السؤال الرابع ومائة
ما قوله
والعظمة ردائي
الجواب
ان الله قد نبه ان العظمة التي تلبسها العقول رداء يحجبها عن أدراك الحق عند التجل
فليست العظمة صفة للحق على التحقيق وانما هي صفة للقلوب العارفة به فهي عليها كالرداء على لابسه وهي من خلفه تحجبها تلك العظمة عن الأدلال عليه وتورثها الإذلال بين يديه
ومن الدليل على ان يوصف العظيم بالعظمة انه راجع إلى العالم به لا إليه ان المعظم إذا رآه من لا يعرفه لا يجد لذلك النظر في قلبه هيبة ولا تعظيما لجهله به والذي يعلم مكانته ومنزلته له على قلبه سلطان العلم به فيورثه ذلك العلم عظمة في قلبه فهو الموصوف بالعظمة لا العظيم
وقد ورد خبر ذكره أبو نعيم الحافظ في دلائل النبوة ان جبريل أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسرى به في شجرة فيها كوكرى طائر فقعد جبريل في واحد وقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخر فلما وصلا إلى السماء الدنيا تدلى إليهما شبه الرفرف درا وياقوتا فأما جبريل فغشى عليه وأما محمد صلى الله عليه وسلم فبقي على حاله ما تغير عليه شئ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمت فضل جبريل على في العلم لانه علم ما رأى وانا ما علمته
فالعظمة التي حصلت في قلب جبريل انما كانت من علمه بما تدلى إليه فقلب جبريل هو الموصوف بتلك العظمة فهي حال الرائي لا للمرئي ولو كانت العظمة حالة للمرئي لعظمه كل من رآه والأمر ليس كذلك وقد ورد في الحديث الصحيح ان الله يتجلى يوم القيامة لهذه الأمة وفيها منافقوها
أنا ربكم فيستعيذون منه ولا يجدون له تعظيما و ينكرونه لجهلهم به فإذا تجلى لهم في العلامة التي يعرفونه بها انه ربهم حينئذ يجدون عظمته في قلوبهم والهيبة فلهذا قلنا في قوله العظمة ردائي أي هي رداؤه الذى تلبسه عقول العلماء به وجعلها رداء ولم يجعلها ثوباً فان الرداء له كمية واحدة والثوب مؤلف من كميات مختلفة ضم بعضها إلى بعض كالقميص وكذلك أيضاً الأزار مثل الرداء ولم يقل السراويل لان ذلك أقرب إلى الأحدية من الثوب المؤلف لتنوع الشكل
السؤال الخامس ومائة ما الأزار
الجواب حجاب الغيرة والسترة على تأثير القدرة الإلهية في الحقيقة الخامسة الكلية الظاهرة في القديم قديمة وفي المحدثات محدثة وهو ظهور الحقائق الإلهية والصور الربانية في الأعيان الثابتة الموصوفة بالإمكان التي هي مظاهر الحق فلا يعلم نسبة هذا الظهور إلى هذا المظهر إلا الله سبحانه وتعالى فالحجاب الذي حال بيننا وبين هذا العلم هو المعبر عنه بالإزار وهي كلمة كن
ولا أريد به حرف الكاف والواو والنون وانما أريد به المعنى الذي به كان هذا الظهور
السؤال السادس ومائة ما الرداء
الجواب العبد الكامل المخلوق على الصورة الجامع للحقائق الإمكانية والإلهية وهو المظهر الأكمل الذي لا أكمل منه الذي قال فيه أبو حامد ما في الإمكان أبدع من هذا العالم لكمال وجود الحقائق كلها فيه وهو العبد الذي ينبغي أن يسمى خليفة ونائباً وله الأثر الكامل في جميع الممكنات وله المشيئة التامة وهو أكمل المظاهر واختلف العلماء هل يصح أن يكون منه في الوجود شخصان فصاعداً أو لا يكون إلا شخص واحد فان كان شخص واحد فمن هو ذلك الشخص ومن أي قسم هو من أقسام الموجودات هل من البشر أو من الجن أو من الملائكة وإنما سماه رداء لأنه مشتق من الردى المقصورة وهو الهلاك لأنه مستهلك من الحق استهلاكا كلياً بحيث أن لا يظهر له وجود عين مع ظهور الانفعالات الإلهية عنه فلا يجد في نفسه حقيقة ينسب بها شي من تلك الانفعالات إليه فيكون حقاً كله
وهو قوله صلى الله عليه وسلم " واجعلني نوراً
أي يظهر في كل شئ ولا أظهر بشئ وقد يستهلك الحق فيه فلا ينسب بوجوده شئ إلى الحق وهو الوجه الذي اعتمد عليه من أثبت الحق المخلوق به كأبي الحكم بن برجان وسهل بن عبد الله التستري و غيرهما وإليه أشرنا بقولنا
انا الرداء انا السر الذي ظهرت ... بي ظلمة الكون إذ صيرتها نورا
فالمرتدي هو الهالك بهذا الرداء فانظر من هو المرتدي فاحكم عليه بانه مستهلك فيه فتجد حقيقة ما ذكرناه فكل مرتد محجوب بردائه عن ادراك الأبصار قال تعالى " لا تدركه الأبصار " لان الرداء يحجب الأبصار عنه ولا يحجبه عنها فهو يدركها ولا تدركه فالأبصار تدرك الرداء والرداء هو الذي استهلك المرتدى فيه بظهوره ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون
السؤال السابع ومائة ما الكبر
الجواب ما ظهر عن دعاوى الخلق في حضرة الربوبية من أنا
على طبقات القائلين بها الكبر حال من أحوال القلوب من حيث ما هي عالمة بمن ينبغي ان ينسب إليه الكبرياء فان الحق معلوم عند كل موجود ويتبع العلم الكبرياء فمن كان أعلم به كان كبرياء الحق في قلبه أعظم ممن ليس في قلبه ما يوجب ذلك فلو كان الكبرياء صفة للذات لكانت الذات مركبة وان كان عين الذات وتجلى سبحانه وسلب العلم به في تجليه لم يجد المتجلى له أثر كبر عنده لهذا المتجلى لجهله فان رزقة العلم به تبعه الكبر والعلم مما يوصف به العالم لا المعلوم كذلك الكبر يوصف به من يوصف بالعلم بمن يكون الكبرياء من أثره في قلب هذا الشخص ولهذا قد ورد الكبرياء ردائي فهو حجاب بين العبد وبين الحق يحجب العبد ان يعرف كنه المرتدي به وهو نفسه فأحرى ان يعرف ربه ومع هذا فلا يضاف الكبر إلا لغير لبسه فانه حالة عجيبة وكذلك العظمة فان الحق ما هي صفته لا ذاتية ولا معنوية فانه يستحيل على ذاته قيام صفات المعاني بها ويستحيل أن تكون صفة نفسية من أجل ما ورد من إنكار الخلق له في تجليه مع كونه هو هو وإذا بطل الوجهان فلم يبقى إلا أن تكون صفة للمتجلي له وهو الكون أو حالة تعقل بين المتجلي و المتجلي له لا يتصف بها المتجلي له لان العبودية تقابل الكبر وتضادها ومحال أن تقوم بنفسها بينهما فلم يبقى إلا أن تكون من أوصاف العلم فتكون نسبة كبر وتعظيم وعزة تتصف بها نسبة علم بمعلوم محقق من حيث ما يؤدى إليه ذلك المسلم من وجود هذه النسب ذوقاً وشربا كما تقول في التشبيه وضرب المثل سواد مشرق وعلم حسن فوصف السواد بالأشراق والعلم بالحسن وهو وصف من لا قيام له بنفسه بما لا قيام له بنفسه فلذلك جعلنا الكبرياء والعظمة حالة نابعة للعلم بالمعظم والمكبر في نفس من عظمه وكبره
السؤال الثامن ومائة ما تاج الملك الجواب
تاج الملك علامة الملك
وتتويج الكتاب السلطاني خط السلطان فيه والوجود كتاب مرقوم يشهده المقربون ويجهله من ليس بمقر بتتويج هذا الكتاب إنما يكون بمن جمع الحقائق كلها وهي علامة موجدة فالانسان الكامل الذي يدل بذاته من أول البديهة على ربه هو تاج الملك وليس إلا الإنسان الكامل وهو قوله صلى الله عليه وسلم ان الله خلق آدم على صورته وهو الأول والآخر والظاهر والباطن فلم يظهر الكمال الإلهي إلا في المركب فانه يتضمن البسيط ولا يتضمن البسيط المركب
فالانسان الكامل هو الأول بالقصد والآخر بالفعل والظاهر بالحرف والباطن بالمعنى
وهو الجامع بين الطبع والعقل ففيه أكثف تركيب وألطف تركيب من حيث طبعه وفيه التجرد عن المواد والقوى الحاكمة على الأجساد وليس ذلك لغيره من المخلوقات سواه ولهذا خص بعلم الأسماء كلها وبجوامع الكلم ولم يعلمنا الله أن أحد سواه أعطاه هذا الإنسان الكامل وليس فوق الإنسان مرتبة إلا مرتبة الملك في المخلوقات وقد تلمذت الملائكة له حين علمهم الأسماء ولا يدل هذا على انه خير من الملك فلما كان مجلي الأسماء الإلهية صح له ان يكون للكتاب مثل التاج لأنه أشرف زينة يتزين بها الكتاب وبذلك التتويج ظهرت آثار الأوامر في الملك كذلك بالإنسان الكامل ظهر الحكم الألهي في العالم بالثواب والعقاب وبه قام النظام وانحرم وفيه قضى وقدر وحكم
السؤال التاسع ومائة
ما الوقار
الجواب حمل أعباء التجلي قبل حصوله والفناء فيه كسكرات الموت قبل حلوله وذلك ان للتجلي مقدمات كطلوع الفجر لطلوع الشمس وكما ورد في الخبر عن مقدمات تجلي الرب للجبل بما ينزل من الملائكة والقوى الروحانية في الضباب وهي أثقال التجلي التي تتقدمه من الوقر وهو الثقل وإذا حصل الثقل ضعف الإسراع والحركة فسمي ذلك السكون وقاراً أي سكون عن ثقل عارض لا عن مزاج طبيعي فان السكون الكائن عن الأمر الذي يورث الهيبة والعظمة في نفس الشخص يسمى وقاراً وسكينة والسكون الطبيعي الذي يكون في الإنسان من مزاجه لغلبة البرد والرطوبة على الحرارة والتيبس لا يسمى وقاراً إنما الوقار نتيجة التعظيم والعظمة ولا سيما إن تقدم التجلي خطاب ألهي فصاحبه أشد وقاراً لان خطاب الحق بوساطة الروح يورث هيبة ولا سيما إن كان قولاً ثقيلاً وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كصلصلة الجرس يجد منه مشقة عظيمة ويورثه سكوناً وغشياً مع الواسطة فكيف به إذا خاطبه الحق بارتفاع الوسائط مثل موسى عليه السلام ومن كلمه الله فإذا كان هذا وأمثاله من مقدمات التجلي الإلهي فكيف يكون حال الإنسان بعد حصول التجلي من الوقار ألا ترى إلى ما يحصل في قلوب الناس من هيبة الصالحين المنقطعين إلى الله الذين لم تجر العادة عند العامة برؤيتهم فإذا وقع نظرهم عليهم ظهر عليهم من الوقار والسكينة والخمود برؤيتهم مالا يقدر ألا الله وهو أجلال المتجلي يقول بعضهم
كانما الطير منهم فوق أرؤسهم ... لا خوف ظلم ولكن خوف أجلال
وقال آخر
أشتاقه فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة ... وصيانة لجماله
فهذا الإطراق هو عين الوقار وقال تعالى
" وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا "
وقال عليه السلام " فلا تأتوها وانتم تسعون " يعني الجمعة وائتوها وعليكم السكينة والوقار أي أمشوا مشي المثقلين وهذا لا يكون ألا إذا تجلى لهم في جلال الجمال
السؤال العاشر والمائة وما صفة مجالس الهيبة
الجواب لما كانت الهيبة تورث الوقار سأل عن صفة مجلسه أي ما صفته في قعوده بين يديه فمن صفته عدم الإلتفات واشتغال السر بالمشاهد وعصمة القلب من الخواطر والعقل من الأفكار والجوارح من الحركات وعدم التمييز بين الحس والقبيح وان تكون أذناه مصروفة إليه وعيناه مطرقتين إلى الأرض وعين بصيرته غير مطموسة وجمع الهم وتضاؤله في نفسه واجتماع أعضائه اجتماعا يسمع له أزيز وان لا يتأوه مع جمود العين عن الحركة وان لا تعطيه المباسطة الأدلال فان جالسه بتقييد جهة كما كلمه بتقييد جهة من حضرة مثالية كجانب الطور الأيمن في البقعة المباركة من الشجر فليكن سمعه بحيث قيده فان أطلق سمعه لأجل حقيقة أخرى تعطيه عدم التقييد وهو تعالى قد قيد نفسه به في جانب خاص فقد أساء الأدب وليس هو في مجلس هيبة ولا يكون صاحب مجلس الهيبة صاحب فناء لكنه صاحب حضوراً واستحضار لا يرجح ولا يجرح ولا يرفع ميزاناً ولا يسمى إنسانا فان الإنسان مجموع أضداد ومختلفات
الفتوحات المكية – سيدي محيي الدين بن عربي