سادتى أهل المودة الأحباء
تحياتى لكم جميعا كلاً باسمه وشخصه الكريم
واسمحوا لى أن أنقل لكم بحث قيم للمرحوم الأستاذ أحمد التاجى من علماء دار العلوم بعنوان ((
الحقيقة والمجاز فى القرآن الكريم ))
وأدعو الله أن يكون نافعا لنا إن شاء اللهالحقيقة والمجاز فى القرآن الكريم (1 )
قال تعالى :
"
وما يعلم تأويله إلا الله . والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب "
نزل القرآن بلغة العرب وخاطبهم بأسلوبهم وما يتضمنه من حقيقة ومجاز وتفوق عليهم ببلاغته الفريدة التى كانت تهزهم هزا وتعجزهم ..
وكان لكثير من ألفاظه معان ظاهرة وأخرى باطنة وربما كانت الباطنة أبلغ وأدق ولا تتأتى
لطالبها إلا بعد الغوص عليها . وكان الكثير من الناس يكتفون بالمعانى الظاهرة التى لا تجشمهم تعبا ..
ولنأخذ صدر سورة الأنفال لذلك مثالا :
يقول تعالى : " يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول..."
فيفهم جمهور المفسرين معنى الأنفال على ظاهر اللفظ .
فجاء فى تفسير الطبرى :
النفل فى كلام العرب : إنما هو الزيادة .
والنفل ما أعطيه الرجل من البلاء والغناء عن الجيش على غبر قسمة .
والأنفال : الغنائم . وقيل : السلب . وقيل ما أخذ مما سقط من المتاع بعدما تقسم الغنائم .. فهى نفل لله ولرسوله .
وقيل : الفرس . والدرع . والرمح .
وقال مجاهد : هو الخمس . مشيرا لقوله تعالى : "
واعلموا أنما غنمتم من شىء فإن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " .
وقال مجاهد أيضا : سألوا النبى صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس التى تقسم على المقاتلين فنزلت : يسئلونك عن الأنفال .
وقال أبو جعفر : الأنفال زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش أو جميعهم فوق أعطياتهم تشجيعا ومكافأة لهم .
وانتهى الطبرى إلى تفسير الآية بقوله :
يسئلونك يا محمد عما فضل من المال بعد قسمة الغنائم يوم بدر . فقل : هو لله ولرسوله دونكم يجعله حيث شاء .
فها أنت تراهم قد فسروا الأنفال بمعناها الظاهر القريب .. وأولى بمن ينظر فى آيات السورة التى تلى لفظ الأنفال – أن يفسرها بمعناها المجازى .
فالأنفال : زيادات وعطايا . وهى من الأرزاق العلوية التى يمنحها الله والرسول بعض الناس .. فالله يمنحها لنبيه .. والرسول يمنح منها المؤمنين .. فالله ورسوله هما اللذان يملكان المنح والهبات لتلك النفحات العلوية .
فيقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : يسئلونك يا محمد عن الهبات االعلوية والفتوحات الربانية . من يملكها . وكيف تصل ألى العباد ؟ فقل لهم : هى لله تعالى ولرسوله من فضل ربه يمنحها عباد الله المخلصين .
ثم أخذ تعالى يبين للناس ما ينبغى أن يكونوا عليه من الخلق والإيمان والفضيلة ليستحقوا تلك العطايا العلوية ..فأمرهم بتقوى الله وإصلاح ذات البين بينهم بتآلفهم وحب بعضهم لبعض .. وأمرهم بطاعة الله ورسوله إن كانوا مؤمنين حقا .
وبعد أترى هذا الكلام الذى أورده الله تعالى تفسيرا للأنفال يناسب معناها الظاهرى . أم معناها المجازى وهى عطايا الله ونعمه ؟ .
فلو أننا أخذنا بظاهر اللفظ لفقدنا الصلات التى تربط الآيات السابقة فتجعلها كسلسلة متناسقة ..
ومن المجاز أيضا بسورة البقرة :
يسئلونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون"
فالمجاز فى قوله تعالى (
وأتوا البيوت من أبوابها )
فقد سأل العرب النبى صلى الله عليه وسلم عن الهلال وحقيقته كيف ينمو شيئا فشيئا فى الليالى ثم يعود فيتضاءل حتى يرجع كما بدأ .
فذكر الله لنبيه أن من الخير لهم أن يسألأوا عما يفيدهم السؤال عنه . فيعرفوا منافع الأهلة .. وليس من الضرورى أن يعرفوا حقائقها حتى
يأذن الله لهم . فإن عقولهم لا تحتمل إدراك ما يطلبون . فلا يفوتهم ما يعقلون إلى ما لا يعقلون . ولا يكونون كمن يتسلق البيوت من ظهورها ويترك أبوابها !
فالله سبحانه يسأل المسلمين أن يطرقوا المسائل من وجهها الصحيح وإلا كانوا كمن يترك أبواب داره ليتسلق عليها من وراء ظهرها وفى ذلك من المشقة والتعنت ما فيه .
وهذا مجاز بالتشبيه . ولا يصح لنا أن نأخذ الألفاظ على ظاهرها . وننشىء القصص عن رجال كانوا يدخلون بيوتهم من وراء ظهورها ويتركون أبوابها .. وهذه القصص من خيالات مستعربة الأعاجم الذين زاولوا التأليف فى التفسير دون أن يتمكنوا من اللغة ويدركوا مدلول الحقيقة والمجاز .. وقد امتلأت تلك التفاسير بتلك القصص التى يذكرونها على أنها أسباب لنزول الآيات !
فيقول الطبرى رحمه الله فى تفسير الآية السابقة :
قيل نزلت فى قوم كانوا لا يدخلون إذا أحرموا بيوتهم من قبل أبوابها !
وقالوا : كانت الأنصار إذا حجوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها .. فجاء رجل منهم فدخل من بابه فقيل له فى ذلك .. فنزلت الآية ! " وليس البر
بأن تأتوا البيوت من ظهورها .
وقالوا .. وقالوا ..
وهو بهذه الروايات يذكر أمورا لم يسجلها التاريخ .. لأنه يأخذ بظاهر الألفاظ ويضطر لأن يجمع تلك القصص الموضوعة ليجعل منها أسبابا فى تنزيل هذه الآية
وفى قوله تعالى فى آية الصيام فى سورة البقرة :
"
وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل " .
يذكر الطبرى حديثا جرى بين (
عدى ابن حاتم الطائى )
ورسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال عدى : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمنى الإسلام ونعت لى الصلوات كيف أصلى كل صلاة لوقتها .
ثم قال : إذا جاء رمضان فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتم الصيام إلى الليل . ولم أدر ما هو؟ ( يعنى الخيط الأبيض والخيط الأسود من الفجر ) .
قال عدى ففتلت خيطين من أبيض وأسود فنظرت فيهما عند الفجر فرأيتهما سواء .
فآتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله : كل شىء أوصيتنى
قد حفظت غير الخيط الأبيض من الخيط الأسود !
قال وما منعك يا بن حاتم ؟ وكأنه قد علم بما فعلت !
قلت : فتلت فتيلين من أبيض وأسود فنظرت فيهما من الليل فوجدتهما سواء !
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه !
ثم قال ألم أقل لك من الفجر ؟ إنما هو ضوء النهار وظلمة الليل !
فهل يعقل أحد الناس أن عدى ابن حاتم الطائى العربى الذكى لا يفهم معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود من الفجر ؟ وهو سيد قومه ! وهو فى كل يوم يرى تسلل ضوء الصباح إلى ظلمة البادية وكأنها الخيوط البيض تتداخل فى الخيوط السود وتنمو شيئا فشيئا حتى يتغلب بياض النهار على سواد الليل .
أمثل هذا العربى يجهل المجاز والتشبيه فى قوله تعالى ولا يفهم إلا ظاهر الألفاظ ؟
لا ولكنها خيالات المفسرين وشهوة اختلاق القصص فى أسباب النزول .. وكأن لكل أية سبب لنزولها أو أسبابا يتضارب بعضها فى بعض ليفسروا بذلك ظاهر ألفاظها دون أن يصلوا إلى مضمونها .
نعم لقد شغل الكثير منهم بالقشور دون أن ينفذوا إلى اللباب .
وقد استعمل الله تعالى التشبيه والتمثيل على نحو ما كانت تفعل العرب فى لغتها البليغة من شعر ونثر .
ولكن المفسرين حين نظروا فى كلام الله تجاهل الكثير منهم ذلك المجاز وأخذوا يفسرون الآيات بظاهر الألفاظ فابتعدوا عن مضمون كلمات الله ابتعادا كثيرا . ولو أنهم استعرضوا آيات الله وأمثاله القائمة على التشبيه والتمثيل لاستمدوا منها ما يعينهم على تفهم روح القرآن وباطن معانيه .
ونذكر بعض آيات الكتاب لتوضيح رأينا
فمن المجاز ما شبه به اليهود الذين عصوه وتمردوا على كتبه ورسله فلم يؤمنوا بهم – شبههم فى تلاعبهم واحتيالهم ونفاقهم وكذبهم ونقضهم لعهودهم – بالقردة
والخنازير . .. بالقردة المتلاعبة المتراقصة . والخنازير القذرة التى تأكل القمامة وتأبى المرعى النظيف !
فقال فى أوصافهم " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين "
أى : اجعلوا أنفسكم مث القردة فى تلاعبهم وترقصهم وعدم جديتهم فى شىء . وخاسئين أى محتقرين منبوذين .. فكأن الله سبحانه يقول لهم : يا أشباه القرود فى أفعالهم والخنازير فى أوصافهم !
وقد قال الله تعالى أيضا : "
قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون . قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ؟ من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت . أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل "
فترى الآيات قد وضحت ما أراد الله تعالى بهم .. فهو لم يجعلهم قردة
وخنازير بأشكالها وأجسامها – بل جعلهم كذلك بتصرفاتهم وأخلاقهم على سبيل التمثيل .. فهم عبدة الطاغوت وبذلك خرجوا عن عبادة ربهم .. ولو كانوا قردة وخنازير حيوانية ما كان منهم الكافر وعباد الطاغوت !
فالذين يفسرون الآيات على ظاهر ألفاظها ويجعلونهم أمما قد مسخت فصارت فى صورة القردة والخنازير يشتطون بعيدا !
أحمد موسى
يتبع بإذن الله