبير أبعد ، فمن كان من الله اقرب سخر من كان من الله أبعد ، كخواص الملك المقرب منه يسخرون الابعدين ) القرب والبعد نسبتان معتبرتان باعتبارات كثيرة لقلة التعينات والوسائط بين الشيء وبين الحق وكثرتها فالاقل الوسائط أقرب ،ولهذا سخر الارواح والاجساد والعقول النفوس كتسخير العقل الاول من دونه من العقول والنفوس ، وكاستجماع الفضائل والكمالات في الاتصاف بها والتخلي عنها ، فالاكثر بالكمالات والاوفر بالفضائل أقرب إلى الله ممن يخلو عنها ، فيسخر بقرب مقامه من الله من دونه في ذلك كتسخير الانبياء والاولياء أممهم وأتباعهم ، وكل من له أحدية الجمعية الكمالية الالهية أقرب الى الله ممن غلب عليهم أحكام الكثرة فيسخر له ، وأما القرب والبعد في هذا الموضع فهو باعتبار حدوث تجلي الحق وطراوته بحسب الزمان وتمادي مدته وبعد عهده ، فإن طراوة ظهور الحق في مجلى واحدة بتصرفاته وأفعاله وصفاته كما في الصغار قرب لهم بربهم وصفاء ، لكونهم على فطرتهم الاصلية والعهد الاول والاتصال الحقيقي وتقادم الزمان بالكبر وغلبة أحكام النشأة والهيئات النفسانية كالمادة الحيوانية والطبيعية بعد لهم عن ربهم وتكرر وسقوط عن الفطرة فلذلك يسخر الصغير الكبير فيخدمه ، وأما تنزل الكبير العارف الكامل الى مرتبته للتربية مع كونه في غاية القرب بالنسبة إلى الطفل فذلك للرحمة والعناية الالهية ، وهو أمر آخر باعتبار آخر فلا ينافي ماذكرناه لأنه رجع إلى الله بعد البعد بالمعنى المذكور حتى صار أقرب مما كان أولا" .
الكروبيين: صنف من الملائكة العظام..
من –فصوص الحكم-
والسلام