يقول حجة الإسلام الإمام الغزالي رضي الله عنه :
أما بعد:
فإن المحبة لله هي الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها وتابع من توابعها كالشوق والأنس والرضا وأخواتها، ولا قبل المحبة إلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة والصبر والزهد وغيرها، وسائر المقامات إن عز وجودها فلم تخل القلوب عن الإيمان بإمكانها، وأما محبة الله تعالى فقد عز الإيمان بها حتى أنكر بعض العلماء إمكانها .
بيان شواهد الشرع في حب العبد لله تعالى :
اعلم أن الأمة مجمعة على أن الحب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فرض، وكيف يفرض ما لا وجود له وكيف يفسر الحب بالطاعة والطاعة تبع الحب وثمرته؟ فلا بد وأن يتقدم الحب ثم بعد ذلك يطيع من أحب.
ويدل على إثبات الحب لله تعالى قوله عز وجل " يحبهم ويحبونه "
وقوله تعالى " والذين آمنوا أشد حباً لله " وهو دليل على إثبات الحب وإثبات التفاوت فيه.
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحب لله من شرط الإيمان في أخبار كثيرة؛ إذ قال أبو رزين العقيلي: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: " أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما " .
وفي حديث آخر: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " .
وفي حديث آخر: " لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين " وفي رواية " ومن نفسه " .
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمحبة فقال: " أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله إياي " .
ويروى أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحبك، فقال صلى الله عليه وسلم: " استعد للفقر " فقال: إني أحب الله تعالى، فقال: " استعد للبلاء " .
وعن عمر رضي الله عنه قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انظروا إلى هذا الرجل الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترونه " .
وفي الخبر المشهور " إن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه: هل رأيت محباً يكره لقاء حبيبه؟ فقال " يا ملك الموت الآن فاقبض " وهذا لا يجده إلا عبد يحب الله بكل قلبه فإذا علم أن الموت سبب اللقاء انزعج قلبه إليه ولم يكن له محبوب غيره حتى يلتفت إليه.
وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم في دعائه: " اللهم ارزقني حبك وحب ما يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد " .
وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: " ما أعددت لها " فقال: ما أعددت لها كثير صلاة وصيام إلا أني أحب الله ورسوله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المرء مع من أحب " قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه من ذاق من خالص محبة الله تعالى شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر.
وقال الحسن: من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا زهد فيها، والمؤمن لا يلهو حتى يغفل فإذا تفكر حزن.
وقال أبو سليمان الداراني: إن من خلق الله خلقاً ما يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون عنه بالدنيا؟.
ويروى أن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا: الخوف من النار، فقال: حق على الله أن يؤمن الخائف.
ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيروا فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الشوق إلى الجنة، فقال: حق على الله أن يعطيكم ما ترجون .
ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً كأن وجوههم المرائي من النور، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: نحب الله عز وجل، فقال: أنتم المقربون أنتم المقربون أنتم المقربون.
وعن سري السقطي : تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائهم عليهم السلام فيقال: يا أمة موسى ويا أمة عيسى ويا أمة محمد غير المحبين لله تعالى فإنهم ينادون يا أولياء الله هلموا إلى الله سبحانه، فتكاد قلوبهم تنخلع فرحاً.
وقال هرم بن حيان: المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه وإذا أحبه أقبل إليه، وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة.
وقال يحيى بن معاذ: عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال فكيف حبه؟ وحبه يدهش العقول فكيف وده؟ ووده ينسى ما دونه فكيف لطفه؟.
وفي بعض الكتب: عبدي أنا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لي محباً.
وقال يحيى بن معاذ: مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب.
وقال يحيى بن معاذ: إلهي إني مقيم بفنائك مشغول بثنائك، صغيراً أخذتني إليك وسربلتني بمعرفتك وأمكنتني من لطفك ونقلتني وقلبتني في الأعمال ستراً وتوبةً وزهداً وشوقاً ورضاً وحباً تسقيني من حياضك وتهملني في رياضك ملازماً لأمرك ومشغوفاً بقولك، ولما طر شاربي ولاح طائري فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً وقد اعتدت هذا منك صغيراً، فلي ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأني محب وكل محب بحبيبه مشغوف وعن غير حبيبه مصروف.
* * * * * * * * * * *
وإلى لقاء آخر إن شاء الله مع الإمام الغزالي والمحبة من كتاب الإحياء
راضي