الباب التاسع في معرفة وجود الأرواح المارجية النارية. كتاب الفتوحات المكية في معرفة أسرار المالكية والملكية المجلد الأول
الشيخ الأكبر محيي الدين أبو عبد الله محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي قدس الله روحه
(الباب التاسع في معرفة وجود الأرواح المارجية النارية)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
مرج النار والنبات فقامت ..... صورة الجن برزخا بين شيئينبين روح مجسم ذي مكان ..... في حضيض وبين روح بلا أينفالذي قابل التجسم منها ..... طلب القوت للتغذي بلا مينوالذي قابل الملائك منها ..... قبل القلب بالتشكل في العينولهذا يطيع وقتا ويعصي ..... ويجازى مخالفوهم بنارين[خلق الجان والملائكة والإنسان]قال الله تعالى وخَلَقَ الْجَانَّ من مارِجٍ من نارٍ وورد في الحديث الصحيح أن الله خلق الملائكة من نور وخلق الله الجان من نار وخلق الإنسان مما قيل لكم.فأما قوله عليه السلام في خلق الإنسان مما قيل لكم ولم يقل مثل ما قال في خلق الملائكة والجان طلبا للاختصار .فإنه أوتي جوامع الكلم وهذا منها فإن الملائكة لم يختلف أصل خلقها ولا الجان .وأما الإنسان اختلف خلقه على أربعة أنواع من الخلق فخلق آدم لا يشبه خلق حواء لا يشبه خلق سائر بنى آدم وخلق عيسى عليه السلام لا يشبه خلق من ذكرنا.فقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاختصار وأحال على ما وصل إلينا من تفصيل خلق الإنسانفآدم من طين وحواء من ضلع وعيسى من نفخ روح وبنو آدم من ماءٍ مَهِينٍ[الالتحام المعنوي بين السماء والأرض]ولما أنشأ الله الأركان الأربعة وعلا الدخان إلى مقعر فلك الكواكب الثابتة وفتق في ذلك الدخان سبع سماوات ميز بعضها عن بعض وأَوْحى في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها.بعد ما قدر في الأرض أقواتها وذلك كله في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ .ثم قال للسماوات والأرض ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي أجيبا إذا دعيتما لما يراد منكما مما أمنتما عليه أن تبرزاه.فـ قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ .فجعل سبحانه بين السماء والأرض التحاما معنويا وتوجها لما يريد سبحانه أن يوجده في هذه الأرض من المولدات من معدن ونبات وحيوان .وجعل الأرض كالأهل وجعل السماء كالبعل .والسماء تلقي إلى الأرض من الأمر الذي أوحى الله فيها كما يلقي الرجل الماء بالجماع في المرأة .وتبرز الأرض عند الإلقاء ما خبأه الحق فيها من التكوينات على طبقاتها[العناصر الأربعة وتكوين الجان والإنسان]فكان من ذلك أن الهواء لما اشتعل وحمي اتقد مثل السراج وهو اشتعال النار ذلك اللهب الذي هو احتراق الهواء وهو المارج .وإنما سمي ما رجا لأنه نار مختلط بهواء وهو الهواء المشتعل .فإن المرج الاختلاط ومنه سمي المرج مرجا لاختلاط النبات فيه فهو من عنصرين هواء ونار .أعني الجان كما كان آدم من عنصرين ماء وتراب عجن به فحدث له اسم الطين .كما حدث لامتزاج النار بالهواء اسم المارج .ففتح سبحانه في ذلك المارج صورة الجان فبما فيه من الهواء يتشكل في أي صورة شاء .وبما فيه من النار سخف وعظم لطفه وكان فيه طلب القهر والاستكبار والعزة فإن النار أرفع الأركان مكانا .وله سلطان على إحالة الأشياء التي تقتضيها الطبيعة وهو السبب الموجب لكونه استكبر عن السجود لآدم عند ما أمره الله عز وجل .بتأويل أداه أن يقول أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ يعني بحكم الأصل الذي فضل الله به بين الأركان الأربعة .وما علم إن سلطان الماء الذي خلق منه آدم أقوى منه فإنه يذهبه . وإن التراب أثبت منه للبرد واليبس .فلآدم القوة والثبوت لغلبة الركنين اللذين أوجده الله منهما وإن كان فيه بقية الأركان ولكن ليس لها ذلك السلطان وهو الهواء والنار .كما في الجان من بقية الأركان ولذا سمي مارجا ولكن ليس لها في نشأته ذلك السلطان .وأعطى آدم التواضع للطينية بالطبع فإن تكبر فلأمر يعرض له يقبله بما فيه من النارية كما يقبل اختلاف الصور في خياله وفي أحواله من الهوائية .وأعطى الجان التكبر بالطبع للنارية فإن تواضع فلأمر يعرض له يقبله بما فيه من الترابية كما يقبل الثبات على الإغواء إن كان شيطاناوالثبات على الطاعات إن لم يكن شيطانا.[الجان عند تلاوة سورة الرحمن]وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا سورة الرحمن على أصحابه قال إني تلوتها على الجن فكانوا أحسن استماعا لها منكم .فكانوا يقولون ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب إذ قلت فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِثابتين عليه ما تزلزلوا عندما كان يقول لهم عليه السلام في تلاوته فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ . وذلك بما فيهم من الترابية وبما فيهم من المائية ذهبت بحمية النارية .فمنهم الطائع والعاصي مثلنا ولهم التشكل في الصور كالملائكة[الصورة الاصلية التي ينسب إليها الروحاني]وأخذ الله بأبصارنا عنهم فلا نراهم إلا إذا شاء الله أن يكشف لبعض عباده فيراهم .ولما كانوا من عالم السخافة واللطف قبلوا التشكيل فيما يريدونه من الصور الحسية .فالصورة الأصلية التي ينسب إليها الروحاني إنما هي أول صورة قبل عندما أوجده الله ثم تختلف عليه الصور بحسب ما يريد أن يدخل فيها .ولو كشف الله عن أبصارنا حتى نرى ما تصوره القوة المصورة التي وكلها الله بالتصوير في خيال المتخيل منا لرأيت مع الأناة الإنسان في صور مختلفة لا يشبه بعضها بعضا[التناسل في الجان والإنسان]ولما نفخ الروح في اللهب وهو كثير الاضطراب لسخافته وزاده النفخ اضطرابا وغلب الهواء عليه وعدم قراره على حالة واحدة ظهر عالم الجان على تلك الصورة .وكما وقع التناسل في البشر بإلقاء الماء في الرحم فكانت الذرية والتوالد في هذا الصنف البشري الآدمي .كذلك وقع التناسل في الجان بإلقاء الهواء في رحم الأنثى منهم فكانت الذرية والتوالد في صنف الجان .وكان وجودهم بالقوس وهو ناري هكذا ذكر الوارد حفظه الله.[ما بين خلق الجان والإنسان من السنين]فكان بين خلق الجان وخلق آدم ستون ألف سنة .وكان ينبغي على ما يزعم بعض الناس أن ينقطع التوالد من الجان بعد انقضاء أربعة آلاف سنة .وينقضي التوالد من البشر بعد انقضاء سبعة آلاف سنة .ولم يقع الأمر على ذلك بل الأمر راجع إلى ما يريده الله فالتوالد في الجن إلى اليوم باق وكذلك فينا .فتحقق بهذا كم لآدم من السنين وكم بقي إلى انقضاء الدنيا وفناء البشر عن ظهرها وانقلابهم إلى الدار الآخرة .وليس هذا بمذهب الراسخين في العلم وإنما قال به شرذمة لا يعتد بقولها[الجان برزخ بين الملك والإنسان]فالملائكة أرواح منفوخة في أنوار .والجان أرواح منفوخة في رياح .والأناسي أرواح منفوخة في أشباح .ويقال إنه لم يفصل عن الموجود الأول من الجان أنثى كما فصلت حواء من آدم .قال بعضهم إن الله خلق للموجود الأول من الجان فرجا في نفسه فنكح بعضه ببعضه فولد مثل ذرية آدم ذكرانا وإناثا ثم نكح بعضهم بعضا فكان خلقه خنثى .ولذلك هم الجان من عالم البرزخ لهم شبه بالبشر وشبه بالملائكة كالخنثى يشبه الذكر ويشبه الأنثى .وقد روينا فيما رويناه من الأخبار عن بعض أئمة الدين أنه رأى رجلا ومعه ولدان وكان خنثى الواحد من ظهره والآخر من بطنه .نكح فولد له ونكح فولد وسمي خنثى من الانخناث وهو الاسترخاء والرخاوة عدم القوة والشدة .فلم تقو فيه قوة الذكورية فيكون ذكرا ولم تقو فيه قوة الأنوثة فيكون أنثى فاسترخى عن هاتين القوتين فسمي خنثى والله أعلم[غذاء الجان ونكاحهم]ولما غلب على الجان عنصر الهواء والنار لذلك كان غذاؤهم ما يحمله الهواء مما في العظام من الدسم .فإن الله جاعل لهم فيها رزقا فإنا نشاهد جوهر العظم وما يحمله من اللحم لا ينتقص منه شيء فعلمنا قطعا إن الله جاعل لهم فيها رزقا .ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في العظام إنها زاد إخوانكم من الجن . وفي حديث إن الله جاعل لهم فيها رزقاوأخبرني بعض المكاشفين أنه رأى الجن يأتون إلى العظم فيشمونه كما تشم السباع ثم يرجعون وقد أخذوا رزقهم وغذاؤهم في ذلك الشم فسبحان اللطيف الخبير .وأما اجتماع بعضهم ببعض عند النكاح فالتواء مثل ما تبصر الدخان الخارج من الأتون أو من فرن الفخار يدخل بعضه في بعضه فيلتذ كل واحد من الشخصين بذلك التداخل ويكون ما يلقونه كلقاح النخلة بمجرد الرائحة كغذائهم سواء[قبائل الجان وعشائرهم]وهم قبائل وعشائر وقد ذكر أنهم محصورون في اثنتي عشرة قبيلة أصولا ثم يتفرعون إلى أفخاذ .وتقع بينهم حروب عظيمة وبعض الزوابع قد يكون عين حربهم .فإن الزوبعة تقابل ريحين تمنع كل واحدة صاحبتها أن تخترقها فيؤدي ذلك المنع إلى الدور المشهود في الغبرة في الحس التي آثارها تقابل الريحين المتضادين.فمثل ذلك يكون حربهم وما كل زوبعة حربهم .وحديث عمرو الجني حمد الله مشهورة مروية وقتله في الزوبعة التي أبصرت فانقشعت عنه وهو على الموت فما لبث إن مات .وكان عبدا صالحا من الجان .ولو كان هذا الكتاب مبناه على إيراد أخبار وحكايات لذكرنا منها طرفا وإنما هذا كتاب علم المعاني فلينظر حكاياتهم في تواريخ الأدب وأشعارهم[تشكل العالم الروحاني]ثم نرجع ونقول وإن هذا العالم الروحاني إذا تشكل وظهر في صورة حسية يقيده البصر بحيث لا يقدر أن يخرج عن تلك الصورة ما دام البصر ينظر إليه بالخاصية .ولكن من الإنسان فإذا قيده ولم يبرح ناظرا إليه وليس له موضع يتوارى فيه أظهر له هذا الروحاني صورة جعلها عليه كالستر ثم يخيل له مشي تلك الصورة إلى جهة مخصوصة فيتبعها بصره .فإذا اتبعها بصره خرج الروحاني عن تقييده فغاب عنه وبمغيبه تزول تلك الصورة عن نظر الناظر الذي اتبعها بصره .فإنها للروحاني كالنور مع السراج المنتشر في الزوايا نوره فإذا غاب جسم السراج فقد ذلك النور .فهكذا هذه الصورة فمن يعرف هذا ويحب تقييده لا يتبع الصورة بصره وهذا من الأسرار الإلهية التي لا تعرف إلا بتعريف الله .وليست الصورة غير عين الروحاني بل هي عينه ولو كانت في ألف مكان أو في كل مكان ومختلفة الأشكال .وإذا اتفق قتل صورة من تلك الصور وماتت في ظاهر الأمر انتقل ذلك الروحاني من الحياة الدنيا إلى البرزخ كما ننتقل نحن بالموت ولا يبقى له في عالم الدنيا حديث مثلنا سواء .وتسمى تلك الصور المحسوسة التي تظهر فيها الروحانيات أجسادا وهو قوله تعالى وأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً وقوله وما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ .والفرق بين الجان والملائكة وإن اشتركوا في الروحانية :
أن الجان غذاؤهم ما تحمله الأجسام الطبيعية من المطاعم والملائكة ليست كذلك .
ولهذا ذكر الله في قصة ضيف إبراهيم الخليل فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ يعني إلى العجل الحنيذ أي لا يأكلون منه وخاف[نشأة عالم الجان]وحين جاء وقت إنشاء عالم الجان توجه من الأمناء الذين في الفلك الأول من الملائكة ثلاثة ثم أخذوا من نوابهم من السماء الثانية ما يحتاجون إليه منهم في هذا النشئ .ثم نزلوا إلى السموات فأخذوا من النواب اثنين من السماء الثانية والسادسة من هناك ونزلوا إلى الأركان فهيئوا المحل واتبعتهم ثلاثة أخر من الأمناء وأخذوا من الثانية ما يحتاجون إليه من نوابهم ثم نزلوا إلى السماء الثالثة والخامسة من هناك فأخذوا ملكين ومروا بالسماء السادسة فأخذوا نائبا آخر من الملائكة ونزلوا إلى الأركان ليكملوا التسوية فنزلت الستة الباقية وأخذت ما بقي من النواب في السماء الثانية وفي السموات فاجتمع الكل على تسوية هذه النشأة بإذن العليم الحكيم فلما تمت نشأته واستقامت بنيته توجه الروح من عالم الأمر .فنفخ في تلك الصورة روحا سرت فيه بوجودها الحياة فقام ناطقا بالحمد والثناء لمن أوجده جبلة جبل عليها وفي نفسه عزة وعظمة لا يعرف سببها ولا على من يعتز بها إذ لم يكن ثم مخلوق آخر من عالم الطبائع سواه.فبقي عابدا لربه مصرا على عزته متواضعا لربوبية موجدة بما يعرض له مما هو عليه في نشأته .إلى أن خلق آدم فلما رأى الجان صورته غلب على واحد منهم اسمه الحارث بغض تلك النشأة وتجهم وجهه لرؤية تلك الصورة الآدمية .وظهر ذلك منه لجنسه فعتبوه لذلك لما رأوه عليه من الغم والحزن لها .فلما كان من أمر آدم ما كان أظهر الحارث ما كان يجد في نفسه منه وأَبى عن امتثال أمر خالقه بالسجود لآدم واسْتَكْبَرَ على آدم بنشأته وافتخر بأصله وغاب عنه سر قوة الماء الذي جعل الله منه كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ . ومنه كانت حياة الجان وهم لا يشعرون[خلق آدم ونشأة الإنسان]وتأمل إن كنت من أهل الفهم قوله تعالى وكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ فحيي العرش وما حوى عليه من المخلوقات.وإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ فجاء بالنكرة ولا يسبح إلا حيورد في الحديث الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة قالت يا رب في حديث طويل هل خلقت شيئا أشد من النار قال نعم الماء فجعل الماء أقوى من النار .فلو كان عنصر الهواء في نشأة الجان غير مشتعل بالنار لكان الجان أقوى من بنى آدم .فإن الهواء أقوى من الماء .فإن الملائكة قالت في هذا الحديث يا رب فهل خلقت شيئا أشد من الماء قال نعم الهواء .ثم قالت يا رب فهل خلقت شيئا أشد من الهواء قال نعم ابن آدمالحديث فجعل النشأة الإنسانية أقوى من الهواء .وجعل الماء أقوى من النار وهو العنصر الأعظم في الإنسان .كما إن النار العنصر الأعظم في الجان ولهذا قال في الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً فلم ينسب إليه من القوة شيئا .ولم يرد على العزيز في قوله: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ولا أكذبه مع ضعف عقل المرأة عن عقل الرجل .فإن النساء ناقصات عقل فما ظنك بقوة الرجل .وسبب ذلك أن النشأة الإنسانية تعطي التؤدة في الأمور والأناة والفكر والتدبير لغلبة العنصرين الماء والتراب على مزاجه .فيكون وافر العقل لأن التراب يثبطه ويمسكه والماء يلينه ويسهله .والجان ليس كذلك فإنه ليس لعقله ما يمسكه عليه ذلك الإمساك الذي للإنسان .ولهذا يقال فلان خفيف العقل وسخيف العقل إذا كان ضعيف الرأي هلباجة وهذا هو نعت الجان وبه ضل عن طريق الهدى لخفة عقله وعدم تثبته في نظره فقال أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فجمع بين الجهل وسوء الأدب لخفته[الشيطان الأول من الجان]فمن عصى من الجان كان شيطانا أي مبعودا من رحمة الله .وكان أول من سمي شيطانا من الجن الحارث فأبلسه الله أي طرده من رحمته وطرد الرحمة عنه . ومنه تفرعت الشياطين بأجمعها .فمن آمن منهم مثل هامة بن إلهام بن لاقيس بن إبليس التحق بالمؤمنين من الجن .ومن بقي على كفره كان شيطانا وهي مسألة خلاف بين علماء الشريعة. فقال بعضهم إن الشيطان لا يسلم أبدا وتأول قوله عليه السلام في شيطانه وهو القرين الموكل به إن الله أعانه عليه فأسلمروى برفع الميم وفتحها أيضا فتأول هذا القائل الرفع بأنه قال فأسلم منه أي ليس له على سبيل .وهكذا تأوله المخالف وتأول الفتح فيه على الانقياد قال فمعناه انقاد مع كونه عدوا فهو بعينه لا يأمرني إلا بخير جبرا من الله وعصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.وقال المخالف معنى فأسلم بالفتح أي آمن بالله كما يسلم الكافر عندنا فيرجع مؤمنا وهو الأولى والأوجه[إبليس أول الأشقياء من الجن]وأكثر الناس يزعمون أنه أول الجن بمنزلة آدم من الناس وليس كذلك عندنا .بل هو واحد من الجن وإن الأول فيهم بمنزلة آدم في البشر إنما هو غيره .ولذلك قال الله تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ من الْجِنِّ أي من هذا الصنف من المخلوقين كما كان قابيل من البشر .وكتبه الله شقيا فهو أول الأشقياء من البشر .وإبليس أول الأشقياء من الجن .وعذاب الشياطين من الجن في جهنم أكثر ما يكون بالزمهرير لا بالحرور . وقد يعذب بالنار وبنو آدم أكثر عذابهم بالنار .ووقفت يوما على مخبول العقل من الأولياء وعيناه تدمعان وهو يقول للناس لا تقفوا مع قوله تعالى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ لإبليس فقط .بل انظروا في إشارته سبحانه لكم بقوله لإبليس جَهَنَّمَ مِنْكَ .فإنه مخلوق من النار فيعود لعنه الله إلى أصله وإن عذب به فعذاب الفخار بالنار أشد .فتحفظوا فما نظر هذا الولي من ذكر جهنم إلا النار خاصة وغفل عن إن جهنم اسم لحرورها وزمهريرها وبجملتها سميت جهنم. لأنها كريهة المنظر والجهام السحاب الذي قد هرق ماءه والغيث رحمة الله .فلما أزال الله الغيث من السحاب بإنزاله أطلق عليه اسم الجهام لزوال الرحمة الذي هو الغيث منه .كذلك الرحمة أزالها الله من جهنم فكانت كريهة المنظر والمخبر .وسميت أيضا جهنم لبعد قعرها يقال ركية جهنام إذا كانت بعيدة القعر .نسأل الله العظيم لنا وللمؤمنين الأمن منها.
ويكفي هذا القدر من هذا الباب
.