السماع و الوجد - من كلام الإمام أبو حامد الغزالي
من خير من تتبع هذه المسألة بالتقصي والتحقيق الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه ( إحياء علوم الدين )
حيث عقد له كتاباً خاصاً سمّاه
( كتاب آداب السماع والوجد )
اعتمدنا عليه في بحثنا هذا بشيء من التصرف والاختصار
ومما ساقه فيه من الأدلة على إباحة وجواز استعمال المسلمين هذه الآلات اخترنا ما يأتي :
ما يدل عليه من النقل :
إنشاد النساء على السطوح بالدف والألحان عند قدوم رسول الله :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع .
فهذا إظهار السرور لقدومه وهو سرور محمود ،
فإظهاره بالشعر والنغمات والرقص والحركات أيضاً محمود .
وهو جائز في قدوم كل قادم يجوز الفرح به وفي كل سبب مباح من أسباب السرور .
ويدل على هذا أيضاً ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما
من حديث عقيل عن الزهري عن عروة
عن عائشة ( رضي الله عنها ) : أن أبا بكر {رضى الله عنه}
دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان
والنبي متغشٍ بثوبه فانتهرهما أبو بكر {رضى الله عنه}
فكشف النبي عن وجهه وقال : دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد .
وما روي في الصحيحين :
قالت عائشة ( رضي الله عنها ) :
دخل علي رسول الله وعندي جاريتان تغنيان بغناءٍ بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه عنهما،
فدخل أبو بكر {رضى الله عنه} فانتهرني
وقال : مزمار الشيطان عند رسول الله ،
فأقبل عليه رسول الله وقال : دعهما فلما غفل غمزتهما فخرجتا .
وما روي عن السيدة عائشة أنها قالت :
كان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق والحراب ،
فإما سألت رسول الله ، وإما قال : تشتهين تنظرين ؟ .
فقلت : نعم ، فأقامني وراءه . . . ويقول : دونكم يا بني أرفدة .
حتى إذا مللت قال : حسبك ؟ .
قلت : نعم .
قال : فاذهبي .
وبعد أن ساق الإمام أبو حامد الغزالي هذه الأدلة وغيرها
قال : فهذه الأحاديث كلها في الصحيحين ،
وهو نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام ،
وفيها دلالة على أنواع من الرخص :
1. الرخصة في الغناء والضرب بالدف من الجاريتين .
2. منعه لأبي بكر عن الإنكار والتغيير وتعليله بأنه يوم عيد ، أي هو وقت سرور ؟
وهذا من أسباب السرور .
3. الرخصة في اللعب ، ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب المصحوب بنقر الطبول .
4. فعل ذلك كان في المسجد .
5. قوله : دونكم يا بني أرفدة وهذا أمر باللعب والتماس له ، فكيف يقدر كونه حراماً ؟
6. وقوفه طويلاً في مشاهدة ذلك وسماعه وهو رخصة بالفعل والنظر
والاستماع .
7. قوله لعائشة : أتشتهين أن تنظري ولم يكن ذلك عن اضطرار .
وخلص الإمام أبو حامد الغزالي إلى القول :
أن هذه المقاييس والنصوص تدل على إباحة الغناء والرقص والضرب بالدف
واللعب بالدرق والحراب والنظر إلى رقص الحبشة والزنوج
في أوقات السرور كلها - قياساً على يوم العيد - فإنه وقت سرور ،
وفي معناه يوم العرس والوليمة والعقيقة ويوم القدوم من السفر وسائر أسباب الفرح ،
وهو كل ما يجوز به الفرح شرعاً ، ويجوز الفرح بزيارة الأخوان ولقائهم واجتماعهم في موضع واحد
على طعام أو كلام فهو أيضاً مظنة السماع .
أي محل إباحة للإنشاد وضرب الدف أو الطبل .
الحكم بالقياس
قال الإمام أبو حامد الغزالي راداً على من يقول بحرمة السماع وبضمنه حرمة الضرب في الآلات الموسيقية :
اعلم أن قول القائل : السماع حرام ، معناه أن الله عالى يعاقب عليه ، وهذا أمر لا يعرف بمجرد العقل ،
بل بالسمع ومعرفة الشرعيات محصورة في النص أو القياس على المنصوص
. وأعني بالنص : ما أظهره بقوله ، أو فعله . وبالقياس : المعنى المفهوم من ألفاظه وأفعاله .
فإن لم يكن التحريم فيه نص ،
ولم يستقم فيه قياس على منصوص بطل القول بتحريمه ،
وبقي فعلاً لا حرج فيه كسائر المباحات .
ثم رأى بناءً على ما ساق من أدلة نقلية ، أنه لا دليل شرعي على تحريم السماع وما يتضمنه من إنشاد أو ضرب بالدفوف والطبول البتة ، بل على العكس من ذلك فقد دلت النصوص على إباحته
وأما القياس فقد ذهب فيه إلى ما خلاصته :
أن أصوات الطيور الجميلة كالعندليب والقمارى وغيره
إنما هي أصوات موزونة متناسبة المطالع والمقاطع بطبيعتها التي خلقها الله تعالى عليها ،
وهذه الأصوات هي الأصل في صنع الآلات الموسيقية ،
إذ ما من شيء توصل أهل الصناعات بصناعاتهم إلى تصويره إلا وله مثال في الخلقة التي استأثر الله باختراعها وسماع أصواتها يستحيل أن يحرم لكونها طيبة أو موزونة بطبعها ، فلا ذاهب إلى تحريم سماعها ، ولا فرق بين حنجرة وحنجرة ،
ولا بين جماد وحيوان ، فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمي ،
كالذي يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدف وغيره .
فكل آلة يستخرج منها صوت مستطاب موزون - سوى ما يعتاده أهل الشرب - كشاهين الرعاة ، وشاهين الطبالين ، وكالطبل والقضيب ، فباقي على أصل الإباحة قياساً على أصوات الطيور وغيرها .
قال الله تعالى :
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ،
فهذه الأصوات لا تحرم .
بل لقد ذهب الإمام أبو حامد الغزالي
إلى أن الذي لا يتأثر بالسماع ، ولا يتحرك : ناقص مائل عن الاعتدال ، بعيد عن الروحانية ،
زائد في غلظ الطبع والكثافة على الجمال والطيور بل على جميع البهائم ،
فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة ،
ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود {عليه السلام} لاستماع صوته .
آثار الدف والطبلة ونحوهما في القلب
ذكر الإمام أبو حامد الغزالي :
أن للاعتياد على استماع هذه الآلات مشتركة مع الكلمات المسجعة الموزونة لأغراض مخصوصة ،
آثاراً قوية ومحمودة في القلب ، وهي فيما قال سبعة مواضع ، اخترنا منها :
الأول :
غناء الحجيج ، فإنهم يدورون في البلاد بالطبل والغناء ، وذلك مباح ،
لأنها أشعار نظمت في وصف الكعبة والمقام والحطيم وزمزم وسائر المشاعر ،
وأثر ذلك يهيج الشوق إلى حج بيت الله تعالى ،
واشتعال نيرانه إن كان ثمة شوق حاصل ، أو استثارة الشوق واجتلابه إن لم يكن حاصلاً .
وإذا كان الحج قربة والشوق إليه محموداً ، كان التشويق إليه بكل ما يشوق محموداً ،
وكما يجوز للواعظ أن ينظم كلامه في الوعظ ويزينه بالسجع ويشوق الناس إلى الحج ، جاز لغيره نظم الشعر ،
فإن الوزن إذا انضاف إلى السجع صار الكلام أوقع في القلب ،
فإذا أضيف إليه صوت طيب ونغمات موزونة زاد وقعه ،
فإن أضيف إليه الطبل وحركات الإيقاع زاد التأثير وكل ذلك جائز .
الثاني :
ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو ( الجهاد ) ، وذلك أيضاً مباح كما للحاج ،
وطرق الأوزان الشعرية المشجعة تخالف الطرق المشوقة ،
وهذا أيضاً مباح في وقت يباح فيه الغزو .
الثالث :
السماع في أوقات السرور وتهييجاً له ، وهو مباح إن كان ذلك السرور مباحاً ،
كالغناء في أيام العيد ، وفي العرس ، وفي وقت قدوم الغائب
، وفي وقت الوليمة والعقيقة ، وعند ولادة المولود ، وعند ختانه ،
وعند حفظه القرآن العزيز ، وكل ذلك مباح لأجل إظهار السرور به .
وقد نقل عن عدد من الصحابة أنهم حجلوا في سرور أصابهم .
وهو جائز في قدوم كل قادم يجوز الفرح به ، وفي سبب كل مباح من أسباب السرور .
الرابع :
سماع من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه ، فلا ينظر إلى شيء إلا رآه فيه ،
فالسماع في حقه ، مهيج لشوقه ، ومؤكد لعشقه وحبه ،
ومستخرج منه أحوالاً من المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها يعرفها من ذاقها وينكرها من كَلَّ حسه عن ذوقها ، وتسمى تلك الأحوال بلسان الصوفية : وجداً مأخوذة من الوجود ،
ثم تكون تلك الأحوال أسباباً لروادف وتوابع لها تحرق القلب بنيرانها وتنقيه من الكدورات ،
كما تنقي النار الجواهر المعروضة عليها من الخبث ، ثم يتبع الصفاء الحاصل به مشاهدات ومكاشفات ،
وهي غاية مطالب المحبين لله تعالى ، ونهاية ثمرة القربات كلها .
فالمفضي إليها ( يقصد المدائح والضرب بالدفوف والطبول ) من جملة القربات لا من جملة المعاصي والمباحات .
وقد خلص الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه إلى النتيجة التالية :
أن الآلة إذا كانت من شعار أهل الفساد كالمزامير والأوتار ، فهي ممنوعة ، لأنها مظنة التشبه بهم ،
وما عدا ذلك يبقى على أصل الإباحة كالدف - وإن كان فيه الجلاجل - وكالطبل والضرب بالقضيب وسائر الآلات .
فهذا ما أردنا أن نذكره من حكم الضرب على الدف والطبل في المحافل الدينية أو الاجتماعية ،
وقد ظهر على القطع إباحته في بعض المواضع ، والندب إليه في بعض المواضع .
بتصرف - موسوعة الكسنزان