الباب التاسع عشر في سبب نقص العلوم وزيادتها .كتاب الفتوحات المكية في معرفة أسرار المالكية والملكية المجلد الأول
الشيخ الأكبر محيي الدين أبو عبد الله محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي قدس الله روحه
الباب التاسع عشر في سبب نقص العلوم وزيادتها
وقوله تعالى: "وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ".وقوله صلى الله عليه وسلم :"إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبضه بقبض العلماء"تجلى وجود الحق في فلك النفس ..... دليل على ما في العلوم من النقصوإن غاب عن ذاك التجلي بنفسه ..... فهل مدرك إياه بالبحث والفحصوإن ظهرت للعلم في النفس كثرة ..... فقد ثبت الستر المحقق بالنصولم يبد من شمس الوجود ونورها ..... على عالم الأرواح شيء سوى القرصوليست تنال العين في غير مظهر ..... ولو هلك الإنسان من شدة الحرصولا ريب في قولي الذي قد بثثته ..... وما هو بالزور المموه والخرص[العلم: مراتبه وأطواره]اعلم أيدك الله أن كل حيوان وكل موصوف بإدراك فإنه في كل نفس في علم جديد من حيث ذلك الإدراك .لكن الشخص المدرك قد لا يكون ممن يجعل باله أن ذلك علم فهذا هو في نفس الأمر علم .فاتصاف العلوم بالنقص في حق العالم هو أن الإدراك قد حيل بينه وبين أشياء كثيرة مما كان يدركها .لو لم يقم به هذا المانع كمن طرأ عليه العمي أو الصمم أو غير ذلك .ولما كانت العلوم تعلو وتتضع بحسب المعلوم لذلك تعلقت الهمم بالعلوم الشريفة العالية التي إذا اتصف بها الإنسان زكت نفسه وعظمت مرتبته فأعلاها مرتبة العلم بالله وأعلى الطرق إلى العلم بالله علم التجليات ودونها علم النظر وليس دون النظر علم إلهي وإنما هي عقائد في عموم الخلق لا علوم وهذه العلوم هي التي أمر الله نبيه عليه السلام بطلب الزيادة منها قال تعالى ولا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ من قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي زدني من كلامك ما نزيد به علما بك فإنه قد زاد هنا من العلم العلم بشرف التأني عند الوحي أدبا مع المعلم الذي أتاه به من قبل ربه ولهذا أردف هذه الآية بقوله وعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ أي ذلت فأراد علوم التجلي والتجلي أشرف الطرق إلى تحصيل العلوم وهي علوم الأذواق[العلم: ازدياده وزيادته]واعلم أن للزيادة والنقص بابا آخر نذكره أيضا إن شاء الله .وذلك أن الله جعل لكل شيء ونفس الإنسان من جملته الأشياء ظاهرا وباطنا فهي تدرك بالظاهر أمورا تسمى عينا وتدرك بالباطن أمورا تسمى علما .والحق سبحانه هو الظاهر والباطن فبه وقع الإدراك فإنه ليس في قدرة كل ما سوى الله أن يدرك شيئا بنفسه وإنما أدركه بما جعل الله فيه وتجلى الحق لكل من تجلى له من أي عالم كان من عالم الغيب أو الشهادة إنما هو من الاسم الظاهر وأما الاسم الباطن فمن حقيقة هذه النسبة أنه لا يقع فيها تجل أبدا لا في الدنيا ولا في الآخرة إذ كان التجلي عبارة عن ظهوره لمن تجلى له في ذلك المجلى وهو الاسم الظاهر فإن معقولية النسب لا تتبدل وإن لم يكن لها وجود عيني لكن لها الوجود العقلي فهي معقولة فإذا تجلى الحق إما منة أو إجابة لسؤال فيه فتجلى لظاهر النفس وقع الإدراك بالحس في الصورة في برزخ التمثل فوقعت الزيادة عند المتجلي له في علوم الأحكام إن كان من علماء الشريعة وفي علوم موازين المعاني إن كان منطقيا وفي علوم ميزان الكلام إن كان نحويا وكذلك صاحب كل علم من علوم الأكوان وغير الأكوان تقع له الزيادة في نفسه من علمه الذي هو بصدده فأهل هذه الطريقة يعلمون أن هذه الزيادة إنما كانت من ذلك التجلي الإلهي لهؤلاء الأصناف فإنهم لا يقدرون على إنكار ما كشف لهم وغير العارفين يحسون بالزيادة وينسبون ذلك إلى أفكارهم وغير هذين يجدون من الزيادة ولا يعلمون أنهم استزادوا شيئا فهم في المثل كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ الله وهي هذه الزيادة وأصلها والعجب من الذين نسبوا ذلك إلى أفكارهم وما علم إن فكره ونظره وبحثه في مسألة من المسائل هو من زيادة العلوم في نفسه من ذلك التجلي الذي ذكرناه فالناظر مشغول بمتعلق نظره وبغاية مطلبه فيحجب عن علم الحال فهو في مزيد علم وهو لا يشعر وإذا وقع التجلي أيضا بالاسم الظاهر لباطن النفس وقع الإدراك بالبصيرة في عالم الحقائق والمعاني المجردة عن المواد وهي المعبر عنها بالنصوص إذ النص ما لا إشكال فيه ولا احتمال بوجه من الوجوه وليس ذلك إلا في المعاني فيكون صاحب المعاني مستريحا من تعب الفكر فتقع الزيادة له عند التجلي في العلوم الإلهية وعلوم الأسرار وعلوم الباطن وما يتعلق بالآخرة وهذا مخصوص بأهل طريقنا فهذا سبب الزيادة[العلم: نقصانه]وأما سبب نقصها فامران إما سوء في المزاج في أصل النشئ أو فساد عارض في القوة الموصلة إلى ذلك وهذا لا ينجبر كما قال الخضر في الغلام إنه طبع كافرا فهذا في أصل النشئ وأما الأمر العارض فقد يزول إن كان في القوة بالطب وإن كان في النفس فشغله حب الرئاسة واتباع الشهوات عن اقتناء العلوم التي فيها شرفه وسعادته فهذا أيضا قد يزول بداعي الحق من قلبه فيرجع إلى الفكر الصحيح فيعلم إن الدنيا منزل من منازل المسافر وأنها جسر يعبر وأن الإنسان إذا لم تتحل نفسه هنا بالعلوم ومكارم الأخلاق وصفات الملإ الأعلى من الطهارة والتنزه عن الشهوات الطبيعية الصارفة عن النظر الصحيح واقتناء العلوم الإلهية فيأخذ في الشروع في ذلك فهذا أيضا سبب نقص العلوم ولا أعني بالعلوم التي يكون النقص منها عيبا في الإنسان إلا العلوم الإلهية وإلا فالحقيقة تعطي أنه ما ثم نقص قط وأن الإنسان في زيادة علم أبدا دائما من جهة ما تعطيه حواسه وتقلبات أحواله في نفسه وخواطره فهو في مزيد علوم لكن لا منفعة فيها والظن والشك والنظر والجهل والغفلة والنسيان كل هذا وأمثاله لا يكون معها العلم بما أنت فيه بحكم الظن أو الشك أو النظر أو الجهل أو الغفلة أو النسيان و[علوم التجلي: نقصها وزيادتها]أما نقص علوم التجلي وزيادتها فالإنسان على إحدى حالتين خروج الأنبياء بالتبليغ أو الأولياء بحكم الوراثة النبوية كما قيل لأبي يزيد حين خلع عليه خلع النيابة وقال له اخرج إلى خلقي بصفتي فمن رآك رآني فلم يسعه إلا امتثال أمر ربه فخطا خطوة إلى نفسه من ربه فغشي عليه فإذا النداء ردوا على حبيبي فلا صبر له عني فإنه كان مستهلكا في الحق كأبي عقال المغربي فرد إلى مقام الاستهلاك فيه الأرواح الموكلة به المؤيدة له لما أمر بالخروج فرد إلى الحق وخلعت عليه خلع الذلة والافتقار والانكسار فطاب عيشه ورأى ربه فزاد أنسه واستراح من حمل الأمانة المعارة التي لا بد له أن تؤخذ منه[معراج الإنسان في سلم العرفان]والإنسان من وقت رقية في سلم المعراج يكون له تجل إلهي بحسب سلم معراجه فإنه لكل شخص من أهل الله سلم يخصه لا يرقى فيه غيره ولو رقى أحد في سلم أحد لكانت النبوة مكتسبة فإن كل سلم يعطي لذاته مرتبة خاصة لكل من رقى فيه وكانت العلماء ترقي في سلم الأنبياء فتنال النبوة برقيها فيه والأمر ليس كذلك وكان يزول الاتساع الإلهي بتكرار الأمر وقد ثبت عندنا أنه لا تكرار في ذلك الجناب غير إن عدد درج المعالي كلها الأنبياء والأولياء والمؤمنون والرسل على السواء لا يزيد سلم على سلم درجة واحدة فالدرجة الأولى الإسلام وهو الانقياد وآخر الدرج الفناء في العروج والبقاء في الخروج وبينهما ما بقي وهو الايمان والإحسان والعلم والتقديس والتنزيه والغني والفقر والذلة والعزة والتلوين والتمكين في التلوين والفناء إن كنت خارجا والبقاء إن كنت داخلا إليه وفي كل درج في خروجك عنه ينقص من باطنك بقدر ما يزيد في ظاهرك من علوم التجلي إلى أن تنتهي إلى آخر درج فإن كنت خارجا ووصلت إلى آخر درج ظهر بذاته في ظاهرك على قدرك وكنت له مظهرا في خلقه ولم يبق في باطنك منه شيء أصلا وزالت عنك تجليات الباطن جملة واحدة فإذا دعاك إلى الدخول إليه فهي أول درج يتجلى لك في باطنك بقدر ما ينقص من ذلك التجلي في ظاهرك إلى أن تنتهي إلى آخر درج فيظهر على باطنك بذاته ولا يبقى في ظاهرك تجل أصلا وسبب ذلك أن لا يزال العبد والرب معا في كمال وجود كل واحد لنفسه فلا يزال العبد عبدا والرب ربا مع هذه الزيادة والنقص فهذا هو سبب زيادة علوم التجليات ونقصها في الظاهر والباطن وسبب ذلك التركيب ولهذا كان جميع ما خلقه الله وأوجده في عينه مركبا له ظاهر وله باطن والذي نسمعه من البسائط إنما هي أمور معقولة لا وجود لها في أعيانها فكل موجود سوى الله تعالى مركب هذا أعطانا الكشف الصحيح الذي لا مرية فيه وهو الموجب لاستصحاب الافتقار له فإنه وصف ذاتي له فإن فهمت فقد أوضحنا لك المنهاج ونصبنا لك المعراج فاسلك وأعرج تبصر وتشاهد ما بيناه لك ولما عينا لك درج المعارج ما أبقينا لك في النصيحة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .فإنه لو وصفنا لك الثمرات والنتائج.ولم نعين لك الطريق إليها لشوقناك إلى أمر عظيم لا تعرف الطريق الموصل إليه.فو الذي نفسي بيده أنه لهو المعراج.والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ