رسالة الوقت
الشيخ الأكبر محى الدين بن عربى
بسم الله الرحمن الرحيم
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل
الحمد لله ولي الحمد ومستحقه ، وصلى الله على سيدنا محمد صفوته من خلقه وآله وصحبه وسلم
اعلم أيها الأخ الموفق السعيد ، بعناية الله الحميد المجيد ، أن مدار طريق أهل الله ، وهم السادة الصوفية الموصل إلى الله تعالى ، على حفظ الوقت ، والقيام بحكمه ومرسومه ، وهذا الوقت الذي وقع عليه اصطلاح الصوفية ، من الأمور الدقيقة الغامضة التي لا يتنبه لها ، إلا المؤيد بنور البصيرة القدسية ، والمنصور بعناية الحضرة العلية ، والحقيقة الإلهية
والمراد به وقت المريد السالك الرامي إشارته إلى الحق ، عن قوس صدق العزيمة السائرة على ضوء مصباح اليقظة ، أو على ضوء مصباح الكشف الصادق ، ولا يزال هذا الوقت مشهداً في باب السلوك ، مصباحاً للسالك ، حتى يفنى رسم السالك في وجود الحق ، ثم يحققه بفني رسم الوقت بالحق
ومن هنا قال المتقدمون من علماء الحق
إن الوقت هو الحق لاستغراق رسمه في الحق ، وقد كشف لنا الحق في الوقت أمراً جليلاً إن الوقت واحد المشهد ، لكنه يختلف باختلاف المقامات ، والمقصود ها هنا ذكر وقت المريد الصادق فهو برزخ بين الجلال والجمال ، وهو باطنه وباعثه إلى نعت الجمال ، وإلى نعت الجلال على السواء
وذلك أن وقت المريد هو آن من الفرد الأحد ، الذي هو أجّل أن يُعبّر بوقت ، لنزاهته عن الوقت ، وسابقيته على الفناء والبقاء في شأن الخلق الجديد ، المشار بقوله
بل هم في لبسٍ من خلقٍ جديد
فالمريد الصادق محتجب في الوقت من أجل المؤقِت ، بالقيام بحق العبودية للحق على الحضور ، وهو في عين ذلك الوقت ملاحظ لنعت الجمال واللطف ، ولنعت الجلال والقهر على السواء
فأما كونه ملاحظاً لنعت الجمال واللطف ، فهو من كونه مخصصاً في عين ذلك الزمن الفرد بالوجود ، الذي اقتضى الحق منه القيام بالعبودية فيه ، التي أوجده لها ، ويشهد ذلك من لطف الحق به ، ومراعاته إياه ، وحسن توجهه إليه ، في عين ذلك الزمن الفرد
وأما ملاحظته لنعت الجلال في عين ذلك الوقت الدقيق ، فهو من حيث ملاحظته بسلب وجوده ، العائد لله في عين ذلك الوقت بالعبودية ، فإن وجود الكائنات كلها ، إنما هو ثوب معار عليها بتخصيص من الحق ، ينزعه مالكه إذا شاء بأسرع وقت
فلهذا قلنا لك إن وقت المريد الصادق برزخ بين الجلال و الجمال، فهو لا يشهد في الزمن الفرد العالم فيه لله بالعبودية ، إلا مسألة الجواز بين وجوده وعدمه في عين ذلك الوقت
وإلى ذلك الإشارة بقولهم
الصوفي ابن وقته ، فهو وإن كان مخصصاً في عين ذلك الوقت بالوجود العالم بالعبودية ، فهو لا يحكم على الحق باستمداد الوجود إلى ما فوق ذلك الوقت ، الذي هو فيه بالوجود ، وإن شاء سلب عنه الوجود في عين ذلك الوقت الدقيق ، بعبودية مودّع على حسب ما يعطيه تحققه في مقام الإشارة قال عليه السلام
إذا صليت ، صل صلاة مودع ، وهو الذي لا يرى له وجوداً أبداً على عين وقته الدقيق ، الذي هو فيه بالتحقيق
فإذا كانت عبودية مودّع في مقام الإحسان ، الذي أشار إليه بقوله عليه السلام
أعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك وهو مقام المراقبة والحضور ، بالمحبة والأدب ، حصل الأرب ، ونجح القصد ، وانطوى رسم الوقت في عين الحق ، وهذا هو الصوفي ، الذي هو ابن وقته
وقد ورد في الحديث الشريف حين سُئل من أسعد الناس يا رسول الله ؟ قال
أسعد الناس من لم ينس القبر والبلى ، وعد نفسه من الموتى ، ولم يحسب من أيامه غداً ، وهو عين ما ذكرناه ؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم ولم يحسب من أيامه غداً ؛ بقيت أوقاته الدقيقة الفردية ، التي له عند الحضور في الحقيقة ، فإن من عدّ نفسه في عين كل وقت دقيق من الموتى ، فهو ملاحظ عدمه في الزمن الفرد ، ملحوظ من باب نعت الجلال ، وإنما ذكر صلى الله عليه وسلم الأيام ، لكونه مشرِّعاً متكلماً عن العامة ، فالكلام الجامع الذي يعطيهم مشربه من حيث عمومه ، ويعطي ذا الحاجة مشربه من حيث خصوصه
وهذا مطّرد في كلام الله، وفي كلام رسوله ؛ فإن الحاجة لا تقع عندهم إلا أيام الرب ، التي هي الشهور الإلهية في متعلقاتها ؛ لكونهم طالعوا سر الإلوهية في المخلوقات ، وفرض فعل القدرة وانفعالها في الزمن الفرد ، فلم يقع عندهم من العبارة المحمدية والأمر المطابق للمعنى الإلهي
وأما العامة ، فأخذوا اللفظ من عمومه ، وساغ لهم مشربه من هذه الحيثية ، لتوسع الرحمة المنزلة إليهم ، المشار إليها بقوله تعالى
وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين
فاعلم أيها الأخ الموفق السعيد ، واحفظ الوقت المشار إليه في قوله تعالى بل هم في لبسٍ من خلقٍ جديد ، فإن السر كله في حفظ الوقت ، والقيام بحكمه ومرسومه ، فافهم هذه السدنة السر الصغيرة ، فإنها جليلة القدر ، والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل ، والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه بعده ، وعلى أتباعه وجنده وسلم