تفسير سورة الفاتحة .كناب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
كناب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطتائي الحاتمي جمع وتأليف محمود محمود الغراب
الفقرة الثالثة :عليهم ، فتنبسط عليهم ويرجع الحكم لها فيهم ، والمدى الذي يعطيه الغضب هو ما بين الرحمن الرحيم الذي في البسملة وبين الرحمن الرحيم الذي بعد قوله« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »فالحمد للّه رب العالمين هو المدى ، فأوله الرحمن الرحيم وانتهاؤه الرحمن الرحيم ، وإنما كان الحمد للّه رب العالمين عين المدى ، فإن في هذا المدى تظهر السراء والضراء ولهذا كان الحمد فيه وهو الثناء ، ولم يقيد بضراء ولا سراء في هذا المدى لأنه يعم السراء والضراء .
فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول في السراء : " الحمد للّه المنعم المفضل "
وفي الضراء « الحمد للّه على كل حال »
ويرجو رحمته ويخاف عذابه واستمراره عليه ، فجعل اللّه عقيب« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »قوله« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »فالعالم بين هذه الرحمة ورحمة البسملة بما هو عليه من محمود ومذموم ، وهذا تنبيه عجيب من اللّه لعباده ليقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة اللّه فإنه أرحم الراحمين ، فإنه إن لم يزد على عبيده في الرحمة بحكم ليس لهم فما يكون أرحم الراحمين ، وهو أرحم الراحمين بلا شك ، فو اللّه لا خاب من أحاطت به رحمة اللّه من جميع جهاته ، وإذا صحت الحقائق فليقل الأخرق ما شاء ، فإن جماعة نازعوا في ذلك ولولا أن رحمة اللّه بهذه المثابة من الشمول لكان القائلون بمثل هذا لا تنالهم رحمة اللّه أبدا .
الوجه الثاني الفاتحة في الصلاة : الصلاة جامعة بين اللّه والعبد في قراءة فاتحة الكتاب ، ومن هنا يؤخذ الدليل بفرضيتها على المصلي في الصلاة ، فمن لم يقرأها في الصلاة فما صلى الصلاة التي قسمها اللّه بينه وبين عبده ، فإنه ما قال قسمت الفاتحة وإنما قال قسمت الصلاة بالألف واللام اللتين للعهد والتعريف ، فلما فسر الصلاة المعهودة بالتقسيم جعل محل القسمة قراءة الفاتحة ، وهذا أقوى دليل يوجد في فرض قراءة الحمد في الصلاة ، والذي أذهب إليه وجوب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة وإن تركها لم تجزه صلاته ، فقراءة أم القرآن في الصلاة واجبة إن حفظها ، وما عداها ما
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:قلنا الاجتماع على إقامة الدين لقوله ( 7 )« صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ »يعني من النبيين ، فإنه جعل لكل نبي شرعة ومنهاجا ، وقال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )أي في القيام به ، فهذه الصفة هي الجامعة لكل ذي شرع ، وهو قوله تعالى لما ذكر الأنبياء لنبيه صلى اللّه على جميعهم : ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ )أي فيما ذكرناه ، لا في فروع الأحكام ، وإن
ص 32
فيه توقيت ، وينبغي أن يكون العامل في« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »( أذكر ) فتتعلق الباء بهذا الفعل إن صح الخبر ، يقول العبد« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »يقول اللّه « ذكرني عبدي » وإن لم يصح فيكون الفعل أقرأ بسم اللّه ، فإنه ظاهر في« اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ »هذا يتكلفه لقولهم إن المصادر لا تعمل عمل الأفعال إلا إذا تقدمت ، وأما إذا تأخرت فتضعف عن العمل ، وهذا عندنا غير مرضي في التعليل لأنه تحكم من النحوي ، فإن العرب لا تعقل ولا تعلل ، فيكون تعلق البسملة عندي بقوله« الْحَمْدُ لِلَّهِ »بأسمائه فإن اللّه لا يحمد إلا بأسمائه غير ذلك لا يكون ، ولا ينبغي أن نتكلف في القرآن محذوفا إلا لضرورة وما هنا ضرورة .
فإن صح قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن اللّه تبارك وتعالى إن العبد إذا قال« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »في مناجاته في الصلاة يقول اللّه يذكرني عبدي فلا نزاع ، هكذا روي هذا الخبر عن
[ الفاتحة في الصلاة ]
أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال « من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاث غير تمام » .
فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام فقال : اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول « قال اللّه تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل » ، وذكر مسلم هذا الحديث ولم يذكر البسملة فيه ، فمن عبيد اللّه من يسمع ذلك القول بسمعه ، فإن لم تسمعه بسمعك فاسمعه إيمانا به فإنه أخبر بذلك ، فمن الأدب الإصغاء ، وهي السكتات بين الآيات في الصلاة .
فإذا قال العبد« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »علق الباء بما في الحمد من معنى الفعل كما قلنا يقول لا يثنى على اللّه إلا بأسمائه الحسنى ، فذكر من ذلك ثلاثة أسماء : الاسم اللّه لكونه جامعا غير مشتق ، فينعت ولا ينعت به فإنه للأسماء كالذات للصفات فذكره أولا من حيث أنه دليل على الذات ، كالأسماء الأعلام كلها في اللسان وإن لم يقو قوة الأعلام لأنه وصف للمرتبة كاسم السلطان ، فلما لم يدل إلا على
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:ظهر في شرعنا من فروع شرع من قبلنا ، فمن حيث هو شرع لنا ، وقد يقع الاتفاق في بعض الأحكام كالتوحيد والإيمان بالآخرة وما فيها ، لا ينكر ذلك ، وكلا الصراطين معرّفة ، فالتعريف للصراط بالإضافة أخرج الصراط المستقيم من حكم ما تعطيه الألف واللام من استغراق الجنس إلى حكم ما تعطيه من العهد ، وقوله ( 7 )« غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ »يعني المرضي عنهم ( 7 )« وَلَا الضَّالِّينَ »يعنى المهتدين ، ولذا قال : اهدنا كما هديت هؤلاء ، فهما نعتان للذين أنعمت عليهم ،
ص 33
الذات المجردة على الإطلاق من حيث ما هي لنفسها من غير نسب لم يتوهم في هذا الاسم اشتقاق ، ولهذا سميت بالبسملة وهو قولك الاسم مع اللّه أي قولك بسم اللّه خاصة ، ثم قال بعد« بِسْمِ اللَّهِ »« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »من حيث ما هو أعني« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »من الأسماء المركبة كمثل بعلبك ورام هرمز ، فسماه به من حيث ما هو اسم له لا من حيث المرحومين ولا من حيث تعلق الرحمة بهم ، بل من حيث ما هي صفة له جل جلاله فإنه ليس لغير اللّه ذكر في البسملة أصلا ، فإذا قال العبد« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »
قال اللّه تعالى « ذكرني عبدي » وما قيد هذا الذكر بشيء لاختلاف أحوال الذاكرين أعني البواعث لذكرهم ، فذكر تبعثه الرغبة وذكر تبعثه الرهبة وذكر يبعثه التعظيم والإجلال ، فأجاب الحق على أدنى مراتب العالم وهو الذي يتلو بلسانه ولا يفهم بقلبه ، لأنه لم يتدبر ما قاله إذا كان التالي عالما باللسان ولا ما ذكره ، فإن تدبر تلاوته أو ذكره كانت إجابة الحق له بحسب ما حصل في نفسه من العلم بما تلاه ، فإن اللّه يقول عند قراءة العبد القرآن كذا جوابا على حكم الآية ، فينبغي للإنسان إذا قرأ الآية أن يستحضر في نفسه ما تعطيه تلك الآية على قدر فهمه ، فإن الجواب يكون مطابقا لما استحضرته من معاني تلك الآية ، ولهذا ورد الجواب على أدنى مراتب العامة مجملا ، إذا العامي والعجمي الذي لا علم له بمعنى ما يقرأ يكون قول اللّه له ما ورد في الخبر ، فإن فصّلت في الاستحضار فصل اللّه لك الجواب ، فعلى هذا القدر في القراءة تتميز مراتب العلماء باللّه والناس في صلاتهم .
ثم قال : قال اللّه تعالى فإذا قال العبد« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »في الصلاة
يقول اللّه « حمدني عبدي » والحمد للّه رب العالمين يعني العبد أن عواقب الثناء ترجع إلى اللّه ، ومعنى عواقب الثناء أي كل ثناء يثنى به على كون من الأكوان دون اللّه فعاقبته ترجع إلى اللّه لا لذلك الكون ، فرجعت عواقب الثناء إلى اللّه ومن وجه آخر إذا نظر إلى موضع اللام من قوله« لِلَّهِ »يرى أن الحامد عين المحمود لا غيره فهو الحامد المحمود ، وينفي الحمد عن الكون من كونه حامدا ونفى كون الكون محمودا ، فالكون من وجه محمود لا حامد ، ومن وجه لا حامد ولا محمود ، وأما كونه غير حامد فإن الحمد فعل والأفعال للّه ، وأما كونه غير محمود فإنما يحمد المحمود بما هو له لا لغيره والكون لا شيء
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:وهو من أسماء النواقص ، يقول العبد في الصلاة« اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
ص 34
له فما هو محمود أصلا ، وجاء قوله تعالى« رَبِّ الْعالَمِينَ »بالاسم الرب على ما يعطيه من الثبات والإصلاح والتربية والملك والسيادة ، فهذه الخمسة يطلبها الاسم الرب ، ويحضر القارئ ما يعطيه العالم من الدلالة عليه تعالى ، فلا يكون جواب اللّه في قوله « حمدني عبدي » إلا لمن حمده بأدنى المراتب ، لأنه لكرمه يعتبر الأضعف الذي لم يجعل اللّه له حظا في العلم به تعالى رحمة به ، لعلمه أن العالم يعلم من سؤاله أو قراءته ما حضر معه في تلك القراءة من المعاني ، فيجيبه اللّه على ما وقع له ويدخل في إجمال ما خاطب به عبده العامي القليل العلم ، أو الأعجمي الذي لا علم له بمدلول ما يقرؤه.
ثم قال يقول العبد« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »يقول اللّه « أثنى علي عبدي » فإن قلت لم اختصت الرحمة بالثناء قلنا لأنه لا يثنى عليه إلا بما هو عليه ولا يثنى عليك إلا بما تعطيك حقيقتك ، فإذا رحمك ردك إلى عبوديتك واعتقدت أن الربوبية له وحده سبحانه ، فكل من أثني عليه بوصف مشترك فما أثني عليه ، إنما ينبغي أن يثنى على الموجود بما لا يقع فيه المشاركة ، فإذا رحمك منّ عليك بثناء تنفرد به ، ومتى أشركت معه غيره في الثناء فما خصصته بل شركته بغيره .
فيقول اللّه « أثنى علي عبدي » يعنى بصفة الرحمة لاشتقاق هذين الاسمين منها ، ولم يقل في ما ذا لعموم رحمته ، ولأن العامي ما يعرف من رحمة اللّه به إلا إذا أعطاه ما يلائمه في غرضه وإن ضره ، أو ما يلائم طبعه ولو كان فيه شقاؤه .
أما العالم إذا قال« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »فإنه يحضر في نفسه مدلول هذا القول من حيث ما هو الحق موصوف به ، ومن حيث ما يطلبه المرحوم لعلمه بذلك كله ، ويحضر في قلبه أيضا عموم رحمته الواحدة المقسمة على خلقه في الدار الدنيا ، إنسهم وجنهم ومطيعهم وعاصيهم وكافرهم ومؤمنهم وقد شملت الجميع ، ورأى أن هذه الرحمة الواحدة لو لم تعط حقيقتها من اللّه أن يرزق بها عباده من جماد ونبات وحيوان وإنس وجان ولم يحجبها عن كافر ومؤمن ومطيع وعاص عرف أن ذاتها من كونها رحمة تقتضي ذلك ، ثم جاء الوحي من أثر هذه الرحمة الواحدة بأن هذه الرحمة الواحدة السارية في العالم التي اقتضت حقيقتها أن تجعل الأم تعطف على ولدها من جميع الحيوان ، وهي واحدة من مائة رحمة ، وقد ادخر سبحانه لعباده في الدار الآخرة تسعا وتسعين رحمة ، فإذا كان يوم القيامة ونفذ في العالم حكمه وقضاؤه وقدره بهذه الرحمة الواحدة ، وفرغ الحساب ونزل الناس منازلهم من الدارين ، أضاف سبحانه هذه الرحمة إلى التسع والتسعين رحمة فكانت
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:عليهم » إلى آخر السورة ، يقول اللّه : هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ، فقد ضمن الإجابة .
ص 35
مائة ، فأرسلها على عباده مطلقة في الدارين فسرت الرحمة فوسعت كل شيء ، فمنهم من وسعته بحكم الوجوب ، ومنهم من وسعته بحكم الامتنان ، فوسعت كل شيء في موطنه وفي عين شيئيته ، وقد كان الحكم في الدنيا بالرحمة الدنيا ما قد علمتم ، وهي الآن أعني بالآخرة من جملة المائة فما ظنك ، ثم قال يقول العبد« مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ »يقول اللّه « مجدني عبدي » واختص الملك بالتمجيد لتصحيح التوحيد ، فأراد بالتمجيد التشريف بالوحدانية في الألوهية ، فلا إله إلا هو ، وفي رواية « فوض إلي عبدي » .
فالعالم يجب أن لا يقصر يوم الدين على الآخرة ، ويرى أن الرحمن الرحيم لا يفارقان ملك يوم الدين فإنه صفة لهما ، فيكون الجزاء دنيا وآخرة ، وكذلك ظهر بما شرع من إقامة الحدود وظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ، وهذا هو عين الجزاء ، فيوم الدنيا أيضا يوم الجزاء واللّه ملك يوم الدين ، فالكفارات سارية في الدنيا ، والإنسان في الدار الدنيا لا يسلم من أمر يضيق به صدره يؤلمه حسا وعقلا حتى قرصة البرغوث والعثرة ، فالآلام محدودة موقتة ورحمة اللّه غير موقتة ، فإنها وسعت كل شيء ، فمنها تنال وتحكم من طريق الامتنان وهو أصل الأخذ لها ، ومنها ما يؤخذ من طريق الوجوب الإلهي في قوله« كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ »
وقوله« فَسَأَكْتُبُها » ،فأناس يأخذونها جزاء ، وبعض المخلوقات من المكلفين تنالهم امتنانا حيث كانوا ، فكل ألم في الدنيا والآخرة فإنه مكفر لأمور قد وقعت محدودة موقتة ، وهو جزاء لمن يتألم به من صغير وكبير بشرط تعقل التألم لا بطريق الإحساس بالتألم دون تعقله ، فالرضيع لا يتعقل التألم مع الإحساس به ، إلا أن أباه وأمه وأمثالهما من محبيه وغير محبيه يتألم ويتعقل التألم لما يرى في الرضيع من الأمراض النازلة به ، فيكون ذلك كفارة لمن تعقل الألم ، فإذا زاد ذلك العاقل الترحم به كان مع التكفير عنه مأجورا ، إذ في كل كبد رطبة أجر ، وأما الصغير إذا تعقل التألم وطلب النفور عن الأسباب الموجبة للألم واجتنبها ، فإن له كفارة فيها لما صدر منه مما آلم به غيره من حيوان أو شخص آخر من جنسه ، فإذا تألم الصغير كان ذلك الألم القائم به جزاء مكفرا ، حتى الإنسان يتألم بوجود الغيم ويضيق صدره به ، فإنه كفارة لأمور آتاها قد نسيها أو يعلمها .
فهذا كله من بعض ما يدل عليه« مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ »فيقول اللّه « فوض إلي عبدي » أو " مجدني عبدي " أي جعل لي الشرف عليه كما هو الأمر في نفسه ، فهو الحق الذي له المجد بالأصالة ، فله تعالى المجد
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:تنبيه : وإن كان النصف الأول له فقد جاء فيه ذكر العالمين ، وجاء في النصف الذي لنا ذكره
ص 36
والشرف على العالم في الدنيا والآخرة ، لأنه جازاهم على أعمالهم في الدنيا والآخرة ، فيوم الدين هو يوم الجزاء ، أو يقول اللّه كلاهما ، إلا أن التمجيد راجع إلى جناب الحق من حيث ما تقتضيه ذاته ومن حيث ما تقتضي نسبة العالم إليه ، والتفويض من حيث ما تقتضي نسبة العالم إليه لا غير ، فإنه وكيل لهم بالوكالة المفوضة ، ففي حق قوم يقول « مجدني عبدي وفيّ المقصد » وفي حق قوم يقول « فوض إلي عبدي وفي المقصد أيضا » وفي حق قوم يقول « مجدني عبدي وفوض إلي عبدي » ، فإن العبد قد يجمع بين المقصدين فيجمع اللّه له في الرد بين التمجيد والتفويض - وإلى هنا - فهذا النصف كله مخلص لجناب اللّه ليس للعبد فيه اشتراك - ثم قال اللّه يقول العبد« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »يقول اللّه هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فهذه الآية تتضمن سائلا ومسؤولا مخاطبا وهو الكاف من إياك فيهما ، ونعبد ونستعين هما للعبد فإنه العابد والمستعين .
فإذا قال العبد« إِيَّاكَ »وحد بحرف الخطاب بجعله مواجها لا على جهة التحديد ، ولكن امتثالا لقول الشارع لمثل ذلك السائل في معرض التعليم حين سأله عن الإحسان فقال له صلّى اللّه عليه وسلم « أن تعبد اللّه كأنك تراه » ، فلا بد أن تواجهه بحرف الخطاب وهو الكاف ، فهذه الآية وقع فيها الاشتراك بين الحق وبين عبده ، وما مضى من الفاتحة مخلص للّه وما بقي منها مخلص للعبد ، وهذه التي نحن فيها مشتركة ووقع الاشتراك من العبادة والعون لتتميز القدرة من عجز الكون ، فهو سبحانه المقصود بالعبادة ، والعبد العابد ، وهو المقصود بالاستعانة ، والعبد المستعين ، فالاشتراك في الآية كلمة للرب وكلمة للعبد ، وإنما وحّده ولم يجمعه لأن المعبود واحد ، وجمع نفسه بنون الجمع في العبادة والعون المطلوب لأن العابدين من العبد كثيرون ، وكل واحد من العابدين يطلب العون والمقصود بالعبادات واحد ، فعلى العين عبادة وعلى السمع عبادة وعلى البصر واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب فلهذا قال نعبد ونستعين بالنون ، فإذا نظر العالم إلى تفاصيل عالمه وأن الصلاة قد عم حكمها جميع حالاته ظاهرا وباطنا لم ينفرد بذلك جزء عن آخر ، فجميع عالمه قد اجتمع على عبادة ربه وطلب العون منه على عبادته ، فجاء بنون الجماعة في نعبد ونستعين فترجم اللسان عن الجماعة ، كما يتكلم الواحد من الوفد بحضورهم بين يدي الملك ، فعلم العبد من الحق لما أنزل عليه هذه الآية بإفراده نفسه أن
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:سبحانه في أنعمت بضمير المخاطب ، وإنما أتى بضمير المخاطب ، ولو أتى باسم ظاهر ، تخيل أن
ص 37
لا يعبد إلا إياه ، ولما قيد العبد بالنون أنه يريد منه أن يعبده بكله ظاهرا وباطنا من قوى وجوارح ويستعين على ذلك الحد ، ومتى لم يكن المصلي بهذه المثابة من جمع عالمه على عبادة ربه لم يصدق في قوله« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »
وهو مشغول في الالتفات ببصره والإصغاء إلى حديث الآخرين ، مشغول بخاطره في دكانه أو تجارته ، ثم قال اللّه يقول العبد« اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ »
فيقول اللّه ( هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ) فيسأل العبد اللّه أن يهديه الصراط المستقيم ، وأن يبينه له وأن يوفقه إلى المشي عليه ، وهو صراط التوحيد توحيد الذات وتوحيد المرتبة التي هي الألوهية بلوازمها من الأحكام المشروعة التي هي من الإسلام في قوله صلّى اللّه عليه وسلم « إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللّه » فهو الصراط المستقيم الذي هو عليه الرب ، من حيث ما يقود الماشي عليه إلى سعادته .
ولهذا قال« صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ »يريد الذين وفقهم اللّه وهم العالمون كلهم أجمعهم ، والصالحون من الإنس مثل الرسل والأنبياء والأولياء وصالحي المؤمنين من الجان ، كذلك لم يجعل الصراط المستقيم إلا لمن أنعم اللّه عليهم من نبي وصديق وشهيد وصالح ، وكل دابة هو آخذ بناصيتها« غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ »أي لا من غضب اللّه عليهم لما دعاهم بقوله « حي على الصلاة » فلم يجيبوا« وَلَا الضَّالِّينَ »فاستثنى بالعطف من حار ، وهم أحسن حالا من المغضوب عليهم ، فمن لم يعرف ربه وأشرك معه في ألوهيته من لا يستحق أن يكون إلها كان من المغضوب عليهم ، فإذا أحضر العبد مثل هذا وأشباهه في نفسه عند تلاوته قالت الملائكة « آمين » ويقول العبد « آمين » .
فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة في الصفة ، موافقة طهارة وتقديس ذوات ، كرام بررة ، أجابه الحق عقيب قوله « آمين » ، أي أمنا بالخير ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ، « وآمين » كلمة شرعت بعد الفراغ من الفاتحة لما فيها من السؤال ، وهو قوله« اهْدِنَا »وهي أي آمين تقصر وتمد ، وورد في الشرع الجهر بها والإخفاء ، لأن الأمر ظاهر وباطن ، فالباطن يطلب الإخفاء والظاهر يطلب الجهر ، غير أن الظاهر أعم ، فإذا جهر بها حصل حظ الباطن ، وإذا أسر بها لم يعلم الظاهر ما جرى ، فالجهر بها عام لعام وخاص وأعم منفعة ، والسر بها أتم مقاما من الجهر بها ، وآمين معناها أجب دعاءنا ، لا بل معناه قصدنا إجابتك فيما دعوناك فيه ، يقال أمّ فلان جانب فلان إذا قصده ، وخفف آمين للسرعة المطلوبة في الإجابة ، والخفة
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:الأمر مربوط بما تعطيه حقيقة ذلك الاسم ، ونسبة الأسماء إلى الضمير نسبة واحدة ، كما أنه أتى
ص 38
تقتضي الإسراع في الأشياء ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة فقد غفر له ، ولم يقل فقد أجيب لما غفر له ، لأن المهدي ما له ما يغفر ، أي فمن أمن مثل تأمين الملائكة ، هذا معنى الموافقة لا الموافقة الزمانية ، وقد تكون الموافقة الزمانية فيحويهم زمان واحد عند قولهم آمين ، والملائكة لا يخلو قولها في آمين هل يقولونها متجسدين أو يقولونها غير متجسدين ، فإن قالتها متجسدين فربما يريد الموافقة الزمانية خاصة ، لأن التجسد يحكم عليها بالإتيان بلفظة آمين أي بترتيب هذه الحروف ، وإن قالتها غير متجسدة فلم تبق الموافقة إلا أن يقولها العبد بالحال التي يقولها الملك ، فإذا قالها غفر اللّه له ، ولا بد أن يستره عن كل أمر يضاد الهداية بما تنتج ، لا بد من ذلك ، لأن نتيجة الهداية سعادة ، وقد يكون في حياته الدنيا غير مهدي والعناية قد سبقت فيجني ثمرة الهداية ، فلهذا لم يقل أجيب وقال غفر فهذا معنى قول آمين فحصلت الإجابة بالأمن مع تأمين الملائكة ، فيجب قراءة الفاتحة على كل مصل من إمام وغير إمام .
وليس للمأموم أن يسبق إمامه بشيء من أفعال الصلاة ، ولا من أقوالها حتى في قراءة الفاتحة ، ليس له أن يشرع فيها إذا جهر بها حتى يفرغ منها أو يتبع سكتات الامام فيها ، فيقرأ ما فرغ الإمام منها في سكتة الإمام ، وفي صلاة السر يقرؤها بحسب ما يغلب على ظنه ، إلا في الصلاة بعد الجلسة الوسطى فإنه يقرؤها ابتداء ، فقراءة الفاتحة لا بد منها لكل مصل ، فإن اللّه قسم الصلاة بينه وبين عبده وما ذكر إلا الفاتحة لا غير ، فمن لم يقرأها فما صلى الصلاة المشروعة التي قسمها اللّه بينه وبين عبده ، وينبغي للعبد أن يقرأ سورة الفاتحة من غير أن تتقدمه روية فيما يقرأ من السور أو الآيات من سورة واحدة أو من سور ، فإذا فرغ المصلي من قراءة الفاتحة قرأ ما تيسر له من القرآن وما يجري اللّه على لسانه منه من غير أن يختار آية معينة أو يتردد ، والسنة إتمام السورة.
في الخبر الصحيح يقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ - همة عالية شريفة - روى الشيخ محي الدين ابن العربي عن شيخه المقرئ أبي بكر محمد بن خلف بن صاف اللخمي ، من مشايخ القراءات بجامع قوس الحنية بإشبيلية ، عن بعض المعلمين من الصالحين ، أن شخصا صبيا صغيرا كان يقرأ عليه القرآن ، فرآه مصفر اللون فسأل عن حاله فقيل له إنه يقوم الليل بالقرآن كله .
فقال له يا ولدي أخبرت أنك تقوم الليل بالقرآن كله ، فقال هو ما قيل لك ، فقال يا ولدي إذا كان في هذه الليلة فأحضرني في قبلتك ، واقرأ عليّ القرآن في صلاتك ولا تغفل عني ، فقال
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بالعالمين ، وما ذكر عالما مخصوصا ، حتى لا يخرج من العالم أحد ، فالعالم مفتقر إلى حقائق الأسماءص 39
.
يتبع الفقرة الرابعة