النور المحمدي وأولوية الخلق
اختلف العلماء في أولية الخلق فقال بن الحجر الهيتمي والنبهاني وابن عربي وعبد الغني النابلسي والشيخ عبد العزيز الدباغ والإمام محمد الكتاني في شرح نظم المتناثر من الحديث المتواتر وكثيرون غيرهم بأن أول ما خلق الله هو نور سيدنا محمداً . وقال آخرون منهم الإمام السيوطي والغماري والهروي وغيرهم كثيرون أيضاً بأن حديث جابر لم يرق إلى درجة الحديث الصحيح فلا يؤخذ به. وقد ضعفه الحافظ العراقي حيث قال في تخريج الإحياء (رواه –حديث جابر_ الطبراني في الأوسط من حديث أبي أمامة، وأبو نعيم من حديث عائشة بإسنادين ضعيفين)، والأمر كما هو واضح محل خلاف عند العلماء منذ آكثر من ألف عام وحتى يومنا هذا. ولا يضر الإعتقاد بأي واحد من هذين الرأيين طالما أن العلماء قد اختلفوا في هذه المسألة وجميعهم من العلماء الثقات. لكنه لم يقع الخلاف في أن سيدنا رسول الله استحق النبوة قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام (كما وردت الأحاديث الصحية الكثيرة في ذلك) وكيف يستحق الحبيب شيئاً وهو غير موجود!. فالذي اختلفوا فيه هو خلق نوره قبل الأشياء جميعاً وهي الأولوية المطلقة ثم خلق الأشياء من هذه النور، وهو ما عبر عنه حديث جابر بوضوح. وهو ما نرجحه. وخلاصة الأمر هو أن الله قد خلق:
1.النور المحمدي (حقيقة حبيبنا ) أول شيء. كما جاء في حديث سيدنا جابر والذي صححه الكثير من العلماء والذي يسانده في معناه الكثير من الأحاديث, ثم خلق منه بعد ذلك الأشياء. أما بالنسبة للكيفية التي كان عليها وقتها فلا أحد يعلمها إلا الله لأننا نتكلم عن حقيقة النور المحمدي لا عن روحه أوجسده الشريفين.
2.ثم خلق الله سبحانه روح حبيبنا عندما قبل أن يستحق النبوة قبل أي نبي وحتى قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام.
3.ثم خلق الله جسده الشريف الطاهر في رحم أمه آمنة بنت وهب.
وهذا ليس بمستحيل عقلاً. وتصورنا لذلك معناه أن الله تعالى قد خلق نوراً معيناً ليكون الخامة الأولية التي خلق منها الأشياء جميعاً. كما هي الحال بالطينة الأولى التي خلق منها آدم وكانت الجبلة التي خلق منها جميع البشر َلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
فالطين هي الخامة الأولى لبني البشر . وكما هي الحال في خلق السماء من دخان ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فالدخان هو الخامة الأولى للسماوات. فهذا النور الذي هو الخامة الأولى لجميع الأشياء هو الذي سمي بالنور المحمدي وهو نفسه حقيقة الحبيب المصطفى . ونـحن هنا لا نتكلم عن ضوء أو جسد أو أي شيء مادي إنما نتكلم عن نور يكون خامة أولية لعملية الخلق الأشياء.
ويبدو أن هذا النور المحمدي هو السر الذي يكمن وراء تسبيح الأشياء والله أعلم وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . ولهذا كان رسول الله يسمع تسبيح الحصى والجبال والأشجار، بل بهذا الفهم نستطيع أن نفهم قصة الشجرة التي استأذنت ربها أن تسلم على رسول الله ! لأنها رأت ما يربطها به صلوات ربي وسلامه عليه (... فنام النبي ، فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ النبي ذكرت له، فقال: هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم على رسول الله ، فأذن لها دلائل النبوة للبيهقي. وقد حفلت كتب الحديث الكثير الكثير من قصص تعرف الجمادات على رسول الله بل وحزنها على فراقه أيضاً كقصة جذع الشجرة المشهورة. وهذا يعني أن النور المحمدي هو بمثابة الروح للجسد بالنسبة لجميع المخلوقات النورانية (لأن ما خلق من الظلمة كأرواح الكفار والمستقذرات وغيرها ليس فيه نور أصلاً).
جاء في كشف الخفاء، الإصدار للإمام العجلوني: حرف الهمزة مع الواو: الحديث رقم 827: أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر(الحديث) رواه عبد الرزاق بسنده، عن جابر بن عبد الله بلفظ قال: قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء.
قال: يا جابر، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول: حملة العرش، ومن الثاني: الكرسي، ومن الثالث: باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول: السماوات، ومن الثاني: الأرضين ، ومن الثالث: الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول: نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني: نور قلوبهم وهي المعرفة بالله، ومن الثالث: نور إنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله. وحديث جابر المذكور في مسند عبد الرزاق والذي ذكره الكثيرون من أهل العلم القدماء قد حذف من مسند عبد الرزاق في النسخ الموجود الآن في الأسواق. وبدأ بعض العلماء في عصرنا يشككون في وجوده أصلاً حتى كشف أحد علماء الأزهر منذ شهرين على إحدى القنوات الفضائية أنه حقق مخطوطة موجودة في (هولندا على ما أذكر) لمسند عبد الرزاق وقد وجد فيها هذا الحديث كما ذكره العلماء الأولون. وهذا يدل على أن الحديث نزع من النسخ الموجودة في عصرنا هذا لأسباب معينة!!.
وإذا ربطنا الفهم السابق حول النور المحمدي بحديث جابر : فسنصل إلى نتيجة مفادها أن درجة إيمان أي مؤمن ربما تعود إلى نصيبه من ذلك النور المحمدي. وهو سر السر الذي تكلم عنه العارفون بالله (والله أعلم). كما جاء في حزب الهمزة من أوراد الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية:
وبسرِّ سرِّ السرِّ من أخفـــــــــــيته
نلني اطلاعاً كاشفاً لعمائــــــــي
وبالتالي فإن درجة العلاقة بالحبيب ربما تعود إلى نصيبه من هذا النور المحمدي أيضاً. والله أعلم.
وفيما يلي بعض الأحاديث على سبيل المثال لا الحصر والتي تكلمت عن بداية خلق الحبيب :
1. وجاء في المواهب اللدنية بعدما أورد حديث جابر: واختلف هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدي أم لا؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني: الأصح أن العرش قبل القلم، لما ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال: قال رسول الله : قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء، فهذا صريح في أن التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم، فحديث عبادة بن الصامت مرفوعا أول ما خلق الله القلم، فقال له أكتب، فقال: رب وما أكتب؟
قال: أكتب مقادير كل شئ رواه أحمد الترمذي وصححه. وروى أحمد والترمذي وصححه أيضا من حديث أبي رزين العقيلي مرفوعا: إن الماء خلق قبل العرش. وروى السدي بأسانيد متعددة إن الله لم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء، فيجمع بينه وبين ما قبله بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا النور النبوي المحمدي والماء والعرش. وقيل الأولية في كل شئ بالإضافة إلى جنسه، أي أول ما خلق الله من الأنوار نوري وكذا باقيها، وفي أحكام ابن القطان فيما ذكره ابن مرزوق، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده أن النبي قال: كنت نورا بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام .
2.كما ذكر سليمان بن سبع السَّبْتي في كتابه «شفاء الصدور» هذا الحديث جابر السابق بدون إسناد بروايتين مختلفتين متقاربتين، هما من بين ما في المذاهب مع مخالفة في ترتيب المخلوقات وفي تعيينها.
3.الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ميسرة الفجر قال: قلت يا رسول الله متى كنت نبيا؟
قال: وآدم بين الروح والجسد. فأخبر أنه كان نبيا أي كتب نبيا وآدم بين الروح الجسد.
4.ويدل على هذا القول أيضاً: ما رواه الترمذي عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟
قال: وآدم بين الروح والجسد.
5.وقال :إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته. أي كتبت نبوتي وأظهرت لما خلق آدم قبل نفخ الروح فيه، كما يكتب الله رزق العبد وأجله وعمله وشقي أو سعيد، إذا خلق الجنين قبل نفخ الروح فيه .
6.الحديث رقم: 2007 - كنت أول النبيين في الخلق، وآخـرهم فـي البعـث . قال في المقاصد: رواه أبو نعيم في الدلائل وابن أبي حاتم في تفسيره ومن طريقة الديلمي عن أبي هريرة مرفوعا، وله شاهد من حديث ميسرة الفخر. أخرجه أحمد والبخاري في تاريخه والبغوي، وابن السكن، وأبو نعيم في الحلية وصححه الحاكم بلفظ: كنت نبيا وآدم بين الـروح والجسـد.
7.وفي الترمذي وغيره عن أبي هريرة، أنه قال للنبي : متى كنت أو كتبت نبيا؟
قال: كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد. وقال الترمذي حسن صحيح، وصححه الحاكم أيضا. وفي لفظ وآدم منجدل في طينته. وفي صحيحي ابن حبان والحاكم عن العرباض بن سارية مرفوعا إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وكذا أخرجه أحمد الدارمي وأبو نعيم، ورواه الطبراني عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله متى كنت نبيا؟
قال:وآدم بين الروح والجسد. وعن الشعبي، قال رجل: يا رسول الله متى استنبئت؟
قال: وآدم بين الروح والجسد حين أخذ مني الميثاق. وقال التقي السبكي: فإن قلت: النبوة وصف لا بد أن يكون الموصوف به موجودا، وإنما يكون بعد أربعين سنة، فكيف يوصف به قبل وجوده وقبل إرساله؟ قلت: جاء أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد. فقد تكون الإشارة بقوله: كنت نبيا، إلى روحه الشريفة أو حقيقته والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها وإنما يعرفها خالفها ومن أمده بنور إلهي، ونقل العلقمي عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، مرفوعا أنه قال: كنت نورا بين يدي ربي عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام.
على كل حال يبقى الموضوع غير قابل للحسم بين الفريقين من العلماء ولا ضير في أن يعتقد المرء أحد القولين والله أعلم.