« لما كان التصوف شبيهاً بالنسمة التي تحيي الجسد ، فقد بث روحه في كيان الإسلام برمته – في مظاهره الاجتماعية ومناحيه الفكرية على السواء – ولما كانت ( الطرق الصوفية ) جماعات جيدة التنظيم في جسم المجتمع الإسلامي الأكبر ، فقد خلفت آثاراً ذات طبيعة ثابتة وعميقة في كيان المجتمع بأسره ، مع أن غرضها الأول هو الحفاظ على النشاطات الروحية ، وتسهيل انتقالها من جيل إلى جيل .
يضاف إلى ذلك أن هناك منظمات فرعية تدريبية التحقت بالصوفية في غضون التاريخ الإسلامي ، ابتداء من منظمات الفرسان التي كانت تحرس حدود الديار الإسلامية ... حتى أعضاء النقابات وأرباب الحرف المختلفة اللاحقين ( بالفتوات ) ...
كذلك كان دور التصوف عميقاً في حقل التربية ، ذلك لأن مهمة التصوف الأساسية إنما هي تهذيب الشخصية البشرية من جميع جوانبها ، حتى تبلغ الغاية من تحقيق إمكاناتها واستكمال كفاءاتها .
إن الإسهام المباشر الذي تم على يد العديدين من رجالات التصوف ... في إنشاء المدارس ودور ( الزوايا ) الصوفية في تنظيم التعليم ، لا يسمحان بعزل التأثير الصوفي عن تطور شؤون التربية في الإسلام . ومثل ذلك ما جرى في بعض العهود ، كالحقبة التي تلت الغزو المغولي ، إذ تعطل جهاز التعليم الرسمي في بعض الأقطار ، فبقيت الزوايا الصوفية المراكز الوحيدة حتى للتحصيل الرسمي والأكاديمي ، وغدت المنشأ الذي عادت المدارس التقليدية فانطلقت منه ثانية .
ثم أن تأثير التصوف في حقل الفنون والعلوم كان عظيماً أيضاً ... فالصوفيون يعيشون حتى في هذا العالم فيما يجوز أن يسمى ( باحة الفردوس الأمامية ) فهم من ثم يحيون في مناخ من السناء الروحي ، يتجلى جماله في كل ما يقولون ويفعلون ويعملون .
والإسلام يتصل اتصالاً وثيقاً بالظاهرة الإلهية على اعتبار أنها ( الجمال ) وهذه الظاهرة تبرز على الأخص في المذهب الصوفي الذي هو نابع بطبيعة الحال من الإسلام ، ويضم من ثم ما هو جوهري فيه .
أما ما يتميز به الأدب الصوفي ، شعراً كان أم نثراً ، من قيمة أدبية رفيعة ، وجمال فني رائع ، فلم يكن يوماً وليد المصادفة ... ويلاحظ ما يقرب من هذا الوضع في حقول أخرى منها الموسيقى والفن المعماري وكتابة الخطوط ونحت المنمنمات ، الخ .
ولقد كان لكثير من الفنانين المعماريين البارزين اتصال بالصوفية عن طريق نقابات البنائين والمعماريين ، وقد اتصل كثيرون من كبار الخطاطين والنحاتين بجماعات من الصوفيين ، وكان ذلك أحياناً بصورة مباشرة ، بمعنى أنهم التحقوا في حالات كثيرة ببعض الطرائق الصوفية ، وليس عن طريق نقابة ذات صلة بطريق من الطرائق الصوفية .
أما الموسيقى فالشرع الإسلامي يجيزها فقط في حلقات ( السماع ) أو الأناشيد الروحية التي تقام بمقضى النظام الصوفي ، وعليه فالتراث الموسيقي العربي والفارسي وكذلك التركي ، أكثر ما تهذب وترقى عبر القرون ، على يد من كانوا على اتصال بالصوفية ، أو لازموا الاجتماعات الصوفية ...
إن المتصوفين هم أهل المعرفة الرصينة والبصيرة النافذة أو ( الذوق ) ... فالصوفيون كانوا وما زالوا من رعاة الفنون ، وذلك ليس لأن هذه الرعاية هي أحد أهداف السلوك الصوفي ، بل لأن سلوك الطريق الصوفي يولد الشعور المتزايد بالجمال الإلهي الذي يتجلى في كل مكان ، والذي على ضوئه يصنع الصوفي أشياء ذات جمال يوافق جمال طبيعته الخاصة ، وينسجم في الوقت نفسه مع أصول الفن التقليدية التي تمثل بدورها جمال ( الفنان الأسمى