اللسان المصري كصاحبة دائما في تطور .. ولا يعني التطور هنا بمعنى التقدم ..
ولكنه تطور بحسب يومه وإرادة حاكمه وتلقائية ثقافته اليومية ..
فإذا أردت عدم المواجهة .. أو الدخول إلى المواضيع من الطرق الجانبية وليس من الطريق الرئيسي .. أو تمييع رايك بحيث يقبل الإحتمالين .. أو دعم رأيك بما لا يدع مجالاً للشك .. فليس أمامك سوى استخدام ألفاظ الدعم والإستعانة ..
وألفاظ الإستعانة عند المصريين كثيرة جدا لا حصر لها مثل ( كده ـ يعني ـ مثلا ـ برضه ـ مش فاهم قصدي ـ خليني أشرحك ـ انت مش فاهميني ـ ضروري ـ أكيد ـ طبعاً ـ البتاع ـ بقى ـ حاجه زي كدا ـ يمكن ـ فاهم ولا لاء ـ جايز ـ قوم ايه ـ واخد بالك انت معايا ـ زي ما انت عارف ـ مش عارف ايه ـ على ما اعتقد ـ بيتهيألي ـ وكده ـ وبعدين يا سيدي ـ ولا مؤاخذه ـ أحب أقول ـ باين كدا معلش ـ فاهم إزاي ...... )
ورغما أني لم أقرأ رسالة الدكتوراه التي حصل عليها الدكتور يحي الرخاوي في عام 2002 بعنوان : " العلاقة بين ألفاظ الإستعانة وكلٍ من الثقافة والأساليب المعرفية " حتى أني لا أعرف إن كانت طبعت أم لا غير أن تقسيم الدكتور يحي الرخاوي للألفاظ التي يستخدمها المصريين إلى قسمين : ألفاظ تمييع ، وألفاظ دعم وكلامها من ألفاظ الإستعانة ... والتي قرأته بجريدة الشروق .. أغراني لكتابة هذه السطور ...
فكنت قد لاحظتها قبلا ... فضلا عن ملاحظتي للإستهلالة المقدسة عند معظم المسئولين المتحدثين إلى وسائل الإعلام فأكثرهم ما يستخدم كلمتي : ( في الحقيقة ، في الواقع ) ....
وربما تأخد ألفاظ الدعم والإستعانة مساحة أكبر من المفترض أخذها في الكلام غير أنها لا غنىً عنها عند كثير من المصريين ..
فمثلا إليك مثال لبرنامج القاهرة اليوم ومقدمه ربما الأقرب إلى النموذج المثالي للمصري الذي يستخدم ألفاظ الإستعانة :
يقول عمرو أديب للضيف : معلش لو سمحتلي أنا حابب إنك تكلمني شويه أنا والسادة المشاهدين معلش بس حابب أعرف وإن كان سؤالي ساذج شوية معلش السؤال : هي شركة أوبتما جلوبل فرع من شركة أوبتما مصر ولا لاء ... من فضلك لأن الناس حبه تعرف ...؟؟؟
ومختصر هذا الكلام : هل شركة أوبتما جلوبل فرع من شركة أوبتما مصر أم لا ؟؟؟
مثال آخر حديث لجهاد عودة عضو لجنة السياسات بالحزب الحاكم واستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان ...
يقول في أحد اللقاءات التلفزيونية مع أحد المعارضين ... وهو قول إفتراضي لا نقلا بالنص : " شوف ما حدش يقدر ينكر إن الديمقراطية مطلب حيوي للشعوب ولكن أي شعوب .. لحظه لحظه معلش خليني أكمل كلامي ( اتفضل ) ..
واخد بالك أنا أقصد بأي شعوب فاهمني قصدي الشعوب لابد تكون متهيأة للموضوع ده .. يعني مثلاً ها اضرب لكل مثل .. لو سمحت لو سمحت انا ما قطعتكش من فضلك ما تقاطعنيش ..
يعني الهند مثلا تعتبر من أكبر الدول الديمقراطية ف العالم لأن شعبها كان مهيأ للتعامل مع الديمقراطية بالشكل المناسب والسليم .. إحنا لسه .. لسه .. بس لاحظ لازم أقول حاجه مهمة إحنا بدأنا نحط رجلينا على الطريق بس المشوار طويل كدا يعني ...
هذا الإسترسال والإستخدام الوافر لألفاظ الإستعانة من قبل الدكتور جهاد .. يرجع في كثير من الأحيان لعدم ترتيب أفكار .. وتذكره دائما التعليمات بأنه يجب عليه إنتقاء ألفاظه بعناية .. وكذا لمحاولاته لإستدعاء الأفكار .. وكان ممكن أن يقول : " إن الديمقراطية تحتاج لتهيئة الشعوب ويمكن أخذ الهند مثال لذلك " ..
وأهم استخدام لألفاظ الإستعانة هو التخفيف من حدة الكلام .. فمثلاً بدلاً من قول : " انت غلطان " .. يقول : " معلش بس أنا بيتهيألي إنك غلطان شويه في الموضوع ده " ويمكن أن يضيف : " معلش أنا آسف إني بقولك كدا فعلا آسف يعني " ..
وبهذا يصل المعنى بأقل الصور حدة وصدامية ..
وأيضاً تستخدم هذه الألفاظ للإستدراج لقول الحقيقة أن يقول له مثلا : " خلينا نتكلم بصراحة " .. أو أن يقدم له الثناء أولا كأن يقول :
" أنا عارف إنك صريح واللي ف قلبك على لسانك " ويرد عليه الآخر : " خالص " ... " أنا ماليش مصلحة ف الكدب " .." عشان إيه .. مش مستاهله .. " ... حتى الآن ولم يتحدثا في الموضوع الأصلي .. فمازالت المناورات على أشدها بينهما ..
أيضاً تستخدم ألفاظ الإستعانة كتنغيم في الكلام أو استرسال لتكملة الحديث بدون أي معنى حقيقي ...
ورغم كل ما مضى فإن عبقرية المصري أمكنته من إستخدام ألفاظ الإستعانة في إختصار الجمل .. واستخدم عدة ألفاظ لهذا منها : " وكده " .. " وزي ما أنت فاهم " .. " ما انت عارف " .. فمثلا يقول : " الليلة ها نروح الخان أنا والشلة وكدا يعني .. " .. فالباقي عرف من وكدا يعني .. من شرب للقهوة ولعب للشطرنج لإعتيادهما ذلك كلما ذهبوا إلى الخان ..
كذلك تستخدم ألفاظ الإستعانة في شد إنتباه المتلقي للكلام وإيقاظه للمعنى مثل : قوم إيه ـ واخدلي بالك ـ معايا ـ فاهم قصدي .ـ واخد بالك انت معايا ـ صح ولا لاء ـ ولا إيه رايك ـ مش كده بالذمة ـ صليت بينا ع النبي ـ كدا ولا إيه ... " .
أما ألفاظ الدعم .. فهي ما تستخدم غالباً في تقوية كلام يحتاج إلى التقوية ومن أمثلتها : " أكيد الصنف دا مضروب ـ الواد دا شكله أكيد حرامي ـ انت لازم تكون متأكد إن كلمتي واحدة ـ أنا متأكد مليون ف المية إن السهم دا كسبان ـ أنا متأكد من الموضوع ده زي ما أنا شايفك قدامي ـ ما فيش فصال دي حاجه مفروغ منها ـ أساساً معروف طبعاً إن الواد دا نصاب ـ يستحيل ـ مطلقاً ـ لا يمكن أبدا ـ انت عارفني ممكن أعمل كدا ؟ ـ إزاي بقى ؟ ـ طب بالذمة دا ممكن يحصل .. ؟ " ...
ولألفاظ الإستعانة خاصية سحرية فهي تقدر المسافات المتابينة بين المخاطب والمتكلم وكذا الفروق الإجتماعية ... كالحديث بين الأب والإبن .. أو المدير والموظف أو البيه وسايس الجراج .. ونعطي أمثلة للتقريب ...
فمثلا إذا أراد الأب سؤال ابنه : انزل هات علبة سجاير وتعالى .. ( لاحظ المباشرية وألفاظ الإستعانة فيها قليلة ) ..
أما رد الإبن : معلش يا بابا إنت عارف إني بذاكر وأنا مزنوق شوية .. ( لاحظ كثرة ألفاظ الإستعانة ) وهي إختصار لـ : " أنا بذاكر ومزنوق " ..
مثلا البيه والسايس :
البيه : " انت نسيت تنضف المرايات يا فرج "
أما السايس : " باين عليك ولا مؤاخذه نسيت مفتاح العربيه فوق يا بيه " ..
مثال المدير والموظف :
المدير : إتأخرت ليه ؟
الموظف : من فضل معاليك أنا عندي رأي مختلف شوية لو سمحتلي ..وفي النهاية اللي تشوفه سعادتك ..
وهكذا فإن ألفاظ الإستعانة تعطي مساحات واسعة للتأدب في الحديث والتقليل من خطورته أحيانا ...
وتبقى مهارة مستخدم ألفاظ الإستعانة رهينة بمدى ثقافته ولباقته للخروج بأقل الخسائر في الحديث والكلام .. وتبقى المقامات محفوظة ...
الرئيسية 
