الأمير عبد القادر الجزائري والفتوة
عبد الباقي مفتاح
اخترت مداخلة بعنوان : " الأمير عبد القادر الجزائري فَتىَ : أنا هو أنت." للأسباب التالية، أولاً :
إشارة إلى مقام الفتوة الذي يتمحور حول فناء الأنانية الشخصيّة بالبقاء في " خدمة الآخرين " وهو ما يتحقق به في سلوكهم رجال التربية الروحية،
للشيخ محي الدين بن العربي ( 560 - 638 هـ)،
أستاذ الأمير عبد القادر (1222 - 1300 هـ)،
يعرف الفتوّة فيقول :
"الفتوة على الحقيقة إظهار الآلاء والمنن وستر المنّة والامتنان
كما قال تعالى- : لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى الآية 264 البقرة - "(1).
ثانيا :
في العنوان إشارة إلى مقولة صوفية تلخص كيفية الصلة بين الأفراد في المستويات الثلاثة للدّين التي بينها الحديث النبوي المشهور أي الإسلام والإيمان والإحسان,
وهي قولهم : " عموم الشريعة: أنا أنا وأنت أنت،
وطريقتها : أنا أنت وأنت أنا,
وحقيقتها : لا أنا ولا أنت بل هو ".
أي أن ظاهر الشريعة يتعلق بالنفـس وبالحـسّ في دائرة :
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ الآية 38 المدثر- وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى الآية 164 الأنعام - ]
وأما طريقة الشريعة فهي تتعلق بالقلب,
وحين تصقل مرآته تتجلى فيه حقيقة : " أنا أنت وأنت أنا "
كما قال النبي : المومن مرآة أخيه .
لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه
ليست أخوة الدين فقط بل أخوة الإنسانية أيضا.
وأما حقيقة الشريعة فلها الروح, والروح من أمر الله, وأمره واحد :
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ الآية 50 القمر.
فلا أنا ولا أنت بل هو: تحققا بقوله تعالى
: "َأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ الآية 115 البقرة .
ثالثا : اخترت الحديث حول الأمير عبد القادر لأنّه في تقدير جُلّ من عاشروه نموذج كامل لفتوة : " أنا هو أنت" في الميدانين العرفاني والعملي.
ومن الصعب استقصاء مآثر الأمير فيهما, إذ أن مكارم أخلاق الفتوة تلمع فياضة من كل ثنايا سيرته الفريدة, وسأكتفي منها بلمحات :
أولا : في المجال العرفاني السامي لا نجد أحسن شاهد عن تحقق الأمير وتخلقه بحقيقة وأخلاق " أنا هو أنت" من كتابه المواقف الرائع الجريء جراءة فروسية شهامته الهاشمية, ففي العديد من فصوله عبر بكل وضوح كيف ينبغي أن تكون وشائج المعاملة الصحيحة بين (أنا) و(الآخر).
وموقفه في هذا الموضوع يعتمد على حقائق عر فانية, لا على عواطف نفسية,
وأهمها أربعة قواعد :
القاعدة الأولى : هي أن المجتهد في الأصول العقائدية مأجور إن أصاب, ومعذور إن أخطأ إذا بذل كل وسعه في صدق الاجتهاد، في الموقف 121 المفتتح بما ورد في صحيح البخاري وغيره عن النبي : إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران،
وإذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد يقول الأمير عن هذا الحديث أنه : [ أعم في الحاكم المجتهد في الفروع الشرعية، أو الأصول العقلية الاعتقادية،
إذ لا فرق بينهما عند العارفين بالله - تعالى-، أهل الكشف والوجود،
فإن كل واحد من المجتهدين في الفروع والأصول فعل ما كلف به، وبذل وسعه،
فوصل إلى ما أداه اجتهاده
: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا الآية - 7 الطلاق -
ولاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا الآية 286 البقرة.
وقد أنكر عامة أهل السنّة والمعتزلة، غير أهل الكشف،
القول بأن كل مجتهد في الأصول الاعتقادية مصيب، ونسبوه إلى الكفر، وقرره العارفون بالله، وهو الحق، وقالوا : المجتهد في العقليات، إذا وفىّ النظر حقّه وأخطأ فهو معذور، ويريدون المجتهد نفسه لا من قلّده].
وفي آخر الموقف 229 يؤكد هذه القاعدة الأساسية المزيلة لكل تعصّب ثم يقول : [ ووافق - أي في هذه المسألة - أهل الله حجة الإسلام الغزالي نظرا في كتابه " التفرقة بين الإيمان والكفر والزندقة"،
وإلا فهو من أكابر أهل الله، ووافقهم أبو الحسين العنبري والجاحظ من المعتزلة](2).
القاعدة الثانية - وهي من مستلزمات القاعدة الأولى السابقة - ضرورة حماية حرّية العقيدة، هذه الحرية التي هي من أهمّ أسس الإسلام كما هو واضح في غاية الجلاء في الكثير من آيات القرآن لقوله تعالى :
فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ الآية 29 الكهف -
وقوله : لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ الآية 256 من البقرة.
يقول الأمير في إحدى رسائله :
[ إنّ تطبيق التسامح يتمثل في عدم إكراه أي مؤمن بدين على ترك دينه. وكل الشرائع الإلهية، سواء الإسلام وغيره، متفقة في هذه المسألة](3).
القاعدة الثالثة - وهي مكملة للقاعدة الثانية - مرجعها لخطاب الله تعالى جميع الناس- لا المؤمن فقط- بقوله : َا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ الآية 12 الحجرات أي أنّ اختلاف الأمم في نحلهم ومللهم ومعاشاتهم ينبغي أن يكون حافزا لتلا قح المعارف وتكامل المصالح لا للتنازع. ولهذا فالحرب - في نظر الأمير ِوهو المجاهد المغوار- لا تكون مشروعة إلا في حالة الدفاع عن النفس وفي أضيق الحدود ولا يكون هدفها إلاّ استتباب وهيمنة السلام.
وأطنب الأمير في العديد من مواقفه - كالموقفين 69 و71 مثلا - في بيان أنّ الجهاد الأكبر هو جهاد هوى النفس الأمارة بالسوء بتحليتها بالفضائل النافعة الرحيمة بجميع الخلق لقول النبي (ص) : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
فلنستمع إليه وهو يشرح في الموقف 73 قوله :رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر أخرجه البيهقي- : [ إنّه - سمّى جهاد الكفار أصغر،لكون جهاد الكفار وقتلهم ليس مقصودا للشارع بالذات. إذ ليس المقصود من الجهاد إهلاك مخلوقات الله وإعدامهم وهدم بنيان الرب - تعالى- وتخريب بلاده، فإنه ضد الحكمة الإلهية. فإن الحق - تعالى- ما خلق شيئا في السماوات والأرض وفي ما بينهما عبثا.
وما خلق الجن ولإنس إلاّ لعبادته، وهم عابدون له، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله. وإنما مقصود الشارع دفع شر الكفار وقطع أذاهم عن المسلمين،
لأن شوكة الكفار إذا قويت أضرت بالمسلمين في دينهم ودنياهم،
كما قال تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً - الآية 40 الحج
- فلو فرض أنه لا يلحق المسلمين أذى من الكافرين، ما أبيح قتلهم، فضلا عن التقرب به إلى الله تعالى-. بخلاف جهاد النفس وتزكيتها، فإنّه مقصود لذاته،
إذ في جهادها تزكيتها وفي تزكيتها فلاحها ومعرفة ربها. والمعرفة هي المقصودة بالحب الإلهي في الإيجاد(...)
ولا ريب أن المقصود لذاته أكبر من المقصود لغيره].
القاعدة الرابعة وهي المتوجة للقواعد الثلاثة السابقة هي مشاهدة الحق تعالى في كل اعتقاد، وهو ما عبر عنه في الموقف 246 الذي افتتحه بقوله تعالى
: َقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ- الآية 46 العنكبوت -
فيقول ما خلاصته : [ فإلهنا وإله كل طائفة من الطوائف المخالفة لنا واحد وحدة حقيقية (...) وإن تباينت تجلياته ما بين إطلاق وتقييد وتنزيه وتشبيه.
وتنوعت ظهورا ته، فظهر للمحمديين مطلقا عن كل صورة في حال ظهوره في كل صورة من غير حلول ولا اتحاد ولا امتزاج،
وظهر للنصارى مقيدا بالمسيح والرهبان، ولليهود في عزير والأحبار،
وللمجوس في النار، وللثنوية في النور والظلمة، وظهر لكل عابد شيء من ذلك الشيء من حجر وشجر وحيوان ونحو ذلك، فما عبد العابدون الصور المقيدة لذاتها،
ولكن عبدوا ما تجلى لهم في تلك الصورة من صفات الإله الحق - تعالى-
فالمقصود بالعبادة واحد من جميع العابدين،
إلاّ أنّ تجليه يتنوع بحسب استعداد المُتَجَلىَّ لهُ،
والمتجلي تعالى واحد في كل تنوع وظهور ما تغير من الأزل إلى الأبد.
فاتفقت جميع الفرق في المعنى المقصود بالعبادة،
فالكل مسلمون للإله الواحد فليس في العالم جاحد للإله مطلقا من طبائعي ودهري وغيرهما، وإن فهمت عباراته غير هذا فإنما ذلك لسوء التعبير.
فالكفر في العالم كله إذن نسبي] (4).
وفي أبيات من قصيدة في مقدمة المواقف يعبر الأمير عن هذا المفهوم النابع من قوله تعالى : وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ 49 النحل - فيقول :