مبارك أنت أيها العربي .. القطب الأحمدي ..
في ملكوت الرب .. تسيح بين العامة والبسطاء ..
فتمطر أرض القلوب الخضر بأنوار فتوحات العارفين ...
كفاك اليوم أنك نقلت قولا لأحد البهاليل :
بالرجال تقوم السماوات
ونستأذنك فنقول : وقليلٌ ما هم
بسم الله الرحمن الرحيمالباب الرابع والأربعونفي البهاليل وأئمتهم في البهالة
إذا كنت في طاعة راغبا ... فلا تكسها حلة الآجل |
وكن كالبهاليل في حالهم ... مع الوقت يجرون كالعاقل |
وحوصل من السنبل الحاصل ... ولا تصبرن إلى قابل |
فحوصلة الرزق قد هيئت ... ليحصل ما ليس بالحاصل |
ولا تبكين على فائت ... يفتك الذي هو في العاجل |
وسوف فلا تلتفت حكمها .. ولا السين وارحل مع الراحل |
عساك إذا كنت ذا عزمة ... ومت حصلت على طائل |
وقل للذي لم يزل وانيا ... تخبطت في شرك الحابل |
وما ظفرت كفكم بالذي ... تريد فيا خيبة السائل |
فلو كان فعلك في أمره ... كفعل الفتى الحذر الواجل |
لميزت بيني وبين الذي ... يجلي لك الحق كالباطل |
[/center]
فجآت الحق لمن خلا به سره
يقول الله تعالى " وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى " .
وذلك أن لله قوما كانت عقولهم محجوبة بما كانوا عليه من الأعمال ، التي كلفهم الحق تعالى ، في كتابه، وعلى لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التصرف فيها شرعا ، وشَرَعَها لهم .
ولم يكن لهم علم بأن لله تعالى الحق " فجآت الحق لمن خلا به سره " ، وأطاعه في أمره ، وهيأ قلبه لنوره من حيث لا يشعر . " ففجأه الحق على غفلة منه " بذلك ، وعدم علم ٍ ، واستعداد لهائل أمر .
فذهب بعقله في الذاهبين . وأبقى تعالى ذلك الأمر ، الذي فجأه ، مشهوداً له ، فهام فيه ، ومضى معه .
فبقي ( هذا المولّه المُدّله ، الذي فاجأًهُ الحق على غفلة منه ) في عالم شهادته ، بروحه الحيواني : يأكل ، ويشرب ، ويتصرف في ضروراته الحيوانية ، تصرف الحيوان المفطور على العلم بمنافعه المحسوسة ومضاره ، من غير تدبير ولا روية ولا فكر .
ينطق بالحكمة ولا علم له بها ـ ولا يقصد نفعك بها ـ لتتعظ وتتذكر أن الأمور ليست بيدك ، وأنك عبد مُصَرَّف بتصريف حكيم ٍ . ـ سقط التكليف عن هؤلاء ـ إذ ليس لهم عقول يقبلون بها ولا يفقهون بها .
" وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ " . " خُذِ الْعَفْوَ " ـ أي القليل مما يُجِّري الله على ألسنتهم من الحكم والمواعظ .
عقلاء المجانين من أهل الله
وهؤلاء هم الذين يسمون عقلاء المجانين . يريدون بذلك أن جنونهم ما كان سببه فساد مزاج عن أمر كوني ، من غذاء أو جوع أو غير ذلك .
وإنما كان عن تجل إلهي لقلوبهم وفجأة ٍ من فجآت الحق فجأتهم ، فذهبت بعقولهم . فعقولهم محبوسة عنده ، منعمة بشهوده ، عاكفة في حضرته ، متنزهة في جماله .
فهم أصحاب عقول بلا عقول ! وعرفوا في الظاهر ، بالمجانين ، أي المستورين عن تدبير عقولهم . فلهذا سموا عقلاء المجانين .
قيل لأبي السعود بن الشبل البغدادي ، عاقل زمانه : " ما تقول في عقلاء المجانين من أهل الله ... فقال ـ رضي الله عنه ـ : " هم مِلاَح ٌ والعقلاء منهم أملح " .
قيل له: " فبماذا نعرف مجانين الحق من غيرهم ... فقال : " مجانين الحق تظهر عليهم آثار القدرة ، والعقلاء يُشهد الحق بشهودهم" . ـ أخبرني بذلك عنه صاحبه أبو البدر التماشكي ـ رحمه الله ـ وكان ثقة ، ضابطاً عارفا بما ينقُل ، لا يجعل فاءً مكان واو . ـ فقال الشيخ : " من شاهد ما شاهدوا وأُبقِىَ عليه عقلُه ، فذلك أحسن وأمكن ، فإنه قد أُقيم وأُعطى من القوة قريبا مما أُعطيت الرسل " .
تجلي الرب وتدكدك جبل القلب
وإن تغيروا ( أي الرجال من أهل الله ) في وقت الفجآت ، ( فذلك لا يحط من مقامهم ) . فقد علمنا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما فجأه الوحي جُئِثَ منه رُعبا . فأتى خديجة ترجف بوادره ، فقال : " زمّلوني ! زمّلوني ! " . وذلك من تجلي مَلَك ٍ . فكيف به بتجلي مَلِك ٍ ...." فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخرّ موسى صعقا " . ـ وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا جاءه الوحي ، ونزل الروح الأمين به على قلبه ، أُخِذ عن حسه ، وسُجِّى ، ورغا كما يرغو البعير ، حتى ينفصل عنه ، وقد وعى ما جاء به ، فيلقيه على الحاضرين ، ويبلغه للسامعين .
فمواجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تجليات ربه على قلبه ، أعظم سطوة من نزول مملك ووارد ، في الوقت الذي لم يكن يسعه فيه غير ربه . ولكن ، كان منتظراً ، مستعدّا لذلك الهول . ومع هذا ، يُؤخذ عن نفسه .
فلولا أنه رسول ، مطلوب بتبليغ الرسالة وسياسة الأمّة ، لذهب الله بعقول الرسل لعظيم ما يشاهدونه . فمكنهم الله ، القوي ، المتين ، من القوة بحيث يتمكنون من قبول ما يرد عليهم من الحق ، ويوصلونه إلى الناس ، ويعملون به .
مراتب الناس في قبول الواردات الإلهية
فاعلم أن الناس ، في هذا المقام ، على إحدى ثلاث مراتب . ممنهم من يكون وارده أعظم من القوة التي يكون في نفسه عليها ، فيحكم الوارد عليه . فيغلب عليه الحال ، فيكون بحكمه . يُصَرِّفه الحال ، ولا تدبير له في نفسه ما دام في ذلك الحال . فإن استمرّ عليه إلى آخر عمره ، فذلك المسمى ، في هذه الطريقة ، بـ " الجنون " . كأبي عقال المغربي .
ومنهم من يمسك عقله هناك ، ويبقى عليه عقل حيوانيته : فيأكل ويشرب ويتصرّف من غير تدبير ولا روية فهؤلاء يسمون عقلاء المجانين لتناولهم العيش الطبيعي كسائر الحيوانات .
وأمّا مثل أبي عقال فمجنون ، مأخوذٌ عنه بالكلية . ولهذا ما أكل وما شرب ، من حين أُخِذ إلى أن مات .
وذلك في مدّة أربع سنين ، بمكة ، فهو مجنون ، أي مستور ، مطلقٌ عن عالم حسه .
ومنهم من لا يدوم له حكم ذلك الوارد ، فيزول عنه الحال . فيرجع إلى الناس بعقله ، فيدبر أمره ، ويعقل ما يقول ويقال له ، ويتصرّف عن تدبير وروية ، مثل كل إنسان .
وذلك هو النبيّ وأصحاب الأحوال من الأولياء .
ومنهم من يكون وارده وتجليه مساوياً لقوّته ، فلا يُرَى عليه أثر من ذلك حاكِمٌ . لكن يُشعَر ، عند ما يُبصَر ، أن ثم أمرا ما طرأ عليه ، شعورا خفيا . فإنه لا بدّ لهذا أن يُصغي إليه .
أي إلى ذلك الوارد ، حتى يأُخذ عنه ما جاءه به من عند الحق . فحاله كحال جليسك الذي يكون معك في حديث ، فيأتي شخص آخر في أمر من عند الملك إليه ، فيترك الحديث معك ويصغي إلى ما يقول له ذلك الشخص . فإذا أوصل إليه ما عنده رجع إليك فحادثك .
فلو لم تُبصِرهُ عينك ، ورأيته يصغي إلى أمر ، شعرت أن ثمّ أمرا شغله عنك في ذلك . كرجل يحدثك ، فأخذته فكرةُ في أمر ، فصرف حسه إليه في خياله ، فَجَمَدَت عينه ونظره ، وأنت تحدّثه . فتنظر إليه غير قابل حديثك ؛ فتشعر أن باطنه متفكر في أمر ٍ آخر خلاف ما أنت عليه .
ومنهم من تكون قوّته أقوى من الوارد . فإذا أتاه الوارد ـ وهو معك في حديث ـ لم تشعر به وهو يأُخذ من الوارد ما يُلقى إليه ، ويأخذ عنك ما تُحدّثه به أو يحدثك به .
وما ثم أمر رابع في واردات الحق على قلوب أهل هذه الطريقة . وهي مسألة غلط فيها بعض أهل الطريق في الفرق بين النبيّ والوليّ .
فقالوا : " الأنبياء يصرفون الأحوال والأولياء تصرّفهم الأحوال ، فالأنبياء مالكون أحوالهم والأولياء مملوكون لأحوالهم " .
والأمر إنما هو كما فصلناه لك وقد بينا لك لماذا يردّ الرسول ويحفظ عليه عقله ، مع كونه يؤخذ ـ ولابد ـ عن حسه ، في وقت وارد الحق على قلبه بالوحي المنزل . فافهم ذلك ، وتحققه .
من نوادر عقلاء المجانين
وقد لقينا جماعة منهم ، وعاشرناهم ، واقتبسنا من فوائدهم . ولقد كنت واقفا على واحد منهم ، والناس قد اجتمعوا عليه ، وهو ينظر إليهم ، وهو يقول لهم :
"أطيعوا الله يا مساكين ! فإنكم من طين خلقتم . وأخاف عليكم أن تطبخ النار هذه الأواني ، فتردّها فَخَّارا . فهل رأيتم ، قَطُّ ، آنية من طين تكون فخارا ً ، من غير أن تطبخها نار ... يا مساكين ! لا يغرنكم إبليس بكونه يدخل النار معكم .
وتقولون : الله يقول : " لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " ـ إبليس خلقه الله من نار ، فهو يرجع إلى أصله ، وأنتم من طين تتحكم النار تفي مفاصلكم .
يا مساكين ! انظروا إلى إشارة الحق في خطابه لإبليس ، بقوله : " لأملأن جهنم منك " . ـ وهنا قِف ، ولا تقرأ ما بعدها . فقال له جهنم منك ، وهو قوله : " خلق الجانّ من مارجٍ من نار " .
فمن دخل بيته ، وجاء إلى داره ، واجتمع بأهله ، ما هو مثل الغريب ، الوارد عليه . فهو ( أي إبليس ) رجع إلى ما به افتخر .
قال : " أنا خير منه خلقتني من نار " . فسروره ، رجوعه إلى أصله . وأنتم ـ يا مناحس ! ـ تتفخر بالنار طينتكم . فلا تسمعوا من إبليس ، ولا تطيعوه . واهربوا إلى محل النور تسعدوا .