شرح داود القيصرى الجزء الأول لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
شرح القيصرى لخطبة الشيخ على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
شرح داود قيصرى لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الجزء الأول
قول الشيخ، رضى الله عنه: (الحمد الله منزل الحكم على قلوب الكلم)شروع فيما يجب على جميع العباد من الحمد لله والثناء عليه، لذلك صدر الحق تعالى كتابه العزيز بقوله: (الحمد لله رب العالمين) تعليما للعباد وتفهيما لهم طريق الرشاد.
ولما كان (الحمد) و (الثناء) مترتبا على الكمال، ولا كمال إلا لله ومن الله، كان الحمد لله خاصة، وهو قولي وفعلي وحالي:
أما القولي، فحمد اللسان وثناؤه عليه بما أثنى به الحق على نفسه على لسان الأنبياء، عليهم السلام.
وأما الفعلي، فهو الإتيان بالأعمال البدنية من العبادات والخيرات ابتغاء
لوجه الله تعالى وتوجها إلى جنابه الكريم، لأن الحمد، كما يجب على الإنسان باللسان، كذلك يجب عليه بحسب كل عضو، بل على كل عضو، كالشكر،
و عند كل حال من الأحوال.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله على كل حال".
وذلك لا يمكن إلا باستعمال كل عضو فيما خلق لأجله على الوجه المشروع عبادة للحق تعالى وانقيادا لأمره، لا طلبا لحظوظ النفس ومرضاتها.
وأما الحالي، فهو الذي يكون بحسب الروح والقلب، كالاتصاف بالكمالات العلمية والعملية والتخلق بالأخلاق الإلهية.
لأن الناس مأمورون بالتخلق بلسان الأنبياء، صلوات الله عليهم، لتصير الكمالات ملكة نفوسهم وذواتهم.
وفي الحقيقة هذا حمد الحق أيضا نفسه في مقامه التفصيلي المسمى بالمظاهر من حيث عدم مغايرتها له.
وأما حمده ذاته في مقامه الجمعي الإلهي قولا، فهو ما نطق به في كتبه و
صحفه من تعريفاته نفسه بالصفات الكمالية. وفعلا، فهو إظهار كمالاته الجمالية والجلالية من غيبه إلى شهادته ومن باطنه إلى ظاهره ومن علمه إلى عينهفي مجالي صفاته ومحال ولايات أسمائه.
وحالا، فهو تجلياته في ذاته بالفيض الأقدس الأولى وظهور النور الأزلي.
فهو الحامد والمحمود جمعا وتفصيلا،كما قيل:
لقد كنت دهرا قبل أن يكشف الغطاء أخالك إني ذاكر لك شاكرفلما أضاء الليل أصبحت شاهدا بأنك مذكور وذكر وذاكر وكل حامد بالحمد القولي يعرف محموده بإسناد صفات الكمال إليه، فهويستلزم التعريف.
وذكر الشيخ اسم (الله) لأنه اسم للذات من حيث هي هي باعتبار، و اسمها من حيث إحاطتها بجميع الأسماء والصفات باعتبار آخر، وهو اتصافها بالمرتبة الإلهية، فهو أعظم الأسماء وأشرفها.
والحمد المناسب لهذه الحضرة، بعد حمد الله ذاته بذاته، هو الذي يصدر من الإنسان الكامل المكمل الذي له مقام الخلافة العظمى.
لأنه حينئذ يكون منها ولها، إذ الكامل مرآة تلك الحضرة و مظهرها .
وقوله: (منزل الحكم) بفتح النون من (التنزيل). أو بإسكانه من (الإنزال).
والأول أولى، لأنه إنما يكون على سبيل التدريج والتفصيل، بخلافالإنزال.
والأنبياء، عليهم السلام، وإن كان نزول الحكم على كتاب استعداداتهم دفعة واحدة، لكن ظهورها بالفعل لا يمكن إلا على سبيل التدريج.
والإنزال والتنزيل، كلاهما، يستدعيان العلو والسفل.
ولا يتصور هنا العلو المكاني، لأنه منزه عن المكان، فتعين علو المكانة والمرتبة.
وأول مراتب العلو مرتبة الذات، ثم مرتبة الأسماء والصفات، ثم مرتبة الموجود الأول، فالأول بحسب الصفوف إلى آخر مراتب عالم الأرواح.
ثم مراتب السفل من هيولى عالم الأجسام إلى آخر مراتب الوجود.
ولكل من مراتب العلو سفل باعتبار ما فوقها إلا للعلو المطلق، ولمراتب السفل علو باعتبار ما بعدها إلا السفل المطلق.
وقوله: (على قلوب الكلم) وتخصيصه بالقلب يؤيد ما ذهبنا إليه: فإن العلوم والمعارف الفائضة على الروح لا يكون إلا على سبيل الإجمال.
وفي المقام القلبي يتفصل ويتعين، كالعلوم الفائضة على العقل الأول إجمالا ثم على النفس الكلية تفصيلا.
ولذلك جعل مظهر العرش الروحاني الذي هو العقل الأول في عالم الملك فلكا غير مكوكب وهو (الفلك الأطلس)، ومظهر الكرسي الروحي الذي هو النفس الكلية فلكا مكوكبا ومتفاوتا في الصغر والكبر والظهوروالخفاء وهو فلك الثوابت ليستدل بالمظاهر على الظواهر.
كما قال تعالى: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب."
وإنما قال: (الحكم) ولم يقل: المعارف والعلوم.
لأنهم، عليهم السلام، مظاهر الاسم (الحكيم)، إذ (الحكمة) هي العلم بحقائق الأشياء، على ما هيعليه، والعمل بمقتضاه ولذلك انقسمت الحكمة إلى العلمية والعملية.
والمعرفة هي إدراك الحقائق، على ما هي عليه، والعلم إدراك الحقائق ولوازمها، ولذلك يسمى التصديق (علما) والتصور (معرفة). كما قاله الشيخ ابن الحاجب في أصوله.
وأيضا، المعرفة مسبوقة بنسيان حاصل بعد العلم بخلاف العلم، لذلك يسمى الحق بالعالم دون العارف.
فلما كان العلم والعمل به أتم من كل منهما، أي من العلم والمعرفة جعلهم الحق مظاهر اسم الحكيم عناية عليهم ولاقتضاء مرتبتهم ذلك.
ولكون كل نبي مختصا بحكمة خاصة مودعة في قلبه وهو مظهر لها جمع فقال: (منزل الحكم على قلوب الكلم).
وقد مر تحقيق (القلب) في المبادئ.
والمراد بـ (الكلم) هنا أعيان الأنبياء، عليهم السلام، لذلك أضاف إليها (القلوب.) وقد يراد بها الأرواح.
كما قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب) أي، الأرواح الكاملة.
ويسمى عيسى (كلمة) في مواضع من القرآن مع أن جميع الموجودات كلمات الله، وإليه الإشارة بقوله تعالى: "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا".
ولكون صدور الأشياء من المرتبة العمائية التي أشار إليها النبي، صلى الله عليه وسلم، عند سؤال الأعرابي عنه: "أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟" بقوله: "كان في عماء ما فوقهواء ولا تحته هواء".
أي، في مرتبة لا تعين لها ولا اسم ولا نعت، فتعمى عنهاالأبصار والفهوم، بواسطة (النفس الرحماني) وهو انبساط الوجود وامتداده.
والأعيان الموجودة عبارة عن التعينات الواقعة في ذلك النفس الوجودي.
سميت الأعيان كلمات، تشبيها بالكلمات اللفظية الواقعة على النفس الإنساني بحسب المخارج. وأيضا، كما يدل الكلمات على المعاني العقلية، كذلك تدل أعيان الموجودات على موجدها وأسمائه وصفاته وجميع كمالاته الثابتة له بحسب ذاته ومراتبه.
وأيضا، كل منها موجودة بكلمة (كن). فأطلق (الكلمة) عليها إطلاق اسم السبب على المسبب.
قوله: (بأحدية الطريق الأمم) متعلق بقوله: (منزل الحكم). و (الباء) للسببية.
أي، بسبب اتحاد الطرق الموصلة إلى الله بالتوجه والدعوة إليه وسلوك طريق يوجب تنور القلوب، نزل الحكم والمعارف اليقينية على قلوب الكلم الربانية، فإن اختلاف الطرق يوجب الغواية والضلال.
قال عز من قائل: "وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله". أوبمعنى (في). أي، منزل الحكم على قلوب الحكم في أحدية الطريق الأمم.
أو لتضمين التنزيل أو الإنزال معنى الإخبار، كقوله: "أنزل القرآن بتحريم الربا وتحليل البيع". أي، أخبر به.
فالباء للصلة. أي، مخبر الحكم على قلوب الكلم بأحدية الطريق الأمم.
أو للملابسة. أي، منزل الحكم متلبسا بأحدية الطريق الأمم. و (الأمم)، بفتح الهمزة، المستقيم.
واعلم، أن الطرق إلى الله إنما يتكثر بتكثر السالكين واستعداداتهم المتكثرة .
كقوله تعالى: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها. إن ربى على صراط مستقيم".
وكقوله تعالى: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا".
ولهذا قيل: "الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق" وكل منها في الانتهاء إلى الرب مستقيم.
إلا أنهالا توصف بالاستقامة الخاصة التي أريد بقوله تعالى: "إهدنا الصراط المستقيم."
فاللام هنا للعهد، والمعهود طريق التوحيد ودين الحق الذي جميع الأنبياء ومتابعيهم عليه، وبه تتحد طرقهم.
كما قال تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله". لا ما ذكر في سورة هود، عليه السلام: " إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) " سورة هود.
وإلا يكون طرق أهل الضلال أيضا موجبا لإفاضة الحكم، وبيان الحق للصراط المستقيم
بقوله: "صراط الذين أنعمت عليهم"- الآية، يدل على ذلك. ولذلك صدق اللاحق منهم السابق، وما وقع بينهم التخالف في التوحيد ولوازمه.
والاختلاف الواقع في الشرائع ليس إلا في الجزئيات من الأحكام بحسب الأزمنة ولواحقها.
فأحدية الطريق عبارة عن استهلاك كثرة طرق السالكين من الأنبياء و الأولياء في وحدة الصراط المستقيم المحمدي وشريعته المرضية عند الله.
كقوله تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه". و "إن الدين عند الله الإسلام".
هذا بحسب اقتضاء الاسم الظاهر، وأما بحسب الاسم الباطن فطريقان جامعان للطرق الروحانية كلها:
أحدهما، طريق العقول والنفوس المجردة التي هي واسطة في وصول الفيض الإلهي والتجلي الرحماني إلى قلوبنا.
وثانيهما، طريق الوجه الخاص الذي هو لكل قلب به يتوجه إلى ربه من حيث عينه الثابتة ويسمى طريق السر ومن هذا الطريق أخبر العارف الرباني بقوله: "حدثني قلبي عن ربى".
وقال سيد البشر صلى الله عليه وآله: "لي مع الله وقتلا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل". لكونه من الوجه الخاص الذيلا واسطة بينه وبين ربه.
ولا شك في أحدية الطريق الأول. وكذا في الثاني. إذ لا شك في وحدة الفياض وفيضه.
كما قال: "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر".
وتكثر قوابل الفيض لا يقدح في وحدة الطريق، كما لا يقدح تكثر الشبابيك في وحدة النور الداخل فيها.
والسالك على الطريق الأول هو الذي يقطع الحجب الظلمانية وهي البرازخ الجسمانية، والنورية وهي الجواهر الروحانية، بكثرة الرياضات و المجاهدات الموجبة لظهور المناسبات التي بينه وبين ما يصل إليه من النفوس والعقول المجردة إلى أن يصل إلى المبدأ الأول وعلة العلل.
وقل من يصل من هذا الطريق إلى المقصد لبعده وكثرة عقباته وآفاته.
والسالك على الطريق الثاني، وهو الطريق الأقرب ، هو الذي يقطع الحجب بالجذبات الإلهية. وهذا السالك لا يعرف المنازل والمقامات إلا عند رجوعه من الحق إلى الخلق.
لتنوره بالنور الإلهي وتحققه بالوجود الحقاني،حينئذ، فيحصل له العلم من العلة بالمعلول ويكمل له الشهود بنوره في مراتب الوجود، فيكون أكمل وأتم من غيره في العلم والشهود.
وقوله: (من المقام الأقدم) إشارة إلى المرتبة الأحدية الذاتية التي هي منبع فيضان الأعيان واستعداداتها في الحضرة العلمية أولا.
ووجودها وكمالاتها في الحضرة العينية بحسب عوالمها وأطوارها الروحانية والجسمانية ثانيا.
وإنما قال على صيغة أفعل التفضيل، لأن للقدم مراتب وكلها في الوجود سواء، لكن العقل باستناد بعضها إلى البعض يجعل قديما وأقدم.
كترتب بعض الأسماء علىالبعض، إذ الشئ لا يمكن أن يكون مريدا إلا بعد أن يكون عالما، ولا يمكن أن يكون عالما إلا بعد أن يكون حيا، وكذلك الصفات.
وجميع الأسماء والصفات مستندة إلى الذات، فلها المقام الأقدم من حيث المرتبة الأحدية وإن كانت الأسماء والصفات أيضا قديمة .
قوله: (إن اختلفت الملل والنحل لاختلاف الأمم) للمبالغة. و (الملة) الدين، و (النحلة) المذهب والعقيدة.
أي، أصل طرق الأنبياء واحد، وإن اختلفت أديانهم وشرائعهم لأجل اختلاف أممهم.
وذلك لأن أهل كل عصر يختص باستعداد كلي خاص يشمل استعدادات أفراد أهل ذلك العصر وقابلية معينة كذلك ومزاج يناسب ذلك العصر.
والنبي المبعوث إليهم إنما يبعث بحسب قابلياتهم واستعداداتهم فاختلفت شرائعهم باختلاف القوابل.
وذلك لا يقدح في وحدة أصل طرقهم وهو الدعوة إلى الله ودين الحق، كما لا يقدح اختلاف المعجزات في وحدة حقيقة المعجزة.
ولذلك كان معجزات كل منالأنبياء، عليهم السلام، بحسب ما هو غالبة على ذلك القوم: كما أتى موسى بما يبطل السحر لغلبته عليهم.
وعيسى، عليه السلام، بإبراء الأكمة والأبرص، لماغلب على قومه الطب.
ونبينا، صلى الله عليه وسلم، بالقرآن الكريم المعجز بفصاحته كل مغلق بليغ ومصقع فصيح، لما كان الغالب على قومه التفاخر بالفصاحة والبلاغة.
قوله: (وصلى الله على ممد الهمم) إتيان بما يجب بعد حمد الحق تعالى منالصلاة على من هو فصل الخطاب والواسطة بين أهل العالم ورب الأرباب علما وعينا، كما مر بيانه في الفصل الثامن. قيل: "الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء."
واعلم، أن الرحمة من الله يتعلق بكل شئ بحسب استعداد ذلك الشئ و
طلبه إياها من حضرة الله تعالى: فالرحمة على العاصين المذنبين، الغفران والعفو عنهم، ثم ما يبتنى على المغفرة من الجنة وغيرها.
وعلى المطيعين الصالحين، الجنة والرضاء ولقاء الحق تعالى، وغير ذلك (مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).
وعلى العارفين الموحدين مع ذلك، إفاضة العلوم اليقينية والمعارف الحقيقية.
وعلى المحققين الكاملين المكملين من الأنبياء والأولياء عليهم السلام، التجليات الذاتية والأسمائية والصفاتية، وأعلى مراتب الجنان من جنات الأعمال والصفات والذات، وأعنى بجنة الذات والصفات ما به ابتهاج المبدأ الأول من ذاته وكمالاته الذاتية.
فالرحمة المتعلقة بقلب النبي، صلى الله عليه وآله، وروحه، هي أعلى مراتب التجليات الذاتية والأسمائية لكمال استعداده وقوة طلبه إياها، وفيضها من الاسم الجامع الإلهي الذي هو منبع الأنوار كلها لأنه ربه.
لذلك قال تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبي". ولم يقل: إن الرحمن والرحيم أو غيرهما.
ولما كانت الملائكة مظاهر الأسماء التي هي سدنة الاسم الأعظم، والسادن لا بد له من متابعة سيده، حصل له الفيض من جميع الأسماء، واستغفر له مظاهرها بأسرها.
ودعاء المؤمنين له، صلى الله عليه وسلم، إنما هو مجازاة ذاتية يقتضى أعيانهم الثابتة بلسان استعداداتهم الذاتية ذلك.
وكما كان، صلى الله عليه وسلم، واسطة لوجوداتهم في العلم والعين ماهية ووجودا، كذلك كان واسطة لكمالاتهم.
قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
وممد لكل عين، وهمتها بإيصالها إلى كمالها كفرا كان أو أيمانا، إذ من ربه يفيض ما يفيض
لحقائق العالم.
فاللام في (الهمم) لاستغراق الجنس، لأنه الجمع المحلى بالألف واللام،وهو يفيد الاستغراق، كما تقرر عند علماء الظاهر.
وإن جعلنا إمداده مخصوصا بالكمال السابق في الذهن بحسب الظاهر، فاللام للعهد.
أي، يمد الهمم القابلة للكمال بإرشاده طريقه وإيضاحه تحقيقه، وتسليكه سبيلا يوجب الكشف والشهود وترغيبه فيما يوجب الذوق والوجود.
وأمره بالعبادات والأخلاق المرضية ونهيه عما يوجب النقص والرين من المنهيات الشرعية ليترقى الهمم العالية إلى أوجها وذروتها ويتخلص من قيود الحضيض بذكر مقامها الأصلي ونشأتها.
و (الهمم) جمع (الهمة)، وهي مأخوذة من (الهم)، وهو القصد. يقال: هم بكذا. إذا قصده.
قال تعالى: "ولقد همت به وهم بها".
وفي الاصطلاح، توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جناب الحق لحصول الكمال له أو لغيره.
قوله: (من خزائن الجود والكرم) متعلق بقوله : (ممد الهمم). والخزائن هي الحقائق الإلهية المعبر عنها بالأسماء والصفات.
ولما كان كل من هو الجواد الكريم لا يعطى ما يعطى إلا من خزائنه بحسب جوده وكرمه، أضاف "الخزائن" إلى "الجود والكرم". و (اللام) فيهما عوض عن الإضافة.
أي، من خزائن جوده وكرمه تعالى.
وقيل: "الفرق بينه وبين الكرم، أن الجود صفة ذاتية للجواد ولا يتوقف بالاستحقاق ولا بالسؤال بخلاف الكرم، فإنه مسبوق بالاستحقاق القابل والسؤال منه"
وإمداد النبي، صلى الله عليه وسلم، الهمم من خزائن الجود والكرم التي للحضرة الإلهية، إنما هو لقطبيته وخلافته: فالخزائن لله والتصرف لخليفته
قوله: (بالقيل الأقوم) متعلق بـ "ممد الهمم" بالقول الأصدق الأعدل الذي لا انحراف فيه بوجه من الوجوه.
، لأنه مظهر الاسم الجامع الإلهي، وهو بلسان استعداد مرتبته الواقعة على غاية الكمال والاعتدال يستفيض من الحق فيفيض على الهمم بحسب استعداداتهم.
وهو أصدق الألسنة وأفصحها كما قيل: لسان الحال أفصح من لسان القال.
ولسان الحال والقال يتبع لسان الاستعداد، فإذا كان الاستعداد في غاية الكمال، يكون القال والحال في غاية الصدق.
فقوله، صلى الله عليه وسلم، أقوم الأقوال وحاله أصدق الأحوال.
قوله: (محمد وآله وسلم) عطف بيان "ممد الهمم".
وهذا إشارة إلى أن النبي، صلى الله عليه وسلم، يمد أرواح جميع الأنبياء السابقين عليه بحسب الظهور والزمان حال كونه في الغيب، لكونه قطب الأقطاب أزلا وأبدا.
كما يمد أرواح الأولياء اللاحقين به بإيصالهم إلى مرتبة كما لهم في حال كونه موجودا في الشهادة ومنتقلا إلى الغيب، وهو دار الآخرة .
فأنواره غير منقطعة عن العالم قبل تعلق روحه بالبدن وبعده، سواء كان حيا أو ميتا.
و (آله)، عليهم السلام، أهله وأقاربه.
والقرابة إما أن يكون صورة فقط، أو معنى فقط، أو صورة ومعنى.
فمن صحت نسبته إليه صورة ومعنى فهوالخليفة والإمام القائم مقامه، سواء كان قبله، كأكابر الأنبياء الماضين، أو بعده، كالأولياء الكاملين.
ومن صحت نسبته إليه معنى فقط، كباقي الأولياء السابقين عليه كمؤمني آل فرعون وصاحب يس، فهو ولده الروحي القائم بما تهيأ لقبوله من معناه.
لذلك قال، صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا" إشارة إلى القرابة المعنوية، ومن صحت نسبته إليه صورة فقط، فهو إما أن يكون بحسب طينته، كالسادات والشرفاء، أو بحسب دينه ونبوته، كأهل الظاهر من المجتهدين وغيرهم من العلماء والصلحاء والعباد وسائر المؤمنين.
فالقرابة المعتبرة التامة هي القرابة الجامعة للصورة والمعنى، ثم القرابة المعنوية الروحية، ثم القرابة الصورية الدينية، ثم القرابة الطينية.
و "التسليم" من الله عبارة عن تجليه له، عليه السلام، من حضرة الاسم" السلام" الموجب لسلامته عن كل ما يوجب النقص والرين المهيئ للتجليات الجمال المخلص عن سطوات الجلال.
ومن المؤمنين قولا، الدعاء له، وفعلا، الاستسلام والانقياد طوعا لا كرها.
كما قال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما".
قوله: (أما بعد، فإني رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في مبشرة). (أريتها في العشر الآخر من المحرم لسنة سبع وعشرين وستمأة)
هذا تمهيد عذر لإظهار هذا الكتاب إلى الخلق، فإن الأولياء أمناء الله تعالى.
والأمين لا بد لهمن أن يحفظ الأسرار التي أؤتمن عنده ويصونها عن الأغيار.
كما قال:
يقولون خبرنا فأنت أمينها ..... وما أنا إذ خبرتهم بأمين
اللهم إلا أن يؤمروا بإظهارها، فحينئذ يجب عليهم الإظهار والإخبار.
و لما كانت الرؤية إما بالبصيرة أو بالبصر، والكمل لهم الظهور في جميع العوالم حيثما شاء الله لعدم تقيدهم في البرازخ كتقيد المحجوبين.
نبه أنها كانت في"مبشرة"، أي في رؤيا مبشرة، وهي لا يكون إلا بالبصيرة، وهي عين الباطن.
قال، عليه السلام، عند إخباره عن انقطاع الوحي: "لم تبق بعدي من النبوة إلا المبشرات".
فقالوا: "وما المبشرات يا رسول الله؟" قال: "الرؤيا الصالحة يراها المؤمن".
وهي لا يستعمل مع موصوفها، فلا يقال: رؤيا مبشرة.
كما لا يقال: أرض بطحاء.
قوله: "أريتها" على صيغة المبنى للمفعول من "الإراءة". أي، أرانيها الحق من غير إرادة منى وكسب وتعمل، ليكون مبرأ من الأغراض النفسانية ومنزها عن الخيالات الشيطانية.
قوله: (بمحروسة دمشق وبيده، صلى الله عليه وسلم، كتاب).
(فقال لي: "هذا كتاب فصوص الحكم". خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به).
(فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولى الأمر منا كما أمرنا).
متعلق بقوله:
"رأيت" أي، رأيته في محروسة دمشق. وفي قوله: "بيده كتاب" إشارة إلى أن الأسرار والحكم التي يتضمنها هذا الكتاب إنما هي مما في يد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وملكه وتحت تصرفه.
كما يقال: هذه المدينة في يد فلان. أي في تصرفه. وهي مظهر التصرف بالأخذ والعطاء.
وقوله: "هذا كتاب فصوص الحكم" يحتمل أن يكون إخبارا منه، صلى الله عليه و سلم، بأن اسمه عند الله هذا.
وأن يكون سماه، صلى الله عليه وسلم، بذلك ولابد أن يكون بين الاسم والمسمى مناسبة ما عند أهل التحقيق.
فهذا الاسم يدل على أن مسماه خلاصة الحكم والأسرار المنزلة على أرواح الأنبياء المذكورين فيه، إذ فص الشئ خلاصته وزبدته، كما سنبين إنشاء الله تعالى.
وأيضا، لما كان مراتب تنزلات الوجود ومعارجه دورية وقلب الإنسان الكامل محلا لنقوش الحكم الإلهية، شبهها بحلقة الخاتم.
والقلب بالفص الذي هو محل النقوش، كما قال في آخر الفص الأول: "وفص كل حكمة الكلمة التي نسبت إليها".
وسمى الكتاب بفصوص الحكم، لما فيه بيانها وبيان حكمها.
قوله: "خذه واخرج به إلى الناس" أي، خذه منى في سرك وغيبك واخرج به إلى عالم الحس والشهادة بتعبيرك إياه وتقريرك معناه بعبارة تناسبه وإشارة توافقه لينتفع به الناس ويرتفع عنهم حجابهم.
قوله: "فقلت: السمع والطاعة لله" بالنصب. أي، سمعت السمع وأطعت الطاعة لله، لأنه رب الأرباب. "ولرسوله" لأنه خليفته وقطب الأقطاب.
"وأولى الأمر" أي، الخلفاء والأقطاب الذين لهم الحكم في الباطن أو السلاطين والملوك الذين هم الخلفاء للخليفة الحقيقية في الظاهر.
وقوله: (منا) أي، من جنسنا وأهل ديننا.
وقوله: "كما أمرنا" إشارة إلى قوله: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم".
وإلى قوله: "وإذا وليتم أميرا فأطيعوه ولو كان عبدا حبشيا" .
وفي التحقيق كل الطاعة لله تعالى: تارة في مقام جمعه، وتارة في مقام تفصيله وأكمل مظاهره.
و قوله : (فحققت الأمنية وأخلصت النية وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب، كما حده لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة ولا نقصان.)
أي، جعلت أمنية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حقا محققا، أي، ثابتا في الخارج وظاهرا في الحس بتعبيري إياه وإظهاري فحواه على النفوس المستعدة الطالبة لمعناه.
كما قال تعالى حكاية عن يوسف، عليه السلام: "هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا". أي، أخرجها وأظهرها في الحس. فاللام للعهد، أو عوض عن الإضافة.
و "الأمنية" هو المقصود والمطلوب. وإنما أضفناها إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دون الشيخ، لأن الآمر بالإخراج هو الرسول والشيخ مأمور، أراد ذلك أو لم يرد.
اللهم إلا أن يقول الشيخ طلبه بلسان استعداد عينه وروحه عن حضرة روح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فحينئذ تكون الأمنية من طرفه.
والأول أولى. وإطلاق هذه اللفظة المأخوذة من "التمني" على الأنبياء سائغ، كما
قال تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته".
وتجريد القصد والهمة، إنما هو عن الأغراض النفسانية والالقاءات الشبهية الشيطانية.
فإنه يلقىفي القلب عند كل حال من الأحوال ما يناسبها، والعارف المحقق يعلم ذلك فيخلصها عما ألقاه لأنه المؤيد بنور الله.
قوله: "كما حده" أي، عينه من غير زيادة منى في المعنى أو نقصان.
و "سألت الله أن يجعلني فيه" أي، في إبراز هذا الكتاب (وفي جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان).
أي، تسلط وغلبة. قال عز منقائل: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان."
واعلم، أن عباد الله، الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، هم العارفون الذين يعرفون مداخلة الواقفون مع الأمر الإلهي لا يتعدون عنه.
والموحدون الذين لا يرون لغيره وجودا ولا ذاتا، ولا يعلمون الأشياء إلا مظاهره ومجاليه، فيكون عباداتهم وحركاتهم وسكناتهم كلها بالله من الله إلى الله لله.
قال الله تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه". والذين يعبدون الله من حيث ألوهيته وذاته المستحقة للعبادة، لا من حيث أنه منعم أو رحيم.
فإن عبد "المنعم" لا يكون عبد "المنتقم" وعبد "الرحيم" لا يكون عبد "القهار" ولا لدخول الجنة ولاللخلاص من النار، فإنه حينئذ عبد حظه وأسير نفسه فلا يكون عبد الله.
لذلك أضافهم الحق إلى نفسه في قوله: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان".
وفيه أقول:
عبدنا الهوى أيام جهل وإننا ... لفي غمرة من سكرنا من شرابه
وعشنا زمانا نعبد الحق للهوى ... من الجنة الأعلى وحسن ثوابه
فلما تجلى نوره في قلوبنا ... عبدنا رجاء في اللقاء وخطابه
فمرجع أنواع العبودية الهوى ... سوى من يكن عبدا لعز جنابه
ويعبده من غير شئ من الهوى ... ولا للنوى من ناره وعقابه
ولا بد أن يعلم أن هؤلاء محفوظون من الأعمال الشيطانية، لا من الالقاءات والخواطر.
كما قال تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته". لذلك قيد بالأحوال.
قوله: (وأن يخصني في جميع ما يرقمه بناني وينطق به لساني وينطوي عليه جناني)
إشارة إلى باقي مراتب الوجود، لأن للشئ وجودا في الأعيان ووجودا في الأذهان ووجودا في الكتابة ووجودا في العبارة والإشارة.
ولما سأل الله أن يحفظه من الشيطان في أحواله التي يوجد في الأعيان، سأل أن يخصه بالالقاءات الرحمانية ويحفظه من الخواطر الشيطانية، ليكون مصونا في مراتب الوجود كلها. وإنما قدم الموجود في الكتابة على غيره بقوله: "فيما يرقمه بناني" ثم الموجود في العبارة على الموجود الذهني بقوله: "وينطق به لساني" لقرب الأول من الوجود العيني في الثبوت، وقرب الثاني من الأول في الظهور.
وتأخير الوجود الذهني، إشارة إلى أنه آخر مراتب الوجود باعتبار، وإن كان أول مراتبه باعتبار آخر، ليكون الأول بعينه الآخر باعتبارين.
و "الرقم" الكتابة، و "الجنانط بفتح الجيم، القلب.
قوله: (بالإلقاء السبوحي والنفث الروحي في الروع النفسي بالتأييد الاعتصامي) متعلق بـ "أن يخصني."
واعلم، أن الإلقاء، أي إلقاء الخاطر، رحماني وشيطاني وكل منهما بلا واسطة أو بواسطة.
والأول، هو الذي يحصل من الوجه الخاص الرحماني الذي يكون لكل موجود إلى ربه، وهو المراد بـ "الإلقاء السبوحي" أي بالإلقاء الرحماني المنزه عما يقتضى الاسم "المضل" من الإلقاءات الشيطانية.
والثاني، وهو الذي يفيض على العقل الأول، ثم منه على الأرواح القدسية، ثم منها على النفوس الحيوانية المنطبعة، على ما سبق تقريره في بيان الطرق.
وهو المراد بـ "النفث الروحي" أي الحاصل من "روح القدس"، مأخوذة من قوله، صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى يستكملرزقها".
و "النفث" هو إرسال النفس، أستعير لما يفيض من "الروح."
قوله: "في الروع النفسي" إشارة إلى ما يحصل للنفس المنطبعة من الإلقاء الملكي بواسطة النفس الناطقة.
وهذا قد يكون من الأرواح المجردة غير الروح الإنساني، وقد يكون من الروح الإنساني.
إذ كل ما يفيض من غير الوجه الخاص على الأدنى إنما هو بواسطة الأشرف، وهو الروح، ثم القلب.
و "الروع" بضم الراء وسكون الواو، هو النفس.
والمراد به هنا الوجه الذي يلي القلب المسمى بـ "الصدر"، في اصطلاح القوم، ولذلك وصفه ونسبه إلى النفس.
و "المحترز منه" هو الشيطان، وهو بلا واسطة كالإلقاء من الاسم المضل،أو بواسطة كالإلقاء النفساني.
وقوله: "بالتأييد" متعلق ب "أن يخصني". و الباء بمعنى مع. أي، وأن يخصني بالإلقاء السبوحي مع التأييد الاعتصامي.
أو للملابسة، أي، ملتبسا بالتأييد. و الاعتصام من العصمة. وهي الحفظ باسم العاصم و الحفيظ.
قال تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعا".
وقال: "ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم."
قوله: (حتى أكون مترجما لا متحكما ليتحقق من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب، أنه من مقام التقديس المنزه عن الأغراض النفسية التي يدخلها التلبيس).
إشارة إلى أن هذه العبارة ليست ملقاة عليه في العالم الروحاني، بل شاهد الشيخ، رضى الله عنه، رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في صورةمثالية.
فأعطاه الكتاب، وألهمه الحق المعاني والحكم التي تضمنها الكتاب، فتجلت له وانكشفت عليه هذه الحقائق، ثم عبر عنها بألفاظه بقوله: "حتى أكون مترجما" أي، سألت الله العصمة والتأييد حتى أكون مترجما لما أراد الله إظهاره بلساني من المعاني والحكم التي أعلمني الله إياها من الكتاب الذي أعطانيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا متحكما بالتصرف النفساني فيها بالزيادةأو النقصان، فإنهما من فعل الشيطان.
والمراد بـ "أهل الله"، الكاملون من أرباب الكشف والشهود، الواصلون إلى حضرة الذات والوجود، الراجعون من حضرة الجمع إلى مقام القلب.
لذلك بين بقوله: "أصحاب القلوب". فإن الإنسان إنما يكون صاحب القلب، إذا تجلى له الغيب وانكشف له السر وظهر عنده حقيقة الأمر وتحقق بالأنوار الإلهية وتقلب في أطوار الربوبية.
لأن المرتبة القلبية هي الولادة الثانية المشار إليها بقول عيسى، عليه السلام: "لن يلج ملكوت السماوات والأرض من لم يولد مرتين." .
قوله: "أنه من مقام التقديس" أي، ليتحقق أهل الله بالحقيقة واليقين أن
هذا الكتاب، أي معانيه وأسراره لا ألفاظه، منزل من مقام التقديس، وهو مقامأحدية جمع الجمع. وتقديسه وتنزيهه إنما يكون من الثنوية والأغيار باعتبار أحديته، ومن الشوائب النفسانية والأغراض الشيطانية الموجبة للنقصان باعتبارمقام تفصيله وكثرته.
و "التلبيس" سر الحقيقة وإظهارها بخلاف ما هي عليها.
يقال: لبس فلان على فلان. إذا ستر عنه الشئ وأراه بخلاف ما هو عليه.
قوله: (وأرجو أن يكون الحق تعالى لما سمع دعائي قد أجاب ندائي) لسان أدب مع الله تعالى.
فإن الكمل المطلعين بأعيانهم الثابتة واستعداداتها مستجابوا الدعوة، لأنهم لا يطلبون من الله تعالى إلا ما يقتضيه استعداداتهم وأعيانهم.
كما تأدب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قوله لأمته: "سلوا لي الوسيلة".
فإنها لا يكون إلا لعبد من عباد الله. وأرجو ان أكون أنا ذلك العبد .
مع تحقق رسول الله،صلى الله عليه وسلم، أنها له، لكن بدعاء الأمة، فاقتدى بالنبي، صلى الله عليه وسلم، فيه.
وقوله: "لما سمع دعائي" إشارة إلى قوله تعالى: "إن ربى لسميع الدعاء."
فإن الدعاء يتعلق بحضرة السميع، ثم يجيب المجيب لذلك، وإليه الإشارةبقوله: "قد أجاب ندائي" أي، سؤالي.
قوله : (فما ألقى إلا ما يلقى إلى ولا أنزل في هذا المسطور إلا ما ينزل به على).
أي، فلست ملقيا عليكم إلا ما يلقى على من الحضرة المحمدية من أسرار الأنبياء والحكم الخصيصة بهم.
ولا أخبر في هذا الكتاب إلا ما أخبر به على في صورة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من حضرة الذات الأحدية.
فليس لأحد من المحجوبين أن يعترض على ما تضمنه الكتاب فيحكم عليه بأحكام يقتضيها الحجاب.
وكونه مخصوصا بهذا الأمر إنما هو للمناسبة التامة الواقعة بين عينهما،إذ الأحكام الوجودية العينية تابعة للأحكام المعنوية الغيبية.
ولما عرف، رضى الله عنه، أن المحجوبين عن الحق لا بد أن ينسبوه فيما قال إلى ادعاء النبوة ويتوهموا ذلك منه.
قال: (ولست بنبي ولا رسول) لأن النبوة التشريعية والرسالة، كما مر بيانهما اختصاص إلهي.
إذ هو الذي يختص برحمته من يشاء.
وقد انقطعتا بحسب الظاهر، إذ لا مشرع بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالأصالة،لأنه، عليه السلام، أتى بكمال الدين.
كما قال تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي". أي، نعمة الإسلام والإيمان.
وقال، عليه السلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". والريادة على الكمال نقصان.
قال : (ولكني وارث ولآخرتي حارث) أي، ولكني وارث رسول الله.
واعلم،أن كل وارث يأخذ من مورثه ما يكون له من الأموال بحسب نصيبه المقدر له.
وأموال الأنبياء، صلوات الله عليهم، هي العلوم الإلهية والأحوال الربانية والمقامات والمكاشفات والتجليات.
كما قال، عليه السلام: "الأنبياء ما ورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
فالعلم الحاصل لهذا الوارث أكمل وأتم من الحاصل لوارث نبي آخر، لأنه، عليه السلام، أكمل الأنبياء علما وحالا ومقاما.
فكذا وارثه أكمل الوارثين علما وحالا ومقاما وكما تحكم أن المال الموروث يتملكه الوارث قهرا من الله، أراد الوارث ذلك أو لم يرد.
كذلك هذا الوارث يأخذ العلم والحال والمقام من الله على حسب استعداده إن شاء ذلك أو لم يشأ، فإنه تمليك قهري.
فمعنى قوله، عليه السلام: "فمن أخذه" أي، من أخذ العلم الإلهي من الله، القائم بربوبيته باطن رسول الله وظاهره، فقد سعد وخلص من الشكوك والشبهات الوهمية.
.
يتبع