قدرى جاد Admin
عدد الرسائل : 7397 العمر : 66 تاريخ التسجيل : 14/09/2007
| موضوع: الصوفية بين السلوك والمبدأ والكتابة الأدبية بلغتها_حسين علاوي_جريدة الصباح الكويتية السبت مارس 28, 2009 3:07 pm | |
| الصوفية بين السلوك والمبدأ والكتابة الأدبية بلغتها حسين علاوي: إن الفكر والسلوك التصوفي كان يعاني الكثير من الإنكار، بل والاضطهاد في عصور شتى.. بحكم إن الصوفيين لهم طريقتهم الخاصة في الطرح والسلوك والتقييم.. وان لهم مبدأ، أو عقيدة، أو ما يشبه أن يكون عقيدة، يملك المرء أن يميزها من بقية المعتقدات، حتى الدينية منها.. وللصوفية غريزة الولع بالمجهول، أو غريزة الحنين إلى النائيات والأعالي.. وهذه الغريزة هي التي اكتشفت القارات البعيدة.. واكتشفت الكواكب.. وليس من قبيل المبالغة أن يقال بأن التصوف ثورة بالفعل.. انه ثورة الأعماق على السطوح، أو ثورة ما هو اصلي في الإنسان على الابتذال والتلون وسخف الواقع المادي البشع.. وافتقاره إلى ما ينعش ويؤصل.. فالصوفية هي رد الفعل الذاتي، أو الوجداني، على مدن إصابتها التخمة فما عادت تصلح لاستضافة الروح، لأنها منخورة بالفساد الاجتماعي، فليس من الصدفة أن يتشرد رجال التصوف في البراري.. وان يعتكفوا في بيوتهم أو في زواياهم، متوارين عن الناس، محجمين عن الالتقاء بهم.. ففي المدن الكبرى يتكالب الناس على الثروات تكالبا ينتقص من إنسانيتهم، فضلا عن انه يحيلهم جميعا إلى عبيد.. وان هناك شبها كبيرا بين الصوفية والرومانسية، إذ كلتاهما تمجد الوجدان على حساب العقل، وتمجد الطبيعة على حساب المجتمع.. وللصوفية لغتهم التي هي عصارة روح.. فالنسق في اللغة الصوفية قد يشابه نسق اللغة الفقهية أو اللغة الكلامية.. إلا انه يفترق عن اللغة الأدبية.. كما تفترق هذه اللغات جميعا عن اللغة الفلسفية. فلا يكاد المتصوف يقطع مسافة في منازل السائرين حتى تتعشق روحه العزلة، وتتجافى عن المخالطة، ويعيش رحلته الوجدانية الحاصلة في عمق وحدته، وهذه الوحدة أو العزلة لها مردودان الأول أنها تمكن الصوفي من اكتشاف طريقه الخاص، ومن عيش تجربته الفردية.. والمردود الثاني للعزلة هو تفرد الصوفي في لغته الخاصة الناتجة عن تجربته المخصوصة..لذلك قلما نجد صوفيا يرث تجربة أو لغة صوفي أخر، بل الكل يعبر عن حاله الخاص وعن تجربته الخاصة، ولم يطالعنا في التاريخ الطويل للتصوف، إلا وريثان فقط للغة ولتجربة، هما: الغزالي وابن عربي.. والأول ورث لغة المعاملة، إي أعمال القلوب.. والثاني وريث لغة المكاشفة.. وقد اختلف الناس حول محيي الدين بن عربي.. وما أحرى أن يختلف الناس حول مثل هذا الصوفي البارز الذي كان يطرق تخوما غير مسبوقة.. ويجتهد في أن يعبر فيافي ومفازات شبه مجهولة.. على طريق الوصول إلى المعرفة كما ينشدها وكما تهيأت له عقليته.. وتهيأ له وجدانه.. ولا شك إن الصوفية ومنهم ابن عربي يستطيعون أن يهيمون في مسالك الوجود وإذ يشغفون حبا بالله تعالى إذ يغوصون في بحار معرفة الوجود.. فليس من قبيل الصدفة أن يكون أول كتاب صوفي كتابا أخلاقيا وروحيا وذات لغة خاصة.. وهو كتاب (الرعايا لحقوق الله) الذي ألفه الحارث بن أسد المحاسبي، أستاذ الجنيد.. وقد سمي بالمحاسبي لأنه اعتاد على محاسبة نفسه.. ودعا الناس إلى هذه المحاسبة.. أما لغة التعري وخطابه فانه يختلف كثيرا عن الموروث الصوفي العام وهو حوار بين طرفين، اولهما مطلق وثانيهما محدود.. فهو يكتب ما يشبه أن يكون ملحمة، أو مسرحية، تجري في داخل الوجدان وحده، فالنفري يأنف من العالم الخارجي، بل هو يمقت كل ما ينزع إلى التجسيد... وبفضل هذه المهمة الجليلة جاء الأسلوب مهيبا وقورا بأهله روح أرستقراطي رفيع.. والنفري فريد من نوعه، لا يشبه أحدا، ولا يشبهه احد من الكتاب الصوفيين الذين سبقوه أو عاصروه.. فلغته خاصة به وحده.. وحتى ثقافته لا تشبه ثقافة أخرى.. إلا أن تكون من ثقافات منتهية أو مكتومة.. وان أسلوبه النادر هو نتائج لخبرة حدسية وعملية باللغة العربية.. رغم تشكي النفري من قصور اللغة.. ومن عجزها عن أن تقول.. (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة).. (وقال لي: لاتقف في رؤيتي حتى تخرج من الحرف والمحروف).. وقال: (لن تعرف من تسمع منه حتى يتعرف اليك بلا نطق).. إن الرؤيا خروج من اللغة وما تؤشر إليه.. والى ما لا يقال.. وإذا ما قيل لم يعد هو هو.. هل يستطيع الأديب أن يخرج عن مفردات قاموسه الخاص به...؟ وإذا استطاع أن يكتب بلغة الصوفية، هل يستطيع أن يهجر عالمه الخاص؟.. ويقطع العلائق عن متع الحياة..؟ وكيف يصرف الهواجس التي تدعوه إلى المسرة على ترك اللذات..؟ وهل يعيش بعد حياته الصاخبة في فراغ وعزلة..؟ وكيف يستأصل هموم الدنيا وشواغلها..؟ لا شك أن اتخاذ مبدأ والكتابة عنه غير توظيف لغته.. وهذا ما جعل الكثير من الأدباء وخاصة الشعراء من توظيف اللغة الصوفية، وتقمص شخصياتها .. ومن هؤلاء ادونيس وصلاح عبدالصبور والبياتي ويوسف القعيد وعادل عبدالله وحميد المختار.. وادونيس تأثر بالتوحيدي صاحب الإشارات الإلهية.. وخاصة رسالة (يا) التي تتحدث عن الغربة والغريب.. وعبدالصبور كتب مسرحية وظف الكثير فيها عن الحلاج.. ويوسف القعيد اخذ الكثير من تراث الصوفية فلا تجد قصة من قصصه القصيرة تخلو من لغتهم.. وعبدالوهاب البياتي وظف الصوفية للثورية في دواوينه الأولى.. أما الأخير فالنفس الصوفي طاغ في أكثر قصائده.. بل هناك عبارات كاملة نقلها عن الجنيد ومنها: ( (وجهك في المرآة وجهان.. لا تكذب فان الله يراك في المرآة)، وقد سألته عندما زارنا في المكتبة الأدبية.. عن نقل هذه العبارة كاملة من الجنيد.. قال كنت معجبا جدا بها.. أما الشاعر عادل عبدالله، فله أكثر من قصيدة وخاصة في ديوانه (بمناسبة وجودي حياً)، مكتوبة بالنفس الصوفي الفلسفي.. إلا انه اسقط عليها الكثير من الأحداث المعاصرة.. ومن هذه القصائد: النفري، محي الدين بن عربي، مقام، رؤيا.. نتأمل هذا المقطع من قصيدة النفري: (لا تكن في مرية مما رأيت.. ولا تطع اسما دعاك.. فأن أطعت تكسرت مرآة نفسك في يديك)، فهو يتمسك بمبدأ أخلاقي لا يتنازل عنه.. ونقرأ في قصيدة محيي الدين هذه الأبيات التي تشبه الدعاء.. (لبيك ربي ما ظننت به عليها كرة معصية كما ظنت بظني.. بل خوف أن تردى النفوس فلا يغاث مقرب إن صاح بالا فى أغثني..)، ورغم أن حميد المختار عرف قاصا مبدعا منذ السبعينيات.. إلا أن قصيدته، (أيها الملاك هذه ترانيم أرواحنا) المنشورة في صحيفة”الصباح “العدد (433) كشفت عن شعرية باذخة وذات نفس ولغة صوفية خالصة.. وقد كتبها في جمل قصيرة ومجزأة، تكاد تكون متساوية في الطول.. إلا أن كل واحدة منها تحمل معنى خاصا بها.. يقول في الترنيمة الأولى: (واسفاه الظلمة طردتني عنك.. وفي جوارك ضيائي.. )، وفي السادسة يقول: (ما فقدت الرؤية إذا امتنعت.. ولكنني أصبحت على حافة لا يجدي معها الاحتراق..) وفي الرابع عشرة يقول: (اللهم امدد لي حبال التدلي.. فقلبي محاصر بأقواس لا حدود لها.. لا شك أن الكثير من الأدباء الذين تأثروا بالصوفية ولغتها لم يعيشوا أجواء الصوفية وخلواتها.. إلا أنهم عاشوا مع روح اللغة.. فلا مراء في أن اللغة هي الحقيقة الروحية المطلقة إذ لا روح بغير لغة.. ولا لغة بغير روح..
| |
|